المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 32 - بتاريخ: 12 - 02 - 1934 - مجلة الرسالة - جـ ٣٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 32

- بتاريخ: 12 - 02 - 1934

ص: -1

‌في الأقصر.

. .

- 2 -

كان (ترجماننا) الأمي (ضاوي) يشرح للأساتذة الجامعيين والثانويين حديث تحوتمس الثالث مع أخته العاشقة، ووجوه التماثيل الواجمة غارقة في صمتها الناطق، تتراكم على قسماتها أنظار الخليقة، وتجثم على شفاهها أسرار القرون، ورءوس الأعمدة القائمة ناتئة في أشعة الشمس كالمزولة الهائلة، ترسم بظلالها الوريفة تعاقب الساعات منذ آلاف السنين! وكانت عيناي الحالمتان قد وقفتا على تمثال من تماثيل رمسيس الأكبر، يخطو إلى الأمام خطى المصمم الواثق، وبإحدى يديه مفتاح الحياة يجتاز به موت الساعة إلى خلود الأبد

والخلود حلم الفراعنة الدائم وهواهم الملح، أخطره ببالهم قبل الناس ما مُتِّعوا به من فيض الحيوية وخفض العيش ونفوذ السلطان واكتمال اللذة، فلو أنهم عاشوا على جدب من الإقليم، وحرب مع الطبيعة، وهوان على الدهر، لاستشرفت نفوسهم للبلى، واستهلكت عقولهم للعدم

خلّد الله الروح وحاول الفراعين تخليد الجسد! وما يدريك لعلهم كانوا يظفرون بهذا الخلود لو خلى الناس بينهم وبين الزمن. لقد قهروا الفساد والدهر وقهرهم اللص والفاتح! فمنذ خمسة وعشرون قرنا ما برحت يد الإنسان تبعث بهذي الجسوم والجروم! جرب القدر عليها حقد قمبيز، وعبث الاسكندر والقيصر، وورع تيودوسيوس وعمرو، وزهو المأمون ونابليون، وعلم مسبيرو وكارتر، فقطع بعض الرقاب، وقوض بعض الأنصاب، ونبش بعض القبور، ولكن بسمة رمسيس لا تزال كما أراها تناجز الفناء وتعاجز القدر!! وأي سبيل بعد ذلك إلى بِلاها ومسلاتها في العواصم الأوربية، ومخلفاتها في المتاحف الأثرية، باقية ما بقيت الأرض؟!

صعد بنا الدليل باب المعبد في سلم جانبي حديث يقوم عن شماله، ولو قلت لك البرج بدل الباب لقربت إليك وصفه! فهو سطح عريض من ضخام الجلاميد تكدس بعضها فوق بعض كما ترى في الهرم، أشرف من شرقه على ما بقى من صخور السقف فوق الأساطين، وتراءى من النصب خلال الاواوين، وطعن في السماء من أسنة المسال؛ من غربه على طريق بين صفين متوازيين من الكباش الرابضة في حجم البقر، يسايره النظر والفكر إلى

ص: 1

مرفأ كان ولا شك ينتهي عنده قبل أن يأخذ النهر من الساحل الغربي ألف متر

في هذا الطريق كانت تخرج الجنائز الملكية من المعبد إلى نهر الحياة فتعبره إلى مراقدها الصخرية الآبدية في جوف الجبل، وفي هذا الطريق كان يسير موكب أمون السنوي إلى النهر، أمامه زُمَر المهرجين والمشعوذين يدورون على الارجل، ويمشون على الأيدي، بين أخلاط من باعة الفاكهة وشواة الإوز والبط، ثم يلي هؤلاء جوقات الموسيقى تصدح بالأهازيج، وطبقات الكهنوت تعج بالأناشيد، وحاملو الأصنام والبنود يسيرون بها وئيدا في خشوع ورهبة، حتى إذا بلغوا المرفأ تقدموا بامون فجعلوه في فُلكه الذهبي، وبالآلهة الأخر فوضعوا كل إله وكل الآهة في زورق خاص، ثم يسير الفلك بالاله الأكبر متنزها على النهر، تتهادى من ورائه زوارق الآلهة على الماء، وتهلل من حوله جموع الناس على الشاطئ!

من العسير على النفس الشاعرة ان تعيش في حاضرها بين هذه الأخيلة والصور! فحيثما أرسلت طرفك أو نقلت خطاك وجدت حجرا يكلمك أو أثرا يلهمك! هذا التمثال الذي تراه أمامك، أتراه أمامك، أتدري كم مرة طالعته الشمس، وكم نظرة نظرته الناس، وكم وقفة وقفها الناس عليه أقوام من قبلك بعضها لتقديس، وبعضها للتدنيس وبعضها للعبرة!!

