الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 317
- بتاريخ: 31 - 07 - 1939
لجنة التقدير
للأستاذ عباس محمود العقاد
ثم تقررت ضريبة الجمال
وجاء دور اللجان التي تقدر الجمال بالخبرة والنظرة الصادقة، وتقدر الضريبة عليه بالعدل والقسطاس المستقيم
فمن هم الخبيرون بالجمال؟ وممن تتألف اللجنة أو اللجان التي تفرض (مقداره) ثم تفرض مقدار الضريبة الواجبة عليه؟
زعموا أنهم ندبوا لذلك لجنة من فلاسفة (الاسطاطيقا) أو فلسفة الجمال كما عربها الأستاذ الأكبر أحمد لطفي السيد باشا
واعتقدوا أن هؤلاء الفلاسفة هم أحق الناس بعرفان المعاني الجميلة والصور الجميلة، كما أنهم أحق الناس باستخلاص كنه الجمال في جوهر الجواهر ولب اللباب
قالوا: فمضت برهة قبل أن يتفق هؤلاء الفلاسفة الأخيار على التعريف المختار
هل الجمال هو الحرية؟ وهل الجمال هو التنسيق والنظام؟ وهل الجمال هو غلبة الفكرة على المادة؟ وهل الجمال في تمثيل الغريزة الجنسية؟ وهل الجمال في تمثيل النزعة الكمالية؟ وهل الجمال عميق عمق البشرة، أو هو عميق عمق الروح وعمق أسرار الغيوب؟
وجيء إلى الحكومة بمحاضر الجلسات فإذا هي ألغاز ومعميات، وشعاب ومنعرجات، ومتاهة تلتقي فيها الخواتيم والبدايات، وتنقضي الأعوام قبل أن تسعف الخزانة ببضعة دريهمات
وزعموا أن الحكومة تركت هذه اللجنة توغل في متاهاتها وندبت للأمر لجنة أخرى من رجال المسارح والمراقص ومدربي اللاعبين واللاعبات والراقصين والراقصات
ثم جربتها في مدينة واحدة، وانتظرتها برهة أخرى فإذا هي تعود إليها بأسماء لا تتجاوز العشرات، وأرقام لا تتعدى المئات، لأنها قضت برهتها في قياس الوجوه والأجياد، وقياس الأنوف والآذان، وقياس الصدور والظهور، وقياس الجذوع والأطراف، فما استحسنته من هنا عابته من هناك، وما زادته من الساعد نقصته من الساق، وما أضافته عادت فحذفته،
وما أوشك أن يؤول إلى ثروة تراجع فأوشك أن يؤول إلى إفلاس!
وبلغت الشكايات إلى مسامع الحكومة قبل أن يبلغ التقرير إلى مراجعها، ثم نظرت في التقرير بعد انتهائه إليها فإذا هو اضطراب في الأهواء، واضطراب في الآراء، واضطراب في الأرقام والأسماء، فقالت: عليه وعلى كاتبيه العفاء!
زعموا هذا وزعموا أن أديباً كيِّساً نصح إلى الحكومة جهد نصيحته فأشار عليها بالتعويل في أمر الضريبة على أناس غير الفلاسفة وغير خبراء الفنون
ماذا عليها مثلاً لو عمدت إلى طائفة من هواة السهر، وعشاق الحسان في باحات السمر، فناطت بهم تقدير الجمال، وتقدير جباية الأموال؟
هؤلاء أناس من أوساط الناس ليسوا بأصحاب إمعان في الحقائق والأسرار، ولا بأصحاب تصعيب في القياس والاختبار؛ وهم مع هذا يعرفون النساء، ويحبون الشمائل الحسناء، فلجنة منهم هي أصلح الأكفاء لتقويم الجمال كما يقومه عامة الرجال والنساء
وإن الحكومة لتهم بالموافقة والتصديق، إذا بصديق يأخذ عليها الطريق، وينهاها عن هذا الفريق، لأنه أعجز فريق عن التوفيق في هذا العمل الدقيق!
سألوه: لماذا؟
فأجابهم: لهذا. . .
وهذا عنده هو دعواه أن رواد المراقص والملاعب لا يحبون الحسناء لأنها حسناء، ولكنهم يحبونها لأنهم يحبون المغالبة والرهان، والمفاخرة والشنآن. . . فشأن المرأة عندهم كشأن كل علامة يتحقق بها الغلب والظهور، وما يبذلون من مال في هذا المجال فإنما يبذلونه بذل المراهن أو بذل المقامر أو بذل المتحدي في أمر من أمور العناد والإصرار، ولا يبذلونه تقويماً للحسن ولا للمتعة ولا لإرضاء الذوق السليم والفن الجميل
ويتفق كثيراً أن تغلب خلاعة المرأة جمالها في هذا القمار أو هذا السباق
ويتفق كثيراً أن يغلب الكيد الخلاعة، وأن تبقى بعد الخلاعة والكيد وشهوة الفوز والغلبة حصة صغيرة للجمال الصحيح
حيرك الله يا جمال كما أنت حيرة الناظرين والباحثين والمشترعين والمحصلين!
إذن لا ينفع الفلاسفة ولا ينفع خبراء الفنون، ولا ينفع عشاق الحسان أو غير الحسان. . .
فمن الذين ينفعون؟ ومن الذين يقدرون؟ وكيف يقدرون ويحصلون؟
رأي أخير، فلعله ليس بفطير
قالوا: نعهد في أمر التقدير والتحصيل إلى لجان من عامة خلق الله، لا هم بأصحاب فلسفة ولا هم بأصحاب فن ولا هم بأصحاب سهر ومجون
بل زيد وعمر وبكر وخالد وفلان من جملة بني الإنسان
وجمعوا اللجان من عامة السكان
فعادوا قليلاً وهم بين مكسور ومجبور وولهان وغضبان
عند البيت الأول قال شيخ من ذوي الوقار بين الأعضاء: مائة دينار لا تنقص درهماً واحداً على هذه الحسناء
قال فتى أنيق: وأين هي تلك الحسناء؟
قال الشيخ: تلك التي تراها
قال الفتى: أتلك السمينة البدينة التي تشبه الغرارة؟
فما أتمها حتى سقط تحت أربعة أو خمسة من الضاربين: أحدهم الشيخ والآخرون أو الآخرات، ما شئت من سامعين وسامعات
وفي لجنة أخرى تغير الاقتراح فكانت الضريبة الراجحة من نصيب النحيفة العجفاء، فلم تتفق اللجنتان في غير الضرب والتجبيه والإيذاء
وكانت اللجنة من اللجان تشتمل على الحضري والقروي والشيخ والشاب والجاهل والمتعلم والزوج والأعزب ومن يعرف نساء الحي ومن ليست له معرفة بهن ولا قرابة. فإذا أُخذت الآراء، فهناك ابتداء ولا انتهاء، ومتهمون ولا أبرياء، ومغرضون ولا نزهاء، في عرف جميع الرجال وجميع النساء
وكثرت الرشوة، وعمت الوشاية، واستفاضت الأقاويل، وتبدلت اللجان، فما كان من أهل قرية فلينقل إلى غيرها لدفع المظنة ومنع الشبهة، وهي لا تمتنع ولا تندفع بحال
قال كاتب هذه السطور: فلما علمت بهذه الورطة وعلمت أنني جنيتها وأوقعت من أوقعت فيها علمت كذلك أنني مطالب (بالتخليص) كما قد تبرعت بالتوريط، وأنني فتحت باباً ولا مناص له من إغلاق، وبدأت أمراً ولا بد له من ختام
قلت لمن سمع ما قلت: إياكم واللجان، وإياكم والتقدير، واجعلوها كما هي في الحقيقة ضريبة فذة بين ضرائب العصور، فلا يقدرها مقدر ولا يجبيها جاب ولا يسأل عنها سائل، وإنما يترك الرأي فيها لمن يبذل بذله ويسوّم تسويمه، وما على الحكومة إلا أن تعلن بالمذياع وبالصحف وبالنداء في أرجاء البلاد أسماء كل مائة راجحات في كل يوم من الأيام، ولا عليها من نشر الصور والأوصاف إلا أن يشاء ذلك من يشاء
وسنرى كيف تمتلئ الخزانة، وينقلب معنى الخيانة إلى إفراط في الأمانة، فيؤديها الناس أضعافاً مضاعفات، ويبذلونها مرات بعد مرات، كلما فاتهم الإعلان مرة فاستدركوا ما فات!
عباس محمود العقاد
حول كتاب:
مستقبل الثقافة في مصر
نظرة انتقادية عامة
للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك
- 2 -
وأما مآخذ المقدمات والبراهين التي بنى عليها مؤلف الكتاب (الحكم) الذي ذكرناه آنفاً، فهي كثيرة ومتنوعة؛ سأكتفي بذكر ثلاثة منها، لإعطاء فكرة عامة عنها:
1 -
عندما يسأل المؤلف: (أمصر من الشرق أم من الغرب؟) يوضح قصده من هذا السؤال بقوله: (أنا لا أريد بالطبع الشرق الجغرافي والغرب الجغرافي، وإنما أريد الشرق الثقافي والغرب الثقافي) ثم يعقب قوله هذا بالعبارات التالية:
(فقد يظهر أن في الأرض نوعين من الثقافة يختلفان أشد الاختلاف، ويتصل بينهما صراع بغيض، ولا يلقى كل منهما صاحبه إلا محارباً أو متهيئاً للحرب: أحد هذين النوعين هذا الذي نجده في أوروبا منذ العصور القديمة، والآخر هذا الذي نجده في أقصى الشرق منذ العصور القديمة أيضاً). . . (ص: 7)
يصعب عليَّ جداً أن أوافق المؤلف على ما جاء في عباراته هذه: لا أدري ما هي الثقافة التي كانت موجودة في أوربا منذ القرون القديمة؟ وما هو الصراع البغيض الذي اتصل بين هذه الثقافة وثقافة الشرق الأقصى المخالفة لها؟ ومتى وكيف حدث هذا الصراع، وبأي شكل انتهى. ما هي الحروب التي حدثت بين هاتين الثقافتين، كلما التقتا؟ ما هي تواريخ التقاء هاتين الثقافتين المتخاصمتين؟ وما هي تفاصيل الحروب التي نشبت بينهما كلما حدث هذا الالتقاء؟
إن كل ما أعرفه عن التاريخ بوجه عام، وتاريخ الحضارة، وتاريخ الفلسفة وتاريخ العلوم بوجه خاص. . . لا يساعدني (مع الأسف الشديد) على إعطاء أجوبة مثبتة على هذه الأسئلة. . . وبعكس ذلك، كل ما أعرفه في هذا المضمار، يحملني على القول بخلاف ذلك تماماً. . . كل ما أعرفه في هذا المضمار يحملني على القول بأن الصراع الذي حدث بين
الثقافات والحضارات التي نشأت وترعرعت حول بحر الروم نفسه، كان أشد وأعنف وأطول من الخصام الذي حدث بين هذه الثقافات والثقافات الهندية والصينية بدرجات كبيرة. . .
مع هذا أتساءل حائراً: ما الفائدة من هذه الأبحاث في هذا المقام؟ ما شأن هذه القضية بشرقية مصر أو غربيتها؟ وهل من علاقة منطقية بين هذه القضية وبين مسألة وجود أو عدم وجود فروق جوهرية بين العقل المصري والعقل الأوربي؟
يتساءل المؤلف في هذا المقام:
- أيهما أيسر على العقل المصري: أن يفهم الرجل الصيني أو الياباني، أو أن يفهم الرجل الفرنسي أو الإنكليزي؟
(هذه هي المسألة التي لا بد من توضيحها وتجليتها قبل أن نفكر في الأسس التي ينبغي أن نقيم عليها ما ينبغي لنا من الثقافة والتعليم؟)(ص7)
وهل من مفكر يقول - في مصر أو في غير مصر - بوجوب إقامة الثقافة والتعليم على أسس ثقافة الصين أو اليابان؟
إنني أعتقد أن هذه الأبحاث كلها من الأمور الاستطرادية التي لا ضرورة لها ولا فائدة منها: فلا الاتفاق في أمرها يكون سبباً كافياً لقبول الحكم المتعلق بعدم وجود فرق جوهري بين العقل المصري والعقل الأوربي، ولا الاختلاف في شأنها يكون سبباً مبرراً لرفض ذلك الحكم
كما أن الاتفاق أو الاختلاف عليها لا يستلزم الاتفاق أو الاختلاف في تثبيت الأسس التي يجب أن تقام عليها الثقافة والتعليم، في مصر وفي سائر البلاد العربية
2 -
قبل أن ينتهي المؤلف من مناقشة قضية (الشرق والغرب) يتطرق إلى مسألة أخرى، فيثير قضية (تأثير وحدة الدين ووحدة اللغة في تكوين الدول) إنه يقول في هذا الصدد ما يلي:
(من المحقق أن تطور الحياة الإنسانية قضى منذ عهد بعيد بأن وحدة الدين ووحدة اللغة، لا تصلحان أساساً للوحدة السياسية، ولا قواماً لتكوين الدول. . .)(الصفحة 16)
(فقد تخففت أوربا من أعباء القرون الوسطى، وأقامت سياستها على المنافع الزمانية، لا
على الوحدة المسيحية، ولا على تقارب اللغات والأجناس. . .) (الصفحة 18)
إن هذه الآراء تستوقف النظر، وتستوجب المناقشة في عدة وجوه:
أولاً - يستعمل المؤلف في الفقرة الأولى تعبير (وحدة اللغة)، وفي الفقرة الثانية تعبير (تقارب اللغات). ولا أراني في حاجة إلى الإيضاح بأن الفرق بين مفهومي التعبيرين المذكورين كبير جداً
ثانياً - يسوي المؤلف - في كلماته هذه - بين وحدة الدين ووحدة اللغة في وجهة التأثير السياسي؛ ويدعي أن تأثيرهما في السياسة كان من خصائص القرون الوسطى، وأن أوربا تخلصت من تأثير هذين العاملين منذ عهد بعيد. . .
إنني أعتقد أن كل ذلك مخالف لحقائق التاريخ وقوانين الاجتماع مخالفة صارخة: فإن عمل وحدة اللغة في الحياة الاجتماعية والحوادث التاريخية، يختلف عن عمل وحدة الدين اختلافاً كلياً: يذكر التاريخ - بين حوادث القرون الوسطى والقرون التي تلتها - أمثلة كثيرة لعمل الدين في السياسة؛ كما يسجل وقائع عديدة تظهر تأثيرات مبدأ (حقوق الملوك) في تكوين الدول وتوحيدها؛ ويذكر أمثلة كثيرة لانضمام بعض الأقطار إلى أخرى، بسبب وقائع التزاوج والتوارث التي حدثت بين الأسر المالكة. ولكنه لا يذكر - بين حوادث تلك القرون - مثالاً واحداً عن تكوين دولة على أساس (وحدة اللغة)
إن وحدة اللغة لم تصبح من القوى الفعالة في تكوين الدول وتوجيه السياسات إلا في القرن الأخير، وإلا بعد أن فقدت (وحدة الدين) قوتها وتأثيرها في هذا المضمار. . . كما أن تأثير (وحدة اللغة) في السياسة لم ينته بانتهاء الفرق المذكور، بل أزداد شدة في القرن الذي نعيش فيه، وهو لا يزال مستمراً وشديداً. . .
ولهذه الأسباب أقول: إن قياس (وحدة اللغة) على (وحدة الدين) في هذا المضمار، والادعاء أنها فقدت تأثيرها السياسي وعملها التكويني منذ عهد بعيد. . . لا يتفق مع حقائق التاريخ، بوجه من الوجوه. . .
يقول المؤلف إثباتاً لمدعاه: إن السياسة شيء والدين شيء آخر. إني أوافقه على قوله هذا، ومع هذا أستغرب كيف يسوغ لنفسه أن يحشر اللغة مع الدين في الفقرات التي تلي هذا الكلام! فلنقل ولنصح مع المؤلف: إن السياسة شيء والدين شيء آخر، ولكننا هل نستطيع
أن نقول: إن السياسة شيء واللغة شيء آخر؟ لا شك في أننا نستطيع أن نقول للناس: ليحتفظ كل منكم بمعتقده الديني لنفسه؛ ولكن هل نستطيع أن نقول لهم: ليحتفظ كل منكم بلغته لنفسه؟
يقول المؤلف: إن أوربا أقامت سياستها على المنافع الزمانية؛ فهل يستطيع أن يدعي أن اللغة لا تدخل في نطاق المنافع الزمانية؟ إذا شك في ذلك رجوت منه أن يتصور نفسه - لحظة واحدة - فرداً في رعايا مملكة أجنبية، لا يعرف شيئاً عن لغتها الرسمية؛ ويستعرض أنواع المشاكل التي يقع فيها في كل خطوة من خطوات حياته اليومية؛ فليقل عندئذ هل اللغة خارجة عن نطاق الأمور الزمانية؟
لننعم النظر في سياسة الدول التي قطعت أبعد الأشواط في فصل الدين عن السياسة، وغالت أشد المغالاة في حصر أعمال الدولة في نطاق الأمور الزمانية: هل هي أقدمت على فصل اللغة أيضاً عن السياسة؟ وهل تركت مسائل اللغة خارجة عن ساحة أعمال السلطات الزمانية؟
إنني أعتقد اعتقاداً جازماً أن اللغة تختلف عن الدين في وجوه الطبيعة الذاتية، والتأثير النفسي، والعمل الاجتماعي. إن عدم ملاحظة هذا الفرق الجوهري - الموجود بين اللغة والدين - في هذه الوجوه المختلفة، قد عرّض المؤلف لأخطاء كبيرة، وأوقفه مواقف يخالف فيها أثبت وقائع التاريخ، وأظهر حقائق الاجتماع مخالفة صريحة
يحاول المؤلف أن يستشهد على أقواله الآنفة بتاريخ الإسلام أيضاً. غير أن محاولاته هذه لا تزيده إلا تغلغلاً في الأغلاط وتباعداً عن حقائق التاريخ. . .
3 -
يتحدث المؤلف عن اتصال مصر بأوربا، وعن اندفاعها في اقتباس الحضارة الأوربية معتبراً سهولة هذا الاتصال، وسرعة هذا الاندفاع من الدلائل التي تبرهن على عدم وجود (فرق جوهري بين العقل المصري والعقل الأوربي)
غير أنه خلال ذلك يتطرق إلى (نظم الحكم وأشكال الحياة السياسية) في مصر، ويبدي رأياً غريباً في هذا الصدد إذ يقول:
(إن الذين أرادوا أن يستبدوا بأمور مصر في العصر الحديث كانوا يذهبون مذهب لويس الرابع عشر وأشباهه، اكثر مما كانوا يذهبون مذهب عبد الحميد وأمثاله)(الصفحة 32)
في اعتقادي أن هذا الرأي لا يستطيع أن يقاوم أبسط المناقشات
فلنفكر أولاً: ماذا يقصد المؤلف من تعبيرات (مذهب لويس الرابع عشر وأشباهه ومذهب عبد الحميد وأمثاله)؟ إن ذلك يظهر بوضوح في العبارات التي سبقت الفقرة الآنفة الذكر والتي تلتها. فقد قال المؤلف، قبل الفقرة المذكورة:(إن نظام الحكم المطلق عندنا في العصر الحديث كان متأثراً بنظام الحكم المطلق في أوربا قبل انتشار النظام الديمقراطي. . . وإن نظام الحكم المقيد عندنا كان متأثراً بنظم الحكم المقيد في أوربا أيضاً. . .)
كما قال بعد الفقرة المذكورة: (والذين أرادوا أن يحكموا مصر حكماً مقيداً بالعدل، دون أن يشركوا الشعب معهم في الحكم كانوا يتخذون لحكمهم قيوداً أوربية لا شرقية) لأنهم نقلوا نظم الإدارة والحكم من أوربا، (ولم يستمدوه مما كان مألوفاً عند ملوك المسلمين وخلفائهم في القرون الوسطى. . .)
بعد أن فهمنا بهذه الصورة ما يقصده المؤلف من هذه التعبيرات يقتضي أن نتوجه إليه بالأسئلة التالية:
هل يستطيع أن يدعي أن عبد الحميد لم يستند في حكمه واستبداده إلى نظم أوربية؟ وهل يستطيع أن يقول بأن بلاط القاهرة لم يتأثر ببلاط الآستانة؟
أما أنا فأستطيع أن أبرهن بكل سهولة أن حكم عبد الحميد أيضاً لم يكن من النوع الذي كان مألوفاً عند ملوك المسلمين وخلفائهم في القرون الوسطى)، وعلى أن استبداده أيضاً كان متأثراً إلى حد بعيد (بنظام الحكم المطلق في أوربا) كما أستطيع أن أبرهن على أن تأثيرات الآستانة في القاهرة كانت واضحة جداً.
. . . مع هذا أرى من الضروري أن أسأل: ما الفائدة من إثارة هذه المسائل في هذا المقام؟ وهل من علاقة منطقية وعلمية بينها، وبين المسألة الأصلية التي يعالجها المؤلف في الصفحات التي ذكرناها؟
هذه ثلاثة نماذج واضحة على (المباحث الاستطرادية) التي كثيراً ما يحشرها المؤلف بين مباحثه الأصلية، يورط نفسه من جرائها في أغلاط كبيرة. . .
من المعلوم أن (التفكير العلمي) يتطلب تحليل المسائل، وتجزئة المشاكل، ليسهل معالجة كل جزء منها على حدة. وأما الخطة التي يسير عليها الدكتور طه حسين في أبحاثه هذه -
في أكثر الأحيان - فمعكوسة لذلك تماماً: لأنه كثيراً ما يخلط المسائل بعضها ببعض، ويدخل بعضها في بعض، فيزيدها بذلك تعقيداً وإشكالاً. . . وكثيراً ما يحاول أن يبرهن على كل قضية بمجموعة قضايا أخرى أكثر حاجة إلى البحث والبرهنة من القضية الأصلية نفسها.
- 3 -
بعد الانتقادات التي سردتها آنفاً، اعتراضاً على بعض الآراء التي دونها الدكتور طه حسين في الصفحات السبعين الأولى من كتابه، خلال درسه للمسألة المبحوث عنها - أعني مسألة العقل المصري، والعقل الأوربي - لابد لي من أن أنقل البحث إلى وجهة نظر أخرى، فأقول كلمة في بعض النقائص التي ألاحظها على بحوث المؤلف في هذا الباب، من جراء عدم التفاته إلى بعض الأمور المهمة، بالرغم من شدة علاقتها بالموضوع، وبالرغم من ضرورة ملاحظتها لإتمام بحث المسألة من جميع وجوهها.
لا شك في أن الطريقة المثلى لدرس مثل هذه المسائل درساً علمياً، وحلها حلاً منطقياً، هي طريقة الاستقراء والمقارنة: إجراء مقارنة مباشرة بين الشرق والغرب - بين مصر وأوربا -، من حيث العقل والثقافة والطبع والمزاج، واستعراض الفروق والمشابهات التي تتجلى بينهما من هذه الوجوه المختلفة؛ ثم البحث عن جوهرية وعدم جوهرية الفروق المذكورة، وذلك على أساس مقارنتها بالفروق التي تلاحظ بين الأمم الأوربية المختلفة من جهة وبين ماضي تلك الأمم وحاضرها من جهة أخرى. . .
إن الدكتور طه حسين بقي بعيداً عن هذه الطريقة من أول أبحاثه هذه إلى آخرها.
وقد نجم عن هذا الابتعاد نقصان خطيران:
أولاً: لم يلتفت المؤلف إلى أهم الفروق الموجودة بين الشرق والغرب، وهي التي تشاهد بينهما من وجهة نظم الأسرة وأوضاع المرأة، والأوصاف النفسية - الخلقية والعقلية - التي تتبع تلك النظم والأوضاع. . .
ثانياً: لم يذكر المؤلف شيئاً عن الآراء المستندة إلى الاختبارات العقلية ومقاييس الذكاء. . .
ومما يزيد في خطورة هذا النقص الأخير هو أن بعض هذه الآراء كانت حامت حول مصر مباشرة، واستندت إلى الاختبارات التي أجريت في مصر على جماعة من المصريين،
بمساعدة جماعة من كلية الآداب المصرية نفسها، كما سيظهر للقارئ من التفاصيل التالية:
كانت الحكومة المصرية قد استدعت الدكتور كلاباريد - أستاذ علم النفس في جامعة جنيف، وأحد أساطين هذا العلم في العالم - قبل نحو عشر سنوات؛ وطلبت منه أن يدرس المدارس المصرية، ويبدي لها آراءه في بعض المسائل المتعلقة بوجوه إصلاحها. فأراد الأستاذ المشار إليه أن يستفيد من وجوده في مصر لهذا الغرض، لدرس (العقل المصري) درساً علمياً. وقام بسلسلة اختبارات عقلية بمساعدة جماعة من المعلمين والطلبة؛ وتوصل من اختباراته هذه إلى نتيجة تستلفت الأنظار: فقد لاحظ أن معادل الذكاء في مصر يكون سويَّا عند الصغار؛ غير أنه يأخذ في التأخر والهبوط عن المستوى الطبيعي المعروف في أوربا بسرعة غريبة بعد سن الطفولة. . . اهتم الدكتور كلاباريد بهذه النتيجة وأعلم بها زملاءه في معهد جان جاك روسو في جنيف قبل أن ينتهي من مهمته في مصر؛ وهؤلاء نشروا رسالته هذه في مجلة (المربي) التي تصدر في لوزان. . . هذه المسألة عكست بعد مدة على الصحافة المصرية فنشرت مجلة الهلال مقالة لأحد الأساتذة يشرح فيها الاختبارات المبحوث عنها ويحاول تعليل النتيجة المذكورة بفرضية يراها (الدكتور منصور فهمي - الهلال ديسمبر سنة 1929)
أفليس من الغريب ألا نجد أية إشارة كانت إلى هذه المباحث في كتاب الدكتور طه حسين بين صحائفه الكثيرة المخصصة لدرس مسألة (وجود وعدم وجود فرق جوهري بين العقل المصري والعقل الأوربي)؟ يتطرف الدكتور في كتابه هذا - خلال بحث هذه المسألة - إلى أمور متنوعة جداً. . . في مباحث التاريخ القديم إلى مسائل السياسة والدين. . من ثقافة الصين إلى مدرسة الإسكندرية. . . من حكم لويس الرابع عشر إلى استبداد عبد الحميد. . . من أسباب انحلال الدولة الإسلامية في القرون الوسطى إلى أساليب الحكم المقيد في مصر. . . من تأثير الديانة المسيحية في تكوين العقلية الأوربية إلى نظر الإسلام إلى المسيحية. . . من انقطاع التجارة بين الشرق والغرب في القرون الوسطى إلى دخول الراديو إلى الأزهر الشريف في العصر الحاضر. . . يتطرف الدكتور إلى مسائل لا تعد ولا تحصى. . . ولا يشير إلى البحث العلمي الذي ذكرناه آنفاً مع أنه يتعلق بموضوع درسه مباشرة!
