المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 319 - بتاريخ: 14 - 08 - 1939 - مجلة الرسالة - جـ ٣١٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 319

- بتاريخ: 14 - 08 - 1939

ص: -1

‌مطاعم الأغنياء

للأستاذ عباس محمود العقاد

مطاعم الأغنياء. . .؟

لعلك تقصد مطاعم الفقراء

كلا. بل مطاعم الأغنياء اقصد لأنهم، أو لان أكثرهم، في حاجة إلى مطاعم يتعلمون فيها كيف يأكلون، كاحتياج الفقراء إلى مطاعم يجدون فيها ما يأكلون

فمن البدائية في رأيي إن الفقير يجب إن يأكل، وأن أحداً من الناس في هذه الدنيا لا يعجز عن عمل يساوي بضعة أرغفة وقليلاً من الأدم في كل نهار. فأن عجز فذاك وزر الأمة بحذافيرها وليس بوزره الذي يجزي عليه بالجوع والموت، وعلى الأمة إذن إن تكفل له قوته بعمل تتولى تدبيره له ولأمثاله، أو بمطاعم تكفيه مؤنة الغذاء في انتظار العمل والصناعة

ذلك شأن الفقير المحروم، فما بال الغني الميسر الأرزاق تدبر له المطاعم ليأكل فيها وعنده المطبخ وعنده الطاهي وعنده المآكل والمشارب؟

في مصر أزمة طعام سفلية وعلوية في وقت واحد: فأما السفلية فتلك أزمة الفقير، وأما العلوية فتلك أزمة الغني الذي يجد الطعام ولكنه لا يجد الغذاء

إذا قيل في مصر: (فلان يعرف يأكل) فذلك على الأرجح الأعم رجل يجهل صناعة الأكل ولا يزال على خطر مما يأكل. لأن تعريف الطعام النافع عنده أنه هو الطعام اللذيذ أو الطعام الذي يثقل على الجوف، ويملأ الأحشاء

وقد يكون الطعام لذيذاً وهو ضار، وثقيلاً على المعدة وهو خفيف الوزن فيما يؤول إلى صحة الجسم وانتظام الأعضاء.

وقد يحسب انه يعوض جسمه مما فقد فإذا هو يضيف إليه خسارة على خسارة، وجهداً على جهد، ثم كلالاً على كلال، وفتوراً فوق فتور.

سمعت إن (محدثاً) تزوج، ثم سمعت بعد أشهر قليلة أنه أصيب بداء السكر، ثم سمعت حكايته فعلمت انه قد أصيب بالداء من حيث طلب السلامة، وأنه لولا طلبه السلامة من حيث طلبها لكان أقرب إلى العافية وابعد من الداء

ص: 1

ظن صاحبنا إن الزواج - أو الزواج الحديث على الأقل - عمل دائم لا يتخلله انقطاع، فمن لم يكن متزوجاً في الصبح وفي الظهر وفي الأصيل وفي المساء فهو أعزب أو نصف أعزب على اقل تقدير. وكيف يستطيع الإنسان إن يجمع بين الزواج وعدم الزواج في آن؟ هما نقيضان لا يجتمعان؛ وقد يكون في الجمع بينهما بعض معنى الطلاق إبان شهر العسل والعياذ بالله.

فتزوج وتزوج وتزوج، ولم ينس واجب الحيطة والوقاية لأنه رجل حازم بصير وقاك الله شر الحزم والبصر من هذا القبيل.

فمع الزواج الدائم شرب دائم من السمن والعسل على الريق وبين الطعام والطعام، وكلما وجد السمن والعسل وهما موجودان.

وهل غذاء أوفر من السمن والعسل؟ وهل انفع منهما للبدن وارد منهما للعافية أطيب منهما حلالا معيناً على حلال؟

هكذا قدر صاحبنا فجاءه الضرر من حيث قدر، لأن عناء الكبد في هضم كوب من السمن والعسل أشق عليه من عناء الزواج الدائم، فلم يكن عوضاً ما تعوض به واستعانه على حلاله، بل كان كما أسلفت كلالاً على كلال، وفتوراً فوق فتور.

وآخرون يبارى بعضهم بعضاً في (كلفة) المائدة و (تسبيك) القدور واصطناع (الجيد) من الأصناف: عندهم الخفة على المعدة رديف التفاهة، والثقل على المعدة رديف المتعة والغزارة.

ولكل منهم صنف يشتهر به ويولم عليه؛ وهم بينهم متبادلون متعارضون، متسابقون في الكرم متساجلون، حتى لا تحرم المعدات نصيبها من الكظة والنصب يوماً أو بعض يوم، ولا يتخلف واحد منهم في مضمار السباق: السباق إلى القبور.

أفي البلد أمثال هؤلاء لا يزالون مع الاحياء، وتستغرب عنواني: مطاعم الأغنياء؟

ما أعجبه مطعما يساق إليه أصحاب الضياع والكراع شهراً من كل سنة يتعلمون فيه (الأكل) وينفقون عليه من أموالهم مكرهين!

وما أعجبه ديواناً من دواوين الحكومة يهجم على المطابخ الفاخرة كما يهجم على المحظورات والمهربات، ويصادر الدسم كما يصادر السم!! وهو السم بعينه وليس السم في

ص: 2

الدسم كما قال صاحب البردة رحمه الله.

على أن الآفة الكبرى أن يحرم المرء الغذاء لأنه لا يجده ولأنه لا يعرفه كما هو شأن الكثرة العظمى عندنا من سواد الفقراء.

فاكثر فقرائنا لا يفرقون بين التغذية وبين إسكات الجوع، وكأنما ينظرون إلى المعدة الصارخة نظرتهم إلى الكلب النابح الذي لا يراد منه إلا السكوت. . . فأن أسكتوه بعظمة فذلك حسن، وإن أسكتوه بحجر فذلك أحسن، ولا ضير عليهم بعد أن يسكت ويكف عن النباح.

أللبطن عيار أم خيار؟

ذلك جوابهم كلما (شبعوا) من طعام غث كثيف لا خير فيه، وكأنهم يحسبون من الصغار والمجانة أن يحفلوا بالمعدة الصارخة إذا استطاعوا أن يضحكوا منها بالقليل، فليس العجز عن خداعها والاحتيال عليها بالأمر الذي يليق بدهاء الرجال.

وربما رأيت هؤلاء المسكتين للمعدات بين أناس يعلمون الناس، ولا يعدون في مصلحة الإحصاء من زمرة الجهلاء.

كان لنا ولصديقنا صاحب الرسالة أيضاً زميل في التدريس يقبض ثمانية جنيهات في الشهر، ويشتري نصف فدان في العام، ويغمى عليه مرة أو مرتين في الأسبوع.

وعرضه ناظر المدرسة على طبيبها فاسر هذا إليه أن الرجل صحيح كأصح ما يكون الجسد السليم، وأن آفته كلها قلة الغذاء قلة الغذاء؟ كيف يكون هذا وهو يأكل ويشبع ولا يجوع؟

وأصر الرجل على طعامه، وخاف الناظر على تلاميذه أن يفوتهم من الحصص بمقدار ما يعتري الأستاذ من نوبات الإغماء. . فأذن له، بل آمره أن يأكل من طعام الغداء بغير ثمن، وفيه على الأقل ضمان وجبة نافعة في النهار. .!

كان القديس أوغسطين يقول إذا تكلم عن جسده: أخي الحمار. لأنه في حكمه حيوان كسائر فصائل الحيوان.

أما الجسد عند هؤلاء الذين يطعمونه وهم يسقمونه، ويسمونه وهم يحسبون أنهم يسمنونه، وينفقون المال ولا يعرفون كيف يأكلون، ويشبعون وخير لهم لو يجوعون، فهو الأحق بان

ص: 3

يقول وهو يتكلم عن صاحبه: أخي الحمار. . . فهما في الواقع حماران اثنان في جسم إنسان.

ولمثل هؤلاء تشرع مطاعم الجهلاء، من القراء والأغنياء!

عباس محمود العقاد

ص: 4

‌كتاب مستقبل الثقافة في مصر

الثقافة العامة

وتعليم اللاتينية واليونانية

للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك

عندما نبحث عن الأسباب التي تدعو إلى استمرار بعض البلاد الغربية على فرض تعليم اللاتينية ولو في بعض الفروع من الدراسة الثانوية، يجب علينا إلا نسهو عن تذكر هذا العهد الذي كانت تسيطر فيه اللاتينية على حياة العلم والتعليم في جميع مرافقها سيطرة تامة. . .

كان من الطبيعي إلا تستمر هذه السيطرة المطلقة على طول الزمن، كما كان من الطبيعي أيضاً إلا تزول هذه السيطرة المطلقة دون إن تترك أثراً عميقاً. . .

كان من الطبيعي أن ترتفع أصوات الاعتراض والاحتجاج على هذه السيطرة، مع بزوغ عصر النهضة؛ وكان من الطبيعي أن تقوى الأصوات المطالبة بتخفيف وطأة هذا (النير اللاتيني) - حسب تعبير (لابرويير) الشهير -؛ وكان من الطبيعي أن تصل هذه الأصوات - أخيراً - إلى درجة الدعوة إلى الثورة ضد اللاتينية للتخلص من سلطتها المطلقة. . .

إن الخروج على سلطة اللغة اللاتينية بدأ أولا على شكل (انقلاب ديني) عندما طالب لوثير بترجمة الإنجيل إلى اللغات القومية، ودعا إلى إقامة الصلوات باللغات التي يتكلم بها الناس.

ثم جاء دور الانقلابات الأدبية، فخرجت الآداب - في الممالك الأوربية المختلفة - على سلطة اللغة اللاتينية المطلقة عندما تهذبت وتقدمت اللغات العامية، وأنتجت من الآثار الهامة ما رفعها إلى مصاف اللغات الأدبية.

وأخيراً جاء دور تخلص (العلم والتعليم) من سيطرة اللاتينية، فأخذت هذه اللغة تفقد سلطتها المطلقة في هذا الميدان أيضاً شيئاً فشيئاً.

إن الانقلاب الأخير لم يتم إلا بتدرج غريب، وبطأ عظيم؛ فمثلا اللغة الفرنسية لم تتمكن من دخول المدارس إلا باجتياز مراحل عديدة تتلخص فيما يلي: أولا إفساح المجال للتكلم

ص: 5

بها في أوقات الفرص. ثانياً: تسويغ استعمالها لتفهيم العقائد الدينية للصغار. ثالثاً: تخصيص ساعات لتعليمها كدرس خاص. رابعاً: تحميلها مهمة تعليم بعض الموضوعات الدراسية. وأخيراً زيادة هذه الموضوعات بصورة تدريجية.

كما أن (التاريخ) أيضاً لم يدخل المدارس إلا مجتازاً مراحل عديدة: أولاً على شكل (التاريخ المقدس) مرتبطاً بدروس الدين. ثانياً: على شكل (تاريخ اليونان) و (تاريخ الرومان) مرتبطاً بدروس اللاتينية واليونانية.

أنني لا أرى داعياً لاستعراض جميع التطورات التي طرأت على المناهج الأساسية في المدارس المذكورة، حتى أواسط القرن التاسع عشر. غير أنني أود أن ألخصها بكلمة مختصرة، وهي: إفساح المجال للعلوم المختلفة شيئاً فشيئاً، بجانب اللاتينية واليونانية، دون إخراج هاتين اللغتين من نطاق الدروس الإجبارية.

كان بعض المفكرين والمربين يدعون إلى أحداث انقلاب أساسي في مناهج التعليم من حين إلى حين. كانوا يظهرون ارتيابهم في فوائد تعليم اللغات القديمة، حتى انهم كانوا يصلون بانتقاداتهم هذه إلى درجة القول بضررها؛ غير أن هذه الآراء قلما كانت تجد آذاناً صاغية، فلم تستطيع أن توجد تيارات فكرية قوية تؤثر على الحالة الراهنة.

مع هذا اشتدت الحملات على اللاتينية في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر، أخذت الانتقادات تتغلغل في محافل المفكرين، من جراء انتشار روح الثورة واشتداد نزعة الإصلاح والتجديد من جهة، ومن جراء تقدم العلوم وتعقد الحياة الاجتماعية من جهة أخرى.

فازداد تساؤل المفكرين والمربين يوماً عن يوم: هل من ضرورة تدعو إلى الاستمرار على تعليم اللغات القديمة في المدارس الثانوية؟ ألم يكن هذا التعليم من آثار النظم البالية التي توارثتها المدارس المذكورة من عهد القرون الوسطى؟ ما الفائدة من تعليم هذه اللغات بعد أن لم يبق على وجه الأرض من يتكلم بها؟ وإذا قيل أنها لا تخلو من فوائد، فهل تعادل هذه الفوائد الجهود العظيمة والأوقات الثمينة التي تصرف وتبذل في هذا السبيل؟ ألا يمكن الوصول إلى الفوائد المذكورة من طرق أخرى بوسائط اقل عمقاً من تعليم اللغات الميتة؟

أن هذه الأسئلة فتحت ميداناً فسيحاً للأبحاث والمناقشات التربوية. وهذه الأبحاث

ص: 6

والمناقشات، تناولت مسألة (التعليم الثانوي) من وجوهها العديدة، حتى أنها أثارت مسألة (التدريس التثقيفي) من أسسها العميقة. . .

انشطر المفكرون والمربون حيال مسالة اللغتين اللاتينية واليونانية إلى معسكرين متخاصمين: معسكر الذين يقولون بوجوب المحافظة على هاتين اللغتين القديمتين في المدارس الثانوية، ومعسكر الذين يعتقدون بوجوب تخليص المدارس المذكورة منهما.

بدأت المناقشات بين المعارضين والمدافعين منذ قرن تقريباً؛ وهي تشتد أحياناً وتفتر أحياناً؛ وتضطر الحكومات إلى اتخاذ قرارات عملية جديدة، تحت ضغط هذه المناقشات، من حين إلى حين.

إن النزاع حول هذه المسألة صار أشد عنفاً واعمق أثراً في فرنسا مما كان في البلاد الأخرى. . . ولهذا السبب، أرى من الموافق أن نلقي نظرة عامة على الآراء التي استند إليها المعارضون والمدافعون، في المملكة المذكورة بوجه خاص:

يقول أنصار اللغات القديمة: إن في تعليم هذه اللغات فوائد عظيمة - مباشرة وغير مباشرة، قريبة وبعيدة، عملية ونظرية، تعليمية وتثقيفية - لا تضاهيها الفوائد التي يمكن الحصول عليها من تعليم أية لغة من اللغات الحية، وأي فرع من فروع الدراسة الأخرى. . .

وأما أنواع هذه الفوائد، فتتلخص في الأمور التالية:

(ا) إن اللاتينية أم اللغة الفرنسية ومصدر مفرداتها؛ فإتقان اللغة الفرنسية اتقاناً يضمن الأخذ بناصيتها، لا يمكن إن يتم بدون معرفة اللغة اللاتينية. . .

(ب) إن الآداب الفرنسية تأثرت بالآداب اللاتينية واليونانية تأثراً كبيراً. فمعرفة الآداب الفرنسية معرفة عميقة يتوقف على درس الآداب اللاتينية واليونانية دراسة كافية.

(ج) إن خزائن الأدب اللاتيني واليوناني مملوءة بالآثار الخالدة التي تصور أسمى نزعات الإنسان بأجمل الأساليب؛ فالاطلاع على هذه الآثار الخالدة من الأمور الضرورية لتكوين الثقافة السامية.

(د) إن الحقوق الفرنسية مؤسسة على الحقوق الرومانية، والتعمق في هذه الحقوق يتطلب معرفة مصادرها، وفهم هذه المصادر يتوقف على معرفة اللاتينية.

ص: 7

(هـ) لقد أصبحت اللاتينية واليونانية مصدر الاصطلاحات العلمية ولا سيما ما يتعلق منها بالتاريخ الطبيعي والطب والكيمياء وأنواع المخترعات الحديثة، ومعرفة معاني هذه الاصطلاحات العلمية - وصوغ أمثالها عند الحاجة - مما يتطلب معرفة هاتين اللغتين.

(و) إن تعليم اليونانية واللاتينية من احسن وأنجع الوسائل التثقيفية؛ فأن هذا التعليم يلعب دوراً هاماً في تكوين العقل وتقويمه وتعويده على التفكير الصحيح المستقيم ولا يوجد موضوع دراسي يضاهي هذا التعليم من وجهة هذا العمل التثقيفي. ولذلك يجب أن نعتبر تعليم اللاتينية واليونانية بمثابة حجر الزاوية في صرح التثقيف.

إن جميع العظماء الذين نعرفهم ونفتخر بهم - من أساطين الأدب إلى جهابذة الفقه والعلم - قد تثقفوا بهذه الثقافة واستفادوا منها فلا يجوز لنا أن نهملها. . . ويجب أن نعلم حق العلم أن إهمال هذه الثقافة التي أثبتت جدارتها بالثمرات الثمينة التي آتتها للامة الفرنسية يكون بمثابة تعريض مستقبل هذه الأمة إلى خطر عظيم، خطر انحطاط الثقافة العامة التي تفتخر بها: وخطر الدراس جيل أعاظم الأدباء والعلماء الذين نعجب بهم.

هكذا كان يقول أنصار اللاتينية واليونانية.

وأما معارضو هؤلاء فيقولون: أن اللاتينية واليونانية من اللغات الميتة التي ترجع إلى العهود البائدة؛ وإن الحضارات والثقافات التي تتمثل في هاتين اللغتين أصبحت مدفونة في أغوار التاريخ ولو كانت سامية وباهرة أبان حياتها. فليس من المعقول أن نصرف - في هذا العصر الذي نعيش فيه - كل هذه الأوقات، ونستنفد كل هذه الجهود في سبيل تعلم وتعليم مثل هذه اللغات البائدة. . .

وأما الفوائد الآنفة الذكر فيفندها المعارضون واحدة فواحدة كما يلي:

(أ) لا شك في أن اللاتينية هي أم الفرنسية ومصدرها الأصلي؛ غير أن ذلك لا يدل على أن إتقان الفرنسية يتطلب معرفة اللاتينية. فالفرنسية اليوم، أصبحت لغة مستقلة عن اللاتينية استقلالا تاماً؛ فيجب أن تدرس درساً مباشراً، حسب معانيها وقواعدها وأساليبها الخاصة بها، بقطع النظر عن مصادرها الأصلية وتطوراتها التاريخية. وأما درس تلك المصادر، وتتبع تلك التطورات، فمما يجب أن يختص به العلماء الذين يودون أن يتبحروا في فقه اللغة ويتعمقوا في تاريخها؛ ولم يكن من الأمور التي يجب أن تعتبر من أسس

ص: 8

دراسة الفرنسية دراسة عامة، حتى ولا من أسس دراستها دراسة أدبية.

(ب) إن الأدب الفرنسي أدب قائم بنفسه، وإن كان قد نشأ في أحضان الأدب اللاتيني وتأثر بالأدب اليوناني. إنه اتخذ أسلوباً خاصاً، فاكتسب كياناً مستقلاً. فدرس هذا الأدب وإتقانه لا يتطلبان الرجوع إلى منابعه بوجه من الوجوه.

ومن أوضح البراهين على ذلك هذه الحقائق الواقعة: (أننا نعرف عدداً لا يحصى من المستنيرين الذين درسوا اللاتينية واليونانية، ومع هذا لم يصبحوا من الكتاب المجيدين في الفرنسية. ومقابل ذلك نعرف عدداً غير قليل من الأدباء الذين أحرزوا مكانة عظمى في تاريخ الأدب الفرنسي، مع أنهم لم يتعلموا اللاتينية، ولم يتثقفوا بآدابها. . .).

(إن لاروشفوكو، ووورنياك، وآلكساندر دوماس، وجورج صان. . . من جملة الأدباء الذين يذكرون في هذا الصدد. . .)

(ج) إن الآثار الخالدة المكتوبة باليونانية واللاتينية قد ترجمها إلى الفرنسية كبار الأقلام، فيمكن الاطلاع عليها من تلك الترجمات الجيدة، دون إضاعة الأوقات والجهود، في تعلم اللغات التي كتبت بها.

هذا. ومما يجب إلا يعزب عن البال أن معرفة اللاتينية واليونانية التي يمكن الحصول عليها خلال الحياة المدرسية لا تستطيع أن ترفع الطالب إلى درجة تمكنه من تذوق مضامين تلك الآثار الفكرية والأدبية ومزاياها - في لغاتها الأصلية - ولذلك نستطيع أن نقول: إن درس الآثار المذكورة في ترجماتها الجيدة اكثر ضماناً لتذوق مزاياها تذوقاً حقيقياً. . .

وزد على ذلك أن اللغات الحية الراقية أيضاً أوجدت آثاراً خالدة لا تقل أهمية وسحراً عن الآثار التي يشير إليها دعاة اللاتينية واليونانية، إن لم نقل بأنها تفوقها في هذا المضمار، على الأقل من وجهة قربها إلى حياتنا العصرية. . . فلا يحسن بالثقافة الإنسانية العالية أن تبقى تحت سلطان اللاتينية واليونانية القديمة؛ بل الأجدر بها أن تستفيد من الآثار الخالدة التي أنتجتها اللغات الحية في العصور الحديثة. . .

إن تعلم اللغات الحية - عوضاً عن اللاتينية الميتة واليونانية القديمة - يأتي بفوائد عظيمة، من هذه الوجهة أيضاً.

ص: 9

(د) لا ينكر أن الحقوق الفرنسية مستمدة من الحقوق الرومانية، والحقوق الرومانية مدونة باللغة اللاتينية. غير أن النصوص اللاتينية المتعلقة بالحقوق والقوانين - قد ترجمت بأجمعها إلى اللغة الفرنسية على يد اقدر العلماء والمتخصصين. فاصبح في استطاعة كل فرنسي أن يدرس الحقوق الرومانية دون أن يتعلم اللاتينية.

هذا، ويجب إلا يغرب عن البال أن الحقوق والقوانين العصرية لم تبق تحت سيطرة الحقوق الرومانية، وإن كانت قد استمدت - فيما مضى - أصولها منها. فأهمية الحقوق الرومانية في الثقافة الحقوقية آخذة في التضاؤل يوماً عن يوم، وسائرة نحو مطاوي التاريخ بخطوات سريعة.

ولهذا كله لا مجال لتبرير تعليم اللاتينية - بصورة منطقية - بحجة ضرورة ذلك لفهم الحقوق الرومانية.

(هـ) وأما مسألة الاصطلاحات العلمية الحديثة فأنها ليست من الأهمية بدرجة تستلزم صرف الجهود الشاقة لتعلم اللاتينية واليونانية، فان مصادر هذه الاصطلاحات وأساليبها محدودة، فليس من الصعب تعليمها مباشرة - مع ذكر وجوه اشتقاقها - دون التعمق في أغوار اللغتين القديمتين المذكورتين.

فضلاً عن أن المعاني الاصطلاحية قلما تنطبق على المعاني اللغوية؛ فمعرفة المعاني الأصلية قلما تساعد على فهم المعاني الاصطلاحية. ويمكننا أن نقول: إن عدم ضرورة التقيد بالمعاني الأصلية في الكلمات والتعبيرات المستخرجة من اللغات الميتة، كان من أهم العوامل التي سهلت وضع هذه الاصطلاحات الحديثة، ونشرها بين جميع الأمم العصرية (وذلك بجانب العامل الآخر، وهو ملاءمة عواطف الأمم التي لا تقبل عادة الاصطلاحات التي تستمد عناصرها من لغات الأمم المعاصرة لها). ولا نغالي إذا قلنا: إن هذه الاصطلاحات إنما أدخلت على اليونانية واللاتينية إدخالا، فلو أنها عرضت على أبناء اللاتينية أو آباء اليونانية في حياتهم، لما فهموا منها شيئاً، أو فهموا منها أشياء أخرى.

وعلى كل حال نستطيع أن نقول: إن معرفة المعاني الأصلية ليست ضرورية لفهم المعاني الاصطلاحية، كما أنها ليست مفيدة لها في اكثر الأحيان.

فمحاولة تبرير تعليم اللاتينية واليونانية بحجة ضرورة هاتين اللغتين لفهم الاصطلاحات

ص: 10

العلمية الحديثة، مما لا يتفق مع العقل والمنطق بوجه من الوجوه.

(يتبع)

أبو خلدون

ص: 11

‌جناية أحمد أمين على الأدب العربي

للدكتور زكي مبارك

- 10 -

سنواجه الأدب الأندلسي في مقال اليوم، وهو الأدب الذي اتهمه الأستاذ أحمد أمين بالعجز عن تذوق الطبيعة، والإحساس بالوجود.

ولكن لا بد من من كلمة قصيرة نبين بها بعض الخصائص التي امتاز بها الأدب العربي ليعرف أحمد أمين ومن لف لفه من المتحذلقين كيف تفرد ذلك الأدب بالصيغة العالمية بين سائر الآداب.

أسير الآداب في العصر الحاضر هو الأدب الفرنسي والأدب الإنجليزي والأدب الألماني، ولكن هذه الآداب على عظمتها لا تزال محصورة في العبقرية المحلية. ومعنى ذلك أن أقطاب الأدب الإنجليزي إنجليز، وأقطاب الأدب الفرنسي فرنسيس، وأقطاب الأدب الألماني ألمان.

والأدب الإنجليزي حين ازدهر في أمريكا لم يكن أقطابه هناك من السكان القدماء لبلاد الأمريكان، وإنما كان أقطابه من السلالات الإنجليزية التي احتلت تلك البلاد.

والفرنسيون لا يعترفون لأهل سويسرا وبلجيكا بالتفوق في الأدب الفرنسي، ويقولون أن أدبهم لا هو لحم ولا هو سمك، على حد تعبيرهم الطريف ، مع استثناء أفراد قلائل رفعتهم العبقرية إلى التفوق في لغة هوجو وميسيه ولامرتين.

أما الأدب العربي فكان حظه من اغرب الحظوظ، لأنه تغلغل في كثير من البيئات الشرقية والغربية، وانتفع بعبقريات كثيرة في مختلف الأمم والشعوب، فكان فيه أقطاب بين ناس لم تكن لهم قبل الإسلام صلة بمهد اللغة العربية من ناحية الجنس أو الدين.