أنك لتغرق من هذا الماضي الحاضر من فيض التأمل العميق الهادئ، يقطعك عن الدليل، ويفردك من الجمع، فلا تجد - متى عدت لحظة إلى نفسك - الدليل الذي كان يخطب، ولا الحشد الذي كان يسمع، ولا العربة التي كانت تنتظر!

خرجت فيمن تخلف في المعبد من الأصدقاء الشعراء وأخذنا نسير الهوينى في طريق الرمل حتى أدركتنا في بعضه عربة أقلتنا إلى الفندق

وفي الأصيل المونق من هذا النهار المشرق خرجنا نشهد وداع الشمس الغاربة لأطلال معبد الأقصر

ومعبد الأقصر كذلك أجمة من العمدان الباسقة المتشاجنة نتأت على سيف النهر في طول ثلثمائة متر بمشيئة آل أمينوفيس ورمسيس الاكبر!

وأول ما يملك عليك عقلك وقلبك فيه منظر يجمع تاريخ الوادي ويختصر أطوار العقيدة: ذلك منظر المسلة في المعبد، والبرج في الكنيسة، والمأذنة في المسجد!

ص: 2

تجاورت هذه الثلاثة في هذا المكان منذ قرون تجاور الخصوم اللدِّ، لا يسفر بينها سلام، ولا تقطع حروبها هدنة!

ومن الغريب المعجز أن تصمد هذه الأوثان لهجمات المسيحية والإسلام، صمودها العجيب لعاديات الليالي والايام!. .

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌لحظات

للدكتور طه حسين

أتعرف هذه اللحظات القصار المفاجئة التي تعرض لك من حيث لم تكن تقدر ان تلقاها كأنما كانت تكمن في بعض أنحاء الزمن، حتى إذا قربت من مكمنها خرجت عليك بما يملؤها من قوة وحدة، وبما تستطيع ان تثير نفسك من حزن عريض عميق أو أمل واسع مبتسم. فوقفتك في طريقك الزمني واضطرتك بعد وقفة قصيرة إلى أن ترجع إلى الماضي البعيد والقريب تستحضر ما كان فيه من أحداث وتحس ما ترك في نفسك من ذكرى، أو تضطرك إلى أن تثب وثبة بعيدة إلى مستقبل الأيام، فإذا أنت تشيد القصور وتتخذ من الخيال أحلاما حلوة تحبب إليك الحياة وتملأ قبلك بالصفح عما جنت عليك من السيئات.؟

أتعرف هذه اللحظات القصار المفاجئة الخصبة التي لم تكن تقدر في وقت من الأوقات أنها ستعرض لك أو أنك ستعثر بها، ولكنك خرجت ذات يوم من دارك تسعى فيما يسعى الناس فيه من جدة الحياة وهزلها، وتبلو ما يبلو الناس في سعيهم من حلو الحياة ومرها، فإذا لحظة من هذه اللحظات قد سقطت عليك كما يسقط الجدار على الغريب الذي مر به مصادفة وهو يميل إلى السقوط. أو عنت لك ثم مثلت أمامك كما يعن الشيء النفيس لبعض المارة ثم يمثل بين أيديهم حين يصلون إليه، وإذا هم وقوف أمامه قد أخذتهم الحيرة ثم غمرهم السرور؟ أتعرف هذه اللحظات القصار المفاجئة التي يضمرها لك الغيب ويخفي عليك بوادرها وطوالعها ثم يفجأك بها على غير انتظار، كما يلقاك الرجل تعرفه أو لا تعرفه فيلقي إليك نبأ من الأنباء لا يرى له خطراً ولكنك لا تكاد تسمع له حتى يحدث في نفسك أعمق الآثار وأقواها، وأبلغها وادعاها إلى الحزن والابتئاس أو إلى الفرح والابتهاج؟

إنك تحسب هذه اللحظات حين تلقاها أو حين تلقاك قصاراً لأنك تحصيها بالدقاق والثواني، وما هي بالقصار لأنها تحمل في وعائها الضيق الضئيل من العواطف والأهواء، ومن الأمل والذكرى، ومن اللذة والألم، ما يضيق به كثير من الساعات بل كثير من الأيام. إنك تحسب هذه اللحظات مفاجئة لأنها عرضت لك أو لأنك عرضت لها على غير انتظار ولا تهيؤ منها ولا منك وما هي بالمفاجئة. فان قوى أخرى غير قوتك وغير قوتها قد عملت منذ أزمان بعيدة في تهيئتك لها وتهيئتها لك، وفي دفعك إليها ودفعها اليك، حتى التقيتما عن

ص: 4

مفاجأة في ظاهر الأمر، وعن قضاء مدبر وقدر مقدر في حقيقة الأمر. وإذا كلاكما قد صنع لصاحبه وقدر له تقديراً.