إنني لا أذكر اختبارات كلاباريد وآراءه في هذا المقام اقتناعاً بها أو تصويباً لها، بل أصرح بهذه المناسبة بأنني كنت من المعترضين عليها، فقد انتقدت تلك الاختبارات في حينها، وأظهرت مواطن الخطأ فيها، واعترضت على ما نشر في الهلال في شأنها، واستندت في ذلك إلى الاختبارات العقلية المتنوعة التي قمت بها بنفسي في مدارس بغداد (مجلة التربية والتعليم الجزء 24 ص 154 - نيسان 1930 الجزء 27 ص 399 - كانون الأول 1930)
كما أصرح بأن الاختبارات الأخيرة كانت أعطتني نتائج مماثلة لنتائج الاختبارات التي جرت في أوربا وأميركا تمام المماثلة (مجلة التربية والتعليم - الجزء 19. ص 303. حزيران 929)
فلم أذكر اختبارات الدكتور كلاباريد هنا، لأردَّ بها على رأي الدكتور طه حسين. وإنما ذكرتها لأظهر للعيان (بمثال آخر بوضوح أكبر) ما في خطة البحث التي سار عليها الدكتور من الغرابة والنقص. . .
أعتقد أن الانتقادات التي سردتها آنفاً عن المسألة الأولى في المسائل التي حاول الدكتور طه حسين درسها ومعالجتها في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) تكفي لإعطاء فكرة عامة عن حظ الكتاب المذكور من القيمة العلمية. . .
واستناداً إلى كل ذلك، أكرر ما قلته في مقدمة هذا المقال:
إن كتاب مستقبل الثقافة في مصر، يتألف في حقيقة الأمر من مجموعة أحاديث ومقالات، قليلة التناسق وكثيرة التداخل. يبدو على جميع أقسامها آثار الارتجال والاستعجال، ويتخلل معظم أقسامها أنواع شتى من الاستطرادات والاستدراكات. . .
(برمانا)
أبو خلدون
مشكلة اليهود في العالم
للأستاذ عبد الرحمن شكري
إن الذي يدرس تاريخ اليهود من قديم الزمن يعرف أن العوامل التي تتنازع سياستهم ليست حديثة العهد، وأن مواقف الأمم الأخرى منهم في هذا العصر كانت لها أشباه ونظائر في عصور التاريخ المختلفة في عهد قدماء المصريين والبابليين والآشوريين والفرس والإغريق والرومان. فمسألة اليهود كانت موجودة حتى قبل أن يفقدوا استقلال شعبهم وقبل أن يخرب طيطوس ابن الإمبراطور الروماني فسباسيان معبدهم وقبل أن يقضي على أورشليم، وقبل أن يتشتت اليهود في العالم. بل هي كانت موجودة قبل ذلك عند أسرهم، ونقل الكثير منهم إلى بابل وهو المعروف في التاريخ باسم أسر بابل وكانت موجودة عندما سمح لهم قورش ملك الفرس بالعودة وإعادة بناء أورشليم، وعندما شجعهم في أعمالهم المالية كي ينشط التجارة في دولته. ويتنازع نفوس اليهود من قديم الزمن عاملان: النزعة العالمية، والنزعة الشعبية المصطبغة بصبغة دينية. وقد كانت متاعب اليهود قديماً وحديثاً ناشئة من استفحال النزعتين وتنازعهما نفوسهما؛ فتارة يوقعهم الغلو في المحافظة على تقاليد النزعة الشعبية الدينية في نزاع مع الدول الأخرى، وتارة يوقعهم الغلو في النزعة العالمية في ذلك النزاع. وقد كانت النزعة العالمية تظهر في نفوسهم في بعض الأحايين بمظهر اقتصادي مالي فيحاولون السيطرة على أسواق العالم المالية، وتارة تظهر النزعة العالمية بمظهر الدعوة إلى مُثُل عليا. وكان بعضهم يريد قصر تحقيق هذه المثل على اليهود، وهؤلاء هم الذين كانوا يناصرون النزعة الشعبية الدينية، وبعضهم لا يريد قصرها على اليهود بل تعميمها في العالم. والغريب في أمرهم أنه بالرغم من المشاحنات والاقتتال الذي كان يحدث قديماً بين اليهود من أنصار المحافظة على تقاليد النزعة الشعبية الدينية وبين أنصار النزعة العالمية، وبالرغم من أن النزعة العالمية في نفوس بعضهم كانت تتخذ مظهر الأثرة المالية والطباع الدنيوية الراغبة في الربح المالي قبل كل شيء، وهي طباع تخالف نزعة المثل العليا وتخالف التضحية في سبيل تحقيقها، فإن كثيراً منهم كان يحاول التوفيق في نفسه بين النزعتين المتناقضتين أو يحن تارة إلى هذه وتارة إلى تلك، كما أن بعضهم كان يحاول الاستفادة لنفسه أو للشعب اليهودي من النزعتين المتناقضتين معاً.
فاليهودي الذي يميل إلى المثل العليا أو الذي يميل إلى المحافظة على تقاليد النزعة الشعبية الدينية لا يرى حرجاً في أن يلتجئ إلى صاحب النزعة العالمية المالية والطباع الدنيوية لاستخدام ماله وسلطته في سبيل تحقيق مثله العليا أو في سبيل المحافظة على التقاليد الشعبية الدينية لضيقة التي ترفض النزعة العالمية، كما أن صاحب الطباع الدنيوية والأثرة المالية لا يرى تناقضاً في خطته إذا حن إلى المثل العليا التي قد تخالف نزعة أثرته الدنيوية، أو إذا ساعد في المحافظة على تقاليد النزعة الشعبية الدينية الضيقة التي تخالف نزعته العالمية الدنيوية، وربما حن إلى المثل العليا ذلك الحنين الذي يدعو إلى التضحية في سبيلها في الوقت الذي يستثمر الدعوة إلى تلك المثل العليا لكسب المال وزيادة نفوذه الاقتصادي. واجتماع هذه النزعات المختلفة في النفس الواحدة ليس مقصوراً على اليهودي فهي طباع النفوس البشرية عامة، ولكن هذا التناقض أظهر ما يكون في اليهود لغلوهم في النزعتين المتناقضتين غلواً يظهر الفرق بينهما في نفوسهم أكبر منه في نفوس غيرهم. وقد ظهر اليهود قديماً وحديثاً ظهوراً كبيراً في مناصرة النزعتين المتناقضتين، وهذا أدى كما ذكرت إلى مشاحنات بين طوائفهم وإلى مشاحنات بينهم وبين الأمم. وقد ظهرت النزعة العالمية في حياة اليهود على اختلاف مظهري تلك النزعة أي المظهر المالي الاقتصادي ومظهر المثل العليا قبل أن يفقد اليهود كل سلطة سياسية في حكم فلسطين. فظهرت في دولة الفرس وظهرت في دولة الرومان
على أن فقدانهم كل سلطة سياسية في حكومة فلسطين لم يوهن النزعة الشعبية الدينية في نفوسهم وإن كان قد ساعد على استفحال النزعة العالمية. وتحريم الكنيسة المسيحية على المسيحيين تقاضي الربح عند تسليف النقود واعتباره ربا أدى إلى ما يشبه احتكاراً من اليهود للمعاملات المالية وإلى سيطرتهم على الأسواق المالية في أوربا، وهذا قوى النزعة العالمية في نفوسهم كما أدت النزعة الشعبية الدينية إلى مناصرة بعضهم بعضاً؛ وزادت هذه المناصرة إذ وجدوا أنفسهم قلة يهودية في وسط كثرة غير يهودية من الشعوب التي هاجروا إليها. وشأن القلة من الطوائف التعاون حتى لا تغمرها الكثرة ولا سيما إذا كانت الكثرة كثرة تبغض القلة. وزاد البغض الديني في نفوس الكثرة أولاً استيلاء اليهود على الأسواق المالية بالتسليف؛ وثانياً عواقب مناصرة اليهود بعضهم لبعض من استيلائهم على
كثير من المهن التي تحتاج الأعمال الفكرية والاستعداد العلمي والفني. وبالرغم من أن بعض اليهود حاول معالجة هذا البغض والقضاء على الكره الذي كان غير اليهود يشعرون به نحوهم بالاندماج في الأجناس الأوربية اندماجاً تاماً، فإن الكثرة من اليهود بقيت محافظة على تقاليد النزعة الشعبية الدينية. ولو أن النزعة العالمية غلبت على نفوسهم كل الغلبة لتمكنوا من الاندماج في الشعوب التي استوطنوا أرضها. وهذا الاندماج كان ينسي تلك الشعوب أن اليهود في أصلهم أجانب، وهذا كان يزيل البغض الذي كانت آحاد تلك الشعوب تشعر به نحوهم، وكان يستطيع اليهود أن ينعموا بميزة القدرة على كسب المال، ولكن ربما كانت تلك القدرة تقل لو تم ذلك الاندماج لأنه كان ينسيهم اختلاف جنسهم عن الأجناس الأخرى؛ فكان يقضي على مناصرة بعضهم لبعض، وعلى تعاونهم للسيطرة على الأسواق المالية، وعلى المهن الفكرية والعلمية.
وبقاء النزعة الشعبية الدينية في نفوسهم أدى إلى فكرة الصهيونية التي تدعو إلى العودة إلى حكم فلسطين. وهذه الفكرة كانت في أول أمرها مثلاً أعلى كالمثل العليا تحلم بها الإنسانية ولا تحقق. وهذه الفكرة الصهيونية زادت اعتقاد آحاد الشعوب الأوربية أن اليهود بينهم - وإن تجنسوا بجنس غير جنسهم، وإن ضحوا في الحروب وفي غير الحروب لمناصرة الجنس الجديد الذي تجنسوا به - إنما هم أجانب بالرغم من ذلك، وأنهم يعدون أنفسهم أجانب.
وهذه الفكرة الصهيونية مخالفة لمصالح اليهود الاقتصادية؛ فإن قطراً كفلسطين ربما كان يصلح لاستيطانهم قديماً عندما كانوا قليلين وعلى حالة قريبة من البداوة، وعندما كانوا هم الكثرة الغالبة فيه. أما الآن فقد زاد عددهم في العالم وتعددت فوائدهم ومنافعهم العالمية، وصار في هذا القطر كثرة غير كثرتهم من العرب الذين وراء كثرتهم في فلسطين كثرة عربية أخرى في الأقطار المجاورة. ولو خلت فلسطين لليهود لما استطاعت أن تؤوي غير عدد قليل من الملايين العديدة من اليهود. وفي العالم بقاع شاسعة أكثر خصباً تحكمها إنجلترا وغيرها من الأمم المناصرة لليهود. فلا يمكن أن يقال إذاً إن الضرورة والأسباب الدنيوية هي التي تقضي بإسكان المهاجرين اليهود في فلسطين. . . لا، بل تشبث اليهود بفلسطين هو تشبث بتلك النزعة الشعبية الدينية التي تفضل التقاليد القديمة والتي تحاول أن
تعكس دورة الزمن وأن تعيد العالم كما كان في بدايته وأن تتجاهل حقائق الحياة. وهذا من قبيل التشبث، في أمور الحياة لا في عواطف النفس وحدها، بمثل أعلى لا يمكن تحقيقه. وهذا التشبث كما قلنا طالما أوقع اليهود قديماً وحديثاً في قتال ونزاع مع الأجناس المجاورة، وطالما أدى إلى ضياع فائدة اليهود الدنيوية الحقيقية. ولكن حقائق الحياة والضرورة قد تغري اليهود بقبول الاستيطان في بقعة أخصب من فلسطين وأقل سكاناً وأوسع رقعة. ويمكن إرضاء العاطفة الشعبية بأن يسمي ذلك الوطن الجديد (فلسطين الجديدة) أو (صهيون) وأن ينشئوا فيها مدناً تسمى بأسماء المدن القديمة في فلسطين القديمة. ويمكن إرضاء النزعة الدينية بأن ينقلوا من الأحجار والآثار المقدسة، ومن تربة أرض فلسطين القديمة إلى فلسطين الجديدة ما يقدس به الهيكل الجديد وما هو ضروري للدفن الديني المقدس. وهذا الحل يجمع بين إرضاء العاطفة وبين الفائدة الاقتصادية
عبد الرحمن شكري
جناية أحمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
- 8 -
عرف الناس ما كان من انزعاج الأستاذ أحمد أمين من كلمة الحق، وفهموا أنه تجلد وتصَّبر إلى أن عجز عن التجلد والتصبر، وللطاقة الإنسانية حدود
وما كنت أحسب أن الأيام ستقهر الأستاذ أحمد أمين على أن يهددني بأبيات فيها لوثة جاهلية، وهو الذي دعا الأمم العربية إلى وضع آثار الشعر الجاهلي في (متحف) لا يدخله الناس إلا بعد استئذان!
ويعز عليَّ والله أن ينزعج الأستاذ أحمد أمين وأن يدَّعي أنه لقى رسائل من مختلف الأقطار العربية فيها سباب موجه إلى من هجم عليه في مجلة (الرسالة). فهذا الادعاء يشهد بأنه يعجز عن الصدق في بعض الأحيان
لو كان الأستاذ أحمد أمين يعرف عواقب ما يصنع لفهم أن الأمر كان يجب أن يكون بالعكس: فهو يجني على ماضي الأدب العربي بأحكامه الخواطئ، ويحتال لإفهام الجمهور أن أدباء العرب لم يكونوا أصحاب أرواح، وإنما كانوا أصحاب معدات. وأنا أدفع تلك التهم وأصحح ما وقع في كلامه من أغلاط
فمن الذي يستحق اللوم والسباب في هذه القضية؟
لو فرضنا جدلاً أني أشاغب الأستاذ أحمد أمين لكان من الذوق أن يتلقى العرب هذه المشاغبة بالقبول، لأن فيها تمجيداً لماضي الأمة العربية
ولو فرضنا جدلاً أن الأستاذ أحمد أمين على حق في السخرية من ماضي الأدب العربي لكان من الطبيعي ألا يستريح العرب إلى ذلك الحق، لأن الأبناء الأبرار يجسّمون محاسن آبائهم ويتغاضون عما قد يكون فيهم من عيوب
والأمر ليس كذلك في هذه القضية: فالأستاذ أحمد أمين لم يكن في جانب الحق حين قال في الاستهزاء بالأدب العربي ما قال، وأنا كنت وما زلت في جانب الحق حين حكمت بأن الأدب العربي أدب أصيل، وأنه خليقٌ بالخلود
الأستاذ أحمد أمين يروّح عن نفسه بذلك الادعاء الطريف ليوهم القراء بأن أدباء العرب في
مختلف الأقطار قد توجعوا له أشد التوجع، وتعرضوا لخصمه بالشتم والسباب، كأن أدباء العرب لم يبق لهم مأرب يحرصون عليه غير حماية أحمد أمين من كلمة الحق!
ولنفرض جدلاً أن أدباء العرب جميعاً وقفوا في صف هذا (الأديب) فهل يتوهم أنه سينجو من قلمي حين ينحرف عن الصواب؟
لقد سرني والله أن يتطاول على صاحب (الرسالة) وأن يتهمه بسوء النية في نشر هذه المقالات؛ فصاحب (الرسالة) قد آذاني أشد الإيذاء حين استباح أن يحذف من المقالات الماضية بعض الفقرات، ليظل مهذَّباً مؤدَّباً كصديقه المهذَّب المؤدَّب أحمد أمين!
كم تلطفتُ وترفقتُ في موطن لا يجوز فيه لطفٌ ولا رفق، ثم كان جزائي أن يقال إن أدباء العرب غضبوا عليّ وسبُّوني لأني جهرت بكلمة الحق!
ومع ذلك فما الذي يؤذيكم مني يا أحفاد يعرُب وقحطان؟
أليس في مقدوركم أن تحتملوا أديباً جنى على نفسه وعلى معاشه ليرفع راية النقد الأدبي؟
أليس في مقدوركم أن تحتملوا أديباً يقتل أعصابه في أوقات القيظ ليردّ عادية العادين على اللغة العربية؟
ألا تستطيعون أن تغفروا زلة رجل جهل أخلاق الزمان فاعتصم بالحق والعدل؟
لقد حدثني عنكم أحمد أمين بما لا أحب ولا تحبون
فإن كان صدق فيما حكاه فغفر الله لكم! وإن كان تزيّد فعفا الله عنه!
وسبحان من لو شاء لهدانا جميعاً إلى سواء السبيل
أما بعد فقد كان السياق يوجب أن تكون كلمة اليوم في نقض ما ادعاه أحمد أمين على الأدب الأندلسي من الجمود أمام الطبيعة الفاتنة في تلك البلاد
ولكني أحببت أن أقف وقفة قصيرة عند إحساس العرب بالطبيعة وبالوجود
يعرف كل من اطلع على كتب الأدب أن الشعراء كانوا يتواصون عند خمود القريحة بالنظر إلى المياه الجارية، والرياض الحالية.
ومعنى ذلك أنهم كانوا يفهمون أن النظر إلى جمال الوجود يوقظ العواطف ويُرهف الأحاسيس
وهذا يشرح السبب في غرام العرب بافتتاح القصائد بالنسيب لأنهم كانوا يدركون أن تأثر
الشاعر بأقوى مظاهر الطبيعة وهو الجمال يوجه إحساسهم إلى مختلف الأغراض
ومثل الشاعر في ذلك مثل المغني. فالمغني يجلس في هدوء ثم تصدح حوله الموسيقا بأصوات مختلفات، ويظل كذلك إلى أن يستيقظ ما كان غفا من أحلام القلب والروح فينطلق في النشيد
وكذلك كان شعراء العرب: كانوا يهيمون بالرياض الحالية، أو الديار العافية، أو المياه الجارية، قبل أن يشرعوا في نظم القصائد. فإذا أخذوا في النظم بدءوا بالجوانب الدقيقة من ذوات أنفسهم وقلوبهم ليواجهوا الأغراض المنشودة وهم في فورة من طغيان العواطف وعنفوان الأحاسيس
ألا يشهد ذلك بأن شعراء العرب كانوا يدركون قيمة الطبيعة في إذكاء الأرواح وإرهاف القلوب؟
وهل فكر أحمد أمين في شيء من ذلك؟
هل خطر في باله أن شعراء العرب في الأعصر الخالية كانوا تعلقوا أشد التعلق بالسياحات والرحلات حتى صار من النادر أن يقر شاعر في بلده إلى أن يموت؟
قد يقال إن ذلك كان سعياً في طلب الرزق
ونجيب بأن الشعراء كانت لهم غايات أعظم من طلب الرزق، فقد كانوا يستأنسون بالبلاد والبحار والأنهار والجبال حتى ليمكن القول بأن دواوينهم في بعض مناحيها تشبه الخرائط الجغرافية. وهل نسيتم قصيدة المتنبي في شعب بوان؟ هل نسيتم قصيدة البحتري في إيوان كسرى؟ هل نسيتم قصائد الأندلسيين في أهرام مصر؟ هل نسيتم قصائد الشريف الرضي في أطلال الحيرة؟ هل نسيتم قصيدة الأنطاكي في ليالي الجزيرة والنيل؟ هل نسيتم ألوف القصائد التي سجلت أهواء الشعراء في الحنين إلى معاهد الأنس والوصال؟
لقد هجر ابن زريق وطنه في طلب الرزق، فهل عرفتم كيف اكتوى بالتشوق إليه يوم مات؟
إن الذي يحكم بأن شعراء العرب لم يحسوا الطبيعة ولم يتغنوا بأفانين الوجود لا يكون إلا رجلاً حرمه الله نعمة الفهم العميق لأسرار الشعر والبيان
لقد أراد الأستاذ أحمد أمين أن يحكم بأن الشعراء في العصر الأموي والعباسي قلدوا شعراء
الجاهلية في وصف الرسوم والطلول
فهل نستطيع أن ندله على أن هيام أولئك الشعراء بوصف الرسوم الهوامد، والطلول العافية، ليس إلا تعلقاً بالطبيعة في جانبها الباكي الحزين؟
إن صديقنا أحمد أمين لم يفهم كيف وقف أبو نواس على الطلول، بعد أن سخر ممن يقفون على الطلول وهو يرى ذلك رجعة إلى التقاليد الجاهلية. فهل يظن أن الطلول كانت انقرضت لعهد أبي نواس ولم يبق إلا العمران الباقي على الزمان؟
فما رأيه إذا حدثته بأن صور الطلول لا تزال باقية إلى اليوم!
أشهد صادقاً أني ما مررت بشارع الرملة في مصر الجديدة إلا خفق القلب لرسم كان لي فيه صديق أضاعه القلم الجموح
أشهد صادقاً أني أتلفت من حين إلى حين وأنا أخترق شوارع مصر الجديدة عساني أرى الصديق الذي كنت أسايره لحظات أو ساعات ونحن نتعقب بالنقد اللاذع أحوال الدنيا والناس
فكيف يكون حالي لو نظمت قصيدة في التوجع لتلك الدار التي صارت رسماً بعد أن صنعت في تجريح صاحبها ما صنعت؟
وهل يمكن القول بأن ابن المعتز كان يقلد شعراء الجاهلية حين قال:
لا مثل منزلة الدويرة منزلٌ
…
يا دار جادك وابل وسقاكِ
بؤساً لدهر غيرتكِ صروفه
…
لم يمح من قلبي الهوى ومحاك
لم يحل للعينين بعدك منظرٌ
…
ذُمّ المنازل كلهن سواك
أي المعاهد منك أندب طيبهُ
…
ممساك بالآصال أم مغداك
أم برد ظلك ذي الغصون وذي الجنى
…
أم أرضك الميثاء أم رياكِ
وكأنما سُعطت مجامر عنبر
…
أو فُتّ فار المسك فوق ثراك
وكأنما حصباء أرضك جوهرٌ
…
وكأن ماء الورد دمع نداك
وكأن درعاً مفرغاً من فضة
…
ماء الغدير جرت عليه صباكِ
وقد ترجمت هذه الأبيات إلى الفرنسية في النسخة الفرنسية من كتاب النثر الفني فعدّها الفرنسيون من أصدق ما تحدثت به القلوب
فهل يرى صديقنا أحمد أمين أن هذه القصيدة لا تمثل إحساس الشعراء بالوجود؟
وهل يمكن الشك في قول ابن سنان الخفاجي:
ولما وقفنا بالديار وعندنا
…
مدامع نسديها لكم ونثيرها
شكونا إليها ما لقينا من الضنى
…
فعرفَّنا كيف السقام دثورها
وقد درست إلا أمارة ذاكر
…
تلوح له بعد التمادي سطورها
خليليّ قد عمَّ الأسى وتقاسمت
…
فنون البلى عشاق ليلى ودورها
فلا دار إلا دمنة ورسومها
…
ولا نفس إلا لوعةٌ وزفيرها
لعمر الليالي ما حمدت قديمها
…
فيوحشني ذهابها ومرورها
وقالوا عطاء الدهر يبلى جديده
…
ومن لي بدنيا لا يزول سرورها
فهذا شاعر لا يكتفي بأن يقول إنه يحسّ الطبيعة، وإنما يؤكد أن الطبيعة توجعت لمن يهواه، وذلك غاية الغايات في الإحساس بالوجود
وكذلك صنع الشاعر الذي قال:
تعفو المنازل إن نأوا
…
عنها وتغبرّ البلادُ
والحيُّ أولى بالبلى
…
شوقاً إذا بلى الجمادُ
فمن الذي يستطيع أن يحكم بعد هذه الشواهد بأن شعراء العرب لم يحسوا معاني الوجود؟ ومن الذي ينكر صدق اللوعة على ابن الخياط إذ يقول:
وقفت أداري الوجد خوف مدامع
…
تبيح من السر الممنَّع ما أحمي
أغالب بالشك اليقين صبابةً
…
وأدفع من صدر الحقيقة بالوهم
فلما أبي إلا البكاء لِيَ الأسى
…
بكيتُ فما أبقيتُ للرسم من رسم
كأني بأجزاع النقيبةُ مُسْلمُ
…
إلى ثائر لا يعرف الصفح عن جُرم
لقد وجدت وجدي الديار بأهلها
…
ولو لم تجد وجدي لما سقمت سقمي
عليهنّ وسمٌ للفراق وإنما
…
عليّ له ما ليس للنار من وسم
وكم قسمَّ البين الضنى بين منزل
…
وبيني ولكن الهوى جائر القسم
منازلُ أدراسٌ شجاني نحولها
…
فهلاّ شجاها ناحل القلب والجسم؟
فما رأي الأستاذ أحمد أمين في هذا الشعر النفيس؟ وهل خطر في باله أن شعراء العرب
لهم أمثال هذه المعاني؟
أنا أخاطب رجلاً من أساتذة كلية الآداب، ولولا ذلك لشرحت ما في هذه القصيدة من شواهد الإحساس بقدرة الطبيعة على تذوق البؤس والنعيم
وهل اتفق لشاعر في شرق أو في غرب أن يصل إلى قول بعض الأعراب في توديع نجد:
أقول لصاحبي والعيس تهوى
…
بنا بين المنيفة فالضمار
تمتع من شميم عَرار نجدٍ
…
فما بعد العشية من عرار
ألا يا حبذا نفحات نجد
…
وريّا روضه بعد القطار
وأهلك إذ يحل الحي نجداً
…
وأنت على زمانك غير زار
شهورٌ ينقضين وما شعرنا
…
بأنصاف لهن ولا سِرار
ولكن الأستاذ أحمد أمين قد يتهمنا بالتعصب للأدب العربي ويقول إننا ننظر إليه بعين المحب، فهل يستطيع أن يدلنا على شاعر أوربي توجع لفراق النعيم في وطنه مثل هذا التوجع؟
إن العرب لم يسودوا من باب المصادفات، وإنما سادوا لأن لهم عبقرية ذاتية قضت بأن يسيطروا على العالم زمناً غير قليل.
وقد دالت دولة العرب أكثر من عشرة قرون، ومع ذلك بقيت سلطتهم الأدبية والروحية. فهم سادة لمئات من الملايين وإن لم يبق لهم عرش ولا تاج
وقد تحذلق المتحذلقون فقالوا إن الفقه الإسلامي صورة من الفقه الروماني، فهل هذا صحيح يا بني آدم من أدعياء العلم بأصول الشرائع؟
إن العرب سادوا بحق، وقد تركوا ثروة أدبية وفلسفية وتشريعية لا يغض من قدرها إلا حاقد أو جهول
فمتى نرجع إلى أنفسنا لنبحث عن الميراث النبيل الذي ورثناه عن أسلافنا النبلاء؟
لقد سمعتم وسمعنا كيف بغى الأسبانيون بعضهم على بعض، وكيف فصل في تلك المعارك الدامية بعد نحو ثلاث سنين
فهل تذكرون أن أسلافنا صبروا على المعارك الأسبانية نحو ثمانية قرون؟
وهل كان ذلك إلا لأنهم شعروا بأن الأندلس قطعةٌ من أرواحهم وقلوبهم؟ فكيف تحكمون
بأنهم لم يحسُّوا الطبيعة ولم يتشبثوا بالوجود؟
إن العرب في أغلب أحوالهم عاشوا عيشة جافية قضت عليهم بأن يتلمسوا مساقط الغيث، فكيف يقال إنهم لم يحسُّوا الطبيعة إلا بطريق سطحية؟
أكتب هذا وأنا أعرف أن الأستاذ أحمد أمين سيهزّ كتفيه ويقول: (هذه خطابيات يراد بها اكتساب عواطف الجمهور!)