وعلى ذلك يمكن القول بان الأدب العربي هو الأدب المخضرم الذي انتفع بالأجواء المختلفة من طبائع البلاد وسرائر الرجال. وقد ظهرت عبقريته في لونين من ألوان التعبير: هما العلوم الشرعية والفنون الأدبية، وما يمكن لباحث منصف أن ينكر أن الفقه الإسلامي صورة من صور التعبير الدقيق، وهو من صميم الأدب عند من يعرفون أن شرح الشرائع فرع من الفروع الأدبية، وهو يمثل الشعور بما في المجتمع من معضلات

ص: 12

ومشكلات خلقتها ظروف المعاش.

وذلك الفقه لم تختص به أرض دون أرض، فكان من أهل الهند وأهل فارس وأهل مصر وأهل المغرب والأندلس رجال تفوقوا في الدراسات الفقهية أشد التفوق، وأمدوا الأدب بصور كثيرة تمثل الاتجاهات الذوقية والمعاشية.

وما يقال في الفقه يقال في التوحيد والتفسير والحديث، فهناك ألوف من المصنفات الجيدة التي وعت ضروباً من الحقائق الأدبية والفلسفية لا يستهين بها رجل حصيف.

ولو توجهت همم الباحثين إلى شرح ما في تلك المصنفات من مقاصد وأغراض لأتوا بالعجب العجاب. وقد نبهني إلى ذلك المسيو مرسيه يوم كنت مشغولا بشرح الرسالة العذراء، فاستطعت أن أجد شواهد أدبية من كتب الفقه عند المالكية. وكذلك استطعت بإرشاد المسيو ماسينيون استخراج بعض المعاني الصوفية من المؤلفات الفقهية.

حيا الله أساتذتي في باريس، فبفضلهم عرفت من مذاهب البحث ما لم أعرف.

وإنما مهدت لمقال اليوم بهذه الكلمات ليعرف الأستاذ أحمد أمين كيف أخطأ حين توهم أن الأدب مقصور على قصائد الشعراء، فما كان الشعر إلا صورة من صور التعبير، وهو لتقييده بالقوافي والأوزان لا يستطيع التعبير عن جميع الأغراض.

وأنا مع ذلك سأقف عند الأدب الصرف الذي يمثله الشعر والنثر الفني وأنا أتحدث عن الأندلس.

فهل من الحق أن الأندلسيين لم يحسوا الطبيعة ولم يتذوقوها كما قال أحمد أمين؟

إن المعروف عند جميع أدباء اللغة العربية أن الأندلسيين تفوقوا في وصف الطبيعة، فكيف تفرد أحمد أمين بنكران ذلك؟

أيكون أحمد أمين أعلم الناس بالأدب ولا نعرف؟ ذلك والله غاية العجب!

أيكون من طبع كلية الآداب أن تروض مدرسيها على اصطناع الحذلقة والأغراب؟

أغلب الظن أن أحمد أمين سمع أنه لم يأت بجديد منذ اتصل بكلية الآداب، والجديد عنده هو الخروج على ما اتفق عليه جمهور أهل الأدب في ميدان الحقائق الأدبية، فمضى يتكلف ويتعسف ليأتي بجديد يجعله في الطبيعة بين أساتذة كلية الآداب، فكان ذلك الجديد هو التجني على ماضي الأدب العربي حين زعم انه في اكثر أحواله أدب معدة لا أدب

ص: 13

روح، وأنه لا ينقد الحياة كما تصنع الآداب الإفرنجية، وأنه لم يصف الطبيعة ولم يتحدث عن المجتمع.

وقد فندنا هذه المزاعم فيما يخص مصر والشام والعراق.

وندفع اليوم ما وجهه أحمد أمين إلى الأدب الأندلسي وهو يرى أهله قصروا ابشع التقصير في تذوق الطبيعة وفي الإحساس بما تعرضوا له من الأحداث الاجتماعية.

ويجب أن يكون مفهوما قبل الشروع في التفاصيل أن الأدب الأندلسي تعرض للضياع منذ أجيال، فلو قلنا أن ذلك الأدب ضاع منه اكثر من تسعة أعشاره لما بعدنا عن الصواب، فقد عانى ذلك الأدب فتنة حمقاء هي ثورة الأسبان على مخلفات العرب في الأندلس وإصرارهم على تبديد ما ترك العرب والمسلمون من روائع الآداب والفنون.

وكان ما صنع الأسبان بآثار العرب في المغرب صورة مما صنع التتار بآثار العرب في المشرق، فكان حظ قرطبة صورة ثانية من حظ بغداد.

تبدد من آثار العرب في الأندلس ما تبدد، وضاع منه ما ضاع، ومع ذلك بقيت آثاره تشهد بان العرب في الأندلس أحسوا الطبيعة والوجود إحساساً قليل النظائر والأمثال.

وهل يدرك أحمد أمين قيمة الإحساس بالطبيعة في قول المعتمد بن عباد:

وليل بسد النهر آنسا قطعته

بذات سوار مثل منعطف النهر

نَضَتْ بُردها عن غصن بان منعم

فيا حُسن ما انشقَّ الكمام عن الزهر

أيقال أن هذا لعب بالتشبيهات، كما يتوهم احمد أمين؟

وما رأيه في قول عمرو بن فرج وهو يتحدث عن شرف العفاف:

وطائعة الوصال عففت عنها

وما الشيطان فيها بالمطاع

بدت في الليل سافرة فباتت

دياجي الليل سافرة القناع

وما من لحظة إلا وفيها

إلى فتن القلوب لها دواعي

فملكت النهى حجاب شوقي

لأجري في العفاف على طباعي

وبت بها مبيت السَّقب يظما

فيمنعه العكام من الرضاع

كذاك الروض ما فيه لمثلى

سوى نظر وشم من متاع

ولست من السوائم مهملات

فاتخذ الرياض من المراعي

ص: 14

أينكر إن هذا الشاعر أحس الطبية أدق إحساس؟

وهل يستطيع إن يؤدي هذه الصورة بأفضل من هذا الأداء؟

وما رأيه في قول محمد بن سفر:

وواعدتُها والشمس تجنح للنوى

بزَوْرتها شمساً وبدر الدجى يسرى

فجاءت كما يمشي سنا الصبح في الدجى

وطوراً كما مرّ النسيم على النهر

فعطّرت أن حولِي فأشعرتْ

بمقدمَها والعَرف يُشعر بالزهر

فتابعت بالتقبيل آثار سعيها

كما يتقصَّى قارئٌ أحرف السطر

فبتُّ بها والليل قد نام والهوى

تنبَّه بين الغصن والحِقف والبدر

أعانقها طوراً والثم تارةً

إلى أن دعتنا للنوى راية الفجر

ففضّت عقوداً للتعانق بيننا

فيا ليلة القدر اتركي ساعة النفر

إلا يرى كيف كانت الطبيعة بشجارها وأزهارها وأنهارها وأقمارها تداعب خيال الشاعر وهو ينظم هذا القصيد؟

أيدرك قيمة الإحساس بالطبيعة في هذا البيت:

فجاءت كما يمشي سنا الصبح في الدجى

وطوراً كما مرّ النسيم على النهر

قد يقول أن هذا لعب بالتشبيهات!

أن قال ذلك فسيأتي يوم قريب نبين فيه قيمة التشبيهات وما فيها من الدلالة على الأنس بمعاني الوجود

وما رأيه في قول أحد الأندلسيين:

أديراها على الروض المندّى

وحُكم الصبح في الظلماء ماضي

وكأس الراح تنظر عن حَبابٍ

ينوب لنا عن الحَدق المراضِ

وما غَربَتْ نجوم الأفق لكن

نُقِلْن من السماء إلى الرياض

أيحسب هذه الأبيات من الكلام المزخرف الذي لا يدل على شيء!

اتقى الله في نفسك يا صديقي احمد أمين، فأنت لا تجني على الأدب، وإنما تجني على نفسك حين تنسب إليها الغفلة عن أقدار هذه المعاني:

وما بأفضل في قول الرصافي الأندلسي في وصف حائك جميل:

ص: 15

قالوا وقد أكثروا في حبه عَذَلي:

لو لم تهم بمُذال القدر مبتذلِ!

فقلت: لو كان أمري في الصبابة لي

لاخترتُ ذاك ولكن ليس ذلك لي

علقتُهُ حَبَيَّ الثغر عاطرهُ

حلو اللمى ساحر الأجفان والمقل

غُزِّيلٌ لم تزل في الغزل جائلةً

بنانُهُ جوَلان الفِكر في الغزَل

جذلان تلعب بالمحواك أنملهُ

على السَّدى لعب الأيام بالأجل

ضًّما بكفيه أو فحصاً بأخُمصهِ

تخبُّط الظبي في أشراك محتَبِل

ألا تدل هذه القطعة على أن الشاعر قوي الإحساس بالوجود؟ وهل فكر أحمد أمين أن الأندلسيين لهم أمثال هذه المعاني؟

وهل عرف أن منهم من قال في وصف راقص مليح:

ومُنزّع الحركات يلعب بالنُّهى

لبس المحاسن عند خلع لباسهِ

متأوِّداً كالغصن وسْط رياضه

متلاعباً كالظبي عند كناسه

بالعقل يلعب مدبراً أو مقبلاً

كالدهر يلعب كيف شاء بناسه

ويضم للقدمين منه رأسه

كالسيف ضمّ ذبابه لرياسهِ

ألا تعد هذه القطعة من غرائب الشعر البديع الذي يمثل الإحساس بالوجود؟

وهل عرف أن في الأندلسيين من قال:

عاطيته والليل يسحب ذيلهُ

صهباء كالمسك الفتيق لناشقٍ

وضممته ضمّ الكمىّ لسيفه

وذؤابتاه حمائلٌ في عاتقي

حتى إذا مالت به سِنة الكرى

زحزحتُه شيئاً وكان معانقي

باعدتُهُ عن أضلع تشتاقهُ

كيلا ينام على وسادٍ خافق

فهذا شاعر حي العواطف، مشبوب لأحاسيس، يدرك جمال الوجود في أوقات الصفاء، ويواجه الطبيعة بنظر ثاقب، وقلب خفاق.

وما رأي صاحبنا في قصيدة ابن هاني:

فمن في مأتمٍ على العشاقِ

ولبسن السواد في الأحداق

وهي قصيدة يحفظها أكثر الأدباء، وفيها من وصف الطبيعة ألوان.

وما قوله في أرجوزته القافية التي وصف فيها الساقي فقال:

ص: 16

يحّثها بِدَله المرموقِ

أرقَّ من أديمه الرقيق

وبات سلطاناً على الرحيقِ

يسلِّط الماَء على الحريق

ويغرس اللؤلؤ في العقيق

كأنَّ دُرَّ ثغره الأنيق

أُلّف من حَبابها الفريق

أو زَلّ عن فيه إلى الإبريق

وهل سمع الأستاذ أحمد أمين بأخبار ابن شهيد صاحب (الزوابع والتوابع) ولأدبه صلة شديدة بتذوق الوجود؟

هل قرأ أشعار ابن زيدون ورسائل ابن زيدون ليرى كيف فتن هذا الشاعر الكاتب بفهم الدنيا والناس؟

وهل نظر في نكبات ابن عمار الذي تذكر نفثاته بنفثات أبي فراس؟

وهل خطر في باله أن ينظر كيف برع الأندلسيون في الموشحات، وكانت أقباساً من الأضواء، وأنفاساً من الأزهار؟

هل عرف أن الأندلسيين بكوا بلادهم بكاء شهد بأنها قطع من قلوبهم الخوافق؟

هل مر بخاطره أن الأدب الأندلسي ترك في الأدب اللاتيني أخيلة وتعابير بقيت على الزمان؟

هل وصل إلى علمه أن عهد العرب في الأندلس هو أشرف ما عرضت أسبانيا من العهود؟

هل اتفق له أن يعرف أن تاريخ العرب في الأندلس كان مادة غنية سعدت بها حيوات كثير من الباحثين الذين تشرفت بهم الجامعات الألمانية والفرنسية والإنجليزية؟

هل طرق سمعه الخبر الذي يقول إن علماء الأندلس هم الذين عرفوا أهل أوربا بمعارف اليونان؟

فبأي حق يجوز التطاول على أهل الأندلس من رجل مثل أحمد أمين وهو يشهد على نفسه بأنه لا يكتب عن الأندلس إلا بعد أن يأذن له المستشرقون؟

آه، ثم آه!!

ما جزعت على وفاة الأستاذ مصطفى صادق الرافعي كما جزعت عليها اليوم!

فلو كان الرافعي حياً ورأى أحمد أمين يقول في ماضي الأدب العربي ما يقول لأصلاه نار العذاب وصيره أضحوكة بين أهل الشرق والغرب.

ص: 17

ولو كان احمد زكي باشا حياً ورأى هذا العبث في السخرية من أهل الأندلس لقدم أحمد أمين إلى مهاوي سقر (وأحمد زكي باشا أول من أذاع محاسن الأندلس في العصر الحديث، قبل الشيخ محمد المهدي والأمير شكيب أرسلان).

ومن يدري، فلعل أحمد أمين يلقى من الجزاء ما هو له أهل يوم يتنبه أساتذة الأدب إلى واجبهم في رد عادية العادين على ماضي اللغة العربية!

من يدري، فقد يقوم أحد المستشرقين بالانتصاف للتراث الذي غفل عن قيمته الشرقيون!

من يدري، فقد تستيقظ كلية الآداب فتنشئ كرسياً للأدب الأندلسي يرف شبان العصر الحاضر أن أسلافهم استطاعوا أن يروعوا الأدب اللاتيني في حصنه الأمين!

إن الشواهد التي سلفت قد انتزع أكثرها من الشعر، فكيف كان النثر عند أهل الأندلس وكيف دل على تذوق أصحابه؟

لا أريد أن أعيد ما قلت في كتاب النثر الفني حين تحدثت عن كتاب الأندلس، لأني أبغض الحديث المعاد، وإنما أنبه القراء إلى خصيصة ظاهرة من خصائص النثر الأندلسي: هي الهيام بالتشبيهات رغبة منهم في تجسيم المعاني، والتشبيهات تنتزع في الأغلب من صور الطبيعة والوجود، فهي من الشواهد على إحساس الكاتب بالطبيعة والوجود

ولم تقف هذه الخصيصة عند الرسائل القصيرة أو كتب العهود، وإنما شملت كتب التراجم وكتب التاريخ، وغلبت على الأبحاث الصوفية.

ومعاذ الأدب أن نفهم الطبيعة كما يفهمها أحمد أمين فنظنها مقصورة على الشجرة والزهرة، هيهات، إنما الطبيعة كتاب الوجود بما فيه من حجر ومدر، وشجر ونبات، وماء وجماد.

والطبيعة الشاملة تظهر بعظموتها وجبروتها ممثلة ناطقة في اكثر ما كتب الأندلسيون، ولو شئت لقلت إنهم بالغوا في ذلك حتى قاربوا الإسفاف، فهل كانوا يعلمون من وراء الغيب أن سيجيء في آخر الزمان من يتهمهم بالغفلة عن تذوق الطبيعة والوجود؟

أمن أجل تلك التهمة المحجوبة في ضمير الغيب كان الفتح بن خاقان يفتعل ويعتسف في الأوصاف والتشبيهات ليقيم الدليل على أن الطبيعة كانت تطالع الأندلسيين من كل جانب؟

أكان ابن زيدون وابن برد وابن شهيد وابن حزم يتوقعون أن سيتجنى عليهم ناس فيتهمونهم بالتبلد وضعف الإحساس فكان من احتفالهم بوصف الطبيعة ما كان؟

ص: 18

وهنا أستأنس بكلمة قرأتها للأستاذ العقاد منذ سنين وهو يفاضل بين البحتري وشوقي، فقد نص على أن شوقي وصف الطبيعة بعد أن صار وصفها من المذاهب الأدبية، أما البحتري فوصفها بوحي من الفطرة. وكذلك أقول في الحكم لأهل الأندلس: فهم لم يتعمدوا وصف الطبيعة ليقال انهم تذوقوها وأحسوها! وإنما وصفوها بوحي من الفطرة فكانت أوصافهم أبلغ في الدلالة على سلامة الذوق، وقوة الطبع، وأصالة البيان.

ويتحذلق أحمد أمين فيقول: أين الشاعر الذي رأى نفسه جزءاً من الطبيعة على حد قول الحلاج:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا

نحن روحان حللنا بدنا

فإذا أبصرته أبصرتني

وإذا أبصرتني أبصرتنا

ونقول إن الحلاج بحمد الله شاعر عربي، وشعره زكاة عن العرب الذين اتهمهم أحمد أمين، وأبيات الحلاج هي اندماج في الطبيعة، ولذلك تفصيل يراه من شاء في كتاب التصوف الإسلامي عند شرح نظرية وحدة الوجود، حتى لا يظن ظان أن أحمد أمين أول من التفت إلى هذه الشؤون.

ولكن ما بال صاحبنا يغفل عن أبيات الشاعر الأندلسي الذي منح الطبيعة خصائص النفس الإنسانية حين قال:

وقانا لفحةَ الرمضاء وادٍ

سقاه مضاعَفُ الغيث العميم

نزلنا دوحه فحنا علينا

حَنُوَّ المرضعات على الفطيم

وأرشفَنا على ظمأ زُلالاً

ألذّ من المدامة للنديم

يصدُّ الشمسَ أني واجهتْنا

فيحجبها ويأذن للنسيم

وهل يعرف أحمد أمين أن نظرية وحدة الوجود وهي أعظم تقديس للطبيعة لم يشرحها أحد بمثل ما شرحها الصوفية في الأندلس؟

وهل عرف أن أبن عربي له في ذلك آيات بينات؟

وهل فطن إلى أن أبن زيدون جمع إلى روحه أطراف الوجود حين قال:

يُدنى خيالكِ حين شطَّ به النوى

وهمٌ أكاد به أُقبِّل فاكِ

أما بعد فقد زعم أحمد أمين أن ابن خفاجة الملقب بشاعر الطبيعة لم يجد غير الصياغة، ولم

ص: 19

يستطع أن ينفخ فيها الروح، إلا في النادر القليل.

فهل نترك هذا الزعيم بلا تفنيد رعايةً لهذا (الأديب)؟

وهل هان الأدب العربي على أهله حتى يتركوا زمامه لمن يتخيل فيخال؟

إن من حق ابن خفاجة علينا أن نجلو صفحة من حياته الشعرية والنثرية تبين كيف كان ذلك الرجل فناناً بارعاً تجري أنامله على أوتار الوجود، فهو من مفاخر اللغة العربية، وهو حجتها يوم يتطاول عليها من لا يدركون أسرار البيان.

وقبل الشروع في الكلام عن ابن خفاجة أرجو أصحاب الجرائد والمجلات في غير مصر أن يصححوا رأيهم في أسباب هذه المقالات، فليس من الصحيح أني انتهزت فرصة الأخطاء التي وقع فيها أحمد أمين لأشفي صدري منه أو لأشفي صدر صديقي صاحب الرسالة، فليس بيننا وبين الأستاذ أحمد أمين خصومة شخصية، وإنما هي مصر تروض أبناءها على مخاصمة أصدقائهم في سبيل الحق.

(للحديث شجون)

زكي مبارك

ص: 20

‌حول الوحدة العربية

بين الحصري بك وطه حسين

للأستاذ عز الدين التنوخي

عدت مساء إلى منزلي فاستقبلتني غادة (الرسالة) بثوبها الأحمر القشيب، وهي أبداً بين المجلات قيد ناظري، ومهوى خاطري. ولا غرو في ذلك، فان الدماشقة خاصة، وأبناء العرب عامة، يفضلونها لروحها العربية، وبما تعمله على (توحيد الثقافة العربية)، على سائر المجلات المصرية. وكلما ازداد الإيمان القومي في العرب، ازداد هذا الحب الطبيعي للرسالة، وازداد معه بمقدار ذلك الهجر والإعراض عن غيرها. واكتفى بالمثال الواقعي التالي دلالة على صحة ذلك! فلقد شاهدت غداة أمس فتى عربياً في الترام يحمل مجلات بينها (الرسالة). فقلت له:

- أية مجلة تحبها مما تحمل؟

- مجلة (الرسالة)!

- ولماذا آثرتها بالمحبة؟

- لان روحها المصرية تمتزج بروحنا العربية، ولأنها. - وهنا أشار إلى الغلاف - تجمع على وحدة الثقافة أبناء البلاد العربية!

وحينما رأيت مساء مجلة (الرسالة)، نظرت إلى فهرسها فوجدت فيه موضوعاً يهمني - وأبناء العرب جميعاً - وهو رد الأستاذ ساطع الحصري على الفصل الجوابي الذي نشره الأستاذ طه حسين في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر).

اجل! كنت انتظر بصبر غير جميل من مثل أبي خلدون أن يعيد الكرة على صاحبه الذي أحاله في نقض انتقاداته على الفصل الجوابي. ذلك بأنا - ولا نكتم الدكتور طه حسين - كنا قد اعتبرنا هذه الإحالة يومئذ ضرباً من الفرار من معركة المناظرة، وقرأت اليوم كتاب الأستاذ أبي خلدون (إلى الدكتور طه)، فلا ادري ماذا عسى أن يراجع به هذا الأديب العربي الكبير ناقده بعد أن استشهد عليه بكلامه، وحصين منطقه؟

نعت الآن الدكتور طه حسين - بالأديب العربي - لا بالمصري، فحسب لان أدبه عربي بمصادره، عربي بلغته وألفاظه، عربي بمباحثه المبتكرة، وأساليبه المستعذبة! عربي على

ص: 21

الرغم منه بروحه حينما يرسل نفسه على سجيتها، ويقول ما يقول غير منتصر للفرعونية، وغير مجامل لأنصارها!

أليس طه حسين هو الذي فضل أدبنا العربي القديم على معظم آداب أمم الحضارة القديمة في كتابه (حديث الشعر والنثر)؟ أليس طه حسين من اقدر العاملين على إحياء لغتنا العربية بإحياء آدابها بذلك الأسلوب العربي الرائع ببلاغته على سلاسته وبامتناعه على أطماعه؟ أو ليس هو المنادي بتوحيد الثقافة العربية التي إن ضمنها للأستاذ أبي خلدون، وضمنها لنا أيضاً، ضمنا له كل ما يبقى من ضروب الوحدة؟!

اجمل الدكتور طه حسين أن يكون أديب الأقطار العربية كلها من أن يكون في قطر واحد أديباً! وليته - أصلحه الله - جامل في المكشوف أدباء العرب الذين يتنافسون في اقتناء آثاره، ويتباهون بأنهم من أنصاره. أو ليته - وهو مسلم مصري - خاطب العرب بما خاطبهم به الأستاذ مكرم عبيد - وهو النصراني المصري - وهو لذلك اشد اتصالا منه بالفراعنة ذوي الأوتاد!

وليسمع الدكتور طه حسين ما يقوله الأستاذ مكرم عبيد في عدد الهلال الممتاز (العرب والإسلام):

(سافرت في رحلة صيفية إلى سوريا، وتفضل إخواني السوريون في الشام ولبنان وفلسطين، فشملوني بترحيبهم وتكريمهم، فوقفت يومئذ وتحدثت عن الوحدة العربية وقلت: (المصريون عرب). وأبديت رأيي في هذه النظرية التي يؤيدها التاريخ، فنحن معشر المصريين جئنا من اسيا، ونحن أدنى إلى الرب منذ القدم من حيث اللون واللغة والخصائص السامية والقومية) إلى أن يقول:(نحن عرب! ويجب أن نذكر في هذا العصر دائماً أننا عرب قد وحدت بيننا الآلام والآمال، ووثقت روابطنا الكوارث والأشجان، وصهرتنا المظالم وخطوب الزمان. فأحدثت منا أمما متشابهة متماثلة في كل ناحية من نواحي الحياة).

ثم تكلم عن الوحدة العربية بقوله: (فالوحدة العربية حقيقة قائمة، هي موجودة لكنها في حاجة إلى تنظيم؛ والغرض من التنظيم إيجاد جبهة تناهض الاستعمار، وتحفظ القوميات، وتوفر الرخاء، وتنمي الموارد الاقتصادية، وتشجع الإنتاج المحلي، وتزيد في تبادل المنافع

ص: 22

وتنسيق المعاملات. فكما أن أوربا خلقت شيئاً معنوياً ترتبط به وتلتف حوله أغراض سكانها على اختلاف أممهم، فكذلك نحن سيؤول مصيرنا إلى الالتفاف حول مثل أعلى يوفق بيننا فنصير كتلة واحدة وتصير أوطاننا جامعة وطنية واحدة، أو وطناً كبيراً بتفرع منه عدة أوطان - لكل منها شخصية لكنها في خصائصها القومية العامة متحدة متصلة اتصالاً قوياً بالوطن الأكبر).

وفي هذا البحث الممتع للأستاذ مكرم عبيد بشير آنفاً إلى رحلته الصيفية للديار الشامية وأنه كان يتحدث إلى المرحبين به قائلا: (المصريون عرب).

صدق والله، فقد كنت من جملة المرحبين بأخوته العربية في نزل أمية بدمشق، وسمعت هذه الكلمة الطيبة من فيه، لا فض فوه. ولا أزال اذكر ذلك يوم سألته عن تلك النعرة الفرعونية في مصر فقال لي ما معناه: نحن عرب في مصر ولا نمجد الفراعنة إلا لأنهم عرب!

الأستاذ مكرم عبيد فرعوني صميم، ومن نوابغ مصر في ثقافته وأخلاقه ووطنيته، والأستاذ طه حسين المسلم المصري يحكم والناس معه بالظن على فرعونيته، فلن يكون بذلك اصدق تفرعنا من مكرم عبيد، وإذا ما ادعى ذلك كان اشد فرعونية من فرعون نفسه، أو - اشد كما قيل - ملكية من الملك!

والأستاذ طه حسين الذي كان ينكر الوحدة العربية بأنواعها وشرائطها، ويعد من يقول بهذه الوحدة من أصحاب العقل القديم، قد اصبح ولله الحمد أخيراً قديم العقل كالأستاذ مكرم عبيد لقولهما بالوحدة العربية على شكل إمبراطورية جامعة أو اتحاد مشابه للاتحاد الأمريكي أو السويسري!

وأظن أخانا العربي الزيات قديم العقل أيضاً لقوله بالوحدة العربية، فما اجمل ذلك العقل القديم الذي يصل بين الأرحام المتقاطعة والأرواح المتناكرة والقلوب المتنافرة، ولخير لنا ألف مرة أن يجمع شملنا العقل القديم من أن يمزق ويفرق بيننا العقل الحديث.