هذه اللحظات القصار الطوال المفاجئة المدبرة لا تسنح للناس جميعا، ولا تسنح للناس في كل وقت، ولو عرفت وسيلة إلى أن تتبين كيف تسنح للناس ومتى تسنح لهم، ولأيهم تسنح لكنت من أكبر المستكشفين والمخترعين. وكيف برجل يفضح سر القدر ويهتك أستار الغيب؟! ولكنت بعد ذلك محسناً إلى كثير من الناس لأني أعلمهم كيف يتقون كثيراً من الشر، وكثيراً من الألم اللاذع والحزن المضني للنفوس والقلوب. ومسيئاً إلى كثير من الناس لأني أعلمهم كيف يفقدون لذات قلما يظفر الناس بمثلها، وكيف يصدهم العلم عن ضروب من السعادة لا ينعم بها إلا الجهلاء، ولحرصت أشد الحرص على أن أجهل هذا العلم وأغلق نفسي من جميع أنحائها دون هذه القوانين، لأني لا أعدل بهذه اللحظات القصار الطوال المفاجئة المدبرة كثيراً من أجزاء الزمن مهما تطل، ومهما تقصر، ومهما تمتلئ ومهما تفرغ، وأي حزن ممض مرمض يشبه في اللذة المحرقة اللاذعة، وفي السعادة المظلمة القاتمة هذا الحزن الذي حملته لحظة من هذه اللحظات في ليلة من الليالي فوضعته في قلبي ثقيلاً خشناً شاقاً، ولكنه على ذلك كله حلو، ولكني على ذلك أحببته وكلفت به. ولكني على ذلك حمدت هذه اللحظة القصيرة المفاجئة التي حملته حتى إذا بلغت قرارة نفسي وضعته فيها هادئة مطمئنة إلى من أقصى الزمن، وأقبلت به متباطئة متثاقلة كما توضع الصخرة الثقيلة في مكان من الأمكنة في غير عنف ولا سأم ولا كلال.

كنت مع جماعة من الأصدقاء نشهد التمثيل ونسمع الموسيقى والغناء في الأوبرا. قد فرغنا لما نشهد وما نسمع، وتركنا أعباء الحياة وأثقالها جميعاً في تلك العربة التي كانت تنتظرنا بالباب، وقد حفظت لكل واحد منا ما ائتمنها عليه من الودائع لترده إلينا متى عدنا إليها، ولم تكن ودائعنا تلك التي ائتمنا عليها العربة وتخففنا منها قبل أن ندخل الأوبرا إلا حياتنا اليومية وما فيها من مشقة ولين، ومن مودة وبغض، ومن يأس وأمل، ومن ألم ولذة، ومن نشاط وخمود. تخففنا من هذا كله وسللنا نفوسنا منه إلى حين كما تسل السيوف من أغمادها، وخلصنا بقلوبنا ونفوسنا نقية صافية مصقولة كأنها المرآة نعرضها للممثلين لينعكس فيها ما يبدعون من مظاهر الجمال الفني في التمثيل والغناء. وكنا لا نحس الا ما

ص: 5

نشهد ونسمع، ولا نفكر الا فيما نشهد ونسمع فإذا وقف التمثيل وتفرقنا في أبهاء الدار أو لبثنا في أماكننا لم نتحدث الا بما شهدنا وسمعنا نصفه ونستمتع به، والإ بما سنشهد ونسمع، نتوقعه ونتنبأ بما سيحمل إلينا من اللذة والمتاع. وهل ينبغي أن يدخل الناس دور الفن إلا على هذا النحو، قد خلصوا للفن من كل شيء ومن ذكرى كل شيء، وفرغوا للفن لا يشركون معه في نفوسهم شيئا، وإني لجالس في ناحية من نواحي الدار مع أصدقائي نتحدث بما كان في الملعب ونتوقع ما سيكون، واذا صوت يخرج أصدقائي ويخرجني مما كنا فيه. . صوت لم أسمعه منذ أعوام وقد كنت أسمعه كل يوم، صوت قد بعدت آماد الزمان والمكان بينه وبين سمعي حتى تقطعت بينه وبيني الأسباب، وحتى كدت أنسى نبراته، وكنت أفكر فيه تفكيراً بعيداً نائياً حين كان يحدثني عنه المتحدثون. ثم دنا هذا الصوت ودنا، ثم امتدت يد فامتدت إليها يدي. ثم كانت مصافحة ثم كانت تحية. ثم كان استئذان في الجلوس، وأذن به، ثم كان وجوم من صاحب الصوت، ووجوم ممن كان يبلغه الصوت لم يطل، ولم يكن من اليسير أن يلحظ، ولكنه مع ذلك كان طويلاً ثقيلاً. ثم كان حديث قصير في أشياء لا تغني ولا تفيد ولا تدل على شيء، ثم شرب القهوة واحرق السيجارة، ثم تحية الوداع، ثم الافتراق.

