الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 318
- بتاريخ: 07 - 08 - 1939
اللغة والقوالب الموروثة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كنت ذات يوم أكتب رسالة إلى صديق فجرى القلم بهذه العبارة المألوفة: (ومما زاد الطين بلة. . .) وهممت بأن أمضي في الكتابة ثم رددت نفسي وألقيت القلم ونهضت إلى الشرفة ورحت أدخن وأنظر إلى الناس. ولكن النظر إلى الناس لم يكن همي ولا كان كل شغلاني؛ فقد كنت أحادث نفسي وأحاورها وأقول لها إن عبارة (زاد الطين بلة) ليست هي الوحيدة التي ورثناها في جملة ما ورثنا من لغتنا وقد صارت على الأيام (كليشيها) أو قالبا مصبوبا نستعمله في الحديث والكتابة من غير أن نفكر في الصورة التي يرسمها هذا (الكليشيه) الموروث الذي يغرينا به أن الجري على العادة أسهل وأقل عناء. وقد نبتت هذه العبارات المورثة في زمان كان زمانها - أعني أنها كانت في الزمن الذي أخرجها وثيقة الصلة بمظاهر الحياة، وكانت تحدث في ذهن مستعملها صورة تحصل بلا عناء وترتسم بغير جهد. ولكنها الآن قد امتد بها العمر إلى زمان آخر مختلف جدا ولم تبق لها تلك الصلة القديمة بحياة العصر ولسنا نحس حين نستعملها أنها ترسم لنا صورة ما.
وسألت نفسي: (وهل ثم ضرر من استعمال هذه القوالب المورثة؟) وهززت كتفي ومططت بوزي - فعل المتردد الذي يحاول أن يهتدي أو أن يتقي التورط في رأي يجزم به. وبدا لي - وأنا أفكر في هذا السؤال - أن الضرر لا يجئ من استعمال هذه القوالب، بل من الاقتصار على استعمالها، أي دون العناية بجعل لغتنا صورة لحياتنا. وأحسب أن لابد من اتخاذ هذه القوالب إلى حد ما. وكل لغة قديمة - ولاسيما إذا كانت قد ركدت زمنا ما - تصبح عبارة عن مجموعة من القوالب، ولكن اللغة الحية لا تزال تتسع بما يدخل فيها ويضاف إليها من العصور التي تتعاقب عليها. وحياة اللغة مستفادة من حياة أهلها ولا ذنب لها إذا جمدت وإنما يكون الذنب لهم: فإذا رأيت أناسا من أبناء عصر حديث له مظاهر حياة جديدة يكتبون بلغة قديمة في قوالبها - أي كالتي كان يكتب بها من سبقوهم بعشرة قرون أو عشرين قرنا بلا اختلاف ومن غير أن يحدثوا فيها جديدا يدل على أنهم تأثروا بعصرهم - إذا رأيت ذلك فاعلم أن هؤلاء أناس متخلفون وأنهم أشبه بالآثار الباقية منهم بالأحياء، وأن الأدب واللغة لا يكسبان شيئا بهم سوى زيادة الجمود إذا كان هذا مكسبا.
وغير منكور أننا لا نستطيع أن نفكر إلا بالألفاظ وقد يجيء زمان يستغني فيه المرء عن الاستعانة بالألفاظ على التفكير بل أنا أومن بأن هذا الزمان لا محالة آت وأن الإنسان سيستغني عن الكتابة والكلام في نقل ما يدور في نفسه من المعاني والخواطر والآراء والاحساسات إلى آخر ذلك - إلى نفس أخرى، ويكتفي بإرسال موجات يتلقفها غيره ويترجمها كما ترسل محطات الإذاعة موجاتها فتتلقفها آلات الراديو. ولكن إلى أن يجيء ذلك الزمان الذي يتيسر فيه الاتصال اللاسلكي بين نفوس الأفراد لا يسعنا إلا أن نفكر بواسطة اللفظ. فاللغة لا تزال أداة التفكير الذي لا نعرف له سواها؛ فإذا ظلت لغة من اللغات جامدة لا تتغير قوالبها ولا تتجدد ولا يدخل عليها جديد ولا يحدث فيها طريف ولا يؤثر فيها كر العصور ولا يترك فيها مر هذه العصور آثارا من حياتها فإن معنى هذا يكون أن أبناء هذه اللغة يفكرون على نحو ما كان يفكر أبناء زمان متوغل في القدم فهم يعيشون بأجسامهم في عصر ولكنهم بعقولهم يعيشون في عصر مضى وانقضى وانقرض واندثر.
وقد يكون العصر الماضي جميلا ولعل كل ما فيه كان حميدا ولكنه زال وجاء غيره بمظاهر حياة وأساليب تفكير وآمال ومخاوف وآداب وعادات مختلفة، فكيف لا يظهر هذا في لغة الكتابة والكلام؟. . وكيف يعقل أن تظل القوالب لا تتجدد ولا تتغير ولا تطرأ عليها زيادة من العصر الحاضر المؤثر بوجوده؟؟ أيكون ذلك من الكسل؟ أم هو من ضعف التأثر بهذا العصر؟ أم ترى الأحياء فيه جثث محنطة لها وجود ولكن ليس فيها حياة؟
ورأيتني وأنا أفكر في هذا أسأل نفسي سؤالاً لا يخلو من غرابة (أتراني أشبه أبي؟) وضحكت لما قلت ذلك، وقلت بالطبع أشبه أبي!. ما هذه السخافة؟. . وكيف أستطيع أن لا أشبهه؟ على أني لم أكن أعني المشابه العادية التي تكون بين الآباء والبنين فإن معمل الطبيعة لا يدعي ما تدعيه مصانع السيارات من إخراج طراز جديد في كل عام لا شبه له ولا صلة بطراز العام السابق؛ وإنما أعني هل أنا أحور شيئاً فشيئاً حتى أصبح صورة طبق الأصل من هذا الأب الفاضل؟؟ وناديت زوجتي وسألتها (أين صورة الوالد المحترم؟) فقالت:(إيه؟. . الوالد المحترم؟. . أي والد؟).
فقلت وأنا أضحك: (وهل لي غير والد واحد؟. إن كنت تعرفين لي غيره فقولي، ولك الأمان، ورحم الله الوالد والوالدة جميعاً) فقالت: (لا تمزح هذا المزح. . . عيب. . . وإنك
لتعرف أني أسألك عمن تعني - والدك أم والدي؟) فقلت: (كلا. لا حاجة لي بأبيك. . . ولا بأبي أيضاً في الحقيقة، ولكني أريد أن أراجع صورته أو على الأصح أن تراجعيها أنت) فجاءت بالصورة وهي غير فاهمة، فقلت:(تأمليها وتأمليني. إنهما منظران ليس فيهما سرور لأحد، ولكن تجلدي. . . فهل ترينني مثله؟. . هل لو لبست مثل هذه السترة الاستامبولية، وهذا الطربوش الطري، وتركت شاربي ينبتان، ويطولان، ويتهدلان، ودخلت عليك في ضؤ خافت، تظنينني أبي، نفض عنه كفنه وخرج من قبره، أو تحسبينني على الأقل عفريته؟).
فقالت: (لا أدري لماذا هذه المقارنة ولكني أقول إن فيك منه مشابهة. . . كثيرة. . . ولكنك مختلف. . حتى النظرة مختلفة. . . نظرته نظرة رجل حليم كريم وديع أما أنت. . .) فصحت بها: (احترسي!. . ليست هذه فرصة لبسط لسانك الطويل فيّ. . .) فقالت: (لا. . . ولكن الحقيقة أن نظرتك مختلفة. . . فيها شئ آخر. . . الشبه موجود ولاشك، والذي يراكما يعرف، وان كان لا يعرفكما، انه لابد أن يكون أخاً أكبر، أو أباً أو جداً، على التحقيق. . . ولكن هناك اختلافاً لا أدري كيف أصفه) قلت: (لا تتعبي نفسك. . . يكفي أني مختلف. . . ولو كان حيا لاستطعت أن أتبين في أي شئ من الحقائق المطوية تختلف، ولكنه تَسرَّع. . . على كل حال أحمد الله. . . لقد كنت أخاف. . . كيف أقول؟ أخاف أن أظل أرتد وأرتد، حتى أصير مثله تماماً بلا فرق) فسألتني: (ولماذا تخاف هذا؟) قلت: (لو حدث هذا لأصبحت صورة مكررة. . . نسخة معادة. . . طبعة ثانية لا تختلف عن الأولى إلا في زمن الصدور. . . أي زيادة لا داعي لها ولا مزية. . . ولكان وجودي تكلفاً لا مسوغ له، وإسرافاً غير جائز، وعناء باطلاً لا جدوى منه. . . وسبحان ربي عن ذلك. . . وكنت أخاف شيئاً آخر. . . أن يضطرني ما يحوجني إلى العجلة إلى ترك أسلوبي الكتابي يفسد وينحط بأن يفقد صلته بالحياة وبأن يصبح عبارة عن قوالب قديمة مرصوصة فأكون كالمقاول الجاهل الذي لا يعرف غير طراز واحد من هندسة البناء. . . أتعرفين أن عندنا في مصر (مقاولين) أخصائيين في بناء المقابر؟ لو تركت أسلوبي يفسد بالإهمال والكسل لأصبحت كهذا الذي لا يبني إلا القبور وما إليها. . . ولكني تنبهت والحمد لله فسأكون من هذا بعد اليوم على حذر. . . ولو اتسع وقتي لراجعت ما كتبت أو كتبته من جديد، ولكن ما
فات مات، والعبرة بما هو آت، وعليك يا امرأة أن تجدديني، أو على الأقل أن تحثيني على التجدد، كلما رأيتني أهم بأن أجمد وأركد، وهذا خير ما تستطيعين أن تفعلي، إذا كنت تستطيعين شيئاً).
إبراهيم عبد القادر المازني
كتاب مستقبل الثقافة في مصر
الثقافة العامة
وتعليم اللاتينية واليونانية
للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك
يثير الدكتور طه حسين (في كتابه مستقبل الثقافة في مصر) مسألة (اللاتينية واليونانية) بشكل يستلفت الأنظار ويستدعي الاهتمام:
يستهل كلامه الطويل عن هذه المسألة (ص285 - 302) بقوله: (إن وزارة المعارف لا تريد أن تقف عندها ولا أن تفكر فيها، لأنها غريبة بالقياس إليها، بل هي غريبة شاذة بالقياس إلى الكثرة العظمى من المثقفين المصريين، مع أنها في نفسها، من أوضح المسائل وأجلاها. . .).
ثم يستعرض الأدوار التي مرت على هذه المسألة في مصر، ويشرح بإيجاز كيف (أن صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا كان قد شعر بخطر هذه المسألة وهم بحلها) عندما كان وزيراً للمعارف. فقد بدأ بإدخال اللاتينية واليونانية في بعض المدارس الثانوية، وأقر تعليم هاتين اللغتين في الجامعة - بالقياس إلى كليتي الآداب والحقوق - غير أنه لم يمض زمن طويل على ذلك، حتى ألغيت اللاتينية واليونانية من المدارس الثانوية، وقام (صراع عنيف حول إقرار اللاتينية بالقياس إلى كلية الحقوق، وانتهى هذا الصراع بانتصار خصوم اللاتينية. . .).
يصف الدكتور طه حسين (الحالة الحاضرة) التي نجمت عن ذلك بأشد أوصاف اللوم وأعنفها، فيبذل في حديثه كلمات (المضحك، المخجل، المخزي. . .) ويوصل الأمر إلى درجة استعمال ألذع التعبيرات وأقرصها، من (الرضاء بالهوان) إلى (الاستخدام أمام الأوربيين) و (الاطمئنان إلى الخزي المبين). . .
وذلك لأنه يعتقد بضرورة اللاتينية واليونانية للثقافة العالمية، ويعبر عن اعتقاده هذا بكلمات باتة:
(أنا مؤمن اشد الإيمان وأعمقه وأقواه، بأن مصر لن تظفر بالتعليم الجامعي الصحيح، ولن
تفلح في تدبير مرافقها الثقافية الهامة، إلا إذا عنيت بهاتين اللغتين، لا في الجامعة وحدها، بل في التعليم العام قبل كل شئ (ص 281).
لأن (اللاتينية واليونانية أساس من أسس العلم والتخصص)(ص 285) فيجب أن تفرضا على (كل من يريد العلم الخالص والتخصص فيه)(ص 276) و (لأن التعليم العالي الصحيح لا يستقيم في بلد من البلاد الراقية إلا إذا اعتمد على اللاتينية واليونانية على أنهما من الوسائل التي لا يمكن إهمالها والاستغناء عنها. . .)(ص 292).
ولهذا السبب، يوجه الدكتور إلى معارضيه السؤال التالي، ويجيب عليه بالملاحظات التي تليه:
(والسؤال الذي يجب أن نلقيه وان نجيب عنه في صراحة وإخلاص وفي وضوح وجلاء هو هذا السؤال: أنريد أن ننشئ في مصر بيئة للعلم الخالص تشبه أمثالها في البيئات العلمية في أي بلد من البلاد الأوربية الراقية أو المتوسطة أم لا نريد؟ فإن كانت الثانية فقد خسرت القضية، وليست مصر في حاجة إلى يونانية ولا إلى لاتينية، وليست مصر في حاجة إلى الجامعة وإلى كلياتها بل حسها أن تعود إلى عهدها أيام الاحتلال، وان تسير سيرة المستعمرات وتكتفي ببعض المدارس العالية لتخريج من تحتاج إليهم من الموظفين. وإن كانت الأولى فقد ربحت القضية، ولا بد من العناية بهاتين اللغتين لا في الجامعة وحدها، بل في المدارس العامة أيضا (288).
يظهر من هذه العبارات أن الدكتور يعتبر هاتين اللغتين من لوازم الجامعة الأساسية، ويدعي أن عدم العناية بهما لا يختلف كثيراً عن طلب إلغاء الجامعة نفسها، ويرى بأن ذلك لا يجوز إلا إذا طُلب من مصر أن تعود إلى عهدها أيام الاحتلال وأن تسير سيرة المستعمرات. . .
وقد يخطر على بال القارئ أن يسأل مستغرباً: إذا كانت المسألة بهذه الدرجة من الوضوح والجلاء فكيف وجدت هذه المقاومة وهذا الازورار في دوائر المعارف ومحافل المثقفين؟ إن الدكتور يبدي هذا الاستغراب فيقول: (ومن اغرب الأشياء في نفسي وأبعدها عن فهمي ألا يفطن لها ولا يهتدي إليها الذين ينهضون بشئون مصر ويقومون على تدبير الأمور فيها، والذين يشرفون على التعليم فيها بنوع خاص. . .)(ص 281).
يبحث الدكتور - مع هذا - عن أسباب هذه المقاومة عدة مرات، فيعزوها مرة إلى عوامل عرضية مثل استياء الإنكليز من انتخاب معلمي هاتين اللغتين من الفرنسيين والبلجيكيين (ص 275)، أو كيد أستاذ من أساتذة كلية الحقوق للعميد الأول لكلية الآداب الحكومية (ص279)، غير انه يعزوها في المرة الثانية إلى عوامل أساسية تتلخص - من حيث الأساس - في نقص (ثقافة القائمين بشئون التعليم في مصر)(ص281).
يقول المؤلف في هذا الصدد: (وأكبر الظن أن مصدر هذا إنما هو أن الجيل الحاكم والمرتقي إلى الحكم لا يتقن العلم بالشئون الثقافية في أوربا ولا يكاد يعرف منها إلا ظواهرها، وظواهرها الغريبة اليسيرة التي لا يحتاج فهمها ولا العلم بها إلى جهد ولا عناء)(ص 281).
إذ أن (منهم من تعلم في المدارس المصرية وانتهى إلى غاية التعليم العالي المصري أيام الاحتلال، ثم وقف عند ذلك ولم يتجاوزه فلم يعرف من حقيقة التعليم شيئاً أو لم يكد يعرف منه شيئاً. .)(ص 281) ومنهم (من اتصل بالجامعات الأوربية قبل أن يتم التعليم العالي في مصر أو بعد أن أتمه فدرس فيها وظفر ببعض إجازاتها، ولكنه درس فيها عجلاً وظفر بأيسر إجازاتها وأهونها وانتفع في هذا كله بنظام المبادلات التي تقره الجامعات الأوربية لتيسر على الأجانب الاختلاف إليها وترغبهم في الاتصال بها. . .)(ص 282)، ولذلك عاد من أوربا دون أن يعرف (من الحياة العقلية الأوربية إلا ظواهرها وأشكالها. . .)(ص283).
وإن (بين الذين ذهبوا إلى أوربا وعادوا منها وبين الذين أقاموا في مصر واتصلوا بأوربا بعض الاتصال، من ألمّ إلماماً يسيرا بل إلماماً ناقصا مشوها بهذه الخصومة التي قامت في أوربا منذ أواخر القرن الماضي بين الديمقراطيين والمتطرفين من جهة، وبين المعتدلين والمحافظين من جهة أخرى حول تعليم اللاتينية واليونانية. . .)(284)(إنهم فهموا هذه الخصومة على غير وجهها الصحيح، وظنوا أن التجديد يقتضي بغض هذه الأشياء القديمة). . . (ولم يخطر لهم أن يتعمقوا هذه الخصومة ولا أن يتبينوا موضوعها وغاياتها. . .)(ص 285).
إن المقاومة التي تلقاها اللاتينية واليونانية في مصر نشأت من هذا النقص الأساسي. فلو
خطر لهؤلاء أن يتعمقوا هذه الخصومة لعرفوا أن موضوعها (لم يكن ضرورة هاتين اللغتين للثقافة والحضارة، وإنما كان ضرورة فرضهما على جميع التلاميذ الذين يختلفون إلى المدارس الثانوية ويتصلون بالتعليم العالي على اختلاف فروعه وألوانه لا سيما بعد أن انتشر التعليم وطمعت فيه الطبقات كلها طبقات الأغنياء والفقراء وأوساط الناس. .)(ص 285).
يحاول الدكتور أن يصحح مزاعم هؤلاء فيؤكد أن (موضوع الخصومة كان في حقيقة الأمر هذه المسألة: أيجب أن يتهيأ الناس جميعا للعلم والتخصص ليصبحوا جميعاً قادة للرأي ومديرين للأمور العامة، أم يجب أن يتهيأ بعضهم لحياة العلم والتخصص، وأن يتهيأ أكثرهم للحياة العاملة التي تيسر لهم الاضطراب في طلب الرزق وكسب القوت؟ فإن تكن الأولى فلا بد من اللاتينية واليونانية لأنهما أساس من أسس العلم والتخصص؛ وإن تكن الثانية فكثرة الناس محتاجة إلى التعليم الفني من جهة، وإلى التعليم العام الحديث الذي يعرض عن اللاتينية واليونانية إلى اللغات الحية والعلوم التجريبية، بشرط أن تظل اللاتينية واليونانية مفروضتين على كل من يريد العلم الخالص والتخصص فيه. . .)(ص285 - 286).
مع هذا، يلاحظ الدكتور طه حسين - في محل آخر من كلامه - أن المقاومة التي تلقاها اللاتينية واليونانية في مصر، لا تنحصر في دوائر المعارف، بل تشمل معاشر المثقفين بأجمعها. . إنه يلاحظ ذلك أيضا، ويعلله (بالعادة لا أكثر ولا أقل) إذ يقول:(انهم لم يتعلموا اللاتينية واليونانية، ولم يسمعوا بهما أثناء اختلافهم إلى المدارس العامة؛ وقد رأوا مصر تعيش عيشتها الحديثة من غير هاتين اللغتين، فلم يترددوا فيما انتهوا إليه من الاقتناع بأن تعليم هاتين اللغتين تزيُّد لا حاجة إليه ولغو لا خير فيه. . .)(ص291).
وبعد ذلك، يكرر المؤلف دعوته إلى العناية بهاتين اللغتين اعتبارا من الدراسة الثانوية؛ فيقترح تنويع التعليم الثانوي إلى ثلاثة أنواع، على أن يستند النوع الواحد منها إلى تعليم اللغات القديمة. يفرض فيه (على الطالب درس اللاتينية ولغة أجنبية حية، ويترك له الخيار بين اللغة اليونانية ولغة أوربية أخرى) ويحتم الانتساب إلى هذا الفرع على (كل من أراد أن يهيئ نفسه بعد الثقافة العامة للدراسات الأدبية المختلفة) بما فيها الفلسفة والتاريخ
والجغرافيا. . . (ص301).
لا يجهل المؤلف المقاومة التي ستلقاها فكرته هذه من مختلف المحافل والبيئات فيقول: (أنا أسمع في أثناء إملائي هذه الكلمات صياح الصائحين وأحس هياج الهائجين، وأشعر بما سيثور من سخط، ولكني مع ذلك مقتنع بما أقول، مذعن بصواب ما أدعو إليه، ملح في هذه الدعوة، غير حافل بالرضا ولا بالسخط، ولا مُعنى إلا بما أعتقد أنه يحقق المنفعة الثقافية للمصريين. . .)(ص300).
إن هذه الاقتباسات التفصيلية، التي لخصت فيها آراء الدكتور طه حسين - دون أن أبدي شيئا من موافقتي لها أو اعتراضي عليها - تبين بكل وضوح وجلاء أن مسألة (اللاتينية واليونانية في مصر) تطورات تطورا غريبا ووصلت إلى طور حاد يحتاج إلى قرار حاسم.
هذه المسألة لم توضع على بساط البحث في محافل المعارف والتربية في سائر الأقطار العربية؛ غير أن إثارتها ومناقشتها في مصر بهذه الصورة مما يجب أن يحمل المحافل المذكورة أيضا على التفكير في أمرها، لتكوين رأي صريح فيها، واتخاذ قرار معقول في شأنها. . .
ولهذا السبب، رأيت من واجبي أن أتدخل في هذا البحث الذي يثيره الدكتور في كتابه، وأبدى ما لديّ من الملاحظات حول هذه المسألة. . .
إنني أعتقد أن الطريقة المثلى لحل أمثال هذه المسائل هي:
أولا: درسها من وجوهها الأوربية البحتة درسا صحيحا مجردا عن كل فكرة قبلية مع ملاحظة العوامل التاريخية التي أثرت عليها في الماضي والمذاهب الفكرية التي تحوم حولها في الحاضر. . وبعد ذلك الإقدام على التفكير في المسألة من وجهة أحوال بلادنا وحاجات أمتنا، مع الاستنارة بالاختبارات التي تكونت والآراء التي تبلورت حولها في أوربا.
وإني عملاً بما تقتضيه هذه الطريقة أبدأ بحثي بإلقاء نظرة إجمالية على تاريخ مسألة تعليم اللاتينية واليونانية في البلاد الغربية فأقول:
من المعلوم أن اللغة اللاتينية كانت لغة روما في القرون الأولى غير أنها صارت بعد ذلك
لغة الطبقة المديرة والمستنيرة في جميع أنحاء أوربا الغربية عند ما دخلت تحت حكم روما، كما أصبحت لغة الدين والصلاة في تلك البلاد عندما اعتنقت الديانة المسيحية؛ وأخيرا صارت من دعائم الكنيسة الكاثوليكية عندما تكونت الكنيسة المذكورة وأخذت تبسط سلطتها على جميع الدول والدويلات التي تدين بها. فقد تبنَّت الكنيسة اللغة اللاتينية واتخذتها واسطة لضمان وحدتها، ولذلك عملت على نشرها في جميع البلاد التي دخلت تحت حوزتها، حتى بعد تضاؤل سلطة الإمبراطورية الرومانية وزوالها بصورة نهائية. . .
وأما اليونانية فقد حافظت على كيانها في معظم البلاد التي انتشرت فيها بالرغم من استيلاء الرومان عليها، كما أنها أصبحت لغة الدولة بعد انفصال الشرق عن الغرب، وتكوّن الإمبراطورية الشرقية مستقلة عن إمبراطورية روما الغربية، كما أصبحت لغة الدين والصلاة في العالم الأرثوذكسي عندما اعتنقت الإمبراطورية المذكورة الديانة المسيحية. . .
بهذه الصورة تقاسمت اللغتان اللاتينية واليونانية السيطرة على الحياة الدينية في أوربا المسيحية، فأصبحت الطقوس والصلوات المسيحية تحت احتكار اللاتينية في أوربا الغربية في جميع البلاد التي اعتنقت المذهب الكاثوليكي، وتحت احتكار اليونانية في أوربا الشرقية - في جميع البلاد التي اعتنقت المذهب الأرثوذكسي - واستمر الحال على هذا المنوال طوال القرون الوسطى حتى حلول عصر النهضة وظهور البروتستانتية. . .
وأما الحياة الأدبية العلمية، في القرون الوسطى، فمن المعلوم أنها لم تجد من يزاولها ويهتم بها إلا من بين رجال الدين؛ فعاشت وترعرعت تحت ظلال الكنائس وفي أروقة الأديرة وارتبطت لذلك - هي أيضا - باللغة اللاتينية. فأصبحت هذه اللغة لغة العلم والأدب في جميع بلاد الغرب علاوة على كونها لغة الدين والصلاة. . .
من المعلوم أن اللاتينية تغلغلت في بعض البلاد الغربية بين جميع طبقات الناس، فأصبحت لغة العوام، وأخذت تتطور من جراء ذلك بصورة تدريجية إلى أن ولدت اللغات التي عرفت فيما بعد بالإيطالية، والفرنسية، والإسبانية، والرومانية. مع هذا ظلت اللاتينية الأصلية لغة الدين والصلاة، ولغة العلم والأدب، حتى في تلك البلاد، وحتى بعد تكون اللغات المذكورة واستقلالها عن دوحتها الأصلية.
إن الجامعات الأوربية والمعاهد التعليمية التابعة لها، أخذت تتأسس - في القرون الوسطى
- في دور سيطرة اللاتينية على الحياة الفكرية والدينية سيطرة تامة، ولذلك اعتمدت على اللاتينية كلغة تعليم في جميع فروعها.
في الواقع كانت الجامعات المذكورة أدخلت في مناهجها مدة من الزمن تعليم اللغات العربية والعبرية واليونانية أيضاً. . . العربية لكونها مصدر العلوم في تلك القرون، والعبرية لكونها لغة الكتاب المقدس القديم، واليونانية لكونها لغة الأناجيل الأصلية. . . غير أن العربية والعبرية خرجتا بعد مدة من ميدان مشاركة اللاتينية في التعليم؛ وظلت اليونانية اللغة الوحيدة التي تساعد اللاتينية في مهمتها العلمية والتعليمية؛ وقد رسخت قدماها في هذا الميدان - بمرور الزمن، ولا سيما بعد أن بدأ الاهتمام بخزائنها العلمية والأدبية.
إن معاهد التعليم الثانوي التي تأسست لتهيئة الطلاب للجامعات تأثرت بهذه الحالة العامة، فاعتبرت اللاتينية أساس كل شئ، ولم تشرك بها لغة غير اليونانية في بادئ الأمر.
إن تاريخ التعليم في فرنسا يقدم تفاصيل وافية عن أحوال تلك المدارس ومناهجها الدراسية وتعليماتها الإدارية. ونفهم من تلك التفاصيل أن المدارس الثانوية في القرن السادس عشر كانت بمثابة مدارس لاتينية بكل معنى الكلمة: لا يدرس في سنتيها الأوليين شئ غير اللاتينية؛ ثم يضاف إليها في السنة الثالثة مبادئ اللغة اليونانية، وفي السنة الأخيرة بعض المسائل الرياضية. وأما اللغة الفرنسية أو العلوم الأخرى، فلم تشغل أي حيز كان في مناهج الدراسة، حتى إن التكلم باللغة المذكورة كان يعتبر من الأمور الممنوعة على المعلمين والطلاب في خلال الدرس أو بعد الدرس، في داخل الصف أو في خارج الصف. . . وهذا المنع كان مؤيداً بعقوبات عديدة وشديدة. . .
(يتبع)
أبو خلدون
جناية أحمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
- 9 -
كتب إلينا أحد القراء يرجونا أن نترك السخرية من الأستاذ أحمد أمين ونكتفي في الرد بشرح ما خفي عليه من الحقائق الأدبية، ويستكثر أن نقول في السخرية من هذا الصديق:
(إن الأستاذ أحمد أمين لن يفهم الفروق بين دقائق المعاني إلا يوم يعرف أن الأدب لا يكال بمكيال).