(دمشق)

عز الدين التنوخي

ص: 23

عضو المجمع العلمي العربي

ص: 24

‌كتاب في الدين الإسلامي

للأستاذ محمد بهجة البيطار

قرأت في الرسالة الغراء مقال نابغة الشام الأستاذ علي الطنطاوي في الإسلام وفهم الأصحاب والأعراب له من النبي صلى الله عليه وسلم في مجالس معدودة، وصدورهم عنه معلمين ودعاة إلى الله أيام كانت أوعية العلم الصدور لا الكتب؛ ثم وصف ما يلاقيه في عصرنا طلاب العلوم والفنون من عنت في معرفة هذا الدين السمح بعد أن صرنا نملك ألوف الألوف من كتبه، واقترح أن يؤلف كتاب في الإسلام - عقائده وعباداته وأخلاقه - يشرح فيه حديث جبريل عليه السلام الذي سال فيه النبي (ص) عن الإيمان والإسلام والإحسان بأسلوب شائق مؤثر (لا هو بالأسلوب العلمي الجامد، ولا هو بالأسلوب القصصي الخيالي) كما قال. ودعا الكتاب إلى البحث في هذا الموضوع الجليل، واقترح علي حفظه الله أن اكتب في مبحث الأيمان بالله تعالى على الأساس الإسلامي لا المذهب الكلامي (المشحون بالألفاظ المبتدعة كالجوهر والجسم والأعراض والأغراض والأبعاض والحدود والجهات وحلول الحوادث وغيرها) لينشر على صفحات الرسالة الغراء، فلبيت شاكراً للأستاذ الطنطاوي غيرته، ممهداً بوصف كتب العقائد المتداولة بين الأيدي.

كتب العقائد المتداولة

لا يخفى أن الإيمان بالله تعالى هو توحيده على الوجه الذي أثبته لنفسه في كتابه، أو ورد عن المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى في بيانه. وإذا نظرنا إلى كتب التوحيد الدراسية التي تداولتها أيدي الخواص والعوام في معظم الأمصار الإسلامية، وصارت عمدة المدرسين والدارسين في المدارس الحكومية الرسمية وفي المدارس الأهلية والمعاهد الدينية أيضاً نجدها نوعين:

1 -

كتب العقائد التي وضعت على طريقة الخلف، وأولت فيها نصوص الكتاب والسنة تأويلا صرفها عن مداولاتها اللغوية والشرعية، ونفي معانيها الوجودية الثابتة، بتأويلات جاءت على خلاف الوضع والشرع.

2 -

كتب الدفاع عن الإسلام وتوحيده، واثبات أنه دين العقل والفطرة، وحاجة البشر في كل زمان ومكان، وقد انتشرت في زماننا شبه وشكوك في دين الحق لأقوام وأصناف،

ص: 25

كبعثات التبشير أو التنفير، ومروجي الإلحاد والفساد، وكتب التحريف والتخريف؛ وفي ردود دعاة الإسلام وحماة الفضيلة دفع لباطلهم، وكبح لجماحهم، ولكن هذه الكتب التي تضمنت فلسفة التوحيد وحكمة التشريع، هي سلاح علمي نشهره في وجوه أعدائنا، لحراسة عقائدنا، والدعوة إليها، والنضال عنها، لا لتلقي علم التوحيد وعقائده منها، فهي على نفاستها وضرورة دراستها وكونها لا يستغني عنها في مثل هذا الزمن، ليست كتباً موضوعة في علم التوحيد، ولا هي قواعد لعقائده المستمدة من نصوصه المبنية عليها، بل هي فلسفة تحوم حول التوحيد، وإيضاح لمحاسن الدين ومزاياه.

وهنالك نوع ثالث وهو الكتب التوحيدية السلفية التي أثبتت معاني النصوص وحقائقها الشرعية من طريق المنقول والمعقول، وردت كلام المعطلة والمؤولة رداً لم يبق حاجة في النفوس.

وقد كان حوار سلفنا الصالح مفحما للفرق التي ظهرت في عصورهم، وشاعت مقالاتهم في الناس كالقدرية والخوارج، والجبرية والجهمية، والمرجئة والوعيدية. وكتب علم السنة الإمام أحمد بن حنبل، والإمام عثمان بن سعيد الدارمي وغيرهما من أئمة السلف اجل ما صنف في العقائد الصحيحة، وانفعها في النقض على هذه الفرق المنحرفة. وقد جدد عهدهم، وشرح مذهبهم، وبين أنه الأسلم والأعلم والأحكم شيخا الإسلام ابن تيمية، وابن قيم الجوزية في كتبهما، ثم من جاء بعدهما من أئمة الإسلام وأنصار العقيدة السلفية. ولكن كتب هؤلاء الأعلام الواسعة هي علمية تعليمية، لأنها في الغالب كتب حجاج ومناظرة، وتأييد لمداولات النصوص، ورد لشبهات الخصوم. فأنا أؤيد رأي أخي الطنطاوي فيما كتب، واقترح على حماة العقائد الصحيحة التي جاء بها القرآن أن يفتحوا باباً للتوحيد السلفي، وأن ينشروا فصولاً ملخصة مما كتبه الأئمة الثقات فيه، تكون تمهيداً لوضع سلسلة توحيدية تعليمية، مفرغة حلقاتها بأسلوب عصري مدرسي، تشرب القلوب حب السلف الصالح وأثارهم، وتطبع النفوس بطابع عقائدهم وأخلاقهم، وتغذي عقول النشء الإسلامي بلبان التوحيد الخالص المطهر من كل ما يخالطه من أدران البدع والزوائد، فتصح العقائد، وتزكو الأخلاق، وتتوحد المبادئ والغايات، فنضع هذا الاقتراح أمام أولي الكفاية والعزم من إخواننا السلفيين، لعله يجد مكاناً للاستحسان والتنفيذ إن شاء الله تعالى.

ص: 26

تعريف التوحيد

التوحيد في اللغة التفريد. تقول: وحدت الشيء وأحدته إذا فصلته عما سواه وأفردته. وفي الشرع: اعتقاد أن الله واحد احد، فرد صمد، لا ند له ولا ضد. والتوحيد أساس العلوم الدينية، وهو الذي نزلت به الكتب، وأرسلت به الرسل، وتوارثه المجددون في كل عصر، وقاموا عليه خير قيام. وهو الذي يجب أن يكون رأس الدعوة، ويجاهد في سبيله كل من عاداه، حتى يكون الدين كله لله، وتترك العبادة لما سواه من حجر وشجر وبشر، وشمس وقمر، وملك وجن، وسائر ما عبد من دون الله في الملأ الأعلى أو الملأ الأدنى، وهذا هو مناط النجاة في الآخرة، وليست الدنيا إلا دار سباق لها.

أنواع التوحيد

التوحيد ثلاثة أنواع (1) توحيد الربوبية (2) توحيد الألوهية (3) توحيد الأسماء والصفات (فالأول): الإقرار بان الله هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر لجميع الأمور. (والثاني) هو إفراده تعالى بجميع أنواع العبادة، والتوجه إليه وحده بالدعاء والطلب. (والثالث) هو أن يوصف الله سبحانه بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله من الأسماء الحسنى، والصفات العليا. فمن الأسماء: الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، ومن الصفات: الرحمن على العرش استوى، بل يداه مبسوطتان، وكلم الله موسى تكليماً.

وقد دل القرآن وشهد التاريخ أن العرب قبل الإسلام كانوا مؤمنين بوجود الله، مقرين له بالوحدانية في الخلق والرزق، والتدبير والتأثير، والإحياء والإماتة، وتصريف جميع الأمور، وان ليس لآلهتهم شيء من ذلك. والنصوص في ذلك كثيرة وصريحة، قال تعالى:(ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولون الله) وقال: (قل من يرزقكم من السماء والأرض، أمن يملك السمع والأبصار، ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ومن يدبر الامر؟ فسيقولون الله، فقل أفلا تتقون؟) وقال: (قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه أن كنتم تعلمون؟ سيقولون الله: قل فأني تسحرون) وهذا هو المسمى بتوحيد الربوبية الذي كان عليه أهل الجاهلية، وهو توحيد الرب بأفعاله.

ص: 27

إنما كان شرك المشركين الأولين بتوحيد الألوهية أو توحيد العبادة، ومن مظاهره الدعاء والخوف والرجاء، والذبح والنذر، وغير ذلك من أنواع العبادة التي كان يصرفها المشركون لمعبوداتهم من الصالحين وغيرهم لتقربهم إلى الله زلفى، وكانوا يقولون في حجهم:(لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك) فهذا الشريك هو الذي كان يشرك مع الله في العبادة فحسب، لا في الإيجاد ولا في الإمداد كما قال تعالى:(ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله).

كلمة التوحيد

أساس الدين وركنه الأعظم هو كلمة التوحيد: (لا إله إلا الله) فهي أصل الأصول، ودين الرسل من أولهم إلى آخرهم عليهم الصلاة والسلام (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون). فكلمة التوحيد هذه لابد من فهم معناها والعمل بمقتضاها، وهو ما بعث به النبي (ص) ودعا إليه: أله إلاهة وألوهة وألوهية: عبد عبادة، ومنه لفظ الجلالة وكل ما اتخذ معبوداً إله عند متخذه كما في القاموس، فمعنى إله في لغة العرب وفي الشرع هو المعبود بحق أو بغير حق. ولفظ الجلالة على المعبود بحق وهو الله عز وجل فكلمة (لا إله) نفي لكل معبود في الوجود وإبطال لعبادته، وكلمة (إلا الله) إثبات لعبادة المعبود بحق وحده، ذلك بان الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل، وأن الله هو العلي الكبير) فكلمة التوحيد مسقطة لجميع آلهتهم، هادمة لأنواع عبادتهم، مثبتة العبادة كلها لله وحده الذي وحدوه بربويته ولم يوحده بإلهيته، فأقام عليهم الحجة بما أقروه على ما أنكروه، وبين أن من تفرد بالإيجاد والإمداد يجب أن يفرد بالعبادة، وهذه الحجة القاهرة من حجج الله على العالمين إلى يوم الدين

لما كان العرب في جاهليتهم يفهمون من كلمة (لا إله إلا الله) هذا المعنى الذي بيناه لغة وشرعاً كانوا يستكبرون عن النطق بها لأنهم علموا أن الإذعان لها كفر بالآلهة وإبطال لعبادتهم، كما قال تعالى:(إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون؛ ويقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون) وقال: (وإذا ذكر الله وحد اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة، وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) وقال: (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض؟ أم لهم شرك في السموات؟ ائتوني بكتاب من قبل هذا،

ص: 28

أو أثارة من علم إن كنتم صادقين) وقال: (ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا، فالحكم لله العلي الكبير)

أما دعاة غير الله فقد سهل عليهم الأمر لأنهم فهموا من كلمة التوحيد ما يخالف الوضع والشرع وفسروها بمعنى توحيد الله بأفعاله، وبالقدرة على الإبداع الاختراع، واخرجوا كل ما ذكرناه عن معناه اللغوي والشرعي، كالدعاء والخوف والرجاء، والحب والتعظيم، والاستعانة والاستغاثة والاستعاذة، والتوكل والذبح والنذر، والخضوع والخشوع والالتجاء، وغير ذلك من أنواع العبادة، وأجازوا فعله كله لغير الله، بعد أن نحلوه لقب التوسل والاستشفاع.

التوسل الجاهلي

ليس الكلام في التوسل الخلافي المشهور بين العلماء المحصور في دعاء الله وحده مع التوسل إليه بصالحي عباده، وإنما الكلام في توسل آخر لا يعرفه إلا الغلاة والجهال، وهو دعاء أهل القبور أنفسهم، والاستنجاد بهم، وطلب الغوث منهم لإنقاذ الغرقى وشفاء المرضى، ورد الغائبين وإغاثة الملهوفين، وإعانة المستعينين؛ وهذا لا يسمى توسلاً بهم لا دينا ولا عقلاً ولا لغة، بل هو دعاء لهم وطلب منهم وهو خارج عن موضوع التوسل وليس منه في شيء.

فان قلت إن الداعي لغير الله لم يرد بدعائه إلا الله، متوسلاً إليه بمن يدعوه، وإن قلبه منطو على عقيدة صحيحة لو كشف الغطاء لشهدت صحتها، وهلا شققت عن قلبه؟ (فالجواب) أن ما في القلب لا يعلمه إلا علام الغيوب، وأن الكلام منحصر في دائرة الأقوال والأفعال التي تناقض صحة العقيدة القلبية كل المناقضة، والشارع ناط الأحكام بالظاهر، والله يتولى السرائر. ولا يرد حديث:(هلا شققت عن قلبه) إلا على من يدعي معرفة الباطن، وأنه موافق أو مخالف للظاهر، وإنما البحث فيما يبدو للحس من قول أو عمل مصادم للشرع. وقد أنكر النبي (ص) على أسامة قتل من أتى بكلمة التوحيد ولم ينقضها بقول ولا عمل، فادعى أسامة (رضى الله عنه) أنه لم يأت بها عن عقيدة قلبية، فأنكر ذلك عليه صلوات الله عليه وقال: هلا شققت عن قلبه؟ وأين هذا من ذاك!

وصف القرآن أهل الجاهلية وفرعون الذي ادعى الربوبية والألوهية بأنهم كانوا إذا وقعوا

ص: 29

في شدة كخوف الغرق في البحر مثلاً دعوا الله مخلصين له الدين، كما قال فيهم:(فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين، فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) وقال في فرعون: (حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أن لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، وأنا من المسلمين) أفيكون أولئك القوم وفرعون أولى بدعاء الله وحده في الشدائد ممن يتبجحون بالإسلام والتوحيد؟ وبدهي من عقيدة المسلمين أن جميع المخلوقات لا يملكون لأنفسهم - ولا لغيرهم بالأولى - في الرخاء ولا في الشدة ضرا ولا نفعا، ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشورا) فكيف تتفق هذه العقيدة المستندة إلى النصوص القطعية المجمع عليها مع دعاء غير الله تعالى في الرخاء وفي الشدة أيضاً؟

وإذا أضيف إلى ما سبق دعوى التصرف في الكون التي يدعيها العوام وأشباه العوام لبعض الصالحين، أو تقسيم الدنيا إلى أربع مناطق، وتخصيص كل قسم منها بواحد منهم، ودعوى وجود الله تعالى بذاته - تقدست وعلت - في كل مكان، أو دعوى انه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه، وما يضاف إليها من سلبه تعالى صفات كماله، ونعوت جلاله؛ فقد وقع الأشكال العظيم في التوحيد بأقسامه الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. ونعوذ بالله من سوء الفهم والخذلان. الحق يقال: إن هذه العقائد قد عظم ضررها، وقبح أثرها، وكان من نتائجها خروج جماهير المتعلمين على الطريقة الفنية عن دائرة دينهم، وافتتانهم بما عند غيرهم. فما هو العلاج الشافي من هذه الأدواء الفتاكة يا ترى؟ وكيف يعود الناس إلى عقيدة الإيمان بالله - على الوجه الصحيح الذي جاء به الإسلام وجرى عليه أهل الصدر الأول علماً وعملاً واعتقاداً؟

خاتمة

إني والذي جعل العلماء ورثة الأنبياء - لأعجب كل العجب ممن يقفون على تاريخ الإسلام وسيرة النبي عليه الصلاة والسلام وممن يعلمونها في المدارس، ثم يغفلون عن قضية من أهم قضايا التاريخ وأشدها ارتباطاً بعلم التوحيد وتأثيراً في تهذيب النشء الإسلامي بل الإنساني الحديث، وإنشائه صحيح العقل، سليم الفطرة، بعيداً عن كل لوثة وثنية أو جاهلية.

إن كل من أحاط بالسيرة النبوية وسيرة الصدر الأول للإسلام خبرا أنكر أشد الإنكار ما احدث الناس من البدع والجهالات والسخف والخرافات. وإني مورد طرفاً يسيراً من سيرة

ص: 30

الصحب الكرام ولا سيما الخلفاء الراشدين الذين من تمسك بسنتهن نجا، ومن شذ عنها شذ في النار، لتكون لنا مناراً كمنار الطريق

بقى النبي - بأبي هو وأمي (ص) - قبل الدفن ثلاثة أيام والنزاع قائم بين الصحب الكرام على أمر الخلافة حتى بايعوا أبا بكر (رض) ولم يسألوا النبي (ص) عمن هو الأحق بها من بعده. وكانت وقعة الجمل بين أم المؤمنين وابن عمه أبي السبطين الشهيدين، وسفكت دماء عزيزة عليه (ص) ولم يستفتوه قبل القتال ولا بعده وهو دفين في بيت عائشة بين سمعهم وبصرهم. وجرت وقائع صفين بين علي ومعاوية، وكانت أعظم هولاً وأشد فتكاً، ولم ينقل أن أحداً منهم استنجد بالنبي أو استغاث به، أو سأله عن حكم هذه الحرب أو التي قبلها، كما انهم لم يسألوا شهداء أحد عليهم الرضوان شيئاً من ذلك وهم سادة الشهداء. وجمع القرآن في عهد الصديق، ووقع الخلاف أولاً في جمعه، ولم يستفتوه في ذلك، وكانوا يسألون النبي (ص) عن كل ما يعرض لهم من الأمور فصار يسأل بعضهم بعضاً، ولم يجيئوا فيسألوه في قبره (ص) وقال عمر: الهم كنا إذا أجدبنا نستسقي بنبيك محمد (ص) فتسقينا؛ والآن نستسقي بعمه العباس، فطلبوا الدعاء من عمه ولم يطلبوه منه كما كانوا يفعلون في حياته بينهم. وقال عمر: ثلاث مسائل وددت لو أني سألت رسول الله (ص) عنها، ولم يسأله عنها بعد وفاته. وكانوا يضربون أكباد الإبل من الشام إلى المدينة ليسألوا عائشة عن حديث سمعته من النبي (ص) فكانت تجيبهم ولم يسألوه وهو في بيتها. ومضت القرون الثلاثة المفضلة وكل طبقة كانت تسأل من فوقها وتسفتيهم، ولم يسألوا سيد الأنبياء ولا سادة الشهداء الأحياء عند ربهم (شهداء أحد) عن شيء.

هذه هي أعمال الصحابة (رض) حينما هاجمتهم الخطوب، واستعرت بينهم نيران الحروب، ووقعت لهم مناظرات كالمناظرة التي جرت بين الشيخين في قتال ما نعى الزكاة، وكالخلاف الذي وقع في إرسال جيش أسامة بن زيد الذي عقد لواءه النبي (ص) ليسير إلى بعض جهات الشام، ولم يسألوا النبي (ص) عن شيء من ذلك أحوج ما كانوا إلى سؤاله، وأحرص ما كانوا على العمل بمقاله، وكان (ص) هو الذي يقسم بينهم الأعطيات والمغانم، ويكون فيهم في الغزوات ويرسل منهم السرايا، ولم يقع شيء من ذلك له بعد وفاته.

وجملة القول: أن النبي (ص) كان مرجعهم في الدين والدنيا في حياته، صاروا يرجعون

ص: 31

إلى ما عرفوا من سنته بعد وفاته، وكل هذا معلوم من الدين والتاريخ بالضرورة، ومن العقل والحس والوجدان بالبداهة؛ ولكن مدرسي تاريخ المسلمين في الأمصار الإسلامية قد قصروا فيما يجب عليهم من البيان، وفي عدم الجمع بين حوادث التاريخ ومسائل الدين؛ والكتب الكلامية المذهبية المتداولة لم تبن العقائد فيها على قواعد الأدلة، ووصف ما كان عليه في القرون المفضلة أهل هذه الملة

وأنا قد أوردت في مقالي هذا شذرات من أعمال الصحب الكرام مقتبسة من هدى النبي الأمين ووحيه، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها كما قال مالك إمام دار الهجرة (رض)

قال رجال الدين والتاريخ والعلم الصحيح أوجه مقالي هذا راجياً أن يقرنوا العقائد الدينية بالشواهد التاريخية، رحمة بهذه الأمة، وليكون علم العقائد لدى الطلاب كسائر العلوم التي يطبق فيها العلم على العمل، لكي لا تضيع الثمرة المطلوبة من دروس العقائد والتاريخ التي يقضي الطالب في دراستها زمناً غير قليل، والله هو الموفق والمعين.

(دمشق)

محمد بهجة البيطار

ص: 32

‌خليل مردم بك

وكتابه في الشاعر الفرزدق

لأستاذ جليل

فخر الفرزدق

فخرنا فصدِّقنا على الناس كلهم

وشر مساعي الناس والفخر باطله

(وشعر الفرزدق في هذا الباب من حر الشعر وخالصه، ومن أحسن ما قال؛ يفحل ويجزل، ويقوى ويشتد، ويطول نفسه ويتسع مداه، ويحسن التصرف ويجيد التأويل والاعتذار:

ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم

إذا أثقل الأعناق حمل المغارم)

وللبيت حكاية رواها الأستاذ في الصفحة (20) من (الكتاب) ومما أورده له في هذا الباب:

إذا مت فابكيني بما أنا أهله

فكل جميل قلتِ فيّ يُصدَّق

وكم قائل مات الفرزدق والندى

وقائلة مات الندى والفرزدق

أولئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا (يا جرير) المجامع

وكنا إذا الجبار صعر خده

ضربناه حتى تستقيم الأخادع

ورواية (المجامع) هي التي في الديوان وفي كتب اللغة والأدب، وذكر الزمخشري (الجوامع) في البيت، قال في الأساس:(وجمعتهم جامعة أي أمر من الأمور التي يجتمع لها، قال الفرزدق: أولئك آبائي. . .)

وأورد الأستاذ قول الفرزدق:

ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا

وإن نحن أومأنا إلى الناس وقَّفوا

وروي عن أبي الفرج قصة تخبر بانتحاله البيت، وهو في شعر جميل، والظن أن شيطان الفرزدق الذي أوحى إليه (الفائية) أعطاه إياه. وفي هذه (العبقرية) يقول ابن غالب:

وما حل من جهل حُبا حلمائنا

ولا قائل بالعرف فينا يعنف

وما قام منا قائم في نديِّنا

فينطق إلا بالتي هي أعرف

وإني لمن قوم بهم تتقى العدى

ورأب الثأَى والجانب المتخوف

لنا العزة الغلباء والعدد الذي

عليه إذا عد الحصى يتخلف

ص: 33

ولا عزَّ إلا عزنا قاهر له

ويسألنا النصف الذليلُ فيُنصف

ومنا الذي لا ينطق الناس عنده

ولكن هو المستأذن المتَنًصَّف

تراهم قعودا حوله وعيونهم

مكسرة أبصارها ما تَصرَّف

وبنيان بيت الله نحن ولاته

وبيت بأعلى إبلياء مشرف

لنا حيث آفاق البرية تلتقي

عميد الحصى والقسوريّ المخندف

ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا

وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا

وهذا البيت يبدو في أبيات الفرزدق أخاً حتماً لها وهو في أبيات جميل كأنه ابن عم كلالة. وروايته في شعر صاحب بثينة هي:

نسير أمام الناس والناس خلفنا

فإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا

وإنه توارد الخواطر غير المستنكر، وإن كان قول الأخطل (نحن معاشر الشعراء أسرق من الصاغة. . .) لا ينكر

ومما يروى أفكوهة من الأفاكيه، وأضحوكة من الأضاحيك قول أبي هلال العسكري في كتابه (ديوان المعاني) وهو هذا:(وعند الناس قصيدة جميل أحسن وأسلس من قصيدة الفرزدق)

وأنا استعجب من أبي زيد محمد القرشي كيف لم يثبت فائية جميل مكان فائية الفرزدق في أول (الملحمات) في كتابه (جمهرة أشعار العرب)

الحق أن الأدباء قد يلفتون كلامهم وقد يهرئون بل قد يكفرون في الأحايين، وما قول العسكري هذا إلا من الكفر، والمختار من فائية جميل بثينة هو في الجزء الثامن من الأغاني، فليراجعه من شاء من الفضلاء ليرى كيف يجوز الحكم!

إن قصيدة جميل أحسن من قصيدة الفرزدق وأعظم منها وأفخم عند النسناس لا عند الناس. . .

ومن تخليط العسكري ما قاله في (كتاب الصناعتين) وقوله هو: (كان البحتري يفضل الفرزدق على جرير، ويزعم انه يتصرف من المعاني فيما لا يتصرف فيه جرير ويورد منه في شعره في كل قصيدة خلاف ما يورده في الأخرى، وجرير يكرر في هجاء الفرزدق الزبير وجعثن والنوار وانه قين لا يذكر شيئاً غير هذا. وسئل بعضهم عن أبي نواس

ص: 34

ومسلم فذكر (أن أبا نواس أشعر لتصرفه في أشياء من وجوه الشعر وكثرة مذاهبه فيه، ومسلم جار على وتيرة واحدة لا يتغير عنها) وأبلغ من هذه المنزلة أن يكون في قوة صائغ الكلام أن يأتي مرة بالجزل، وأخرى بالسهل، فيلين إذا شاء، ويشتد إذا أراد. ومن هذا الوجه فضلوا جريرا على الفرزدق، قال جرير:

طرقتك صائدة القلوب وليس ذا

وقت الزيارة فارجعي بسلام

تجري السواك على أغر كأنه

بَرَد تجدر من متون غمام

فانظر إلى رقة هذا الكلام، وقال أيضاً:

وأبن اللبون إذا ما لُزَّ في قرَن

لم يستطع صولة البزل القناعيس

فانظر إلى صلابة هذا الكلام!

وفحوى هذا الكلام أن ليس للتصرف في القول والتفنن فيه والإبداع قدر، وأن الشان كله في أن يلين القائل ويشتد أي أن ينسلخ العبقري من طبيعته التي فطره الله عليها ويتكلف الشدة أو اللين.

وقد روي ابن رشيق في (العمدة) قول البحتري الذي تهاون العسكري بجلالة خطره ثم قال: (فإذا كان هذا فقد حكم له (أي للفرزدق) بالتصرف، وبهذا أقول أنا وإياه اعتقد فيهما (أي في الفرزدق وجرير) وإذا لم يكن شعر الشاعر نمطاً واحداً لم يمله السامع.