لست أدري أذاق أصدقائي لذة التمثيل بعد ذلك أم شغلوا عنه؟ أما أنا فأعلم أني لم أذق للتمثيل بقية الليلة طعمأً، إنما كانت الأصوات تبلغ أذني ثم لا تصل إلى نفسي وإنما تقف من دونها وقوفا لأني كنت أفكر في غير التمثيل، ولأني صرفت عن الغناء والفن صرفاً، لم دنا اليّ هذا الصوت، وكان قد بعد وأمعن في البعد؟ لم مد إليّ هذه اليد وكانت قد قبضت عني قبضاً؟ لم اتصل الحديث بين صاحب الصوت واليد وبيني كانت قد انقطعت بينه وبيني الاحاديث، بل كانت قد انقطعت بينه وبيني الصلات إلا أن نضطر إليها اضطراراً حين تجمعنا المجامع، أو نلتقي على غير موعد ولا انتظار. ثم لا نستطيع أن يهدي بعضنا إلى بعض ما ينبغي من الإعراض في مثل ما نحن عليه من الجفاء. لم دنا لي هذا الصوت؟ ولم امتدت الي هذه اليد؟ ولم اتصل بيننا هذا الحديث؟ لقد كان الحياء يترقرق في هذا الصوت الذي كان يدنو الي مأخوذاً حزيناً ولقد كان الحياء يضطرب في هذه اليد التي كانت تصافحني مترددة مرتعشة بعض الشيء. ولقد كان الحياء يملأ هذا الحديث فيضطره

ص: 6

إلى الفراغ مما يعني أو يفيد. ومع ذلك فشهد الله ما شككت في أن هذا الصوت قد دنا الي صادقا، وفي أن هذه اليد قد امتدت الي صادقة وفي أن هذا الحديث قد اتصل بيننا خالصا من كل رياء.

وا رحمتاه للناس! إن الضعف الإنساني ليحمل نفوسهم آلاماً ثقالا. وا رحمتاه للناس! إنما في الحياة من إعراض زائلة ترغبهم في الخير العاجل، وتخوفهم من الشر العاجل، لتحمل نفوسهم آلاما ثقالا. وا رحمتاه للناس! ان أجسامهم لتطغى على نفوسهم وان أهواءهم لتطغى على عقولهم، وان منافعهم لتنسيهم حقوق الصداقة والصديق، وا رحمتاه للناس! ان رهبة السلطان والرغبة في جاهه والحرص على قرب المكان منه لتفسد عليهم من لذات الحياة الخالصة الصافية ما لا ينبغي أن يفسد، وا رحمتاه للناس ان لهم على هذا كله لنفوساً لم تطبع على الشر، ولم يحل بينها وبين الخير، وان هذه النفوس التي تضعف حتى تتورط فيما لا ينبغي لها، لتختلس الفرص إلى القوة والخير اختلاساً، وتختطفها اختطافا، وتنعم منها باليسير الضئيل في اللحظة القصيرة المفاجئة، لم تكن تنتظر ولم يكن يدبر السعي لها تدبيراً، وإنما سنحت فاقتنصت كما يسنح الصيد وتمكن منه الفرصة فيقتنص. وا رحمتاه للناس! لو علموا أن منافع الحياة وأعراضها وأغراضها وما فيها من رغبة ورهبة، ومن مكانة وجاه لا تزن كلها لحظة قصيرة مفاجئة يصفو فيها الود، ويخلص فيها النصح، ويفرغ فيها الصديق للصديق، لغيروا من حياتهم ومن سيرتهم الشيء الكثير.

عرضت لي هذه اللحظة القصيرة المفاجئة في ليلة من ليالي الأوبرا، وما أكثر ما تعرض هذه اللحظات القصار المفاجئة لكثير من الناس في هذه الأيام السود، فاللهم، ارفع عن الناس مقتك وغضبك واللهم هيئ للناس حياة لا يخاف الصديق فيها لقاء الصديق، ولا يختلس الصديق فيها لقاء الصديق، ولا يقطع الصديق فيها أسباب الود والحب، لا لشيء الا لأنه يخاف بأس السلطان أو يرجو رضى السلطان.

طه حسين

ص: 7

‌جريمة.

. .

للدكتور محمد عوض محمد

- 1 -

في صباح يوم من تشرين الأول كان الضباب ضاربا بجرانه على شوارع (ليفربول) فلا تكاد العين أن تستبين السبيل الا عن كثب. . والمصابيح لم تزل موقدة كأنما حسبت أن الضباب بقية من الليل، وأن النهار لم يطلع بعد. . .