إن قال ذلك فسأحيله على تاريخ يحيى بن طالب
فهل يعرف من هو يحيى بن طالب؟
وكيف يجهله وهو يتصدر لتدريس الأدب العربي بكلية الآداب؟
إن يحيى بن طالب أحس الطبيعة وأحس الوجود إحساساً نادر المثال، وهو وحده كاف للزكاة عن الأدب العربي، وقد اتهمه من لم يعرفوه بأنه خالٍ من وصف مظاهر الطبيعة وأشكال الوجود
فهل ننتظر أن يظفر هذا الشاعر بفصل نفيس من (فصول) أحمد أمين؟
لو كان صديقنا العزيز أحمد أمين قد اطلع على الأدب العربي لتذكر نخلتي حلوان في شعر مطيع بن إياس، وكان لهما في حياة الخلفاء أحاديث يذكرها بالدمع من قرأ معجم البلدان. ولكن أين أحمد أمين من هذه الشؤون وهو مفتون بالحذلقة والأغراب؟
إن أحمد أمين لا يجني على الأدب العربي، وإنما يجني على نفسه حين يزعم أن التشبيهات ليست إلا ألاعيب
ولو كان من أهل الخبرة بدقائق الأشياء لعرف أن التشبيهات من أصدق الشواهد على تعلق العرب بالطبيعة وبالوجود
ولن أشرح له هذا المعنى إلا يوم يعرف أن من واجب المرء أن يطلب العلم من المهد إلى اللحد. وقد تلوح فرصة قريبة فأشرح هذا المعنى لمن يهمهم أن يعرفوا كيف تغيب حقائق الأدب عن هذا (الأديب) وهل نكتم ما نعرف مكايدةً للصديق أحمد أمين؟
لقد استطعنا بحول الله وقوته أن نبدد الشبهات التي أثارها حول الأدب العربي من يجهلونه كل الجهل أو بعض الجهل
فلنأخذ بعد ذلك في رفع التهمة عن الأدب الأندلسي ليعرف من لم يكن يعرف أنه خليق بأن
ينصب له كرسي خاص في كلية الآداب.
والأمل كبير في أن يغفر الأستاذ أحمد أمين جنايتنا عليه حين أفهمناه أن في مصر ناساً يقرءون ويحكمون
فإن كان قد استمرأ العافية من سكوت النقاد بضع سنين فليعرف أن ذلك حلم تبدد، ونعيم ضاع، وعليه أن يستقبل المكاره بعزائم الرجال
والله وحده يعلم أني لم أُرد بهذا النقد غير وجه الحق، ومنه وحده أنتظر حسن الجزاء
(للحديث شجون)
زكي مبارك
النبوة - الوحي - المعجزة
للأستاذ عبد المنعم خلاف
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
نعم! إن المعجزة الحسية لا علاقة لها بالإقناع عند أكثر من لم يقتنع بالحجج الفكرية، وأغلب ظني أنها ما أجريت للإقناع، بل لتعجيز المكابرين وأخذ طرق الإنكار عليهم، حتى لا يفلتوا إلى عذر بعدها، وحتى يحملوا حملاً على الإيمان. ولذلك كانت هي الدور الأخير من حجج الرسل بعد أن تعيبهم لجاجة الناس. فموسى مثلاً كما حكى القرآن: دعا فرعون للإيمان بالله عن طريق العقل في أول الأمر، فلما كذبه وهدده بالسجن. قال:(أولو جئتك بشيء مبين) وألقى عصاه. . . إلى آخر القصة. وكذلك سلك كل رسول من أصحاب المعجزات. فهي كانت آخر سهم في كنانة الرسول أمام المتعنتين. ولم تكن ذات أثر كبير في حمل بقية الناس على الإيمان كما حكى القرآن. قال: (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون، وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها، وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً). . . والجملة الأخيرة من الآية تدل على أن المعجزة لم يكن ورودها للإقناع، فهي إنما أجريت لإتمام الحجة وابتذال كل شيء، حتى قوانين الفطرة في سبيل غاية الحياة العظمى - وهي الإيمان - فالذي لا يقنع عن طريق التفكير والمحاكمة العقلية - بقضية من قضايا الحق - لا يقنعه أن تقلب له العصا حية، أو الصخرة ناقة؛ وإنما هو سيتعجب فقط من فعلك، ويبقى في نفسه الإنكار للقضية التي سقت دليلك الحسي من أجلها.
ولذلك جعل الله الرسالة الأخيرة معتمدة على حجة عقلية دائمة - هي القرآن - الذي هو الرسالة، وهو المعجزة المثبتة لتلك الرسالة. . . وهذا أمر ذو قيمة كبرى تفرد به الإسلام!
وقد أراد مشركو مكة أن ينهجوا مع رسول الله (ص) طريقة من قبلهم من الأمم في طلب الآيات الحسية؛ فأبى عليهم القرآن ذلك، وقال:(أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم). . . (كذلك قال الذين لا يعلمون - مثل قولهم - تشابهت قلوبهم: قد بينا الآيات لقوم يوقنون، إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً). . . (ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون، لقالوا إنما سُكِّرت أبصارنا. بل نحن قوم مسحورون). . . (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة، وكلمهم الموتى، وحشرنا عليهم كل شيء قُبُلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله)
إلى آخر الآيات التي تبين أن المعجزة الوحيدة التي تحدى بها رسول الله إنما كانت القرآن وحده. . .
وبعد هذا أقول للذين يرون المعجزات الحسية عقبة في سبيل الإيمان بالنبوة: أليس الناس متنوعين في التفكير وطرق الاقتناع؟ فلا بد إذن أن نُنوع وسائل إقناعهم. فمنهم العقليون الذين يسيرون - على أسلوب الله - ولا يدركون كلماته في الطبيعة! ولو لم يتحدث إليهم بصوت ولا نبرات، وهؤلاء قليلون جداً! ومنهم الأطفال المحدودون الذين لا يصدرون إلا إذا رأوا تمرة أو جمرة. . . درهماً أو سوطاً. . . وهؤلاء هم الأكثرية العاملة الناصبة. . .
لماذا تنسون طرائقكم في التدريس أيها الفلاسفة المعلمون؟ ألا تنوعون أساليب التفسير والشرح تبعاً لعقول تلاميذكم؟ وهذا أيضاً هو منطق الله مع الناس!. . .
وبعد فحديث (الوحي والنبوة) كان يجب أن يكون مفروغاً منه عند المتأملين بعمق في الطبيعة. . . الذين يدركون عمق الحياة وتزاحم تياراتها على القلب الإنساني مما لا بد معه من وجود حبل للنجاة فيها، والطمأنينة على قيمتها وقيمة الإنسان فيها.
إن وراء الحياة ربها الحكيم الذي يحتم العقل الإنساني وجوده ولن يخلي الطبيعة منه إلا إذا جن واختلط. . . وقد وُضع الإنسان في قمة الحياة الأرضية، وصار له اقتراحات وأعمال في تنقيح الطبيعة والتصرف فيها تبين أنه ليس شيئاً تافهاً يعيش على هامش الحياة. فكيف بعد هذا كله يترك هذا الصنف المكرم من غير خطاب من الله من أول الحياة إلى آخرها؟. . .
إن هذا الخطاب يحكم العقل والوجدان بأنه لا بد منه حتى ولو كان للترف والأنس الروحي بين الله والمخلصين له. . . دع عنك الضرورة الاجتماعية الحادة التي تحتمه ليستطيع الإنسان الرسول أن يحمل العبء مطمئناً متشجعاً صبوراً حمولاً. . . لأنه يسمع صوت الله قائلاً له: احمل واصبر لأني معك. . .
كتب الأستاذ العقاد في (الرسالة) عدد 285 أو 286 مقالاً بعنوان (المذياع الآدمي) هو ذو قيمة كبيرة في تحليل النفس الآدمية، وبيان آفاقها، وعمق سريرتها، وقدرتها على التقاط المعاني، والسيالات من جوف الكون!. . .
كان بودي أن يكون هذا المقال أمامي الآن لأنقل منه فقرة تقرب معنى الوحي ببيان
عصري إلى العقول التي تأبى أن تصدق شيئاً خارجاً عن نطاق الحس. . . ولكني آسف لأن المقال ليس في متناول يدي الآن!
ويحضرني من معانيه هذا المعنى: إن الكون مليء زاخر بكل معنى من معاني الحياة. فهو كمصدر الإذاعة اللاسلكية، والقلوب لها خاصة الالتقاط كآلات الراديو التي تستقبل. وبعض القلوب قوي يستطيع أن يأتي بمعان صادرة عن أفق بعيد، كما أن بعض آلات الراديو له قوة على التقاط الموجات البعيدة. . .
وهذا مدخل نستطيع أن ندخل منه إلى فهم معنى الوحي. فقلب النبي وعقله أعدا إعداداً خاصاً لسماع ما وراء الطبيعة. . .
وهما في قوتهما يعتبران قمة الرقي الإنساني الذي يستطيع الإنسان أن يصل إليه في الاتصال بخفايا الكون!
وما دام العصريون يسلمون بمذهب النشوء والارتقاء في الأجسام فلم لا يسلمون به في العقول والأرواح؟
وإذا كان الله لا يظهر بعض نوره للروح الإنساني الذي هو نفخة منه فلأي شيء يظهره؟. . .
ولا بد من باب ينفذ منه العقل الإنساني إلى ما وراء الطبيعة. وهذا الباب هو عقل النبي وروحه؛ ولن يقنع الإنسان بانقطاع الصلة بينه وبين ما وراء الطبيعة إلى هذا الحد الذي تراه من الإغلاق في الطبيعة، وعدم سماحها بأي ثغرة تنفذ منها.
ولو كان منكرو النبوة والوحي يتبعون الأسلوب العلمي في بحثهم حول النبوة والوحي كما يتبعونه في بحثهم في المادة، ما أباحوا لأنفسهم أن يرفضوا شيئاً لم يقم دليل علمي على بطلانه، بل ما أباحوا لأنفسهم أن يجادلوا فيه عارفيه من الأنبياء والأصفياء إلا على سبيل الاستفسار لا الإنكار. فكما لا يباح لرجل الشارع الجاهل أن يجادل (ملكن) أو (مركوني) أو (أديسون) وغيرهم من أساطين العلم المادي، كذلك لو أنصفنا ما أبحنا لأنفسنا أن ننكر على الأنبياء ما رأوه في آفاق الحياة والروح إلا إذا كنا على قرب منهم في الصفاء والرياضة الروحية التي كانوا يزاولونها. فالأسلوب العلمي يحتم على من يريد الإنكار عليهم أن يقارب منهم ويزاول ما يزاولون، وهم يقولون إننا نرى أشياء ونصل إلى درجة
نخاطب معها أرواح الملائكة والأنبياء
قال الغزالي أبو المعرفة ومحصل علوم زمانه في كتابه (المنقذ من الضلال): (ومن أول الطريقة تبتدئ المكاشفات والمشاهدات حتى إنهم (الصوفية) في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتاً ويقتبسون منهم فوائد ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق ولا يحاول معبر أن يعبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطأ صريح لا يمكنه الاحتراز عنه. وعلى الجملة ينتهي الأمر إلى قرب يكاد يتخيل منه طائفة الحلول وطائفة الاتحاد وطائفة الوصول. وكل ذلك خطأ. . .) إلى أن يقول (وبالجملة فمن لم يرزق منه شيئاً بالذوق فليس يدرك من حقيقة النبوة إلا الاسم. وكرامات الأنبياء على التحقيق بدايات الأنبياء وكان ذلك أول حال رسول الله عليه السلام حين أقبل إلى جبل حراء حين كان يخلو فيه بربه ويتعبد حتى قالت العرب: إن محمداً عشق ربه.
وهذه حالة يتحققها بالذوق من يسلك سبيلها). ثم بين الغزالي أطوار نمو العقل البشري من إدراك المحسوسات إلى إدراك المعقولات وبين أن وراء هذه المنطقة (عيناً أخرى يبصر بها الغيب وما سيكون في المستقبل وأموراً أخرى العقل معزول عنها)
فعلى منكري هذا من الباحثين الشاكين أن يتبعوا الأسلوب العلمي في الإنكار والإثبات فيسلكوا سبيل أبي حامد الغزالي وأشياعه ليروا أهم على حق أم على باطل. فلقد كان أبو حامد شاكا ودرس وسلك حتى أتاه اليقين
إلى الدكتور الفاضل عمر فروخ ببيروت
إن الكاتب الفاضل الذي استعداني على مقالك (المعجزة) المنشور بمجلة الأمالي (عدد 37 ص 1) أرسل إلي العدد الذي فيه المقال، وقد قرأته بإمعان وفهمت منه ما أشرت إليه في مقدمة مقالي الأول عن النبوة والوحي والمعجزة فأنا أصرف إلى نفسي تعريضك به في مقالك الذي علقت به على مقالي، وإلا كنت أنا ظالماً له ومسيئاً إليه، وأرجو أن ترتاح للذين يتحمسون في الدفاع عن عقيدتهم التي هي أثمن شيء لديهم ما دام الدفاع خالياً من السباب والمهاترة فإن هذا هو شأن الباحث الذي يقدر عقائد القلوب.
فالكاتب الذي كتب إليّ من بيروت إنما صدر عن إخلاص حين أرادني أن أجادل رأيك في
المعجزة. أما ذكره اسمه ناقصاً فله عدة وجوه لا تقدح فيه غير ما أشرت إليه أنت
وأنا قد فهمت من تفسيرك للمعجزة أن في ذهنك صورة عن النبوة غير ما في أذهان الواقفين عند نصوص القرآن في معجزات الرسل السابقين. فالقرآن يثبت أن معجزات الرسل لا دخل فيها للإنسان الرسول، وهو ذاته لا يفهمها ولا يدري سر إجرائها كما يدل على ذلك فرار موسى حين رأى عصاه حية تهتز كأنها جان. . . وأنت تعرف المعجزة في فهم الخاصة بأنها (عمل إنساني محض فيه إدراك بالغ لقوانين الطبيعة ووزائع الاجتماع، فكلما كان فهم الإنسان للطبيعة والبيئة أدق وأعمق كانت معجزته أجل وأثمن (هذا كلامك بالحرف. فأنت ترى من كلامك أنه صريح في جعل المعجزة عملاً إنسانياً، مع أن القرآن ينعت هذا النوع بأنه آيات إلهية لا دخل للإنسان الرسول في إجرائها إلا ما يتعلق بتحديد مواعيدها ومواضعها
ثم إنك جعلت توحيد رسول الله محمد للعرب معجزته الكبرى وقد تم ذلك لغيره في عصور مختلفة أحدها عصر الملك
الحالي عبد العزيز بن سعود. وقد كان مثل هذا التوحيد في غير العرب من الأمم. أفنجعل ذلك كله معجزات بالمعنى الديني؟
من أجل هذا فهمت أنك تريد أن تسلك محمداً في سلك الأبطال المصلحين الذين لا يعتمدون على مدد من السماء وأنك تريد أن تجعل كل ما فاض عنه من الأفكار والأخلاق في الإصلاح، والإرشاد والتشريع، إنما كان كله فيضاً نفسانياً بشرياً صادراً عن ذاته هو. وهذه مقالة شاعت في هذا الزمان وهي رفض للنبوة بمعناها عند المؤمنين.
ولكني بعد ما قرأت مقالك الذي تعلق به على مقالي ووجدتك تقول: إنني رجل أؤمن بالنبوة على ما وردت في القرآن الكريم لا أحيد عن رأيي في ذلك: (قل إنما أنا بشر مثلكم يُوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد) إلى آخر الآية. أراني مضطراً إلى تصحيح رأيي في آرائك تلك في النبوة فقط. أما رأيك في المعجزة فهو بعيد عن قول القرآن فيها؛ وفيما أوردته حولها سابقاً في هذا المقال خلاصة رأيي فيها. ولك التحية
(القاهرة)
عبد المنعم خلاف
خليل مردم بك
وكتابه في الشاعر الفرزدق
لأستاذ جليل
- 2 -
أورد الأستاذ المردمي قول الفرزدق في هذه الرواية في الأغاني في أثناء بحث اجتزأ به، وقد رأيت سوق القصة بتمامها في هذا المقام:
(نزل الفرزدق على الأحوص حين قدم المدينة فقال الأحوص: ما تشتهي؟
قال: شواء وطلاء وغناء. قال: ذلك لك، ومضى به إلى قينة بالمدينة، فغنته
ألا حيِّ الديار بسُعدَ إني
…
أحب لحب فاطمة الديارا
إذا ما حلّ أهلك يا سليمى
…
بدارةُ صلصل شحطوا مزارا
أراد الظاعنون ليحزنوني
…
فهاجوا صدع قلبي فاستطارا!
فقال الفرزدق: ما أرق أشعاركم يا أهل الحجاز وأملحها!
قال: أوَ ما تدري لمن هذا الشعر؟ قال: لا والله. قال: فهو (والله) لجرير يهجوك به. . .
فقال: ويلُ ابنِ المراغة! ما كان أحوجه مع عفافه إلى صلابة شعري، وأحوجني مع شهواتي إلى رقة شعره)
وأملى أبو العباس في (كامله) الحكاية مطوّلة، وجاء في ختامها:(فقال الفرزدق ما أحوجه مع عفافه إلى خشونة شعري، وأحوجني مع فسوقي إلى رقة شعره)
فالفرزدق وجرير في الإسلاميين يحسبان مثل حبيب والوليد في المحدثين: (ترى ألفاظ أبي تمام كأنها رجال قد ركبوا خيولهم واستلأموا سلاحهم، وتأهبوا للطراد، وترى ألفاظ البحتري كأنها نساء حسان عليهن غلائل مصبغات، وقد تحلين بأصناف الحلي)
وهي طبيعة المرء، وهو مزاجه:(كان القوم يختلفون في ذلك، وتتباين فيه أحوالهم، فيرق شعر أحدهم، ويصلب شعر الآخر. وإنما ذلك بحسب اختلاف الطبائع وتركيب الخلق)
وقد قلت في بحث قبل: ما اختلف الطائيان الأكبر والأصغر في الطريقة، إلا لاختلاف الخليقة، فمن تشددت خليقته استفاد للجزالة ومتنت عبارته. ومن سجحت ضريبته رقت
كلمته؛ فالأمر عائد إلى الطبائع. وقول الإفرنج في هذا المعنى معروف
(والفرزدق وجرير والأخطل أشعر العرب أولاً وآخراً، ومن وقف على الأشعار ووقف على دواوين هؤلاء الثلاثة علم ما أشرت إليه. وأشعر منهم عندي الثلاثة المتأخرون، وهم أبو تمام وأبو عبادة وأبو الطيب المتنبي، فإن هؤلاء الثلاثة لا يدانيهم مدان في طبقة الشعراء)
وللثلاثة الإسلاميين فضيلتان، وللثلاثة المحدثين الذي هو لهم. وقد تخرج الآخرون على الأولين وأمثالهم التخرج التام. وثقفتهم تلك الحضارة، ورأوا دنيا لم يرها سالفهم في الزمن، وأوثروا بما أوثروا به، فتفوقوا على غيرهم، ولم يجيء من بعدهم أشبابهم
ومن الأسباب التي برع بها الإسلاميون الجاهليين: (أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية في القرآن والحديث اللذين عجز البشر عن الإتيان بمثليهما لكونها ولجت في قلوبهم، ونشأت على أساليبها نفوسهم، فنهضت طباعهم وارتقت ملكاتهم في البلاغة على ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية وممن لم يسمع هذه الطبقة ولا نشأ عليها)
والفرزدق أفضل الثلاثة الإسلاميين، وقد وصفه وصاحبيه خالد بن صفوان في خبر في الأغاني، وفي قوله حق كثير، وأسلوبه يحكي وصف (الهمذاني) الفرزدق وجريرا في المقامة القريضية. وهذا ما نسب إلى خالد:(أما أعظمهم فخراً، وأبعدهم ذكراً، وأحسنهم عذراً، وأسيرهم مثلاً، وأقلهم غزلاً، وأحلاهم عللاً، الطامي إذا زخر، والحامي إذا زأر، والسامي إذا خطر، الذي إن هدر قال، وإن خطر صال، الفصيح اللسان، الطويل العنان - فالفرزدق. وأما أحسنهم نعتاً، وأمدحهم بيتاً، وأقلهم فوتا، الذي إن هجا وضع، وإن مدح رفع - فالأخطل. وأما أغزرهم بحراً، وأرقهم شعراً، وأهتكهم لعدوه ستراً، الأغر الأبلق، الذي إن طلب لم يسبق، وإن طلب لم يلحق - فجرير)
وقال أبو الفرج: (الفرزدق مقدم على الشعراء الإسلاميين هو وجرير والأخطل. ومجاله في الشعر أكبر من أن ينبه عليه بقول، أو يدل على مكانه بوصف؛ لأن الخاص والعام يعرفانه بالاسم، ويعلمان تقدمه بالخبر الشائع علماً يستغني به عن الإطالة في الوصف (وقد) اختلف (الناس) بعد اجتماعهم على تقديم هذه الطبقة في أيهم أحق بالتقدم على سائرها. فأما قدماء أهل العلم والرواة فلم يسووا بينهما وبين الأخطل لأنه لم يلحق شأوهما في الشعر، ولا له
مثل ما لهما من فنونه. وهما في ذلك طبقتان: أما من يميل إلى جزالة الشعر وفخامته وشدة أسره فيقدم الفرزدق. وأما من كان يميل إلى أشعار المطبوعين وإلى الكلام السمح السهل الغزل فيقدم جريراً).
والفرزدق عند الشعراء الحذاق الكبار والعلماء العارفين أعظم من جرير. روى الأستاذ المردمي في (الكتاب) عن (الموشح) للإمام المرزباني: (قال أبو الغوث يحيى بن البحتري: كان أبي يقول: لا أرى أن أكلم من يفضل جريراً على الفرزدق، ولا أعده من العلماء بالشعر. فقيل له: وكيف؟ وكلامك أشد انتساباً إلى كلام جرير منه إلى كلام الفرزدق. فقال: كذا يقول من لا يعرف الشعر. لعمري إن طبعي بطبع جرير أشبه، ولكن من أين لجرير معاني الفرزدق وحسن اختراعه؟ جرير يجيد النسيب ولا يتجاوز هجاء الفرزدق بأربعة أشياء: باليقين، وقتل الزبير وبأخته جِعثِن، وامرأته النوار. والفرزدق يهجوه في كل قصيدة بأنواع هجاء يخترعها ويبدع فيها)
وقد عرف الأستاذ المردمي من نبوغ الفرزدق ما عرفه البحتري، بل تنبه على من لم يتنبه عليه. وظني أن هذا ما بعث الأستاذ على أن يخص أبا فراس بكتابه، وإن كان طبعه - كطبع البحتري - لطبع جرير أشبه، وشاكلت رقَّتُهُ رقَّتَهُ
وقد نقد ضياء الدين بن الأثير رواية الموشح نقداً غير صواب، ومما قال: (إن البحتري عندي ألب من ذلك، وهو عارف بأسرار الكلام، وكيف يدعي على جرير أنه لم يهج الفرزدق إلا بتلك المعاني الأربعة التي ذكرها، وهو القائل:
لما وضعت على الفرزدق ميسمي
…
وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل
فجمع بين هجاء هؤلاء الثلاثة في بيت واحد.
وإعجاب ابن الأثير بمثل هذا البيت أمرٌ إمْر. وهل هذا من درجة الاجتهاد التي بلغها وذكرها في قوله في مقدمة كتابه: (ومنحني درجة الاجتهاد التي لا تكون أقوالها تابعة وإنما هي متبعة) وقال ابن الأثير: (ولو سلمت للبحتري ما زعم من أن جريراً ليس له في هجاء الفرزدق إلا تلك المعاني الأربعة لاعترضت عليه بأنه قد أقر لجرير بالفضيلة؛ وذاك أن الشاعر المفلق أو الكاتب البليغ هو الذي إذا أخذ معنى واحداً تصرف فيه بوجوه التصرفات، وكذلك فعل جرير فإنه أبرز من هجاء الفرزدق بالقين كل غريبة) وأورد ابن
الأثير من (هذه الأساليب التي تصرف فيها جرير)
سبعة أبيات، منها:
قال الفرزدق:
رقِّعي أكيارنا
…
قالت: وكيف ترقع الأكيار؟
وسيف أبي الفرزدق فاعلموه
…
قدوم غير ثابتة النصاب
ولو لم يرو مثل هذا لكان خيراً لابن الأثير ولصاحبه جرير
(قال جرير لرجل من بني طهية: أينا أشعر أنا أم الفرزدق؟
فقال له: أنت عند العامة والفرزدق عند العلماء. فصاح جرير: أنا أبو حزرة! غلبته ورب الكعبة! والله ما في كل مائة رجل عالم واحد)
فإن أصبر قول الطهويّ جريراً وازدهاه فهل يرضى صاحب أبرع كتاب في العربية في بابه أن يكون من العامة؟
وما نقصد بهذا القول إزراء بابن الخطفيّ، فجرير ما جرير؟! وهو الثاني في الثلاثة، هو الابن في الثالوث الإسلامي. . . وقد قال الفرزدق:(إني وإياه - يعني جريراً - لنغترف من بحر واحد وتضطرب دلاؤه عند طول النهر)
وإذا كان ضياء الدين يرى (الشعر كله في ثلاث لفظات فإذا مدحت قلت: (أنت) وإذا هجوت قلت: (لست) وإذا رثيت قلت: (كنت)) فقد غمز في نفسه، وأقبل مقلداً من المقلدين لا مجتهداً - كما يصف نفسه - من المجتهدين
(يتبع - الإسكندرية)
* * *
في بلاط الخلفاء
سعد وسعاد في حضرة معاوية
للأستاذ علي الجندي
فوق بسيط الصحراء المترامي الأطراف، المنَّضر بتلافيف العشب الأخضر، وعلى كثب من أخبية هذا الحيّ الذي تخصص في الحب حتى ضُربت به في ذلك الأمثال! كانت سعاد أو سعدى العذريّة ترعى البهم مع ابن عمٍّ لها يُدعى سعدا في مثل سنها أو يجاوزها قليلاً
ورعى الشاء والنّعم - كما يعرف الملمون بالأدب العربي - أخصب مراتع الحب في البادية وأغزر ينابيعه، ففي ظل تلك الوحدة الصافية والخلوة المطمئنة، وبين كثبان الرمل الأعفر ولُعاب الشمس الضاحية بنجوة من فضول الرقباء ولجاجة العُذّال، انسكب هذا الفيض العلوي على القلوب، وانقدحت شرارته السحرية الأولى، وانفسح المجال - في كلاءة العفاف والتصوّن - للتعارف والتآلف والتشاكي والمناجاة! بل خُطت مصارع العشاق المتيّمين من أمثال ابن حزام وابن ذريح وابن الملوّح، واستطارت أّناتهم الدامية وآهاتهم الحِرار! التي يسميها - من لم يُدلّهه الهوى وتُدنفه الصبابة - أشعار الغزل والنسيب!