وقول أبي هلال في لين القائل واشتداده أو في تليين الكلام وتصليبه ذكرنا بخطب في كتاب لا اسميه الآن كان صائغها يكد روحه وهو يصوغ كداً، ويزفر زفيراً، ويزحر زحير المرأة عند الولادة، ويدور ويجول ويقوم ويقعد. . . لكي تحاكي تلك الخطب المصوغة أقاويل الأولين السابقين فتجوز نسبتها إلى من عزبت إليه، وهيهات هيهات أن تجوز؛ إن تكلفها، إن تعملها، إن تصلبها، إن زخرفتها، إن فقدان الطبيعة فيها - فان كل ذلك ليصيح: قد صاغها صواغ. . .

هجا الفرزدق:

أني كذاك إذا هجوت قبيلة

جدَّعتهم بعوارم الأمثال

وكنت إذا عاديت قوماً حملتهم

على الجمر حتى يحسم الداء حاسمه

(والفرزدق في هجائه واسع الفطن فسيح المدى كثير الفنون لا يقف عند حد في مناضلة

ص: 35

خصمه، يذكر المخازي ويصرح بالمثالب، ويفحش ويتهكم ويختلق ويذكر العورات، ويخصب خياله فيحكم التشبيه ويجيد الاستعارة ويعرض على الأنظار صوراً شتى تمثل خساسة المهجو في نفسه وأهله وعشيرته من غير أن يزعه دين أو يردعه حياء.

وبراعة الفرزدق في هذا الباب وإحسانه - إن صح أن يسمى إحساناً - ومقدرته مجموعة في النقائض).

وقد اقتضى البحث أن يروي (الكتاب) شيئاً من هجاء الخبيث فأورد طائفة، منها هذه المقطوعة:

ولو تُرمي بلؤم بني كليب

نجوم الليل ما وضحت لسار

ولو يُرمى بلؤمهم نهار

لدّنس لؤمهم وضح النهار

وما يغدو عزير بني كليب

ليطلب حاجة إلا بجارِ

ومن هجائه المشهور قوله في خالد بن عبد الله القسري حين ولي العراق، أورده (الكتاب) في سيرة الشاعر:

ألا قطع الرحمن ظهر مطية

أتتنا تخطى من دمشق بخالد

وكيف يؤم المسلمين وأمه

تدين بان الله ليس بواحد

أبلغ أمير المؤمنين رسالة

فعجلْ هداك الله نزعك خالدا

بني بيعة فيها الصليب لأمه

وهدَّم من بعض الصلاة المساجدا

قال الكامل: (كانت (أم خالد) نصرانية رومية. ويروي عنه فيما روي من عتوه أنه استعفى عن بيعة بناها لأمه، فقال لملأ من المسلمين: قبح الله دينهم إن كان شراً من دينكم. . .! وكان سبب هدم خالد منار المساجد حتى حطها عن دور الناس أنه بلغة شعر لرجل من الموالي موالي الأنصار، وهو:

ليتني في المؤذنين حياتي

إنهم يبصرون من في السطوح

فيشيرون أو تشير إليهم

بالهوى كل ذات دل مليح

وفي رسالة هشام إلى خالد يوبخه: (فيها زوال نعمة عنك وحلول نقمة بك فيما ضيعت وارتكبت بالعراق من استعانتك بالمجوس والنصارى وتوليتهم رقاب المسلمين وجبوة خراجهم وتسلطهم عليهم؛ نزع بك إلى ذلك عرق سوء من التي قامت عنك). ويروى أن

ص: 36

خالدا بني البيعة في ظهر قبلة المسجد الجامع بالكوفة، وكان يضرب لها الناقوس إذا أذن المؤذن. . .

(يتبع - الإسكندرية)

* * *

اورت (اَلخَطَفَى) - في القسم الثاني - مشدد الياء، وهو مثل الجمزي كما ضبط ابن خلكان وكتب اللغة. وهناك (اجتزأ به) وهو: اجتزاء به. و (مجاله في الشعر) وهو ومحله. و (لطبع جريرا شبه) وهو: بطبع جرير و (فان اصبر قول الطهوى) وهو: فان أحبر

ص: 37

‌قد كان لي قلب!.

. .

للأستاذ كامل محمود حبيب

هفت الشمس إلى المغيب، وخبا هجير الحر أو كاد، وأنا جالس في مقهى من مقاهي طنطا إلى نرجيلة أبسم لها وتبسم في هدوء، وبين يدي كتاب أنبذه بين الحين والحين، لأسرح النظر في هذا الناس، وهم يتدفقون زمراً إلى حيث يتنسمون روح الجنة بعد إذ هبت عليهم زفرات الجحيم تحبسهم في الدور ساعات طوالاً.

ما لهذا الفتى هنا في غير داره يمشي وحيداً، يثاقل في مشيته، مطرق الرأس، مقطب الجبين، ساهم النظر؟ أنه يتراءى لي كان وقدة الشباب التي كانت تتسعر في قلبه قد انطفأت وهو ما يزال عند الثلاثين، وكأن نزوات قلبه قد عبثت بها يد الأيام فاستحالت إلى ما أرى: إلى هم وكمد، أو هو يرزح تحت عبء ثقيل ينوء به.

عرفته وعرفني منذ سنوات وسنوات، وقضينا معاً عمراً من العمر كان لذيذاً حلواً، وكان هو - كدأبه أبداً - روح الجماعة الطروب، والضحكة الخالصة الرنانة، والنكتة الحاضرة الجميلة و. . . فما بالي أراه اليوم فيما أرى؟ لعل حدثاً من حوادث الأيام قد انحط عليه فسلبه رواء الشباب وبهاء الحياة.

وتعلق بصري به وهو يسير إلى غايته لا يرفع رأسه ولا يلتفت يمنة ولا يسرة، كأن شيئاً في هذا الخضم المضطرب حوله لا يعنيه؛ وأنا على خطوات منه لا أستطيع أن أناديه، وفي الصوت بحة، والنفس إلى لقياه مشوقة بعد سنوات من فراق أرغمتنا عليه دواعي العيش.

يا عجبا! لقد مستني روحه الحزينة، فوجدت لذع الأسى في قرارة نفسي!

وناديت الندل عله يرد صاحبي إلي.

ورآني الفتى فتبسطت أسارير وجهه هوناً ما. وأقبل فسلم وسلمت، ثم جلسنا في صمت أنا إلى نرجيلتي، وهو إلى خواطر نفسه. . .

وألح علي الأسى والعطف في وقت معاً. فاستلباني من لذاذات كنت أجدها في الكركرة وفي الكتاب وفي النظر إلى هذا الناس. فالتفت إليه أقول: (أهكذا أنت؟).

قال: (نعم، يا صاحبي، قد كان لي قلب فضيعته!). . . وترقرقت في محجريه عبرات

ص: 38

مكفوفة تريد أن تجد لها منفذاً. . . فشملني حزن عميق ودهشة، وأنا أعرفه زوجاً، وأعرفه في أيام لهوه لا يحجم في إباء، ولا يندفع في طيش. ثم قلت في لهفة:(وكيف. . . كيف)؟!

قال: (أما القصة فهي قصة قلبي. . . قلبي أنا، فهو قد القي بي في مضلات تتقاذفني، فلا أجد منها الخلاص). ثم سكت سكتة حزينة وكأنه يلم شعث تاريخ أيامه، أو كأنه يصارع في نفسه أمراً فيه الشجن والألم). . . ثم قال:(عرفتها فيمن عرفت، فتاة كطفلة بضة، فيها الجمال وفيها الأنوثة؛ ولمست فيها أشياء جذبتني إليها. فاندفعت إلى جانبها في طريق لا يثلم الشرف، ولا ينحط بالكرامة، وهي تبادلني غراماً بغرام، وعطفاً بحنان! وذهبت أتلمس السبيل إلى دارها، بين الفينة والفينة فلا تعوزني الحيلة. وكيف، وأخوها شاب في مثل سني؟!)

(وتصرمت أيام وأيام، وشيطان الهوى يشب في قلبي وقلبها في آن. فلا نفترق إلا على ميعاد، ولا نتلاقى إلا على شوق)! وفي ذات صباح كتبت إلي: (أفرأيت بالأمس وأنا أسير إلى جانبك في شارع. . . لقد رآنا واحد من أصدقاء أخي الأكبر الذين شبوا معه منذ الطفولة، وتعلقت حبال قلبه بدارنا. فحمل إليه خبر فضيحتي في غير تحرج. . . وأقبل أخي والشرر يقدح من نظراته، وهو يتوثب غضباً وحنقاً!. . . وراح يفرغ لعناته على رأسي أنا، فبت بأسوأ ليلة؛ وهكذا أصبحت غرضاً يتندر به القوم ويسخرون منه. . . هذه حياة نارية ضيقة تنذرني بويلات العيش وعار الفضيحة. . . لا أطيق الصبر عليها إلا أن تمدني بيد منك قوية، أو بلفظة رشيدة! أنت وحدك تستطيع أن تتفل على هذا السعير الملتهب فيحور رماداً. . .!).

(وانكشف أمامي ما أرادت، فرحت اقلب الأمر فما أهتدي إلى رأي)!!

وفي المساء جاءني حديثها: (. . . تلك أذن أنانية الرجل، يلهو ما انفسحت أمامه طرق اللهو، وعبث فنوناً من العبث؛ فإذا جد الجد خرج من إنسانيته، وألقى بالتي أحب في تنور يتلظى، وطار هو آمناً إلى حيث يلتقط الحب. . .!).

واضطرب قلبي لهذه الكلمات القاسية! فطرت إلى أخيها - في غير أناة ولا روية - أسر إليه بأمر، فبدت على وجهه سمات الهدوء والطمأنينة. ثم انطلقت وفي نفسي أن الأزمة قد تفرجت على حين لم أخسر أنا شيئاً.

ص: 39

وغدا أخوها إلي، وفي رأيه أن آصرة أخرى قد ربطت بيني وبينه، فدفعته في هوادة، وانطويت عنه في رفق.

وغبرت زماناً لا أوصد الباب دونه، ولا ألين لكلماته، والفتاة تستحثني إلى أمر، والقضاء من ورائهما يدفعني إلى غاية.

وعلى حين غفلة مني ألقيت إلى أهلها السلم، فإذا أنا زوج للمرة الثانية!

وتناهى الخبر إلى زوجتي الاولى، ففزعت إلى أهلها، وفي أحشائها بضعة مني، وخلفتني ونزوات قلبي.

ودخلت زوجتي الثانية داري ترف رفيف الأمل الحلو، تملأ الدار والقلب جمالاً وبهاء، فسكنت إليها وسكنت هي

وسيطر علي الهوى، فران على قلبي. فلم يدعني أفكر فيما اقترفت من جرم جرته الغواية العمياء على زوجتي الأولى وعلى أبني جميعاً. . . فاندفعت لا ألقي السمع إلى صيحات هذا الطفل، ولا أبالي بآلام الزوجة المسكينة، ولا أعبأ بوخزات الضمير.

وقابل أهل زوجتي الأولى حماقتي بلطف، وجهلي بحلم، وغوايتي بكرم، وجنايتي بإحسان!. . . على حين كانت الزوجة الثانية تسعد إلى جانبي، وتبذل غاية الجهد في أن تسيطر على قلبي جميعه لتسدل بيني وبين زوجتي الأولى وأبني ستاراً كثيفاً من النسيان، وتستحث الأيام لتغريني بأمر.

وهب القلب من رقدته بعد سنوات ثلاث، فانطلقت أريد أبني وقد فقدته منذ زمان، فما أبت الزوجة ولا استعصى ذووها فإذا أبني بين يدي المح فيه أيام طفولتي: أداعبه فيبتسم، وألاطفه فيضطرب، وأضمه إلى صدري فيتعلق بي. وكأنه يقول:(أين كنت يا أبي؟ لا تذرني هنا يتيماً، فاستشعر الذل والمسكنة، وأنا ما أزال طفلا يحبو) فخرجت من لدنه وفي رأسي عاصفة هوجاء ما تستقر!

آه! لقد زعمت أن قلبي يطمئن حين أخلص إلى أبني وزوجتي وهأنذا قد طرحت التي أحب فطرحت معها قلبي. . . آه! يا صاحبي، لقد كان لي قلب فضيعته وأنا الآن - كما ترى - أضرب في أرجاء الأرض وحدي لا أجد القرار ولا استمتع بالحياة. لقد خيل إلي أن المرأة سلعة فإذا هي راحة القلب وبهجة الدار وجمال الحياة، فأين أجد السلوة يا صديقي؟

ص: 40

وأردت أن أرفه عن صاحبي بعض ما آلم نفسه فتدفقت عبراته وهو يقول: (لا تحدثني الحديث فتهيج من أحزاني. إن في النفس حسرة وفي القلب جرحاً ما يندمل، وفي. . . وفي عيني عبرة ما ترقأ. ويْ كأن القدر أراد أن يقتص مني مرتين مثل ما جنيت مرتين!)

كامل محمود حبيب

ص: 41

‌من الأدب الألماني

محاورة عن الألمان

لهاينرش كلايست

بقلم الدكتور جواد علي

الشاعر الألماني كلايست (1777 - 1811) من أشهر المجددين في عالم الأدب الإبتداعي ومن أساطين (الدراما) في عصره. أدخلت معظم قطعه الأدبية إلى عالم التمثيل والأوبرا. ولعل القراء الذين أتاحت لهم الفرص زيارة (دور الأوبرا) وخصوصاً الألمانية منها قد شنفوا أسماعهم واطلعوا على مغزى قطعه الخالدة مثل: أمير هومبرك (برنس فون هومبرك) و (هينا فون بارنهايم) وعائلة شروفنشتاين (فميليه شروفنشتاين).

على أن الحروب النابليونية الألمانية (البروسية منها والنمساوية) قد حولت اتجاه أدبه إلى اتجاه آخر هو الاتجاه الوطني السياسي الحماسي فاصبح شعره منذ هذا العهد من نوع الأخذ بالثار (راخة كقصيدة كرمانيا إلى أطفالها. ومعركة هيرمان (هيرمان شلاخت). وفي القطعة الخالدة (محاورة عن الألمان، التي الفت على الطريقة الأسبانية للأطفال والكبار) أمثلة محسوسة عن هذا الأدب الراقي والوطنية الألمانية. وقد ترجمت إلى لغات كثيرة لذلك رأيت ترجمتها إلى قراء الرسالة.

س - تكلم أيها الطفل من أنت؟

ج - أنا ألماني

س - ألماني؟ أنت تهزل. ولدت في مايسن. والأرض التي تتبعها مايسن تسمى زاكسن؟

ج - ولدت في مايسن. والأرض التي تعود إليها مايسن تسمى زاكسن. ولكن وطني، الأرض التي تتبعها زاكسن هي ألمانيا وولدك يا أبت هو ألماني.

س - أنت تحلم! أنا لا أعرف أرضاً تتبعها زاكسن، لعلك تعني حلف بلاد الراين. أين أجد ألمانيا هذه التي تتكلم عنها وأين تقع؟

ج - هنا يا أبت لا تشوش علي

س - أين؟

ص: 42

ج - على الخارطة

س - نعم على الخارطة (خارطة سنة 1805) هل تعلم ماذا حدث في سنة 1805 حين تم عقد صلح برسبرك؟

ج - نابليون، القيصر القورسيقي، خربه ودمره بعد الصلح بظلمه وجبروته.

س - والآن؟ ومع ذلك فهل هو موجود؟

ج - بكل تأكيد! ما هذا السؤال؟

س - مذ أي وقت؟

ج - مذ نهض فرانس الثاني قيصر الألمان القديم لبناء ما خرب، ومذ نادى الشعب قائده الشجاع للانضمام إلى لجيش الذي يقوده لإنقاذ الوطن وتحريره.

عن حب الوطن

س - تحب وطنك أليس كذلك يا ولدي؟

ج - نعم، يا أبت ذلك ما أحسه طبعاً

س - لم تحبه؟

ج - لأنه وطني

س - أنت تعني لأن الله بارك فيه بالأثمار الكثيرة وزينه بقطع نادرة من الفنون الجميلة، أو لأنه اظهر أبطالاً ورجالاً وأنجب حكماء زينوه ممن ليست لأسمائهم نهاية.

ج - لا يا أبت إنك تغويني.

س - أنا أغويك؟!

ج - إذاً فروما وريف مصر اللتان بوركتا كذلك بالأثمار وبالقطع النادرة من الفنون، وبجميع ما هو عظيم وكبير كما علمتني، أعظم بركة من ألمانيا. ولكن لو ساق القضاء والقدر ابنك إلى السكنى هناك لشعر بالانقباض وعدم الارتياح، ولما أحس بالحب لهما كما يحس لألمانيا.

س - إذاً فلم تحب ألمانيا؟

ج - لقد أجبتك يا أبت

س - أجبتني؟

ص: 43

ج - نعم لأنها وطني

عن تربية الألمان

س - ما هي حكمة الله يا بني في صب غضب نابليون على ألمانيا وإقلاق راحة الألمان؟

ج - لا علم لي بذلك

س - لا علم لك بذلك؟

ج - نعم يا أبت

س - وأنا أيضاً، ولكني أوجه سهام تفكيري نحو السماء فأن أصبت ربحت، وإن لم أصب لم أخسر. أتعيب ذلك علي؟

ج - كلا يا أبت

س - لعلك تقول ذلك لأنك تعتقد أن الألمان في قمة الفضيلة والمجد كما تكون الأشياء بعضها أرفع من بعض

ج - أبداً يا أبي

س - إذاً فقد كانوا على الأقل يسيرون دائماً في الطرق المستقيمة للوصول إلى ذلك؟

ج - لا يا أبت، ليس ذلك أيضاً.

س - عن أي الابتذال تحدثت إليك؟

ج - عن الابتذال؟

س - نعم عن الابتذال الذي يلتصق بأبناء هذا الجنس.

ج - كان إدراك الشعب الألماني كما ذكرت لي قد أزهر. وكان العلماء الأذكياء يعكسون ما ينعكس عليهم، وينتجون من ذكائهم، ولكن تلك القوة السحرية وتلك العاطفة القلبية قد ذهبتا

س - ألا تجد أن الابتذال ينطبق على أبيك الذي يجادلك أيضاً؟

ج - نعم يا والدي العزيز.

س - أين تكون الأثرة وأين تكون المحبة؟

ج - الأثرة تكون في حب المال والمتاع؛ أما المحبة فتكون في الاشتغال بالتجارة والحركة، حيث يتصبب العرق من الجبين، ويعيش المرء عيشة هادئة متزنة بلا هم ولا غم.

س - إذاً لم هذه المسكنة التي ضربها الله على هؤلاء الناس فخربت الأكواخ وتلفت

ص: 44

المزارع؟

ج - كي يحتقر هؤلاء متاع الدنيا ويهرعوا إلى الله فيتقربوا إلى أعظم سلطان مهيمن على العالم: وهو الله

س - ما هي أعظم مقدسات الإنسان؟

ج - الله والوطن والقيصر والحرية والحب والإخلاص والجمال والعلم والفن

عن الخيانة

س - ما هو ذنب من خالف أوامر الأمير كارل ونداءه الذي أذاعه على الشعب أو عارضه بالقول أو الفعل؟

ج - الخيانة العظمى يا أبت

س - لماذا؟

ج - لأن الشعب الذي ينتمي إليه هذا الخائن سيفسد

س - وما الذي يجب أن يفعله إذا أولئك الذين خانوا الوطن وانضموا إلى صفوف الفرنسيين لإذلال الألمان؟

ج - يجب عليهم إلقاء السلاح حالاً والالتفاف حول الرايات النمساوية

س - وإذا لم يفعل أحد منهم ذلك بل ظل يحمل السلاح فما يكون نصيبه؟

ج - الموت يا أبي

س - ولكن من يستطيع وحده أن ينقذه من هذا الموت؟

ج - عفو فرانس، قيصر النمسا وحامي الألمان

الخاتمة

س - أجبني يا ولدي. إن نهض قيصر ألمانيا النبيل إلى استعمال السلاح لينقذ حرية الألمان، ولكن الأقدار لم تساعده على ذلك: إلا تنهال عليه اللعنات والأصوات قائلة: لم قام القيصر بذلك؟

ج - لا يا أبي

س - لماذا؟

ص: 45

ج - لأن الله هو الحاكم المهيمن على العالم لا القيصر. فليس في يد القيصر ولا في يد أخيه كارل مشيئة تمكنهما من كسب المعارك متى يشاءون.

س - ودماء الآلاف من الناس، والمدن التي هدمت، والأرض التي خربت، تذهب كل هذه عبثاً؟

ج - نعم يا أبي مع ذلك؟

س - ما معنى مع ذلك؟ حتى ولو هلك جميع من في الأرض من رجال ونساء وأطفال. فهل تحبذ أنت الكفاح؟

ج - نعم يا أبي مع ذلك

س - لماذا؟

ج - لأن الله يريد ذلك. يريد الموت في سبيل الحرية

س - وما الذي يراه الله قبيحاً؟

ج - حياة العبودية.

جواد علي

خريج جامعة هامبرك بألمانيا

ص: 46

‌الجبر والاختيار

في كتاب الفصول والغايات

(مهداة إلى الأستاذ محمود حسن زناتي)

للأديب السيد محمد العزاوي

- 2 -

(وقول الحق أمثل من السكوت، واستقامة العالم لا تكون، ولذة الدنيا منقطعة، وخبر الميت غير جلي، ألا انه قد لقي ما حذر، فاسع لنفسك الخاطئة في الصلاح).

هذه الفكرة مسيطرة عليه في كل الكتاب. هو مؤمن بها إيماناً عميقاً جاء من تنزيهه الله عن العبث واللهو، وهو أصل يقرره في اللزوميات كثيراً:

أرى فلكاً ما زال بالخلق دائراً

له خَبرٌ عنا يُصانُ ويُخبأُ

وهو يبحث عنها بوسيلته هذه فلا يهتدي إليها، فكل ما كان للمعري من اضطراب أو حدة فإنما منشؤه هذه الحكمة المعماة عليه. هو يقرر بأن الله (يقدر أن يجعل الإنسان ينظر بقدمه، ويسمع الأصوات بيده، وتكون بنانه مجاري دمعه، ويجد الطعم بأذنه، ويشم الروائح بمنكبيه، ويمشي إلى الغرض على هامته. . .) ثم هو يعترف بان (. . . ذلك في القدرة يسير) ولكنه يتساءل عن حكمة الله في هذا النظام، وهذا النوع من الخلق، ولم كان هذا ولم يكن ذاك؟ وهو يرى أن (مؤتي الملك ملكه قاصر الصعلوك على عدمه، وكاسي الجميل حلة الجمال، هو سالبها القبيح. . .، فبيد الله العطية والحرمان) وهو يرى (أن الفقير خص بالتوقير) ولكنه لا يدري لماذا فيقول: (والله العالم لم ذاك). فهو يتساءل على أي نظام كانت هذه العطية وذاك الحرمان، وعلى أي اعتبار خص الفقير بالعبء الثقيل، ما سبب هذا التفريق في المنزلة والرزق (والناس بنور رجل وامرأة) وينتهي إلى تلك الحال من استسلام الحائر:(ومن عند الله قسمت الحدود).

تواق لمعرفة هذه الحكمة المعماة عليه، يطلبها ويجد في الحصول عليها، فإذا ما ظن انه قد أوشك أخلفت ظنونه الحكمة الإلهية وخذلت عقله. وليس أدل على حاله تلك من وصفه نفسه: (إنما أنا كرجل بلي بالصدى، لا يجد ورداً ولا مورداً، فهو ظمآن أبداً، أن ورد

ص: 47

غروفاً، وجده مصفوفاً، وأن صادف نزوعاً أعوزته الآلة والمعين، فبينا هو كذلك هجم على رجل ينزع بغرب، فشكا إليه فرط الكرب. فقال: ريك إن شاء الله قريب فأعني على انتزاع المروية، فلما كان الغرب بحيث يريان غدرت الوذم، وخان العناج.

حائر والحيرة توجب عليه الحذر والاحتياط. فهو ليس على بينة مما يراد به وبالكون، فهو إذا قال:(ما أنشأك ربك لعبث)، واثق أنه لم يخلق لعبث، وإن لم يستبن وجه الحكمة في هذا الإنشاء، فهو يحتاط ويحذر مما قد يكون من أمر هذه الحكمة فيقول:(أنا عن القبيح والرفث، وسبح في النهار والملث) وهو يصرح بأن: (الحازم الذي لا يأبس، يمجد الله ويقدس، وبغير طاعته لا ينبس، لعل الأجل يدركه من أهل الصفاء). أما ما دون ذلك فهو لم يجزم بشيء أبداً. فطبيعته تقتضي إلا يكون هناك يأس، وهي كذلك تقتضي أن لا ثقة؛ وإنما هو يقول:(أحسنوا إملاءكم جماعة الملأ، فسوف ينفد العدد ولو أنكم الرمال، وتخبو النار ولو هجم على لهبها النجوم، وتخف بكم النوب ولو أنكم الجبال حلوماً، الظالم بئس ما فعل، والمظلوم ضعيف مهتضم. فسعد امرؤٌ لا ظالماً وجد ولا مظلوما). فهو لا يأمن لشيء ولا يثبت شيئاً، وإنما يأمرك بالحيطة والحذر لأنه لا يدري يقيناً مما يراد به شيئاً، ولا يشك فيه شكاً صريحاً. فإذا ما كان الله حكيماً، وهو ما يقرره المعري تقريراً، وإذا ما كانت حكمته خافية فالخير للإنسان أن يحذر ويحتاط. وهذا الحذر والاحتياط لن يحصلا إلا بالعبادة والنسك والتطهر والتحلي بالفضائل؛ ولكن ما هي هذه الحكمة؟ ما شأنها؟ لم أجرت أموراً على وجه دون آخر؟ لم تسخر من كفاح الإنسان وتفرض عليه ما تريد! لم لا تعدل بين المخلوقات: بين الإنسان والحيوان والجماد، بل بين الإنسان والإنسان، والإنسان والحيوان والحيوان؟ على أي أساس بنت أحكامها هذه؟ هو لا يدري من كل ذلك شيئاً فيحار حيرة تأتيه من رفضه رفضاً شديداً أن يكون العالم ليس بذي حكمة، وأن يسير إلى غير غاية والى غير غرض، ويرمي إلى غير قصد.