ولكن ما الذي نصنع والأستاذ أحمد أمين هو نفسه الذي يثير غضبنا عليه؟
ألم يحكم بأن الشعر العربي في جميع عصوره تشابه بحيث لا يمكن تمييز شاعر من شاعر إلا بعد قراءة ترجمته؟ (ولو تأمل لعرف أن أشعار الشعراء أدل على أصحابها من الترجمات). وهل يقع هذا الحكم من رجل إلا وهو يعتقد أن الأدب يكال بمكيال؟
إنكم نسيتم أن أحمد أمين أستاذ بكلية الآداب، وهي في الصدر بين معاهدنا العالية، وأساتذة كلية الآداب لا يجوز عليهم الظن بأن الشعر العربي تشابه في مختلف عصوره وأقطاره تشابهاً يقضى بألا نستطيع التمييز بين ديوان إلا بعد مراجعة تراجم الشعراء.
وعند من نرجو تمييز العصور بعضها من بعض إذا خفي ذلك على أساتذة كلية الآداب؟
وقد حدثتكم من قبل أن حكم الأستاذ أحمد أمين في هذه القضية محال في محال، فما يجوز أبداً أن يخفى على الناقد أن هناك فروقاً كثيرة جداً بين العصور الأدبية؛ ولو شئت لقلت إن الشاعرين قد يعيشان في عصر واحد، ومع ذلك يختلفان اشد الاختلاف في طرائق التعبير وفي عرض المعاني. وهل يتشابه شعر مسلم بن الوليد وشعر أبي نواس وهما متعاصران؟ هل يتشابه شعر أبي العتاهية وشعر العباس بن الأحنف وقد نشئا في عصر واحد؟ هل يتشابه شعر أبي تمام وشعر البحتري وهما من عصر واحد ومن قبيلة واحدة؟ وهل يتشابه شعر الرضى وشعر مهيار وهما متعاصران وكان بينهما من الصلات ما بين الأستاذ والتلميذ؟
ومنذ عشرين سنة كان في مصر ثلاثة من الشعراء قد ائتلفوا في المشارب والأذواق اشد الائتلاف حتى صح لبعض النقاد أن يسميهم (الثالوث) وهم إبراهيم المازني وعباس العقاد
وعبد الرحمن شكري، وكانوا قد كوّنوا جبهة أدبية لنشر لواء الأدب الحديث، فهل يصح لناقد أن يتوهم أن هؤلاء الشعراء الثلاثة تشابهوا في الأغراض وفي تأدية المعاني؟
وكان حافظ وشوقي وصبري ومطران وعبد المطلب متعاصرين فهل تشابهوا في الخصائص الشعرية؟
وما يقال في الشعر يقال في النثر، فما يجوز لناقد أن يتوهم أن الصاحب وابن العميد والتوحيدي يكتبون بأسلوب واحد مع أنهم متعاصرون.
وما يجوز أن يقال إن المويلحي الصغير يشابه المويلحي الكبير في ألفاظه ومعانيه مع أن الأول ابنٌ للثاني وعنه اخذ، وبأدبه تثقف، وأفاد من صحبته ورعايته ما أفاد.
وكان علي يوسف ومحمد عبده وفتحي زغلول ومصطفى كامل متعاصرين، فهل يمكن القول بأنهم متشابهون في الخصائص النثرية؟
وكان محمد الخضري ومحمد المهدي قد تخرجا في معهد واحد وصارا في التدريس زميلين في مدرسة القضاء الشرعي وفي الجامعة المصرية، أفيجوز أن يقال إنهما في التدريس وفي الإنشاء متماثلان؟
وفي عصرنا كاتبان يحتفلان بالأسلوب اشد الاحتفال وهما: البشرى والزيات، فهل هما متشابهان؟ وقد تأثر عباس حافظ بالسباعي فهل هو صورة من السباعي؟ هيهات، فلكل منهما أسلوب خاص.
والأمر كذلك في سائر الفنون: فقد كان محمد عبد الوهاب من تلاميذ سيد درويش، وهما مع ذلك متباعدان اشد التباعد في الاتجاهات الموسيقية والغنائية.
فكيف جاز للأستاذ أحمد أمين أن يحكم بأن شعراء العرب على اختلاف عصورهم وأقطارهم قد تشابهوا بحيث لا يمكن تمييز بعضهم من بعض إلا بعد الاطلاع على كتب التراجم؟
إن هذا لا يقع إلا من ناقد يتوهم أن الأدب يكال بمكيال ولو كان أستاذا في كلية الآداب.
لو كان أحمد أمين قد عكف على دراسة الأدب منذ فجر حياته العلمية لعرف أن الناقد البصير يدرك جيداً أن الشاعر الواحد له في حياته الشعرية أساليب مختلفات.
ألم تسمعوا أن ديوان ابن الفارض يشتمل على فنون من التعابير ومن الأغراض بحيث
يصح أن يقال هذا شعر الكهولة وذاك شعر الشباب؟
ألم تسمعوا أن بغداد نقلت شعر ابن الجهم من حال إلى أحوال؟
ألم تسمعوا أن أشعار المتنبي في مصر لها ألوان تخالف ألوان شعره في الشام والعراق؟
إن صديقنا أحمد أمين يتوهم أن وحدة القوافي والأوزان توجب وحدة المعاني والأغراض، فهو لذلك يعتقد أن ديوان ابن خفاجة صورة من ديوان ابن زيدون، ويؤمن بأن شعراء مصر لم يكونوا إلا صورة من شعراء العراق.
ومثله في ذلك مثل من يظن أن الناس خلقوا جميعاً على طراز واحد لأنهم جميعاً لهم وجوه فيها أنوف وجباه وأفواه وعيون، وآذان. وهذا والله حق: فكل إنسان له عينان وشفتان وأذنان، وهو يمشي على اثنتين لا على أربع، ولكن هل يمكن القول بأن بنى آدم مع هذا التشابه خلقوا على طراز واحد؟
كيف يجوز هذا القول والتوأمان قد يختلفان اختلافاً بيناً في معارف الوجوه وفي خصائص الذاتية وفي فهم الأشياء؟
ما كنت أظن أني سأجتاح إلى توضيح الواضحات في الرد على الأستاذ أحمد أمين، ولكنه قهرني على سلوك هذا المسلك الشائك لأدفع أوهامه عن أذهان القراء وفيهم من يظن أنه أبعد نظراً من حزام حين يقول في أدب المعدة وأدب الروح ما يقول.
المهم أن يعرف القراء أننا لا نتجنى على الأستاذ أحمد أمين، وإنما نريد أن يفهموا أن للحقائق الأدبية وجوهاً مختلفة يدركها حق الإدراك من ينظر إليها نظر الفهم والاستقراء. أما الذين يواجهون الأدب بلا تأمل ولا تثبت فقد يخفى عليهم الدقائق الفنية ولا يظهر لأعينهم غير ما يحبون أن يدنوه من الهنوات ليقال إنهم مصلحون لا يهمهم غير التنبيه على العيوب.
وما نقول بأن الأدب العربي كان في جميع أطواره منزها عن الضعف، وإنما ننكر أن ينظر الرجل إلى الأدب العربي نظرة الاستخفاف ليهون من شأنه بلا بينة ولا برهان.
وفي أي عصر يستبيح بعض الناس هذه الألاعيب؟
في العصر الذي يريد فيه العرب أن يستوثقوا من أن لهم ذاتية أدبية ليقاوموا طغيان الآداب الأجنبية، وليقيموا مجدهم الأدبي على أصول ثوابت من عظمة أسلافهم في التاريخ.
ولو أن الكلام الذي قاله الأستاذ أحمد أمين وقع من رجل غيره لقلنا انه يشايع أعداء العروبة والإسلام، ولكن الأستاذ أحمد أمين بالتأكيد سليم الضمير من هذه الناحية، فهو لم يخطئ عن عمد، معاذ الله، وإنما أخطأ عن جهل، فكان تنبيهه من أوجب الواجبات. ولعله يراجع نفسه فيعرف أننا لم نقدّم إليه غير الجميل.
وهل نحتاج إلى إقامة الدليل على حسن النية فيما صنعنا مع هذا الصديق؟
لقد كان ناس يتوهمون أننا حاربنا الدكتور طه حسين لأغراض شخصية، وكان الدكتور طه يلوذ بظل هذا التوهم فلم ينبر للرد علينا غير ثلاث مرات، أو أربع مرات، بأسلوب واضح صريح؛ ثم شاء له الحذر والاحتراس أن يوهم قراءه وسامعيه بأننا نحاربه لغرض خاص وأنه يرى من العقل ألاَّ يقدم الوقود للأغراض الشخصية. ثم دارت الأيام واعترف الدكتور طه علانية أمام جمهور من أقطاب الرجال بأن زكي مبارك من أصحاب العقائد في حياته الأدبية ويجب أن ينظر المنصف إلى مصاولاته في النقد الأدبي بعين الرفق والعطف.
فكيف جاز للأستاذ أحمد أمين أن يهرب من الرد علينا بحجة أننا نشتمه ونؤذيه بلا سبب معقول، ثم يكتفي بأن يوجه إلينا أبياتاً فيها لوثة جاهلية لا تصدر عن رجل في مثل آدابه العالية، وهو يعرف في سريرة قلبه أننا أصدقاء منذ عهد بعيد، ويعرف أني احفظ له من الود ما لا يحفظه إلا الأقلون؟
وكيف جاز له أن يظن أني تآمرت مع صاحب (الرسالة) عليه، مع أن مقالاتي في الرسالة قد تنتهي بخصومة بيني وبين الزيات، لان الزيات سامحه الله قد حذف من مقالاتي فقرات كثيرة رعاية لصديقه العزيز أحمد أمين؟
أتريدون الحق أيها القراء؟
الحق أني أعيش في غربة موحشة بين إخوان هذا الزمان فالأستاذ أحمد أمين كان ينتظر أن أمتشق قلمي لتزكية أحكامه الخواطئ على الأدب العربي، والأستاذ الزيات كان ينتظر أن أرد على أحمد أمين بأسلوب رقيق شفاف يحاكي نسائم الأصائل والعشيات على ضفاف النيل!
فكيف غاب عن هذين الصديقين أني رجل له غضبات؟
كيف غاب عن هذين الصديقين أن الأدب العربي وصل إلى دمي وروحي وأني أزدري من
يستهينون به أشد الازدراء؟
إن الأدب العربي هو الصورة الناطقة من ماضي الأمة العربية وهو في الواقع أدب أصيل لا يستهين به إلا حاقد أو جهول، وهو كذلك صورة من العِرض المصون في عهود التاريخ، فكيف يجوز أن نسامح من يفترون عليه أقبح الافتراء ولو كانوا من كرام الأصدقاء؟
الله يشهد أني متوجع لما صنعت بالأستاذ أحمد أمين، وهو رجل له ماضٍ في خدمة الدراسات الإسلامية، وله مواقف في مؤازرتي سأذكرها وإن طال الزمان؛ ولكنه في الأعوام الأخيرة أصيب بمرض عضال هو السخرية من ماضي الأمة العربية، وأُغرم بضرب من الحذلقة لا يقره عليه غير الأصحاب المتلطفين الذين لا يهمهم غير الاقتراب من روحه اللطيف!
والأدب القديم الذي يتنكر له أحمد أمين هو نفسه الأدب الذي لم يستنصر بغيره حين جاز له أن يشتمنا وهو ظلوم.
الأدب القديم يقول: (أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك) فإن توجع هذا الصديق مما أسلفنا في الهجوم عليه فمن واجبه أن يذكر أننا أدينا لمصر خدمة عظيمة حين واجهناه بالملام، فقد كان من المنتظر أن يشرب الكأس المرة من النقاد في الشام ولبنان والحجاز والعراق واليمن وتونس والجزائر ومراكش، وما إلى هؤلاء من الأقطار التي تساير الآداب العربية.
قد يقول قائل: وما معنى هذا الكلام؟ أيكون معناه أني أشفق على الأستاذ أحمد أمين بعد أن أصليته نار العذاب؟
هو ذلك، فما كان أحمد أمين إلا نباتاً مصرياً وإن عرّض مصر لأشنع ضروب المهلكات.
أحمد أمين رجل فاضل وإن تردى في هاوية العماية والجهل حين حكم بأن أدباء العرب كانوا أصحاب معدات لا أصحاب أرواح.
وما كان لي أن أطيل في شرح هذه المعاني لولا أن عرفت أن رجالا لهم أقدار عالية دعوني إلى مسالمة هذا الصديق.
فليعرفوا - غير مأمورين - أني لا أهجم عليه إلا ابتغاء وجه الحق، ولن أتركه في أمان حتى يعرف أن الأدب العربي أقوى وأعظم من أن يتعرض له باحث بسخرية واستخفاف،
وسوف يرى عواقب ما يصنع إن تغطرس واستطال.
أما بعد فقد كان موضوع هذا المقال هو النص على خطأ هذا الصديق في السخرية من الأدب الأندلسي.
فهل اتفق لهذا الصديق أن يدرس أدب العرب في الأندلس؟
إني لا أزال أذكر كيف أحرجني تلاميذي بدار المعلمين العالية في بغداد، فقد حدثتهم مرة عن قيمة أحمد أمين فانبرى أحدهم يقول: إن أحمد أمين من ذيول المستشرقين. فقلت: وكيف كان ذلك؟ فقدموا إليَّ مقدمة الجزء الثالث من كتاب ضحى الإسلام وفيها يصرح المؤلف بأن تصميم الكتاب كان يوجب أن يكون له جزء رابع خاص بالأندلس، ولكن أحد المستشرقين نبهه إلى أن الأندلس في ذلك العهد لم تكن فيه حياة عقلية تستوجب أن يفرد لها جزء من كتاب، فانصرف عن تأليف ذلك الجزء المنشود!
وفي مساء ذلك اليوم كان عندنا العشماوي بك والدمرداش محمد، ودار الحديث حول المؤلفين المصريين فانبرى الأستاذ الدمرداش يثني على الأستاذ أحمد أمين فقلت: ولكن أحمد أمين صرح في مقدمة الجزء الثالث من ضحى الإسلام بكيت وكيت، فقال: هذا مستحيل، هذا مستحيل. ولولا حضور العشماوي بك لثارت معركة بيني وبين الأستاذ الدمرداش!
والحق كل الحق أن الأستاذ أحمد أمين لا يعرف الأندلس إلا معرفة سطحية. وآية ذلك أن الأدب الأندلسي لم يدرس في كلية الآداب منذ عشر سنين.
فهل نستطيع مرة ثانية أن نتلطف فندعو الأستاذ شفيق غربال إلى إنشاء كرسي للأدب الأندلسي في كلية الآداب؟
قد يعتذر العميد الجديد بأن الدكتور طه حسين صرح مرة بأنه لا يجوز لأستاذ أن يتصدر لتدريس الأدب الأندلسي وهو لم يطلع على غير كتاب نفح الطيب.
ولكني أؤكد للأستاذ شفيق غربال بأن مصر لا تخلو من رجال درسوا الأندلس في المصادر العربية والمصادر الأجنبية، ولهم قدرة على تجلية ذلك الأدب بأسلوب رائع جذاب، وهو خليق بأن ينتفع بمواهبهم حين يشاء.
وبأي حق تكون كلية الآداب أعظم معهد أدبي في الشرق إذا عز عليها أن تحيط بتاريخ
العرب في الأندلس من نواحيه الأدبية والفلسفية والتشريعية؟
وكيف يجوز أن يعجز علماء مصر عما قدر علية علماء الفرنسيين والإنجليز والأسبان؟
إن مصر هي بلا جدال أعظم الأمم الإسلامية والعربية في الشرق. فكيف تعجز عن درس تاريخ العرب والمسلمين في الغرب؟ وكيف يصح لأبنائها أن يكونوا عالة على المستشرقين في الشؤون العربية والإسلامية حتى يجوز لأحد أساتذة كلية الآداب ألا يتقدم في أبحاثه أو يتأخر إلا بعد أن يظفر من المستشرقين بإذن خاص؟
قد تقولون: وهل انحصرت التبعات العربية في كلية الآداب؟
وأجيب بأن كلية الآداب تأخذ من أموال الدولة أعظم مما تأخذ سائر المعاهد المشغولة بالدراسات الأدبية والفلسفية، فهي مسئولة عن درس فتوحات العرب والمسلمين في المشرق والمغرب، وإليها المرجع في توجيه الشبان إلى فهم ماضيهم المجيد في خدمة الحضارة والمدنية، وإقناعهم بأن أسلافهم سادوا العالم بضعة قرون، ولذلك تأثير كبير في خلق الجيل الجديد.
فهل يعترف بذلك صديقنا أحمد أمين؟
وهل تعترف به الجامعة المصرية؟
لقد قضيتَ نحو خمسة عشر عاماً وأنا أدعو إلى تدريس العلوم باللغة العربية في كليات الجامعة المصرية، فكان المتخلفون من أساتذة العلوم يعتلون بأن اللغة العربية تعوزها المصطلحات في كثير من الشئون، وظلوا على تهاونهم إلى أن كتب معالي الدكتور هيكل باشا إلى سعادة مدير الجامعة يقول: إنه لا يفهم كيف تعجز اللغة العربية عن تأدية المعاني العلمية. وكانت تلك الإشارة كافية لأن يعرف أساتذة الكليات أن تدريس العلوم باللغة العربية ليس بالمستحيل، وكانوا يرونه قبل ذلك أبعد من المستحيل!
لقد قضت الجامعة المصرية أعواماً طوالاً وهي تدرس العلوم باللغات الأجنبية، ولم تعرف وجه الحق في إعزاز اللغة القومية إلا بعد أن ينبهها وزير المعارف، أثابه الله وجزاه خير الجزاء!
فهل يعلم الذين قاوموا هذه الفكرة من قبل أن الجامعة العبرية بالقدس تدرس جميع العلوم باللغة العبرية مع أن لغة بني إسرائيل ليس لها ماض في خدمة العلوم، ومع أن النوابغ من
اليهود كانوا يعبرون عن أغراضهم بلغات أجنبية، ولم يفكروا يوماً في خلق عصبية للغة العبرية قبل فكرة الصهيونية؟
اللغة العبرية تصلح لتدريس جميع العلوم وهي في فقر مُدقع؛ أما اللغة العربية فتعجز عن تدريس العلوم مع أنها كانت لغة دولية في مدة دامت نحو خمسة قرون، ومع أنها استطاعت أن تحفظ الذخائر مما خلّف الفرس واليونان!
صلحت اللغة العبرية لتدريس جميع العلوم لأن اليهود أرادوا أن يخلقوا لأنفسهم ذاتية قومية، وقد نجحوا في ذلك إلى حد بعيد أما اللغة التي يتكلمها أقوام يشارفون مائة مليون والتي أمدت بحيويتها كثيرا من اللغات الشرقية، والتي تنزل في أنفس الملايين منزلة التقديس، والتي تحتل أقطاراٌ حملت أعباء المدنية في مختلف عهود التاريخ، والتي خُدِمتْ خدمة لم تظهر بمثلها لغة من لغات الغرب، والتي عجز الدهر عن تبديد ما تملك من ذخائر ونفائس، والتي سخّر الله لخدمتها مئات من الأجانب في الجامعات الأوربية والأمريكية.
هذه اللغة الفنية - لغة العرب - هي اللغة التي يقال إنها تعجز عن تأدية الأغراض العلمية، بفضل حذلقة السادة الأفاضل الذين يرون في تجريحها بابا من الشهرة والنباهة وبعد الصيت!
وأعيذ القارئ من الاستهانة بقيمة هذا الاستطراد: فهو متصل بدفع سخرية أحمد أمين من الأدب العربي، وإنما عبنا عليه تلك السخرية لأنها من الشواهد على أنه غير موصول الأواصر بذلك الأدب الرفيع. فلو أن أحمد أمين كان تذوق أدب العرب لأصبح مجنون ليلاه، ولكنه مر به مرور العابرين من أبناء السبيل، وقديماً قال الحكماء:(من جهل شيئا عاداه).
وهنا شبهة يجب تبديدها لينتهي أحمد أمين. فهذا الرجل يرد علينا قائلا: إن الأدب يخدم بالنقد أكثر مما يخدم بالتقريظ. وهذا حق، ولكن هل يدرك المراد من النقد؟
النقد هو في الأصل تمييز الزائف من الصحيح فيدخل فيه اللوم ويدخل فيه الثناء، ولكن أحمد أمين يتوهم أن النقد مقصور على التجريح، ويرى الكلمة الطيبة بابا من التقريظ، وهو عنده معيب. ونحن نقول بلا تردد إن الأدب العربي أدب أصيل والزائف منه لا يقام له وزن بجانب الصحيح، فكيف انحرف بصره عن المحاسن ولم يشهد غير العيوب؟
وهل في الأدب حُسنٌ وقبح؟
الأدب جِدُّه جِدٌّ وهزله جُّد، ولا يعاب عليه إلا ما غلب عليه التكلف والافتعال، كالذي يقع من بعض الناس حين ينشئون مقالات لم تخفق لها قلوبهم، وإنما ينشئونها ليقال إنهم خالفوا الجمهور في كيت وكيت، أو ليجعلوها وسيلة لاجتلاب مقالات الكتاب بالمجان لتخفيف أعباءهم في تحرير الجرائد والمجلات.
ماذا أريد أن أقول؟
إن الترفق بالأستاذ أحمد أمين يصرفني عن كلمة الحق.
ولو رزقني الله الشجاعة لقلت إن هذا الرجل يتجنى على الأدب العربي لأنه لم يعرفه معرفة صحيحة، ولو قد عرفه حق معرفته لأدرك أنه خليق بأن تبذل في سبيله نفائس الأعمار من أحرار الرجال.
ولو أن أحمد أمين كان تذوق الأدب العربي لأيقن أنه خليق بأن يتعصب له الباحثون، ففي هذا الأدب نفائس تغفر له جميع الذنوب.
ما رأي أحمد أمين في كتاب (لسان العرب)؟ وما رأيه في كتاب (الأغاني)؟ وما رأيه في كتاب (نفح الطيب)؟ وما رأيه في كتاب (عيون الأخبار)؟ وما رأيه في كتاب (إحياء علوم الدين)؟
إن كتابا واحدا من هذه الكتب كاف لأن ينتهب حياة طيبة مثل حياة أحمد أمين، وهو خليق بأن يرفع رأس العرب بين سائر الممالك والشعوب.
وما رأي أحمد أمين في (ألفية أبن مالك) وهي من المنظومات النحوية والصرفية؟
هل خطر بباله أن هذه المنظومة شغلت مئات من العلماء؟
وهل مرّ في خاطره أنها تُرجمت إلى التركية منذ أمد بعيد؟
وهل يعرف كيف تترجم مثل هذه المنظومة إلى اللغة التركية؟
وهل يعرف من الذي قرظ ترجمتها من علماء الأزهر الشريف؟
إن هذا الصديق كان يتوهم أن مصر خلت من المتبحِّرين في الدراسات الأدبية واللغوية، وكان ينتظر أن يشطح وينطح بلا رقيب ولا حسيب.
وما كان يهمني أن أصحح ما وقع فيه من أغلاط لو لم يكن أستاذاً بكلية الآداب، فتلك الكلية
هي أول معهد فرضته الأمة على الحكومة ورفعت قواعده بما تملك من أموال وقلوب.
وما أنكر أن أحمد أمين رن صوته في كلية الآداب وقد زاملته قيها نحو أربع سنين، ولكن يعزّ عليّ أن أراه يحبط أعماله بمقالات فطيرة لم تكن ثمرةً لسهر الليل وإقذاء العيون تحت أضواء المصابيح، وإنما كانت ثمرة لنزوة وقتية أراد بها أن يخلق حركة في بعض المجلات، والمجد كالرزق بعضه حرام وبعضه حلال.
أنا أريد أن أعرف كيف جاز للأستاذ أحمد أمين أن يحكم بأن أدباء الأندلس لم يحسُّوا الطبيعة، ولذلك حساب سيراه في المقالات الآتية؛ ولكن أرجوه قبل أن أشرع في هذا البحث أن يدلني على مراده من التهديد الذي خصني به في مجلة الثقافة الغراء!
وإنما أهمني ذلك لأني أحب أن أعرف مصيري بعد أن استبحتُ ما استبحتُ من الحرية في النقد الأدبي
إن الشاعر الذي أستنجد به أحمد أمين يقول:
فقل لزهير إن شتمت سراتنا
…
فلسنا بشتامين للمتشتِّم
ولا بأس، فأحمد أمين لا يجازى على الشتم بالشتم، إن صح أننا شتمناه.
ثم يقول ذلك الشاعر الذي استنصر به أحمد أمين:
ولكننا نأبى الظِّلام ونعتصي
…
بكل رقيق الشفرتين مصمم
أعوذ بالله! فهل أخشى أن يلقاني أحمد أمين بسيف مصمم رقيق الشفرتين؟
وكيف وهو الذي هرب مني حين ذهبت أبحث عنه بمشارب الإسكندرية؟ وكيف يلقاني أحمد أمين بسيف رقيق الشفرتين وهو الذي لم يستطع ملاقاتي إلا بلسان معقول وقلم مفعول؟
ثم يقول الشاعر الذي أستنصر به أحمد أمين:
وتجهل أيدينا ويحلم رأينا
…
ونشتم بالأفعال لا بالتكلم
فهل أخشى أن يرميني هذا الصديق بالحجارة والطوب حين يلقاني في الإسكندرية أو في مصر الجديدة؟
ليتني أقدر على الجهر بكلمة الحق! ليت ثم ليت!
فلو كنت شجاعاً لقلت إن أحمد أمين لم يدرك المراد من تلك الأبيات الجاهلية. وكيف أشجُع
وأنا مهدَّد بالحجارة والطوب من أحمد بن أمين الجاهلي؟!
إن الأستاذ عبد الجواد رمضان يقول: إني لن أموت قريباً لأني من الأشرار، وهي تهمة لا أدفعها عن نفسي لأني أحب أن أعيش! أفي الحق أني شِرِّير؟
أنت يا ربي تعلم كيف خلقتني، وكيف سوّيتني رجلاً لا يغضب إلا في سبيل الحق، وقد شاء فريقٌ من عبادك أن يظلموني، فتجاوز عنهم واعف عني، فإنك أنت غفّار الذنوب.
ولك أن تنظر، يا صديقي أحمد أمين، فسترى في الأسبوع المقبل كيف ألقاك، وكيف أحوّلك إلى أديب يعرف كيف تكلم أدباء العرب في مصر والأندلس والشام والعراق.
وهداية رجل مثلك قد تكون كفارة عما اقترفت في حياتي من آثام وذنوب.
(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، ولكن الله ذو فضل على العالمين).
(للحديث شجون)
زكي مبارك
ذكريات سني التعليم
الامتحانات والنتائج
للأستاذ عبد الرحمن شكري
عند ما يعلل كاتب سؤ نتائج الامتحان ينسبه إما إلى ضعف الطلبة وإما إلى المناهج أو نظم الامتحان وإما إلى المدرسين وإما إلى غير ذلك من الأسباب، ولكنهم ينسون أموراً هامة قلما يذكرونها فيأتي التعليل ناقصاً. وهذا هو سبب تكرر مأساة سوء النتائج بعد سنة بالرغم من استقرار حالة الطلبة نسبياً الآن عما كانت عليه أثناء الإضرابات المستمرة والأزمات السياسية الحادة، وبالرغم من تخفيف المناهج وتبسيطها، وبالرغم من تسهيل نظم الامتحان إما بجعل الامتحان في مواد أقل أو مواد سنين أقل. وقل عدد تلاميذ الفصول في المدارس الأميرية ذات الحجرات الكبيرة، وخفض عدد الحصص التي يدرسها الأستاذ المدرس في مواد المنهج ذاته - وإن كان قد وكل إليه عمل آخر في النشاط المدرسي - فكان ينبغي أن تتحسن نتيجة الامتحانات تحسناً كبيراً لو كانت هذه الأمور وحدها سبب حين النتيجة.