ولم يكن بدّ لسعد وسعاد أن يتحابّا جرياً على هذا العِرق الأصيل في القبيلة. وقد يقال: إنهما في بَلَه الطفولة وغرارة الحداثة؛ أجل، ولكن الحب كالسياسة ليس له قلب! فهو كما لا يوقر الكبير لا يرحم الصغير! بل لعل أبرحه وأشجاه ما ساور الأفئدة الغضة، وخامر الأكباد الرِّطاب!
وأخذ الهوى الطفل يتدرج في النمو بتدرج الحبيبين الصغيرين في العمر، حتى شارف المدى في الوقت الذي بلغت فيه سعاد سن القمر البدر! حيث خنقت الرابعة عشرة، فتفلك ثديها وتمت أنوثتها، وتحير في محياها ماء الشباب! وإذا هي أروع مثال للجمال صاغته يد البادية العبقرية الصَّناع!
كانت الفتاة فارعة القوام، مُهفهفة الأعطاف، أدناها كثيب مَهيل، وأعلاها خوط بان!
لها شعر فاحم وارد تنُوس ذوائبه على وجه أبيض مسنون مشوب بسمرة رقيقة كما يشاب الكافور بالمسك! وعينان دعجاوان مكحولتان بالسحر البابلي، يحرسهما حاجبان مُهلَّلان كأنهما نونان من خط ماشق! وخدان أسيلان أنضجت تفاحتيهما شمس الصحراء، نبت
بينهما أنف كقصبة الدرّ أو حدّ السيف لم يَخنُس به قصر ولم يمض به طول. شُق تحته خاتم عَطِر كالأقحوانة الغضة، يلتمع فيه سمطان من اللؤلؤ المنضود تجري عليهما شُهدة العسل وسُلافة الرحيق!
وكانت تحلي جيدها العاجي الأتلع، بعقد من الجزع الظَّفاريّ، وسخاب من القرنفل والمحلب، واسطته عقيقة حمراء قانية، تتوهج في ثغرة نحرها، وفوق ثمرتي صدرها توهج الذهب الذائب في بوتقته
وإلى هذا الإثراء من الحسن المطبوع، أوتيت مزماراً من مزامير آل داود! فكان صوتها ندياً رخيماً، عذب الجرس حلو الرنين! إذا حدت به في أعقاب الإبل، أو تغنت وراء الغنم، أو أخذت بأطراف الحديث في التسامر، صبت في الآذان ما يشبه وسواس الحلي أو زجل الحمام!
وبرح الحب بالفتى والفتاة، وفعلت الصبابة فيهما أفاعيلها! ولكن حياء الفتيان وخفر العذارى العواتق في هذه الأيام، حالا دون المكاشفة بهذا الجوى الدفين! فكانا يتناجيان بلغة العيون، والعيون أقدر على أداء رسالة الغرام، وأجلى إعراباً عن لواعج الشوق السّاعر من لسان المقال!
تَكلَّمُ منا في الوجوه عيوننا
…
فنحن سكوت، والهوى يتكلَّم
وفي صبيحة يوم شديد القُرّ لاذع الشفيف، جلس العاشقان حول نار يصطليانها التماساً للدّفء، وقد علق بصرهما بالشرر المتطاير هنا وهناك كأنه قُراضة الذهب، ذاهلين عن كل شيء حولهما غارقين في صمت عجيب! وإذا الفتى تمتد يده - دون أن يعي - إلى حزمة من يابس العرفج طرحها في النار، فذكا لهيبها واندلعت ألسنتها الحُمر تترقص على وجه الفتاة البضّ فتشبّ لونه، وتجلو فتنته، وتزيده سحراً على سحر!
وأحست سعاد - بعد لأي - بلفح الأوار، فصحت من ذهولها، وازوّرت عن الموقد قليلاً متقية الوهج بإسبال جفنيها المنكسرين، فاستقرت أهدابها الوُطف على ورد خديها، فكان منظراً أخاذاً يقرح قلب الخليّ، ويحثّ الناسك على الصبوة!
أخذت عينُ الفتى هذه الصورة الفاتنة، فعيل صبرهُ، وتدلّه عقله، وخفق قلبه خفوقاً متداركا، وربا سحره حتى ما يكاد يتنفس! ثم شعر كأن نفسه تتنزى من داخل إهابه، وأن أكمام
عواطفه تتفتق عن نفحات عبقة ندّية، لم تلبث أن تخالجت في صدره، ثم ارتقت إلى لهاته، ثم سالت على عذبة لسانه، فإذا هي هذا الشعر يهتف به أول مرة في حياته:
بأبي! كرهت النار لما أوقدت
…
فعرفتُ ما معناك في إبعادها
هي ضرّة لك بالتماع ضيائها
…
وبحسن صورتها لدى إيقادها
وأرى صنيعك في القلوب صنيعها
…
بسيالها وأراكها وعرادها
شَرِكَتْك في كل الأمور بحسنها
…
وضيائها وصلاحها وفسادها
فتظاهرت سعاد بأنها لم تسمع - وهي جدُّ سامعة - فخيل إليه أن شعره لم يند على قلبها، ولم يقع منها بموقع، فاتحه شطر النار يؤرثها بعود من الحطب - وهو يترنم بهذه الأبيات -:
وما عرضت لي نظرةٌ مذ عرفتها
…
فأنظر، إلا مُثِّلت حيث أنظرُ
أغارُ على لحظي لها فكأنني
…
إذا رام لحظي غيرها ليس يبصر
وأحذر أن تُصغي إذا بُحت بالهوى
…
فأكتمها جهدي هواي وأستُر
فنصت إليه سعاد جيدها الناصع، ورمته بنظرة فاترة منكسرة ملؤها عتب رفيق! فاضطرب الفتى وصبغت وجهه حمرة الخجل، وأطرق ينكت الأرض بعود في يده، وأراد أن يذهب بالحديث مذهباً آخر، فعصب ريقه، وانعقد لسانه؛ فعاذ بالصمت مكرهاً كما عاذت هي به من قبل، وظلا بقية يومهما جامدين كالأنصاب
ولما كان من الغد بكر الفتى إلى المرعى تبكير ابن دأية، بعد أن قضي ليلة نابغية بجفن مؤرق ودمع مرقرق!
ولبث يرقب سعاد رقبة الهلال ليلة الشك ساعات ممضة فلم تحضر! فساوره القلق، ومالت به الظنون كل مميل! وكان أخوف ما يخافه أن تكون ابنة عمه قد اعتقدت فيه أنه خضع لبعض الأمر. فطفق يذرع الوادي إقبالاً وإدباراً، ويبلل رداءه بعبرات سخينة، حتى نال منه اللغوب، فسقط رازحاً بين طيات الرمال، ينشد:
مُتْ شوقاً، وكدت أهلك وجْداً
…
حين أبدي الحبيب هجراً وصدا
بأبي من إذا دنوت إليه
…
زادني القرب منه نأياً وبعدا
كيف لا كيف عن هواه سُلُوِّى
…
وهو شمس الضحى إذا ما تبدّى؟!
ولم يكن سعد مصيباً في ظنه، فقد كانت سعاد مطمئنة إلى حسن نيته، وصفاء سريرته، غير ناسية شعار العذريين (إن في فتياتنا صباحة وفي فتياننا عفة)، ولم تكن كذلك ناقمة منه نسيبه بها، بل نزل على قلبها برداً وسلاماً! وأي فتاة لا تستروح إلى حديث الحب البريء، ولا تهفو إلى رؤية محاسنها مفرغة في قوالب الشعر المذهبات؟!
ولكن الفتاة كانت عاقلة أريبة بعيدة النظر، فخشيت أن يستحلي الشاعر هذا المرعى المؤنق، ويتمادى في إعلان صبوته، وتجري مقطعاته ورقائقه على ألسنة الرواة فتفتضح بها، ويقف ذلك عقبة في بلوغ أمنية تعدل عندها الحياة! وهي زواجها من ابن العم الحبيب الذي ينزل منها في سواد العين والفؤاد! فأرادت أن تتخلف عن لقائه أياماً تتصنع فيها المرض عل ثورته تهدأ وشقشقته تقر! وما درت سعاد - عفا الله عنها - أن ما حسبته دواء هو الداء الأكبر بل الموت الأحمر!:
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا
…
على أن قرب الدار خير من البعد
وبينما كان الفتى متوّحداً في الصحراء تتوزّعه الهواجس، ويخبط من حيرته في مثل قطع الليل المظلم! لمعت في ذهنه خاطرة استنار منها وجهه وثلج لها فؤاده، فصكّ جبهته وصاح: الحمد لله لقد اهتديت!
وما عتّم أن انكفأ بالرّاغية والثّاغية إلى مضارب الخيام، ثم عطف على طِراف ممدّد فدخل إلى عمه الشيخ، فإذا هو مُحتب فوق لبدة يمشّط لحيته اللِّيفانيّة
حيّا الفتى عمه الشيخ فرد عليه بأحسن منها، ودعاه إلى الجلوس فجلس قُبالته محتشماً وانقضت فترة كان فيها زائغ البصر شارد العقل جمّ البلابل! ثم تغلب على وساوسه وقال بصوت متقطع النبرات:
- عمي وأبي بعد أبي!
- لبيك ولدي وَوَصَلتك رَحِم!
- جئت أخطب إليك سعاد
فحل الشيخ حبوته وابتسم قائلاً: سعد يخطب سعاد! هو الفحل لا يُقدع أنفه!
فنكّس الفتى رأسه مستحيياً وفي منبت كل شعرة من وجهه ثغر ضاحك!
وكان لسعد صِرمة من الإبل وثلة من الضأن والمعِز ورثها عن أبيه الذي مات عنه - وهو
طفل - فأصدق سعاد عشرين ناقة عُشراء
وما هي إلا أيام قلائل حتى أُهديت الفتاة إليه في ليلة أضحيانية قمراء، تحف بها كوكبة من أترابها يتغنين ويضربن بالدفوف، وأمامهن الجواري الصغيرات يعزفن ويرقصن، ومن حولهن فتيان الحي يتشاولون بالسيوف ويتناضلون بالسهام، ويتسابقون على صهوات الخيل العراب! فبلغوا بجاداً من الوبر ضُرب لها خاصة على مسافة غلوة من الحي، فأدخلوها فيه وجلس إلى جانبها الزوج، وأُفرغ على رأسهما نثار التمر عملاً بسنة البدو! وبقي أهل الحي نساء ورجالاً في لهو وسمر حتى انفجر الفجر، فودعوهما داعين لهما بالرِّفاء والبنين!
ومضى عامان أجردان نعم فيهما العروسان بما جاوز قدر الأمل؛ من حياة لينة هنيئة وعيش ألمى الظلال، وحب على الأيام يزداد حِدّة وجدّة! ولكن صدق من قال:(وعند صفو الليالي يحدث الكدر)!
فإن كلف الزوج بعرسه وابتغاءه مرضاتها، جعله يبسُط يده كل البسط في الإنفاق عليها، فكان يرد الحواضر وأسواق العرب يبتاع لها الطرائف: من عصب اليمن وريط الشام ومناديل مصر وعطور الهند وزعفران البلقاء مبالغة في ترفيهها وتدليلها، مع نصحها له بالقصد والاعتدال، ونفورها من هذا التَّرف الذي يجرّدها من وسم البادية وشارتها المحبوبة
فلم يرعو الزوج العاشق، وسدر في غُلوائه حتى أتلف ماله، ولم يبق له سبد ولا لبد! فتلقت سعاد هذه الجائحة بالصبر الجميل! وضاعفت من حبها للفتى وحدبها عليه لترّفه عنه حرّ المصاب!
ولكن الأمر لا يعنيها وحدها، فهناك أبوها وهو وإن كان من قوم جُبلوا من طينة العواطف، ووسموا برقة الشعور، وسنُّوا للناس سنن الموت في الحبّ! إلا أنه كان أعرابياً جافي الخليقة غليظ الكبد! لا يفهم من الحياة غير رُغاء الإبل وثُغاء الشاء والَّصرَّ والحلاب، فأنف لابنته خشونة العيش، وتعاظمه أن تلفحها سموم الفاقة في طراءة السن وغضارة الشباب!
فقطع صلتها ببعلها واحتجزها عنده وسعى في خلاصها منه! فرفع الزوج الأمر إلى والي تلك الجهة الأموي المفتون المدل بمكانه من قريش وبمكانه من الخليفة مروان ابن الحكم. وكانت سعاد قد وصفت له في بعض قدماته إلى البادية، فعشقها على السماع - والأذن
كالعين تعشق - فاهتبلها فرصة يتقنص فيها هذا الشادن العذري المريب الذي ما برح يرتعي حبة قلبه! فأكره سعدا على مفارقة زوجه، وضمها إليه - بعد انقضاء عدتها - وفي عينها دمعة جارية، وفي قلبها لوعة ذاكية!
حزب الزوج الأمر، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، ولا عجب فقد أصيب بطعنتين نجلاوين في قلبه وكرامته. ولكن إذا جار الوالي أليست هناك يدٌ أعلى من يده، هي يد الخليفة! ومن فوقها يد الله!
لم يجد الفتى بدّا أن يعتسف الصحراء إلى دمشق، حيث يتربع على دست الخلافة آدم قريش، ووارث حلوم آل حرب، وكسرى العرب وأدهى دهاتها معاوية بن أبي سفيان، ليستعديه على ابن عمه الحاكم المتسلّط!
(البقية في العدد القادم)
علي الجندي
كتاب الأغاني
لأبي الفرج الإسكندراني
رواية الأستاذ عبد اللطيف النشار
صوت
راهنت بالروح على نهروان
…
لو إنني أملك هذا الرهان
هذى هي الخيل التي تشترى
…
لا كوكب الشرق ولا كوكبان
الشعر للأستاذ علي الجارم بك وفيه لحن من نغمة (النشازكار) من صنعة الأستاذ محمود مصطفى
حدثنا الأستاذ محمد شعراوي بك قال: إن (كوكبان) و (نهروان) جوادان من جياد السباق، وإن الجواد الذي أراد الأستاذ الجارم بك أن يثنى عليه هو (كوكبان) ولكنه من أجل الجناس اللفظي بين كلمة (راهنت) وبين كلمة نهروان قد أبدل اسمي الجوادين فجعل الممدوح هو المذموم والعكس بالعكس
قال الأستاذ شعراوي بك: وأعجب من ذلك أن كوكب الشرق ليس جواداً ولكنه صحيفة كان يصدرها الأستاذ حافظ عوض بك ولكن الجناس اللفظي قد حمل الجارم بك على اعتبارها جواداً، وجواداً من جياد السباق وذلك ليقال كوكب وكوكبان
وانتهى شعراوي بك من حديثه إلى أنه لن يراهن على بيت واحد من الشعر ما دام الشعراء يبدلون الحقائق من أجل تلك الكلمة المدرسية العتيقة: (بين وجوه البلاغة فيما تحته خط)
وحدثنا الأستاذ عبد الغني جبرة قال إن في خيول السباق جواداً اسمه شكسبير وأنه عرض على شعراوي بك بثمن مناسب ولكنه رفض شراءه لأنه باسم شاعر. قال وقد تحامل شعراوي بك على الجارم بك تحاملاً شديداً لأن الجواد كوكبان من خيول شعراوي بك وقد كان يود أن يكون هو الممدوح لا الجواد نهروان
قال أبو الفرج: وهذا القول جائز ولكن كيف استحالت جريدة كوكب الشرق إلى جواد من جياد الرهان؟
حدثنا الأستاذ أحمد أمين قال: وهذا الباب من أبواب الشعر أثر من آثار الجناية التي جناها
الأدب الجاهلي على أدب العصر الحاضر. فقد كان الجواد عند العربي بمثابة الأسطول والطيارة في العصور الحاضرة. فإذا وجد الآن شاعر في إنكلترا يباهي بالأسطول ويصفه ويتغنى بمحاسنه فلا غضاضة عليه في ذلك؛ وإذا وجد شاعر في مصر يتغنى بالدبابات الجديدة والطيارات ذات الأزيز المثير للدوافع الوطنية فهو شاعر حقاً، كما كان العربي شاعراً في وصفه الجواد وحبه إياه وقد شاركه في أخطار الموت ودخل وإياه الدول المفتوحة وجرح وإياه في الميدان، ولكن ما بال الشاعر المصري العصري يركب السيارة ويأنف من ركوب الجواد ثم يتغنى بذكر الخيل؟ وما له يذكر الرهان والسباق وهو لم يعالجهما قط، وإنما يجعل منهما وسيلة لذكر الخيل لأن العرب كانوا يذكرونها - أليس هذا مما جناه الأدب الجاهلي على أدب العصر الحاضر؟
حدثنا الأستاذ أحمد الشايب قال: لما سمعت رأي الأستاذ أحمد أمين في السيارة والجواد نظمت قصيدة أتغنى فيها بعربة (ناش) التي اشتريتها حديثاً وأنكرت ما كنت أنظمه عن الخيول التي لم أركبها قط. ومن قولي في تلك القصيدة:
صوت
ألثمانون سرعة (الفُردِ) فاذرع
…
بي عرض البلاد يا ناش وثبا
أطلقت قيدها الفرامل وانسا
…
ب بي (الناش) ينهب الأرض نهبا
حدثنا الدكتور زكي مبارك قال: ما رأى الناس قط تعسفاً مثل هذا. فالخيل ما تزال من عدة الحروب. وما أنكر على شاعر أن يصف ما يراه من المخترعات الحديثة، ولكن كيف جاز للمؤمنين أن يحرموا على أنفسهم ما أحله الله لهم؟ وكيف يزعم الزاعمون أن الخيل قد زالت محبتها فيجب أن يزول التغني بها؟ إن ميادين السباق في الحواضر تستنفد من الثروة ما يكفي لبناء أسطول. هذا في الحواضر وما يزال في الريف من يباهون باقتناء الخيول ويعدونها من علائم الأصالة والنبالة. وقد كان عندي جواد في سنتريس اعتدت ركوبه كلما طفت بمنازل الصبايا. وبارك الله في صبايا سنتريس! لقد أنكرت الوجاهة منذ كففت عن ركوب الجياد واستبدلت بها الطيارة والسيارة. ثم ما لهذا كله وما لأبيات الجارم بك؟ إن تربية الخيل ضرب من الفروسية التي يجب الاحتفاظ بها في كل مكان وكل زمان، وهي تقليد من تقاليد الخلفاء. وقد قال الوليد بن يزيد:
تمسك أبا قيس بفضل عنانها
…
فليس عليك إن رمتك أمان
فهل قرأ هؤلاء أدب الأمويين؟
قال الدكتور زكي مبارك: ولهذا البيت قصة ظريفة فقد أشفق أمير المؤمنين الوليد بن يزيد على (الجوكي) من ركوب الفاره من الجياد فأمر بتدريب طائفة من القرود وكون منها فرقة من (الجوكية) كما أمر بصيد عدد كبير من حمر الوحش فجعل منها فرقة من (البواني الغشيمة) وأبو قيس هذا الذي يذكره في شعره ليس إلا قرداً من هذه القرود
ليت المدنية التي يتغنون بها تبلغ من الرفاهية ما بلغته في العصر الأموي الذي لم يقرءوا شيئاً عنه
لم تحب الحياة زهدَ عليّ
…
فجفته إلى بني مروان
ثم ضحك الدكتور زكي مبارك وقال: وسيأتي اليوم القريب الذي يعود شعراؤنا فيه إلى التغني بالخيول ولو غضب الأستاذ أحمد أمين وأنشد:
يقول بشعب بوان حصاني
…
أعن هذا يسار إلى الطعان
أبوكم آدم سن المعاصي
…
وعلمكم مفارقة الجنان
هكذا قال حصان أبي الطيب فليسمعنا الأستاذ أحمد الشايب ما قالته سيارته ولو أنها من طراز (ناش)
حدثنا الأستاذ عبد الغني جبرة قال: دخلت ميدان السباق فرأيت بين المشاهدين الدكتور زكي مبارك، ورأيت طائفة عظيمة من الوجهاء والأعيان وكلهم معقود النظر بالخيل التي تجري دون أن ينظر بعضهم إلى بعض. وسمعت الدكتور زكي مبارك ينشد في هذا المعنى أبياتاً لم يعلق بذهني منها غير هذا البيت في وصف ميدان السباق.
ويكون أغنانا وأعلمنا
…
فيه وملء عيوننا البهم
عود إلى أبيات الجارم بك
حدثنا الأستاذ محمود مصطفى قال: إنني وإن حملت على الجارم بك في شرحه لكتاب البخلاء فما أنكر فضله في الشعر فقد جدد به مفاخر العرب وتغنى بآثارهم وبعث أمجادهم، وصان لغتهم. ومن أروع المفاخر العربية عندي العناية بالخيل فما تعني بها الأمم المحاربة، ومهما استحدث من أدوات الدفاع فسيلجأ المحاربون في النهاية إلى إيثار الخيل
بالعناية. وأنشد بيت أبي الطيب:
وما الخيل إلا كالصديق قليلة
…
وإن كثرت في عين من لا يجرب
وحدثنا الشاعر جبريل دننزيو قال: حدثنا السنيور موسوليني قال: ليس في نيتي أن أثير الحرب؛ ولكنها إن ثارت فسيكون المسئول عنها هو جوادي، فإن رؤية الخيل تحفز إلى الرغبة في القتال وأنشد:
صوت
وأقبل بالتصهال مهري يقول لي
…
أأبقى كذا لا في اطراد ولا طرد
علام انتظاري أنجم النحس والسعد
…
وحتام صمتي لا أعيد ولا أبدي
الشعر لجبريل دننزيو وفيه لحن يضرب على نغمة المترليوز من صنعة الشاعر نفسه
(يتبع)
عبد اللطيف النشار
التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له
مكانه بين قواد حركتنا القومية؟
للأستاذ محمود الخفيف
ولندع الآن ما ليت يسعى سعيه الأثيم، ولندع كذلك الخديو في حيرته وارتباكه؛ ولنعد إلى أوربا لننظر ماذا آل إليه موقف الدولتين من المسألة المصرية.
وجدير بنا ألا ننسى ما أسلفنا الإشارة إليه أكثر من مرة، ألا وهو موقف الدولتين إحداهما من الأخرى، موقف المراوغة والمداراة، ذلك الذي كان طرفاه أول الأمر غمبتا وجرانفل.
ولقد تغير هذا الموقف تغيراً أساسياً من جهة فرنسا حينما حل دي فرسنيه في الحكم محل غمبتا؛ وذلك أن هذا الرجل قد انتهج في المسألة المصرية نهجاً جديداً ما لبث أن بينه لإنجلترة حين ولي الحكم.
وقد ألقيت إلى المسيو فرسنيه مقاليد الأحكام كما ذكرنا قبل أن يخلف البارودي شريفاً في مصر بنحو خمسة أيام. فكتب إلى الحكومة الإنجليزية أنه لا يميل إلى أي تدخل عسكري في مصر سواء أكان هذا التدخل من جانب إنجلترا وفرنسا مجتمعتين، أم من جانب كل منهما على حدة؛ وأنه كذلك يرفض كل الرفض أن يقر أي تدخل من جانب الباب العالي. . .
ولعل جرانفل قد رأى في سياسة فرسنيه ما يسهل عليه الوصول إلى غرضه مع ما قد يبدو لأول وهلة من أنها تؤدي إلى عكس ذلك؛ وذلك لأنه يستطيع الآن أن يلزم دي فرسنيه بسياسته بينما يتلمس هو الأسباب لتتدخل حكومته بمفردها، ولن يعدم أن يجد من الحوادث تافهة كانت أم كبيرة ما يتخذ منه مبرراً لتدخله. ولئن لم تواته الحوادث فما أيسر أن يخلقها خلقاً أعوانه في مصر، حتى إذا سنحت الفرصة أفلت من فرنسا وانقض على الفريسة وحده؛ وإذا بدا لتركيا أن تتدخل في تلك الأثناء فلتستتر إنجلترا خلف فرنسا لأنها هي التي تعلن أنها تمانع في تدخل الباب العالي. وإن إنجلترا لتمانع في الواقع أكثر مما تمانع فرنسا
حتى لا تعود مصر إلى حوزة صاحبها الشرعي، فيضيع على إنجلترا كل آمالها، ولكنها تلقي ذلك على عاتق فرنسا فتزداد نياتها خفاء وتزداد في نفس الوقت قرباً من غايتها. . .
وكان غمبتا يشير كما بينا بالالتجاء إلى القوة أبداً ضد الوطنيين في مصر، ومن هنا جاءت المذكرة المشتركة؛ وكان من اقتراحاته أن تقوم الدولتان معاً بالتدخل العسكري في مصر؛ ولكن جرانفل لم يشايعه في هذا الاقتراح مبيناً له ما ينطوي عليه تنفيذه من أخطار، ولقد جاء كلام جرانفل هذا إلى غمبتا في رسالة وصلته قبل سقوط وزارته بيوم واحد. وجاء في خاتمة هذه الرسالة قوله:(إن حكومة جلالة الملكة توافق على أن للدولتين مركزاً خاصاً في مصر وذلك بناء على الظروف القائمة والاتفاقات الدولية؛ وإنها كذلك تعتقد أنه قد تنجم بعض المتاعب من دعوة عدة دول في مسألة حكومية ولكن حكومة جلالة الملكة تكل إلى الحكومة الفرنسية أن تنظر ما إذا لم يكن الأمر في حاجة إلى الاتصال بالدول الأخرى كخير وسيلة لتناول حالة من الحالات يظهر أنها ذات مساس بالفرمانات السلطانية وعلاقات مصر الدولية). . .