وأبو العلاء مؤمن بأن هذه الحكمة تنظم الكون، وتسيطر عليه سيطرة لا تدع لقوة ما أن تمد هذه السيطرة (فرب نطف. . . يعطف إلى الخير فلا ينعطف، وكيف ولم يأذن خالقه بانعطاف) أو تحول من حكمها شيئاً (فيأيها الجامح لا يغنيك الجماح، المالك اضبط لك من عائشة لما وقع في النزوع، جل عن التشبيه والقياس في لجامك أظراب كالظراب) وأنها

ص: 48

تنظمه نظاماً آلياً قوياً لا يشذ، ولا يحيد؛ فإذا ما أدرك ذلك صرح:(قد فررت من قدر الله فإذا هو أخو الحياة، هل أطأ على غير الأرض، أو أبرز من تحت السماء؟! أد لجت فأصبح أمام المدلجين، وهجرت وهو مع المهجرين. قال وعرس مع القالة والمعرسين). فلا يمكن للمرء أن يحيد عما يراد به، فهو مجبور على ما يأتي من أفعال (والمرء يقدر ولغيره الأمور، يحسب انه يملك ويحوز، كذب! لله النفوس)، وليس أصرح من هذا النص ولا أدل في بيان فكرته:(إنما أنا فرير في ريق. قد أعدت له المدية، ينتظر به أمر الملك فتجري الشفرة على الأوداج) وإن ذلك ليزعجه، ويقلق خاطره فيقول:(شغلني عن النسب، وقول في النسب، أني أسلك من الحمام نيسباً، أذهب النوم وأطال الأرق واقل رغبتي من الشرف أني لا أجد عن ذلك مذهباً (أينما تسيروا يصحبكم الله كما صحب من كان قبلكم، وله من العلم عين علنكم، وإن تصبحوا وراء شق الثعلب فالقدر معكم، لا فرار من قضاء الله) فهو يوصي بعد ذلك أن (اصطبروا على ما حكم إنه واعي الكلمات) و (دع الأقدار وما تريد فأنها لا تصرف على اختيار المخلوقين. واعلم أن رزيتك لا تهجم على أحد إلا عليك) و (من عند الله سعد المجدودين) و (الشر على جبهة فاعله موسوم) و (ربك أولوع بالأنفس غرامها) فهو يستكين، ويستسلم استسلاماً شديداً حين نضرب مثل القطاة التي (تنزل إلى شرك الوليد، وهي فرحى بما لاح لها من الرزق، فيؤول أمرها معه إلى أحد ثلاثة أشياء: سمطٍ مزعفٍ، أو سجنٍ حرجٍ، أو عذابٍ مبرحٍ، فأمس بما فعل ربك راضياً).

هذه الفكرة تقوم من فلسفة المعري في (الفصول والغايات) مقام الوزن في القصيدة. فهو خفي ولكنه يحكم القصيدة فلا يخرج عليه بيت أو جزء من بيت. وهي قطب تدور حوله الأفكار بمعانيها المختلفة وألفاظها المتباينة. فكل تفكير المعري إذن يدور حول هذه الفكرة أياً ما كانت صوره ومعانيه وألفاظه. فإذا ما نظر في المجتمع فمن وراء هذا المنظار؛ وإذا ما شمل الكون بتفكيره فعلى هذا الهدى. وهو قد يصطنع من الأساليب الغريب، ومن فنون الكتابة ما يصرف المرء إلى ظواهر الأشياء؛ ولكن الأمر لا يزال عندما قررت من قبل. فلو تخطينا حاجز الظاهر المختلف ألوانه وصوره، ونفذنا إلى ما وراء هذا الظاهر لألفينا الأمر منضبطاً يدور على ما وصفت، لا يكاد يشذ عن ذلك بشيء إلا ما أملته التقية حيناً، وفرضته الأهواء السياسية حيناً، وأوحى به عبث النفس حيناً آخر.

ص: 49

وتفكير أبي العلاء في الجبرية يتخذ صورتين غير متباعدتين إلا تباعد الشيء عن مظهره، فهما يبحثان في الكون وأحد مظاهره وهو الاجتماع.

وأول ما يشغله في الاجتماع الأرزاق (والأرزاق عجب يقسومها) إذ أن الرزق لو أن له (لساناً هتف بمن رقد، أو يداً لجذب المضطجع باليد، أو قدماً لوطئ على الجسد، لا يزال الرزق مرنقاً على الهامة ترنيق الطير الظماء على الماء المطمع، فإذا صفر من الروح الجثمان، صارت تلك الطير نباديد)، (فأرد من حيث شئت ولا تبل، أمن واد أتاك الرزق أم من جبل. فان ألطاف الله طارقتك من كل أوبٍ) وهو يدعوك إلا تحزن، ويؤكد لك أنه (ليأتينك رزقك ولو جمع من أشتات).

(وذلك بقدر الله لا بسعي الساعين) وهو يلاحظ إلى ذلك أن من الناس من لا يعمل ولا يجد ولكنه يظفر بما يظفر به ذلك العامل المجد (الله علم بعارٍ خرص، ضيق رزقه وإن حرص، وآخر تغدو عليه منعمة بيضاء، قطعت إليه الفضاء) فهو يرى أن كثيراً منهم يبذل جهداً كبيراً فلا يظفر بشيء (فالموفق أين اتجه غانم، والمجدود أين يقع لا يظفر بالنجاح) وأنه ربما عس جد، فأتاك بعسجد، وأنت هارج الأحلام).

فهو يلحظ في كل هذا أن الرزق ميسر لك (ما سعت فيه القدم ولا عرق الجبين) وهو يردد ذلك المعنى في اللزوميات كثيراً.

سبب الرزق للانام فما يُق

طع بالعجز ذلك التسبيبُ

وهو يلحظ أن هذا التسيب يجري في عسره ويسره على قواعد خفية غير مفهومة:

جدَّ مقيمٌ وخابَ ذو سفر

كأنه في الهجير حرباء

أقضيةٌ لا تزال واردةً

تحارُ في كونها الألِبَّاء

وهو يلحظ إلى هذا إرادة علوية تسخر من محاولات البشر وتقديرهم (فالمرء يقدر ولغيره الأمور، يحسب أنه يملك ويحوز. كذب! لله النفوس).

ولم يقتصر بفكرته هذه على الإنسان وإنما شمل بها الحيوان من ناحية الرزق والمقدور معاً. أما من ناحية المقدور فهو كالإنسان تجري عليه الأقدار - غامضة مبهمة - لا يدله فيها أو علم له بها فيدرأها. فالمخلوقون جميعاً (يحيدون من خطب إلى سواه والحمام ساقة جيوش الخطوب. ما ألطف صانع الظبية تنظر بجنحى ليل، وترفع هدال الشجر بقضيي

ص: 50

ظلام، وتلبس حلة الوبر وتطأ على مثل المحار، أغلقتها أمس الحبالة فخلصت بالجريض، وصادفتها في اليوم ضراء المكلب فكاد إهابها ينقذ عن قلب مروع، وسلمت بعد الشد المحيص، وفي الغد تنتظمها بعض سهام المرتمين، فلم يغنها الفرق من الأحداث). وهو يسوي بين الحريص والأخرق من الحيوان والإنسان في المقدور (ما خشف ذو خرق وقع في حباله آبق، فنشق أشد النشق، أعيا بخلاصه مني بالخلاص).

ومن ناحية الأرزاق كذلك تجري عليه في نفس الغموض الذي تجري به على الإنسان: تيسر للظلم الحص وإن سعد فالهبيد، فينمو على الحص والهبيد؛ وتخص الإبل بالسعدان، فيغذو الإبل هذا السعدان، وكذا الخيل تنمو باليعضيض. ثم إن الحمار لا يكاد يصبر على عطش والظبي طويل صبر على العطش، فهو يسجل هذا جميعاً ويتساءل لم خصت الطبيعة هذا بذاك ولم تخصه بغيره، ولم لم ينتقل الظليم إلى المراعي والأرض (الغراء المتألقة) فيسعد بالعشب والنبات؟

أذن فالحيوان كذلك لا تسير عليه الأرزاق حسب قاعدة مفهومة. فنحن لا خيرة لنا أذن في تقبل هذا ورفض ذاك، لا خيرة لنا في كسبه وملاءمته للطبع والانتفاع به.

فهو يكل الأمر جميعاً إلى نظرية الجبرية والجبر المطلق الذي لا تقيده إلا هذه القيود التي لا يتبين أبو العلاء علام كانت وبأي حكمة بنت أحكامها في العطاء والمنع، في الخفض والرفع. وعلى ذلك فهو لا يلوم المجتمع من هذه الناحية، ما دام الناس ليس لهم بما يجري بهم يدان، وليس لهم في أرزاقهم تصريف. أذن فما يكون من فروق بينهم بنيت على هذه الأقدار والأرزاق فهي تافهة وليست بذات خطر ولا أهمية.

ونحن إذا وصلنا إلى هذه المرحلة من تفكير أبي العلاء نجد أنفسنا أمام رجل يثور دواماً على المجتمع ونظامه، يعدد آثامه وأخطاءه يائساً من إصلاحه والسير به إلى الخير والعدل والأمان، حامداً فلسفته التي ألهمته الاعتزال (فإن الوحيد في العالم لا يلحقه عيب من سواه)، ويدعو إلى إصلاح بالتعاطف والتراحم والمودة.

وثورته على النظام الاجتماعي نتيجة مباشرة لآرائه الجبرية. فهو كما قلت لا يريد أن يبني أحكاماً على أشياء سبق بها القدر فهي خارجة عن حدود تصريف البشر: لا يريد أن يرفعك المال أو فضل أتاك به الجد والمقدور، وهو لا يريد أن يحقرك لفقر لم تكن لك به يدان

ص: 51

واعيي الحيلة تحايلك عليه. هو لا يريد أن يسلك هذا المسلك الذي سلكه كل الناس وعليه بنى المجتمع أحكامه. فهذه المقادير تجري على نظم لو كانت بيد الخلق لغيرتها تغييراً يقلب من هذه الأوضاع التي جعلت الفاجر مجتبي والفاضل مهضوم الحق معدماً. ثم (إن الناس بنو رجل وامرأة، ما أدنى المؤتشب من اللباب). فأيا ما كان الاختلاف بين الناس فهو لن يخرجهم عن الجنس ولن يقوم بينهم وبين أن ينتسبوا جميعاً إلى صفات مشتركة عامة، و (الناس في عدل الله سواء، هم سواء رغم اختلاف طبقاتهم وأوضاعهم الاجتماعية وتقدير المجتمع لهذه الاختلافات والأوضاع. فمجيئنا إلى الحياة واحد، وخروجنا من الحياة واحد كذلك. وما دمت ستنتهي إلى غاية تستوي فيها الناس جميعاً، مهما تكن أوضاعهم الاجتماعية، فجدير بك أن تخفف من التغالي، وإلا تسرف فيما بينك وبين غيرك من فروق حكمت بها الأقدار وقدرتها تقديراً، وجدير بك أن تعطف على الفقير وأن ترأف به: (فمن ذخر جميلاً وحده عند الله) ولا أحد (بالشح أمرك وعلى الدنيا أمرك) من؟ (أخالقك الذي صورك؟ كلا. وعظمته لقد أنذرك!)

هذا نظر أبي العلاء في ظاهرة من ظواهر الكون، فأما نظره في الكون نفسه، فهو امتداد لتلك الفكرة أو أصل لها على وجه أصح.

(للبحث صلة)

السيد محمد العزاوي

ص: 52

‌التاريخ في سير أبطاله

أحمد عرابي

أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له

مكانه بين قواد حركتنا القومية؟

للأستاذ محمود الخفيف

لم تطل حيرة توفيق فانه آثر جانب ماليت وخطا بذلك خطوة أخرى من خطواته التي كانت تعجل سير الحوادث أبداً نحو الغاية التي رسمها الإنجليز والتي كان الوصول إليها معناه التهام مصر وازدراد تلك اللقمة التي طالما منت إنجلترا نفسها بازدرادها.

ولعلنا نذكر من مواقف توفيق السالفة ما كان يدفع به الحوادث في طريق العنف والثورة دفعاً، فهو الذي أدى إلى انضمام الحزبين العسكري والوطني وتضافرهما يوم تنكر للدستور وأخرج شريفاً من الوزارة وهو الذي تقع على عاتقه قبل غير مسؤولية مظاهرة عابدين ثم هو الذي قبل المذكرة المشتركة فأحبط أعمال شريف للمرة الثانية وصدم الوطنيين صدمة لم تدع لهم بعد رجاء فيه.

وليس بعجيب أن تكون خطى توفيق كلها مفضية إلى الاقتراب من الكارثة فإنما كان يعمل بوحي من الإنجليز وهؤلاء قد عينوا الهدف الذي يقصدون إليه بسياستهم؛ وكان الخديو قد دان بمبدأ نحسب أنه جرى في نفسه مجرى العقيدة، وذلك أن يؤثر جانب الإنجليز في كل شيء لأن في ذلك كما توهم منجاته من الصعاب التي كانت تحيط بعرشه.

رأى الخديو كما رأى ماليت أن حكم المجلس العسكري على المتآمرين من الجراكسة حكم جائر لا يسعه الموافقة عليه، ورأت الوزارة من جانبها أنها سلكت في المسألة منذ بدايتها مسلكا لا غميزة فيه فهي بذلك تتمسك بالحكم الذي أصدره المجلس، هذا إلى أن رفض الحكم من شأنه أن يضيع هيبتها وينتقص نفوذها ثم إنها فوق ذلك ترى التحيز واضحاً من جانب الخديو ذلك الذي كان يتشدد بالأمس أعظم التشدد يوم سبق عرابي وصاحباه إلى المحاكمة لمجرد أنهم شكوا إلى أولياء الأمر حالهم. . . ومن هنا قامت أمام البلاد مشكلة من أدق المشاكل وأخطرها.

ص: 53

وكان الذي يغضب الأمة والوزارة في الواقع أشد الغضب وآلمه تدخل الإنجليز في تلك المسألة التي لا صلة لهم بها ولا شبه صلة، وأحست الوازرة أن غرضهم هو إحراجها فحسب، ومن هنا اتخذت المشكلة مظهراً دقيقاُ غاية الدقة خطيراً كل الخطر، فلقد وجد الوطنيون البلاد تلقاء موقف تمتحن فيه الكرامة الوطنية والعزة القومية، ورأوا الظروف تعود من جديد فتظهر للخديو أن لا سبيل له إلا سبيل الوطنيين لأنه بانحرافه عن هذه السبيل إنما يطعن البلاد طعنة نجلاء في صميم قوميتها.

ولقد فرح المستعمرون، لا ريب، أن تتعقد المشكلة على هذا النحو، وزاد فرحهم أنها من صنع أيديهم، لذلك كانوا لا يألون جهداً في العمل على تفاقمهما بكل ما وسعهم من مكر وخبث، وراحت صحفهم تزيد نار الخلاف اشتعالاً، لا تتورع ولا تتوانى ومن ورائها رجال السياسة ورجال المال يصورون مصر في أشنع حالات الفوضى والاضطراب، فلقد سيطر رجال العسكرية وسيطر زعيمهم عرابي على كل شيء حتى ما يقف في طريقه حائل من قانون أو التزامات حتمتها الديون والظروف على مصر.

وكان الخديو في الواقع تلقاء آخر فرصة يستطيع أن ينقذ بها مصر مما كان يبيت لها، ولكنه ألفى نفسه سليب الإرادة أمام إرادة الإنجليز، بل لعله فرح أن يلطم وزارة البارودي لطمة يتخلص بها منها ويتخلص بذلك من عرابي الذي بات يغار منه أشد الغيرة حتى ما يطيق أن يسمع اسمه. . . وليت توفيقاً تحرك من تلقاء نفسه، إذاً لهان الخطب وخفت وطأة البلوى على النفوس فقد كان يمكن أن يقال يومئذ إنه ارتأى رأياً، وإنه ينتوي الخير أو ينتوي الشر حسب ما يرى، ولكنه وا أسفاه كان يقوى على الوطنيين بضعفه فلم يك يريد شيئاً وإنما كان يراد له كل ما يأخذ أو يدع من أمر.

وبدا لماليت فأوعز إلى الخديو أن يتخلص من المأزق بعرض الأمر على السلطان، وحجته أن عثمان رفقي يحمل لقب الفريق، فلا يجوز لأحد غير السلطان أن ينزع منه هذا اللقب. وسرعان ما فعل توفيق كما أشار به ماليت فزاد الأمور ارتباكاً وتعقيداً.

ولقد أخطأ ماليت خطأ كبيراً فيما أشار به، فإنه جر بذلك تركيا إلى الدخول في ذلك النضال، الأمر الذي كانت تحذره الدولتان أعظم الحذر وإن كانت إحداهما تخفيه، بينما الأخرى لا تتحرج من أن تعلنه في كل مناسبة وتبديه.

ص: 54

أما الوطنيون فقد غضبوا لذلك أشد الغضب، ورأوا فيه ضرباً جديداً من لؤم ماليت، فاجمعوا أن يمنعوا تدخل تركيا مهما كلفهم ذلك من وجوه الصعاب والمشاق. وبلغ الغضب برئيس الوزراء أن يعلن في عزم مصمم (أنه إذا أرسل الباب العالي أمراً ينقض حكم المجلس العسكري على الجراكسة السجناء، فإنا لن نطيع هذا الأمر، وإذا أرسل الباب العالي من قبله مندوبين، فسوف لا نسمح لهم أن يهبطوا مصر، وسوف نردهم بالقوة إذا لزم الأمر).

وهذه لا ريب ثورة غضب من البارودي نعدها من أخطائه. فلقد أفضى بهذا التصريح إلى ماليت، وهذا أرسله إلى حكومته وإنه لشديد الاغتباط به إذ يسوقه دليلاً على أن الأمور قد بلغت غاية التحرج؛ ثم إنه يسوقه من الجهة الأخرى دليلاً على صحة ما ذكره مراراً وهو تسلط زعماء الجيش واستهتارهم بكل سلطة. ولم ينج عرابي من حملات الكائدين له وحمل مسؤولية هذا التصريح كأنما كان هو قائله، وأرجف المرجفون أن البارودي إنما يعمل بوحي من عرابي الذي يعتبر الحاكم الحقيقي للبلاد!

الحق أن البارودي قد أساء إلى القضية إساءة كبيرة بهذا التصريح. فهو فضلاً عما ذكرنا، إنما يتحدى السلطان في ذلك الوقت العصيب فيضيف إلى أعدائه عدواً جديداً، وإن الذي يحيط به الأعداء من كل جانب لجدير به أن يحتال ليستل السخائم من صدورهم، أو ليكسب من الأعوان والأصدقاء من يكونون له في الشدة قوة وسنداً.

ولعل البارودي كما نفهم من المسألة المصرية يومئذ في جملتها، كان يكره تدخل السلطان العثماني كما يكره تدخل إنجلترا وفرنسا؛ ولم يك ذلك عن حب في استقلال مصر ورغبة في سيادتها، وإنما كانت لهذا الرجل أطماع جليلة الخطر. فكان يتطلع ببصره إلى عرش مصر، وكانت توسوس إليه نفسه أنه بهذا المركز جدير ففي عروقه دماء الحاكمين منذ القدم. فهو كما يزعم من سلالة الأشراف (بارسباي)، وعلى ذلك، فقد كان جده من زمن بعيد على ذلك العرش الذي تنزع اليوم إليه نفسه، والذي يخشى أن تشايع تركيا الأمير عبد الحليم فيتربع فوقه إذا أخلى من الجالس عليه.

وكانت النتيجة المباشرة لهذا التصريح استحكام الأزمة بين الوزارة والخديو. فلقد رأى توفيق انه أصبح في الواقع وليس له من الأمر شيء. فإذا كان البارودي يقف هذا الموقف

ص: 55

في وجه السلطان نفسه، فكيف به إذا وقف منه هو؟ وهذا هو المعنى الذي كان لا يفتأ ماليت وأعوانه يوحونه إلى الخديو في تلك الأزمة العصيبة.

ولو أن الوزارة أصرت يومئذ على موقف العناد والصرامة لحملت قسطاً كبيراً من المسؤولية عن تعقد الأمور وتحرجها، ولكنها ما لبثت أن خطت خطوة حميدة حقاً تنطوي على كثير من الكياسة وبعد النظر، فإنها تقدمت إلى الخديو تقترح أن يخفف هو الحكم من تلقاء نفسه دون الرجوع إلى تركيا أو غيرها، والوزارة ترضى في هذه المسالة أن ينفى المحكوم عليهم من مصر إلى أي جهة من الجهات دون أن تمس رتبهم أو ألقابهم وإنما تستبعد أسماؤهم من سجلات الجيش المصري.

وهذا المقترح لا ريب دليل صادق على حسن نية الوزارة ورغبتها في أن تنتهي تلك المسألة وتنجو البلاد من لؤم الأعداء، وهي فيما تقدمت به متساهلة أكبر التساهل، فما دام المجلس العسكري قد حكم بإدانة هؤلاء فإبعادهم من البلاد يقتضي حتماً إبعادهم من الجيش. . . ولكن الخديو وا أسفاه قد تنمر اليوم للوزارة وتنكر، فرفض أن يجيبها إلى هذا المقترح.

وكان ماليت من ورائه لا ينفك يوسوس له ويزين له فعل السوء؛ وكان جرانفل قد أنكر من ماليت ما أشار به على الخديو من دعوة تركيا إلى التدخل، فكتب إليه أن يسير على وفاق مع ممثل فرنسا، وفي هذا تلميح إلى ما كان في سياسته من خطأ، وكان ممثل فرنسا يسير بوحي من فرسنيه، ولكن ماليت قد عز عليه أن يتراجع بعد هذه الخطوات فينقض ما نسجه بيده من غزل، فانظر إليه كيف يخلع النقاب على صورة قل أن يوجد مثيل لها في سجل السياسة العام فيكتب إلى جرانفل قائلا:(اسمحوا لي أن ألاحظ أنه عند النظر في الخطة التي يجب أن يسلكها الخديو بازاء حكم المجلس العسكري يجب أن نلقي نظرة عامة على الحالة كلها، وأن نذكر أن الوزارة الحاضرة تسعى لتضييق نطاق الحماية الإنجليزية الفرنسية، وأن نفوذنا أخذ كل يوم في النقصان وقد يستحيل علينا أن نستعيد سلطتنا العليا حتى تخضد شوكة الحكم العسكري الذي يرزح القطر تحته الآن. وفي اعتقادي انه لابد من حدوث ارتباكات شديدة قبل الوصول إلى حل مرض للمسألة المصرية، وأن الحكمة تقضي باستعجال هذه الارتباكات لا بتأجيلها).

وأي كلام يمكن أن نعلق به على هذا الذي يقول ماليت وعلى الأخص تلك الحكمة التي

ص: 56

يشير إليها؟ أهكذا تطغي المطامع على العقول والقلوب حتى لتجعل من الحكمة استعجال الارتباكات! ولكن خرافة الذئب والحمل لن تزال أبداً الأساس الذي يقوم عليه المنطق في كل ما يجري من كلام بين الضعيف والقوي في هذا الوجود.

وأي دليل أبلغ من هذا الدليل على صحة ما ذكرناه ويذكره كل منصف عن السياسة الإنجليزية تجاه مصر منذ كان لها في هذا الوادي أطماع؟ ألا إنا لنقرر في غير تردد أن هذه السياسة اللئيمة كانت خليقة بان تقابل من جانب الوطنيين بكل مقاومة، بل إنها سياسة كان يغتفر في مقاومتها يومئذ كل عنف. . . ولكن بعض الناس لا يزالون يأخذون على عرابي وحزبه تشددهم وعدم مصانعتهم خصومهم ويعدون حسناتهم هذه من السيئات التي لا تغتفر ولا تنسى.

ورأى جرانفل أن يشايع فرسنيه في هذه المسألة وكان يرى فرسنيه أن يخفف توفيق الحكم كما ترى الوزارة فتنتهي هذه الأزمة؛ ولكن كيف يدع ماليت الفرصة تمر وهي من صنع يديه؟ وكيف يطيق أن تخرج الوزارة من الأزمة ظافرة فيكون ظفرها في الواقع هزيمة له؟ لذلك ما زال بتوفيق حتى وقع على أوراق الحكم بنفي المتآمرين إلى خارج البلاد مع عدم استبعاد أسمائهم من سجلات الجيش!

وتلقت الوزارة اللطمة وتلقتها معها البلاد، وآلم عرابي وضباط الجيش من الوطنيين هذا الترفق بالمتآمرين وهم الذين كانوا على وشك أن يفقدوا رؤوسهم بالأمس أو ينفوا إلى أقصى السودان لأنهم شكوا من سوء ما يصنع بهم رفقي. . .

وأعلنت الوزارة على لسان رئيسها أن لابد من قرار يلغي هذا القرار حتى تمحي تلك الإهانة التي وجهت إليها وإلى البلاد في شخصها، ولكن ماليت حذر الخديو أن يجيب وزراءه إلى ما طلبوا! ويستطيع القارئ أن يدرك خطورة هذا الموقف فلقد تأكدت القطيعة بين الخديو ووزرائه وانعدمت الصلة وتفاقم البلاء.

وصل كل من الطرفين إلى الموقف الذي يفسر به كل عمل حسب ما يجري في أطواء النفوس، ففي كل حركة ريبة وفي كل بادرة إهانة، وكل نية لن تكون إلا نية سوء، وكل جنوح إلى السلم لن يؤخذ إلا على انه ضرب من الهزيمة والتسليم، وكل كلمة نابية أو شديدة لن تفهم إلا على أنها ضرب من التحدي يراد به إعنات القلوب وإحراج الصدور. .

ص: 57

وفي هذا الموقف الخطير راح السير إدوارد ماليت يجني ثمار غرسه وإنه ليطفر من الفرح كما يطفر الشيطان. كتب إلى جرانفل في اليوم الثامن عشر من شهر مايو سنة 1882 أي بعد قرار الخديو بتسعة أيام يقول (لقد انقطعت العلاقة بين الخديو ووزرائه ووصل الموقف إلى أقصى الخطورة).

وتقدمت الوزارة لترد على الخديو فخطت خطوة جريئة بالغة الجرأة، فدعت مجلس النواب دون الرجوع إلى الخديو لتعرض عليه الأمر، فازدادت الأمور حرجاً على حرج، فلقد عد أعداء البلاد هذا العمل من الوزارة بمثابة خروج على الحاكم الشرعي لا يقل في مغزاه عن خلعه من عرشه، ونسوا أو تناسوا أن الخديو باتباع مشورتهم هو الذي دفع الوزارة حتى أوقعها في مأزق ضيق بحيث لم يبق أمامها إلا أن تقر الخديو على خروجه على الدستور ومشابته أعداء البلاد أو تستقيل، وفي كلا الأمرين تفريط منها في حقوق البلاد فضلا عن كرامة رجالها.