والحقيقة أن هناك أسباباً لم ينظر إليها. ولم تكن النتائج الحسنة التي حصلنا عليها بسبب إرهاق الطلبة في العمل، بل كنا بالعكس نحاول منع الطلبة من إرهاق أنفسهم بالعمل ليلاً ونهاراً في الشهر الأخير ومنعهم من إتلاف صحتهم من غير فائدة بهذه العادة العقيمة؛ أما التشدد في نتائج النقل فلا يعللها أيضاَ، إذ كنا نحصل على مثل هذه النتائج في مدارس لم نباشر امتحان النقل فيها أو في فرق كانت نسب النجاح في امتحان النقل فيها حسنة مرتفعة. فالتشدد في امتحان النقل وحده لا يعللها إذاً. ومجهود المدرس أو مادته لا تعلل وحدها حسن النتيجة، فقد تكون مادة المدرس كأحسن ما تكون المادة ومجهوده أكبر مجهود، وتأتي النتيجة سيئة نسبياً. وقد شاهدنا ذلك في نتائج أساتذة من أحسن المدرسين عملاً ومادة، بينما كانت نتائج مدرسين آخرين في فصول أخرى هي عماد نتيجة المدرسة الحسنة الطيبة مع أنهم لا يمتازون عن إخوانهم في المادة ولا في الشرح والتفسير وإن كان تفسيرهم أقرب إلى المحاضرة منه إلى التدريس؛ وهذا خطأ.
والعامل الأول في تحسين نتائج الامتحان في رأيي هو أن تحصي المدرسة التلاميذ الضعاف في كل فصل بالرجوع إلى درجات امتحان النقل في كل مادة وأن يوجه إليهم
الأستاذ المدرس جهده أثناء التدريس والشرح، وفي الاختبارات الشفوية في أول كل حصة وفي توزيع الأسئلة أثناء خطوات التدريس للتأكد من التفاتهم وفهمهم ومذاكرتهم وبالاختصار يكون أكثر التدريس للضعاف أثناء الحصص. قد يقال إن الطالب الذكي المجتهد أولى بالرعاية والتشجيع كي يزيد علما وثقافة. وهذه فكرة مخطئة إذ أن المدرس غير مطالب بتخريج نوابغ قليلين، وأكثر النوابغ يستطيعون النبوغ بقليل من التفات المدرس وعنايته ولكنه مطالب برفع مستوى الضعاف ومن أجلهم أنشئت المدارس لأن حاجتهم إلى المرشد أعظم من حاجة النوابغ، ولا يصح أن يستزيد الطالب النابغة من العلم على حساب إخوانه الضعفاء أو الأقل ذكاء، ويستطيع الأستاذ إذا سبق النوابغ إخوانهم في الفهم والاستيعاب أن يعطيهم عملاً خاصاً في أثناء الحصة أو خارجها إذا خشي الملل من جانبهم، إذا سار على قدر فهم الضعاف واستيعابهم، ويستطيع أن يبادر الأذكياء من حين لآخر بالسؤال للتأكد من أن سيره مع الضعاف لم يثبط همة الأذكياء ولم يصرفهم عن المدرس ولا سيما الأذكياء الذين يعتمدون على ذكائهم في التحصيل في الشهر الأخير من العام الدراسي، على أن تتبع الأستاذ للخطأ والصعوبة في أذهان الضعاف مما يزيد النابغة معرفة لما يواجه الذهن الإنساني من الخطأ والصعوبة وإن كانت الصعوبة في ذهنه أقل، إذ لاشك في أن بعض الأذكياء قد يكتفون بنصف فهم بينما لا يَدَّعي الضعيف الفهم إذا لم يستكمله إلا حياء وخجلاً من الظهور بمظهر ربما ظُنَّ غباوة يضحك منها إخوانه الأذكياء وهو أمر ينبغي ألا يُسمح به. ولا فائدة مطلقاً من تقديم الأستاذ المدرس تقارير لناظر المدرسة يومية أو أسبوعية عن المقصرين في الاستذكار إلا إذا عمل على اتباع هذه الطريقة اتباعاً تاماً دائماً أي طريقة مناقشة الضعفاء أثناء الشرح للتأكد من التفاتهم ومتابعتهم إياه وفهمهم. وإذا كان في التدريس بطء بسب هذه الطريقة استطاع الأستاذ أن يتلافى هذا البطء بوسائل أخرى، ويحسن بالوزارة أن تشجعه بوسائل العطف والقدر والمكافأة بهما إذا اضطرته هذه الخطة إلى الزيادة في عمله إلى تضحية وقته الخاص.
أما العامل الثاني في تحسين النتائج فهو أن يتعرف الأستاذ أماكن الصعوبة في المنهج ذاته والأغلاط والأخطاء الشائعة بين الطلبة عموماً سواء أكان الخطأ في اللغات أو في المواد الأخرى وأن يخصها بشرح أوفى وتمارين أكثر وأن يعاود الرجوع إليها حتى يقتلعها من
أذهان الطلبة اقتلاعاً ليس أساسه القهر وإنما أساسه الفهم. وكنا نحصي الأغلاط الشائعة بين الطلبة المصريين في اللغة الإنجليزية ونطبعها لهم ونعمل على استئصالها. فالعامل الأول هو التوجه بالتدريس إلى الضعفاء والسير معهم والعامل الثاني إحصاء الأغلاط الشائعة وأوجه الصعوبة وتلافيها.
أما العامل الثالث فهو أن الطلبة يؤجلون الاستذكار إلي آخر السنة وقد لا يكون التأجيل ناشئاً عن الكسل والبلادة بل قد يكون عن حسن نية لأن سبب هذا التأجيل فكرة سيكولوجية مخطئة فهم يحسبون أنهم إذا استذكروا شيئا في أول السنة ثم نسوه لم يستفيدوا من ذلك الاستذكار بسبب النسيان، وقليل من علم النفس يبرهن على خطأ هذه الفكرة إذ أنه يثبت أن صورة الأمر المنسي راسبة في أعماق الذهن والوعي الباطن وأنه لا يسهل استخراج المعقولات من أعماق الذهن عندما يشاء صاحبه تذكرها في أي وقت إلا إذا انطبعت الصورة في الذهن مرة بعد أخرى وفي كل مرة يعقب الاستذكار النسيان حتى يأتي على صاحب الذهن وقت لا ينسى بعد الحفظ، ولو فهم الطلبة هذه الحقيقة النفسية لاستطاعوا أن يفهموا السبب في أن الواحد منهم قد يجيد مذاكرة الدروس في الشهر الأخير من السنة فقط حتى إذا سألته فيها أجاب إجابة حيدة فإذا دخل الامتحان نسيها ولم يستطع الإجابة فإذا رسب أقسم أنه استذكرها جيداً وأنه سيئ الحظ. نعم إنه استذكرها جيداً قبيل الامتحان ولكن ينبغي أن يفهم أن محاولته تجنب النسيان في أثناء السنة بتجنب المذاكرة طول السنة هو الذي يوقعه في النسيان أثناء الامتحان مهما جاد المذاكرة آخر السنة، وأن نسيانه أثناء الامتحان بعض المعقولات أو كلها أكبر دليل على انطباع المعقولات في الذهن انطباعاً لا تُنْسى معه عند الحاجة يستلزم طبع صورتها في الذهن مرة بعد أخرى في أوقات مختلفة. ومن الصعب أن يدرك الطلبة هذه الحقيقة كل الإدراك أو إذا أدركوها صعب عليهم التخلص من عادة تأجيل المذاكرة للشهر الأخير اعتمادا على احتمال النجاح بالرغم من هذا القانون السيكولوجي. وهذا مع أن إرهاق أنفسهم بالمذاكرة ليلاً ونهاراً في الشهر الأخير يتلف صحتهم وإذا تلفت الصحة تأثر العقل ولو تأثرا مؤقتا وصار أقل استعداد للإجابة أثناء الامتحان. وحسن نتيجة المدرسة في الامتحان يتوقف على الوسائل التي تتخذها لمنع تأجيل الاستيعاب إلى الشهر الأخير.
والأساتذة المدرسون يجدون مقاومة كبيرة في حمل الطلبة على الاستذكار من أول السنة، كما يجدون مقاومة إذا اتبعوا عامل النجاح الأول والتفتوا للطلبة الضعاف في كل حصة، ففي الحالة الأولى يعيد الطلبة مطالبتهم بالاستيعاب والمذاكرة من أول السنة تعنتاً وظلماً ومطالبة بعمل ضائع لا محالة في نظرهم لأن نسيانهم محقق بعد أول استذكار، وقد يكرهون المدرس أو الناظر إذا حاول حملهم على خطة العمل من أول السنة ويعدون خطته ووسائله في حملهم تقصدا ومضايقة لا مبرر لهما وشدة غير معقولة. وفي حالة الالتفات للطلبة الضعاف في كل حصة يعد الطلبة الضعاف هذا الالتفات الدائم إليهم تقصداً مكروهاً ومضايقة وإهانة لظهور عجزهم أمام إخوانهم.
والآباء وأولياء أمور الطلبة لا يدركون مقدار ما يلاقيه الناظر وما يلاقيه المدرسون من عناء للتغلب على ميول الطلبة وأفكارهم المخطئة من الوجهة السيكولوجية أي اعتقادهم أن العمل من أول السنة عمل ضائع لأنه يؤدي إلى النسيان واعتقاد الضعاف في المواد أن الالتفات لهم في كل حصة تقصد يراد به إهانتهم. وهذا هو السبب في أن أولياء أمور الطلبة قد يشكُّون في نية الناظر أو المدرس أو على الأقل لا يحاولون معاونتهم فترى أحياناً أحد الآباء يقول إن الناظر أو المدرس يتقصد ابني، وقد يبلغ هذا الأمر حالة يشارك الأب فيها ابنه في كره الناظر أو المدرس. وهذه المقاومة من الآباء والأبناء تشتد إذا كانت هناك عوامل خارجية أو داخلية في المدرسة تزيد سوء الفهم وتشجيع الطلبة أو أولياء أمورهم على كره الوسائل التي يتخذها الناظر أو المدرس ومعاداتهما. وهي على أي حال مقاومة كبيرة. وتزيد إذا اضطر الناظر إلى رفض طالب أو إذا طلب المدرس من الناظر رفض طالب رفضاً مؤقتاً لأن بعض الطلبة قد يحرج المدرس إحراجاً كبيراً إذا حاول اتباع هذه الخطط والعوامل التي شرحناها. وينسى بعض آباء الطلبة أن حضور الطالب طول العام من غير رفض أيام قد يجعله حاضراً كغائب ولا ينتفع بحضوره وأن تضحية أيام في الرفض قد يزيد ذهنه واستعداده حضورا في الأيام الأخرى. ومن أجل هذه المقاومة قد يزهد الناظر أو المدرس في اتباع هذه الخطط التي شرحناها رغبة في تسهيل سير الأمور ومنعا للمشكلات، أو إذا اتبعت هذه الخطط قد تتبع اتباعا محدوداً حسب الظروف وبقدر الاستطاعة. وهذا يقلل بلا شك من حسن نتيجة الامتحان. والمدرسة معذورة مادامت هذه
المقاومة موجودة ولا يستفيد الناظر ولا المدرس من اتباع خطط قد تجلب له عداوة شديدة وأحقاداً ربما تخطت منطقة المدرسة إلى الوزارة نفسها. والوزارة أيضا لها بعض العذر فإنها إذا ناصرت الناظر سنة قد لا يستطيع مناصرته دائماً. فالكاتب الذي يكتب في الجرائد ويطلب نتائج حسنة ينبغي أن يدرك المقاومة التي تمنع من الحصول على نتائج حسنة.
بقي أن نفند بعض الأخطاء الشائعة في التعليم والتي قد تؤدي إلى رسوب الطلبة؛ فمن هذه الأخطاء مغالاة بعض أساتذة اللغة الفرنسية في نظرية الشرح باللغة الفرنسية وحدها للطلبة المبتدئين الذين يستمرون أشهر اً غير فاهمين لأن التفسير يحتاج إلى تفسير. نعم إنه مبدأ حميد على شرط أن يكون الشرح مفهوماً، أما إذا كان التفسير الفرنسي مجهول الكلمات غير مفهوم فالواجب استخدام أية وسيلة لإفهام الطلبة سواء أكانت بالإشارة إلى الأشياء أو قي المعقولات غير المادية باستعمال اللغة الإنجليزية أو العربية. ومن الخطأ في تدريس اللغة الإنجليزية أن يقال للطالب هذا خطأ وصوابه كذا، ويكتفي بذلك، فهذه طريقة التدريس للشبان الإنجليز الذين يسمعون الصواب كثيراً. فلابد من أن يكون الأستاذ مدرس اللغة الإنجليزية خبيراً بفقه اللغة وقواعدها، ولا حرج عليه مطلقاً في شرح القاعدة أو الاصطلاح إذا كان الاصطلاح غير مبني على قاعدة، ولكن أكثر أخطاء الطلبة المصريين في اللغة الإنجليزية ترجع إما إلى الخطأ في قواعد اللغة، وإما إلى احتذاء الأساليب العربية، وقواعد اللغة العربية، وهذه الأخطاء يمكن شرح سبب وقوع الطالب في الخطأ فيها، ومثل ذلك أن الصفة تجمع في اللغة العربية، ولا تجمع في اللغة الإنجليزية؛ فإذا فهم الطالب القاعدة وسبب الخطأ أمكن تجنبه. أما أن يقال له لا تقل كذا بل قل كيت وكيت لأن الأول خطأ فهذا شبيه في تدريس حل أسئلة الرياضة والعلوم بقول الأستاذ هذا الحل خطأ من غير تفسير سبب الخطأ، وهو تفسير يجب أن يتعهد به كل طالب في كل سؤال أو تمرين وإلا بقي الخطأ في ذهنه بالرغم من معرفة حل الأستاذ للمسألة. وهذا التعهد ببيان سبب الخطأ في كل تمرين يحتاج إلى وقت ولكنه السبيل الوحيد للنجاح. وقد رأيت بعض الأساتذة الإنجليزية يفضلون محاولة الطالب الأسلوب الأدبي العالي في الإنشاء بالرغم من تخلل الأغلاط الأولية له؛ وهذا يرجع إلى عدم التوطئة للأسلوب الأدبي يشرح الأغلاط الأولية الشائعة واستئصالها بكل وسيلة لأنها تعطي فكرة سيئة عن الطالب تؤدي إلى
رسوبه في الامتحان مهما حاول المصحح إنصافه في استعماله بعض الجمل العالية.
عبد الرحمن شكري
من كتاب الدين الإسلامي
مقدمة لبحث الإيمان
للأستاذ علي الطنطاوي
معناه اللغوي
إذا قال لك قائل إن جزء الشيء يساوي مجموعه، أنكرت ذلك عليه وكذبته فيه لأنك (تؤمن) بأن الجزء أصغر من الكل، ونقطع بذلك قطعاً، ولا ترى عنه معدلاً. وإذا وجدت من يبذل دمه في سبيل وطنه، ويفديه بنفسه وماله، ويحرص على خدمته قلت إنه من ذوي (الإيمان) الوطني، وإذا ألفيت المحبّ المولّه، يعصى العذول ويعرض عن الناصح، وصفت حبه بالإيمان وعبرت عنه، كما يقول التراجمة الناقلون، بالعبادة. فقلت: إنه يعبد حبيبته.
هذا كله من مظاهر (الإيمان) - والإيمان - بهذا المعنى - هو العقيدة الثابتة في النفس، أو العاطفة القوية الراسخة التي لا تتبدل ولا تتزعزع ولا يحتاج إلى التدليل عليها، لأنها من (البديهيات) بالنسبة لصاحبها المؤمن بها.
فالإيمان (في اللغة) التصديق وفعله آمن واصلها أأمن بهمزتين ليّنت الثانية.
أنواع الإيمان
يتضح لك مما مثلنا أن للإيمان نوعين: فإيمانك بأن الرغيف أكبر من نصفه، وأن الواحد ثلث الثلاث (إيمان عقلي) لا اثر لك فيه ولا عمل، وإنما هو من الفطرة التي فطر الله الناس عليها. أما (الإيمان الوطني) أو (الإيمان بالحبيبة) بالنسبة للعاشق المتيم فهو (إيمان قلبي)، لا دخل للعقل فيه، وهو فردي شخصي يختلف عن (الإيمان العقلي) الذي يتصف بكونه عاماً شاملا العقلاء جميعاً. وهذا التقسيم جديد استنبطته من الأمثلة المختلفة للإيمان ورأيت فيه نفعاً، لأنه يثبت جنس الإيمان، ولأنه بعد ذلك يساعد على تحديد البحث. أما الإيمان بأصول الدين، فهو من نوع الإيمان القلبي، ولكن للعقل دخلاً فيه من حيث إنه يقبل مبدأه ويقر نتائجه، ولا يناقضه وإن كان لا يفهمه تماما. وبيان هذه المسألة المهمة أن العقل (يؤمن) بادئ الرأي بوجود الله، وبأنه عادل، ولا يناقض نتائج الإيمان بالقدر إجمالا ولكنه لا يستطيع أن يفهمها ولا أن يعلّلها، ومنشأ ذلك أن العقل مقيد في أحكامه بالحواس والخيال
والاختبارات السابقة، لا يستطيع أن يتخلى عنها، أو يخرج عليها. فهو يحكم على عدل الله بما يعرف من حدود (العدل البشري)، وما لديه من الاختبارات. فيقع في الخطأ لاختلاف فكرة العدل البشرية النسبية، عن فكرة العدل الإلهية المطلقة.
فالعقل إذن لا يستطيع أن ينقض نتائج الإيمان ولكنه لا يؤمن تماماً، وإنما الذي يؤمن هو القلب.
الإيمان في الدين الإسلامي
عرفنا معنى الإيمان في اللغة. أما معناه في الدين فهو التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر (وسيأتي الكلام على ذلك كله إن شاء الله) فمن صدق بها تصديقا جازما فهو المؤمن حقاً. وقد جعل الله هذا التصديق أصل الدين وأساسه، وأقام الأدلة على هذه المسائل، وخاطب بها العقل، لكن الذي أفهمه أن العقل يقبل مبدأ الإيمان إجمالاً، ثم يدع دقائقه للقلب، أي أنه كالملك في الدولة يوقع على المرسوم ولكنه يدع لغيره من الموظفين فهمه وتطبيقه ومراعاته دائما. فالعقل يؤمن بأن الله موجود، وأن القرآن كتابه الذي أنزله، وأن محمداً نبيه الذي لا ينطق عن الهواء. ثم يقف ويدع للقلب (الإيمان) لكل ما جاء في الكتاب، وما نطق به الرسول والاطمئنان إليه والتصديق به وقبوله بلا أدنى شك ولا ريب. . . وليس في أصول الإسلام ما يرفضه العقل، أو يتعذر عليه قبوله لمخالفته لبديهياته الثابتة، أو أحكامه الصحيحة، وهذه هي ميزة الدين الإسلامي عن كل دين.
العلاقة بين الإيمان والإسلام
الإسلام هو (إظهار) الإيمان، والتعبير عنه (عمليا) بالنطق بالشهادة عليه، والقيام بالعبادات التي تنشا عنه. وهو الأساس الذي يبنى عليه تقسيم الناس إلى متبع ومخالف، وما يتفرع عن هذا التقسيم من أحكام مدنية وحقوقية، لان الناس لهم (الظواهر) ولا يستطيعون أن يشقوا عن قلوب الناس ويعرفوا سرائرهم. وهذا معنى ما جاء في الحديث القائل (أمرت أن أقاتل الناس حتى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. فإذا قالوها عصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله).
فإن نطق الشهادة، وأدى الفرائض ولكنه غير (مصدق) بها، ولا (معتقد) وجوبها، ولا يفهم
إلا جسمها دون روحها، وشكلها دون معناها، فهو (غير مؤمن) وهو ما كان عليه بعض الأعراب الذين قال الله عز وجل فيهم:(قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا).
وإن (أظهر) الطاعة عن تصديق وجزم، وأدى الصلاة معتقداً بوجوبها مراقباً الله فيها، فهو المؤمن المسلم. نقل في اللسان عن ثعلب اللغوي قال: المؤمن بالقلب والمسلم باللسان (أي وبالجوارح) وقال الزجاج: صفة المؤمن أن يكون راجيا ثوابه خاشيا عقابه.
وقال الزمخشري في الكشاف، في المسلم الكامل:(هو من اعتقد الحق وأعرب عنه بلسانه وصدقه بعمله. فمن أخل بالاعتقاد، وإن شهد وعمل فهو منافق. ومن أخل بالشهادة فهو كافر. ومن أخل بالعمل أي بالعبادة من صلاة وصيام وحج فهو فاسق).
الإيمان ضروري ومفيد
بدا لك مما تقدم ذكره أن الإيمان ضروري لا يستطيع إنسان أن يعيش بدونه، وأن المرء إن زعم أنه لا يؤمن بأصول الدين لم يكن له بد من الإيمان بمبادئ عقلية، ومبادئ اجتماعية، وأخلاقية، ولا منجي له من الحب - والحب والإيمان من طبيعة واحدة في الأصل - فليس في الدنيا إذن إنسان إلا وهو (مؤمن) لأن (الإيمان) شيء مستقر في طبيعة البشر، ومن آمن بهذه الحقائق الصغيرة، أو الأباطيل التي يتوهمها حقائق، كما يتوهم المحب العاشق، لم يستطع الكفر بالحقيقة الكبرى، وهي وجود الله.
وسنرى بعد أن وجود الله بديهية عقلية، وأن التأليه والتطلع إلى المجهول، والبحث عن الخالد الباقي، من الفطر الإنسانية.
ثم إن من مصلحة الإنسان أن يكون مؤمنا بالله، لأن الحياة مملوءة بالآلام، فياضة بالمكاره، فإذا لم يكن للمرء وَزَرٌ من إيمانه يلجأ إليه كلما حاقت به الشدائد، أو انتابته الأمراض، كانت حياته جحيما محرقا لا يحتمل، وربما أدت به إلى الانتحار كما يفعل الجاهلون، فلا سعادة إذن إلا بالإيمان ولا أنس بالحياة إلا معه.
ومن مصلحة المجتمع أيضا أن يكون الناس مؤمنين، لأن القوانين والقوى التي تؤيدها، والعقوبات التي تحميها، كل ذلك لا يؤدي إلى إنشاء مجتمع خيّر صالح إذا نقصه الإيمان. وكيف لعمري يصلح الرجل ويستقيم، وهو لا يجتنب السرقة إلا خوفا من الشرطي وهربا
من العقاب. فإذا أمن الشرطي ونجا من العقاب سرق وقتل وفعل الأفاعيل. فإذا كان (مؤمنا) بالله يخشى عقوبته، (مؤمنا) بمبادئ الأخلاق التي أمر بها الله ووعد بالثواب عليها استقام دائما، لأن الله مطلع عليه مراقب له دائما. وشيء أخر هو أن الدافع إلى كل ما يفعله الإنسان المنفعة أو اللذة؛ فالمؤمن يعمل الصالحات ولو لم يره أحد ولو لم يعلم به أو يشكره لاعتقاده أن الله يثيبه ويعطيه، فلماذا يعمل الصالحات غير المؤمن إذا لم يكن من يراه أو يشكره أو يذيع فضله أو يجزيه بعمله خيراً؟
الإيمان الكامل
والمؤمن الكامل الإيمان هو الذي يتصور في كل لحظة أنه بِسَمْعِ الله وبصره وأن الله مطلع عليه ناظر إليه، فإذا لم يمنعه من المعصية خوف الله منعه الحياء منه، ولذلك جاء في الحديث (إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان فكان على رأسه كالظلّة، فإذا أقلع (أي تاب توبة صحيحة) رجع إليه) فلا يستطيع الزاني أن يزني وهو مؤمن إيمانا حقا، ومتصور أن الله ناظر إليه. بل هو لا يستطيع أن يزني إذا كان أبوه أو أستاذه يراه ويشرف عليه، فالإيمان إذا كان على هذه الصورة يمنع صاحبه من كل فاحشة، ويصرفه عن كل ذنب.
الصالحات بلا إيمان
فإذا عمل الرجل من الصالحات وهو غير مؤمن لم يكن له ثواب في الآخرة. وقد يبدو ذلك غريبا لأول وهلة ولكنه نهاية العدل من الله. وهل في العدل أكبر من أن تعطي المحسن المصلح كل ما يطلب. فإذا كان يقصد ثواب الآخرة، وكان (مؤمنا) بها أعطاه الله ما يطلب، وإن لم يطلب إلا الشهرة في الناس وخلود الذكر فيهم، أعطى الشهرة والخلود، ولم يكن له في الآخرة شيء (فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق. ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار).
هذه مقدمة موجزة جدا لبحث الإيمان سيعقبها فصل في الإيمان بالله للأستاذ العلامة الشيخ محمد بهجة البيطار ينشر في العدد الآتي.
علي الطنطاوي
خليل مردم بك
وكتابة في الشاعر الفرزدق
لأستاذ جليل
من القضاء الغريب بين الفرزدق وجرير ما رواه الأستاذ المردمي عن الأغاني: (تنازع في جرير والفرزدق رجلان من عسكر المهلب. فارتفعا إليه وسألاه، فقال: لا أقول بينهما شيئاً ثم دلهما على الخوارج. فلما تواقف الجيشان بدر أحد المتنازعين من الصف إلى عبيدة بن هلال اليشكري الخارجي فسأله عنهما ففضل جريرا: قال من الذي يقول:
وطوى الطراد مع القياد بطونها
…
طي التجار بحضرموت برودا
فقال: جرير. قال: هذا أشعر الرجلين).
فالذي يلوح لنا في هذه الحكومة أن الخارجي رأى بيت جرير أمير شعره وأن ليس للفرزدق شبهه فقضى له، أو أن من يفرض مثل هذا البيت حقيق بالتقديم (ونذر في هذا المقام البحث عن قيمة هذا البيت وخطره) أو أن عبيدة التفت إلى الديانة ففضل المتقي على من فجر.
وإن تفضيل قائل على قائل لمعنى من المعاني المذكورة لهو الحيف المحض، وخروج على سلطان الحق، ألا (لا حكم إلا الله) ولا قضاء مقبول إلا من مقسط ذي نصفة.
ولولا أن يغضب أو أن يشرى صاحبنا الأستاذ أبو إسحق أطفيش نزيل القاهرة ومن علماء إخواننا الأباضية وفضلائهم - لشننا على (الشراة) غارات، وفندنا (مقالاتهم) الخارجية بمقالات في (الرسالة الغراء) متلاحقات. . .
وممن عادل الخارجيَّ في جنفه في حكمه، بل أربى على جميع الجَوَرة في القضايا الأدبية الحسن بن بشر الآمدي صاحب (الموازنة بين أبي تمام والبحتري) فقد ظهر في كتابه (أجور من قاضي سذوم) وأرانا كيف يكون الظلم العبقري (استعان الرجل بالله - كما قال - على مجاهدة النفس ومجاهدة الهوى وترك التحامل) وأقبل يوازن، فماذا صنع؟
يأخذ بيتا لحبيب قال في معناه الوليد وينصب ميزانه، وهواه الوازن.
ولأبي تمام أبيات عبقريات، كل بيت منها بديوان، وله قصائد باهرات مدهشات.
هذه لا توضع في الميزان، وقد كان قال: (أنا لست افصح بتفضيل أحدهما على الآخر
ولكني أقارن بين قصيدتين من شعرهما فأقول أيهما أشعر في تلك القصيدة ثم احكم أنت). ولكنه لم يفعل ذلك واجتزأ بإيراد أبيات لكل من الطائيين وجعل يلغو لغوه.
وإذا قال أبو تمام:
إن لله في العباد منايا
…
سلطتها على القلوب العيون
وقال البحتري:
قال بطلاً وأفال الرأي من
…
لم يقل إن المنايا في الحدق
فهنا يتوارى الوازن والموازنة ويرفع الميزان. وبيت الوليد شرح طويل، مَطمَطة. . .