ولم يكن جرانفل بالضرورة متعففاً عن التدخل العسكري في مصر، وإنما كان يود التخلص من مشاركة فرنسا لإنجلترا في هذا، وقد كانت السياسة الإنجليزية تدور منذ حملة بونابرت على مقاومة نفوذ فرنسا في وادي النيل. ثم الاستيلاء عليها متى أمكن ذلك دون مراعاة شيء في سبيل الوصول إلى هذا الغرض
واستفهم المسيو فرسنيه الحكومة الإنجليزية ماذا أرادته لذلك الاحتياط الذي أبلغته المسيو غمبتا بعد موافقتها على المذكرة المشتركة، فكان الجواب أن الحكومة البريطانية تحتفظ لنفسها بتعيين نوع العمل إذا لم يكن من العمل بد وفي تقرير وجوب العمل أو عدم وجوبه على وجه العموم
ثم أراد جرنفل أن يخفف من وقع هذا الكلام في نفس فرسنيه فذكر أنه ليس في مصر ما يدعو إلى القلق فإن الوزارة الجديدة تجهز برغبتها في المحافظة على تعهدات مصر الدولية؛ وإذا وقع ما يقتضي التدخل فإن الحكومة الإنجليزية تجعل أساس ذلك تضامن أوربا مع وجوب اشتراك السلطان في كل خطوة وفي مفاوضة يؤدي إليها هذا التدخل
وفي تلك الأثناء كان كلفن ومالت يحكمان دسائسهما في البلاد ويباعدان بين الخديو
ووزرائه، لا يتوانيان عن خلق (الضرورة) التي تقضي بالعمل
وكانت الحكومة الإنجليزية التي تقف من فرنسا ذلك الموقف الذي أشرنا إليه تفكر في ذلك الوقت في إعداد حملة على مصر، ففي الخامس عشر من شهر مارس أي بعد استلام البارودي أزمة الحكم بأربعين يوماً زار مستر بلنت السير جارنيت ولسلي الذي سوف يكون قائد الحملة على مصر عما قريب، فدار بينهما الكلام على هذا المشروع. يقول مستر بلنت: (فبعد أن تكلمنا عن قبرص انتقلنا إلى موضوع مصر وإمكان مقاومة الوطنيين في حالة التدخل، وسألني رأيي في ذلك فقلت له: إنهم بالطبع سيقاتلون والقتال لن يقتصر على الجنود لأن الأمة ستنضم إليهم وربما استعملوا طرقاً أخرى بعد ذلك. وقد أبى أن يصدقني في قولي بأن الجنود ستقاتل، ولكني ثبت على رأيي وقلت له: إنه إذا كلف بأن يذهب لغزو مصر فعليه أن يأخذ معه على أقل تقدير ستين ألف جندي. وقد بالغت بلا شك في هذا التقدير لأني كنت أرمي إلى جعل هذه المهمة شاقة في نظرهم حتى لا تقدم عليها الحكومة إلا بعد تردد ومراجعة. وقد تطوع بإخباري بأنه قد استشير مرتين أو ثلاثاً مدة الشتاء بصدد الغارة على مصر والاحتلال. وقد أكد لي أن ليس هنا من يريد التدخل وأن احتلال مصر سيكون مكروهاً عند الجنود، وأنه هو نفسه يكون آسفاً جداً إذا اضطر إلى الذهاب إلى مصر. ومن رأيه أنه يجب على المصريين أن يسرحوا جيشهم ويثقوا بحماية أوربا. ولكني أخبرته بأنه ليس من المستطاع لي أن أنصح لهم بذلك وأن الأمة التي تنوي القتال بنية صادقة قل أن يهاجمها عدو. فقال لي: إنه ليس هناك شيء يدعى الشرف في الحروب، وإذا كانت المسألة مسألة حرب فلا يجب عليهم أن يثقوا بنا ولا بأي دولة أخرى
ثم أخذ في الكلام عن الطرق الحربية المؤدية إلى القاهرة فذكر بونابرت وطريقه على الشط الأيسر بين فرع النيل وطريق الصحراء بين قناة السويس والدلتا حتى شعر بأنه إذا ذهبت الجيوش فستتخذ هذه الطريق، ولكني احترست من أن أعطيه أي معلومات تفيده أقل فائدة، واكتفيت بالضحك عندما سألني عما إذا كنت أرافقه لأدله على الطريق عندما ترسل الحملة
وبينما كانت الدسائس تدبر لمصر في الداخل والخارج على هذا النحو لم يكن للوزارة المصرية من وسائل الدعاية شيء ما، فكان أعداؤها يتقولون عليها ما شاءوا وما شاءت لهم
أطماعهم حتى لقد صور عرابي زعيم الحركة الوطنية صوراً بلغت أقصى حدود الغرابة، فهو تارة رئيس عصابة من المتمردين الخوارج على القانون والنظام، وهو طوراً داعية إسماعيل اشتراه بالمال ليعمل على إعادته إلى مصر، وهو بالإضافة عند بعض الإنجليز فرنسي أو أسباني في زي مصري، إلى غير ذلك من الأقاويل التي لا ندري أنقابلها بالألم أم بالسخرية
وانطلقت الصحف تذيع في الناس الأكاذيب في غير حياء أو فتور وليس لمصر لسان يدافع عنها إلا لسان مستر بلنت فلقد سافر هذا الرجل الحر ليقابل كل من لهم صلة بالمسألة المصرية ليريهم وجه الحق في هذه القضية وليصحح ما جاز على عقول الساسة من خدع
ولقد قابل مستر بلنت جماعة من النواب ومن رجال المال وما زال يسعى حتى ظفر بمقابلة جرانفل فتحدث إليه بما لديه من المعلومات ودافع عن قضية الأحرار في مصر بكل ما وسعه من وسائل الدفاع. ولكن شد ما كانت دهشته عندما انطلق جرانفل نفسه يخبره أن لديه من المعلومات الأكيدة ما يؤيد أن عرابياً ما هو إلا صنيعة إسماعيل وأن المسألة من أولها إلى آخرها ما هي إلا سلسلة من الدسائس لإرجاع الخديو السابق إلى عرشه!
وعول بلنت بعد ذلك على مقابلة غلادستون وقد كانت شهرته قائمة على أساس ميله إلى الحرية، والأخذ بيد الشرقيين جميعاً لينهضوا من سباتهم، فلما مثل بلنت بين يديه اندفع يتحدث عن الحركة الوطنية في مصر في طلاقة وحماسة، وظل غلادستون صامتاً ينصت إليه كأنه مقبل عليه مؤمن بما يقول مقدره حق قدره يقول مستر بلنت:(ثم سألني عن موقف الجيش والسبب في ظهوره في المسائل الوطنية؛ فإنه توجس من هذا الظهور فأوضحت له تاريخ الحركة وأكدت له أن ما قيل عن تدخل الجنود قد بولغ فيه، وأن تلك الرواية القائلة بأن الجنود كانوا يتوعدون النواب ويرهبونهم من الروايات المختلفة وقلت له إن الاستعدادات الحربية الحاضرة ليس لها من غرض سوى الخوف من الاعتداء والتدخل).
ولكن ماذا كان ينتظره بلنت من جرانفل وغلادستون، ولم تكن المسألة مسألة إقناع وحجة؟ ماذا كان يأمل بلنت ولم تكن المسألة ماذا يجب أن يعمل، وإنما كانت متى ينفذ ما انعقدت النية عليه؟
وإني لأحس من قراءة ما كتبه بلنت عن مقابلته لجرانفل وغلادستون أنهما كانا ينظران إليه نظرتهما إلى غر لا يفهم ما يجب أن يسير عليه الإنجليزي في معاملة الشعوب الشرقية أو إلى ناشئ في السياسة لا يدري أن الكلام شيء والخطط المرسومة شيء آخر. ولقد علق كرومر في كتابه على مساعي مستر بلنت فقال: (ومن هؤلاء الذين عطفوا على القضية نرى أبرزهم هو مستر ولفرد بلنت ولقد عاش مستر بلنت زمناً بين المسلمين وكانت له لذة شديدة في كل شيء يتصل بهم وبدينهم؛ ويظهر أنه كان يعتقد في إمكان إحياء الإسلام على قواعده الأصلية وقد تصادف أن كان في مصر في شتاء عام 1881 - 82؛ فألقى بنفسه بكل ما تبعثه الطبيعة الشاعرية من حماسة في جانب القضية العرابية وأصبح مرشدها وفيلسوفها كما أصبح الصديق لعرابي وأتباعه؛ ورأى مستر بلنت أنه كان يعني بحركة هي إلى حد معين حركة قومية بلا نزاع؛ وفشل في أن يفهم فهماً كافياً تلك الحقيقة وهي أن سيادة الحزب العسكري كان فيها القضاء على العنصر القومي في الحركة! وكان في وقت ما يعمل وسيطاً بين السير ادوارد مالت والقوميين
ولكن هذا الاختيار لم يكن موفقاً؛ لأنه يتبين بأجلى وضوح مما ذكره بلنت في كتابه عن مساعيه أنه فيما عدا بعض المعرفة باللغة العربية لم يكن على شيء من الصفات اللازمة لتحقيق النجاح في مسألة لها ما لهذه المسألة من صعوبة ودقة. ولقد نصح القوميين أن يعنوا بالجيش وإلا غالتهم أوربا، وكان يعني النصيحة بلا ريب ولكنها كانت في غير وقتها كما كانت خبيثة، فلئن كان ثمة من خطر من جهة الغزو الأوربي فإن موطن هذا الخطر كان في انضمام الحزبين الوطني والعسكري أكثر مما كان في انفصالهما؛ ولقد كان من السهل على السياسي المجرب أن يدرك هذا، ولم يكن للمستر بلنت تجربة سياسية ذات قيمة ما وإنما كان رجلاً متحمساً يحلم أحلاماً عن يوتوبيا عربية)
هذا هو ما يراه كرومر في بلنت. وليس عجيباً أن يكون هذا رأي كرومر وهو من أساطين الاستعمار في رجل كمستر بلنت كان بلا ريب من كبار الأحرار؛ وإنما أوردنا رأي كرومر هذا لأنه يكشف عن جانب من أساليب المستعمرين الإنجليز في محاولة طمس الحقائق في سبيل الوصول إلى ما يطمعون فيه من أغراض؛ وهو من ناحية أخرى يشف عما كان يمكن أن يقابل به مسعى رجل مثل مستر بلنت في دوننج ستريت إبان تلك الأزمة التي
نحن بصددها: أزمة مقاومة الوزارة الوطنية في مصر
ولم يكن ينتظر أن يصيب بلنت غير الفشل، وقد رغبت وزارة جلادستون في تعجل الحوادث، لتفلت من فرنسا وتنفرد في وضع يدها على مصر حتى تخلص من الموقف الحرج الذي وضعها فيه مسلك فريسنيه. فإن هذا الوزير قد ذهب في تجنب العدوان على مصر إلى حد أنه كتب إلى قنصل فرنسا في القاهرة يأمره أن (يلتزم خطة التحفظ والحذر، وإن كان ذلك لا يمنعه من أن يحسن صلته بكل حكومة في مصر تحترم الاتفاقات الدولية وتحافظ على النظام).
ولقد زاد فريسنيه على هذا أن استدعى المسيو بلنير العضو الفرنسي في المراقبة لما كان يعلم من مسلكه نحو الحركة الوطنية في مصر، وباستدعاء بلنير خلا الجو لكلفن ومالت فراحا ينفثان سمومهما ويتعجلان الحوادث في غير وناء ولا استحياء. . .
وبعد شهرين من هذا وقع في القاهرة حادث المؤامرة الجركسية؛ وللقارئ أن يصور لنفسه أية فرصة كانت تلك الفرصة التي أتيحت للسياسة الإنجليزية وعلى أي صورة راحا يستغلانها لصالح دولتهما دون أي وازع من ضمير أو قانون أو عرف. ولننظر بعد ذلك ماذا كان من أمرهما وأمر الخديو في هذا الحادث العادي الذي لولا أطماع السياسة وتربص القوي بالضعيف جرياً على سنة تنازع البقاء في هذا الوجود ما كان ليعتبر شيئاً مما أثاره من قلاقل خطيرة، أو ليلد ما ولد من أحداث جسيمة
(يتبع)
الخفيف
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
471 -
المرأة
(الكلم الروحانية): سئل الفيلسوف سيافيدس السكيت عن المرأة فقال: همُّ الرجل، سرّ لا يوصف، سبع معاشر، لبوة في شعارك، أفعى مستورة بالثياب، حربٌ لا سِلمَ معها، راقدة تنبهك، حزن دائم، هلاك السخيف، آلة الفحشاء، غول إنسية، آلة لبقاء الصورة.
472 -
هذا المصير. . .
حضر الفقيه الشاعر ابن أبي الصقر الواسطي عزاء صغير، وهو يرتعش من الكبر. فتغامز عليه الحاضرون: كيف مات الصغير وبقي هذا الشيخ في هذه السن؟ فقال:
إذا دخل الشيخ بين الشباب
…
عزاءً وقد مات طفلٌ صغير
رأيتَ اعتراضاً على الله إذْ
…
توفى الصغير وعاش الكبير
فقل لابن شهر وقل لابن ألف
…
وما بين ذلك: هذا المصيرُ
473 -
أطعمة الكسكسون
نفح الطيب: قال القاضي محمد القرشي المقري: حكى لي القاسم ابن محمد اليمني مدرس دمشق ومفتيها أنه قال له شيخ صالح برباط الخليل عليه السلام: نزل بي مغربي فمرض حتى طال على أمره فدعوت الله أن يفرّج عني وعنه بموت أو صحة. . . فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: أطعمه الكسكسون - قال يقوله هكذا بالنون - فصنعتُه له فكأنما جعلتُ له فيه الشفاء. وكان أبو القاسم يقول فيه كذلك، ويخالف الناس في حذف النون من هذا الاسم، ويقول: لا أعدل عن لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهُ هذا من الطبّ أن هذا الطعام مما يعتاده المغاربة ويشتهونه على كثرة استعمالهم له، فربما نبه منه شهوة، أو رده إلى عادة.
474 -
بين خالد الكاتب ومليح فطن
- ما آن أن يرحمني قلبك؟!
- لا.
- حتى متى يلعب بي لبك؟!
- إلى آخر الدهر. . .
- لا أعدم الله فؤادي الهوى!
- آمين!
- يوماً ولا جربه قلبك!
- قد تقبل الله ذلك
- إن كان ربي قد قضى بالضنى!
- ماذا يكون؟
- وشدة الحب فما ذنبك؟
- سل نفسك. . .
475 -
صدقك والله أعجب إليّ
(الأغاني): قال الرشيد يوماً لأبي حفص عمر الشطرنجي: يا حبيبي، لقد أحسنت ما شئت في بيتين قلتهما، قلت: ما هما يا سيدي، فمن شرفهما استحسانك لهما، فقال: قولك:
لم ألق ذا شجن يبوح بحبه
…
إلا حسبتكِ ذلك المحبوبا
حذراً عليك وإنني بك واثق
…
ألاّ ينالَ سواي منك نصيبا
فقلت: يا أمير المؤمنين؛ ليسا لي، هما للعباس بن الأحنف، فقال: صدقُك (والله) أعجب إليّ
محمد بن الجهم البرمكي: رأيت أبا حفص الشطرنجي الشاعر فرأيت منه إنساناً يلهيك حضوره عن كل غائب، وتسليك مجالسته عن هجوم المصائب. قربه عُرس، وحديثه أُنس، جده لعب، ولعبه جد. ديّن ماجد، إن لبسته على ظاهره لبست موموقاً لا تمّله، وإن تتبعه لتستبطن خبرته، وقفت على مروءة لا تطور الفواحش بجنباتها، وكان ما علمته أقل ما فيه الشعر
476 -
أفسر آية من القرآن
(مفاتيح الغيب): روى أن عمر بن الحسام كان يقرأ كتاب المجسطي على عمر الأبهري.
فقال بعض الفقهاء يوماً: ما الذي تقرءونه؟ فقال: أُفسِّر آية من القرآن، وهي قوله تعالى:(أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها) فأنا أفسِّر كيفية بنيانها
ولقد صدق الأبهري فيما قال، فإن كل من كان أكثر توغلاً في بحار مخلوقات الله كان أكثر علماً بجلال الله وعظمته.
477 -
النبع يقرع بعضه بعضاً
مجمع الأمثال: هذا المثل: (النبع يقرع بعضه بعضاً) يروي لزياد، قاله في نفسه وفي معاوية؛ وذلك أن زياداً كان على البصرة، وكان المغيرة بن شعبة على الكوفة، فتوفى بها. فخاف زياد أن يولى مكانه عبد الله بن عامر، وكان زياد لذلك كارهاً. فكتب إلى معاوية يخبره بوفاة المغيرة ويشير عليه بتولية الضحاك ابن قيس مكانه، ففطن له معاوية فكتب إليه:(قد فهمت كتابك فليُفرخ روعك أبا المغيرة، لسنا نستعمل ابن عامر على الكوفة وقد ضممناها إليك مع البصرة).
فلما ورد على زياد كتابه قال: (النبع يقرع بعضه بعضا). فذهبت كلمته مثلاً. يضرب للمتكافئين في الدهاء والمكر.
1 - لحن الذكرى
(سمع الشاعر أغنية ألفها منذ عهد فطرب لها وبعثت له كوامن
الذكريات. . .)
للأستاذ صالح علي الحامد العلوي
قَدْكَ يا شادي! ورفقاً يا وتَرْ!
…
لستُ فولاذاً، ولا قلبي حجرْ!
لستُ إلا شاعراً تهفو به
…
نُوَبُ الشوْق وأحلام الذكَر
كلما رَنَّتْ بسمعي نَغْمَةٌ
…
فصمتْ عِقْدَ دموعي فانتثر!
رُبَّ لحنٍ ناطقٍ من وتَرٍ
…
خاطبَ النفس فأشجاها وسر
ومُغَنٍ صانع ما لم يُطِقْ
…
شاعرٌ إن نطق الشعرَ سَحَر
لُغةَ الوجدانِ، إن لم تدْرِها
…
فاسأل القلبَ يُخَبِّرْكَ الخبر!
يالها أُغنيةً، في طيّها
…
للهوى تاريخُ أُنسٍ قد غبر!
رَنَّ في نفسي صَداها مُوقِظاً
…
ذكريات رقَدَتْ بين الفِكَر
يالهُ لحناً، على إيقاعهِ
…
رقَصَ الدمعُ بعيني وطَفَر!
حبذا أيامُ أنسٍ، كم بها
…
من برود اللهو مِسْنا في الحِبَر
فرصٌ جاَءتْ كما شاء الصِّبا
…
هشَّ فيها الحظُّ وافترَّ القدَر
يا ربوع اللهو! هل من عَوْدة؟
…
يا رعى اللهُ زماناً فيكِ مر!
كم جنيْنا فيه أثمار المُنَى!
…
وبلغنا منه غاياتِ الوَطَر!
رجِّعِ الصوت، وبلبل أنفُساً
…
كم بها من لحنك الساري أثر!
مُحْيِياً مني مواتاً، كم طغت
…
مَوْجةُ الحبّ عليه فازدهر
فأراني سابحاً في عالَمٍ
…
رَفَّ في غُرِّ المعاني والصوَر
بانِياً ما بين أنقاضِ المنَى
…
بُرُجاً من دونها أوْجُ القمر!
بُلبل الفنّ! أماناً! قد شَجى
…
صوتك الطير، فرفقاً بالبشر!
رأْفةً بالقلب لا تَعْبَثْ به
…
ولك السمعُ حلالاً والبصر!
2 -
الأوبة
وَكر الصِّبا! كم صَلِينا البيْن أزمانا
…
والآن عُدْتُ فَهوِّنْ ما بكَ الآنا
إني على العهد باق فوق عهدك بي
…
لم أسْل عنك، ولا حاولت سلوانا
لا تَلحَني فكلانا بالبِعادِ شجٍ
…
تُدْلي بشكواكَ أمْ ندلي بشكوانا؟
لم أنسَ فجر الصِّبا في جانبيك ولا
…
عهداً مضى فيك بالأفراح فَينانا
ولا ملاعب لهْوى في حماك ولا
…
مَراحنا جانب الوادي ومغْدانا
إذ ليس نفرغُ من لهوٍ ولا لعبٍ
…
إلا حثثنا إلى لهْوٍ مطايانا
ولا يهلُّ لنا شهرٌ فَنُبِليهُ
…
إلا وزادَ صِبانا الغَضَّ رْيعانا
هنا نشأتُ فكم لاقيتُ مرفهةً
…
وكم رضعتُ هنا بِرّاً وتحْنانا
هنا هفا القلبُ حولَ الحسنِ مُرتمياً
…
مثل الفراشِ حيال النورِ هَيمانا!
هنا رَشفتُ كؤوس الحبِّ طافحةً
…
مَعْ من أحبُّ وعينُ الله ترعانا!
في هالةٍ من شُعاع الطُّهرِ قد جَمعتْ
…
مُنى الهوى والصِّبا اللاهي وإيَّانا
لا ينطقُ الأنسُ إلا من أسرَّتنا
…
ولا يُرى البِشرُ إلا من ثنايانا!
وكلما ضاقَ عنا الكونُ أجمعهُ
…
بَنى الخيالُ لنا في الحبِّ أكوانا!
فالناسُ يحيَوْنَ في دنيا همومهمُ
…
ونحنُ في معزلٍ عنهم بدنيانا!
نعيشُ كالطير وثَّاباً برَوضته
…
يميتُ ساعاتِه حبّاً وألحانا
يلهو ويشدو على الأغصان مُزدَهياً
…
مُرفرفاً في الفضاء الرَّحب نشوانا
. . . سرح قضيتُ بها فجرَ الحياةِ فيا
…
تُرى يعودُ بها عَهدي كما كانا؟
والآن - يا وطني - حالتْ بنا غيرٌ:
…
تجاربٌ قد أرتنا الدهر ألوانا
محا الزمانُ أضاليلَ الصّبا فعفتْ
…
لولا بَقيَّاتُ حبٍ في حنايانا
وفي الحشا ذِكَرٌ أنسَيْتها خَلَدي
…
فلا أُحيلُ بها الأفراح أشجانا
ولستَ تنقمُ إلا أنني رجلٌ
…
أختطُّ من تلعاتِ العزّ أوطانا
ما اعتضْتُ بالأهل والإخوان من بدلٍ
…
وإنْ أضفتُ لهمْ أهلاً وإخوانا
عُدْ للسرورِ نَعُدْ للهو ثانيةً
…
وزِدْ نزِدْ بك في اللذات إمعانا!
(حضرموت - سيوون)
صالح بن علي الحامد العلوي
وداع الحمراء
(من ديوان (رجع الصدى))
للأستاذ حسن كامل الصيرفي
وقف أبو عبد الله آخر ملوك العرب في الأندلس على التلة التي أطلق عليها الأسبان (تلة الدموع) يودع غرناطة وهي تتوارى عن عينيه، وألقى النظرة الأخيرة على قصر الحمراء مغمورة بالدمع محفوفة بالتنهدات، وقد ودع بهذه النظرة الدامعة والحسرة اللاذعة مجد العرب الضائع وفردوسهم المفقود. . . وكأن دموعه تنظم في انحدارها هذه الأبيات:
وَدَاعاً جَنَّتي وقرار قُدْسِي
…
ومظهر عِزَّتي وجلالَ أَمسِي
لقد طَغَت الخطوب عليّ حتى
…
فقدتُك بين ضَعضعتي ويأسي
وأسْلَمني العِثارُ إلى شقاءٍ
…
يقودُ الحظَّ من تعسٍ لتعسِ
وما أنا غيرُ مخلوقٍ توالتْ
…
عليه كواكبُ الدنيا بنحس
تغيبُ عرائس الدنيا أمامي
…
وتغربُ في مواكِبهنَّ شمسي
وتَهْوِي كل آمالي حُطاماً
…
تجرُّ إلى الفناءِ حُطامَ نفسي
وتغرق في دموعي ذِكْرَياتٌ
…
تذوبُ كأنهنّ حَبابُ كأس
وأعتصرُ الفؤادَ عليك حزناً
…
فلا أجِدُ العزاَء ولا التأسي
دَفنْتُ بك العظائمَ خالداتٍ
…
وملت أَخطُّ في الآلام رَمسي
وما أنا غيرُ آدَمَ هامَ يبكي
…
على فِرْدَوْسهِ في دارِ بُؤسْ
لقد باعَ الجِنانَ بغير ذُلٍ
…
وبعت أنا الجنان بخفض رأسي
حسن كامل الصيرفي
دم عجيب
للأستاذ محمد العلائي
هاهنا الجرحُ يا طبيبُ فحاذرْ
…
أن تهيجَ الدفينَ من بُرَحائِه
وامسسْ الجرحَ يا طبيب برفق
…
فدم الجرح ثائر تحت دائِه
صُنْ دمَ الجرح يا طبيب وأَبعدْ
…
عن عيون الجريح لون دمائه
واحتفظ يا طبيب بالدم وأحذر
…
أن يمسّ التُّرابَ بعد غلائه
ضمّد الجرح يا طبيب برفق
…
ضل راميه في سبيل رجائه
رَمْيَةٌ يا طبيبُ من يدِ رامٍ
…
عبد الظلم في دِمَا أبرِيائه
أرسلَ السهمَ يا طبيبُ وسَمّى
…
فأصاب الكَمِىّ في كبريائِه
محمد العلائي
حيرة
للأستاذ فريد عين شوكة
سأهجرُهُ وأنساهُ
…
ولا أهفو لذكراهُ
حبيبٌ، كلما أفضى
…
له قلبي بنجواهُ
وضجّ إليه بالشكوى
…
من الحبّ وبلواهُ
تبسّمَ ضاحكاً! وغفا
…
عن الشاكي وشكواه!!
سأهجرُهُ! وهل أقوَى
…
على الهجر وطغواهُ؟!
وهل يرتاح لي قلبٌ
…
سَقَتْهُ السحرَ عيناهُ!
وهل ترتاح لي عينٌ
…
يُنَوِّرها مُحَيّاهُ!!
وكيف أُطيق أن تنْبَتَّ (م)
…
عن دُنيايَ دُنياهُ!
ويلقاني فأنكرُهُ!!
…
ويحرمني تحاياهُ!!
كأنْ ليستْ لنا كالنا
…
سِ آذانٌ وأفواهُ
أخافُ عليكَ يا قلبي
…
حنينكَ حين تلقاهُ
أخاف عليك أن تسعى
…
إليه قبل مسعاهُ!
لكَمْ أقسمتَ: لن تغدو
…
أسيراً من أُساراهُ
وكم جافَيْتَهُ لمَّا
…
جَفَاكَ، وكدْتَ تنساه
فلما جاء مُعتذراً
…
غفرْتَ! وسامحَ اللهُ
فريد عين شوكة
طفل
(من ديوان (إشراقة) تحت الطبع)
للشاعر السوداني المرحوم التيجاني يوسف بشير
تبارك الذي خلقْ
…
من مضغة ومن علقْ
سبحانه مصوّراً
…
من حمأة الطين حدق!
شق الجفون السود واس
…
تل من الليل الفلق
واستخرج الإنسان من
…
محض رياء وملق
مفترعاً من فمه
…
سر البيان فنطق
وجاعلاً بين حنايا
…
هـ فؤاداً فخفق
بث القوي فيه دماً
…
أحمر أو عظماً يثق
من عدم لعدم
…
ومن عناء لرهق
ضج الثرى من رجم
…
مشيد ومن نفق
سبحانه كم ألهم العقل
…
جنوناً وحمق
يشك ما يحيا وإن
…
أشفى على الموت فرق
وكم تعالى حميت
…
عنه قلوب من خلق
سبحانه قد وضحت
…
آثاره فينا ودق!
رمى بهذا الطفل في الأر
…
ض ومن ثم رزق
رمى به في موكب الدن
…
يا مثالاً للقلق
يدير عينيه ويستف
…
سر عن سر الشفق
كأنه يصرخ: إن المو
…
ت بالشمس علق!