وانطلقت الشائعات من هنا ومن هناك، فالبارودي يريد أن يثب إلى العرش والجيش على أهبة لأن يتحرك إلى عابدين ليرغم توفيقا على قبول مطالب الوطنيين كما أرغمه على مثل ذلك في اليوم التاسع من شهر سبتمبر من العام الماضي، والخديو بعد العدة للمقاومة إلى غير ذلك من الأراجيف التي كان من طبيعة مثل ذلك الموقف أن يخلقها.

ولو كانت الروح العسكرية هي المسيطرة على الحكم يومئذ كما ارجف المرجفون لما وقف حائل أمام الجيش دون الذهاب إلى القصر وليكن بعد ذلك النصر أو الطوفان، ولكن الوزارة رأت أن تحتكم إلى نواب البلاد، ولما كانت واثقة أن الخديو لن يدعو المجلس دعته هي ليفصل في الأمر ولا عبرة بالشكل في سبيل تحقيق الجوهر.

(يتبع)

الخفيف

ص: 58

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

486 -

انو الخير

في (الآداب الشرعية) لابن مفلح المقدسي: قال عبد الله ابن الإمام أحمد لأبيه يوماً: أوصني يا أبت.

فقال: (يا بني، انو الخير، فأنك لا تزال بخير ما نويت الخير) هذه وصية عظيمة سهلة على المسؤول، سهلة الفهم والامتثال على السائل، وفاعلها ثوابه مستمر لدوامها واستمرارها، وهي صادقة على جميع أعمال القلوب المطلوبة شرعاً، سواء تعلقت بالخالق أو بالمخلوق وأنه يثاب عليها.

487 -

فإنا بها نسلو

أبو الفتح علي بن محمد البستي:

يقولون: إن المرء يحيا بنسله

وليس له ذكر إذا لم يكن نسلُ

فقلت لهم: نسلي بدائع حكمتي

فإن فاتنا نسل فإنا بها نسلو

488 -

السمر. . .

ياقوت في معجم (معجم البلدان): مرباط فرضة مدينة ظفار، وهي مدينة مفردة بين حضرموت وعمان على ساحل البحر، وأهلها عرب، وزيهم زي العرب القديم، وفيهم صلاح مع شراسة في خلقهم وتعصب، وفيهم قلة غيرة كأنهم اكتسبوها بالعادة؛ وذلك أنه في كل ليلة تخرج نساؤهم إلى ظاهر مدينتهم ويسامرن الرجال الذين لا حرمة بينهم، ويلاعبنهم، ويجالسنهم إلى أن يذهب أكثر الليل، فيجوز الرجل على زوجته وأخته، وأمه وعمته، فإذا هي تلاعب آخر وتحادثه، فيعرض عنها ويمضي إلى امرأة غيره، فيجالسها كما فعل بزوجته. وقد قلت لرجل منهم عاقل أديب: بلغني عنكم شيء أنكرته، ولا أعرف صحته، فبادرني وقال: لعلك تعني (السمر) قلت: ما أردت غيره. فقال: الذي بلغك من ذلك صحيح، وبالله اقسم إنه لقبيح، ولكن عليه نشأنا، ولو استطعنا أن نزيله لأزلناه، ولكن لا سبيل إلى ذلك مع ممر السنين واستمرار العادة به.

ص: 59

489 -

فلا عجب

(عيون الأنباء في طبقات الأطباء) لابن أبي أصيبعة: حكى عن أبقراط أنه أقبل بالتعليم على حدث من تلامذته، فعاتبه الشيوخ على تقديمه إياه عليهم. فقال: ألا تعلمون ما السبب في تقديمه عليكم؟ قالوا: لا، فقال لهم: ما أعجب ما في الدنيا؟ فقال أحدهم: السماء والأفلاك والكواكب. وقال آخر: الأرض وما فيها من الحيوانات والنبات. وقال آخر: الإنسان وتركيبه. ولم يزل كل واحد منهم يقول شيئاً وهو يقول: لا، فقال للصبي: ما أعجب ما في الدنيا؟ فقال: أيها الحكيم، إذا كان كل ما في الدنيا عجباً فلا عجب. فقال الحكيم: لأجل هذا قدمته لفطنته.

490 -

الآن صدقت

في (مفتاح دار السعادة) لابن الجوزي: حكي أن امرأة أتت منجما فأعطته درهماً، فاخذ طالعها وحكم وقال الطالع. فقالت: لم يكن شيء من ذلك. ثم أخذ الطالع وقال: يخبر بكذا. فأنكرته حتى قال: إنه ليدل على قطع من بيت المال.

فقالت: الآن صدقت، وهو الدرهم الذي دفعته إليك. . .

491 -

وترسل في زروعهم إذا يبست

في (صبح الأعشى): كان قوم من هذه المملكة (المصرية) مرتبون بالقرب من بلاد التتار يتحيلون على إحراق زروعهم بان تمسك الثعالب ونحوها وتربط الخرق المغموسة في الزيت بأذناب تلك الثعالب وتوقد بالنار وترسل في زروعهم إذا يبست، فيأخذها الذعر من تلك النار المربوطة بأذنابها، فتذهب في الزروع أخذة يميناً وشمالاً، فما مرت بشيء إلا أحرقته، وتواصلت النار من بعضها إلى بعض فتحرق المزرعة عن آخرها. وهذا الأمر قد بطل حكمه من حين وقوع الصلح بين ملوك مصر وملوك التتار.

492 -

أرسطو، المتنبي

في (الرسالة الحاتمية): قال أرسطو: إن الحكيم تريه الحكمة أن فوق علمه علماً، فهو يتواضع لتلك الزيادة، والجاهل يظن أنه قد تناهى فيسقط بجهله فتمقته النفوس

قال أبو الطيب:

ص: 60

وما التيه طبي فيهم غير إنني

بغيض إلىّ الجاهل المتعاقل

493 -

دع اسمه وأعطنا جسمه

(زهر الآداب): قال حسن بن جنادة الوشاء: انصرف أبو تمام من عند بعض أصحاب السلطان فوقف علي. فقلت: من أين؟ قال: كنت عند بعض الملوك فأكلنا طعاماً طيباً، وفاكهة فاضلة، وبخرنا وخلقنا، فخرجت هارباً من المجلس نافراً إلى التسلي، وما في منزلي نبيذ، ولكن عندي خمر أريده لبعض الأدوية، فقلت: دع اسمه، وأعطنا جسمه، فليس يثنينا عن المدام ما هجنته به من اسم الحرام.

ص: 61

‌إلى دودة

للأستاذ ميخائيل نعيمه

تدبّين دبّ الوهن في جسميَ الفاني

وأسعى بجدٍ خلف نعشي وأكفاني

فأجتاز عمري راكضاً متعثراً

بأنقاض آمالي وأشباح أشجاني

وأبني قصوراً من هباءٍ وأشتكى

إذا عبثت كف الزمان ببنياني

ففي كل يومٍ لي حياة جديدة

وفي كل يومٍ سكرة الموت تغشاني

ولولا ضباب الشك يا دودة الثرى

لكنت ألاقى في دبيبك إيماني

فأترك أفكاري تذيع غرورها

وأترك أحزاني تكفن أحزاني

وأزحف في عيشي نظيرك جاهلاً

دواعيَ وجدي أو بواعث وجداني

ومستسلماً في كل أمرٍ وحالةٍ

لحكمة ربي لا لأحكام إنسان

فها أنت عمياء يقودك مبصر

وأمشي بصيراً في مسالكِ عميان

لك الأرض مهد والسماء مظّلمة

ولي فيهما من ضيق فكريَ سِجنان

لئن ضاقتا بي لم تضيقا بحاجتي

ولكن بجهلي وادعائي بعرفاني

ففي داخلي ضدّان: قلب مسّلم

وفكر عنيد بالتساؤل أضناني

توَّهَم أنَ الكون سِرٌّ وأنه

يُنال ببحثٍ أو يُباح ببرهان

فراح يجوب الأرضَ والجوّ والسما

يسائل عن قاصٍ ويبحث عن دان

وكنتُ قصيداً قبل ذلك كاملاً

فضعضع ما بي من معان وأوزان

وأنت التي يستصغر الكل قدرها

ويحسبها بعضٌ زيادة نقصان

تدُبّين في حضن الحياة طليقةً

ولا هَمَّ يضنيك بأسرار كوأن

فلا تسألين الأرضِ مَنْ مدَّ طولهَا

ولا الشمس مَن لظّى حشاها بنيران

ولا الريح عن قصدٍ لها في هبوبها

ولا الوردة الحمراء في لونها القاني

وما أنتِ في عين الحياة دميمة

وأصغر قدراً من نسور وعقبان

فلا التبر أغلى عندها من ترابها

ولا الماس أسنى من حجارة صوّان

هل استبدلت يوماً غراباً ببلبل؟

وهل أهملتْ دوداً لتلهو بغزلان؟

وهل حقنت غدرانها من ضفادع

وأوجدت الإبحار ملهى لحيتان؟

ص: 62

هل اطلعت شمساً لتحرقَ عوسجاً

وتملأ سطح الأرض بالآسِ والبان؟

لعمركِ يا أختاه ما في حياتنا

مراتب قدرٍ أو تفاوت أثمان

مظاهرها في الكون تبدو لناظر

كثيرة أشكال عديدة ألوان

وأقنومها باقٍ من البدء واحداً

تجلَّتْ بشهبٍ أم تجلت بديدان

وما ناشد أسرارها، وهو كشفها،

سوى مشترٍ بالماء حرقةَ عطشان

ميخائيل نعيمة

ص: 63

‌المعنى التائه

للأستاذ حسن كامل الصيرفي

أنت معنًى تائهٌ

في ذات نفسي يا حياتي

كلما دَّققْتُ فيهِ

طوّحتْ بي خَطَراتي

كان، قبل الحب، قلبي يتغنَّى هائماً

في رياضٍ طَلَعَ البدرُ عليها باسماً

وليالٍ رقدَ الكونُ عليها خالِماً

تتراءَى بَسْمةُ الثغرِ عليها دائماً

ثم طار القلبُ حيناً

في وسيع الخَلَواتِ

وصداهُ لم يَزلْ يُسْ

مَعُ حُلْوَ النَّغَماتِ. . .

لستُ أدري أين وّلى، حين وّلى ومضى؟!

هو في الأُفق توارى وتلاشى في الفضا

مثل لحظٍ بَعَثَتهُ الغيدُ في ساعِ الرضى

أو كبرقٍ خطف الأبصارَ لما ومضا

واختفى عن مقلتي قل

بي، سريعَ النبضاتِ

وتلاشى الصوتُ في

الآفاق إلاّ الهمساتِ

هَمَساتٌ كُنَّ كالوحي سريعاتِ التَّخَفي

لم تكدْ تهبط حتى أسرعتْ في مثل خوفِ

وتلاشتْ، وأنا أبحث عنها مثل طَيْفِ

غير أن الزهر أفشى سرها في طيب عَرْف

فذكا. واستشعرتْ رو

حي حديثَ الزَّهَراتِ

فنشقتُ العطرَ حتى

أسكرتْني نَشَقاتي

ثَمِلَتْ روحي قليلاً، وغفتْ عيناي حينا

فتعرَّتْ ذكرياتي عن جلابيب السنينا

ومضت ترقص أحلاماً تهزُّ الحالمينا

ص: 64

وترامت فوق صدري فترَّفقْتُ حنونا

في احتضاني جسمها الر

طب وكانت قُبُلاتي

تستر الجسمَ المُعرَّي

عن دنايا نظراتي. . .

مَنْ هي الحسناءُ؟. . . ذكرى حبِّ روحي

نزلتْ من أوجها العالي لمعشوقٍ جريحِ

مَنْ هو المعشوقُ؟. . . يا أحلامُ بوحي!

لم تَبُحْ أحلامُ نومي

ورنَتْ للذكرياتِ

فأفاقت ومضَتْ عني

وَحلَّتْ يَقَظاتي

وإذا بالحُلْم معنًى تائهٌ في ذات نفسي

أستمدُّ الوَحْيَ منهُ في خيالاتي وحِسِّي

وإذا في راحةِ النفسِ. وكوْنُ الله مُمْسِ

هتفتْ روحي بقلبي

فإذا بالقلبِ آتِ

وإذا بالحُلْم يبدو

مُحْيِياً لي ذكرياتي

حسن كامل الصيرفي

ص: 65

‌غرور الفنان وعقابه

للأستاذ علي أحمد باكثير

(يريد الشاعر أن يصور في هذا الغزل الفلسفي غرور الفنان في تصوره أنه خالق فيعاقب بتمرد خلقه عليه حتى أنه ليود أن يتنازل عن ربوبيته المزعومة لمن خلقه لكي ينال رضاه وحنانه، فإذا ما أبى عليه ذلك رجا منه أن يمسحه من لوح الوجود لأنه أصبح زوراً لا محل له في الوجود، وينتهي به الأمر إلى الرجوع إلى الله وأنه الخالق وحده لا خالق سواه فمن نازعه هذا الرداء لقي هذا العذاب الكبير).

فيم يا زهرةَ الجمال تنكّرْتِ

لقلبي فارتدّ عنكِ كسيرا؟

أو لستُ الذي غرستُكِ في قلب

ي وأسقيتك الزلال النميرا؟

وقضيتُ النهار والليل أرعا

ك أقيك الهجير والزمهريرا

أنت حُلمي إذا أويتُ إلى النو

م وشغلي إذا برحْتُ السريرا

تتلاشى روحي عليك حناناً

وارتقاباً ولوعةً وحبورا

مُوقداً ذوب مهجتي لَكِ شمعاً

يطرد الرَّوْعَ عنكِ والديجورا

ضارباَ كلَّةً عليك من الأح

لام تنفي عنكِ الأذى والشرورا

جاعلاً من شوقي إليكِ صلاةً

محرَقاً من دمي عليك بخورا

في طريقي إليكِ تخطبني الأز

هار شتى يعبقن عِطراً ونورا

يتمايلن معرضاتٍ مريدا

تٍ وللّثم يرتعِشْنَ ثغورا

فتكبّرتُ أن أجود عليهنّ

بطرفي بَلْهَ الهوى والشعورا

وتحملتُ مِنْ ملام ضميري

في أذاهُنّ ما يهدُّ الضميرا

لا أبالي إذا رضيتِ رضى النا

س جميعاً وودهم والنفورا

وْلتضع من يدي الحظوظُ فحسي

أنّ أنال الرضاء منك اليسيرا

هو رجواي في الحياة فإن أُدْ

ركه أدرك خُلْداً وملكا كبيرا

أنا قّلدتكِ الجمال وصوّرْ

تُكِ ما شاءتِ المنى تصويرا!

وبفنّي خّلدتُ حُسنك في الكو

ن وأسجدتُ في ثراكِ الحورا

وجعلتُ الزمان يشدو بلحْنَي

ك فيحيى الأسى ويحيُى السرورا

ص: 66

أفترضَيْنَ بعد هذا لقلبي

أن يكون المرزّأ المهجورا؟

أنتِ خَلْقي. . . وا رحمتاه لرب

صار يوماً بخَلْقه مستجيرا!

أردديني خَلقاً وكوني إلهاً

تشملي بالحنان قلبي الكسيرا!

وترىْ ما بهِ. . . فمن يكُ ربّاً

يكُ طبّاً بخلقه وخبيرا

لا أبالي إذا غدوتِ لقلبي

وحده كنتُ آسِراً أو أسيرا

فإذا ما أبيتِ إلا شقائي

فامسحي من لوح الوجود الزورا!

أعدِميني فلا أطيقُ عذابين

خلوداً قدّرتِ لي وسعيرا!

كنتِ في خاطري وكنت سعيداً

قبل أن تظهري لعيني ظهورا!

آه، يا ليتني كتمتكِ سرّاً

حيث كنتِ الدهور ثم الدهورا!

لكُيفِتُ الأسى إذاً والتباري

ح ودُمْتُ المنعَّمَ الموفورا

ما توقعتُ إذ جبلتُكِ طيناً

في يَدِي أن أصير هذا المصيرا!

إنَّ هذا جزاء من نازع الله

عُلاه يلقى العذاب الكبيرا!

علي أحمد باكثير

ص: 67

‌رسالة الفن

دراسات في الفن

الفن والحرية

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

مظاهر الحياة في الإنسان ثلاثة، يرجع إليها كل ما يصدر عنه من أفعال وأقوال وحركات وسكنات. وهذه المظاهر هي الحس والعقل والخلق. والإنسان الوسط يستطيع أن يلحظ في غيره بسهولة تامة النقص الذي يعتري ناحية أو اكثر من هذه النواحي الثلاث. فيحكم عليه بأنه بارد الحس، أو ناقص العقل، أو معوج الخلق. وليس يهمنا ما يقال من أن الحكم في هذه الأحوال لا يكون إلا تقديرياً، وإنما الذي يعنينا هو أن الحس والعقل والخلق موجودة في كل إنسان، وإن تفاوت وضوحها، ووضوح اتجاهاتها في الناس، وإن اختلفت معاييرها فليس ينفي وجود القمح أن يكيله ناس بالإردب، وأن يزنه ناس بالقنطار. . .

ولما كان الكمال البشري يستدعي رقي الإنسان في نواحيه جميعاً بحيث تنسجم هذه النواحي فيه وتتوازن وتتضافر فتخطو به خطوة جديدة في طريق التطور والارتقاء تلبية لنداء الطبيعة التي تريدهما، لزم أن يكون كل عمل من أعمال الإنسان صادراً عن حس مرتق، وعقل مرتق، وخلق مرتق. فإذا اختل التوازن بين الحس والعقل والخلق في أي عمل من أعمال الإنسان عاب هذا الاختلال العمل وأنقص قدره.

ونحن إذا نظرنا إلى هذه النواحي الثلاث رأينا لكل ناحية منها طريقاً خاصاً من طرق الرقي الإنساني تسعى فيه. فالحس طريقه الفن، والعقل طريقه العلم، والخلق طريقه الفضيلة.

وأكمل الناس من غير شك هو الذي يرقى في معراج التطور بحسه وعقله وخلقه، وأقل منه كمالا من يرقى في هذا المعراج بناحيتين فقط من نواحيه الثلاث، والأقل كمالاً من يرقى في هذا المعراج بناحية واحدة. وأغلب الناس غير متوازنين، بل إن أغلبهم تنصقل في نفسه ناحية واحدة فقط من هذه النواحي فتضيء ما حوله ولكن بلون نورها هي، بينما يتخافت إلى جانبها النوران المنبعثان من الناحيتين الأخريين. وهكذا كان في الناس فنانون

ص: 68

لا صلة لهم بالعقل ولا بالعلوم إلا ما يرد عنهم اتهام الناس إياهم بالجنون، وفنانون لا صلة لهم بالعقل ولا بالخلق، ومنهم من يرميه بالفسق إلى جانب الجنون. وهكذا أيضاً كان في الناس علماء لا صلة لهم بالحس فهم باردون، وعلماء لا صلة لهم بالحس ولا بالخلق، ومنهم من يرميه الناس بالجشع إلى جانب البرود. وهكذا أخيراً كان في الناس فضلاء تنبعث الفضيلة من أنفسهم فينالها من يكرههم كما تصيب من يحبهم لا يحبسونها ولو أوذوا، فلا هم عقلاء يحذرون كما يحذر غيرهم من العقلاء، ولا هم يحسون الشر فيما يحسون، وهؤلاء من بين أصحاب الفضيلة هم الأتقياء الزاهدون المضحون المظلومون.

وكل فرد من هؤلاء الأفراد الخارقين في نواحيهم الخاصة، والمتسامين فيها على مستوى الجمهور يعتبر عبقرياً في ناحية وإن أحصت عليه الإنسانية النقص في الناحيتين الأخريين، فما تزال العبقرية في نظر الناس ضرباً من ضروب الشذوذ، أو هي في الحق كذلك ما دامت تنحو إحدى نواحيه فقط.

فإذا أنكرنا على الإنسان أنانيته وطالبناه بان يرعى خير الإنسانية في كل عمل من أعماله وعلى الخصوص في تلك الأعمال التي تتصل بغيره وتؤثر فيه فإننا لا نملك إزاء الفنانين إلا أن نطالبهم بأن تتضافر نواحيهم الثلاث في إنتاجهم الفني كما نطلب ذلك من العلماء، وكما نطلب ذلك من أهل الفضيلة. فالفن أو أكمل الفن هو ما أرضى العقل والخلق إلى جانب ما يرضي الحس، كما أن العلم أو أكمل العلم هو ما أرضى الحس والخلق إلى جانب ما يرضي العقل، وكما أن لفضيلة أو أكمل الفضيلة هي ما أرضى العقل والحس إلى جانب ما يرضي الخلق.

هذا إذا راعينا أن الفنون والعلوم والفضائل هي أهداف الإنسانية التي تلح في سبيل الوصول إلى استكمالها موحدة منسجمة متزنة. فإذا لم ندقق كل التدقيق في هذا، فإنه يجوز منا أن نبيح للفنان أن يحاول السير في طريقه بالحس وحده، وللعالم أن يسير بالعقل وحده، وللرجل الفاضل أن يسير بالخلق وحده.

ولكن للإنسانية مثلاً عالياً تنزع إليه وتريد أن تلحقه وإن اختلفت صوره في أذهان الناس. ونحن إذا ما حاولنا أن نستخلص من بين هذه الصور الصورة التي نعتقد أنها أصدق صور الكمال فإننا عندئذ سنستطيع أن نتصور إلى جانبها صورة للإنسانية تكون هي اقرب صور

ص: 69

الإنسان من الكمال، ويكون هذا تبعاً لمدى تحققه صورة المفرد من نواحي الكمال المطلوبة في صورة الإنسانية الكاملة. وسنرى كيف يمكن أن يتم التوازن بين حس الإنسان وعقله وخلقه في هذه الصورة العالية التي نكتشفها. وسنرى هل يتم هذا التوازن إذا كان للإنسان من حسه ومن عقله ومن خلقه مقادير متساوية، أو أن هذا التوازن يمكن أن يتم باختلاف في مقاديرها لدسم في بعضها وخفة في بعضها أو لضرورة تستوجب بعضها ولجواز يمكن به الاستغناء عن بعضها في بعض الأحيان.

سنختلف.

فقد اختلف الناس في هذا منذ أحسوا، ومنذ عقلوا، ومنذ كانت لهم أخلاق، وسيظلون مختلفين في هذا إلى أن يشاء الله فيكونوا أمة واحدة، وهم الآن أمم. ولكل أمة منهم مثل، وكل أمة منهم تنزع إلى تحقيق مثلها جادة حيناً ومتكئة حيناً، ومتناومة في اغلب الأحيان.

فإذا سألني سائل عن أمتي، ومثلي الذي أنزع إليه مؤمناً به، فأنا من أمة محمد. الفن عندي ما يحقق المثل الأعلى الذي رسمه محمد بدينه للحياة، والعلم عندي هو ما يحقق هذا المثل، والخلق عندي ما يتفق وروح الإسلام.

ولست أقهر إنساناً على أن يدخل في أمتي، ولا على أن يتدله بمثلي الأعلى، ولكني أقولها بعد تأمل أعتقد أنه قد يكفي متعجلاً مثل من أبناء هذا العصر العجول. . . كلمة فيها من القدم رزانة الشيخوخة ومن الأبدية عنفوان الشباب، وهي أن المثل الأعلى الذي رسمه الإسلام للإنسان والصورة النقية التي رسمها للإنسانية هما صورة أرقى حي في أرقى صورة للحياة، فما كان عبثاً ما قال الله من أن محمداً هو خاتم النبيين والمرسلين، وأن الإسلام هو ختام الأديان. ونحن إذا أنعمنا النظر في الإسلام رأيناه يشمل كل الأديان الساعية إلى الله، وأنه يبرئ الله مما ألحقه به الناس من الباطل والزيف، وإذا صدق هذا اصدق معه أن أسمى المثل الإنسانية العليا ليس إلا بعض المثل الإسلامي الأعلى، وعلى هذا الأساس يمكننا أن نجعل الإسلام حكماً على أعمال الإنسان الروحية كلها سواء منها الحسية والعقلية والخلقية، فإذا لم يرض بعض الناس عن الإسلام حكماً فلهم أمثلتهم العليا يحكمونها كما يشاءون فيما يشاءون فكل ما يملكه عاجز ضعيف مثلي في مقام كهذا هو أن يقول لهم: قبل أن تستبعدوا الإسلام تدبروه.

ص: 70

فإذا تدبروه فهم معي مسلمون. فإذا أسلموا فهم أمة وسط، وما داموا أمة وسطاً فعليهم أن يراعوا العقل والخلق في فنهم فيجعلوا لهما فيه نصيباً، وعليهم أن يراعوا الحس والخلق في علمهم فيجعلوا لهما فيه نصيباً، وعليهم أن يراعوا الحس والعقل في فضائلهم فيجعلوا لهما فيها نصيباً. وهذا يحدث عفو خاطرهم بدون تدبر وبدون اختيار إذا كانوا مسلمين. فالإسلام هو دين الفطرة، كما أن الفن الصحيح السليم هو فن الفطرة، وكما أن العلم النافع هو علم الفطرة الذي يعلمه الله الناس سواء أكانوا أميين أم كانوا قارئين كاتبين، وكما أن الخلق القويم هو خلق الفطرة الذي يصدر عن الإنسان عفواً من غير تدبير ومن غير اختيار.

وبعد أن رأينا للفطرة هذا الجلال وهذا الخطر، فإنه قد يعارضنا هنا سؤال له محل من التفكير، فقد يقول لنا قائل: أليس من فطرة الإنسان أن ينزع أحياناً إلى ما تستنكره الأخلاق، والى ما يزور عنه العقل، فإذا لبى هذا النزوع بالفن كان فنه فطرياً، ولكنه مع هذا لم يكن متمشياً مع الإسلام الذي وإن كان دين الفطرة فهو يرسم قيوداً، ويقيم من الأخلاق حراساً على هذه القيود؟ وجوابنا على هذا السؤال هو أن النزوع بالفن إلى ما تنكره الأخلاق ما ينكره العقل ليس نزوعاً فطرياً، وإنما نزوع فيه شيء من النقص يعتري صاحبه إذ ينسى غيره، وإذ ينزع بالفن إلى تلبية إحساسه والتعبير عنه، فهو بهذا الفن يرضي نفسه وحدها، وفي ساعة عاجلة من ساعات حياته هو، فهو لا يحس بمستقبله ولا يفكر فيه، ولا يحس صلته بغيره ولا يفكر فيها، ولا يحس آثره في غيره ولا يفكر فيه.