وقد كان ابن الأثير انصف من الآمدي حين قضى بين حبيب والمتنبي في رثاء ولدين صغيرين لعبد الله بن ظاهر، وطفل لسيف الدولة؛ وبين البحتري وأبي الطيب في وصف الأسد. وقد شأى الكندي الطائيين في الرثاء والوصف.
وأني لموقن أن الآمدي فارق الدنيا ولم يعرف أبا تمام وعبقريته. وممن علم ذلك وأعلن فضل ابن أوس - أبو بكر بن يحيى الصولي صاحب كتاب (أخبار أبي تمام) الذي أفضل على العربية بنشره الفضلاء: خليل محمود عساكر، محمد عبدة عزام، نظير الإسلام الهندي - بارك الله في الهند - وقد أعطى الكتاب بعض حقه في مقالة في الجزء (225) من (الرسالة). وكانت مجلة (المقتطف) ذكرت كتاب الصولي، وحافت على حبيب فرُدّ عليها وليمت في مقالة في الجزء (235) من (الرسالة) وأغلب الظن أن الكتاب في المقتطف ما قرأ كتاب الصولي فيعرف ذلك الشاعر العظيم، فقال على المخيل أو على ما خيلت كما يقولون.
ألا إن الشعر لأكثر مما يرى ذاك الخارجي وهذا الآمدي وأعظم؛ واٍن فضيلة الفرزدق فيما يبينه أديبنا الكبير الأستاذ المردمي في كتابه:
(لا تجد شعراً أكثر تأثراً بالإسلام، والعصبية العربية، ولا أصح لغة، ولا أجزل أسلوباً، ولا أجمع لشوارد العربية وفصَحها، وأخبار العرب وأيامهم - من شعر الفرزدق).
(والفرزدق على جفاء طبعه له مخيلة تفيض بالحياة، وتحسن الابتكار والابتداع ووضع الأقاصيص بأسلوب حسن).
(والفرزدق على أميته واسع الرواية كثير المحفوظ، ولم يقف عند حفظ أشعار العرب
وأخبارهم بل حفظ القرآن، وروى الحديث النبوي. قال صاحب خزانة الأدب (البغدادي):(روى الفرزدق عن علي عليه السلام وعن غيره من الصحابة). وقال صاحب النجوم الزاهرة: (روى الفرزدق عن عليّ بن أبي طالب وغيره وكان يرسل، وروى عن أبي هريرة وعن جماعة) فثقافته أعلى ثقافة يبلغها شاعر في ذاك العصر).
(ويجمع الفرزدق إلى خصب المخيلة وسعة الرواية كثرة النواحي، فشعره سجل حياته ومرآة عصره).
(ونفس الفرزدق طويل، وقصائده التي تزيد أبياتها على المائة كثيرة، وله القصائد القصار، وهو في كلا القسمين لا يسف ولا ينزل عن طبقته).
(وقد استقام للفرزدق من الأبيات الجامعة بين شرف المعنى وشرف اللفظ ما لم يستقم لغيرة، فهو أكثر الشعراء الإسلاميين بيتاً مُقلَّداً).
(وشعره في جملته يدل على قدرة الشاعر وبعد نظره وإحاطته بما يرمي إليه من الأغراض وسعة مخيلته وانفساح مجاله ولذلك كثرت فيه الصور).
هذه جمل من (الكتاب) في باب البحث عن شعر الفرزدق وهي تساند مقالة البحتري في (معاني الفرزدق وحسن اختراعه وبأبواب هجائه التي يخترعها ويبدع فيها) وتعلن من النبوغ الفرزدقي ما تعلن، وتقوى الظن الذي ظنناه في اختيار الأستاذ هماماً من بين الثلاثة الإسلاميين واختصاصه إياه بهذا الكتاب. وقد أوضح الأستاذ المردمي ما أوردته من أقواله أبلغ إيضاح، وأيدها بأبيات كثيرة للشاعر.
يقول الأستاذ في تضاعيف البحث عن شعر همام: (وأما تمثيله العربية في فصاحتها وشواردها، وتاريخ العرب في مناقبهم ومثالبهم حتى قيل (لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب) وقيل (لولا شعر الفرزدق لذهب نصف أخبار الناس) فذلك لكثرة مفرداته، وصحة تراكيبه، وجزالة أسلوبه، واشتمال شعره على الغريب، وأوجه التعابير الفصيحة، ووفرة ما تضمنه فخره وهجاؤه ومدحه من أخبار العرب وأيامها ومفاخرها، ومثالب من يهجوهم في الجاهلية والإسلام. خذ مثلاً لذلك نقيضة من نقائضه مع جرير تجد فيها صحة اللغة وفصاحة الأسلوب وجزالة التركيب ورصانة القافية وعراقة العربية مع شيء من الغريب كما تجد كثيراً من أخبار العرب في الجاهلية والإسلام، فلو جمع باحث مفردات
الفرزدق التي استعملها في شعره لكادت تكون معجماً، ولو توفر على ترتيب ما فيه من الأخبار والحوادث والمفاخر والمخازي والعادات والأساطير والخرافات لجمع تاريخاً لحوادث الجاهلية وحياتها الاجتماعية. والشواهد على ذلك أكثر من أن تذكر نكتفي بإيراد قليل منها قال: نقائض ص189) وروى الأستاذ ثمانية أبيات من القصيدة التي مطلعها:
إن الذي سمك السماء بنى لنا
…
بيتاً دعائمه أعز وأطول
ثم قال: (هذه الأبيات الثمانية فيها من الأخبار والحوادث والأيام ما استغرق عشر صفحات من كتاب النقائض، ولا سبيل لتلخيصها هنا) وأشار إليها، وروى وبيّن غير ذلك مما يحق مقالته في الفرزدق.
وممن يماثل هذا الشاعر من المولدين في اشتمال كلامه على أخبار كثيرة وإشارات ذات بال - حبيب (ففي شعره علم جم من النسب، وجملة وافرة من أيام العرب) وأبو بكر الخوارزمي الذي يستظهر رسائله كلها العلامة الأستاذ الأمير شكيب أرسلان.
والقول المتقدم في أبي تمام هو في (رسائل الانتقاد) لابن شرف القيرواني، وقد نشرها العلامة الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب الصمادحي في مجلة (المقتبس) للعلامة الأستاذ الرئيس محمد كرد عليّ.
ويقول الأستاذ: (ومن التعابير العربية التي حفظها لنا شعره قوله: نقائض ص283 أو بين حيّ أبي نعامة هارباً أو باللحاق بطّيء الأجيال حيّ أبي نعامة أي وهو حيّ نقول فعلت ذاك حيّ فلان أي وفلان حيّ).
وهذا القول قد هدانا إليه بيت الفرزدق. وفي العربية شئ كثير من مثل هذا التعبير خفي معناه أو أشكل ولم يكشفه لنا شرح أو تفسير. قال ابن فارس: (إنا نرى علماء اللغة يختلفون في كثير مما قالته العرب فلا يكاد واحد يخبر عن حقيقة ما خولف فيه بل يسلك طريق الاحتمال والإمكان)، وأورد في كتابه (الصاحبي) طائفة من الأقوال لم تستبن حقيقتها عنده، ومما ذكره:(يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تقولوا دعدع ولا لعلع ولكن قولوا: اللهم، ارفع وانفع) فلولا أن للكلمتين معنى مفهوماً عند القوم ما كرههما النبي صلى الله عليه وسلم.
(الإسكندرية)
* * *
في بلاط الخلفاء
سعد وسعاد في حضرة معاوية
للأستاذ علي الجندي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
وتربص سعد أسبوعاً بين يأس يطويه ورجاء ينشره، حتى إذا أذن معاوية للناس يوماً دخل في سرعانهم وغمارهم. فلما أخذوا مجالسهم، نهض بين السِّماطين وأنشد بصوت كحشرجة المحتضر:
معاوي يا ذا العلم والحلم والفضل
…
وذا البرّ والإحسان والجود والبذل
أتيتك لمّا ضاق في الأرض مذهبي
…
وأنكرت - مما قد أُصِبت به - عقلي
ففرِّج - كلاك الله - عني، فإنني
…
لقيت الذي لم يلقه أحد قبلي
وخذ لي - هداك الله - حقِّي من الذي
…
رماني بسهم كان أهونه قتلي
وكنتُ أرجّي عدله إن أتيته
…
فأكثر تَردادي مع الحبس والكبْل
سباني سعدي وانبرى لخصومتي
…
وجار ولم يعدل، وغاصبني أهلي
فطلّقتُها من جدّ ما قد أصابني
…
فهل ذا - أمير المؤمنين - من العدل
وكان معاوية متكئاً فاعتدل في مجلسه - وقد اكفهرت على وجهه سحابة من الحزن - وقال: نعوذ بالله من طوارق السوء! لقد أسمعت يا أعرابي، إذن بارك الله عليك! ما خطبك؟ وما طرحك إلى هذه البلاد؟ فدلف إليه شاب في شملة الأعراب، ساكن الطائر، رابط الجأش؛ قد لوحه السفر وتضمر وجهه من الهزال! فقال: أطال الله بقاء أمير المؤمنين! إنني رجل من بني عذرة. تزوجت ابنة عم لي على حب ومقة، وكانت لي إبل وغنيمات فأنفقت ذلك عليها؛ ولبثنا معاً في حياة رافهة وعيش أبله غرير. فلما كلب علي الزمان، ومستني البأساء والضراء رغب أبوها عني، وكانت جارية فيها حياء وكرم. فانقادت له مكرهة خشية أن توصم بالعقوق!. . . فأتيت عاملك مروان بن الحكم مستجيرا به مؤملا نصرته، فأحضر أباها وشكم فاه بالإتاوة إذ دفع له عشرة آلاف درهم! وقال: هذه لك، وزوجني بها، وأنا زعيم بتخليتها من الإعرابي! فمال أبوها إلى المال، وأصبح الأمير
لي خصما وعلي منكرا. فانتهرني وطرحني في السجن، وأمرني بطلاقها فأبيت. فبسط علي العذاب وأفتن في إيلامي! فلما اشتد علي الضيق، وأيقنت بالهلكة لم أجد بدّاً من طلاقها، فطلقتها، والعين عبري والقلب موجع!. . . فما انقضت عدتها حتى تزوج بها مروان، وأمر السجان بإطلاق سراحي. وقد أتيتك - يا أمير المؤمنين - صارخا فزعا، متغطيا من الدهر بظل جناحك! وأنت غياث المكروب وسند المسلوب! فهل من فرج؟!. . . ثم أجهش الأعرابي بالبكاء وأنشد:
في القلب مني نار
…
والنار فيها استعار
والجسمُ مني نحيلٌ
…
واللون فيه اصفرار
والعين تبكي بشجو
…
فدمعها مدرار
والحب داء عسير
…
فيه الطبيب يحار
حملت منه عظيما
…
فما عليه اصطبار
فليس ليلي بليل
…
ولا نهاري نهار
وكان لمرأى هذا الزوج الواله وشدة ضراعته وعظم تفجعه ورقة شكاته، أثر أي أثر في نفس معاوية!. . . فأطرق برهة؛ ثم رفع رأسه وقد ازمهر وجهه الأبيض كأنما نضح بالأرجوان فقال: ويلي على ابن الطريد! كيف عزبت عنه حلوم أمية؟ لقد تعامه في طغيانه، وتمادى في أضاليل هواه، وطرفت عينه الدنيا. فما إن يزال في طفش ورفْش، فلعمري لئن بقيت له لأقيمن من صعر خديه!. . .
ثم التفت إلى سعد فقال: طب نفسا وقر عينا - يا أخا عذرة - فقد سألتنا النَّصف، وستبلغ ما رجوته إن شاء الله!
ودعا من فوره بدواة وقرطاس، وكتب إلى مروان كتابا صدره بكلام أخشن من مس الحجر، وأزره بشعر أبرق له فيه وأرعد:
ركبتَ أمراً عظيماً لستُ أعرفه
…
أستغفر الله من جور امرئ زاني!
قد كنت تشبه صوفياً، له كتب
…
من الفرائض أو آيات قرآن
حتى أتانا الفتى العذري منتحباً
…
يشكو إليّ بحقٍّ غير بهتان
أعطي الإله عهوداً لا أَخيس بها
…
أولاً، فبُرِّئتُ من دين وإيمان
إن أنت راجعتني فيما كتبتُ به
…
لأجعلنّك لحماً بين عِقْبان
طلّق سعادَ وجهِّزها مُعجلة
…
مع الكميت ومع نصر بن ذبيان
فما سمعت كما بُلِّغت من عجب
…
ولا فعالك حقاً فعلُ إنسان
ثم طوى الكتاب وختمه ودفعه إلى الكميت ونصر ابن ذبيان، وأمرهما أن يذهبا إليه!
فجد الرسولان في السير حتى بلغا مروان، وسلما إليه كتاب أمير المؤمنين. فلما قرأه عرته رعدة واصفر كأنه جرادة ذكر! ثم أرسل زفرة عميقة كاد يتفسأ لها حجاب قلبه. وقال: ودِدت أن - أمير المؤمنين - خلى بيني وبينها سنة ثم عرضني على السيف!
ولبث مدة يؤامر نفسه في طلاقها فلا يستطيع! فاشتد عليه الرسولان وأزعجاه، حتى طلقها وأسلمها إليهما بعد أن أحسن جهازها!
ولكنه أراد أن يثأر لنفسه من سعد، فلجأ إلى حيلة من حيله الشيطانية التي كانت سببا في قتل الخليفة الثالث، وشق عصا المسلمين!. . . فأرسل إلى معاوية كتابا يصف فيه مفاتن سعاد وصفا يثير صبوة الجماد! راجيا أن يقع الخليفة في شرك الحسن فيستبد بالفتاة ويرجع الزوج بخفي حنين! ثم تأسى بمعاوية في قرض الشعر فختم الكتاب بأبيات من الوزن والقافية:
لا تحنثَنَّ - أمير المؤمنين - فقد
…
أُوفي بعهدك في رفق وإحسان
وما ركبتُ حراماً حين أعجبني
…
فكيف سُمّيتُ باسم الخائن الزاني
أعذر! فإنك لو أبصرتها لجرت
…
منك الأماني على تمثال إنسان
وسوف تأتيك شمس ليس يعدلها
…
عند البرية من إنس ومن جان
حوراء يقصر عنها الوصف إن وصفت
…
أقول ذلك في سرّ وإعلان
فلما ورد كتابه على معاوية وقرأه قال: لقد أحسن في الطاعة ولكنه أطنب في وصف الجارية. فإن صح أنها جمعت بين جمال الصورة وطيب النغمة فهي أكمل البرية طرّاً!
وعقد معاوية مجلسا من خاصته، ودعا إليه سعدا. ثم تقدم بإحضار سعاد، فطمح الحضور بأبصارهم إلى الباب ليروا محيا البدر المنير على قامة الغصن النضير!
وبعد قليل أقبلت الفتاة تتأطر في مشيتها، ساحبة أذيال الأضريح وقد حف وجهها إطار من شعرها الفاحم، فبدا كأنه قمر يطل من فتوق سحابة دكناء، أو لآلاء فجر في بقية من غبش
الظلام!!
وسلمت على الخليفة من بعيد، فرد عليها السلام ثم استدناها منه واستنطقها فإذا بيان عذب جلي في صوت كأنه غنة الظبي أو خفق الوتر!
فسبح معاوية البارئ العظيم! وأراد أن يعجم منزلتها عند سعد فقال: يا أعرابي، هذه سعاد، ولكن. . . هل لك عنها من سلوة بأفضل الرغبة؟ فأجاب الأعرابي: نعم! وكأن معاوية شك فيما سمع فقال متثبتا: نعم يا أعرابي؟ فقال: نعم. نعم، إذا فرقت بين جسدي وروحي! فقال معاوية: أعوضك منها يا أعرابي ثلاث جوار أبكار حسان - مع كل جارية ألف دينار - وأقسم لك من بيت المال ما يكفيك في كل سنة ويعينك على صحبتهن!
فشهق الأعرابي شهقة ظن معاوية انه لفظ روحه فيها!. . . فارتاع وقال له: ما بك يا أعرابي؟ قال: شر بال وأسوأ حال! واستجرت بعدلك من جور ابن الحكم فعند من استجير من جورك؟ ثم أنشأ يقول:
لا تجعلنِّيَ - والأمثالُ تُضرَب بي -
…
كالمستجير من الرمضاء بالنار
أردد سعاد على حيرانَ مكتئب
…
يمسي ويصبح في هم وتَذكار
قد شفّه قلَق ما مثله قلق
…
وأُسعِر القلب منه أي إسعار
كيف السلوّ وقد هام الفؤاد بها؟
…
وأصبح القلب عنها غير صبّار
وكأن معاوية استخشن هذا الكلام فغضب، أو قل: إنه تظاهر بالغضب، فما كان للغضب عليه من سبيل! فقال: يا أعرابي الحق بيّن. أنت مقر بطلاقها، ومروان مقر بطلاقها. ونحن نخيرها، فإن اختارتك أعدناها إليك بعقد جديد، وإن اختارت سواك زوجناها به. . .
ماذا تقولين يا سعدى؟ أيهم أحب إليك: أمير المؤمنين في عزه وشرفه ونعمته وترفه، أم مروان في عسفه وجوره، أم هذا الأعرابي في خشونة عيشه وسوء حاله؟
ألقى معاوية هذا السؤال وهو أعرف الناس بجوابه! فإنه لا يزال يذكر قول زوجه ميسون بنت بحدل الكلبية حينما نقلت إلية من البادية:
لبت تخفق الأرواح فيه
…
أحبّ إليّ من قصر منيف
وخرْقٌ من بني عمي نحيف
…
أحبّ إليّ من علْج عنيف
فقال: ما رضيت حتى جعلتني علجا؟!
وما أشبه الليلة بالبارحة! فلم تكد الفتاة تسمع قوله حتى ماست كالفنن المروح، وتخازرت إلى الخليفة حتى التقت أهدابها ثم أنشدت بصوت يشبه المناغاة:
هذا - وإن كان في فقر وإضرار -
…
أعزُّ عنديَ من قومي ومن جاري
وصاحب التاج أو مروان عاهله
…
وكل ذي درهم عندي ودينار
وكأنها أدركت أنها في حضرة ملك العرب وخليفة المسلمين. فافترت عن مثل وميض البرق! وقالت وهي تغطى وجهها بأطرافها المخضبة استحياء: والله يا أمير المؤمنين، ما أنا بخاذلته لحادثات الزمان وغدرات الأيام! وإن لي معه صحبه لا تنسى ومحبة لا تبلى! وإني لأحق من صبر معه على الضراء، كما نعمت معه في السراء! فقضى العجب كل من كان حاضرا! وضحك معاوية حتى انقلبت شفته العليا وشكر لها وفاءها وإخلاصها لأبي عذرتها! ثم أمر بها فأدخلت مقاصير الحرم، حتى انقضت عدتها من مروان. ثم أعادها إلى ابن عمها بعقد جديد، ووصلها بألف دينار.
وأخذ سعد بيد سعاد، ومضى يؤج في سيره أجه الظليم وهو يترنم بقوله:
خلّوا عن الطريق للأعرابي
…
ألم ترقوا ويحكم لما بي؟
علي الجندي
الله في علاه!.
. .
للأستاذ سيد عبده
خرج الملاح والليل عاصف. . .
يتلمس رزقه بين جرجرة البحر القاصف. . .
ومياه السماء تنزل مدرارا. . .
والرغبة في الحياة تدفعه للعمل ليلاً ونهارا. . .
وبسمة الأمل تثير في قلبه نارا. . .
فإذا بقاربه يرتطم بالصخر. . .
وإذا ببسمة الأمل تصبح صيحة الضر. . .
والرغبة في الحياة صرخة القبر. . .
ومع ذلك فقد نجا. . .
من أنقذه. . .؟؟
من نجاه. . .؟؟
هو الله في علاه. . .!!
خرج الشاب في رحلة إلى الصحراء. . .
يتلمس نزهة بين الرمال الصفراء. . .
يحمل القوت والأمل والرجاء. . .
ونسيم الربيع يهب عليلاً. . .
والشمس قد مالت فبدا الوقت أصيلا. . .
ونشوة النصر قد بدأت تدب في قلبه قليلاً قليلا. . .
فإذا به يضل الطريق. . .
وإذا بقلبه العاصر قد ملئه اليأس والضيق. . .
لأنه فقد الأمل في الحياة. . .
وقارب من أجله منتهاه. . .
ومع ذلك فقد نجا. . .
من أنقذه. . .؟؟
من هداه. . .؟؟
هو الله في علاه. . .؟؟
كان حاكما غشوما جبارا. . .
بذل قومه ويصليهم من عذابه نارا. . .
ويستعبد شعبه فلم يجدوا منقذاً منه إلا فرارا. . .
فهذه قطعة من جحيم. . .
والحياة في ظله بؤس وبلاء عظيم. . .
مضت الأيام فإذا عهده قد زال. . .
وإذا بالحال يصير غير الحال. . .
وأصبح الحاكم عبرة لسواه. . .
من أهلكه. . .؟؟
من أفناه. . .؟؟
هو الله في علاه. . .!
إنه عامل فقير انتبذ في المجتمع مكانا قصيا. . .
يحتقره القوم لأنه لم يك سريا. . .
ويجهله الخلق لأنه غداً نسيا منسيا. . .
يبذل الجهد ويتعب النفس كي يعيش ويحيا. . .
مضت الأيام فإذا به قد أثرى. . .
وتبدل ذله عزا. . .
وبؤسه سعدا. . .
وخموله ذكرى. . .
من أسعده. . .؟؟
من أغناه. . .؟؟
هو الله في علاه. . .!
سيد عبده
المدرس بالأورمان
كتاب الأغاني
لأبي الفرج الإسكندراني
رواية الأستاذ عبد اللطيف النشار
صوت
ولست بيهوف يرى رأى عرسه
…
إذا أركبته مركباً فهو راكبه
يظل إذا ما نابه الأمر حائرا
…
يخاطبها في شأنه وتخاطبه
الشعر للأمير علي بن المقرب من شعراء النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي ببلاد الأحساء في شبه جزيرة العرب. وفي هذا الشعر لحن من صنعة قاسم بك أمين على نغمة (فقئت عيناه فأبصر).
حدثنا الأستاذ عزيز أحمد فهمي قال: ولولا دفع الله الفنون بعضها ببعض لفسد الحسن. فاللحن الموسيقي والشعر يزدوجان ليكمل أحدهما نقص الآخر. ولقد كنت أقول مرة: إن كل فن يجب أن يترجم إلى فن آخر، وهذا كلام حسن؛ ولكني زدته حسنا لما فهمت أن التزاوج بين فنين يستدعى تشابها بينهما ولكنه كذلك يستدعى أن يكون أحدهما سالبا والآخر موجباً. فهذا شعر رامي تنشده أم كلثوم ليس لأن فنها كفنه ولكن لأن فنها يسد النقص في فنه. وهذا المخرج لرواية تمثيلية يتمم نقصها وسيد ثغراتها، وبين الفنين تشابه ولكن أحدهما لا يترجم الآخر بل يشرح الآخر على طريقته هو التي قد لا يدركها هذا الآخر.
قال: وهذا الشعر لعلي بن المقرب قد لحنه قاسم أمين فخلق منه ما خلقت أم كلثوم من شعر رامي.
قال أبو الفرج: وقد سألت الأستاذ عزيز ما الذي يعنيه بهذا الفقه الفني فلم يزد على أن قال: لقد فقئت عيناه فأبصر.
حدثنا الأستاذ خيري سعيد قال: حدثنا العلامتان هيجل وشليجل قراءة عليهما. وحدثنا الناقدان هردر وفيخت، ولم يقل بماذا حدثوه، وأغلب الظن انهم لم يحدثوه بشيء أو لعله آثر ألا يروي عن هؤلاء العلماء الألمان حتى يرى العالم ماذا ستصنعه ألمانيا في مشكلة دانزج.
وحدثتنا السيدة الجليلة هدى هانم شعراوي قالت: إن هذا الشاعر الذي أصبح يتغنى بترفعه عن أن يحدث زوجته في شئونه أو أن تحدثه زوجته في شئونه، يعد حديث الرجل وزوجته في الشئون المشتركة بينهما ضربا من (اليهفوفيه)؛ إن هذا الشاعر وأمثاله هم الذين مكنوا لقاسم أمين من السعي في تحرير المرأة الشرقية. ولو أن الشعراء في القرن التاسع عشر قد قبلوا أن يكونوا يهافيف فركبوا المركب الذي تختاره لهم أزواجهم لما استطاع قاسم وأعوان قاسم أن يلحنوا هذا الشعر تلحينا يبدو للجاهل أنه أخرجه عن معناه، ويبدو للمتأمل انه سد ثغره وأكمل نقصه وأنه لم يناقضه، ولا حاد به عن طبيعته، فطبيعة هذا التغني بالترفع عن الزوجة هي بعينها مقدمة التحرير. ولقد أطرب اللحن وأشجى وكان من أثره ظهور نهضتنا الأدبية النسوية ونشر هذه اليهفوفيه وأنشدت:
صوت
من أنت ماذا تكون يا رجل
…
أظهر ما في طباعك البهل
في كل حين تقول يا امرأتي
…
يا امرأتي. . . ما تريد يا رجل؟
الشعر لزوجة أديب كبير من شعراء العصر الحاضر اعتاد أن ينشر كل أسبوع مقالة يقول فيها: (وقلت لزوجتي أنت يا امرأة) فقالت هذه السيدة المحترمة:
. . . . يا امرأتي. . .
…
يا امرأتي. . . ما تريد يا رجل!
ثم أتمت القصيدة.
حدثنا الأستاذ أحمد الشايب قال: حدثنا أحمد أمين قال: إن الأدب الجاهلي جنى على الأدب العربي في هذا الباب أيضا باب العلاقة الجنسية، فلولا تقديس أدباء العربية للجاهليين لنزع كل أديب نزعة شخصية صادقة كانت تقيهم على الأقل من سخرية المتنبي منهم في قوله:
إذا كان مدح فالنسيب المقدم
…
أكل أديب قال شعراً متيم
ولكن الأمر لم يقتصر على استخفاف المتنبي بالأثر الذي تركه الجاهليون بتقديس العرب إياهم في شعر العرب بعد أن وجب زوال الأثر الجاهلي.
قال عروة:
فإن يأخذوا أسماء موقف ساعة
…
فمأخذ ليلى وهي عذراء أعجب
وكان هذا القول طبيعياً ممن يئدون البنات خشية الإملاق ولكن تحدث طبيب ليلى المريضة
بالعراق عن ظفره بليلى وفضيحته إياها هذه الفضيحة الشنعاء ليست إلا أثراً من أثر الشعر الجاهلي فيه.
قال أحمد أمين: وهل نجد في الشرق رجلا ممن لم يقرءوا الشعر الجاهلي يستسيغ أن يفضح من يزعم أنه يحبها هذه الفضيحة؟ إلا رحم الله الأبيوردي حيث يقول:
وكم للغواني من يد قد جحدتها
…
وشكر أيادي الغانيات جحودها
فهذا هو الشعور الطبيعي عند رجل متمدين. أما الذي يقول فيما يقول: إن زوجتي أطال الله عمرها لن تموت بداء غير داء الغيرة، فلا أستطيع تأدبا أن أصفه بغير التمدين ولكني أصفه بالتأثر الشديد بالشعر الجاهلي. وهل من حق إنسان أن يتحدث عن الأدب وهو لا يقدر أثر الإحياء الدائم المستمر في النفس؟
لقد نمنع أبناءنا عن الاتصال بالطبقات التي لا نرضى عن أخلاقها خشية كلمة تقال فتترك في النفس أثرها فكيف بشعر نعجب به ونمجده ونستظهره ثم نعيده ونستعيده سنين، ثم نعلمه بعد أن نتعلمه فإذا نسيناه رسب في عقلنا الباطن؛ ألا يترك هذا كله أثرا في النفس؟ وإذا لم يكن التكرار المقرون بالإعجاب ليترك أثرا في النفس فلماذا نؤمن بالأدب ولماذا نكتب؟ دعنا مما يقوله علماء النفس في الإيحاء ولننزل إلى مرتبة العامة. ألم نسمع قول العامة:(الدوي في الآذان أشد تأثيرا من السحر).