التيجاني يوسف بشير
رسالة الفن
دراسات في الفن:
الفن علامة الإنسانية
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
قال جاجاديز بوز العالم الهندي إن النبات يتألم ويئن وأثبت ذلك. وأغلب الظن أن جاجاديز بوز لو لم يكن شرقياً لكثر عليه أن ينسب الألم والتعبير عنه بالأنين إلى النبات، ولاكتفى بقوله إنه تبدو فيه اهتزازات واضطرابات تشبه انفعالات الألم عند الإنسان. فهذا هو نهج الغربيين من العلماء الذين يتصدون لدراسة الحياة: يؤثرون أن ينكروها أولاً ثم أن يبحثوا عنها ثانياً على خلاف ما يفعل الشرقيون الذين يشعرون بها أولاً ثم يتعرفونها ثانياً بادئين بأنفسهم غير منتهين إلى شيء، لأنهم يؤمنون بالروح ويحبون بطبعهم أن ينسبوها إلى الأحياء جميعاً ولا يسمحون لأنفسهم أن يقولوا ما قاله بعض علماء الغرب من أن الحيوان نفسه مسلوب الروح وأن كل ما يبدو عليه من إمارات الوجدان والعاطفة ليس إلا ردود أفعال لاهتزازات عصبية مادية تعتري الحيوان في ظروف خاصة وتبعاً لمؤثرات خاصة. وهم يذهبون في نكرانهم هذا إلى ابعد الحدود حتى لينكرون هذا الفرح الذي يعتري الكلب في استقبال صاحبه الغائب، وهذا الحزن الذي يعتريه لوفاة صاحبه الوفي والذي يحمله على الإضراب عن الطعام والشراب حتى يموت موتاً. ينكرون العاطفة الروحية على الحيوان ويقولون إنه لا يفرح للقاء صاحبه وإنما هو يضطرب لأن مرأى صاحبه يثير في نفسه أو في أعصابه صور الطعام والنعم التي يغدقها عليه، ثم يقفون أمام الكلب المنتحر من الحزن والأسى، وقد طأطئوا رؤوسهم يفكرون في هذه القوة التي نقَّت الحيوان من أخص خصائص حيوانيته فأهمل الطعام والشراب والحياة نفسها. . . يخفضون الرؤوس أمام هذا الكلب طويلاً يبحثون في أذهانهم عن علة صيامه؛ فإذا قال لهم قائل إن الحزن والأسى هما السبب انتفضوا وقالوا: لا. نحن لا نعرف. ولكننا نأبى أن يكون في الحيوان روح وحياة. أما بقية الناس فمنهم من لا يرون في فرح الكلب وحزنه إلا اضطرابات واهتزازات وانفعالات وردود أفعال عصبية مادية لا روح فيها ولا حياة، وهؤلاء يقبلون
أن يصدقوا هؤلاء العلماء لأنهم مثلهم، وأن يثبتوا معهم أمام الكلب ينكرون عليه فرحه وحزنه إلى أن يقول لهم بلغة من اللغات الأوربية: إني فرح وإني حزين. ومن الناس من يحسون ويشعرون ويبادلون الحياة الشهقات والزفرات وأولئك آمنوا من هدى أنفسهم أن في الحيوان روحاً وحياة، وهم يسارعون إلى جاجاديز بوز يصدقونه حين يقول: إن النبات يتألم وينفعل بوجدان، ويئن وينطلق بتعبير. ويخرجون من هذا بأن الحيوان أولى من النبات به.
ورضي الله عن جاجاديز بوز الذي استطاع أن يثبت رأيه إثباتاً علمياً استخدم فيه آلات المعامل وأحماضها وأملاحها فلم يعد هناك مجال لإنكار ما أثبت، بل لقد عد صنيعه هذا من كرامات البشرية الحديثة فمنحه الغرب جائزة نوبل التي يتعزز بها على الشرقيين
أثبت الشرق إذن أن النبات يتألم وأنه يئن من الألم، وقد يكون الألم علامة الروح الوحيدة في النبات وقد يكون معه غيرها ولكنه على أي حال يكفي للتدليل على الروح، فهو يستطيع أن يشملها وهو الذي ينزع بها إلى الخلاص! وهو - أخيراً - حسبنا من علامات الروح في النبات
فإذا ارتفعنا من النبات إلى الحيوان في سلسلة التطور والارتقاء الحيويين رأينا الحيوان يمتاز على النبات في الظاهر بالحركة. ورأينا الحيوان في حركته واحداً من أثنين: إما خسيسا يتحرك في حياته حركات متشابهة متكررة لا تعديل فيها ولا تجديد ولا محاولة تدل على قدرة التلاؤم مع الحياة. وإما رفيعا يتحرك في حياته حركات مختلفة يطرأ عليها التعديل كلما تغيرت الأحوال، ويطرأ عليها التجديد كلما استدعت الظروف التجديد، وتتحور ويتزايد وضوح المحاولة التي تدل بها على قدرة التلاؤم مع الحياة
أما خسيس الحيوان فقد يسهل تصوره محروماً من العقل إذا اعتبرنا أن العقل هو القوة التي تمكن الكائن الحي من الملاءمة بين نفسه وبين ظروف الحياة الطارئة المتجددة. ولكن هذا إذا سهل علينا تصوره، فإنه يتعذر علينا (بعد الذي أثبته جاجاديز بوز) أن نتصوره خالياً من القوة الروحية التي يثور بها في نفسه وجدان الألم على الأقل. فإذا كنا ممن يؤمنون بالتطور والارتقاء الروحيين إلى جانب التطور والارتقاء البدنيين، فإننا من غير شك نتوقع أن يكون في أدنى الحيوان من علامات الروح شيء إلى جانب الألم، لأنه قد
ثبت أن النبات يتألم، والحيوان مهما كان دنيئاً فهو من أرقى حياة وروحاً من النبات، إذ أنه كلما ارتقى الكائن الحي ارتقت روحه وزاد إحساسها وزادت قدرتها على التعبير عن نفسها
أما الرفيع من الحيوان الذي تتضح مقدرته على التلاؤم مع ظروف الحياة الطارئة المتجددة، فهذا يصعب تصوره محروماً من العقل لأن فيه من مظاهر العقل.
صحيح أننا نرى في سلوك الحيوان ما يدل على الغباء أحياناً وما يدل على الغفلة وما يدل على الجهل، ولكننا إذا تدبرنا هذه المواقف التي يظهر فيها غباء الحيوان وغفلته وجهله رأينا أكثرها مما تصطنعه ظروف غير طبيعية في الحياة. ولما كان الحيوان حيواناً وليس أستاذاً من أساتذة العلم الحديث فإنه المسكين يحار ويختبل أمام هذه الظروف الطارئة التي لم يسبق لأجداده الوقوع في مثلها وتجربتها ومعالجتها سبقاً متكرراً كان يمكن أن يهيئه للتغلب عليها، وهو في هذا لا يزال يشبه أساتذة العلم الحديث حينما يقعون أمام المشكلات الحديثة المستغلقة. . . أليسوا هم أنفسهم يحارون ويختبلون؟ ألا يصدر عنهم من الأعمال ما يدل على الغباء والغفلة والجهل كما تصدر عن الحيوان أعمال تدل على هذى؟ إنهم هكذا من غير شك وإن في الحيوان عقلاً ولو تضاءل أمام عقل الإنسان وتواضع فإنه موجود لا يمكن إنكاره
فإذا اعترفنا للحيوان الراقي بوجود العقل، أو بوادر العقل فيه، فإننا لا نملك إذن إلا أن نعترف له إلى جانب هذا بوجود الإحساس والعواطف فيه أيضاً، وقد نستغني عند هذا الحيوان الراقي عن براهين جاجاديزبوز إذا كنا ممن يرون ويشعرون ويحسون ويدركون الأشياء من غير أجهزة ومقاييس وموازين فإذا لم نكن من هؤلاء فقد قال جاجاديزبوز العالم من الهند إن النبات يتألم ويئن، وأثبت هذا إثباتاً يقنع عقل الغرب كما يرضي عقل الشرق، وأصبح من المكابرة بعد هذا أن تنكر الأحاسيس والعواطف على الحيوان، خصوصاً الحيوان الراقي الذي يسلك في حياته سلوكاً يشبه سلوك الإنسان فيبحث عن طعامه بحثاً منطقياً، ويتقي عدوه اتقاء منطقياً، ويبني مسكنه بهندسة منظمة بل إنه يمكر أحياناً، ويتخابث ويحتال، مما يدل دلالة قاطعة على أنه حي يقظ يحاول أن يلائم بين نفسه وبين ظروف الحياة الطارئة فينجح أحياناً، ويفشل أحياناً، ولكنه لا يكف عن المحاولة ما دام حياً
فإذا تركنا حياة النبات والحيوان وقد تراءت لنا الروح فيها وعرجنا على حياة الإنسان
رأيناها أنضج من حياتيهما في نواحيها الثلاث: النبات يحس ويعبر عن إحساسه، والحيوان يحس ويعقل ويعبر عن إحساسه وعقله، والإنسان يحس ويعقل ويعبر عن إحساسه وعقله
فهل يزيد الإنسان على الحيوان في شيء. . .؟
لا جاجاديزبوز ولا حتى أنا نرضى بهذا! ولا يرضى به شرقي
قد كان من الممكن أن يقال هذا لو لم نقل إن الإنسان حلقة جديدة هي أرقى الحلقات في سلسلة التطور والارتقاء في الخلائق. وما دمنا قد قلنا هذا، وما دمنا رأينا التطور والارتقاء الماديين يلزمهما تطور وارتقاء روحيان، فلا بد أن يكون في الإنسان ميزة روحية ترقى به على الحيوان إلى جانب رقيه البدني المادي.
فما هي هذه الميزة الروحية؟
لنعد مرة أخرى إلى النبات والحيوان نتتبع فيهما منطق التطور والارتقاء لنهتدي به فيما نريد أن نعرفه من علامة الإنسانية التي لو فقدها الإنسان لم يكون غير حيوان، وإن نطق! فليس النطق على أشرف صورتيه إلا محاولة عقلية. . . أما الصورة الأخرى فهي التي نعرفها من الببغاء التي أنطقها الله لأمر ما، والتي لعله سبحانه أراد حين أنطقها أن يدرك المبتصرون شيئاً من تشابه الخلائق، وبريقاً من التوحد يسطع منها جميعاً، وإن تفاعلت وتبدلت وتطورت وارتقت. . .
النبات يرتقي حتى ليشابه الحيوان في حلقة الإسفنج، والحيوان يرتقي حتى ليشابه الإنسان في القرد أو ما هو أرقى خلقاً من القرد وهو الحلقة المفقودة التي ذكرها العلماء. وقد رأينا الإحساس يبدأ في الحياة أولاً ومعه تعبير صامت عنه، ثم نرى العقل ينشأ في الحيوانات المحتالة ومعه تعبير غامض عنه لم يثبت بعد للعلم، ولكننا قبل أن نترك حلقة الحيوان إلى حلقة الإنسان نرى الحيوان يعبر عن إحساسه تعبيراً فيه تدليل على ذاته، وهو أشبه التعبير بالغناء البشري. فإذا تركنا حلقة الحيوان ومضينا إلى ما بعدها في سلسلة التطور والارتقاء وهي حلقة الإنسان رأينا هذا التعبير الذي يحاوله الحيوان في انحصار يتضح عند الإنسان وينفرج حتى ليسخر له الإنسان الأرقى حواسه جميعاً يجمع أصوله بها ويطلقه فيها، ثم يصدره معبراً عن ذاته كما يفعل البلبل والكروان ولكن في صور أكثر من صورهما، ثم معبراً بعد ذلك عن غيره، وهو مالا يفعله أحد من الحيوان، لا البلبل ولا الكروان.
ونحن إذا حاولنا أن نجد شيئاً ظاهراً يميز الإنسان مما عداه من المخلوقات في هذه الظاهرة لم نجد شيئاً. ذلك أنه إذا حسبنا النطق يميز الإنسان فالببغاء ناطقة، وإذا حسبنا الحياة الاجتماعية تميز الإنسان فالذئب والقرد والوعل حيوانات اجتماعية، وإذا حسبنا الإحساس يميز الإنسان فقد رأينا الحيوان بل والنبات يحسان، وإذا حسبنا العقل فالحيوان يعقل وإن أنكر العلماء، وهكذا فإننا نعجز في التفريق بين الحيوان والإنسان إلا باثنتين! هذه الظاهرة التي سجلناها، وظاهرة أخرى هي الدين. . . على انه يمكن بسهولة تامة أن نتصور النبات والحيوان والجماد معهما متدينين جميعاً إذا اعتبرنا أن الدين هو الإسلام وهو نهج النظم الطبيعية التي تؤدي إلى السلامة، وإذا لحظنا أن الأديان لم تلزم الإنسان إلا بعد أن انحرف عن نهج النظم الطبيعية التي كان يجب عليه أن ينهجها لتسلم حياته من الأضرار وأمراض البدن والروح، لم يبق أمامنا من شيء يميز الإنسان على سائر الكائنات غير هذه الظاهرة التي ذكرناها
فما هي هذه الظاهرة؟
إنها الفن!
وهذه الظاهرة تسلك حين تسري في الإنسانية مسلك كل ظاهرة من ظواهر التطور والارتقاء. وقد رأينا ظواهر التطور والارتقاء تبدأ في الدنيء من الخلائق على صورة يسيرة غامضة، ثم تزدهر وتتضح وتتضح حتى تتميز تميزاً تاماً واضحاً ملموساً فيكون هذا التميز طابعاً لهذا الفريق من الخلائق ويكون هذا الفريق أنضجها وأرقاها في هذه الناحية
وكذلك الفن. نواته موجودة في البشر جميعاً لأنهم الحلقة الحيوية التي اختصتها الطبيعة به وهيأتها له. والدليل على ذلك أن الناس جميعاً يستجيبون للفن أو هم على الأقل يطربون للموسيقى. وما كانوا يملكون إلا هذا ما دام في الحيوان ما يغني كالكروان والبلبل، وما دام فيه ما يستجيب للصفير (وهو ضرب من الموسيقى) كالثعبان. وليس غناء الكروان والبلبل واستجابة الثعبان وطربه للصفير إلا بشيراً بالفن أو بأنغامه على الأقل بشرت به الحياة الخلائق في الحيوان، وحققته تحقيقاً تاماً في الإنسان؛ غير أن الناس ليسوا سواء في تكوينهم الفني، وليس في هذا عجب لأن الناس ليسوا سواء في شيء من الأشياء، ولأن
طبيعة الحياة أن تتشابه في العموميات، وأن تختلف في التفصيلات ليثبت لذوي الأبصار أن هذه الخلائق لا تصنع في مصنع فيه آلات وفيه قوالب وإنما تخرجها إرادة فنان يأبى أن يتكرر حين يتوحد سبحانه من فنان!
فإذا راق لنا أن نؤمن بهذا وأن نعتبر الفن علامة الإنسانية التي تسمو بها على الحيوانية والتي لا يمكن الإنسان أن يكون إنساناً إلا إذا اتصف بها. . . إذا آمنا بهذا لزم أن يكون أقرب الناس من الفن أنضجهم إنسانية. ولزم أيضاً أن نتوقع لهذه العلامة الإنسانية أن يتزايد وضوحها وتمكنها حتى تشمل البشر جميعاً، وعندئذ تبتدئ بشائر الميزة الجديدة التي يريد الله أن يطبع بها الحلقة المقبلة من حلقات التطور في الخلائق. . ومن يدري أي شيء سيكون هذا الطابع، وأي ميزة ستكون هذه الميزة؟! لعلها ميزة العقل الذي يطالبنا به الله لا عقل العلم الحديث
فإذا كان الأمر كذلك كان ما يسعد الفن هو ما يسعد البشرية، وكانت كل محاولة يراد بها التقليل من شأن الفن محاولة مجرمة تعرقل التطوّر البشري
فهل تنهج الإنسانية في حياتها الحالية نهجاً فنياً يسعدها ويرقى بها؟ أو هي قد انحرفت عن طريق الفن إلى طريق آخر لا يمكن أن يقيد بها مهما كان صالحاً ومهما كان فيه خير لنواح بشرية غير ناحية الحس الروحي؟
إن الإنسانية قد انحرفت إلى هذه الطريق منذ أمنت بالحضارة والعلم اللذين يحتضنان المادة
وإنه من الخير لها أن تفيق وأن تعود إلى حياة الحس الروحي فينتعش فيها الفن وتنتعش فيها الروح وترقى، وهذه سنة الله لو أردنا أن نتبع سنته
عزيز أحمد فهمي
كتاب الدين والعقل
أو برهان القرآن
تأليف الأستاذ أحمد حافظ هداية
هو في استنباط براهين عقائد الإسلام من القرآن الكريم على وجه الحصر والاستيعاب مثبتة بأحدث النظريات العلمية. يحتوي على مقدمة وسبعة أجزاء هي: (البرهان القاطع في وجود الصانع)، (الرسالة وبعثه الأنبياء عليهم السلام، (البعث والميعاد)، (محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، (القرآن كلام الله)، (إن الدين عند الله الإسلام)، (ميزان الأديان). وهو في أربعمائة فصل مصدرة بدلائلها في القرآن على أسلوب جديد لعلم الكلام وقد اطلع عليه كثير من كبار العلماء فشهدوا بأنه وحيد في بابه لم ينسج على منواله كتاب من قبل
وحسبنا أن نقطتف منها هذه الكلمات:
(. . . قرأت المؤلف النفيس المسمى (الدين والعقل أو برهان القرآن) فألفيته مؤلفا نفيسا نافعا وأسأل الله أن ينفع به الخلق أجمعين)
الأحمدي الظواهري شيخ الأزهر السابق
(. . . كتاب جمع بين المعقول والمنقول وألم بطريقة المتقدمين والمتأخرين فما أجدره بان يسمى (الدين والعقل) فقد أبان أنهما متآخيان، ولسعادة الدارين داعيان)
يوسف الدجوي عضو جماعة كبار العلماء
(. . . وجدته من خير ما يخرجه عالم في هذا العصر في أسلوبه وموضوعه وبحوثه)
محمد زاهد الكوثري
وكيل المشيخة الإسلامية بدار الخلافة سابقاً
(. . . يفتتح الجزء بأدلة من القرآن العظيم ثم يفيض في الموضوع الذي هو بصدده مستدلاً بأقوال أساطين العلم من المسلمين والأوربيين مطبقاً آيات القرآن على أحدث نظريات العلوم. وبذلك قد سد هذا الكتاب النفيس فراغا في الناحية العلمية الدينية كان يجب
أن يسد قبل اليوم بقرون)
عبد الوهاب النجار
(. . . وجدتك في هذا الكتاب تنحو نحو آيات القرآن في إثبات العقائد الدينية وتعول في بحثك على ما ظهر من الكشف العلمي الطبيعي والروحي في الآفاق والأنفس وهي الطريقة المثلى التي يجب على الباحثين اتباعها في زماننا هذا وما بعده)
طنطاوي جوهري
(. . . جاء هذا التأليف جامعاً للأدلة العقلية على صحة الشريعة المحمدية جمعا وفق فيه المؤلف إلى الغاية، وعزز كل دليل بآية)
شكيب أرسلان
جلى فيه سمو الأصول الإسلامية وتعاليم الكتاب الكريم ودلل على أنها الغاية التي ليس وراءها مطمح فكان فيما كتب موفقاً كل التوفيق
محمد فريد وجدي
والكتاب في ثلاثة مجلدات يطبع الآن بمطبعة الرسالة أحسن طبع وعلى أجود ورق. وقيمة الاشتراك في المجلد الواحد قبل الطبع 10 قروش صاغ وفي المجلدات الثلاثة 25 قرشا. ويكون الثمن بعد الطبع 15 قرشا عن المجلد و45 قرشا عن الكتاب كله. والاشتراكات ترسل باسم مجلة الرسالة بشارع المبدولي رقم 34 - عابدين القاهرة
رسالة العلم
عمل أفوجادرو ونجاح ماندلييف
للدكتور محمد محمود غالي
بساطة النسب الثابتة في التراكيب الذرية - كشف (جاي ليساك) - عدد (أفوجادرو) - معلومات عددية عن الذرة - دورية (ماندلييف) - عمل ماندلييف في الكشف عن العناصر يشبه عمل: (ليفيرييه)(وكلايد تومباوج) في الكشف عن الكواكب الجديدة.
كان لا بد لنا ونحن نذكر قصة العلوم والطَّفرة التي حدثت في العالم في المائة والخمسين سنة الأخيرة، تلك الطفرة التي لا يمكن أن يتكهن أحد بمدى ما تبلغه من التقدم، أن نورد تلك الخطوة الموفقة للعالم الإنجليزي الكبير (دالتون) صاحب الفرض الذري، ذلك الفرض الذي مهد له العالم الفرنسي (بروست) الذي لاحظ وجود نسب ثابتة بين العناصر عند اتحادها. ومن العدل قبل أن نعطي القارئ صورة مما أفاده العلماء من هذه الحالة الجديدة أن نذكر أن (دالتون) لم يستفد من ملاحظات (بروست) فحسب، بل أيضاً من تجارب فريق من العلماء، تجارب كان لها أثر كبير في تدعيم الفكرة الذرية عنده، ولا مشاحة في أن لتجارب التي لا ندخل في تفاصيلها، أثراً عند (دالتون) للوصول إلى الفكرة الذرية التي كان من المحال بدونها أن نشهد هذا العهد من التقدم العلمي، وأن نلحظ هذه الدعامة الكبرى التي قامت عليها العلوم الكيميائية، فاتخذت في جوهرها وتفاصيلها طريقاً يختلف منذ (دالتون) عن الطريق المموج الذي انتحاه كيميائيو القرون الوسطى.
ومن الفائدة أن نذكر القارئ مرة أخرى بمنشأ الفكرة الذرية التي نشأت عندما أراد العلماء التفريق بين المزج الطبيعي والاتحاد الكيميائي. ففي الأول تمتزج مادتان بأية نسبة نريدها، وفي الثاني تتحد مادتان بنسبة محددة، وقد سبق أن قدمنا أنه للحصول على الماء من الأكسيجين والهيدروجين لا بد من مراعاة نسبة بينهما معينة، فإنه لا يتحد إلا وزن معين من أحدهما مع وزن معين من الآخر. هذه الحوادث وأمثالها أدت بدالتون إلى كشف قانون النسب الثابتة الذي كان الأساس في النظرية الذرية، وفي التعرف على شخصية الذرة.
على أن أهم ما في قانون النسب الثابتة لدالتون هو أن هذه النسب بسيطة وواقعة بين العددين 1 و 4 على أكثر تقدير بمعنى أن العناصر تتحد بنسب بسيطة واقعة بين 1 و 1
إلى 1 و 4. ولا نزاع أنه كان من حسن الحظ إن كان الاتحاد الكيميائي وفق نسب محدودة لا تتجاوز أربعة أضعاف، إذ لو كانت هذه النسب مرتفعة بأن تتحد مادتان بنسبة 1 إلى 200 أو 1 إلى 1000. لاختلاط الأمر على دالتون، ولشق على هذا العالم أن يجد خلال هذا النوع من الأبحاث الفكرة الذرية.
على أن النسب المرتفعة لم تُكشف إلا بعد مدة كبيرة عندما اكتُشفت في المركبات العضوية في زمن كانت الذرية قد تدعمت وأصبحت من الحقائق العلمية المسطورة التي يتناقلها العلماء ويتعمق في تطبيقها الباحثون.
لم يقف التقدم العلمي الخاص بالذرة على اكتشاف (دالتون)(1807). فقد كشف العالمان جاي ليساك - 1805 وإسكندر دي أن هذه النسب البسيطة الموجودة عند اتحاد العناصر بعضها ببعض لا تخص الأوزان فحسب، بل إن ثمة نسباً ثابتة موجودة في الغازات بين أحجامها أيضاً بمعنى أن غازين مختلفين لا يتحدان فقط بنسب ثابتة في الوزن، بل بنسب ثابتة في الحجم - هذا القانون لجاي ليساك صادف حرباً عواناً من جانب العالم دالتون ولكنه أدى إلى كشف حقيقة جديدة إذ قرر أفوجادرو أن في الأحجام المتساوية تحوي الغازات عدداً واحداً من الجزيئات، حقيقة أود أن يتأملها القارئ قليلاً ويتأمل بساطتها وعظمة ما تحمله في طياتها من أعجب ما نعرفه من حقائق الكون
هذا الكشف حدد عدد الذرات المتحدة بعضها مع بعض، إذ عندما ذكرنا أن جرامين من الهيدروجين يتحدان مع 16 جراماً من الأكسيجين ليتكون منهما الماء، أدرك بروست وفينزل وريشتر ودالتون وغيرهم أن ثمة عدداً معيناً من ذرات الهيدروجين اتحدت مع عدد معين من ذرات الأكسجين، ولكن هذه النسبة الثابتة في الأوزان لا تكشف هل اتحدت ذرة واحدة من الأكسيجين مع ذرة واحدة من الهيدروجين أو اتحدت ذرة واحدة من الأكسيجين مع ذرتين من الهيدروجين. ولكن عندما نعرف ما كشفه أفوجادرو من أن في الحجم الواحد يوجد العدد ذاته من الجزيئات، وعندما نعرف وزني حجمين متساويين من الغازين المتقدمين، يمكننا أن نعرف أمراً مؤكداً اليوم وهو أن ذرتين اثنتين من الهيدروجين اتحدتا مع ذرة واحدة من الأوكسجين ليكونا ذرة من الماء. هذا التحديد الذي كان لجاي ليساك وأفوجادرو الفضل الأكبر فيه كان الخطوة الثانية بعد عمل دالتون العظيم. بعد ذلك حسب
العلماء بدقة الوزن الذري لكل العناصر معتبرين وزن ذرة الهيدروجين كوحدة ونسبوا إليها ذرات العناصر الأخرى
هنا تنوع الفن التجريبي وأبدع العلماء في مختبراتهم بما رفع الكيمياء على حد قول ريشنباخ إلى مصاف العلوم الصحيحة، وبهذا التنوع في التجارب وما أحدثته الذرية من تقدم وما أحدثته معها السينيتيكية من تصحيح في معارفنا أمكن للعلماء الحصول على معلومات عددية عن الذرات غاية في الدقة وعظيمة الدلالة، هذه الذرات، هذه الشموس التي كشفوها في المادة يبلغ قطر الواحدة منها حوالي واحد على عشرة ملايين من المليمتر، ولكي نتصورها يجب أن نتصور كرة من الصلب يبلغ قطرها 3 ، 5 من السنتيمتر من تلك الكرات التي يدور عليها عجل السيارات، والتي تبلغ كرويتها في المعتاد درجة عظيمة من الدقة، وعلى القارئ أن يتصور بعد ذلك أن النسبة بين حجم هذه الكرة الصغيرة من الصلب وبين حجم الذرة كالنسبة بين حجم الكرة الأرضية وحجم هذه الكرة من الصلب، وبعبارة أخرى إن الأرض وما عليها من قارات ومحيطات تكبر هذه الكرة الصغيرة بقدر ما تكبر هذه الكرة الذرة
أما عن وزن الذرة فإذا اتخذنا الهيدروجين مثالاً ليصور لنا
الحالة علمنا أن وزن ذرة الهيدروجين حوالي 10 241 من
الجرام أي واحد على مليون مليون مليون المليون من الجرام،
وإذا علمنا أن وزن الأرض يزيد قليلاً عن 5 2710 جراماً
فإن النسبة بين وزن الكوب الفارغ إلى وزن الأرض أكبر
بكثير من النسبة بين وزن ذرة الهيدروجين ووزن هذا الكوب.