ونحن لا نستطيع أن ننكر أن هذا الضرب من الفن. . . فن. ولكنه فن جامح ينظمه صاحبه من حبات نفسه ليرضى به هو وحده. ونحن إذا تأملنا ألوان الفن التي ينكرها العقل لم نجد غير الخرافات الفنية، وهي لا تؤذي الإنسانية في شيء إلا إذا حاول فنان خداع مقنع بالحيلة أن يحمل الناس على أن يؤمنوا بأنها حقيقة واقعة، ولم يظهر في الدنيا فنان من هؤلاء إلا وخرج بخداعه عن دائرة الفن إلى دائرة النصب والاحتيال. وإذا تأملنا ألوان الفن التي ينكرها الخلق لم تجدها إلا لمامات تعرض لنواح من الحياة يكاد يعرفها الناس جميعاً، ويكادون يتذوقونها جميعاً، ويكادون يستطيعون أن يعبروا عنها جميعاً تعبيراً لا يقل صدقاً ولا روعة عما يعبر به الفنانون عنها. فإن لم يتأت لجمهور الناس بالفعل التعبير عن

ص: 71

هذه النواحي المبتذلة من الحياة التي يتعفف الفن الإسلامي عنها، فهم يستطيعون هذا التعبير بالقوة. وهذا هو ما يغرينا بالمضي في الحرص على اتباع الإسلام حتى في الفن؛ فهذا الذي نخسره من الفن بهذا الحرص تافه وهين ما دام جمهور الناس يستطيعونه، والفنان يطلب منه شيء أكثر مما يطلب من عامة الناس، وهو الكائن الحي الناضج الحياة الذي يتوقع منه الناس أن يكشف لهم بإحساسه المرهف من حقائق الحياة ومباهجها وجمالها ما لا يستطيعون هم أن ينتهوا إليه بحسهم، كما أنهم يحبون من علمائهم أن يهدوهم من حقائق الحياة ومنافعها إلى ما يعجزون هم عن أن يصلوا إليه، وكما انهم يحبون من الهداة الأتقياء ذوي الفضل أن يرسموا لهم ما ينبغي أن يكون، وما ينبغي إلا يكون.

وما أجل هذا الذي يجتمع له هذا كله فيكون هادياً بفضائله وعلمه وفنه.

فإذا لم يتيسر هذا لرجال الإنسانية عفواً فان الإرادة كفيلة بتحقيقه. ولست اقصد بالإرادة أن يعتزم الفنان أن يحقق في فنه الأخلاق الفاضلة، ونفسه بعيدة عن الأخلاق الفاضلة. فيخرج فنه متكلفاً سخيفاً يشعر كل من يتصل به بأنه فقد ميزته الأساسية الأولى، وهي أن يكون تلبية لنداء الطبيعة والفطرة، وإنما الذي اقصده هو أن يبدأ الفنان بتحقيق الفضيلة في نفسه هو. فإذا أبدع فناً بعد ذلك كان الفن صورة نفسه، وكان الفن فاضلاً.

وطبيعة التطور والارتقاء تطالب الفنانين بهذا، كما أنها تطالب به العلماء، وكما أنها تطالب به أصحاب الأخلاق والفضائل. ذلك أن الحياة الروحية للإنسان تريد أن تسمو وأن تتقدم الخطى إلى الامام، وطريقها إلى هذا الرقي هو نفوس الناس أنفسهم، وما دام في الإنسان إرادة فلابد من أن يكون لهذه الإرادة لزوم في تحقيق التطور والارتقاء بدليل أنها لا تزال موجودة في نفس الإنسان، وأن لإنسان لا يزال يمارسها في كل أعماله تقريباً، وما دام الأمر كذلك فانه قد حق علينا أن نريد ترقية أنفسنا، ثم أن نعمل على هذه الترقية. أما الإرادة فأمرها بيدنا، وأما العمل فطريقه التدريب، وكما أن للعقل تدريباً يساعده على بلوغ العمل، وكما أن للخلق تدريباً يساعده على بلوغ الفضيلة، فإن للحس تدريباً يساعده على بلوغ الفن!

وقد ارتضى كل فنان لنفسه مثلاً أعلى يريد أن يرقى إليه وأنا اخترت الإسلام من هذه المثل لمن يعجبهم اختياري.

ص: 72

أما أولئك الذين لا يريدون أن يرقوا فلهم أن يعربدوا بفنهم وبعلمهم، وبأخلاقهم ما شاءت لهم حرية التائه الضال.

عزيز أحمد فهمي

ص: 73

‌من هنا ومن هناك

الحريم في نظر الغرب

إن حياة الحريم في قصور سلاطين آل عثمان لتمثل هذا الضرب من المعيشة الذي تصوره ألف ليلة وليلة، والذي تفنن الكتاب الأوربيون في وصفه ما وسعهم الخيال، ففيها الأجواء المفعمة باللذة وضروب المتع والتسلية المختلفة. ولقد ظل (الحريم) من الأسرار الغامضة التي تتضارب فيها الأفكار، حتى إذا زالت سلطة الخلفاء، وأبيح للجميع أن يدخلوا قصورهم الفخمة، كشف القناع عن الكثير مما كان يجري فيه. ولا شك أن رغبة الغربيين في تعرف أسرار (الحريم) في القصور العثمانية كانت أعظم من أية رغبة أخرى في إدراك أحوال الدولة أبان عهد السلاطين، وكان ذلك مدعاة لأن يكتب الكثيرون - آنا بالحق وآنا بالباطل - حول هذه الناحية، وتنافس الخيال والحقيقة في تصوير الحياة داخل (الحرملك) فكان نتاجهما هذه الكتب التي تطلع علينا بها - بين حين وأخر - دور النشر في الغرب. ومن الكتب القيمة الطريفة حول هذا الموضوع كتاب الذي وضعه المستشرق الإنجليزي بنزر، وكان ملماً باللغة التركية، عاش في الآستانة ردحاً طويلاً، وخبر الحياة التركية عن كثب. وقد وصف في كتابه هذا حياة القصور، لا سيما قصر سيراليو الذي كان يسكنه سلاطين آل عثمان من آلاف النسوة اللائى جيء بهن - أما بيعاً أو اقتساراً - ويصف منظر (الخصيان) وهم يرفلون في أزيائهم العجيبة، فلا عجب إذا اجتذب الغربيين هذا الوصف لحياة تكاد تكون من بنات الخيال، بل لقد يقصر الخيال في كثير من الأحيان عن أن يتطاول لبلوغ الحقيقة الماثلة في قصر سيراليون

يقول مستر بنزر في وصف الحرملك (إنه دنيا صغيرة، محكمة الإدارة، دقيقة السياسة، خلى إلا من النساء اللائى تعيش كل منهن من أجل واجب تؤديه. . . والحرملك، وإن كان مجتمع نسوة، إلا أنه كثيراً ما دبرت فيه المكائد، وشهدت جدرانه تدبير دسائس تقشعر لهولها الأبدان، كما كان حظ الكثير من نزيلاته الجميلات القتل بلا رحمة. وكم ضمت أمواج البسفور من فتيات غضب عليهن السلطان فأصبحن طعمة لحيتان البحر وأسماكه) أما الخصيان، فقد أخذ عددهم يزداد كلما اتسعت موارد السلطان. وكانوا في أول الأمر من البيض غير أنه سرعان ما حل محلهم السود لما طبعوا عليه من إخلاص لساداتهم، أما

ص: 74

البيض فكانوا أهل دس وغدر وفتنة. ومنذ القرن السادس عشر أصبح الحرملك يدبر أمور الدولة من وراء ستار. ولما نفى السلطان عبد الحميد إلى سلافيك عام 1909م، أذنوا له أن يصطحب معه في منفاه بعض المقربات إليه. أما الباقيات ويجاوزن بضع مئات فقد أصبحن بلا عائل. وقد وصف ذلك كله فرنسيس ماك كلاج في كتابه (سقوط عبد الحميد) فقال:(لقد جمعن في قصر (ثب كابو) في حشد عظيم، وإذ كان أغلب النسوة في حريم السلطان قوقازيات، وكن يؤثرن على غيرهن لجمالهن الرائع، فقد أبرقت الحكومة التركية إلى مختلف القرى القوقازية تعلن إليها أن لكل عائلة الحق في استرداد فتاتها من حريم السلطان سواء أكان أبواها قد باعاها أم اغتصبت من بين ذويها. ومن ثم وفد على القسطنطينية الكثيرون من جبلي القوقاز يخطرون في ثيابهم العجيبة، وحددت لهم الحكومة يوماً توافدوا فيه على قصر (ثب كابو) واستعرضوا محظيات السلطان سافرات بلا قناع. وكم كان منظر الفتيات وهن يرتمين في أحضان آبائهن أو أخواتهن مؤثراً، بعد أن حيل بينهم وبينهم، ويئسن من لقائهن. . . فهذا أب يقبل أبنته وقد اغرورقت عيناه بالدموع، وهذا أخ يعانق أخته بعد أن ظنا أن لا تلاقي بعد. ولشد ما كان التباين عظيماً بين لباس هؤلاء الجبليين ولباس بناتهم وهن يرفلن في غالي الثياب وأبهاها. وسرعان ما جمعت كل فتاة ملابسها، وغادرت القصر غير آسفة عليه، فبلغ عددهن يومئذ مائتين وثلاث عشرة انثى، اما الباقيات فقد اختار منهن الأمراء من اختاروا. . .)

هذا وصف شاهد عيان لمنظر من مناظر ألف ليلة وليلة. أما قصر سيراليو فقد خيم عليه الصمت كأنما استوحش من ساكنيه، حتى إذا كان عام 1924 جعلته الحكومة التركية من المنافع العامة، وطبعت من أجله دليلاً يشرح للزائرين ما يبهم عليهم إدراكه، وإذا كان الزائر لمصر لابد له من مشاهدة الأهرام وأبي الهول، فإن نزيل القسطنطينية اليوم ليهرع قبل كل شيء إلى قصر سيراليو فيمتثل صورة الحريم والترف في قصور السلاطين ويرى روعة الفن وجلاله، وكم شهدت حجراته من مآس ومسرات!

النضوج وضبط النفس

إذا نظرنا إلى الطفل وجدناه اكثر من غيره تبرماً بالتعب. فإذا أصابه الجوع أو ناله قليل من البرد أو الحر أو شعر بتقييد حريته فلم يستطع أن يتحرك كما يشاء، أو اعترته هزة

ص: 75

عنيفة بعامل من العوامل، فهو ولا شك عرضة للتهيج.

وإذا كان الطفل لا يعرف الأسباب التي تدعو إلى ما يشعر به من الألم، فإن احتجاجه عليه عادة يكون عنيفاً.

فإذا جاوز سن الطفولة وتعداها إلى سن النضوج، فإن شعوره بهذا التهييج يخف ويتغير. وليس معنى ذلك أن المراهق لا يشعر بالآلام إذا تعرض لها، ولكن شعوره بها يتغير كل التغير، حتى لا يبدو عليه شيء من مظاهرها.

فالشخص الذي لا يحتمل المشقات، ويضيق صدراً إذا لم ينل ما تصبوا إليه نفسه، ويهتاج لكل حادث، هو في الحقيقة شخص لم يصل شعوره إلى درجة النضوج. وكل إنسان ولا شك يكره أن يكون ذلك الرجل. فإذا أردنا أن نعرف حقيقة أنفسنا من هذه الناحية يجب أن نترك الحكم عليها للآخرين، وعلى الأخص هؤلاء الذين لا تجمعنا بهم روابط الصداقة.

فما مقدار الألم الذي يستطيع أن يحتمله عادة الرجل الكامل النضوج؟ إن نظرة بسيطة تدلنا على أن هناك اختلافاً كبيراً بين الأفراد من هذه الناحية. فقد رأينا أناساً يحتملون كسر العظام وقطع الأوصال، ورأينا بعضهم يقومون بإجراء العمليات الجراحية لأنفسهم وسمعنا بأشخاص تقطع أوصاله إرباً إرباً في بعض المحاكمات ليخونوا صديقاً أو يعترفوا عليه بما يؤذيه فلا يشكون ولا تتغير حالهم.

وعلى النقيض من ذلك نرى أناساً لا يطيقون أي نوع من أنواع الألم فيلجئون إلى العقاقير السامة كالكوكايين والمورفين لتخفيف آلامهم وكثيراً ما يعتادونها.

فهل هناك حد وسط بين هذين الحدين؟ هل توجد حالة طبيعية بين هاتين الحالتين؟ من المحتمل أن لا يوجد شيء من ذلك. وكل ما نستطيع أن نقوله: أن الرجل الصحيح يتجنب الألم بقدر الإمكان، فإذا ناله شر لابد منه فيجب عليه أن يتجلد له ويحتمله، ولا يفعل كما يفعل الطفل، وقد نستطيع أن نطبق هذا المبدأ على اوجه الحياة المختلفة، فنحن كثيراً ما نفعل أعمالاً لا نريد أن نفعلها، فبعضنا يرفعون عقيرتهم بالشكوى لأقل شأن، وبعضنا يتركون العمل الذي يشتغلون فيه بغير مبرر! فإذا فرضنا أنك أجبرت بحكم عملك على أن تكون مع شخص لا توده. فالرجل الناضج في هذه الحالة يحتفظ بشعوره نحو هذا الإنسان ويعامله بشيء من الحذر. أما شعور السرور الذي يتولانا في مجلس من المجالس، أو عند

ص: 76

مشاهدة تمثيل إحدى الروايات، فقد يثير في نفوسنا شيئاً من الضحك أو الهياج، وقد لا نستطيع أن نتكتم هذا الشعور، إلا أنه من الواجب أن لا نشوش به على الآخرين كما يفعل الصبيان، فسواء كنا في حالة من السرور أو حالة من الألم فالواجب علينا أن نتعلم ضبط النفس وكبت الشعور وإلا كنا غير ناضجين.

تجنيد الكلاب في الحروب

تدرب الكلاب في جميع أنحاء العالم للخدمة في الحروب. ففي روسيا أنشئت مدرسة في موسكو للكلاب، وفي اليابان أعدت أماكن فسيحة لتدريبها منذ 1933، وقد أعدت ميادين خاصة في بولندا وإيطاليا لتدريب الكلاب على الأعمال الحربية على اختلافها، وفي أستنيا تلازم الكلاب طلائع الجيش، أما في فرنسا فهي تدرب مع الجنود في كثير من الميادين.

وتستخدم الكلاب في حمل الرسائل إلى الفرق الطبية، وفي توصيلها إلى الحرس، حيث تجتاز الأماكن الوعرة، وتعبر الأنهار الواسعة لتوصيل رسائلها. وهي تدرك الممرضين في الميدان بما يحتاجون لتضميد الجراح، وهي تستطيع أن تحمل المؤن على ظهورها وتسير بها إلى مسافات بعيدة.

وقد كانت الكلاب تستعمل في الهجوم والدفاع منذ أقدم العصور. ويقول هيرودتس إن (سيرس) كانت لديه كلاب يستخدمها في الحروب. وفي كتاب بلوتارك أن الكلاب أبحث كتيبة (كورنيثيه) من الهلاك.

وكان فيليب المقدوني يستخدم الكلاب في حروب أرجول واستخدمها الرومان لحراسة الجيوش، وكان (السلت) يدربون الكلاب على مهاجمة الخيل، فتأخذها بخياشيمها وتسقطها في ميادين الحروب.

أما في القرون الوسطى فقد كثر استخدام الكلاب لهذه الأغراض، وقد كانت الفرق الأسكوتلندية تصطحبها على الدوام وكانت مدينة سان مالو تستخدم الكلاب في حراسة أسوارها إلى سنة 1770، وقد اتخذ نابليون الكلاب سنة 1799 لحراسة الجنود في مدينة الإسكندرية. واستخدم الألمان الكلاب لحماية الكتائب وحراسة الأقاليم والمعسكرات في سنة 1870.

وفي سنة 1895 قام كلبان بإمداد كتيبتين بالذخائر أثناء الحرب على أكمل وجه.

ص: 77

وفي سنة 1904 كان الجيش الألماني يستخدم 600 كلب من الكلاب المدربة على الحروب وآلافا من الكلاب الأخرى

أما فرنسا فقد بدأت تجنيد الكلاب في سنة 1916، وقد اجتمع في باريس 9000 كلب نظمت فرقا وأرسلت إلى الميادين للتدريب. وقد قامت تلك الكلاب بخدمات عظيمة مما كان ذكره موضع إعجاب المتحدثين.

آلة لقراءة الأفكار

اكتشاف عظيم سيحدث ضجة عظيمة في العالم! ذلك هو اختراع آلة لالتقاط الأفكار والخواطر التي تجول بذهن الإنسان! وليست هذه الآلة كالآلات المصورة التي يعرفها كل إنسان، ولا حلماً من أحلام رجال العلم. إنها مصورة تشتغل في كل مكان وليس إلا أن يرقد الإنسان على منضدة والآلة تسجل خواطره دون أي ألم أو ارتباك!

وللحصول على هذه المعجزة يكفي أن يكون عندك سلك موصل بآلة كهربائية وفلم نظيف وتحرك آلة تسجيل الخواطر. أنك لا تستطيع عند ذلك أن تخفي أسرار نفسك بحال من الأحوال.

قد تكون هناك بعض صعوبات في تسجيل خواطر بعض الناس ممن يفكرون في شئون مختلفة في وقت واحد، ولكن تلك الآلة تستطيع أن تركز ذهن الإنسان وتستخلص ما تشاء من أفكاره.

غير أنك عند تسجيل بعض الأفكار الهامة والمعلومات العلمية العظيمة، قد تصادفك خطوط مختلفة لعاطفة من العواطف الخاصة مما يستثير الضحك في بعض الأحيان.

ولا يستعصي على هذه الآلة إخضاع بعض العصبيين ومرضى الصرع والشواذ مما ينتظر أن يأتي بأجل الفوائد، ولا شك أن هذا الاختراع سيفتح أمام العلم باباً لا حد له من التفكير.

أي دنيا عجيبة سيلقى بنا فيها هذا الأكتشاف؟ وكيف نكون؟ وكيف تصبح حياتنا إذا كانت حتى خواطرنا لم تعد ملكاً لنا في هذه الحياة؟!

لقد مات جيتي وهو يقول: نور. . . نور! أين كانت هذه الآلة لترينا أي نوع من النور كان يريده الشاعر العظيم؟ أهو نور العبقرية ونور الروح، أم نور الشموع؟!

ص: 78

‌البريد الأدبي

حول جناية الأدب الجاهلي حديث لأديب مصري مصطاف في

لبنان

نشرت زميلتنا المكشوف البيروتية في عددها الأخير هذه الكلمة وهذا الحديث بإمضاء (جوابة) فرأينا من فائدة الأدب في ذاته أن ننقلهما عنها لا مقرين ولا منكرين، فإن رأي الرسالة في الموضوع قد صرحت به في العدد 316 فلا تسأل إلا عنه. قال الكاتب الفاضل:

أطالع منذ أسبوعين في مجلة (الرسالة) المصرية سلسلة من المقالات للدكتور زكي مبارك ينقد فيها آراء للأستاذ أحمد أمين أبداها في الأدب الجاهلي وجنايته على الأدب العربي ونشرها في مجلة الثقافة. وقد أختار الدكتور مبارك عنواناً لمقالاته (جناية أحمد أمين على الأدب العربي). ولاشك أن التهمتين مبالغ فيهما؛ فلا الأدب الجاهلي جنى على الأدب العربي بقدر ما يتصور الأستاذ أحمد أمين، ولا الأستاذ أحمد أمين جنى على الأدب العربي بقدر ما يتخيل الدكتور زكي مبارك. فما هو السبب يا ترى في إثارة هذا النوع من النقاش، بل هذه المعركة الحامية الوطيس بين الرسالة والثقافة؟

مما لاشك فيه أن هذه الأبحاث طريفة في حد ذاتها على ما يرافقها من مبالغات وعنف في العرض والرد واللهجة. ومما لاشك فيه أيضاً أنها تحث قرائح الباحثين، فيتناولون هذا الموضوع ويعالجونه في جو بعيد عن غبار المعركة. ولابد أن يجني الأدب فائدة تذكر من درس الأدب العربي على ضوء (المعدة والروح) على أن يقارن بينه وبين آداب الأمم في عصورها المتشابهة أو المتقاربة، وعلى أن تسلم النيات وتطيب الإرادات.

وقد اتفق لي منذ يومين أن التقيت في أحد المصايف أديباً مصرياً قدم إلى لبنان ترويحاً للنفس، فجرى بيني وبينه حديث عن المعركة التي أثارها الدكتور زكي مبارك وعن أسبابها الظاهرة والخفية، فصارحني محدثي برأيه. ولما طلبت إليه الأذن لي بنقل هذا الرأي إلى قراء (المكشوف) أوصاني بإهمال ذكر اسمه، معتذراً بأنه يفضل أن يتفرج على أن يدخل شخصاً ثالثاً في نقاش قد يضطره إلى الدرس والمراجعة، وهو ما جاء لبنان إلا للراحة والسكينة. . .

ص: 79

ونزولاً على مشيئة محدثي أكتم اسمه وأكتفي بنقل خلاصة أمينة لما قال:

- لا جدال أن النقد في مصر قد خفت صوته، ولذلك أسباب لا مجال للخوض فيها الآن. . . ومن الخير للأدب أن يعود النقد إلى سابق عهده فتروج الكتب والمجلات. وقد يسعف الحظ بعض الأدباء الناشئين فتلمع أسماؤهم في سماء الأدب وتقوم شهرتهم على جثث ضحاياهم، وهذه سنة الحياة. . . أما الدكتور زكي مبارك فلم أعرف أديباً أشد اندفاعاً منه في ميدان النقد، فكأنه مفطور عليه يموت إن لم يتغذ به. إنه حركة دائمة؛ وإن هو لم يجد من ينقد مال على نفسه ينقدها. ولست أشك في إخلاصه لفنه، إلا إنني أعيب عليه ميلاً قد يكون مكتسباً، إلى حمل خصومه على مناقشته في مواضيع دقيقة وحساسة في شرقنا العربي. أضرب مثلاً على ذلك اتهامه الأستاذ أحمد أمين بشيء من الفتور في دينه، وإلصاقه به تحيزاً ضد الشام والعراق وغيرهما من الأقطار العربية.

على أن أسباب المعركة القائمة الآن بينه وبين أحمد أمين، أو بين (الرسالة) و (الثقافة) ليست ناتجة - فيما أظن - عن الأخطاء التي ارتكبها أحمد أمين في بحثه عن جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي، بل يرجح عندي أن هذه الأخطاء كانت فرصة اغتنمها الدكتور لشن الغارة على أحمد أمين. أما الأسباب الحقيقية فترجع إلى المناوشات التي قامت في وقت ما بين الزيات وأحمد أمين من أجل الكتب التي قررت وزارة المعارف وضعها بين أيدي التلاميذ، ولم يكن بينها كتب الزيات. فاحتج صاحب (الرسالة) على هذا الاحتكار، واتهم أحمد أمين بكونه لولبه. وكان أحمد أمين صريحاً، فاعترف بأنه لم يوافق على إدخال مؤلفات الزيات في قائمة الكتب المقررة لأن فيها ما يؤذي الأخلاق. . .

واستمر هذا الخصام بين الزيات وأحمد أمين تارة مستتراً، وتارة ظاهراً، حتى ظهرت (الثقافة) وكان هدفها الأول محاربة (الرسالة). وفي الواقع من هم قراء الأدب في مصر؟ هم طلبة الجامعة في أكثريتهم، فلماذا لا تستغلهم لجنة التأليف والترجمة والنشر بمجلة توجه أبحاثها إليهم بعد أن استغلتهم بالكتب؟ وأكثر أعضاء هذه اللجنة من أساتذة الجامعة، فصدرت (الثقافة) يؤيدها خصوم الزيات من طه حسين، إلى محمد عبد الله عنان، إلى أحمد أمين، إلى غيرهم ممن أغضبهم الزيات لسبب من الأسباب في وقت من الأوقات. وهذه نوازع بشرية لا غرابة فيها، وإنما الغرابة أن يستطيع أحمد أمين الانتقام من الزيات ولا

ص: 80

يفعل!

وقراء الأدب في مصر محدودون، فكان بديهياً أن يتحول قسم كبير منهم من (الرسالة) إلى (الثقافة) وأن تحس الرسالة أنها لم تبق وحدها في الميدان. فاشتد النزاع واشتد. . . ورأينا الزيات يدخل على مجلته تحسينات وأبواباً جديدة، ثم لا يلبث أن يحاول اجتذاب طلبة الأزهر إليه فيجعل منهم حزباً يعضده على حزب الجامعة. ولا أدري أنجح في محاولته هذه أم أخفق. وكل ما أعرفه أن الثقافة راجت سوقها على ضعف مادتها، وعلى افتقارها إلى الروح الصحفية الحديثة.

فـ (المعدة) إذن كانت منشأ المعركة القائمة الآن بين أحمد أمين والدكتور زكي مبارك، أو بين الرسالة والثقافة. فإذا كان الأدب العربي أدب معدة في عصوره القديمة لا أدب روح، فمعلوم أن حياة الأديب القديم لم تكن هينة الموارد، فما بال الأستاذ أحمد أمين يتمسك في أدبه بما يعيبه على الآخرين؟. . .

انتهى كلام محدثي، وقد نقلته إلى قراء (المكشوف) بكل أمانة.

(جوابة)

بعثة عراقية إلى الأزهر

كان نوري باشا السعيد رئيس الوزارة العراقية قد كتب إلى رفعة علي ماهر باشا رئيس الديوان الملكي في صدد قبول الحكومة المصرية عدداً من طلبة العراق في الأزهر للتخصص في الوعظ والإرشاد، فتلقى نوري باشا من رفعته الرد التالي:

(تلوت بموفور السرور والارتياح خطابكم الكريم الذي ضمنتموه عزيز أمنيتكم أن تقبل الحكومة المصرية عدداً من طلبة القطر العراقي الشقيق للتخصص في مسائل الوعظ والإرشاد، وقد بادرت بعرض الأمر على جلالة مولانا الملك المعظم، ثم اتصلت بفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر في هذا الشأن، وقد اتفق على قبول عدد من الطلبة بقدر ما يستطاع توفيره له من أماكن، ستبلغ نحو العشرة.