في تلك الساعة الباكرة أخذ الشطر العامل من أهل المدينة يتحرك، وجعلت الأبواب تتثاءب، فيخرج منها العمال أفواجا، ينشدون عملهم ويجرون وراء خبزهم وزبدهم_لأن العامل في مصر قد يقنع بالبحث عن الخبز؛ أما هناك فلا بد له من الخبز والزبد.

هذه الحركة الباكرة في بعض أحياء المدينة قد تلاها سكون؛ لأن الشطر الثني من المدينة لم يستيقظ بعد. . وكأنما كانت الحركة الأولى بمثابة الفجر الكاذب، أضاء لحظة، ثم ساد من بعده الظلام - ولكن سرعان ما انقضت ساعة الهدوء هذه، وأخذ ذلك الغطاء الكثيف من الضباب يرق شيئا فشيئاً. وبدا في أقصى الشرق على الأفق شيء غامق مبهم يدعونه في تلك البلاد الشمس. . ولقد تستطيع العين المصرية - بشيء كثير من المران - أن ترى فيه من الشمس شبها، وأن له بها صلة.

وبعد لأيٍ، تثاءبت الأبواب في الأحياء الوسطى، وخرجت منها أفواج من الحضريين (البورجوا) الذين يشتغلون في دور التجارة. فيعملون بها ساعات قلائل، ولكن أجرهم أعلى، ومقامهم في المجتمع أسمى. وهم ايضاً ينشدون الخبز والزبد. ولكنهما من صنف أرقى وأرفه من خبز العمال وزبدتهم.

وهكذا تحركت في المدينة أحياؤها السفلى والوسطى، ولم يبق مغموساً في عسل الرقاد سوى أحياء (العاطلين)، الذين يعيشون من أموال تأتيهم من وراء البحار: من الهند ومن استراليا ومن سائر أنحاء الدولة التي لا تغرب الشمس عليها. . هؤلاء لا يتحدثون عن خبز ولا زبد، بل يأتيهما الخبز والزبد طائعين يجرران الذيول. . .

وليس يعنينا اليوم من أمر هؤلاء شيء، وانما تعنينا الآن تلك الأحياء الوسطى التي لم يكد أبناؤها وبناتها يخرجون. . . كل إلى عمله، حتى فتحت الأبواب مرة أخرى، وخرجت من

ص: 8

كل باب امرأة نصف في ثياب رثة زرية، وهي تحمل في يمينها خرقة بالية، وفي يسارها سطلاً فيه ماء دافئ.

هؤلاء النساء لسن بخادمات كما قد يتبادر إلى الخاطر العجل، بل ان كلا منهن ربة دار، وصاحبة الأمر والنهي فيها. وهي تنتظر ريثما يخرج من بالدار من بنين وبنات، ثم تأخذ في الجد والعمل، من غسل وطهي وخبز وعجن، ولا تكاد تهدأ ساعة من الصباح إلى المساء، بادئة عملها حيث يجب أن تبدأه: من عتبة الدار ودهليز البيت. . . ولقد تجد الواحدة منهن في غسل العتبة لذةً خاصة، ولعل أحب الأعمال جميعاً إليها. . لأنه يتيح لها فرصة قد تكون الوحيدة في كل يوم لان تتحدث إلى جارتها، وتقص عليها من كل شيء، بل ومن عدة أشياء أخرى. . .

وفي هذا اليوم من تشرين الأول خرجت السيدة نلسن من المنزل رقم 15 في ساعة باكرة، وأخذت تمسح عتبتها في شيء كثير من النشاط، لكنه كان نشاطا يشوبه القلق والاضطراب، وكانت من آن لآن تنظر إلى منزل جارتها السيدة هرفي صاحبة المنزل رقم 17، وكأنها تود بفارغ الصبر لو خرجت هذه السيدة لمسح عتبعها، كي تحدثها في الامر الذي أهمها وأزعجها؛ والذي كانت ترتعد من أجله الخرقة التي بيمينها. والسيدة هرفي هذه أرملة ورثت عن زوجها منزلا يفضل عن حاجتها وحاجة أسرتها، فكانت تسعىفي تأجير شطر منه لقاء مال يسير تستعين به على تكاليف الحياة. ولم تكن جارتها ترى في هذا بأساً، ما دام نزلاؤها رجالا ذوي فضل. لكنها لاحظت بالأمس من خلال النافذة رجلا أسود الوجه خارجاً من المنزل رقم 17؛ فما شكت في أنه النزيل الجديد، الذي تريد السيدة هرفي أن تؤويه في دارها. . . . يا عجباً لهذه المرأة التي لا تتورع من الخروج على كل عرف، وانتهاك كل حرمة. والنزول بهذا الحي الراقي، وهذا الشارع الطاهر، إلى الدرك الأسفل. . . ماذا يكون مصير هذا الحي يوم يرى سكانه هذا الأسود رائحاً غادياً، بوجه المزعج وسحنته المنقلبة؟. . إن العاقبة ستكون من غيب شك وخيمة والمصير أليما. فلن يلبث سادة الحي وأشرافه حتى يهجروه وينأوا عنه؛ لكي لا تقذى أبصارهم برؤية هذا الوجه الكريه. . . ان وجها واحداً من هذه الوجوه السود لكفيل بأن يلوث حياً بأسره، وأن ينغص على أهله صفاء الحياة وطيب الرقاد. . . . والويل لفتيات الحي ان صادفن هذا الوجه المنحوس في