هؤلاء الجاهليون الذين يئدون البنات تركوا في القرن التاسع عشر من يقول:
ولست بيهفوف يرى رأى عرسه
…
إذا أركبته مركبا فهو راكبه
يظل إذا ما نابه الخطب حائرا
…
يخاطبها في شأنه وتخاطبه
وحدثنا الأستاذ فرويد قال:. . . ولكنني لا أذكر ما قال فقد كان يتحدث عن العقد وهذه عقدة العقد.
وحدثنا الدكتور محمد حسين هيكل باشا قال: أما أن لغة الجاهلية لغة سليمة فمما لا ريب فيه، لأنها إما أن تكون هي العربية الأصلية إن كان هناك شعر جاهلي، وإما أن تكون لغة أعلم الناس باللغة الجاهلية إن كان علماء الأدباء في العصر الأموي قد وضعوا ذلك الشعر نماذج كما ينبغي أن تكون عليه اللغة. ولكن كون الفكر الجاهلي يعرب عن الرأي الراجح فهو المحال بعينه. وكيف نستطيع التوفيق بين الإيمان بحياة محمد وبين الإيمان برأي إنما
بعث محمد لكي يهدمه؟ ولقد تلقينا الشعر الجاهلي لغة لها أسلوب يجب أن نرضاه؛ وفيها معان قصارى الرأي فيها أنها وليدة أفكار ومبادئ، وليس بالمقبول ولا المعقول أن تكون هذه المعاني خالية من الفساد وإلا فلماذا نشأ الدين؟ وما جدوى الحياة الإنسانية إن كانت هذه الآراء وتلك المبادئ لا تزال صالحة بعد خمسة عشر قرنا من الزمان؟ إنه ينبغي على من يعلم النشء لغة الجاهلية أن يحذرهم من قبول الفكرة الجاهلية فإن التكرار مع الاستحسان يورث العادة، وليس كذلك التكرار مع الاستهجان. وإني لأعجب من معلم للغة العربية يعلم تلاميذه قول الشاعر الجاهلي
نسوق النساء عوذها وعشارها
ثم لا يقول لهم إن لغة هذا الشاعر سليمة ولكنه من حيث الأخلاق لا يمتاز شيئا عن البهائم. وإني لأعجب من معلم للغة العربية لا يقول لتلاميذه إن امرأ القيس وإن كان عبقرية معجزة في فنه فإنه كان في آرائه وشعوره نحو النساء كأي حمار في الطريق؛ وإن غزله لا يختلف شيئا عن النهيق وإن لنا منه اللغة. أما الشعور الإنساني الصحيح ففي قول الشاعر
وكم للغواني من يد قد جحدتها
…
وشكر أيادي الغانيات جحودها
وقال الدكتور طه حسين إن إنكارنا للأدب الجاهلي لا يتنافى مع صحة الرأي الذي تحدث به هيكل باشا، فإن الذين لفقوا الشعر الجاهلي إنما لاحظوا طبائع الجاهلية وسجاياها.
وحدثنا الدكتور زكي مبارك قال: إن أبا الفرج الإسكندراني رجل منافق في علاقته النسوية ومثله في ذلك كمثل الأبيوردي سواء بسواء. وأنا لا أقول كما يقول الأبيوردي
وكم للغواني من يد جحدتها
…
وشكر أيادي الغانيات جحودها
ولكنني أقول إن صبايا سنتريس سيقتل بعضهن بعضا غيرة علي وأقول كما يقول أبو نواس الذي لم يكن بالجاهلي:
ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر
وأقول كما يقول كشاجم وليس بالجاهلي:
خوفوني من فضيحته
…
ليته يدنو ونفتضح
صوت
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
…
وداوني بالتي كانت هي الداء
الشعر لأبي نواس واللحن للدكتور زكي مبارك
(يتبع)
عبد اللطيف النشار
الجبرية والاختيار
في كتاب الفصول والغايات
(مهداة إلى الأستاذ محمود حسن زناتي)
للأديب السيد محمد العزاوي
- 1 -
. . . وقول الحق أمثل من السكون، واستقامة العالم لا تكون، ولذة الدنيا مقطعة، وخبر الميت غير جلي، إلا أنه قد لقي ما حذر، فاسع لنفسك الخاطئة في الصلاح.
من المسائل التي واجهت الباحثين والفلاسفة منذ زمن بعيد مسألة الجبر والاختيار؛ تكلم فيها اليونان والفرس، ونقلها عن اليونان السريان، وخاض فيها النصارى حينما تفلسفت ديانتهم، وتكلم فيها الكلاميون من المسلمين. وكانت تتلون في مراحلها وتختلف باختلاف هذه المدارس. فإذا تكلم فيها الفلاسفة قصدوا إلى غرض فلسفي بحت: وهو تفسير الكون ومظاهره تفسيرا ما؛ وإذا تكلم فيها الأخلاقيون قصدوا إلى غرض اجتماعي: هو النظر في المجتمع ونقده، وإصلاحه أو محاولة ذلك؛ وإذا تكلم فيها أهل الدين فإنما يلتمسون من بحثها تخريجات تبرر مسئولية الفرد عن أعماله، وتقيم فكرة البعث والحساب والعقاب على أسس تختلف قوة وضعفاً.
والفلاسفة يعنيهم أن يتفهموا الكون وحركاته، كل ما يجرى فيه اهو ضروري ناتج عن إرادة مسيطرة متصرفة، أم هو نتيجة اتفاق بحت لا يربطه قانون أو تقيده قواعد. وهم بعد ذلك ينتقلون إلى الإنسان مظهر هذه المشكلة اهو مخير فيما يفعل، بمعنى أن لا شئ يمنعه من إتيان عمل ما، أو يدفعه إلى فعله، بمعنى أن أمره موكول إلى إرادته الخاضعة للمؤثرات الخارجية من ظروف وصدف. أم هو مجبر فيما يفعل بمعنى أن قوة تدفعه إلى أن يفعل ما يأتيه مجبرا، فهو كالعالم منضبط بتلك القوة التي تسيطر عليه، خاضع لنفس القوانين التي يخضع لها هذا الكون.
والأخلاقيون يعنيهم البحث في الأفعال الإنسانية من حيث هي صادرة عن التكوين الخلقي للإنسان فقط ولا أثر لعامل خارجي عليها، أو أن النظم الاجتماعية والظروف الطبيعية التي
يعيش الفرد تحت تأثيرها تعينان نوع الأفعال الصادرة عن الإنسان؛ وبأي معنى من المعاني يعتبر المرء حرا على هذا الأساس. وعلى أية فسواء اتفق الأخلاقيون في وجهات نظرهم إلى تلك المسألة أم اختلفوا فهم متفقون في الغرض، وهو إصلاح المجتمع وتهذيبه.
أما رجال الدين والكلاميون من المسلمين فقد خاضوا فيها وكان همهم الأول البرهنة على أن الإنسان إما خالق لأفعاله فهو مسئول عنها أمام الله في القيامة، ويحق عليه الجزاء ثوابا وعقابا؛ أو أن الإنسان وأفعاله من خلق الله فلا يكون ثمة حساب أو عقاب؛ وهمهم الثاني هو البحث في معرفة الله لما يحدث: أهي قبل الحدث أم بعده.
والكلام في القدر لم ينشأ إلا في الشام والبحرين على خلاف في اسبق القطرين إلى الخوض فيه. ثم إنه نشأ دخيلا على الإسلام: أعني أن أول من تكلم فيه كان نصرانيا وأسلم ثم تنصر، وأخذ عنه معبد الجهني وغيلان الدمشقي. كان هذا بدء الكلام في القدر. وقد أتاحت الخلافات السياسية حول الخلافة لهذه الأبحاث أن تروج وتتضخم، وأن تنقسم وتتكاثر. فإن الخلافة كانت مصدر القلاقل والفتن في أيام الخلفاء الراشدين، وإن الفتن أنتجت شيعة وخوارج ومرجئة ومعتزلة وأزارقة وأشاعرة إلى غير هذه الفرق التي تختلف فيما بينها بالرأي في الخلافة والخليفة غالباً. والذي يعنينا هنا فرقتان من هذه الفرق العديدة: المعتزلة، والجهمية. فقد كانت آراؤهما أروج الآراء انتشاراً في هذا الباب.
أما الجهمية فقد كانت تقول بالجبرية المطلقة أي إن الإنسان كالجماد وأن الله يخلق فيه الأفعال كما يخلقها في الجماد، ويجبر عليه الحساب ثوابا وعقابا.
أما المعتزلة فقد تكونت على أثر خلاف في مرتكب الكبيرة اهو كافر خالد في النار. وقد قالوا بأن الله لا يخلق أفعال الناس بل هم يخلقونها، وبان الله لا صفات له غير ذاته. فشاركوا الجهمية في هذا الأصل، وقد أقروا بسلطة العقل وقدرته على الحكم بالحسن والقبح العقليين.
ولو كان الأمر في هذه الفرق قاصرا على حد الكلام والاستعانة بالفلسفة اليونانية وغيرها لما كان لها هذه الأهمية التي شغلتها. ذلك بأنها كانت تريد بسط تعاليمها على الواقع العملي. فالمعتزلة حين قرروا مبدأ حرية الإنسان كانوا يريدون من ذلك أن الناس مسؤولون عما يقومون به من حروب ومنازعات؛ وحين قرروا مبدأ السلطان العقلي كانوا يريدون
القياس في الحكم. وذلك أمر لم يقره أهل السنة وكان سبب خلاف كبير. وقد تمكنوا أن يسيطروا على الواقع السياسي مدة من العصر الأموي الأخير؛ فقد اعتنق مبادئهم يزيد الناقص ومروان بن محمد وأخوه إبراهيم.
والمهم أنه ما كاد يأتي القرن الثالث والرابع، حتى كان علم الكلام قد نضج نضجا، وحتى ترجم إلى العربية فلسفات كثيرة، وحتى اختلط ذلك كله بالدين والعقائد. وقد عملت أحداث السياسة وفتن الرأي على إضعاف الدولة واضمحلال الملك. وكان الشام هو مرجل فتن الرأي والدين والفلسفة والسياسة جميعا. كان هو والعراق فقط، أما ما عدا ذلك من أنحاء الدولة الإسلامية فقد كان مستقرا نوع استقرار.
في هذا الوسط المضطرب المحتدم نشأ أبو العلاء، وتنقل بين أرجائه ما بين المعرة وحلب وبغداد، فشارف ما كان بعصره من الفلسفات اليونانية والإسلامية والمسيحية واليهودية والمجوسية وكانت من عناصر ثقافته، هذا إلى نظراته الخاصة ولمحاته الشعرية العديدة.
ولم يحاول أبو العلاء في (الفصول والغايات) أن يسلك هذا المسلك الذي نراه من تقيد فني باللفظ ولزوم ما لا يلزم ونظام الفصول والغايات والنغم والموسيقى، إلى غير ذلك من الفنون النثرية ليدل على مقدرته الفنية، أو يبرهن على سعة اطلاعه ومعرفته بأخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم، وذكاء فؤاده اللماح، بل أنا أوشك أن أقول بأنه قد سلك ذلك حتى يصرف الناس إلى ظواهر الأشياء، حتى لا يصيبه أذى من السفهاء، وحتى يأخذ كل من معانيه ما يلائمه وما يستطيعه عقله ويقبله ذهنه. فهذا أمر يوجب الجذر حين نتلقى عن المعري آراءه. وأمر ثان هو أن المعري كان منعزلاً لا هم له إلا تقرّي نفسه وملاحظتها ملاحظة دقيقة. وقد يحتاج أحيانا إلى الترويح والتسلية، وكان يعمد إلى هذا النوع من اللهو بالمعاني والألفاظ، وذلك واضح جدا في فنه اللفظي على الأقل. فعندما نسمع قول المعري يجب أن نحتاط قليلا، فربما حمله العبث باللفظ على شئ من الاعتساف في المعنى، أو اندفع إلى معنى غريب غير مقصود في سبيل أن يستقيم له فنه اللفظي الذي أخذ نفسه به أخذا عنيفا، وكثيرا ما شط به المعنى عن اللفظ. يجب أن نحتاط إذن حينما نسجل على المعري آراءه، فنحن لا نعرف متى كان المعري هازلا، ومتى كان جادا في عبثه بالألفاظ والمعاني. وأمر ثالث يجب أن نلتفت إليه: فهو قد يرى آراء يحرص عليها فيدونها على
أنها من فلسفته، ويمكن أن تكون آراء لغيره دونها للتصوير والافتنان، ويمكن أن تكون بين بين: أعني أنها خواطر عرضت له كما تخطر الخواطر لأي شاعر سواء تعارضت مع مبادئه العامة أو اتفقت. فلا عجب إذا رأيته يحدثك بان الإنسان مجبور في كل أعماله وتصرفاته، ثم يأتي فيذكر لك أن للمخلوق في الأقدار تصريفا! فهذا لا مرد له إلا ما قلت من أمر عبثه بتلك الخواطر السوانح له في خلوته، وحرصه على تدوينها متفننا مبتدعا مستعينا على ذلك بما علم من شعر الأقدمين وأخبارهم وعلومهم.
وأبو العلاء يقول بالجبر المطلق في أفعال الإنسان وأعماله، ويرتب على ذلك نتائج اجتماعية خطيرة، وآراء فلسفية خطيرة كذلك.
ونحن إذا أردنا أن نلتمس نظرية الجبر عنده فلن نجدها مجموعة في مكان وأحد، ولا هو يعالجها بأسلوب وأحد، وإنما أنت تقرا الكتاب جميعا فتجده ينطق جبرية، إذ لا يكاد فصل من الفصول يخلو من الجبر تلميحا أو تصريحا أو رمزاً. فهو ساخر مرة، ثائر أخرى، هادئ أحيانا، ممجد قنوع في اكثر الكتاب. على أن تقريره الجبر المطلق أوقعه في حيره وارتياب كبيرين، فمن الناحية الدينية لا تستطيع أن تستبين رأيه في التكليف ولا في البعث فهو مضطرب فيهما أشد اضطراب، ذلك لان الجبرية إما أن الله يقدر عليك العمل ويقدر عليك الجزاء كما تقول الجهمية، وهو عبث يأباه المعري على الله؛ وإما أن تقدر عليك العمل ولا جزاء، وهو ما يلائم المعقول حالة تقدير العمل، ولكنه يخالف الدين صراحة. والمعري في كل أحواله آخذ بما يرى العقل. والعقل هو الذي هداه إلى أن الجبر مسلم به، لأن كل شئ في هذه الحياة إنما هو نتيجة لشيء كان قبله ومقدمة لما يأتي بعده، وإلا إذا كان الأمر اختيارا فإما أن يكون متصلا بما قبله وما بعده، اتصال العلة بمعلولها فيكون الجبر بعينه، أو أن يكون الأمر فوضى واضطرابا وهو ما لا يثبته الواقع الخارجي.
ولست بسبيل أن أدافع عن نظرية الجبر، أو أتكلم عنها مطلقة، ولكني أثبت صفات الفلسفة العلائية صحت أو لم تصح. وأقرر أنه اعتمد على العقل في كل أحواله، وعلى العقل فقط؛ فما قام عليه دليل العقل احترامه واعتنقه، وما لم يقم عليه دليل أو خرج عن حيز العقل وقف منه المعري موقفا يختلف رفضا وشكا، لا يصلان إلى درجة الإنكار المحض، ولا الإيمان المسلّم، وخاصة إذا كان الأمر يمس الدين والقدرة الإلهية من قريب أو بعيد.
ولكن ذلك قد يدفع المرء إلى أن يتساءل هل أخذ أبو العلاء بهذا الأصل في كل فلسفته؟ قد يكون أخذ به في اللزوميات من بعد، ولكنه في (الفصول والغايات) يصرح بأنه (يدرك العلم بثلاثة أشياء: بالقياس الثابت، والعيان المدرك، والخبر المتواتر. فأما الحس فزجر طير هي خليقة بالكذب، وإن صدقت فباتفاق؛ والعلم لله كملا) وقد توفر للمعري اثنان من مدركات العلم، ولكنه أهمل المتواتر حرصا منه على الحقيقة، واحترازا مما قد يكون أصابها من خطا أو تحريف. فإذا خُبِّر خبر الجرادتين اللتين غنتا لوفد عاد تساءل:(ما قالت الجرادتان لوفد عاد؟ قالتا ما الله به عليم، طال الزمن فلم يعلم القيل. . .) فعلمها عند الله وحده؛ وسواء سلم بصحة الحادث، ورفض المروى، أو رفض الخبر أصلا فهو لا يعتمده في شئ مصدرا من مصادر العلم أو اكتسابه، فلم يبق له إلا القياس الثابت: حكم العقل، فهو يهتدي به ويتخذه نبراسه في كل أموره وشؤون فكره، وهو مع ذلك كثير الشك كثير التساؤل كثير الحيرة، يحس ذلك من نفسه فيعترف به اعترافا صريحا إذ يقول (أدلج وأدلج، وإذا سئلت فأنا ملجلج، والله للمنصف ظهير). . لا يجزم بشيء ولكنه مؤدب اشد الأدب، يتساءل في عجب بدل أن يعترض أو يثور. وهو منطقي النهج في التفكير يقدم المقدمات، ويستنتج النتائج ويقيس عليها قياسا منضبطا. فانظر إلى هذا القياس المنطقي الدقيق (المدمن على اللهو، خدن الغفلة والسهو، المنتقل من بهو إلى بهو، ملئ من الكبر والزهو، يسبح في عيش رهو، يسأل عن الطعام والطهو، أخسر صفقه من شيخ مهو) هذا قياس منطقي سليم؛ فهو يؤكد أن الشاب المرح خاسر، وهو لا يعفي الشيخ من الخسر كذلك، ولكنه لا يدري أتؤيد الحقيقة هذا القياس فيقول (فدلني ربي على الرباح).
وحين تتعارض وسيلته هذه مع الحقيقة أو الواقع يتحير فيقول: (هكذا يقول المعقول ولله نظر في العالم دقيق). وهو يوصيك بأنك (إن سمعت أن الرقيع أمطر جندلاً، وأنبتت البقيع حنظلا. فقل: أما في المعقول فلا، وأما في القدرة فبلى) فهو هنا يثبت بان الله حكمة وقدرة أعظم من أن يتصورها العقل أو يدركها، ويسجل أن الله قدير لا تتقيد قدرته بمعقول أو غير معقول، ولكن ذلك لم يمنعه أن يعمل عقله فينتهي به هذا إلى استحالة ذهنية، فهو يقر بهذا العجز المطلق عن إدراك أغراض القوة الخفية؛ وهو إذا ما فكر وأطال التفكير في الجبر والاختيار والثواب والعقاب فدان بالجبر وأنكر الثواب والعقاب كما يرشده إلى ذلك
عقله استدرك وكر متراجعا في حيطة وحذر (فسُبحان الخالقِ غافِراً ومُعذِّباً، آلرّشدُ دفينٌ، أمْ أنا أفينٌ؟ قَدْ عشتُ زمناً فما رِشتُ، ابْرِكي يا مَطِيّة فهذا المناخُ).
ولعل عجزه عن أن يقيم أقضيه العقل على حكمة الله قد دفعه في يسير من وقت أن يقر الخيرة للإنسان. فنجده يمجد الله تعالى (مَنْ خارَ لِعبادِهَِ وهُمْ للخيرَةِ كارهون) ويسأل الإنسان متعجبا أن (ما يَمْنعكَ أنْ تَتَّخذَ الْقِسِيَّ وأنتَ في بِلادِ الضَّالِ)، ويحض المرء أن (دَعْ ما ضَرَ وصَعُبْ عَلَى مَا نَفَعَ وَهانَ، وَخلِّ ما غَمَرَ إلى ما غَمَّرَ واتركْ المِضلَّة إلَى المرشدةِ، فَإن طُرَقَ الخيرِ كثيرٌ) ولكننا سنرى المعري في كل الكتاب يقرر ويقرر (أنَّ رَبَّنَا المُوَفِّقَ لجَمِيعِ السَّدَادِ) وأنك (لَنْ تَقْضِيَ أَمْراً إلاّ بِالْقَضَاءِ).
وحيرته هذه ناشئة من طبيعة وسيلته إلى العلم. ذلك بأنه مؤمن بان العقل وحده هو الموصل إلى العلم، وهو واثق من أنه ما دام قد أوصله العقل إلى الطبيعة فلا بد أن يصل به إلى ما بعد الطبيعة. وهو مؤمن كذلك بان الله خلق هذا الكون عن حكمة.
(للبحث صلة)
السيد محمد العزاوي
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
487 -
مثاقف
يتيمة الثعالبي: سمعت عونا الهمذاني يقول: أتى الصاحب ابن عباد بغلام مثاقف. فلعب بين يديه. فاستحسن صورته وأعجب بمثاقفته. فقال لأصحابه: قولوا في وصفه، فلم يصنعوا شيئاً. فقال الصاحب:
ومثاقف في غاية الحذق
…
فاق حسان الغرب والشرق
شبهته والسيف في كفه
…
بالبدر إذ يلعب بالبرق
479 -
راقص
قال ابن خروف في غلام جميل الصورة راقص:
ومنزّع الحركات يلعب بالذهى
…
لبس المحاسن عند خلع لباسه
متأوّد كالغصن وسط رياضه
…
متلاعب كالضبي عند كناسه
بالعقل يلعب مدبراً أو مقبلاً
…
كالدهر يلعب كيف شاء بناسه
وبضم للقدمين منه رأسه
…
كالسيف ضُمّ ذبابه لرياسه
480 -
وان غلبه العدو لم يغلبه حقير
قال لسان الدين بن الخطيب: حضرت يوما بين يدي السلطان أبي عنان في بعض وفاداتي عليه، وجرى ذكر بعض أعدائه فقلت ما أعتقده في إطراء ذلك العدو، وما عرفته من فضله. فأنكر عليّ بعضَ الحاضرين ممن لا يحطب إلا في حبل السلطان. فصرفت وجهي وقلت: أيدكم الله! تحقير عدو السلطان بين يديه ليس من السياسة في شيء بل غير ذلك أحق؛ فإن كان السلطان غلب عدوَّه كان قد غلب غير حقير، وهو الأولى بفخره وجلالة قدره، وإن غلبه العدو لم يغلبه حقير فيكون أشد للحسرة وآكد للفضيحة. فوافق رحمه الله على ذلك واستحسنه، وشكر عليه، وخجل المعترض.
481 -
تفتضح العشاق وقت الرحيل
قال ابن السكيت: عزم محمد بن عبد الله بن طاهر على الحج. فخرجت إليه جارية له
شاعرة فبكت لما رأت آلة السفر. فقال:
دمعةٌ كاللؤلؤ الرّطْ
…
بِ على الخدّ الأسيل
هطلتْ في ساعة البي
…
نِ من الطرف الكحيل
فقال مجيزة:
حين همّ القمرُ البا
…
هرُ عنّا بالأفول
إنما تفتضحُ العشّ
…
اقُ في وقت الرحيل
482 -
تغافل كأنك واسطي
في (معجم البلدان وخزانة البغدادي): شرع الحجاج في عمارة واسط سنة (84). ولما فرغ منها سنة (86) كتب إلى عبد الملك: (إني اتخذت مدينة في كرش من الأرض بين الجبل والمصرين وسميتها واسط)؛ ولذلك سمي أهل واسط: (الكرشيين) فكان إذا مر أحدهم بالبصرة نادوا: يا كرشي فيتغافل ويرى أنه لا يسمع أو أن الخطاب ليس معه. فقيل: تغافل واسطي، وتغافل كأنك واسطي. ولفضل الرقاشي:
تركت عيادتي ونسيت برى
…
وقدماً كنت بي براً حفيا
فما هذا التغافل يا ابن عيسى
…
أظنك صرت بعدي واسطيا
483 -
ولكن قذاها زائر لا نحبه
في الأغاني: بينا الأخطل جالس عند امرأة من قومه، وكان أهل البدو إذ ذاك يتحدث رجالهم إلى النساء لا يرون بذلك باسا وبين يديه باطية شراب، والمرأة تحدثه وهو يشرب. . . إذ دخل رجل فجلس. فثقل على الأخطل وكره أن يقول له: قم، استحياء منه! وأطال الرجل الجلوس إلى أن أقبل ذباب فوقع في الباطية في شرابه. فقال الرجل: يا أبا مالك، الذباب في شرابك! فقال:
وليس القذى بالعود يسقط في الخمر
…
ولا بذباب، نزعُه أيسرُ الأمر
ولكن قذاها زائر لا نحبه
…
رمتنا به الغيطان من حيث لا ندري
فقام الرجل فانصرف:
484 -
كلب البيت
ابن قتيبة: قال عُمارة بن حمزة: يُخبز في بيتي كل يوم ألف رغيف، كلهم يأكله حلالا غيري. . . (وكان يأكل رغيفا وأحدا). ويقولون: فلان رب البيت، وإنما هو كلب البيت.
485 -
الأراجيف
في (تاريخ الأمم والملوك) لابن جرير الطبري: قال أحمد ابن اسحق بن برصوما: لما حصر محمد (الأمين) وضغطه الأمر قال: ويحكم! ما أحد يستراح إليه؟ فقيل: بلى، رجل من العرب من أهل الكوفة يقال له: وضاح بن حبيب بن بديل التميمي، وهو بقية من بقايا العرب وذو رأي أصيل. قال: فأرسلوا إليه. فقدم عليه. فلما صار إليه قال له: إني قد خُبّرت بمذهبك ورأيك فأشر علينا في أمرنا. قال له: يا أمير المؤمنين، قد بطل الرأي اليوم وذهب، ولكن استعمل الأراجيف؛ فإنها من آلة الحرب فنصب رجلا كان ينزل دجيلا يقال له: بكير بن المعتمر فكان إذا نزلت بمحمد نارلة وحادثة هزيمة، قال له: هات! فقد جاءنا نازلة. فيضع له الأخبار، فإذا مشى الناس تبينوا بطلانها.
ابنة العار
للأستاذ فؤاد بليبل
يا ابنةَ العارِ، والخنى، والرذيلَةْ
…
أنا لولاكِ ما عرَفتُ الفضيلةْ
أنتِ كالليلِ، فيه قد كمَنَ النُّو
…
رُ ومنه مدَّ الصباح تَليْلَهْ
ومن السمِّ ما يعلُّ ومنهُ
…
ما تداوي بِه الجسومُ العليله
إنَّ في لحظِكِ الأثيمِ بريقاً
…
طاهراً أخطأَ الوزى تأويله
هو صحوُ الضميرِ من غفلةِ الإث
…
مِ على مصرعِ الخلالِ النبيله
هو ومضُ الحياءِ في غيهبِ البغ
…
ي وفيضٌ من المعاني الجليله
هو ذوبٌ من الشعور رقيقٌ
…
لاحَ كالفجرِ في ظلامِ الرذيله
هو روحٌ ذابتْ أَسى فاستحالت
…
عبراتٍ بين الجفونِ الكحيله
أثقلتها الآثامُ فهي شرورٌ
…
وَجَلَتْها الآلاُم فهي صَقيله
كلما دانت الحقيقةَ أَلْفَتْ
…
دونَ إدراكِها سجوفاً سديله
ونزاعاً طيَّ الضلوع عنيفاً
…
بين قلبٍ صحا ونفسٍ ضليله
ومن العارِ ما يبرِّده الجه
…
لُ وما يجهلُ الورى تعليله
يا ابنةَ العارِ أنتِ بالعُذْر أولى
…
منكِ بالعَذْل جارِحاً والنميله
إنما النذْلُ من حداكِ على الرج
…
س وأغراكِ بالوعودِ الجميله
زيَّنَ الوِزْرَ والمخازي لعين
…
ك ولم يدَّخر لخدعِكِ حيله
وأراك المنيع حِلاًّ شهيّاً
…
لا لشيءٍ إلا ليروي غليله
فإذا بالنكيرِ غيرُ نكيرٍ
…
ساغَ حتى لم تنكري تحليله
فخلعتِ العِذَارَ ساعةَ لهوٍ
…
ونَبَذْتِ الحياَء إلا قليله
فضيَ الأمرُ، واستفقتِ على الخز
…
ي فحاولتِ بالدموعِ غسيله
وأبى الشرعُ والتقاليدُ إلاّ
…
أن تظلِّي - وإن ندمتِ - نذيله
وتنحَّى عنكِ الجميعُ ولم تج
…
دِكِ نفعاً تلك الدموعُ الطليله
قتلوا فيكِ كلَّ روحٍ شريفٍ
…
وأحلُّوا روحَ الفسادِ بديله
ثم أرادُوكِ أن تكوني بغيّاً
…
وهُم أَقْلَعوكِ ثَوْبَ الفضيله
فتردَّيتِ في النقائصِ والبُط
…
لِ ولو أَصلحوكِ كنتِ كميله
هفوةٌ بعد هفوةٍ بعد أُخرى
…
هفواتٌ كانتْ عليك وبيله
ليتَ شعري ماذا جنيتِ من الطي
…
شِ سوى الغمِّ والحياةِ الذليله
وانهيارِ الآمالِ والندمِ المرِّ (م)
…
وندبِ الرغائبِ المستحيله
وذبولِ الشبابِ دَارَت عليهِ
…
برحاها أيدي المجونِ الثقيله
وغضونٌ تزدادُ يوماً فيوماً
…
وعيونٌ كادتْ تكونُ كليله
وضميرٌ قد حجّرَتْهُ المعاصي
…
وحياةٌ بالموبقاتِ حفيله
(دار الأهرام)
فؤاد بليبل $ 2
الإسكندرية
للأستاذ حسن كامل الصيرفي
يا فِتْنَةً سَحَرَتْني
…
فيها الرُّؤَى تَتَجَسَّمْ!