ولا أراني في حاجة إلى أن أؤكد لدولتكم أن من أحب الأشياء إلي العمل ما أمكن على ازدياد روابط البلدين إحكاماً وقوة، وإننا جميعاً يسرنا أن نبذل أقصى الجهد في تحقيق هذه

ص: 81

الغاية الشريفة.

(علي ماهر)

الحمد لله على نعمة الإسلام

امتاز الإسلام من بين سائر الديانات بمزية جميلة جداً، هي رفع الوساطة بين الله والناس، فلكل مسلم الحق في أن ينظر إلى الله والوجود كيف شاء في حدود المنطق والعقل، ومن حقه أن يخاطب الله بلا وسيط من الأشياخ أو الأحبار أو الرهبان.

أقول هذا وقد قرأت في (الرسالة) كلمة يقول كاتبها إن من حقي أن أتتكلم في الأدب لأني دكتور في الآداب، وليس من حقي أن أتكلم في الدين لأني لست دكتوراً في الدين.

وهذا الكلام يدل على أن قائله بعيد عن فهم الغرض من الرسالة الإسلامية. فالرسول عليه الصلاة والسلام بُعث لرفع الكلفة بين الناس وبين خالقهم، بعد أن كانوا يتوهمون أن بينهم وبينه حجاباً لا يرفعه غير الأحبار والرهبان.

ولو أني انتظرت الإذن من رجال الدين لكان من المحتوم أن تضيع الجهود التي بذلتها في الدراسات الإسلامية، وهي جهود سألقى بها الله وأنا مرفوع الرأس، لأنه عز شأنه لا يضيع أجر المحسنين.

والذين استكثروا أن أتكلم في الدين فاتهم أني صححت أشنع خطأ في تاريخ التشريع الإسلامي حين بينت بالأدلة والبراهين أن كتاب (الأم) لم يؤلفه الشافعي، وإنما ألفه البويطي المصري، وتصرف فيه الربيع بن سليمان.

وهم كذلك ينسون أني صاحب كتاب (التصوف الإسلامي) وهو كتاب سأدخل به الجنة وسأدخل معي على حسابه ألوفاً من الأدباء المحرومين، كما أوحى الله إلى الزيات أن يقول، وهو رجل صادق الإيمان، ورجاؤه في الله مقبول.

والحق أني أعجب من الذين يصرون على التشكيك في عقيدتي. فلو كانت قلوب هؤلاء عرفت معاني النور لعرفوا أن في مؤلفاتي نفحات هي أنفاس حرار من وهج الإيمان الصحيح.

وما يهمني أن أزكي نفسي، فالله يعلم ما بينه وبيني، وإنما يهمني أن يقلع بعض الناس عن

ص: 82

اغتيابي في السر أو مهاجمتي في العلانية في أمور متصلة بالدين، فإني أخشى أن يغضب الله عليهم فلا يبوءوا بغير الخسران.

وإني لخليق بأن أرجو لهم المغفرة متمثلاً بالقول المنسوب إلى الرسول:

(اللهم اهد قومي، فإنهم لا يعلمون)

وإلى الله أرفع الرجاء في أن يصيرني من المعفو عنهم، وأن يجعلني بفضله من عباده الصالحين، وأن يمنحني من العافية ما أملك به الصبر على خدمة الأدب والدين.

زكي مبارك

سعد وسعاد

قرأت ما كتبه الصديق العلامة الأستاذ عبد المتعال الصعيدي وأبادر فأقول: إن مروان ليس بدلاً من الخليفة بل من (وإلى تلك الجهة) وبذا يرتفع الأشكال، وأحسب أن طول العبارة ألقى عليها ظلاً من اللبس.

ولا أكتم شيخنا الجليل أنني سررت بوقوعه في هذا الاشتباه فقد أغضب (سعاد) حين قسا على قومها في مقاله (بنو عذرة) وتابع الخليفة عمر بن عبد العزيز في نظرته إليهم، فكان من حقها أن تثأر منه لهم! فهل يؤمن بعد هذا بان للجمال (كرامات)؟

أما القصة فقد وردت مختصرة في بعض الكتب أذكر منها نهاية الأرب للنويري. وقد تكون صحيحة أو موضوعة لا أستطيع الجزم بشيء منهما، فوجدت فيها مجالاً واسعاً للتحدث عن البدو في حبهم وعفتهم وزواجهم وعاداتهم، فهي تخالف ما سبق من المقالات بان حظها عظيم من الخيال، ولكنه خيال يسامي الحقيقة في الصدق لأنه يتكئ عليها وينبثق منها. بل لقد توسعت في بعض المواقف فانطلقت سعداً بشعر لم يقله، لأن المقام يحتم ذلك وأدب القصة يبيح هذا التوسع.

وإني لأنتهز هذه الفرصة فأهدي إلى فضيلة الشيخ الصديق أزكى التحيات المباركات.

ملحوظة: ورد في المقال الثاني شطر بيت هكذا: أو صاحب التاج أو مروان عأهله، وصحته عامله.

علي الجندي

ص: 83

سعد وسعاد ومعاوية بن أبي سفيان

قرأت المقال الثاني لصديقي الأستاذ علي الجندي فرأيته يجعل ذلك الوالي الذي أغتصب سعاد من ابن عمها سعد، مروان بن الحكم، فزاد هذا تلك القصة اضطراباً. وقد رأيت بعد هذا أن أراجعها في مظانها، ولم يحملني على هذا إلا استبعادي أن يقع مثل ذلك من مروان في مكانته وزعامته لبني أمية، وأن يظهر في تلك القصة بمظهر الوالي الذليل لمعاوية، وهو الذي كان يساميه في نسبه وزعامته لتلك الأسرة الحاكمة من قريش، وقد كان معاوية يلانيه ويداريه، ولا يعامله بتلك الخشونة التي عامله بها في تلك القصة، حتى إنه لما عهد لابنه يزيد كتب إلى مروان يأمره بأخذ بيعة قريش وأهل المدينة ليزيد، فأبى ذلك وأبته معه قريش، ثم ذهب إلى معاوية مغاضباً في نفر من أهل بيته، وأنكر عليه خروجه على ما سار عليه الخلفاء قبله من جعل ذلك الأمر شورى بين المسلمين، وتأميره الصبيان عليهم، فأهم معاوية أمره، واشترى رضاه بالمال، ففرض له ألف دينار في كل هلال، وفرض له في أهل بيته مائة مائة

ولم تخطئ والحمد لله فراستي في ذلك، فقد راجعت تلك القصة في كتاب تزيين الأسواق بتفصيل أشواق العشاق للشيخ الفيلسوف داود الأنطاكي الطبيب المعروف، فوجدته يذكر أن ابن عمها لما أملقت يده رفع أبوها أمره إلى ابن أم الحكم، فضيق عليه السجن والقيود حتى طلقها كارهاً، فأعطى أباها عشرة آلاف درهم وتزوج بها. ولاشك أن ابن أم الحكم غير مروان ابن الحكم، لأن ابن أم الحكم هو عبد الرحمن بن عبد الله الثقفي وقد اشتهر بنسبته إلى أمه أم الحكم بنت أبي سفيان بن حرب الأموي، وكان خاله معاوية يوليه أعماله فيسئ السيرة فيها، وهو الذي يليق بأن ينسب ما حصل في تلك القصة.

على أني أرى أن تلك القصة من القصص الموضوعة الضعيفة في سبكها وشعرها، فقد جاء فيما نسب إلى معاوية من الشعر فيها هذا البيت:

قد كنت تشبه صوفيَّا له كتبٌ

من الفرائض أو آيات قرآن

ومثل هذا لا يمكن أن يقال في عصر معاوية، لأن نظام التصوف لم يكن قد حدث في ذلك العصر، ولم يكن فيه كتب في التصوف يحملها المتصوفة أو غيرهم. وكل أشعار تلك

ص: 84

القصة على ذلك الشكل من الضعف الذي لا يتفق مع شعر عصر بني أمية في سائر فنونه، وإنما هي أشعار موضوعة في العصر الذي ألف فيه كتاب تزيين الأسواق، وهو العصر الذي وصلت فيه العربية إلى حالة الضعف في أدبها وأشعارها.

عبد المتعال الصعيدي

الدين والسياسة

جاء في مقال الأستاذ الجليل ساطع الحصري بك في العدد (317) من الرسالة: (من أن السياسة شيء والدين شيء آخر) وإطلاق هذا القول في بلد دين دولته الإسلام، ودين شعبه الإسلام، لا ينصرف معنى الدين فيه إلا إلى إسلام.

ونحن نعلم أن الأستاذ ساطع بك من أكابر علماء التربية وأساطينها، وإنه أن قال فيها فقوله القول، ولكنا لا نعرفه عالماً بالدين الإسلامي، ولو اطلع على الإسلام لما أخذ رأي الأوربيين في وجوب فصل الدين (المسيحي) عن السياسة ولما أطلقه على الدين الإسلامي إذ أن معنى الدين عند القائلين بهذا المبدأ ما يحدد علاقة الإنسان بربه أو ما يسمى في فقهنا بالعبادات، وهذا الذي يريدون أبعاده عن السياسة، كما أنهم يريدون الخلاص من سلطة الكنيسة وسيطرة رجال الدين. وهذان الأمران لا يردان على دعاة السياسة الإسلامية لأنهم يسلمون بان الإسلام عبادات ومعاملات وتشريع. أما العبادات فبين المرء وربه لا تدخل في السياسة ولا تؤثر فيها، أما المعاملات والتشريع فلا يمكن فصلهما عن السياسة أصلاً، وفي القرآن نفسه آيات في السياسة الداخلية والخارجية وفيه سورة براءة، أفنفصل هذه الآيات كلها عن القرآن؟ أما سلطة رجال الدين فلا يعرفها الإسلام وليس فيه طبقات تتميز من طبقات، أو أناس هم وكلاء عن الله.

وأحسب أن الأستاذ الحصري لو اطلع على كتاب (السياسة الشرعية) مثلا للأستاذ الشيخ عبد الوهاب خلاف أو (الشرع الدولي في الإسلام) للدكتور الأرمنازي أو كتب العلماء المتقدمين من أمثال ابن تيمية وابن القيم قبل أن يكتب ما كتب، لكان له في الموضوع موقف آخر.

(دمشق)

ص: 85

ناجي الطنطاوي

كشف أثري في شمال الترنسفال

تلقت جريدة (السنداي تيمس) من مراسلها بيتروسبورج كتاباً قال فيه: إنه كشف في شمال الترنسفال أخيراً صورة ملونة يعتقد أنها من صور قدماء المصريين، فأثار هذا الكشف عناية العلماء هناك وكان موضع اهتمامهم.

فإذا صح ما زعمه مراسل الجريدة، وثبت أن الكشف مصري قديم، فمعنى ذلك أن كل ما دون عن أفريقيا الجنوبية في عصور ما قبل التاريخ ستعاد كتابته من جديد.

وقد عثر على هذه اللوحة في مغارة تقع فوق رابية من ربى مزرعة المستر (ج. جادا) التي تبعد اثني عشر ميلاً عن مدينة بوتجيتر ستراست.

وأرسل صاحب المزرعة كتاباً إلى الدكتور بروم، العالم الأثرى الشهير، يبلغه فيه نبأ الكشف الجديد، ويطلب إليه زيارة المزرعة ليرى تلك اللوحة التي أثارت في الأيام الأخيرة اهتماماً غير قليل، إذ المعروف حتى الآن أنه لم تكشف صور ملونة من أصل مصري قديم في بلاد تتعدى مواقعها جنوب منابع النيل.

ولاشك أن زيارة الدكتور بروم ستجلو الغموض الذي يلابس هذا الكشف الجديد، وخاصة أن المصريين القدماء كانوا يتخذون في رسومهم قاعدة خاصة لا يخطئ معها الإنسان في أن يعرف إذا ما كانت هذه المخلفات من آثارهم أم لا.

لقد أثبتت الآثار المصرية التي أمكن العثور عليها في مختلف السواحل الأفريقية أن قدماء المصريين تمكنوا بواسطة طرقهم الملاحية، من أن يصلوا إلى تلك الجهات، ولكن الكشف عن مثل هذا الأثر الجديد في بقاع داخلية متوغلة يعد ظاهرة جديدة يحتمل معها كثيراً أن يكون قدماء المصريين قد توصلوا في عصور ما قبل التاريخ إلى تأسيس مستعمرات لهم في أفريقيا الجنوبية. . .

إهداء أوراق خطية قبطية إلى مكتبة جامعة كمبردج

أعلن عميد جامعة كمبردج أن السر هربرت تومبسون الأستاذ السابق بكلية ترنيتي أهدى إلى مكتبة الجامعة عدداً من الأوراق الخطية القبطية القديمة، يتراوح بين ثمانين وتسعين

ص: 86

ورقة.

وترجع أهمية هذه الأوراق إلى أنها تمثل أشكالاً مختلفة للحركة الأدبية في العهود التي جاءت بين القرن الخامس إلى القرن الثامن، وقد وجدت هذه الأوراق في الدير الأبيض المشهور في جوار أخميم.

حول الفن المنحط - كلمة أخيرة

أساء الأستاذ أنور كامل فهم الروح التي أملت علي كلمتي المنشورة في العدد 316 من الرسالة تحت عنوان (فن منحط برغم ذلك) والتي أثارت الأستاذ والجماعة التي فوضت إليه أمر الكلام عنها - ومن حقي أن أعتقد أن الأستاذ على استعداد لمناقشة الآراء التي يستهدي بهديها بعد أن قال عن جماعته: (وأغراضها تنحصر في الدفاع عن حرية الفن والثقافة وفي نشر المؤلفات الحديثة وإلقاء المحاضرات. .)(الرسالة عدد 315 ص 1426) وقد أتحت له بكلمتي هذه فرصة طيبة للإعلان عن جهود جماعته في مجلة عالية كالرسالة؛ ولكن الأستاذ تخاذل ونشر في العدد 317 من الرسالة كلمة تختلف في روحها اختلافاً كبيراً عما نشره في العدد 315، وترك الفرصة تفلت من يده لا لشيء إلا لأنه لا يمكنه الدفاع عن الفن الذي يروج له، لا عن طريق الفكر المنطقي المقنع ولا عن طريق البيان الذي يلهمه الإيمان الحار الذي يتدفق من القلب ويتصل بالقلوب مباشرة فتقنع به. ومن الراجح (كما هو ظاهر لكل قارئ) أن الرسالة لم تنشر الرد الذي بعث به إليها الأستاذ كاملاً بل حذفت منه ما لا يتفق مع أدبها العالي ومستواها الرفيع. وأنا لا يهمني أن يسبني الأستاذ الفاضل ولن أتأثر لما ينال شخصي من الأحوال، وإني أؤكد للأستاذ ولأسرة الرسالة أني كتبت ما كتبت مؤمناً بأن الفن الحديث متاهة يضل فيها الكثيرون وأن المناقشة فيه ودرسه خير طريق لتمحيصه ومعرفة حقه من باطله فقد يدلني الأستاذ كامل على ما أجهل وقد أدله على ما يجهل.

وأعيد هنا أني رأيت طرفاً مما رسمه بعض أعضاء الجماعة. وإني لأكرر بكل قواي أنه فن منحط؛ فرسومهم تستند إلى مذهب السير ريالزم وهذه حركة فرنسية محضة باعثها الأول نظريات العالم سيجموند فرويد. وللدلالة على طبيعة اتجاه هذه الحركة نقتبس قول أحد أقطابها وهو الأديب اندريه بريتون

ص: 87

(إن نزوات الأفكار في الأشخاص المعتوهين تتفق اتفاقاً مقرراً مع بعض افتراضاتي العزيزية. إن ظاهرة الكتابة الآلية قد تأتي بنتائج مدهشة. نحن لا نعترف بشيء مطلقاً. إننا نعتقد بقدرتنا على اختزال أو التغلب على العقل والاحساسات الجميلة. نحن نحس العطف على كل الأحزاب الثورية. نحن لا نؤمن بالتقدم الإنساني. إننا نريد أن ندعم كل حركة معارضة بعنف مجازفين بأعمارنا. الزمن لا وجود له، إني أفضل أن أحطم على أن أشيد. نحن نصر على مراجعة القيم الفنية مراجعة كاملة. نحن لا نؤمن بالنبوغ الأدبي؛ والصفة الأدبية ليس لها إلا قيمة ثانوية. إننا ننقم على الحقيقة الحاضرة).

وأظن أن الحركات الفنية لا تنقل بمثل هذه السهولة من قطر إلى آخر. . . دعك عن حديث الشخصية والإلهام. . .

أما الشطر الاجتماعي من جهود الجماعة فإني أتمنى له الازدهار والأثمار المبكر وأقدم اعتذاري للأستاذ الذي ثار وهاج لأني وضعت فيه ثقتي ودعوته دعوة بريئة للحديث عن الفن.

وكان كاتب هذه المقالات قد وعد قراء (الرسالة) بسلسلة مقالات عن الفن. وقد قاربنا الانتهاء من إعداد هذه المقالات وسننشرها في الرسالة قريباً تحت عنوان (الفن كما أؤمن به) وبذلك نؤدي ما نعتقد أنه واجبنا المحتوم.

نصري عطا الله سوس

ص: 88

‌الكتب

فرعون الصغير

وقصص أخرى

تأليف الأستاذ محمود تيمور

للدكتور إسماعيل أحمد أدهم

يعتبر القاص محمود بك تيمور أشهر الكاتبين للأقصوصة في العالم العربي. وقد أصدر إلى اليوم نحو عشر مجاميع قصصية تحتوي على نيف ومائة أقصوصة تمتاز كل واحدة منها بطابعها المحلي، وقد ترجم بعض هذه الأقاصيص إلى الألمانية، والبعض الآخر إلى الفرنسية. كما ترجمت أقصوصة له إلى الإيطالية كنموذج من فنه القصصي. وقد نالت أقاصيص محمود تيمور شيئاً من التقدير في الدوائر الأدبية الغربية، ذلك أنه صاحب اقتدار على كتابة الأقصوصة، وهذا الاقتدار يجيء في الأصل من طبيعته الفنية التي دارت حول الحياة ومشاهدها ومجاليها، متأثرة من جهة بأجواء القصص الأوربي، ومن هنا ما في أقاصيصه من شدة الصلة بأقاصيص جي دي موباسان، وتشيكوف، وذاهبة من جهة أخرى تنقل عن المحيط المصري، ومن هنا ما في أقاصيصه من الطابع المحلي.

وتيمور بك فنان يرتبط نظره بصور الأشياء، ومن هنا ترى ما في أقاصيصه من الرجوع إلى الحياة، والنقل المباشر عن مرائيها ومظاهرها. ولهذا كان إبراز مظاهر الحياة في أقاصيصه مرتبطاً بقدرته على الوصف، والوصف عنده هادئ، ومن هنا يغلبه بعض من التدقيق، وعلى هذا الوجه فقط يمكن فهم منحى تيمور بك الفني في أقاصيصه. وربما كان ما في طبيعته من الهدوء هو الأصل في غلبة النزعة الواقعية الساذجة التي تتراءى للنظر من آثاره. فالهدوء يفسح لعقله المجال للتداخل لتصفية ألوان الشعور وضبطها في نسب دقيقة مع الفكر، بحيث يسوق إلى خلق توازن بين العقل والمشاعر، وهذا التوازن يحمل الواقعية حين يتصل بموضوع أقصوصة. وهو عادة يدور من ناحية شكلية، فتجد نظرة محمود تيمور ترتبط بمظاهر الأشياء وسطوح الحياة، ومن هنا يمكن أن نقول بأن الأصل الواقعي في فن تيمور بك ساذج إذ هو نتيجة للوصف الحسي.

ص: 89

وخير ما يقال في أقاصيص تيمور بك أنها قطع من الحياة منتزعة في كل بساطة وصدق. فهي صفحة ساذجة من الحياة؛ إن لم تر موضوعاً فيها تدور حوله الأقصوصة، أو غرضاً ترمي إليه، فإنك تستشف من وراء أقاصيص الرجل صفحات من الحياة يعرضها عليك في دقة مشهورة بأسلوب الوصاف لا بريشة الرسام أو المصور.

وتعتبر (المجموعة) التي أصدرها في هذه الأيام من خير مجموعاته القصصية، وهي مصدرة ببحث عن المصادر التي ألهمته الكتابة. وهذا البحث في الأصل محاضرة ألقيت بقاعة يورت بالجامعة الأمريكية مساء 5 مارس سنة 1938. وقد وفق فيها تيمور بك إلى حد كبير في سبر غور الموضوع الذي يطرقه، كما نجح نجاحاً يذكر في الكشف عن العوامل التي اكتنفته فوجهته توجيهاً أدبياً صرفاً، وعملت على طبعه بطابع خاص. ومن رأي تيمور بك أن العوامل التي تحدد كل جانب وتكونه هي ثلاثة أمور أساسية: وراثة وبيئة وحوادث، تتدخل فتجري مجرى الحياة الباطنية من طريق إلى آخر. ويرى هو أن عامل الوراثة يتمثل معه فيما أورثه إياه والده من حب الكتابة، وشقيقه المرحوم محمد تيمور من حب الأدب القصصي. وهذا العامل قد ساقه بتداخله مع بيئته إلى الأدب، كما أنه يرى أهم العوامل التي أثرت فيه متصلة بأسباب مطالعته. وأهم الكتب التي تركت آثراً في ذهنه: هي ألف ليلة وليلة، وأقاصيص موباسان، وتشيكوف. على أننا نلاحظ على هذا الفصل أن الكاتب وقف في بسطه للموضوع وسبر أغوار نفسيته عند الجمل. فلم ينزل به إلى التفاصيل التي تعين على رسم صورة حقيقية دقيقة عنه.

وفي هذا الفصل مطالعات تستوقف النظر: أهمها رأي الكاتب في (ألف ليلة وليلة)، وتفسيره لقوة الخيال فيها بأنها ترجع إلى كونها - جاءت عن طريق الفرس - وهذه ملاحظة قيمة لها دلالتها القوية على بعد نظر الكاتب وعدم جريه وراء الأوهام التي يجري وراءها بعض الذين يكتبون في الأدب العربي من الكتاب المعاصرين.

أما المجموعة نفسها، فتحتوي على اثنتي عشرة أقصوصة، تستهل بأقصوصة (فرعون الصغير). وهي أقصوصة يبرز فيها اللون التخيلي من حيث يتغلب على بناء الأقصوصة الجو الخيالي. على أن هذه التخيلية عند الكاتب في هذه الأقصوصة تجعل فكرة الأقصوصة غير متسقة في أجزائها. ففي هذه الأقصوصة تجده يصور الشاب بطل الأقصوصة شاباً في

ص: 90

سن السابعة عشرة - مدفوعاً إلى ذلك بفكرة أولية، هو أن يخلق صلة شبه بين الشاب والفرعون الصغير توت عنخ أمون الذي مات في السابعة عشرة، أو الثامنة عشرة من عمره - وهذا التصوير الأنيق في بناء القصة مع الدور الذي يقوم به الشاب من أنه تخلف عن داره وبات خارجها مع الأمريكية الحسناء.

وفي الأقصوصة الثانية وهي (غريم) تجد تيمور بك يقيم هيكل أقصوصة على أساس من تنازع العواطف، وهذا ما تراه واضحاً في شخصية رشدية يسري. وهذا اللون الباطني وإن كان خفيفاً في هذه الاقصوصة، فهو يعود إلى علم النفس الحديث، والتأثر بالفريدوية واضح فيها. على أنه في وصفه لشخصية رشدية يسري تتنبه فيه ملكته الواقعية الساذجة؛ فتراه يعمد لتصوير شخصيتها في دقة وبساطة. وهي في تصويره لشخصيتها يبدو وبيده ريشة المصور من حيث يستخدم الألوان ويمزجها لخلق الأطياف والظلال. على أنه في تصويرها يبدو لي وكأنه نظر لقصة بنت يزيد لرفيق خالد بك القصصي التركي الكبير حين عرض لتصوير (زليخا) بطل قصته.

وفي الأقصوصة الثالثة وهي (حزن أب) تجد تيمور بك يبرز شخصية (الشيخ عساف) في صورة إنسان قد توزع فيه الإحساس بعد أن صدم بوفاة أبنه، وهو ينتهي من تصويره بأن يريك الأب قد انتحر. . . وبهذا تخلص من توزع مشاعره واحساساته. وجو الأقصوصة يوحي بلون باطني، ولكن لا يكاد يستشف منها، وإن أمكن إدراك لونها، بأن تترك القصة توحي إليك بجوها ألوانها الباطنية. وهكذا يمكنك أن ترى من مجرى حوادث الأقاصيص أن التخيلية من جهة والباطنية من جهة أخرى أخذت تطغي على الواقعية الساذجة، ولكن بدون أن تغرقها. وهذا التطور عند تيمور بك طبيعي لأنه رجل فنان وفنه يستولي عليه، ويختار التعبير الذي يتسق مع الجو الذي يضطرب في طوايا نفسه.

والحق أن هذا التطور عند تيمور بك يعتبر تلطيفاً لجمود الواقعية. والأصل الواقعي ثابت من نفسه بعد ذلك، ولا أدل على ذلك من ظهوره بصورة خيوط تتعارض في نسيج أقاصيص الرجل. . .

هذه مجموعة أقاصيص (فرعون الصغير) وهي مجموعة طيبة من الأقاصيص تدل على تطور الفن القصصي عند تيمور بك ولكن مع استناده إلى الأصل الثابت من نفسه، وهي

ص: 91

من هنا خليقة بالعناية والتدقيق والاعتبار من أدباء العربية.

إسماعيل احمد ادهم

وقع خطا في ردي الأخير على الدكتور بشر فارس وهو ورود كلمة الإنجليزية وكأنها تنظر إلى كلمة الفرنسية والصحيح أن الكلمة الفرنسية تنظر إليها في الإنجليزية كلمة أو وقد استعمل الوجه في ترجمته لكتاب دوركايم. كذلك جاء في المقال ص1524 س1 كلمة الغمزات مكان الفراسة كما جاءت في أكثر من موضع كلمة التقدير مكان التقرير. كما ورد ص 1526س10 كلمة التقدير زائدة. ولهذا لزم التنويه.

1

1

ص: 92