ص: 9

ليلة حالكة الظلام، عند أوبتهن من المرقص والمسرح: ان الرعب الذي يستحوذ عليهن في تلك اللحظة لخليق بان يورثهن سقماً يلازمهن مدى الحياة. . . كلا. . ان السيدة هرفي - مهما كان حبها للمال - يجب أن تعلم أن مثل هذا الشيء لا يجوز. . . ومن حسن الحظ أن الفتى لم يأت بأمتعته بعد. . . ولم يزل في الوقت متسع لمنع هذه الكارثة من أن تلم بهذا الحي الآمن المطمئن، ولئن كانت السيدة هرفي قد نسيت ما عليها من واجب تلقاء الحي وأهله، فأحرى بجارتها مسز نلسن أن تريها الرشد من الغي، وأن تردها عما هي سائرة إليه من الوبال. . . .

ولم يطل بها الانتظار، بل فتح باب المنزل رقم 17 وخرجت السيدة هرفي، وهي في نهاية العقد الخامس من العمر؛ وفي يمينها خرقة كبيرة وفي يسارها سطل كبير. ثم بدأت جارتها بالتحية.

- عمي صباحاً، مسز نلسن، عمي صباحاً.

- نعم صباحك، مسز هرفي.

- أن الهواء دافئ صحو، والشمس مشرقة في السماء. أرجو أن تكوني بخير.

- انك خرجت اليوم متأخرة على غير عادتك.

أجل لقد كان لدي اليوم عمل كثير، وكان علي أن أعد الحجرة السفلى، والغرفة الأمامية من أجل ضيفنا الجديد فانه سيأتي بأمتعته قبل الظهر بساعة وقد يبقى بالمنزل إلى وقت الغذاء.

أتعنين إذن انك رضيت بذلك الزنجي الدموي نزيلا عندك؟

- هل أنبأك بأمره أحد؟

- رأيته أمس من خلال النافذة خارجاً من باب بيتك، ففتحت عيني من الدهشة، وأنا لا أكاد أصدق ما أراه. وخشيت أن تكوني قبلت أن تسكنيه بيتك. والآن قد صدقت أسوأ ظنوني فبالله يا صديقتي، إلا تدبرت الأمر قليلا، قبل أن تنزلي بهذا الحي الآمن هذه النكبة الفادحة.

- وأي نكبة في هذا؟ أن للفتى حجرته يجلس فيها، وغرفته ليرقد فيها، ولن يكون له سبيل إلى أحد من الحي، ولا لسكان الحي سبيل إليه. فهوني عليك فليس في الأمر ما يدعو لكل هذا الاهتمام. .

ص: 10

- اللهم لطفا. .! إنك لا تبالين - إذا ظفرت بالمال الذي تبغين - أن يشقى الحي وأهله برؤية هذا الزنجي الكريه المنظر،

- إنه ليس بزنجي، بل هو مصري.

- وما الفرق بين هذا وذاك؟ أو ليسوا جميعا من أهل آسيا؟

- لست أدري أية آسيا تعنين. . . غير أني حادثت هذا الشاب، فرأيته يتكلم بلساننا كأحسن أبنائنا. ورأيت في حركاته وسكناته ما ينم عن حسن الأدب وكرم المحتد.

ذاك لعمري العسل الذي يخفي السم الزعاف. وكأنما نسيت ذلك الهندي الزنيم الذي كان نازلاً في بيت مسز براون. لكم كانت تكرمه الأم وتجله، وتسمح له أن يصحب ابنتها دورا إلى بيوت الرقص واللهو. فكان جزاؤها أن خان الأمانة وخفر الذمة، ثم اختفى من المدينة فلا يعرف له أحد مستقراً ولا مقاماً.