ما أَنتِ إلا خَيَالٌ
…
في رأسِ وَسْنانَ يَحْلُمْ!
على ضفافكِ تمضي ال
…
عصورُ لا تتكلَّمْ!
المَوجُ يَصْخَبُ هُزَْءاً
…
والشطُّ جَذْلانُ يَبسِمْ
وأنتِ! أنتِ جلالٌ
…
على البسيطةِ خَيَّمْ
للشعرِ قُدْسٌ ومَغنَى
…
وللمفاتنِ مَوْسِمْ
يا فِتْنَةً تَتَجنَّى
…
على الخِضَمِّ وتَعْظُمْ
حَمَلْتُ قيثارَ شِعْرِي
…
وَجِئْتُ كي أَتَرَنَّمْ
فما تَسَمَّعْتُ إلا
…
قصيدةً لا تُترْجَمْ
منظومةً من حسانٍ
…
على الشَّواطئ نُوَّمْ
هُنَّ المعاني ولكن
…
أسرارُها ليس تُعْلَمْ!
وكأسُ حُسْنِكِ تُوحي
…
بالمُبْدعاتِ وتُلْهِمْ
حَبَابُها سابِحَاتٌ
…
من الكواكبِ عُوَّمْ
يَهَبْنَ في اليَمِّ ما لا
…
يهبن في الأرض مُغْرَمْ!
عَجِبْتُ للشَّطِّ تَحمَى
…
بهِ الرِّمالُ وَتُضْرَم
وقد تَرَامَتْ عليه
…
هَياكِل الفنِّ جُثَّم
حِسانُه تَتعَرَّى
…
ونَجمُهُ يَتَحَشَّم!
وفِتنةُ الحُسنِ تَطغَى
…
على القلوب وتَحْكم
يا فتنةَ الصّيْف هَذِي
…
مواكبُ الناسِ تُزَحم
فرُّوا إليك سِراعاً
…
من عَالَمٍ كجَهنَّمْ
ومِنْ قُيودٍ ثقالٍ
…
ومِن تقاليدَ تُسْأمْ
إلى حياةِ مِرَاحٍ
…
ومُتْعَةٍ وَتَنَعُّمْ
على ضِفَافِك تُبْنَى
…
مُنىً. وفي الغدِ تُهدَم
طُفُولَةُ العمْرِ حُلْمٌ
…
هُنا. وفي الصحْو تهرَمْ!
حسن كامل الصيرفي
قُبَيْلَ الوَدَاع.
. .
للأستاذ العوضي الوكيل
لا تعذليهِ إذا انهلّت بوادرُهُ
…
فَقدْ دَهاهُ وشيكاً ما يحاذِرهُ
دنا الفراقُ وفي ذكر اسمه أَلَمٌ
…
القلبُ قد دَمِيتْ منه ضمائرهُ
وأقبلَ اليومُ لا كانت أوائلُهُ
…
من الزمان. ولا كانت أواخِرُه
الصبحُ وهو بشير الحسنِ قد شَحَبتْ
…
سِمَاتُهُ فهو جَهْمُ الوَجْهِ بَاسِرُه
لا الشمس في أفقه شمسُ تنيرُ ولا
…
شعاعها باسمُ التلْماحِ ناضِرُهُ
ما إن أطالعُ في الأكوانِ من بَهِجٍ
…
يوماً ومسرحُ حبي انفضّ سَامِرُهُ
هيهاتَ لا طربٌ يوماً ولا غَزَلٌ
…
البشر في نَفسيَ اجْتيحَتْ مَشاعِرُه
يا غائباً ليس يدري أن غيبتهُ
…
هي القضاءُ الذي تُخشَى مقادرُه
أدنيْت حَيْني وَرَوْض العمر ذو زَهَرٍ
…
والهفتاهُ إذا جفّت أزاهِرُهُ!
حِرصي عليك وقد أغريْتني زمناً
…
حرصُ البخيل إذا رنَّت دَنانِره
فكيف تَبْعُدُ عنّي أو تطيقُ نوىً
…
إن لم أقل بِكَ هجرٌ ذي مَظاهِرُهُ؟!
أزوركم وكأني لستُ زائركمْ
…
من لهفة الحب قد زادت سواعِره
والنفس تُزعم أني حين أشهدكم
…
مخيّلٌ شَبحاً قد شط زائِرُهُ
وتزعمُ النفسُ أن العَيْن قد كذَبَتْ
…
وكيف تكذبُ إنساناً نوَاظِرُهَ؟
يا أيها الريّ قد أظمأتني زمناً
…
وإن يكنْ بك نهْرٌ فاض هادره
أنتَ الربيعُ وكم لي فيكَ من غَزَلٍ
…
صاحت بلابلُهُ. . . غَنّتْ عَصافِرُهُ
عقّ الربيعُ فما رقَّت جَوانِحُهُ
…
وقد توسَّل بالأنغامِ شاعِرُه
والغُصنُ إن أهلكَ الطيرَ الصدوحَ بِهِ
…
فحسبه أنه قد ماتَ طائِرُه
فالنفسُ تأنسُ بالأغصانِ شاديةً
…
وتجتوي الروضَ إن ماتت شحارِرُه
يا سوسنَ الروضِ مجلوّاً مطالِعه
…
من قال ذاكَ ظلومُ الحسن ناكِره
بل أنتِ للعين بستانٌ به زهرٌ
…
قد ضمّه في سناكِ الحلْو ناثِرُه
لا تسأم العينُ من مرآكِ ما نَظَرَتْ
…
ولا الفؤادُ وإن طالت مَزَافِرُهُ
كفاكِ أنك في نفسي وفي أملي
…
كونٌ من الفن لا تُحصى مفاخرُه
كونٌ رحيبٌ. . . رحيبٌ لا حدودَ لَهُ
…
تكشّفت لي - من حبٍ - سَرائرُه
(سعادُ) ما كان أضناني وأتْعسنِي
…
النأيُ - ويليَ - جافي القلب جائِرُه
واستمهلي القومَ أيّاماً نجمِّلها
…
بالقرْب إني شرودُ اللبّ حائِرُه
وعشتِ لي يا رجائي في الحياة ويا
…
حلاوةَ العيشِ إن فاضت مرائره
العوضي الوكيل
جمال وقلب
(من ديوان (إشراقة) تحت الطبع)
للشاعر السوداني المرحوم التيجاني يوسف بشير
وعبدناك يا جمال وصغنا
…
لك أنفاسنا هياماً وحبا
ووهبنا لك الحياة وفجر
…
نا ينابيعها لعينيك قربى
وسحرنا بكل ما فيك من ضع
…
ف جميل، حتى استفاض وأربي!
وحبوناك ما يزيد يا لغ
…
ز وضوحاً، وأنت تفتأ صعبا!
وذهبنا بما يفسر معنا
…
ك بعيداً، وأنت أكثر قربا!
من ترى وزع المفاتن يا حس
…
ن؟ ومن ذا أوحى لنا أن نحبا؟
من ترى علم القلوب هوى الحس
…
ن وقال: اعبدي من الحسن ربا!
من ترى وثق العرى بين مسحو
…
رين، أسماهما: جمالاً وقلبا؟!
التيجاني يوسف بشير
رسالة الفن
دراسات في الفن
الحب والفن والله
معراج غاندي الفنان
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
يصف القرآن أهل الجنة فيقول: (دعواهم فيها سبحانك الهم، وتحيتهم فيها سلام، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين).
ويعرف الإنجيل الله فيقول: (الله محبة).
ويروي الأستاذ فتحي رضوان في كتابة عن غاندي أنه لما كان في جنوب أفريقيا يجاهد الإنجليز في سبيل الهنود وكرامة إنسانيتهم كان في اجتماع، وفيما هو يغادره مصطحبا سيدة إنجليزية ألفته السيدة يتسلل من جانبيها إلى ركن مضلم، ورأته في الركن يواجه شبحا ورأته يمد يده إلى يد الشبح يأخذ منها شيئا ذا نصل براق، ورأته يخفي ذا النصل، ثم يتأبط الشبح فيخرج به من الظلمة إلى النور يسايره ويحادثه ويبساطه ويوداعه، ثم يعاهده ويستوثقه أمراً جللاً ثم يحييه ويفارقه فينصرف الشاب الهندي مطمنا مؤمنا معتزاً بما فيه من كبرياء المستشهد بعد أن كان الشبح المتخفي المتلصص النازع إلى الجريمة. فراع السيدة هذا الذي رأته وسألت غاندي فقال لها: أحسست أن هنديا كامناً لي يريد القضاء عليّ لأنه حسب فيّ السوء والغدر وخيانة الهنود، فسعيت إليه، وأنا مملوء بحبه كما أحب كل الهنود. . . اتجهت إليه وأنا في هذا الحب، فما مس حبي الغل في نفسه حتى نوره فتألق حبا، فتعارفنا وتفاهمنا فتآلفنا، وتفارقنا ونحن أخوان في حب الهند والذود عن الهند.
معجزة من معجزات الحب أيد الله بها غاندي ونجاه بها من كيد كان فيه الردى والهلاك، ولم تكن معجزة كهذه لتقع بين سمع إنسان وبصره من غير أن تفعم نفسه وتشغلها باستدراكها متحسسة متفهمة تواقة إلى تحصيلها بعد ما أعلن صاحبها أنها تيسرت له بتدريب روض عليه نفسه فكان هذا الإعلان إغراء بالمعجزات تباح لمن يريده، فدار بين السيدة وغاندي حديث تقصت فيه السيدة الحب وتعلمته من أستاذه الجديد، فكان مما علمه
إياها أنه قضى زمناً ينام في مسارح العقارب والثعابين، وإنه كان يأمن عدواتها، يؤمنه حب لها كان يطوي نفسه عليه، وكانت تحسه نفاثات السم فتسالمه وتتجاوزه.
معجزات أخر تناسب من روح غاندي في نومه. فأي رجل هو؟
إنه من أولئك الذين تحيتهم سلام. . . وإنه من أولئك الذين يحققون في الأرض وصية الإنجيل ودعوته إلى الحب الذي يقول إنه هو الله. فأي رجل هو؟
ليس في تاريخه ما يدل على أنه عبقري العقل كما يعرف الناس العباقرة. كان في صباه تلميذاً متأخراً متهيباً منقبضاً عن الدرس واللعب. وكان في شبابه طالباً مجداً مثابراً شغالاً يعوض بالدأب والجهد ما تفوته عليه قلة الذكاء، وكان بعد ذلك في بدء اصطناعه المحاماة حيران متواضع الأمل، راضياً كل الرضا بأيسر النجاح لو يؤاتيه من أشق العمل، فهو يستفتي المجربين عن طرق النجاح كاليائس منه، ثم يطرب ويسعد عندما يبشره أحدهم بأن له التوفيق ما كد وانكب على عمله بالعناية والإخلاص.
فهل كان غاندي على هذا غبياً متراجع العقل حين كان في صباه التلميذ المتأخر المتهيب المنقبض عن الدرس واللعب، وهل كان في الحق قليل الذكاء حين كان في شبابه طالباً شغالاً لا يعرف فيه أساتذته ولا زملاؤه العقل المتألق الخطاف ويعرفون عنه الدأب والجد، وهل كان بعد ذلك المحامي الخائر الضعيف الجبان حين كان يسائل المجربين عن طريق النجاح في المحاماة وحين رضيت آماله أن تتواضع فتقعد عند تحصيل الرزق الهين والعيش التافه؟ هل كان غاندي هذا الإنسان الرخيص؟
الأدلة والدلائل من حياته تنفى عنه هذا. بل إنها تثبت له عكسه ونقيضه، فغاندي اليوم هو الرجل الأول بين رجال الإنسانية الروحية، وليس هو الرجل الخير بين رجال الإنسانية المادية. فلو كأنه ما حسبت له إنجلترا حساباً وما رهبت جانبه، فهي لا تخشى القسيسين ولا الرهبان بل إنها لو أمكنها أن تصرف الناس اللذين تنزل بلادهم عن الاشتغال بأمور دنياهم ما ترددت في ذلك وما تأخرت عنه، وما امتنعت عن الإنفاق على الأديرة والمعابد تحشر فيها الناس زاهدين حالمين، لتفرغ لها الأرض ترتع فيها تأكل وتشرب وتلعب وتعيث فيها تحضيراً وتمديناً. . . أما وهي تخشاه، وتتقيه، وتتملقه حيناً وتقسو عليه حيناً، فلا بد أنها تعرف فيه خطراً خطيراً تخاف أن يكتفها وأن يخنقها بهذه الخيوط الدقيقة التي
يغزلها من القطن والصوف بمغزله الصغير الذي لا يزيد ثقلاً ولا حجماً على لعب الأطفال. . .
لا يمكن أن يكون غاندي هذا قريباً من الغباء ولا الغفلة؛ وإنما هو ذكي يتسامى ذكاؤه على ذكاء الناس، وعاقل يتعالى عقله على عقولهم. وليس في هذا عجب ولا فيه خرق لنظم الطبيعة. فنحن إذا تأملنا نفس غاندي، رأينا الرفعة والسمو متحققين فيها مؤكدين في الناحيتين اللتين تكملان النفس الإنسانية إذا أضيفتا إلى العقل، وهاتان الناحيتان هما الخلق والحس. فسيرة غاندي تثبت أنه من أرفع الناس خلقاً، ومن أشدهم استساغة لمعاني الشرف والنبل والوفاء والبر والصدق والعطف والتضحية، وغير هذه من الفضائل. . . فقد كان في الهند وفي إنجلترا وفي إفريقيا الجنوبية، مثلاً سامياً للإنسان الفضيل الذي يأسر بالفضل أهله وذويه، والذي يعجز خصومه عن أن يتهموه بنقيصة خلقية، وعن أن يصفوه برذيلة. هذا على الرغم مما يرويه هو من عيوب نفسه وزلاتها. فقد اعترف على نفسه بأنه كان يسرق من أبيه ما يشتري به الدخان، كما سجل على نفسه أنه اقترف الزنا بإيحاء من صديق شقي كان يغريه بالفساد في أوائل أيام الشباب. . . فهذه الخطيئات العابرة لم تكن في الحق أكثر من محاولات صبيانية أراد غاندي أن يتذوق بعض الطعوم من لذائذ البدن عن طريقها فما تذوقها حتى عافها سريعاً، لأنه رأى فيها تعبداً لغير الطلاقة والانطلاق. فعاد وصلح؛ ومنذ أن صلح وهو - فيما يعلم الله وفيما تقول حياته المكشوفة الصريحة - لا يقترف من الذنوب إلا هفوات الأولياء الصالحين.
هذه هي أخلاق غاندي! فهو بها أقرب من نعرف من الأحياء إلى الكمال، وهو إلى ذلك بإحساسه أقرب من نعرف من الأحياء إلى الكمال أيضاً. فقد مكنه الله من أن يصفي نفسه، وأن ينقيها حتى ليبلغ من صفائها ونقائها أن تعكس على النفوس أنوار إحساسها فتغيرها وتملأها بأمان النور وبهجته. وهذه مرحلة من الإضاءة الروحية يبلغها الإنسان بعد أن تتم له استضاءة نفسه هو بالإحساس الصادق والاستجابة لصدق الإحساس، وليس أدل على ما نقوله من هذا الحادث الذي طعن فيه غاندي بالحب ذلك الذي أراد أن يطعنه بذي النصل، فقتل فيه النزوع إلى الشر واعزم على الجريمة بعد أن جمع لها إحساسه وإرادته وإيمانه، وبعد أن دبر لها وقفته وخفيته وأعد لها سلاحه، وبعد أن هانت عليه فيها حياته وفرط لها
في شبابه!
غاندي إذن هو اكمل من نعرف من الأحياء خلقاً وأنضجهم حساً. فإذا صدق أنه قليل الذكاء ضعيف العقل لأنه احتسبه في التلاميذ من المتأخرين، ولأنه كان من الشبان الشغالين، ولأنه كان من المحامين الحيارى التائهين، فإن أكبر ما كان يمكن أن نتصوره يصل إليه من مراتب الرقي البشري هو أن يكون شيخاً لطريقة من طرق التعبد والتدين اللذين يتطلبان في الصالح من أشكالهما هذا الصفاء في الحس، وهذا الكمال في الأخلاق، وقد مهدت الحياة لغاندي أن يكون هذا الشيخ، ولكنه أباه، وإن أنكر عليه شعبه هذا الإباء، وإن قدسه أهل ملته ورفعوه إلى ما يطاول مرتبة الأنبياء. ذلك بأن شعبه إذا لم يكن مفطوراً على تقديس المصلحين الأتقياء، فهو على الأقل مأخوذ بهذا التقديس متدرب عليه، فلو أن غاندي شاء أن يكون زعيماً من زعماء الدين لكان هذا الزعيم، ولما أنكر عليه الزعامة أحد، ولكنه عدل عن هذا إلى ناحية أخرى من نواحي الحياة تستلزم الكفاح العقلي والانتصار فيه، كما يسعدها التفوق الحسي والسلطان الخلقي. ولقد تم لغاندي النصر في هذه الناحية بشهادة بعض الكبار من رجال الإنجليز الذين قارعوه في الهند والذين وصفوه فقالوا: إنه رجل يمتاز في تكوينه على غيره من الرجال. . . وليست مغالبة الإنجليز الكبار بالأمر الهين، ولا الانتصار عليهم بالأمر المتاح لكل إنسان، والإنجليز حين يغالبهم الناس وحين يكافحون هم هؤلاء الغالبون لا يكافحونهم بالإحساس ولا بالأخلاق وإنما لهم في المكافحة سلاح آخر هو العقل، ويكاد العقل الإنجليزي يكون في أرقى مراتب العقل البشري، فإذا غلبهم غالب بسلاح العقل فلا يمكن أن يقال إنه قليل الذكاء أو إنه متقهقر العقل، ولقد غلبهم غاندي في مواقع كثيرة فلا بد من أن يكون أقوى منهم عقلاً وأشد ذكاء.
وإنه كذلك! وعلى هذا يتم له الانسجام النفسي القائم على أساس من النسب النفسية الرفيعة المتألفة من الحس الأنضج، والخلق الأكمل، والعقل الأوفر.
وهذا النوع من العقل هو الذي أردت أن ألفت إليه نظر القارئ في حديث اليوم. فقد رآني القارئ في أحاديث سابقة نافراً من الزي الأوربي الذي يتزيى به العقل الحديث، والذي ينزع إلى العلم المادي والحضارة المادية نزوعاً يكبت في الإنسان إحساسه ويخمد أخلاقه. وقد رآني القارئ في حديث الأسبوع الماضي أرجو للإنسانية أن ترقى فيتحقق لها العقل
الذي يطالبنا به الله فتحله محل هذا العقل الأوربي الذي لا يصدق فيه أسمه إلا من حيث إنه غلل الحس البشري وكتف الأخلاق كتفاً لا يسمح لها بالسمو إن لم يهبط بها إلى الحضيض.
عقل غاندي هو بشارة من بشائر الرقي الإنساني التي تسارع إلى الظهور في بعض مراحل التطور البشري، ولو لم تتأهب الإنسانية لإحسان استقبالها وإحسان استنباتها.
فما هي ميزة هذا العقل وما هو طابعه؟
إنه العقل النافذ الهادئ المنطلق إلى هدف يناديه من السماء والذي يدرك حقائق الأشياء وما بين الأشياء من علاقات منذ أن تعرض له هذه الأشياء، والذي يلهمه الإحساس الصادق فلا يخطئ في تقديره ولا تكييفه إياها، والذي تقوده الفضيلة إلى إحسان الموزانة بين الحقائق وبين الأشياء فيعرف أيها يأخذ لنفسه وأيها يدع، وأيها جدير بالاهتمام وأيها حقيق بالإهمال، وأيها لازم لتقويم كيان الفرد، وأيها لازم لصلاح المجتمع، وأيها بعد ذلك حشو للعقل يتخمه ولا يغذيه.
هذا هو العقل الذي زان الله به غاندي، وهو عقل ممتاز سام يدل على غاندي كما يدل عليه إحساسه وكما تدل عليه أخلاقه فهو عقل خاص نادر لأن غاندي رجل نادر، وهو بطبعه غريب على هذه الحياة وهذه الحضارة، غريب على علومها وعلى الأجواء التي يجول فيها عقلها، ولذلك فإنه يكاد يصعب عليه أن يصاحب العقل العادي وأن يماشيه، وإنما هو ينفر من ذلك العقل العادي بطبيعة تكوينه، والناس الذين يعتبرون الحساب، وعلوم الرياضة (المتسحلفة) مقياساً للذكاء يرون هذا الاختلاف بين عقل غاندي وبين عقلهم ويأبون أن يتلمسوا الضعف في أنفسهم، وينسبون الضعف والتأخر للعقل الخارق العجيب الذي يحيرهم والذي يرونه كالعاجز عن مجاراتهم، وهو في الحق مستقيم يتجه إلى هدف خاص ينزع إليه صاحبه بإحساسه وأخلاقه، فلا يلتوي على نفسه ولا يتعقد ولا يتعثر مثلما تتعثر العقول المتحضرة حينما تجمع علمها من المتناثرات من الحقائق لا يحدوها في هذا الجمع غرض ولا تريد من سبيله أن تصل إلى هدف ولا أن تؤدي به رسالة، ولا يهمها إذا كان هذا الذي تعلمه شيء يستحق أن يعلم أو أنه لا يستحق ذلك.
وهذا هو أشرف ما يدعيه العلماء لأنفسهم فهم يقولون إنهم يطلبون العلم للعلم، وهم حين
يدعون هذا يحسبون أنهم يردون به على أولئك الذين ينتقصون قيمة علمهم ويتهمونه بأنه سعى إلى خدمة المادة في الحياة، أو أنه سعى إلى خدمة الشر. فإذا صح هذا الذي يدعونه ولم نقس عليهم قسوة من يتهمونهم بمختلف التهم لم يكن علمهم إذن إلا ضرباً من الفضول أو التجسس على قوى الطبيعة. والفضول سخف، والتجسس رذيلة.
أما العلم الذي يصل إليه العقل الفضيل الحساس فليس فيه من الفضول شيء ولا من سخف الفضول، وليس فيه من التجسس شيء ولا من رذيلة التجسس، وإنما هو علم يطلبه صاحبه لأنه يحبه، ويرفض ما عداه لأنه لا يريد شيئاً غيره، وهو يسعى إليه لأنه يشعر أن فيه كماله، وأن في الوصول إليه راحته وأنه قبل هذا وذاك يرضي إحساسه وأخلاقه وينسجم معهما.
وهذا هو العلم الذي يبدو حين يطالع الناس وفيه من نفس صاحبه إحساس صاحبه وأخلاق صاحبه، كما يكون فيه من عقل صاحبه. فأي شيء يشبه هذا العلم؟ إنه يشبه الفن. وهو يشبه الفن من حيث أنه تعبير عن نفس صاحبه، ومن حيث إنه يحقق حاجة من حاجات صاحبه الروحية، وقد تشمل هذه الحاجة مطالب مجموعة خاصة من المجموعات البشرية وقد تشمل مطالب البشرية بأسرها.
هي إذن رسالة علمية عقلية، وهي قائمة على أساسين من الحس والخلق إلى جانب ما تقوم عليه من أساس العقل. وليس كل العلم هكذا، ولا كل العقول التي تجري وراء العلم هكذا. وإنما هي نفوس الفنانين التي تنحرف لضرورة من ضرورات الحياة عن إنتاج ما اصطلح الناس على اعتباره من الفنون الجميلة إلى أداء رسالات هي في ظاهرها غير هذه الفنون، وهي في حقيقتها فنون جميلة بل إنها أجمل الفنون. ذلك أنه إذا كان جميلاً أن ينشئ إنسان لحناً أو قصيدة أو تمثالاً أو صورة فأجمل من ذلك أن ينشئ إنسان نفس إنسان آخر، والأجمل الأجمل أن ينشئ إنسان جيلاً من النفوس في جيل من الناس على صور من خياله. وليس أجمل من أن تقوم رسالة فنية على أساس من الحب يطوى المؤمنون بها نفوسهم عليه ويهبونه لأعدائهم كما يهبونه لأصدقائهم: فتحيتهم سلام وغايتهم محبة، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.
عزيز أحمد فهمي
رسالة العلم
قوانين النشاط الحراري وتحول الطاقة
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
قرأت في عدد مضى من الرسالة ما كتبه الأستاذ نصيف المنقبادي المحامي، وقد راعني ما فيه من الخلط بين التحقيقات العلمية والنتائج التي وصل إليها العلم وبين بعض فكرات عتيقة في الكون مستمدة من التفكير الفلسفي، لا تجد مكانا اليوم في عالم العلم. وأي فكرة أدخل على العلم من القول بأن المادة (أو مجموع المادة والطاقة) قديمة والاستناد إلى مثل هذه المبادئ الفلسفية للاعتراض بها على نتائج انتهى إليها العلم في المعمل والمختبر وحققتها التجارب على مدى طويل من الزمان. والواقع أن التفكير العلمي الحديث يرفض مثل هذه الآراء المرتجلة (ولا يعرف من مفهوم المادة والطاقة إلا أنهما عقدتان في عالم الزمان - المكان) وقد سبق أن أشرت إلى بعض هذه الحقائق في البحث الرياضي الذي نشرته لي مجلة الرسالة لأربع سنين خلت عن نظرية النسبية الخصوصية وقلنا في ذلك الحين ما نصه:
(ليست المادة كما يعبر عنها العالم الطبيعي الكلاسيكي، بأنها كل ما كان لها امتدادات ثلاثة في المكان، بل المادة مجموعة توالي الحادثات في نقطة واحدة من نقط عالم الزمان - المكان، وذلك بمعنى أن العالم ليس إلا مجموعة من الحادثات وتوالي عدد من هذه الحادثات في نقطة واحدة يلقى في روعنا معنى المادة)(الرسالة السنة الرابعة العدد 140. ص 387).
ومعنى هذا الكلام أن العلم الحديث يرفض فكرة المادة في مفهومها القديم الذي يعتبرها (الشيء الذي تتقدم به الصور) وهذا الرفض أقرب إلى إنكار المادة إذا أخذنا المادة على هذا المفهوم وهذا الكلام يمكن شموله أيضاً الطاقة ومفهومها وبعد ذلك تجد الصورة العلمية الجديدة للمادة والطاقة أقرب إلى - أعني الفلسفة التي لا تري شيئاً وراء المظاهر الطبيعية.