وإذا كان يعيش في هذا الزمن على سطح الكرة الأرضية
حوالي ألفي مليون من البشر فإنه يوجد في ال س م3 من
الهواء 27 كانتيليون من الجزيئات أي ما يربو على ملايين
المرات عدد ما يدب على الأرض من إنسان وحيوان، ومع
ذلك فإن الفراغ الذي يوجد حولها يزيد بكثير من الفراغ الذي
يوجد حول إنسان في مسكنه، فإن المسافة بين جزيئين
متجاورين (في الحرارة والضغط العادي) تساوي مائة مرة
قدر قطر الجزيء، وبهذا يجوب الجزيء عالمه بسرعة عجيبة
تبلغ في الهيدروجين حوالي 1 ، 7 كيلو متر في الثانية
الواحدة أي أنها تقطع المسافة بين مصر والإسكندرية في
دقيقتين في الوقت الذي يقطعها فيه أسرع قطاراتنا الحديدية في
ساعتين
هذه الأرقام صحيحة. وليس المجال هنا لنذكر الطرق العديدة والمختلفة التي اتبعها العلماء توصلاً إلى النتائج ذاتها بطرق مختلفة
هذا موجز ما نعرفه عن الذرة التي تفترق عن الجزيء في أنه بينما نستطيع بالطرق الكيميائية أن نجزئ الأخير إلى ذرات، فإننا لا نستطيع بهذه الطرق أن نجزئ الذرة إلى جسيمات أصغر منها، ولم يتصور العلماء حتى عهد قريب أيا من العمليات العديدة التي لا تمت للكيمياء في شيء، والتي يمكن بها اليوم القيام بهذه العملية الأخيرة من تجزيء الذرة.
من هنا حدد العلماء تعريف العنصر الكيميائي أنه مادة أولية لا يمكن بالطرق الكيميائية تقسيمها إلى عناصر أخرى، ومن ثم اتضح أن معظم المواد التي تصادفنا في الطبيعة هي مركبات كيميائية تتطلب عملية خاصة لتحليلها إلى عناصرها الأولى. فالماء وهو أكثر المواد شيوعاً على الأرض مركب من الأوكسيجين والهيدروجين، والهواء من الأوكسجين والأزوت، وهكذا اضمحلت فكرة القدماء الذين اكتفوا بتقسيم الكون إلى ماء ونار وأرض وهواء، وانتهى عصر الكيمياء القديمة وبدأ عهد جديد يرجعون فيه المواد مهما تعددت إلى
عناصر معروفة، حتى المواد العضوية المكونة للأحياء ترجع إلى مركبات كيميائية معروفة يغلب فيها عنصر الكاربون حيث يعظم فعله، وكما قدمنا يعزو فريق من العلماء الحياة نفسها إلى أن مركبات هذا العنصر الأخير تتحد مع غيره من العناصر بما يجعل الجزيئات الجديدة كثيرة الذرات كثرة من الصعب إحداثها بالطرق العادية، ورجح هؤلاء أن هذا هو الفارق بين المادة الحية والمادة عادمة الحياة، ورجحنا من ناحيتنا أنه لا بد أن تكون ثمة أسباب أخرى نجهلها تجعل فارقاً بين النوعين في التكوين
هذه المجموعة من العناصر الكيميائية، المبتدئة بالهيدروجين والمنتهية بالأيرانيوم ذلك العنصر المشع الذي نبه على خواصه الإشعاعية بكارل في آخر القرن الماضي، لا تكون مجموعة منتظمة، بل مجموعة تحمل نظاماً مستتراً، ففي سنة 1860 بين الباحثان الروسي والألماني لوتر ماير أن العناصر مرتبة وفق نظام
والواقع أننا لو رتبنا العناصر وعددها واحد وتسعون عنصراً وفق وزنها الذري مبتدئين بالعناصر ذات الوزن الذري الخفيف ومنتهين بالعناصر ذات الوزن الثقيل، فإن هناك حالة تظهر في تتابع خواصها الكيميائية، بحيث يتخذ الهيدروجين أول مكان في هذه العناصر فيكون مجموعة بمفرده يليه غاز الهيليوم مكونا طرف الدورة يتبعه الليتيوم، والكاربون والأزوت، والأكسيجين حتى غاز أما الهيليوم فهو غاز ليس له أي اثر كيميائي فهو غير فعال بينما للليتيوم خواص قلوية واضحة كما انه فعال من الناحية الكيميائية، أما العناصر الوسطى من هذه المجموعة فلها خواص بين القلويات والحوامض؛ فإذا وصلنا للفلور آخر المجموعة وجدناه يكوِّن في الواقع حامضاً شديداً؛ أما الدورة الثانية فتبدأ بغاز النيون يتلوه الصوديوم كأول عنصر قلوي ذي أثر ويتلو هذا وذاك المعادن الخفيفة كالملجنيزيوم والأليمونيوم حتى السيليسيوم، وبعيداً في نفس العائلة تجد الكبريت والكلور حيث العناصر الحامضية الشديدة. ونجد التتابع ذاته في المجموعات العليا التي تتلو ذلك بحيث تبدأ دائماً كل مجموعة بأجسام قلوية تتلوها أجسام بين القلوية والحامضية ثم أجسام حامضية، ولقد كان التدرج حتمياً والدورات منتظمة للحد الذي تنبأ فيه (ماندلييف) بضرورة وجود عناصر أخرى في المجموعة الواحدة، عناصر غير معروف وجودها للعلماء في ذلك الوقت، عناصر أصر على وجودها في الكون (ماندلييف) لا لشيء سوى انسجام مجموعة معينة
من المواد، وهذه العناصر وجدها الباحثون فيما بعد. ورأينا في تاريخ العلم المجيد (ماندلييف) يعلن مثلاً عن عنصر يمت بعلاقة للسيليسيوم حيث يحدد هذا الباحث بدقة خواصه الكيميائية ووزنه الذري، وثقة منه في وجوده، يسميه أكاسيليسيوم ويكتشفه العلماء بعد ذلك بثلاث عشرة سنة ويسمونه جرمانيوم
عندما كشف (بكارل) أثر الأيرانيوم على اللوح الفوتوغرافي وأعلن للعالم أنه مادة مشعة لم يكن الكشف عن الراديوم بعد ذلك أمراً محتوماً فقد كان عمل مدام كيري الذي كشفته عملاً تجريبياً مضنياً يذكرنا بعمل وليم التجريبي عندما كشف في سنة 1781 الكوكب إيرانوس وهو الكوكب السادس في البعد عن الشمس في مجموعتنا الشمسية، ولكن عندما كشف (ماندلييف) عنصراً جديداً كالجرمانيوم كان ذلك عملاً حسابياً يحتمه انسجام ضروري تراءى لهذا الباحث في قوانين الكون
تذكرنا هذه الحوادث العلمية بعمل الفرنسي وعضو المجمع العلمي عندما استأنف في سنة 1846 دراسة الحركة غير المنتظمة وغير المفهومة للكوكب إيرانوس المتقدم الذكر فحتم وجود الكوكب نبتون الذي يعادل حجمه 78 مرة قدر حجم الأرض، بل وتذكرنا هذه الحوادث بعمل (كلايد تومباوج في سنة 1930 عندما حتم وجود كوكب تاسع يدور في مجموعتنا الشمسية أسماه العلماء بعده بليتون. اذكر أن العالم الفلكي الذي حتم وجوده مات قبل أن يراه العلماء ببضعة شهور
وهكذا كان (ماندلييف) يبحث في المادة عن شموس إذا غابت عنا شمس حتم وجودها وكان (ليفرييه) يبحث في الكون عن كواكب إذا لم نر كوكباً حتم وجوده، واستند كلاهما على انسجام القوانين الطبيعية، بحيث كنا أمام احتمالين: إما أن يكون مصدر الحساب عند (ماندلييف) و (ليفرييه) مشكوكاً فيه، أو يكون الحساب عندهما صحيحاً؛ ولقد دلت الأيام أن حسابهما صحيح وأن العناصر كانت موجودة منذ وجود الأرض وقبل ذلك وأن الكواكب الجديدة على معارفنا كانت تدور في أفلاكها حول الشمس منذ دارت الدار التي نسكنها. . .
وهكذا مع دالتون وبروست وفينزل وريتشر وجاي ليساك، وافوجادرو وماندليف ولوتر ماير، كشف الإنسان عالماً هو الذرة فكشف بذلك من بادئ الأمر عن شموس طغى أثرها على كل ما عداها
ولكن كان لابد أن يكون لهذه الشموس سيارات وتوابع كالقمر تتبع الأرض، وهذه والمريخ يتبعان الشمس. وسنرى مع القارئ أن مليكان الأمريكي، وتومسون الإنجليزي، وبيران الفرنسي كشف الإنسان أمر هذه التوابع ودخل الذرة وعرف ما فيها.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة
من هنا ومن هناك
في إيران دكتاتورية بلا أعداء
(عن (ذي أديلاد كرونيكل))
لعل أهم ما ترمى به الدكتاتورية أن الدكتاتور إذا مات لا يخلفه من
يملأ الفراغ الذي يترك من بعده، ولكن إيران لا خوف على مستقبلها
من هذه الناحية، فإن شعبها على ثقة دائماً بأن ولي عهده الذي تزوج
أخيراً من شقيقة ملك مصر، سوف يكون ما للملك الوالد من الصلابة
والحزم في حكم البلاد
والأمير رضا شاهبور في التاسعة عشرة من سنه، وهو أكبر أبناء الشاه التسعة، وقد ورث عن أبيه قوة الجسم وسلامة البنية، وتدرب على الرياضة بأنواعها وعلى الأخص لعبة التنس وكرة القدم. ويعد في الطبقة الأولى في الرماية وركوب الخيل. وقد بدأ اهتمامه بالكشافة - التي أخذت تنتشر في إيران بسرعة عجيبة - في السنين الخمس التي قضاها بالمدرسة في سويسرا
فإذا دعي إلى عرش النسر الذي ادخره أبوه له بعد جهاد طويل، فسوف يجلس للحكم في القصر الذي كان والده في يوم من الأيام حارساً على أبوابه
فقد كان الشاه رضا خان بهلوي منذ خمس وثلاثين سنة، جندياً بسيطاً في حرس الشاه السابق. وفي سنة 1921 نزح إلى طهران العاصمة، فوجد الناس يتقاتلون فيها على الخبز، والفقر قد أنشب مخالبه في كل شيء، بينما يقيم الشاه في باريس منذ عدة سنين، والحكومة على أبواب انتخابات، والدين الأجنبي يزيد ويتضخم بسبب ما ينفقه الشاه من الأموال في عاصمة فرنسا
لم يطق رضا خان صبراً على هذه الحال ووطد عزمه على تغييرها، وكان يقتبس كثيراً من الإصلاحات عن مصطفى كمال أتاتورك. وفي سنة 1925 كان قد أدخل كثيراً من الإصلاح في بلاده وهيأ الشعب للحكم الصالح. أما الشاه الذي ظل في باريس بين الغواني
فقد فَقَدَ احترامه بين الجمهور وعلى الأخص بعد أن ورد على طهران تقرير من باريس يصف سلوكه في حانات مونمارتر. وقد وجد ليلة وسط خمس وعشرين امرأة من الراقصات ليس بينهن رجل سواه، وقد تبلل قميصه بالنبيذ الذي تساقط من الكأس، التي لم تقو يده على حملها لشدة السكر
فعزم رضا خان على أن يزيل هذا الشاه كما أزال حكومته منذ أربع سنوات فأعلن خلعه وولى نفسه مكانه شاهاً لبلاد العجم
ومما لا يختلف فيه اثنان أن إيران الحديثة وهي مملكة مساحتها 68000 ميل مربع وعدد سكانها عشرة ملايين كلها من صنع رجل واحد - هو الشاه
فالشاه يشرف على كل شيء في إيران بنفسه وله فيها الكلمة التي لا ترد، وإن كان رضا خان لا يبت في أمر ذي بال قبل أن يوافق مجلسه النيابي عليه. أما الوزراء فهم جميعاً ملحقون بخدمة الشاه ولا يقومون بعمل قبل موافقة الشاه
هذا الحاكم الشديد في غير ظلم، يعد من رجال الملك الجديرين بهذا اللقب على الرغم من منشئه. يحبه جنده إلى حد العبادة؛ ويعده شباب الجيل الحديث في إيران أباً لهم. وعلى الرغم من أنه يعطي نفسه سلطة لا حد لها في حكم البلاد، فهو يعمل لها بجد وتواضع واعتدال
هل يحل (العم سام) محل (جون بول)
(عن مجلة (باريد))
إذا قدر لبريطانيا العظمى أن تنهزم في حرب عالمية وتندحر قواها حقاً، فهل تخلفها الولايات المتحدة الأمريكية في الاحتفاظ بزعامة الجنس الأبيض على العالم؟
يقول (أندريه سيجفرييه) المؤلف الفرنسي المشهور: للإجابة على ذلك يجب أن نقدر الظروف التي ارتفعت فيها بريطانيا إلى مركز الزعامة والقوة في العالم، فقد اتجهت بريطانيا إلى التوسع والسيادة في وقت لم يكن يزاحمها فيه أحد
أما الآن فقد تغيرت الحال وأصبحت بريطانيا تشعر بتزعزع واضطراب في مركزها القديم؛ وقد زال من العالم ذلك النوع من الارتباط الدولي الذي كانت تقوم على حمايته
بريطانيا العظمى على مبدأ الأخذ والإعطاء، على ما كان له من الفوائد المحققة لسائر الأمم
وقد بدأت اليابان تطالب بمنطقة لا نعلم ماذا سيكون من أمرها بعد، إلا أنه مما لا شك فيه أن ذلك الموقف المريب في الصين، يضيف أزمة خطيرة إلى أزمات أوربا العديدة
فإذا فقدت الهند من بريطانيا وفقدت إلى جانبها مستعمراتها في الشرق الأقصى، فقد زالت زعامة الجنس الأبيض من الوجود إذ أن ذلك سيتبعه ولا شك مطالب لا تحد لسائر الأجناس في أنحاء العالم، فتعاني أوربا ما تعاني من جراء ذلك، ولا يخفى أثر هذه الصدمة على الولايات المتحدة
فإذا كان للمدينة البيضاء أن تحتفظ بمكانتها في العالم، فمن الواجب أن تقوم قوة دولية عظيمة بالاضطلاع بما يمليه هذا الموقف الخطير من الواجبات السياسية والحربية.
وقد قامت إنجلترا بواجباتها زهاء قرن ونصف قرن. وتبعتها فرنسا في شمال وغرب أفريقيا. وهاهي ذي ألمانيا تحاول السيادة الدولية منذ 1914 - 18، ولا يشك أحد ممن يتتبعون مجرى الحوادث في أوربا لحظة واحدة في أنها تعود ثانية إلى التفكير في تلك المحاولة.
إن عالما تسوده ألمانيا لابد أن يختلف كل الاختلاف عن العالم الذي نعيش فيه تحت نفوذ بريطانيا، وعلى ذلك يصح لنا أن نتساءل: هل الولايات المتحدة على استعداد لقبول مسئولية السيادة الدولية إذا احتاج الأمر إلى ذلك؟
وهنا يظهر موقفان: الأول أن الولايات المتحدة يجب أن تحمي القارة الأمريكية ولا تتجاوز هذا الحد. والثاني رغبتها الأكيدة في حماية الإمبراطورية البريطانية من الهزيمة إذ أن سقوط بريطانيا يؤثر تأثيراً سيئاً على مركزها في العالم.
ويصر الرأي العام في الولايات المتحدة على الرأي الأول. ولكن هناك حركة يقوم بها بعض رجالها السياسيين تجعل الأمل كبيراً في ترجيح الرأي الثاني.
إن الولايات المتحدة ليست على استعداد لأن تحل محل الإمبراطورية البريطانية في السيادة الدولية، ولكنها مع ذلك لا تسمح بتحطيم القوة البريطانية.
الحب يحفظ العالم
(عن (ذي سيكولجيست))
يقول علم النفس الحديث إن الحاجة إلى الحب هي في الحقيقة حاجة إلى حماية الآخرين ومساعدتهم
فالأسماك لا تعرف الحب. فإذا خرجت السمكة إلى عالم الوجود، لا تعرفها أمها ولا يحفل بها أبوها، وقد تفصلهما عنها أميال شاسعة. فالسمكة الصغيرة لا تعرف حماية الوالدين على الإطلاق، وحياتها معلقة على المصادفة والجهد المستقل
ولكن الطفل من بني الإنسان على نقيض ذلك. فيولد عاجزاً كل العجز، ولن يبلغ أشده إلا إذا لاقى عناية خاصة، ممن يهمهم أمره. فالطفل إما أن يجد الحب وإما أن يموت
وهذا الحب الفطري لا تقابله منفعة خاصة للغير. فالطفل يلاقي العناية الفائقة من أمه أو مربيته أو من يضطلع بأمره ولا يجازيهم على ذلك أي جزاء، ولا ينتظر أحد منه شيئاً من الجزاء لأنه لا يقدر عليه
إلا أن هذا الموقف لا يستمر على الدوام، فإذا رأينا إنساناً في سن الرجولة يأخذ من الناس ولا يعطيهم مقابل ما ينال منهم، فإننا نعده إنساناً ما زال في دور حب الطفولة. وننتظر أن ينمو بدوره ويتقدم إلى المرتبة التي يتحمل فيها مسئولية حب شخص آخر يحتاج إلى رعاية بغير أمل في جزائه
وبمعنى آخر إن كل إنسان يجب أن يعبر الطريق الذي ينال فيه كل شيء ولا يعطي مقابله أي شيء، إلى الطريق الذي يعطي فيه كل شيء ولا ينال شيئاً. ولا يعد هذا العمل فضيلة بأي حال فهو ضرورية حيوية ورثها الإنسان منذ ظهر في هذا الوجود
وليس في أنانية الطفل مأخذ عليه، فكأنه بعمله يقول: إنه عاجز وإنه عالة على محبة الآخرين وإنه يجب أن يأخذ منهم وإنه لا يستطيع الجزاء
فإذا لم يكن لدى الطفل الفرصة التي تخرجه من أحضان أمه إلى دائرة أكثر حرية واتساعاً، فقد تفوته فرصة التقدم من الرتبة التي يتلقى فيها الحب، ولكن الأمر على خلاف ذلك، فلا بد أن يتصل باخوته وغيرهم من الأطفال المقاربين له في السن؛ وهم مثله لم يتقدموا عن المرتبة التي يتلقون فيها حب الأباء والأمهات، ولا تقل أنانيتهم عن الأنانية التي يستمتع بها. فإذا اجتمع لفيف من الأطفال على هذا النحو فإن الاختلاف سرعان ما يدب بينهم إذ أن كل طفل مولع بنفسه مؤثر إرادته على إرادة الآخرين. إلا أن الألعاب
العديدة المنظمة التي قوامها التعاون تقضي على هذه الروح لأن الطفل في هذه الحالة يشعر بأنه ينال السرور الحق حينما ينظر إلى حقوق الآخرين بعين الاعتبار. فهو يعتبر الآخرين لا عن طريق التضحية أو عن طريق المبادئ الأخلاقية، ولكن لأنه يجد راحته في هذه الحال.
وهذه مرتبة عظيمة من مراتب الحب، والذين لا يعرفونها لا يعرفون العواطف السامية في طور النمو.
الصحافة بعد ستين عاما
(عن مجلة الصناعة الأمريكية)
كيف تكون الصحافة بعد ستين عاماً أي سنة 2000 بعد الميلاد؟
هذا سؤال وجهته مجلة الصناعة الأمريكية في الأيام الأخيرة إلى بعض الصحفيين والمشتغلين بالسياسة. فورد عليها أجوبة مختلفة على هذا السؤال، إلا أنها تجمع على أن الصحافة بعد ستين عاماً ستكون مختلفة عنها اليوم
ومن الأجوبة الطريفة على هذا السؤال ما كتبه مستر هارولد سكرتير وزارة خارجية الولايات المتحدة، وقد مزج الحقيقة بالفكاهة فقال:
(حينما أفكر في مستقبل الصحافة بعد ستين عاماً، تجري على خاطري رغبة سبقني إلى شرحها توماس جيفرسن يوماً من الأيام. اقترح جيفرسن أن تقسم كل جريدة إلى أربعة أقسام:
1 -
الحقائق
2 -
الأخبار المحتملة الوقوع
3 -
الأخبار التي تنتظر الإثبات
4 -
الأكاذيب
فلو سارت الصحافة على هذا المنوال، فمن رأيي أن يكون الباب الأول خاصاً بنتائج المباريات الرياضية، والثاني خاصاً بتقارير الأرصاد الجوية، والثالث بأخبار السينما، والباب الرابع خاصاً بغالبية الأخبار السياسية
ومن رأيي أن هذه الطريقة تجعل من الصحافة هيكلا مقدسا للحقيقة، كمل تجعل منها مثالاً معلوماً للخيال فتعم السعادة ويظهر الإخلاص ويرفه عن قلوب الناس).
وقد تناول هذا الموضوع رجال الصحافة بما يستحقه من الجد والاهتمام
ومما قاله أحد الصحفيين: إن أصحاب الصحف الذين يرتاعون لمنافسة الإذاعة اللاسلكية قد يجدون شيئاً من الراحة والاطمئنان إذا لاحظوا أن اليوم، حتى سنة 2000 بعد الميلاد لا يمكن أن يزيد على أربع وعشرين ساعة.
وقد استطاعت الإذاعة أن تخترع طرقاً عجيبة للاستماع إلى الموضوعات والبرامج التي سبقت إذاعتها في الوقت الذي يشاؤه الإنسان. أما الإذاعة المصورة (تلفزيون) فسوف يتيسر لها أن تمدك بالصور والأصوات، وسوف يتيسر لها كذلك أن تحتفظ بها لأي وقت تريد، فتستطيع أن تستمع إلى البرنامج الذي يذاع في الساعة التاسعة وأنت بالسينما أو المسرح، في الساعة الحادية عشرة في منزلك أنت وعائلتك وترى كذلك الصور المذاعة.
وسوف يكون من السهل الاحتفاظ بالصور الملونة للرجوع إليها في المستقبل. وفي سنة ألفين يستطيع الرجل أن يقرأ الصحف في مكتبه في الصباح بينما تتلهى زوجه بسماع برنامج الموسيقى التي أذيعت في الليلة السابقة في باريس.
ومن المنتظر في ذلك الوقت أن يتلقى الإنسان أخبار العالم بواسطة محرك بسيط يلمسه بإصبعه، فإذا كل شيء قد نقل إلى أذنه لتسمعه، وإلى عينه لتراه.
وسوف ينتقل إليه بطبيعة الحال فيض من التقارير الرسمية الدقيقة من أنحاء قاصية كنيوزيلند والتبت منقولة نقلاً مطابقاً للأصل كل المطابقة
وكذلك صور الأوبرا: فيستطيع أن يلمس المحرك في أي وقت ليسمع قطعة من أوبرا تكون قد أذيعت من موسكو في الليلة السابقة واحتفظ بها ليسمعها في أي وقت يريد
وسوف يكون لديه لفافات طويلة من الأوراق المنقولة بواسطة الراديو، تنقل إليه في أي وقت حديثاً يكون قد فاته سماعه في الليلة الماضية. . .
وقد لمس أحد الصحفيين الذين كتبوا في هذا الشأن ناحية أخلاقية في الموضوع.
فقال: إن العبقرية الإنسانية سوف تستطيع أن تصل إلى الغاية التي تيسر لذوي العقول والكفاية أن يصدروا الصحف دون حاجة إلى رؤوس الأموال الطائلة التي يحتاجها إصدار
الصحف الآن. حتى لا تكون هذه الصناعة وقفاً على أصحاب الثروات. فيتمكن الرجال ذوو الأخلاق والمواهب من إصدار الصحف بغير إرهاق
وسوف يكون من المستطاع إخراج الصحيفة الكبيرة بتكاليف زهيدة للغاية، وتصبح الآلات الضخمة التي تستعمل الآن شيئاً لا يذكر إلا على ألسنة المؤرخين
سوف تلقى العبقرية تلك الآلات الضخام وتجعلها موضعاً لسخرية الساخرين.
البَريدُ الأدَبيّ
الأب أنستاس ماري الكرملي والمنضدة
قال العلامة الأستاذ الأب أنستاس ماري الكرملي في كلمة عنوانها (مباحث عربية) في الجزء الأخير من مجلة (المقتطف) الغراء: (وجدناه (أي صاحب مباحث عربية) استعمل (المنضدة) ص 27 وقد شاعت على يراع كتبة هذا العهد، ناقلاً إياها عن (أقرب الموارد) للشرتوني، أو عن كاتب عثر عليها في المعجم المذكور، فهي لفظة لم ترد في كلام فصيح ولا ترد على أسلة مؤلف بليغ ثقة يعتمد عليه. وصوابها (النّضَد) كما ذكرها أرباب الدواوين اللغوية، وهي من باب تسمية الشيء باسم المصدر)
أقول: قالت (الجمهرة): (النضد متاع البيت وكثر في كلامهم حتى سموا السرير الذي ينضد عليه المتاع نضداً) وفي (اللسان): (سمي السرير نضداً لأن النضد عليه) ونحو من ذلك في (المصباح والتاج)
وقال الإمام الزمخشري في (أساس البلاغة): (المنضدة شيء كالسرير له أربع قوائم يضعون عليه نضدهم)
فسبب التسمية قد ذكروه، وفي اللسان العربي: النضد والمنضدة
الأب أنستاس إذا نقد أفاد، وإذا نقد لم تعدم الأدباء فائدة فله الفضل في كل حالة
من هذيان الحر
تحت هذا العنوان كتبنا مقالاً في عدد مضى من الرسالة سخرنا فيه من الأرستقراطية سخراً أوضح من الصراحة؛ ولكن إفراط الحر على الإفهام في هذه الأيام جعل الأستاذ محرر (همسات الأندية الأدبية) في مجلة (زهرة الشرق) يقرأ المقال على ظاهره فظن أننا (نعرض بحكم الشعب وندعو إلى حكم الأرستقراطية ونتهكم بالعامل والزارع ونفتخر بالأمير والسيد) ثم أراد أن يدلل على صحة ما فهم فساق كلمة من المقال هي غاية التهكم فيه. ولولا رعايتنا لكرامة الكاتب لدللناه على السخرية في الفقرات التي نقلها على الأقل؛ ولكننا نرجو أن يعيد قراءة المقال ليعلم أنه جزء من سلسلة أولها (فلاحون وأمراء) وآخرها (حلم ليلة صيف) وكلها متساوقة الأجزاء إلى الاستهزاء بالأرستقراطية. وليت شعري إذا كان هذا مبلغ الأدباء من فهم الكلام، فكيف يكون حال الجهلاء والعوام؟!