- ما أحسب الناس أشراراً كلهم، وفي أبنائنا البيض من يرتكب ما هو شر مما ارتكبه الهندي. وعدا هذا فاني ليست لي ابنة فأخاف عليها، وقد زوجت بناتي جميعاً، ولله الحمد.

ونحن؟ أما تحسبين لنا ولبناتنا حسابا؟ انك من أجل بضعة الجنيهات التي سينقدك إياها لا تبالين بنا ولا بما قد يحل بنا ولا بالحي وما يدنسه ويحط من شأنه.

لكني قد وعدت هذا الشاب أن أسكنه الحجرة السفلى والغرفة الأمامية، ولا بد أن أبر بوعدي.

- يا لهذي السذاجة البديعة! كأنما يفهم هؤلاء السود ما الوعد وما الوفاء بالعهد!. . . ولقد كان ذلك بالهندي شديد الوفاء لدورا المسكينة يوم تركها في تلك الحال الأليمة، واعتصم بالفرار!. .

وفي هذه اللحظة خرجت الحارة الأخرى من المنزل رقم 19 وانضمت إلى جارتيها وانتقل الحوار من الحديقة إلى داخل المنزل وقد صحت نية الجارتين إلا تركا صاحبتهما حتى تذعن لرأيهما، وتنزل عند إرادتهما.

- 2 -

في صباح ذلك اليوم من تشرين الأول استيقظ (حسن) من رقاد كان مملوءا بالأحلام. . . وكانت أحلامه عن مصر وعمن بمصر، وعن منزله المطل على النيل، حيث خلف والدين

ص: 11

آلمهما فراقه، وأحزنهما أن سيكون بينهما وبينه هذا البحر الفسيح وهذا البر العريض، وأن يهزهما إليه الشوق، فلا يستطيعان إليه سبيلا، ويحترق الصدر وجداً وهيهات الشفاء. . . في هذه الليلة رأى حسن أخته في المنام، ولقد غادرها في مصر حليفة السقم. . أما اليوم فقد ابتسمت إليه حين رآها، وطلبت منه أن يعود إليها رجلا عظيماً. . . عجب كيف حالهم اليوم، وهل يختلف الجديدان عليهم بالسعادة أو النعيم، أم بالشدة والشقاء؟. . . وهل اعتادت الأم فراق الابن الوحيد، الذي لم يفترق عنها منذ أن رزقته بعد يأس، فكان قرة العين، وشفاء ما بالصدور. . .

وها هو ذا قد اضطر لأن ينزح عن داره، وأن ينزل هذه المدينة الداوية الصاخبة، وقد التحق بجامعتها، وأخذ يجد في طلب العلم ومضى عليه تحت هذه السماء الرمادية اللون أسبوعان، لم يكتسب فيهما صديقاً جديداً، ولم يحاول أحد أن يتعرف به أو يتقرب اليه. . . كان كذبا ما زعمه المتشدقون من أصحابه في مصر: أن الناس في هذه البلاد يقبلون على الغريب، ويجدون في إرضائه واكتساب صداقته. . لقد كان الناس يجيبون على سؤاله إذا سأل بجواب هادئ قصير، لا يحمله على المضي في الحديث بل سرعان ما أشعر أن بينه وبينهم سوراً غليظًا وعراً، هيهات له أن يجتازه. ولم تطل به الحال حتى اعتاد أن يقابل البعد بالبعد والصد بالصد. . . وهكذا أمسى وأصبح وحيداً غريباً، وسط هذا المزدحم الزاخر من الناس.

واستيقظ في صباح هذا اليوم ونهض من فراشه في شيء من النشاط. . وكان ذاك آخر أيامه في هذا (البنسيون) الذي قضى فيه هذين الأسبوعين، وكان عليه اليوم أن يبادر بإعداد حقائبه وجمع ما تناثر من أمتعه. وكان مغتبطا ناعم البال، لأنه وفق أخيرا إلى هذا المسكن الجديد في المنزل رقم 17. . فمنذ اليوم سيكون له حجرتان: حجرة يجلس فيها ويطالع أسفارها ويتناول طعامه. والأخرى لنومه وراحته، ولقد كان من حسن الطالع أن غرفة نومه تطل على تلك الحديقة الغناء، فيستطيع أن يطالع من نافذته ابتسام الربيع وقهقهة الصيف، وهدوء الخريف ووجوم الشتاء. . . أما هذا البنسيون في (اكسفورد ستريت) فلم يكن له فيه سوى غرفة صغيرة، ولم تكن إقامته فيه إلا ريثما يتحول عنه. . ومع هذا فان صاحبته اليهودية لم يرضها منه أن يغادر البنسيون، فلم تكن تلقاه - منذ

ص: 12

علمت قرب انتقاله - إلا عابسة غاضبة، فكان أنفها البارز المحدب ينتفض ويضطرب، وعيناها البراقتان يتطاير منهما الشرر، إذا طلب قليلا من الماء الساخن ليستعين به على حلق لحيته. . والويل له ان تخلف عن موعد الطعام قليلا: فانه كان يجد المائدة قد رفعت؛ فإذا نظر إلى ما حوله ألفى وجوهاً عابسة تنذره بالشر المستطير إن هو حدثته نفسه بالحصول على شيء من القوت الذي فاته. . فكان نؤثر الصمت وينسل إلى غرفته في سكون وهدوء.