وإذن في مثل هذا التفكير لا يمكن التكلم عن القدم والحدوث، ومفهوم اللاتناهي في القدم لا معنى له في العلم الحديث.
أما الشيء الذي يعترض به في الواقع على ما جاء به الدكتور محمد محمود غالي، فهو أنه تعقيداً أكثر من اللازم بمبدأ النشاط الحراري الثامن الذي قال به العلامة ساري كارنو عام 1824 والذي ينص على أن الطاقة في تحولها تتنزل وأن ليس في المستطاع عكسها. لأنه من المعروف أنه من اليوم الذي أذاع كارنو فيه رأيه قد بذلت الجهود في سبيل إيجاد التلاؤم بين مبدأ تنزل الطاقة وعدم عكسها ونظرية القوى المركزية التي تفترض إمكان عكس أي شيء في الطبيعة. ومن هنا قامت جهود ماكسويل وبولتسان وجيبس في أن الحادثات لو كانت تقترب من حلة التجانس، فليس ذلك نتيجته لأن العناصر المتباينة تميل لعدم التخالف والتباين، وإنما يعود ذلك إلى الاختلاط، فالاختلاط إذا بلغ الحد الأعظم اللامتناهي، أو ما يقرب منه بدا وكأنه متجانس للنظر وهو في الواقع غير ذلك. وفي هذا وحده عدم إمكان تصور أن الأجسام الساخنة لا ترجع لحالتها الأصلية عن طريق العكس. وكما أننا لو فرضنا حبة من قمح أخفيت في كومة من الشعير واختلطت بها، فتصور هذا الحادث من السهولة بمكان، والنظر البشرى لن يميز وجود هذه الحبة ومن هنا سيحكم بأن الكومة كلها متجانسة مكونة من مادة الشعير. وهو لو عرف أن حبة قمح قد اختلطت مع الكومة وذهبت طي الكوم فإنه سيعتقد باستحالة استخلاص حبة القمح من الكوم. وفي هذا وحده كان تفسير لعدم إمكان العكس الذي يتظاهر بمبدأ كارنو.
إلا أنه من المهم أن نلاحظ أن هذه المحاولات تستند إلى قوانين الإحصاء وهي إن كانت صحيحة في عالم النظر، ولكن مبدأ كارنو كان بكل قوته في عالم الوقع كمبدأ تؤيده التجربة. ولكن الذي حدث أنه في أواخر القرن التاسع عشر لاحظ العلامة برون في المايعات التي يستحضرها تراقصاً غير منتظم في الجزيئات، وعرف هذا التراقص بالحركة البرونية وقد ظن بادئ ذي بدء أن هذه الظاهرة وقف على عالم الأحياء إلا إن بعضهم لاحظ وجودها في العالم الميكانيكي - الآلي - وافترض لتعليلها أن الضوء يتجمع ويتكاثف على هذه الجزيئات، ولما كان الضوء لا يفترق عن موجات الحرارة؛ فإن الحرارة تتخلف في ذلك الوسط من مكان لآخر ويكون نتيجة ذلك مجموعة من المجارى وهي تحدث هذه الحركات. غير أن البحاثة نقض هذا الفرض بأن بين أن هذه الجزيئات كلما كانت صغيرة كانت حركاتها المشهودة تدل على أنها أسرع، هذا إلى أن هذه الجسيمات لا
تتأثر بالنور الساقط عليها؛ فإذا صح أن هذه الحركات تحدث بدون أن تستند إلى مصدر من الطاقة خارجي، فماذا يكون الموقف؟
لا شك أنه لا يمكن التراجع عن مبدأ ماير في حفظ الطاقة؛ كما أنه يمكن أن ننكر أن الدلك والحركة يتحولان إلى حرارة، وبدون أن نبذل جهداً نرى الحرارة تتحول لحركة. وهذا ينافي مبدأ كارنو.
هذا ما تركنا فيه العالم في أوائل القرن العشرين والشك يحف بمبدأ حفظ الطاقة وقوانين النشاط الحراري وتنزل الطاقة.
حقيقة أن إينشتين وبيران وغيرهما قد أعادوا الثقة إلى هذه المبادئ والقوانين وإن عدلوها وأخرجوها عن مدلولاتها الأولى، ولكنا نعرف أن في الإمكان في ضوء الجهود الجديدة أخذ مبدأ كارنو من جهة حسابات الاحتمال وربطها بالنظرية الاحتمالية التي يقول بها هيزنبرج وشرودغبر وديراك وغيرهم من الأعلام، وإن كان لي أن أذكر هنا شيئاً لي فهو مذكرتي عن (الحركة البرونية) التي قدمتها عام 1935 إلى أكاديمية العلوم الروسية ونشرتها مبسطة بمجلة - الطبيعية - الروسية عام 1931 ونقلتها عنها في نفس السنة أما الأصل العلمي للمذكرة فتجده في لأخبار الأكاديمية وأعمالها العلمية وتجده في النشرة التاسعة 1935 ص411 - 416 ويمكن أن ينظر عنها شيئاً 1938 ، ، 1935.
من هنا نرى أن مبدأ كارنو من ناحيته النظرية لا يمكن أن يسوق إلى فكرة الموت البطيء إلا إذا حملنا المبدأ في الصور الجديدة التي أخذتها اكثر مما يجتمل، وأظن أن هذه المسائل، لأنها أدخل في باب المسائل النظرية، لم يولها الدكتور غالي أهمية وهو الأخصائي في المسائل التطبيقية من العلوم الطبيعية.
ولنا بعد عودة لمراجعة بعض آراء الدكتور غالي العلمية وخطراته خصوصا فيما يتعلق بمبدأ الصدفة المنظمة ونظرية النسبية.
(الإسكندرية)
إسماعيل أحمد أدهم
دكتوراه في العلوم الرياضية والطبيعية النظرية وفي الفلسفة
العلمية من موسكو
أجمل الكواكب
للأستاذ قدري حافظ طوقان
زحل أجمل الكواكب، وأكثر الأجرام السماوية بهاءً! سحر الناس بمنظره وخلبهم بحلقاته. ليس كمثله كوكب، فريد في شكله، وحيد في شذوذه. . . يحيط به ثلاث حلقات مستوية دائرية يختلف منظرها باختلاف موقعه. . .
فمن هالات بيضوية حوله. . . إلى خط منير يقطعه ويمتد على جانبيه!. . . ومن أغرب ما نرويه أن حقيقة هذه الحلقات عرفت من المعادلات الرياضية. فلقد بين العالم الشهير (ماكسويل) أن هذه الحلقات تتألف من أجسام صغيرة جداً كثيرة العدد، تدور حول الكواكب في أفلاك دائرية تقريباً. . . ولقد أثبت (مبين الأطياف) أن دوران أجزاء الحلقات البعيدة أبطأ من دوران القريبة، كما يرجح البحث العلمي: أن تكوّن هذه الحلقات يرجع إلى اقتراب أحد أقمار زحل نشأ عنه تمزيق ذلك القمر إلى قطع صغيرة تكونت منها هذه المجموعة من الحلقات الثلاث. . .
وهذا جزاء كل قمر يقترب كثيراً من أمه! فلو أقترب قمرنا من الأرض - وهذا سيجرى بعد ملايين السنين - فلا بد أن يجري عليه ما جرى على قمر زحل، فيتمزق إلى قطع صغيرة ينشأ عنها حلقات حول الأرض على الشكل الذي نراه في زحل.
وهذا سيزيد في جمال ليالي الأرض وما سيغمرها نوراً وسناءً تتجلى بهما القريحة وتفيض معهما المشاعر. ويقول جينز (. . . وعلى الرغم من أن هذا سيزبد في بهجة الحياة فلن تكون الأمور من بعض النواحي مريحة كما هي الآن إذ سيكثر تصادم بعض الأقمار ببعض وستتناثر أجزاء تقع على الأرض كالصخور الضخمة تسقط من السماء. . .) وزحل من الكواكب البعيدة عن الشمس بالنسبة إلى الأرض، يبلغ بعده (885 ، 900 ، 000) ميل، وطول سنته 29 سنة ونصف سنة من سنينا، أما معدل قطره فيقرب من (71 ، 500) ميل وعلى هذا فحجمه يساوي (734) مرة قدر حجم الأرض.
وقد حسب الفلكيون كتلته بطريقة رصد أقماره وما يحدثه من تأثير جذبي على المشتري فكانت 95 % من كتلة الأرض. وما دام الأمر كذلك، وما دام حجمه أكبر من حجم الأرض بمئات المرات فهو من أقل الكواكب كثافة إذ لا تزيد كثافته على 72 % من كثافة الماء مما
يدل على أن قسماً كبيراً منه لا يزال في حالة غازية.
ويوم زحل قصير لا يزيد على 10 ساعات وربع ساعة، ويحيط به جو مليء بالغيوم يمتد إلى آلاف الأميال. وعلى كل حال يمكن القول بأن معلوماتنا عن سطحه وما يجري عليه من تغييرات لا تزال في أولى درجاتها.
وهو غني بالأقمار يحيط به تسعة أقمار تبعد كثيراً عن الحلقات ويشذ أحدها (كما يشذ اثنان من أقمار المشتري) فيسير من الشرق إلى الغرب بينما الأقمار الثمانية الباقة تسير من الغرب إلى الشرق.
ومما لاشك فيه أن هذه الأقمار بحجومها المتباينة وحركاتها المتنوعة، والحلقات بأقواسها الفضية الجملية، من أبهى المناظر التي تقع عليها العين، وأروع المشاهد التي يراها الإنسان.
(نابلس)
قدري حافظ طوقان
من هنا ومن هناك
لإنقاذ العالم من الحرب
(عن (سيرفس إن لايف آندورك))
ظهر في الأيام الأخيرة كتاب قيم لكلارنس ك. سترايت بعنوان الاتحاد الآن وقد كان المؤلف يمثل جريدة (نيويورك تايمس) في أوربا وقضى السنين القليلة الأخيرة في جنيف.
والمؤلف من المتحمسين في الأصل لعصبة الأمم، وهو في هذا الكتاب يبين العلل والأسباب التي قضت على الآمال العريضة التي بناها العالم في سنة 1920 لإنقاذ الديمقراطية والقضاء على فكرة الحرب، ويقدم إلى العالم الاقتراح الذي يراه لضمان السلم وتوطيد دعائم الوفاق ومن رأيه أن الحالة التي تهدد العالم الآن لا ترجع أسبابها إلى مبادئ الاشتراكية، أو الفاشية، أو الاشتراكية الوطنية، ولا ترجع أسبابها إلى مطامع الدكتاتورية وعنادها، ولا ترجع كذلك إلى إخفاق الدول الديمقراطية. فهذه كلها نتائج لا مسببات، ويرى أن السبب الجوهري لموقف اليأس الذي يقفه العالم اليوم، يرجع إلى الفوضى التي تسوق الأمم التي تضع له خطط السلام والراحة، إلى التفكير في أن يكون لها دون غيرها السيادة والسلطان.
هذا أساس الداء كما يشخصه المؤلف، أما العلاج الذي يراه لهذه الحالة، فينحصر في إيجاد نوع من السيادة الدولية على هيئة تحالف بين الخمس عشرة دولة الديمقراطية الموجودة الآن، كنواة لنظام عام تسوده حكومة عالمية.
وقد كتب لورد (لوثيان) سفير إنجلترا في الولايات المتحدة قبل تعيينه في هذا المنصب بأيام قليلة مقالا قيما في التعليق على ما جاء في هذا الكتاب قال فيه:
إن الحرب ضرورة ورثتها الأمم القوية لتحديد علاقاتها. فحيث يفشل الاتفاق الودي لا تجد الأمم القوية مفرا من الحرب للدفاع عن كيانها واسترداد حقوقها، فسواء حاولت هذه الأمم أن تعمل كل منها على انفراد أو فضلت التحالف أو الاتحاد الدولي تحت نظام خاص كعصبة الأمم فهذه الحقيقة لا تتغير.
إن قوة الأمم معناها أن الملجأ الأخير الذي تلجأ إليه، إذا لم تفلح سياسة الاتفاقات الودية مع الأمم الأخرى، هي سياسة القوة أو الحرب. ويترتب على هذه السياسة أن الحكومة ترى
نفسها مسوقة إلى تضحية حقوق أبنائها واستقلالهم لزيادة قوتها واستعدادها للدفاع عن كيانها كما هو ظاهر اليوم، ومن النتائج المحققة لسياسة القوة والسيادة انتشار الفقر بين جمهور الشعب وازدياد عدد العمال العاطلين، وانتشار الفساد واليأس بين السكان.
وتقود هذه السياسة إلى الحرب الاقتصادية بين الأمم حيث تحاول كل أمة أن ترعى مصالحها الاقتصادية بصرف النظر عن مصالح الأمم الأخرى، فترتفع الضرائب وتمتنع الهجرة ويوقف تصريف رؤوس الأموال.
وهذه القيود والحواجز الاصطناعية من شأنها أن تزيد في محصول كل أمة، فيضيع التوازن بين محصول الأطعمة والخامات والقوة الصناعية، لا في هذه الأمم فحسب ولكن في العالم أجمع.
صوت من مقبرة تشيكوسلوفاكيا
(عن (ليدوفي توفيني) براج)
الأمم كالأفراد يقابل سقوط بعضها بالأسف كما يقابل موت البطل في أسفار التاريخ. ويدرك بعضها الفناء، فتنضب قواها، ويزول نفوذها شيئا فشيئا كما تتلاشى المياه وتزول في أعماق الرمال فلا يجد المؤرخ فرصة للتحدث عن مجدها وسلطانها الزائل. ومما لا شك فيه أن تاريخ بريطانيا وفرنسا منذ انتهاء الحرب العظمى ينتمي للنوع الأخير.
ففي سنة 1918 كانتا تمثلان أكبر قوة على الأرض وكانت كلمتهما هي القانون. فماذا بقى اليوم من هذه القوة؟ كل إنسان يستطيع أن يجيب على هذا السؤال بسهولة، وعلى الأخص إذا كان من سكان أوربا الوسطى، فقد أصبحوا وكأنما فصلهم عن بريطانيا وفرنسا محيط مترامي الأطراف!
قال حكيم من حكماء الرومان: الإنسان لا يكون سيئا مرة واحدة. ومما لا شك فيه ألا يكون كذلك ضعيفا مرة واحدة ومن الصعب علينا أن نعرف بالتحديد اللحظة التي أخذت فيها قوى الديمقراطية الغربية في الانحدار. فمن المحتمل أن نعزو ذلك إلى ظروف كثيرة وأسباب عديدة. لقد كان الفيلسوف الأماني (فردريك نيتشة) قليل الثقة بالقيم الأدبية للانتصارات. فكان يقول: إن الانتصارات كثيرا ما تحيط الأمة بسياج من البلادة وقد نكون قريبين من
الصواب إذا قلنا إن الانتصارات تصيب الأمم بالكسل على الدوام.
إن الهزيمة ولا شك هي التي ألهبت بسياطها نشاط الأمة الألمانية وحفزتها إلى العمل. وقد عرف زعيم ألمانيا قيمة الجيش للدولة فجعل همه إذكاء روح الرجولة والقوة بين أبنائها ودعوتهم ليكونوا على استعداد للموت في أي لحظة إذا احتاج الأمر. فهذا الموقف الجديد لم يقابل من فرنسا وبريطانيا العظمى بالاهتمام ولم تتيقظا له إلا بعد سنين من النوم والإهمال. وقد ظلت بريطانيا إلى اللحظة الأخيرة مكتفية بجيشها الصغير ولم تكن لتكلف أبناءها بشيء أكثر من دفع الضرائب. فكانت النتيجة الطبيعية أن خفت صوتها في هذا العالم الذي بدأت مظاهره من سنة 1933 وقد أصبحنا نسمع الشباب في إنجلترا يتحدثون بلسان السخر والاستهتار عن قيمة الإمبراطورية التي شادها آباؤهم وأجدادهم، ويعلنون أنهم لا يريدون لإمبراطوريتهم العظيمة إلا الهدوء والسلم. أما فرنسا فعلى الرغم من جيشها الكبير فقد وقفت جامدة إزاء الفوضى التي تعم كل مكان للمحافظة على جبهتها.
إن أزمة سبتمبر الخالي تبين مقدار ما وصلت إليه عزيمة بريطانيا وفرنسا من الانحدار. فالهمة التي أبدتها الأمتان تجاه هذه الأزمة، سرعان ما تبخرت تحت تأثير حب السلامة والكسل حينما أتيحت الفرصة إلى ذلك!! لن ينسى العالم هذا الموقف العجيب. ولن ينسى صورة مستر تشمبرلن رئيس الوزارة الإنجليزية وهو ينحني من عربته غب عودته من ميونخ، ملوحا للجماهير بوريقة كتب فيها بضع كلمات، ليقول: لقد استخلصنا السلم للعالم.
لماذا يكذب الأطفال
(عن مجلة (هيجيا) بشيكاجو)
يجب أن يعلم الأطفال أن مدنيتنا قائمة على الاحترام والثقة المتبادلتين بين الناس على أساس الأمانة والشرف. ويجب أن يعرفوا أن الصدق أمر حيوي في حياة الإنسان، وأن الكاذب لن يكسب احترام مواطنيه. ولكن هل العقاب المحض هو خير الطرق لإفهامهم ذلك؟ إذا عرف الآباء لماذا يكذب الطفل فمن المحتمل أن يستطيعوا إبعاده عن هذه الصفة الذميمة دون أن يلجئوا إلى العقاب العنيف. والكذب نوعان: كذب مقصود وهو الذي يحاول فيه الطفل أن يغش الآخرين، وكذب غير مقصود وهو الذي لا يدرك الطفل ما فيه من
الزيف.
فإذا جاء إنسان لآخر وقدم إليه تفاحة حمراء وحاول أن يقنعه بأنها سمراء فإنه لابد أن يصمه بالكذب إذا لم يثبت لديه أن هذا الإنسان مصاب في نظره بآفة الألوان. وهكذا الشأن في الطفل الصغير فمن واجب الآباء ألا يصموه بالكذب بغير روية، يجب أن يعرفوا قبل كل شيء لماذا لا يرى الدنيا كما يرونها بالتحديد.
قد يكذب الطفل لأنه لا يستطيع أن يدرك تمام الإدراك، أو لأنه تعوزه الدقة في النقل وسلامة الفهم في الحكم على الأشياء فمن القسوة أن يعاقب على الأكاذيب التي من هذا النوع. وقد يقود العقاب الطفل إلى حالة سيئة للغاية فيفهمه معنى الكذب ويضلل لسانه البريء عند كل قول. قد لا يفهم الطفل معنى الكذب فمن واجب الآباء في هذه الحالة أن يعذروه ويبينوا له أسبابه حتى لا يعود للوقوع فيه.
أما الكذب المتعمد، وهو الكذب الذي يحاول فيه الطفل خداع الآخرين بقصد الاحتيال والغش، ألا يوجد علاج له غير الصفع والضرب؟
إن الأسباب التي تدعو الأطفال إلى الكذب على وجه العموم هي الخوف من العقاب فيجب على الآباء أن يحيطوا أبناءهم بجو من التفاهم والعطف والمساعدة.
فحيث يتورط الطفل ولا يجد مخلصاً، حيث يعاقب ولا يفهم تماماً السبب الذي عوقب من أجله، حيث يعامل معاملة لا يفهمها عقله الصغير، تضيق الدنيا في ناظره ولا يجد غير الخداع سبيلاً للدفاع عن نفسه، والخروج من المأزق الذي وقع فيه.
البريد الأدبي
حول نعيم الفردوس
لبعض القراء غرام بتعقب ما أكتب في الدين من حين إلى حين، لأنهم
يتوهمون أن الذين في مثل حالي من المشغولين بالدراسات الفلسفية
يغلب عليهم التطرف والخروج على المألوف من قواعد الدين.
وأنا أرحب بالنقد، وأراه علامة من علائم الحيوية العقلية فلا يضايقني أن يكون في القراء من يراقب ما أكتب في الشئون الدينية عساه يجد مجالاً للتعقيب أو التصحيح.
ولكن الذي أنكره على بعض القراء أن يحرِّف الكلم عن مواضعه ليصح له أن يصورني بصورة المسيء، كالذي وقع من الفاضل الذي زعم أني قلت:
(اشغلني عنك، يا رباه، بما في الجنة من أطايب النعيم) ليجوز له أن يقول؛ (فهل رؤي سوء أدب وسوء فهم للدين كالسوءين المتجسمين في دعاء زكي مبارك هذا)؟
وأنا لم أقل ما نسبه إلي هذا الرجل الفاضل، وإنما قلت:
(اشغلني عنك، يا رباه، بما في الجنة من أطايب النعيم، فإن بصري أضعف من أين يواجه نورك الوهاج).
وهذه العبارة هي غاية الغايات في الإيمان بعظمة الله ذي العزة والجبروت، ولكن ذلك الفاضل حذف الشطر الأخير ليجد الفرصة لادعاء الغيرة على الدين، فهنيئاً له ما ظفر به من التقول على رجل أعزه الله بالإسلام الصحيح، وعصمه من الاتجار بالدين.
ألا يكفي أن نسكت عن الأوهام التي يذيعها بعض الناس من وقت إلى وقت بحجة أنهم المرجع الأول لنشر التعاليم الدينية؟ وفي أي شرع يجوز تحريف الكلام عمداً ليتمكن من في قلوبهم مرض من تجريح الأصحاء؟
إن الكلمة التي قلتها لها معان لا يدركها غير صفوة المؤمنين.
ولو طُلب مني توضيحها لقلت: إن العبادة الصحيحة هي رؤية الله في نعمه المشكورة، وليست في دعوى النظر إليه، وهي دعوى أعرض من الصحراء.
وأنا دعوت الله بما دعوت، وأرجوه أن يتقبل ذلك الدعاء، فإن بصري على حدته أضعف
من أن يواجه نوره الوهاج.
أحب أن أراك في نعمك، يا رباه! في الحدود التي تساميت إليها في كتاب (التصوف الإسلامي)، وكن وحدك الرقيب على عبدك الحافظ لفضلك ونعمتك، فليس له في الوجود نصير سواك.
زكي مبارك
الوحدة العربية
سيدي الأستاذ الزيات
لقد قرأت كما قرأ غيري ما جرى بين الأستاذ (ساطع الحصري بك) و (الدكتور طه حسين بك) من نقاش حول (الوحدة العربية) فرغبت في نشر حديث كان قد جرى بيني وبين أستاذ فرنسي يدور حول هذا الموضوع.
بدأ الأستاذ الفرنسي حديثه معي بالكلام على ما يسميه الناس بالحقائق فقال: ليس هناك حقيقة مطلقة.
قلت: نعم. لأنه ليس هناك نظر مجرد، فبقدر ما يكون امتداد النظر يكون اتساع الأفق.
فشجعه ذلك على الاسترسال فقال:
أراكم تلهجون كثيراً (بالوحدة العربية) في هذه الأيام. فهل ترى إمكانها؟ إن مقياس كل شيء في هذا العصر هو الفائدة منه، فما فائدة هذه الوحدة لكم؟ أتعتقد أنك عربي؟ أنت مصري قبل أن تكون عربياً، قبل أن تكون مسلماً. أليس كذلك؟
قلت: ألست تسأل لتعرف الحقيقة؟
قال: بلى!
قلت: حسن إذن. قد يكون الجواب على السؤال سؤالاً آخر، فما هي الدولة؟ وما الفائدة من وجودها؟
قال: إن تعريفها غير متفق عليه، ولم يصل أحد بعد إلى تعريف حاسم لها. أما فائدتها فما أظن أحداً ينكر الفائدة من وجودها؟
قلت: أمعنى ذلك أن الدولة لا توجد لأن تعريفها لم يُحدد؟
قال: من ذا الذي يقول بهذا؟ إنها موجودة رغم ذاك!
قلت: أنت تدري أن الدولة مكونة من عناصر هي: وحدة الدين، واللغة، والجنس، والتقاليد، والتاريخ، والأماني، والغايات. . . وكل هذه العناصر ينتظمها (روح معنوي) يسرى بين سكان الدولة - هو شعورهم - بأنهم يكونون دولة لها وجود، ولها حياة، ولها غاية تسعى إليها. . . الكل المجموعي لا الجميعي لكل هذه العناصر، تنتظمه هذه الروح، هو ما يسمى بالدولة. فماذا ينقص الشعوب العربية من ذلك؟ لا شيء البتة. بل أنا أنظر حولي، فلا أرى شعباً في العالم يضم منه هذه العناصر ما يضمه الشعب العربي. إن ألمانيا الحديثة تقوم على أكذوبة (الجنس) فلنفرض أن (الوحدة العربية) تقوم على أكذوبة من هذا النوع. . . هذا إذا أعوزنا التعلل، وعجزنا عن التعليل!
إن الصعوبة الكبرى في قيام الوحدة العربية، تنشأ من أن العرب شعوب متعددة تخضع خضوعاً تاماً - أو ناقصاً - لدول شتى. كما أن هناك اختلافاً على مدلول هذه الكلمة وتفاصيل هذا المدلول (الوحدة العربية) يفسره كل تبعاً لما يراه أنه الأفق لمصلحته، أو رأيه، أو هواه.
فلو كان العرب كلهم أحراراً، أو لو كانوا كلهم يخضعون لسيادة دولة واحدة لحفزهم الغرض من وجودهم إلى الاتحاد، أو لدفعتهم الغاية المتحدة في التخلص من نير الأجنبي إلى تكوين الوحدة المرتجاة، كما أنهم لو تفاهموا لاتحدوا في وجهة النظر، وسبيل الوصول.
لو لم تكن (الوحدة العربية) حقيقةً واقعة، لكانت أمراً واجباً. إن الوحدة العربية ليست هدماً للمزايا الجنسية للشعوب القديمة: كالمصريين، والآشوريين، والبابليين. ولكنها جمع لكل هذه المزايا لتكوين شعب وأحد، وحدته خير من تفرقه على كل حال. أما مزايا الجنس فلا تموت والتوحيد لها بمثابة التطعيم، والتطعيم خير سبيل: للتجديد والتخليد والبقاء. إن الكبرياء العنصرية جهل بمزايا الوحدة، وإذا كانت الوحدة العربية كذباً، فكم من كذب هو أنفس من الصواب عند ذوي الزكانة والبصيرة، والكذب في السياسة، صدق في النظر!
الوحدة العربية، حقيقة واقعة، لأنها عقيدة راسخة!
الله موجود لأنه واجب الوجود، والوحدة العربية موجودة لأنها واجبة الوجود!
هذا رأيي في الوحدة العربية. أما رأيي في الدكتور طه حسين فهو أن ديدنه أن يأخذ الرأي من طريق السماع والاتباع. فهو لم ينظر في نفسه باعتباره رجلاً موطنه الشرق، ولغته العربية، ودينه الإسلام، ومأمله العروبة. بل نظر فيما سمع من كلام الأوربيين واتبع ما قالوه بلا تمحيص، وكان خيراً له لو رجع إلى بيئته، وسار مع طبيعته، ونظر في نفسه واستوحى ما يمليه النظر المجرد والمنطق السليم؛ كما أن نظر الدكتور نظر جزئي لا يتسع للشمول والتعميم، وما ذلك بعيب فيه، ولكنه طبيعة مطبوعة، وإنما العيب أن يخرج الإنسان عن طبيعته، فيكون كمن يجرد نفسه من نفسه، ومن هنا كان خطؤه في فهم الأشياء. هذا إلى أنه من الأدباء وليس من العلماء.
محمد أبو الفضل حفني مسعود
سعد وسعاد ومعاوية بن أبي سفيان
ذكر صديقي الأستاذ علي الجندي فيما كتبه في مجلة الرسالة الغراء تحت هذا العنوان أن سعداً لما قطع أبو سعاد صلتها به رفع أمره إلى وإلى تلك الجهة الأموي المفتون المدل بمكانه من قريش، وبمكانه من الخليفة مروان بن الحكم.
ثم ذكر ما كان من أمر ذلك الوالي مع سعاد واغتصابه لها من سعد، وأن سعداً اعتسف الصحراء إلى دمشق عاصمة الخلافة ليشكو ذلك الوالي إلى ابن عمه الخليفة معاوية بن أبي سفيان.