جماعة الفن والحرية
حضرة الأستاذ الكبير أحمد حسن الزيات
نحن نعلن لأسرة (الرسالة) أن كلمتي (الفوضى) و (الفن المنحط) اللتين اتهمنا بهما لم تخرجا من وحي تفكيرنا، وإنما جاءنا من خلق طائفة من الناس ترى في كل حركة تجديدية خروجاً على التقاليد والأخلاق، وجموحاً بالحرية إلى حد الفوضى، وخطراً في الأنظمة الاجتماعية المعاصرة التي تهيئ لأفراد هذه الطائفة أكبر قسط من الكسب المادي.
إن جماعة (الفن والحرية) حركة اجتماعية بقدر ما هي حركة فنية تعمل للفن من أجل الفن. ذلك أن مظاهر الفكر البشري والعواطف الإنسانية بصورها المختلفة حتى صور الفلسفة العليا منها لا تخرج في نظرنا عن حدود التعبير الناشئ عن اصطراع التيارات المتعاملة داخل الهيئة الاجتماعية.
والمجتمع المصري بحالته الراهنة مجتمع مريض مختل، فقد الاتزان لا في مقاييسه الخلقية فحسب، بل في أوضاعه الاجتماعية والاقتصادية أيضاً. ومثل هذا المجتمع المقبل على النهوض يجب أن تترك فيه الحرية المطلقة للكتاب والمفكرين في نشر آرائهم الجديدة للانتفاع بالحلول التي يعرضونها لعلاج المشاكل المتعددة.
وجماعة (الفن والحرية) فئة من الشباب راعها ما رأت من انحلال عناصر القوة في مصر. فكرست جهودها لدراسة مسببات هذا الانحلال، ولإيجاد الحلول التي ترى أنها قد تعود بالخير على المجموع. فهي ليست متأثرة بحركة أجنبية، وإنما هي حركة مصرية أكثر ما يمكن أن يقال فيها إنها ستكون مهداً لنضوج الأفكار الجديدة التي ستهيئ أسباب التطور لهذه البلاد.
أما إن كان الفن الذي تبشر به جماعة (الفن والحرية) منحطاً أو غير منحط فهذا أمر لا يمكن الوصول فيه إلى نتيجة حاسمة بنقاش يثار على صفحات مجلة من المجلات. وخير من هذا الجدل أن تلبي أسرة (الرسالة) دعوة الجماعة لزيارة معرضها حتى تكون على بينة تدعمها المشاهدة من حقيقة الاتجاهات التي ترمي إليها
أنور كامل
الوحدة الإسلامية
إلى الأستاذ الفاضل ساطع الحصري بك
قرأت مقالكم (حول الوحدة العربية) الذي تردّون فيه على الدكتور طه حسين، في العدد (315) من الرسالة الغراء فلفتت نظري فيه الجملة الآتية:
(وأؤكد لكم أنني - بقدر ما أؤمن بفكرة العروبة، وبقدر ما أعتقد بإمكان الوحدة العربية، وبقدر ما أقول بوجوب السعي وراء تحقيقها - أعتقد باستحالة الوحدة الإسلامية)
فهل لي أن أسألكم سيدي الأستاذ، علام بنيتم اعتقادكم هذا؟ وعلى أي أساس أصدرتم حكمكم باستحالة تحقيق الوحدة الإسلامية؟ إن من المعروف لدى الخاص والعام أن رابطة الإيمان والعقيدة أقوى من روابط اللغة والعادات والمصالح، وأن التقارب بين الناس والتفاهم، يقوم - مع وحدة اللغة - على وحدة المبادئ والعقائد والغايات. وهاهي ذي مبادئ الشيوعية والاشتراكية والماسونية وغيرها تجمع بين أناس اختلفت لُغاهم وأجناسهم وبلادهم وأقاليمهم، ولم يمنعهم هذا الاختلاف كله من أن يتفاهموا ويتقاربوا ويجتمعوا على خطة واحدة ومبدأ واحد، أفتكون مبادئ الإسلام مانعة من اتحاد المؤمنين بها واجتماعهم؟
يعلم الأستاذ أن العرب في الجاهلية كانوا متنافرين متخاصمين مع أن لغتهم كانت واحدة، وعنصرهم واحداً، وأن الإسلام قد آخى بين العربي وغير العربي وجمعهم على مبادئه السامية وألّف بين قلوبهم، وجعلهم أمة واحدة رغم اختلاف الأجناس واللغات، أفتكون هذه الوحدة التي أمكن تحقيقها في عصر صدر الإسلام وعصر الأمويين والعباسيين ومن أتى بعدهم، مستحيلة في عصرنا هذا؟ إن كل مسلم في سورية أو مصر أو العراق يعتقد أن المسلم الهندي أو الياباني أو الأوربي أخ له كأخيه المسلم الذي يعيش معه جنباً إلى جنب ففيم استحالة تحقيق الوحدة الإسلامية؟
أنا لا أنكر إمكان تحقق الوحدة العربية ولا أقول بمقاومتها ولكنني أعتقد - ويعتقد معي كل مسلم على وجه الأرض - أن الوحدة الإسلامية أقوى من كل وحدة سواها، وأن تحقيقها أسهل من تحقيق أية وحدة أخرى، فهل لكم أن تبينوا لي خطأ اعتقادي هذا، وأسباب استحالة تحقيق الوحدة الإسلامية؟
(دمشق)
ناجي الطنطاوي
تقريب الكتب القديمة وعرضها عرضاً حديثاً
كانت لجنة تقريب الكتب العربية القديمة إلى أذهان الناشئة وعرضها عرضاً حديثاً قد اجتمعت في تمام الساعة السادسة من مساء يوم الاثنين 12 يونية سنة 1939 برياسة حضرة صاحب العزة الأستاذ محمد العشماوي بك وكيل المعارف ونظرت في الكتب العشرة التي قررت الوزارة البدء بتقريبها كخطوة أولى لتنفيذ هذا المشروع الأدبي. ثم عرضت أسماء الأدباء الذين يختارون لهذا التقريب واستقر الرأي على أن تلحظ اللجنة في اختيارها لكل كاتب قوة التمكن من الثقافة العربية والاختصاص في الدراسات الأدبية واستغلال الثقافة الغربية ما أمكن ذلك عند بعض الأدباء المعاصرين للانتفاع بها في توجيه طرائق التقريب والعرض توجيهاً فنياً حديثاً
وبعد مراجعة الأسماء والمناقشة في كل كتاب بمفرده تقرر الاختيار وفقاً لهذا البيان. ثم رفع إلى حضرة صاحب المعالي وزير المعارف فأقره بعد تعديل يسير. وإليك هذا البيان
1 -
الكامل للمبرد
(ا) الأستاذ السباعي بيومي المدرس بدار العلوم
(ب) الأستاذ مصطفى السقا المدرس بكلية الآداب
2 -
البيان والتبيين للجاحظ
(ا) الأستاذ محمد صفوت المدرس بدار العلوم
(ب) الأستاذ عبد الوهاب حمودة المدرس بكلية الحقوق
3 -
الأمالي لأبي علي القالي
(ا) الأستاذ محمد شتا مدرس أول اللغة العربية بمدرسة الخديو إسماعيل الثانوية
(ب) الأستاذ إبراهيم مصطفى مدرس بكلية الآداب
(ج) الأستاذ عبد العزيز احمد بمجمع فؤاد الأول للغة العربية
4 -
ديوان أبي تمام
(ا) عبده عزام أفندي معيد بكلية الآداب
(ب) خليل عساكر أفندي معيد بكلية الآداب
وسيضاف إليهما أستاذ من دار العلوم أو من كلية الآداب
5 -
ديوان البحتري
(ا) الأستاذ عباس محمود العقاد
(ب) الأستاذ عبد الرحمن شكري
6 -
ديوان شوقي
(ا) الأستاذ أحمد حسن الزيات
(ب) الدكتور زكي مبارك
(ج) الأستاذ أحمد الزين بدار الكتب
7 -
تاريخ ابن خلكان
(ا) الأستاذ أحمد الشايب المدرس بكلية الآداب
(ب) الأستاذ محمد مأمون نجا المدرس بالتوفيقية الثانوية
(ج) الأستاذ حسن علوان المدرس بالتوفيقية الثانوية
8 -
كتاب الروضتين في أخبار الدولتين
(ا) الأستاذ عبد الله عنان بالداخلية
(ب) الدكتور محمد مصطفى زيادة أستاذ مساعد بكلية الآداب
(ج) عبد اللطيف حمزة أفندي معيد بكلية الآداب
ولقد رأت اللجنة أن تعرض الكتب القصصية عرضين:
(1)
عرضاً فنياً
وفيه يستلهم الكاتب روح الكتاب القديم وطريقته وفنه وينهج نهجه بطريق فني جديد
(2)
عرضاً علمياً
وفيه تعرض دراسة علمية وافية عن الكتاب وتاريخه والترجمة لصاحبه وأثره في الأدب والثقافة العامة وكان اختيارها في القصص على هذا الأساس
9 -
قصة عنترة
للعرض الفني
(ا) الأستاذ محمد فريد أبو حديد
(ب) الأستاذ محمد سعيد العريان
للعرض العلمي
(ا) الأستاذ حامد عبد القادر
(ب) توفيق الطويل أفندي
10 -
ألف ليلة وليلة
العرض الفني
(ا) الأستاذ إبراهيم المازني
(ب) الأستاذ توفيق الحكيم
العرض العلمي
(ا) الأستاذ محمد خلف الله المدرس بكلية الآداب
(ب) الآنسة سهير القلماوي
حول نعيم الجنة
إن للدكتور زكي مبارك أسلوبه في الكتابة، وله أن يتظرف فيه أو يتمجن ما شاء مادام يكتب في الأدب الذي هو دكتور فيه. لكن الذي ليس له والذي لا يمكن أن يقره أحد عليه هو أن يتظرف أو يتمجن حين يكتب في الدين أو حين يدعو لله سبحانه.
لقد رأى في مقالاته الأخيرة في الرسالة أن يستشهد بالدين فأتى باستشهادات خطأ كلها. لكن لا لهذا نوجه اللوم إليه الآن؛ إنما الذي نأخذه الآن به هو ما ختم به خطابه المنشور في العدد 316 من الرسالة تحديداً لرأيه في نعيم الجنة في الإسلام. هو رأي وافق شطره الصواب، ولو قد وقف عند الآية الكريمة (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز) في
موضعها من خطابه فختمه بها لكان خطابه ذلك من أحسن ما كتب. لكن شيطان المجون فيه أبى إلا أن يفسد عليه ذلك الجواب حين أوحى إليه أن يكتب فقرتين بعد ذلك قال في أخراهما خطاباً لله سبحانه: (اشغلني عنك يا رباه! بما سيكون في الجنة من أطايب النعيم)! فهل رؤى سوء أدب وسوء فهم للدين كالسوءين المتجسمين في دعاء زكي مبارك هذا؟ وهل يظن زكي مبارك أن أهل الجنة حين ينعمون فيها يشغلهم عن ربهم شاغل؟ إنهم لم يستحقوا ذلك النعيم إلا بأنهم لم ينسوا الله في الدنيا. فهل يظن هذا الماجن أنه سبحانه ألزمهم ذكره وعبادته في الدنيا ليأذن لهم في نسيانه والانشغال عنه في الآخرة؟
لو كان زكي مبارك يفقه في الدين شيئاً لعرف أن نعيم الجنة الحسي يصبح غير نعيم لو تجرد من رضوان الله أو شغل عن الله. ولو كان لدى زكي مبارك من روح الإسلام شيء ما اجترأ على الله في الخطاب هذا الاجتراء المتجسم في دعائه ذلك، ولأدرك أنه يأتي به كبيرة توشك إن لم يتب منها مخلصاً أن تكبه على وجهه حيث لا نعيم للبدن ولا اطمئنان للروح
محمد أحمد الغمراوي
كتاب في الدين الإسلامي
سيدي الأستاذ الجليل صاحب الرسالة
هنا في قلب الجزيرة السودانية حفنة طيبة من الشباب تربطهم بأسرة الرسالة رابطة الأدب والثقافة. وقد أصبح الفرد منهم يعرف أفراد هذه الأسرة الطيبة المباركة معرفة كلها تقدير وإعجاب
والأستاذ علي الطنطاوي من أولئك الشبان الذين نتخذهم قدوة حسنة لنا، ونرى في تتبع خطواتهم تحقيقاً لمثلنا العليا. والدافع لي إلى أن أكتب هذا هو ذلك المقال الممتع الذي قرأناه في العدد 314 من الرسالة، والذي يقترح فيه الأستاذ الفاضل تأليف كتاب في الدين الإسلامي على طريقة حديثة تكفل لنا الإلمام بتعاليم ديننا وتعيننا على تفهمه. والذي يهمنا هو أن يجد هذا الاقتراح كل عناية وتقدير من علمائنا وأدبائنا الأفاضل، ما دامت (الرسالة) الغراء قد فتحت لهم الباب على مصراعيه لبحث هذا الموضوع الديني القيم أملاً في تنفيذ
هذا المشروع، وإبرازه إلى حيز الوجود ليكون فاتحة عهد جديد لإحياء تراثنا الأدبي والديني إن شاء الله.
هذا - وللأستاذ علي الطنطاوي ولأسرة الرسالة المباركة منا كل شكر وتقدير.
(واد مدني)
سليمان بخيت
تصويب
سقط سهواً من مقال الأستاذ ساطع الحصري بك المنشور بالعدد 315 بالصفحة 1389 سطر في آخر العمود الثاني، ونعيد هنا نشر هذه الفقرة وفيها هذا السطر المنسي تحته خط:
(الوحدة العربية كما يفهمها ذووها يجب أن تتحقق بشكل إمبراطورية جامعة أو اتحاد مشابه للاتحاد الأمريكي أو السويسري)
ونحن لا نرضى بهذا ولا بذاك
استدراك
نشرت رسالة الأسبوع الماضي أبياتاً لي تحت عنوان: (نبرات صوتك في المسرة) وقد نسى بيت من أبياتها فنذكر هنا البيت المنسي مع سابقه ولاحقه:
نبراتُ صوتك؟ ما المزاهر كلها
…
مارنةٌ نشوى من العيدان؟
روَّيتِ أحلامي وهجتِ قصائدي
…
فنظمتُ فيك قلائد العقيان
ووهبتك الآمال ملء خواطري
…
وعلى سناك حبست حرّ بياني
العوضي الوكيل
رسالة النقد
كتاب (توفيق الحكيم)
بيني وبين الدكتور بشر فارس
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
عندما كتب الدكتور بشر فارس كلمته الأولى في (الرسالة) عن دراستي عن (توفيق الحكيم) لم أكن راغباً من ردّي عليه إلا في فتح باب المناقشة بيني وبينه في مسائل دقيقة استوقفت نظري في مقاله يتصل بعضها بصميم الأدب الحديث ومناهج البحث والتحقيق، ويتصل بعضها الآخر ببعض الدقائق في الشؤون الفلسفية التي تدور حول فكرة ارتباط الزمان بالتاريخ والرغبة بالشهوة. كذلك لم أكن قاصداً بنقدي الذي نشرته لي (الرسالة) لكتاب (مباحث عربية) الذي أخرجه للناس أخيراًالدكتور بشر إلا التمحيص العلمي لوجه الحقيقة. ومن هنا جاء ما في ردي عليه ونقدي له من (التدقيق والمراجعة في بذل الملاحظات)، كما لاحظ الجميع. وأما صديقي بشر فارس، فقد آثر أن يدبر المناقشة معي حول المناحي الشكلية. ومن هنا وقف من ردِّنا على كلمة، ومن نقدنا لكتابه في الخارج - كما يقول العلماء - يطوف حول كلامي دون أن ينزل إلى تفاصيله ويناقش ملاحظاتي في صميمها. ومن هنا جاء أيضاً ما عبته على الصديق بشر من (أنه لا يصلح كاتباً ناقداً إلا في المواضيع التي يديرها في ذهنه ويستقصيها على أوجهها بالبحث والتمحيص). غير أنه يظهر أن ما قلته في صاحبي لم يرضه، وجعله يظن متوهماً أننا نداوره ونحاوره فذهب يغمرنا من كل جنب. ولاعتقادي بطيبة سريرة صاحبي، فإنني غير محتاج للتعليق على هذه الفراسة التي بدرت من قلمه (إننا صفينا الحساب فيما بيننا قبل سفره) وحسبي هنا مناقشة كلامه فيما يتعلق بدراستي عن (توفيق الحكيم) على أن أعود لمناقشة ما أثاره حول نقدي لكتابه (مباحث عربية) قريباً بعد صدور مقتطف أغسطس، ومناقشة ما كتب وعلق به على نقدي
1 -
أدار الدكتور بشر فارس موضوع المناقشة في رده الذي جاء بالعدد 312 بالرسالة حول افتراض اقتباسي لبعض تعبيراته ومنها تعبير (جملة صلات اجتماعية) وما ينظر إليه
في الفرنسية. وقد رددت عليه في هذا الموضوع بالنسبة لاقتباسي هذا التعبير عنه فقلت: إن هذا التعبير قد دار على قلمنا قبل صدور كتابه، فقد جاء في بحث لي عن (إسماعيل مظهر - الفكر المصري) ودللت على المصدر الذي جاء فيه هذا البحث فخرج الدكتور بشر يتساءل عن العبارة التي تضمنت التعبير ليرى موضعه منها، وهانحن أولاء نسوقها للفائدة:
(هل التناحر على البقاء في سبل المعادلة الضامية ويسميها مظهر (التناحر التعديلي) وذلك أن تعدل أفراد الأحياء حالاتها بما تتطلب مطاليبها. وإسماعيل مظهر استناداً إلى هذه الفكرة ينجح في الإجابة على كثير من المشكلات التي تتعلق بمذهب النشوء وما يتصل بمسائل علمي الاجتماع والآداب وظاهرات الدين والعقل والأخلاق، وخصوصاً ما يتصل من هذه الأصول بنشوء المشاعر الغيرية من المشاعر الذاتية (الأنانية) التي هي الأساس عنده في خلق مجموعة أو جملة من الصلات الاجتماعية التي تربط بين الناس. وهذه الصلات بدورها تسوق عنده لإيجاد المشاعر والأخلاق الاجتماعية. وقد توسع مظهر استناداً إلى هذه الفكرات فوضع مبحثه القيم. فلسفة اللذة والألم. . .)
وواضح إذن أن تعبير (جملة صلات اجتماعية) قد دار على قلمنا قبل صدور كتابه (مباحث عربية):
2 -
قلت إن التي ينظر إليها تعبير (جملة صلات اجتماعية) ليست للدكتور بشر فارس وإنها قد جرت على قلم دوركايم عالم الاجتماع المعروف. وقد اعترف بهذا الدكتور بشر فارس في رده فقال ما نصه: والذي في الحقيقة أن دوركايم يستعمل هذه الجملة غير مرة وكذلك تلامذته وتلامذة تلامذته (الرسالة ص 1379 ع 2س 11 - 12)، فكأنني في استعمال هذا التعبير لم أنظر إلى ما كتبه الدكتور بشر لأن التعبير شائع من جهة ومستعمل في كتب علم الاجتماع الحديثة من جهة أخرى، وهذا الشيوع والاستعمال ينفيان مظنة الاقتباس. ولكن الدكتور بشر فارس يعرف هذا، ولكنه رأى أنه على وشك خسارة القضية التي ثار من أجلها الأخذ والرد بيننا، فماذا فعل؟ خرج الموضوع تخريجاً يشهد له بالبراعة، ولكن أي براعة؟ براعة الرجل الشكلي فقال: إن المصدر الذي دللت عليه لم يقف عليه ولم يعثر له على أثر. . . وذهب يدير الكلام ويكرره للإبهام. وكأني به في
تخريجه هذا يحاول أن يشككنا في أن دوركايم أستاذ علم الاجتماع بالسربون طيلة عشرين سنة لم يلق حاضرات فيه، وأن هذه المحاضرات قد جمع بعضها في كتب أخرجت للناس. أما (المجموعة) التي قلنا إن دوركايم قد استعمل فيها فهي تلك المجموعة التي تحمل - والتي طبعت للمرة الأولى عام 1895 ضمن المجموعة الاجتماعية بباريس على ' طبعتها هذه المكتبة أكثر من مرة. والنسخة التي تحت أيدينا هي الترجمة الإنجليزية وفيها العبارة والترجمة بقلم ومكتوب عليها ' ' وقد راجعنا اليوم نسخة من طبعة عام 1912 في الفرنسية، والعبارة وجدناها ترددت أكثر من مرة
أما التعبير نفسه فقديم في الفرنسية، وهو يتألف من شقين: الشق الأول يتضمن إنجليزياً ومجموعة أو جملة عربياً. وهذا الشق يعود استعماله إلى أواسط القرن السادس عشر، وقد وقفنا عليه عند بسكال ومالبرانش وغيرهما؛ وعلى وجه خاص في الكتب المسيحية اللاهوتية و (على الدكتور بشر التفتيش) أما الشق الثاني فيتضمن الذي ينظر إليه بالإنجليزية والتعبير الفرنسي كثير الاستعمال ورد في الكتب التي تحت أيدينا مئات المرات، وعلى سبيل المثال نذكر منها كتاب: ، ' من طبع عام 1912، وقد ورد التعبير فيها أكثر من مرة في ص 160 و 162و 164و166 مثلا حيث يقول في هذه وكل هذه التعابير قريبة المدلولات في الفرنسية، وتقابل في العربية تعبير (جملة صلات اجتماعية)
3 -
تحدث الدكتور بشر في هامش بمقاله فقال إني انتزعت الفقرتين الأوليين من فاتحة مقالي الأخير عنه من الدكتور زكي مبارك!. . . والذي أعرفه أن هنالك موضع تشابه ولكن لا يحمل على محل الانتزاع لأنه شكلي. ولو كنت الدكتور بشر لجاز لي أن أقول إن الدكتور زكي مبارك هو الذي انتزع مني في كلامه عن أحمد أمين كلامنا عن صاحبه الذي جاء في نقد كتابه (فيض الخاطر) الذي نشرته لي الرسالة في العدد 287 ص 43 - 44. بيان ذلك أن الدكتور زكي مبارك يتحدث عن الشكلية والتقدير عند أحمد أمين. تلك الشكلية وذلك التقدير اللذان تكلمنا عنهما من قبل في نقدنا لكتاب فيض الخاطر الذي أخرجه أحمد أمين. ولكنا نعتقد أن مثل هذا التشابه لا يحمل على محمل الانتزاع، وإنما على أن الموضوع الذي وقف منه الدكتور زكي مبارك يملي نفس الموقف الذي وقفناه من قبل
إزاءه. ثم يستقل بعد ذلك كل منا بنتائج خاصة به يخلص بها من الظاهرة التي يتلمسها في آثار أحمد أمين
نقول هذا معتقدين أن صديقي بشر لو رجع اليوم وألقى نظرة على ما كتب في هذا الشأن لما رضى ما كتبه. وهو معذور - على كل حال - فيما كتبه عنا بهذا الشأن، فيظهر أنه كان يكتب كلمته وهو في حالة انفعالية. على أن التشابه بعد ذلك بين ما كتبناه وبين ما كتبه زكي مبارك عن صاحبه أحمد أمين شكلي محض، لأن أحمد أمين عند زكي مبارك رجل تقديري النظر شكلي، ومن هنا جاء عدم نجاحه في تقييد الخطرات والسانحات التي تطوف بالنفس من حين إلى حين. وبشر عندي رجل بحاثة قدير في الموضوعات التي يديرها سنين في ذهنه ويستقصيها على وجوهها بالبحث والتمحيص. ومن هنا يجيء ما في أبحاثه من التحليل وما في الكتابات التي يرسلها من ذهنه دون أن يديرها وقتاً في رأسه من إخفاق راجع إلى فقدان العنصر الأساسي لقيام التحليل عنده والتقدير، وهو الزمن الذي يعطيه الفرصة على إدارة الشيء في ذهنه حتى ينزل لمقوماته وأسبابه
4 -
تهكم صاحبي بشر في الهامش بتحقيقاتنا عن قضية ميلاد توفيق الحكيم. وعجب هو كيف أنكر على توفيق شيئاً يؤكده هو بنفسه. وكنت أظنه فاطناً إلى الأسباب الجوهرية الدافعة إلى ذلك، وهي مبثوثة في أكثر من موضع في دراستي (ص 79 مثلاً من الطبعة الخاصة). بيان ذلك أننا نرى طبيعة توفيق الحكيم مترددة تبعده عن الصراحة. أما الأسباب التي حدتنا إلى ذلك فبيانها موجود في كتابنا بالإسهاب. ولهذا وقفنا موقف الحيطة مما ألقاه إلينا الأستاذ الحكيم بشأن ميلاده. وحققنا على طريقتنا تاريخ حياته، فكان من ذلك أن رفضنا التاريخ الذي قال إنه تاريخ ميلاده. . . ومن المهم أن تحقيقاتنا التي كانت للأمس عند الأستاذ بشر فارس موضع الاعتبار أصبحت في ثورة غضبه موضع الغمز والتهكم. ومع هذا فالكل وقفوا منها موقف التدبر. وقد كان من المستطاع أن أسوق الشهادات آخذاً بعضها برقاب بعض مما يؤيد تحقيقاتي من زملاء توفيق الحكيم وأصدقائه وبعض الذين اطلعوا على ملف خدمته بوزارة المعارف وفيها شهادة ميلاده، ولكن لأننا لم نستأذن أصحاب هذه الشهادات في النشر فقد اكتفينا بالتنويه. والدكتور بشر نفسه يعرف بعض هؤلاء وسمعه بنفسه منهم حينما مرّ بالإسكندرية في طريقه إلى أوربا.
هذه مراجعة لما قاله الصديق بشر فارس فيما يتصل بدراستي عن (توفيق الحكيم). أما مراجعة ما أثاره حول نقدي لكتابه (مباحث عربية) موعدنا بها مقال تالٍ بعد أن ننظر فيما سيجيء له في مقتطف أغسطس من مراجعة لأقوالي. وأرجو ألا يبدر لذهن القارئ أن هنالك شيئاً بيني وبين الدكتور بشر كما ظن البعض ووهم. فهذا النقاش وهذه المساجلة مهما عنفت في أسلوبها شيء و (الصلات الاجتماعية) شيء آخر. وما في كتابة الدكتور بشر من الشدة إنما هو نتيجة الانفعال الذي سمح له أن يسيطر على ما يكتب، وهذا يرجع إلى أن صاحبنا تغلبه طبيعة الفنان، ولعل في ذلك بعض ما يخفف شدة كلامه لمثلي ويعتذر له والسلام
(الإسكندرية)
إسماعيل أحمد أدهم