ولا يخفى أن في سياق قصة سعد وسعاد على ذلك الشكل اضطراباً ظاهراً، لأن ما ذكره الأستاذ الجندي في الأول من أن ذلك الوالي الأموي كان مدلاً بمكانه من الخليفة مروان بن الحكم يفيد بظاهره أن قصة سعد وسعاد كانت في عهد مروان ابن الحكم لا في عهد معاوية بن أبي سفيان، وما ذكره في الثاني من أن سعداً اعتسف الصحراء إلى دمشق ليشكو ذلك الوالي إلى ابن عمه الخليفة معاوية يفيد أن تلك القصة كانت في عهده لا في عهد مروان.
ولا يخفي على الأستاذ الجندي أن عهد معاوية بن أبي سفيان عبر عهد مروان بن الحكم، لأن معاوية ولي الملك بعد أن تنازل له عنه الحسن بن علي، فمكث فيه نحو عشرين سنة، وقد بايع من بعده لابنه يزيد، فمكث بعده ثلاث سنين وستة أشهر، ثم بويع بعده لابنه
معاوية، فمكث في الملك ثلاثة أشهر، ثم رغب عنه وزهد فيه، فتولاه بعده مروان بن الحكم، وهو فرع آخر من بني أمية غير فرع معاوية بن سفيان.
ورجائي بعد هذا إلى صديقي الأستاذ علي الجندي أن يرجع إلى مصدر هذه القصة ليحقق فيه ذلك الاضطراب، ويدلنا على العهد الذي وقعت فيه من ذينك العهدين. والسلام على الأستاذ ورحمة الله.
عبد المتعال الصعيدي
هل الجزاء الأخروي حسي أم روحي؟
أخذ الأستاذ محمود قراعة على الدكتور زكي مبارك عده الجزاء الأخروي من قبيل الحسيات. والأستاذ قراعة يريد أن يكون جزاء روحياً معنوياً، فقد جزم في كلمته المنشورة في العدد 315 من الرسالة بأن الإسلام (عند ذكر الماديات الأخروية لا يريد بها جزاءها الحسي، بل يريد بها جزاءها المعنوي الروحي، وأنه إن أراد ببعضها اللذة الحسية، فإنه لا يريدها حقيرة متواضعة، كما هي في دنيانا، بل يريدها عزيزة تتصل أكبر ما تتصل بالروحيات والمعنويات) ولكنه في كلمته المنشورة في العدد 316 من الرسالة لم يبق مصراً على هذا فقد آمن بأن (في الجنة لذات روحية وحسية) ولكن الحسية راقية تسمو بالروح.
فإذا كان كذلك فماذا أخذ على الدكتور زكي مبارك؟ وهل أنكر الدكتور زكي مبارك أن في الجنة لذات روحية وحسية؟ وأن الحسية راقية تسمو بالروح؟
الواقع أن الأستاذ قراعة لم يأت بشيء يناقِش فيه أو يناقَش فيه، اللهم إلا كلمة ليست من موضوع الجدل ستأتي، والواقع أيضاً أنه لا سبيل إلى إنكار شيء مما ذكره الدكتور زكي، فإنه لو لم يكن الجزاء الحسي المذكور في القرآن الكريم حسياً على الحقيقة لا على المجاز لما كان هناك معنى للبعث والنشور. إن البعث والنشور هما مقدمة لتلقي الجزاء الحسي بالنعيم في الجنة أو العذاب في النار لا مناص من ذلك أبداً. ولو كان الجزاء روحياً لما كان هناك حاجة للبعث والنشور لأن الأرواح خالدة فتنعم أو تعذب. وما دامت الروح قد قضى عليها أن تكون في هذا اللباس (الجسم) في الدنيا والآخرة، فلا لذة هناك ولا ألم إلا عن
طريق الحواس، حتى أكبر النعم وهو رؤية الله تعالى في الآخرة (وإن كانت بغير كيف) حسي لأنه آت عن طريق الحواس، فهو حسي من جهة معنوي من جهة أخرى.
وبعد فماذا يرى المبشر الأمريكاني الذي ذكره الأستاذ قراعة من مطعن في كون نعيم الآخرة حسياً حتى ينقيه الأستاذ قراعة عن الإسلام؟
أما الكلمة التي يناقش فيها الأستاذ قراعة فهي قوله: (إن اللذات الحسية في الآخرة تسمو بالروح، فإذا هذا القول يفيد أن الروح في الآخرة تسمو باطراد عن تذوق كل لذة (وكلها لذات) وهذا أمر لا يتصور لأن الآخرة دار جزاء، فمتى وضع كل إنسان في مرتبة فقد حصل على مرتبة من السمو تناسبه فيبقى فيها إلى ما شاء الله. هذا هو المعقول. ولو كانت كل لذة تكسب الإنسان سمواً لاستحق بهذا السمو جزاء: لذة أعلى، ثم تكسبه هذه اللذة سمواً، وهكذا. وهذا أمر لا ينتهي فلا يكون والله اعلم.
(فلسطين)
داود حمدان
ما رأى علماء اللغة
يقول ابن مالك في ألفيته عند الكلام على النسب:
وفَعَلى في فَعِيلة التُزم
…
وفُعلى في فُعَيلة حتم
وما أردناه من هذا البيت هو الصدر وقد شرحه الصرفيون هكذا: إذا أريد النسبة إلى ما وازن فعيلة حذفت ياؤه وفتحت عينه إن لم يكن معتل العين ولا مضاعفاً وذلك مثل حنفية فيقال فيها حنفي. أما كان معتل العين كطويلة أو مضاعفاً كجليلة فلا يحذف منه شيء وعلى ذلك يقل في النسبة إليهما طويليّ وجليليّ. هذا ما قرره الصرفيون في فعيلة، ولكني أقول إذا تقرر هذا فكيف يسوغ لنا أن نقول في النسبة إلى الطبيعة والبديهة طبيعيُّ وبديهيّ مع أن القياس كما علمت أن يقال طبَعيّ وبَدهي ولذلك عدوا ما ورد مخالفاً لذلك عن العرب شاذا لا يقاس عليه كقول الشاعر:
ولستُ بنحوي يلوك لسانُه
…
ولكن سليقي أقول فأُعرب
وبيت القصيد هنا سليقي إذا كان القياس أن يقال كما علمت سلقيّ ولكنه قال سليقي فهو من
باب الشواذ، وما أردته من ذلك البحث هو هل يجوز لنا إحياء شواذ اللغة والقياس عليها ونهجر القياس الشائع مع عدم وجود ما يمنعنا من استعماله - عندي أن القياس مع هذا أولى إن لم يكن واجب التقديم: وما عند علماء اللغة أريد أن أعرفه!
(معهد الزقازيق)
عبد الغني جمعة
النعيم الحسي والمعنوي في الجنة
خلقت مشكلة الجناية على الأدب مشكلة أخرى. وهي: هل نعيم الجنة حسي أم معنوي؟
وهاتان المشكلتان وأمثالهما من المشكلات الحبيبة إلى النفس لأنها في سبيل الأدب والعلم، لذلك نرجو الله أن يكثر من أمثالهما بقدر ما يريحنا من المشكلات السياسية العقيمة.
ولقد قرأت ما كتبه الدكتور زكي مبارك. وما كتبه الأستاذ قراعة في هذا الصدد فعنت لي بعض ملاحظات على رأى الأستاذ قراعة أسطرها فيما يلي:
أولاً: يتشبث الأستاذ بأن لذات الجنة لذات معنوية، ويذهب إلى وجوب تأويل النصوص التي يدل ظاهرها على أنها حسية. وهذا فضلاً عن أنه مخالف لإجماع أهل السنة فإن كثيراً من النصوص لا يمكن تأويلها إلا بتعسف شديد لا يحتمله. وكذلك قوله تعالى
(قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق. قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) فقد دلت الآية الكريمة على أن أنواع الزينة والطيبات من الرزق مباحة للمؤمنين والكافرين في الدنيا، خالصة للمؤمنين في الآخرة لا يشركهم فيها أحد. ولا شك أن أكثر لذات الدنيا ونعيمها حسي محض. وسيكون في الآخرة بهذا الاعتبار نفسه. . .
وقال تعالى: (ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون. يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين) فإن في قوله تعالى فيها ما تشتهيه الأنفس مع ملاحظة اختلاف النفس والروح يشعر بأن النعيم الأخروي حسي في كثير من النعم. . .
وفي الصحيح عن حذيفة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها. فإنها لهم في الدنيا،
ولكم في الآخرة). أفليس المناسب أن يكون النعيم بالحرير والديباج، والذهب الفضة في الآخرة، نعيماً حسياً لأنه هو القريب في استعمالها؟
ولو تتبعنا نصوص الكتاب والسنة لوجدنا الكثير منها لا يمكن تأويله وصرفه عن وجهه.
ثانياً: مثل الأستاذ برؤية المنظر الجميل، وسماع الصوت الجميل من الجميل، وبين أنه بإضافة الحاسة الفنية إليهما يكون فيهما جهتان من اللذة: روحية، وحسية، وأن البحث عن الأولى ارتفاع بالروح إلى أوج الكمال، والبحث عن الثانية نزول بها إلى الحضيض. . .! وهذا التمثيل صحيح لا غبار عليه. ولكنه لا يظهر إلا في مثل هذين المثالين مما يمكن أن تضاف إليه الحاسة الفنية ويكون له جهتان.
ولكن ماذا يقول الأستاذ في مثل قوله تعالى: (وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون - فيهما فاكهة ونخيل ورمان) إلى غير ذلك من الآيات التي يظهر فيها أن المقصود التذوق الحسي ولا تظهر فيها اللذة الروحية إلا إذا رأى الأستاذ أننا نأكل طيبات العيش لنقوي أرواحنا لا أجسامنا.
على أني لا أنسي أن أشكر للأستاذ مجهوده القيم، وأطمئنه على عقيدته رغم ما يرميه به الغير من الكفر أعاذنا الله منه.
محمد علي حسنين جويق
كلية اللغة العربية
هل انتهت الثورة؟
سيدي الأستاذ الجليل. . .
تحية واحتراماً. وبعد فقد وردتني رسالة من طالب فلسطيني فاضل يعلن فيها احتجاجه - والنية حسنة - على عبارتي الواردة في كلمتي (هل في الحيوان غريزة الغيب)(الرسالة رقم 314) إذ أقول: (وها قد انتهى أمر الثورة) وهو يقول: إن سكون البلاد لا يعني انتهاء الثورة، وسوف لا يكون هذا إلا إذا نالت البلاد أمانيها.
وأجيب الطالب الفاضل بأنني حين قلت عبارتي تلك لم أكن اقصد هذا المعنى الذي ذهب إليه ومعاذ الله أن أقصده، وإنه من المحقق إن الثورة وإن أخمدتها القوة فليس معنى هذا أن
النفوس قد هدأت وقرت، أو أنها رضيت بالمصير الذي يوده لها (القوم) وكلنا يرى هذا ويحسه.
على أنني أجئ هنا بأبيات من قصيدة لي تلقي ضوءا على المعنى الذي ضمنته عبارتي، والخطاب في الأبيات موجه إلى الوطن العزيز.
وعلاك لم يخضع بنوك ولا ونت
…
همم لهم كالراسيات عظامُ
هيهات، تأبى ذاك أخلاق لهم
…
لا وهْيَ فيها، لا ولا استسلام
لكنّ من عنت القوى وكيده
…
شُدت هناك شكيمة ولجام
هذا وإنني أشكر للطالب الفاضل حسن رأيه وأكبر فيه ذلك الروح السامي الذي يتجلى في رسالته.
(نابلس)
فدوى عبد الفتاح طوقان
رسالة النقد
معلقة الأرز
تأليف الأستاذ نعمة قازان
بقلم الأستاذ جورج سلستي
ليس (معلقة الأرز) ديواناً شعرياً بالمعنى الذي تؤديه لفظة ديوان - أي مجموعة قصائد تتفاوت فيها المعاني والمباني - وتتباين فيها الخلجات والنزوات، وإنما هو رسالة في الأدب شاء ذوق صاحبها الفني أن يحملها قصيدة واحدة دعاها معلقة الأرز - والأرز رمز لبنان الخالد مسقط رأس الناظم النازح - وأردفها بمقطوعة شعرية صغيرة دعاها (أنشودة الغريب) بث فيها حنينه إلى لبنان مهوى فؤاده، ومثار إلهامه.
وتحميل الشعر رسالة في الأدب بادرة مستحدثة في الشعر العربي، فقد كنا حتى اليوم نقرا رسالات الأدب نثرا لا شعرا، كما أننا نعرف الشعر مستودع النزوات العاطفية والخلجات النفسانية يعتلج بالخواطر والمرائي والصور.
وسيان عندنا أَحمِّل الشعر رسالات أو نزوات وحمِّل الفلسفة والتاريخ والعلم أم اقتصر على تصوير وبثّ خلجات الروح فجل ما يعنينا أن يحتفظ بسموه ومكانته وأن يستوعب الفن الرفيع ولا يضير الشعر أن يؤدي للناس رسالات في الأدب إن استطاع الشاعر أن يسمو فيه ويحلق، وإن تمكن فيه أن يقنع قارئيه بصحة رأيه وصواب فكرته.
والرسالة التي شاء الأستاذ نعمة قازان أن يدفعها للناس في معلقته يتلخص مرماها في إيثار المعاني على الألفاظ، وهي رسالة كثر فيها القول واشتد حولها الجدل.
والأستاذ قازان على كل حال لم يأت في قصيدته بشيء من الحجج الدامغة ليقنع قراءه بفكرته، أو في الأحرى بمذهبة هذا وإنما يعرض عليهم آراءه عرضا وهو يسخر من خصوم المذهب الأدبي الذي يعتنقه سخرية لاذعة فيها التهجم الكثير والتجني الكثير.
يقول حضرته: (لكم وزنات ولي وزنتي).
ولكن أية وزنة هي هذه التي يريد أن يتاجر بها.
إنها وزنة جد راجحة عنده وقد يبلو في سبيلها كل عناء إلا أنه لن يتخلى عنها مهما لاقى
من عنت وإرهاق، ولن يستطيع أن يثنيه عن إيمانه بها ثان على حد قوله:(وما تحرجوني فلن تخرجوني).
وسيبقى ذلك الصابر الذي لا يتزحزح عن عقيدته ولو رجمه الناس:
لئن ترجموني غفرت لكم
…
وإن تتبعوني ففي ذمتي
فكأنه بطل من أبطال الإيمان الأولين يضحي في سبيل عقيدته حتى بالنفس، ومثل هذا السخاء يقدر ولكنه في غير الأدب، والصبر والإيمان محمودان ولكن في غير هذا الشأن لاسيما وهو لا يعود على الأمة أو على الأدب بخير، حتى ولا على صاحبه بشبه خير أو فائدة.
فالأدب ميدان تقرع فيه الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان ومن قويت حجته رجحت كفته ومشى وراءه تابعوه وإلا خذل وانفرط من حوله حتى عقد المقربين.
وإيثار المعنى مستحب ما في ذلك ريب ولكن الاستهتار باللفظ من اجل المعنى مجتوى مذموم، وإننا لنلوم الأستاذ قازان لوما شديدا عندما نراه يلجأ في أداء معانية إلى اللفظ السقيم لا عن جهل أو قصور ولكن عن سابق تعمد وتصميم، على تعبير أهل القانون، كما يؤكد ذلك صديقة الأستاذ توفيق ضعون عضو العصبة الأندلسية في البرازيل وواضع مقدمة (معلقة الأرز).
ونحن لسنا من المتزمتين ولا المتعنتين في تمسكنا بقواعد اللغة وأوزان الشعر، ولسنا من دعاة التقيد ولا الجمود إن أهبنا بالأدباء أن يلزموا في بيانهم وجه الصواب، ولكنا من دعاة التجدد مثله إلا أن الفرق بيننا هو في تحديد معنى التجديد. إننا من الأولي يطربهم المعنى الجميل ولكن في اللفظ الجميل، وتهزهم الفكرة الفذة ولكن إذا صيغت في قالب مصقول، لأننا نربأ أن تصبح اللغة فوضى في حين أن لها ضوابط وقواعد يتحتم على من يريد الإبانة فيها أن يتقنها.
إننا نضن بها أن تنحدر من سمتها الرفيع إلى حضيض اللحن الوضيع.
وماذا يحل باللغة لو ترك الحبل فيها للأدباء على غاربة يصوغ كل متأدب ألفاظه على هداه، وينظم كل شاعر أبياته على منحاه يخبط في ألفاظه وفي قوافيه، والألفاظ أكسية المعاني ترفل في المنمق منها وتتيه، وتسمج في السخيف وتشوه.
وإن كان الأستاذ قازان يحسب أن الاستهتار باللغة من دواعي التجديد، فقد أخطأ كل الخطأ.
إن مجال التجديد رحب، وإنه ليستطيع أن يزاوج بين ألفاظه كما فعل البحتري من قبل، ويأتينا ببيان مرموق فيه كل الجدة والطرافة دون أن يلجأ إلى الحوشي الغريب من الكلمات، والبيان نفسه يستنكر استعمال اللفظ غير المأنوس.
والمزاوجة بين الألفاظ وحدها منزلة عليا من منازل البيان ومرتبة سامية من مراتبه يستطيع الأديب أن يرقى إليها إذا جشم نفسه قليلا من التدقيق والتعمق والمران.
ويستطيع الشاعر إن كان من ذوي القدرة على التوليد والابتكار، ومن ذوي المواهب، أن يتعدى نطاق الأوزان المعروفة، على أن يأتينا بشعر سائغ موزون كما فعل بعض شعراء الأندلس من قبل. والشعر كالموسيقى تلزمه الأذن المرهفة، والحس الدقيق والخيال السمح، ومن أوتيها أوتي حظا كبيرا، وتمكنه من غير جهد ولا عنت أن يمهر الأدب بقصائد خالدة تبقى جدتها خالدة على الدهر.
ثم ليس من التجديد في كثير أو قليل، ولا من رعاية حق الأدب وحرمة الأدباء في شئ أن يطعن المعاصر أدباءنا الأقدمين وأن يقول الأستاذ قازان في (شوقي) ومريديه مثلا، وقد حسب فيهم أصنام الأدب:
دعاة الأمير سلام عليكم
…
من الخارجين على الدعوة
لقد طلع الفجر من غمده
…
وبان اللبابُ من القشرة
ومات الأمير عليه السلام
…
فماذا لديكم سوى الجثة؟
عفا الله عنه عفا الله عنه
…
فلا يستحق سوى الرحمة
فشاعر له مكانته الرفيعة في الشعر وله أياديه البيضاء على الأدب، شاعر كان من أترابه الشعراء في الطليعة بخياله الوثاب، وأسلوبه الرفيع، لا يجوز أن يقال فيه، وهو الذي مهر التراث الأدبي بحافل من روائعه التي خلفها للأجيال من بعده تنطق عنه، مثل هذا القول!
إننا لا نستصوب الإمارة في الشعر ولا الملكية في الأدب، ولكن عدم مشايعتنا لهذا الرأي لا يمنعنا أن نثبت الحق لذويه ولا يحفزنا للطعن فيهم.
أما تحديد الشعر وكيف يجب أن نفهمه فيعرفنا إياهما الشاعر بقولة:
فلو كان معنى الحياة لعمري
…
بخطٍّ تآلفَ في صورةِ
وكان جمال الحسان الملاحِ
…
بكحل العيونِ وبالزينة
وكان الشبابُ وعزمُ الشباب
…
بحسنِ الوجوه وبالبزَّة
وكنتُ وكنتم بأجسادنا
…
لقلتُ: هو الشعرُ باللفظة
ولكنه الشعر روحٌ بنا
…
ولكنه الشعر في الخلجة
فما الشعر بالكأس براقةً
…
ولكنه الشعرُ في الخمرةِ
وفي هذا بعض الحق لا الحق كله. وإننا لنسأل الشاعر: ألا يشين الجمال تستره بالأطمار ويحط من قدر الغانية الرائعة الحسن ارتداؤها الرث الخلق من الثياب؟
أجل، إننا لنجاريه في رأيه ولكن إلى حد، فليست الكأس هي التي تهزنا وإنما الخمر التي فيها.
ولكن ألا يعرض عن احتساء تلك الخمر إذا أديرت على الشاربين في كؤوس لا تهفو إليها النفوس وتتأبى منها الشفاه!
إننا لنميز الجمال حين يتشح بالأطمار ولكنه سرعان ما تصدر من قلوبنا لدى رؤيته آهة ملؤها التحسر والتمني، آسفين أن تدفنه تلك الأطمار متمنين لو يسبغ عليه كساء يلائم سناه ليبدو بما هو جدير به وأهل له، فتنة للناظر ومتعة للخاطر.
وإننا نود أن نحبس تلك الآهة ونكبت ذلك التمني لدى مرأى الحسن، ولن نستطيع ذلك إلا إذا كان رافلا في حلله الزاهية القشيبة.
والديباجة المشرقة لابد منها للشعر السامي؛ والديباجة المشرقة هي التي تعوز صاحب معلقة الأرز، وخلو القصيدة من الكبوات والهفوات هو ما يتطلبه الشعر العالي، والهفوات وقع فيها شاعرنا كذلك.
ولئن غفرنا له سناد التأسيس في قولة:
وبت ولي مقلة الجائعين
…
كأعمى يفتش عن إبرة
فلا في القديم ولا في الجديد
…
(مسكت؟) طريقي إلى غايتي
وسناد التأسيس من عيوب القافية. أو سناد الردف في قوله:
فلو كان معنى الحياة لعمري
…
بخط تآلف في صورة
وكان الشباب وعزم الشباب
…
بحسن الوجوه وبالبزة
وسناد الردف من عيوب القافية أيضا. أو الجوازات الشعرية المستهجنة كقطع همزة الوصل في قولة:
إذا صار أمسي ويومي غدا
…
فيارب اضرب على مقلتي
أو الأخطاء في استعمال الألفاظ كقولة:
وسبحان ربيَ معين العطاءِ
…
يخصُّ النباهةَ بالنملةِ
وصوابها: يخص النملةَ بالنباهة.
أو أخطاء اللغة كقوله:
ربيتُ طليقاً على فطرتي
…
ويا ما أُحيلى طفوليتي
وصوابها: طفولتي، ومثلها ألوهيتي في قوله:
فترتُ وثارت أنانيتي
…
فضعتُ وضاعت ألوهيتي
وصوابها ألوهتي. الخ
أجل، لئن غفرنا له هذه الأخطاء وأمثالها مما قد يقع فيه كل متأدب، فلن نغفر له تساهله في استعمال الأخطاء وحشرها في أبياته بين قوسين دلالة على معرفته لها وتعمده استعمالها.
وتعمد استعمال الأخطاء خطيئة مضاعفة يلام عليها صاحبها أشد اللوم وأعنفه وما نحسب أنفسنا مغالين في هذا أو مسرفين.
وإنه ليعز علينا أن يتجنى بعض المجددين على ما يعدونه قديما فتعمى بصائرهم لا عن جمال البيان وروعة الأداء فحسب، بل عن روعة الأفكار التي يريدون حمل لوائها؛ كما يعز علينا كذلك أن يتجنى بعض المحافظين على القائلين بالتجدد والآخذين بأسبابه.
وقول الأستاذ قازان إنه لم يعثر في قديم الشعر على معنى طريف يستوقفه، وإنه غاص فيه إلى أعماقه، فلم يرو نفسه العطشى:
(فكنت وبي عطش قاتلٌ
…
كمن يشربُ الماَء بالشوكة)
خطل ما في ذلك ريب بل ضلال عن وجه الحق والصواب.
ولقد وقع في مثل خطأه من قام بالأمس يجرد المنفلوطي من أدبه في إحدى المجلات الأدبية البيروتية. وصدور مثل هذه الآراء عن أدباء الجيل الطالع من الشباب تجن ما بعده تجن، ولا يقل عن هذا بعدا عن الحق قول الدكتور عمر فروج في (جبران خليل جبران) في
العدد 33 من مجلة (الآمالي) البيروتية الصادر في 14 نيسان في مقال (الخالدون في الأدب) حيث قال فيه بعد أن عدد مزايا الأديب وعناصر أدبه:
(هذه هي العناصر الأولية التي لا يجوز لنا أن نطلق لفظة أديب على رجل إلا بها وجبران مجرد منها جميعا)
وقوله في المقال نفسه: (للأدب كما قدمنا مقاييس مشهورة لا يتمتع جبران بواحدة منها)
فنفي الأدب عن أديب كبير كجبران كنفيه عن أديب كبير كالمنفلوطي. وإن ما فيه من التجني والظلم، إن وقع فيه الأدباء الناشئون فلا يصح أن يقع فيه أديب كالدكتور عمر فروخ له من ثقافته العالية وذوقه الأدبي الممتاز ما يعصمه عن مثل هذا الشطط.
ومعلقة الأرز ما عدا ذلك فيها شاعرية وثابة يحق لنا أن نستبشر منها بالخير فإن من يقول:
إذا الشعر سُخِّر في أمة
…
فصلِّ ورّحم على الأمَّة
ومن يقول:
(فلا لفني الليل في برده
…
إذا لم أمزّق به بردتي
ولا طلعَ الفجرُ يوماً عليَّ
…
إذا لم يلدني مع الطلعة)
ومن يستشهد بقول النبي:
(إن تحت العرش كنوزاً مفاتيحها ألسنة الشعراء)
لشاعرٌ لن يكبل نفسه بأوضاع المناسبات، ولن يسخر ضميره لما لا يشعر به ولا يحس؛ شاعر طموح نأمل أن يأتينا بالعذب المبتكر من الشعر النابض الحي، وأن يفتتح بخياله الوثاب بعض الكنوز المغلقة تحت عرش السماء.
ومعلقة الأرز تزخر بعد هذا بالحنين، حنين المغترب إلى وطنه الحبيب، وله في ذلك أبيات رقيقة صادرة عن نفس صهرتها الأشواق، آثر فيها بلاده وأمته على بلاد العالم وأممه جميعاً.
أقول بقاع الدنى حلوة
…
وأحلى بقاع الدنى بقعتي
فلا، أريد سوى موطني
…
ولا، لا أحب سوى أمتي
وقوله في (أنشودة الغريب) وفيها رقة وعاطفة، يخاطب لبنان:
رويت من (دمي؟!)
…
غذيت من لحمي
يا حاضناً أمي
…
يا ثرى لبنان
هل يرجع الغريب
…
للوطن الحبيب
وتهتف القلوب
…
مرحباً لبنان
الأرز والوادي
…
يا مهد أجدادي
يا أرض ميعادي
…
يا ثرى لبنان
ثم لا أرى بدأ قبل أن أختم مقالي من أن أقول إن لشعر قازان ميزة أخرى هي الصدق في التعبير عن خلجات نفسه تعبيراً لا مداورة فيه ولا رياء وذلك عائد إلى ما يتراءى لنا من حبه الحق ولو كان عليه ولثقته بنفسه ثقة كبيرة، ومن ثم جاء شعره خالياً من كل بهرج وكل طلاء وتجلت فيه مزايا النفس الجريئة الأبية كقوله عن نفسه:
وليس التملق من شيمتي
…
وليس التأنق من نزعتي
فإني ترعرعت بين الجبال
…
على البأس والفقر والشدة
ومن عاش مثلي على جرأة
…
فلا يستلذ سوى الجرأة
فإما نطقت نطقت بحق
…
وإما سكت فعن عفة
وما نخاله فيما قاله عن نفسه إلا صادقاً، والصدق على ما نعتقد من أجل ميزات الأديب؛ وصاحب معلقة الأرز عنده من المزايا الأدبية ما يفسح له في دولة الشعر مجالاً رحباً يمشي فيه إلى غايته المثلى، ولا يعوزه إلا صقل ديباجته وتهذيب بيانه، وليس ذلك على مثله بعزيز. فإن له من ملكته الفنية خير مسعف ومن خياله الوثاب خير معوان.
فليوطن النفس على إجادة مبانيه لتوافق معانيه إن كان يريد أن يتبوأ المنزلة الرفيعة التي تصبو إليها النفس الطموح.
(بيروت)
جورج سلستي