ان هذا الاضطهاد العجيب كثيراً ما كان يضحكه؛ وكثيراً ما سأل نفسه أيمكن أن تقسو عليه هذه اليهودية كل هذه القسوة لا لسبب سوى أنه يؤثر أن يسكن في ظاهر المدينة حيث الهواء الطلق والسكون الشامل؟ إن أحد الناس أخبره فيما بعد أن هذه اليهودية لم تظلمه ولم تضطهده إلا لكي تثأر منه: لما جناه أجداده الفراعنة في الزمن القديم على بني إسرائيل، حيث كانوا يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم. . . وكثيراً ما أغرب حسن في الضحك كلما خطر له هذا الرأي الظريف. . .

ومهما يكن من أمر، فان هذا اليوم من تشرين الأول هو آخر أيام الاضطهاد وأول أيام الحرية. فلن يطالبهم اليوم بالماء الساخن؛ واذا قدم اليه الشاي بارداً والبيض فاسداً في طعام الفطور، فانه لن ينبس بكلمة. . . ثم أخذ يعد أمتعته ويحزم حقائبه. وقبيل الظهر بساعة كان قد أعد العدة للرحيل. . .

ومشى على استحياء إلى ربة المنزل، فحيته في تكلف وفتور. أما هو فابسم لها ابتسامة ظنها ابتسامة الظفر؛ وقدم لابنتها الصغيرة (سارة) صندوقاً جميلاً مفعماً بالحلوى؛ ونفح الخادم بضعة شلنات أنطقتها بالشكر.

ثم انطلقت به السيارة وبأمتعته وحقائبه تلقاء ذلك المنزل، رقم 17 المطل على الحديقة الغناء؛ وصدره مملوء غبطة لم يحس مثلها منذ نزل على ضفاف (المرزي) وأخرج من جيبه مرآة صغيرة فأصلح الرباط الذي يحيط بعنقه، والذي تزعزع كثيراً أثناء نقله لحقائبه من الغرفة العليا إلى التاكس. .

لم يكن حسن قبيح الصورة، ولكنه من غير شك كان أسمر اللون. وقد أخذ يحس احساساً مبهما إن هذه السمرة قد تكون من جملة الأسباب التي أغلقت دونه أبواب القلوب. . . لكنه

ص: 13

كان بعد في شك من هذا الأمر. . . ولم يكن قد وقر في نفسه بعد واصبح عقيدة راسخة. . . فكان في يومه هذا باسما مستبشرا.

ها هي ذي السيارة قد وقفت لدى لمنزل رقم 17! وقد أوشك أن يقلب صفحة جديدة من صفحات حياته. . . فلتنتظر السيارة قليلا ريثما ينزل ويستاذن أهل الدار في الدخول. . هم يأخذ في دق الجرس. . . . عجبا ليس من مجيب. . . ان السيدة قد ذهبت - دون شك - إلى بعض شأنها وليس بالدار أحد. . . فلينتظر قليلا. . . ولكن. . أي شيء هذا؟. . ان النافذة تفتح وهذه مسز هرفي نفسها. . ولكنها تنظر إليه بوجه عابس متجهم. . . إنها تبدي أسفها الشديد لأنها لا تستطيع أن تقبله في منزلها. . . . أجل. . . ولا يهمها أن تكون قد سبقت كلمة منها إليه. . إنها لا تقدر أن تؤوي لديها أحدا من أهل آسيا، فليرجع بسلام. .

آسيا؟ ولكنه ليس من أهل آسيا. . . إنه من أهل مصر! سيان لديها، من أية الجهات مصدره، مادام أهل الحي لا يروقهم شكله ومنظره. . فليرجع إلى أحد فنادق المدينة فانهم سيرحبون به هناك. أما منزلها هذا فليس إليه سبيل. . .

ويطأطأ حسن رأسه ويمشي إلى سيارته مطرقاً واجماً. ويهمس في أذن السائق اسم أحد الفنادق ويرتمي في مقعده مجهدا متعبا. وتحين منه ألتفاته إلى يديه وبشرته السمراء، فيدرك أن في العالم بعد جريمة هائلة دونها كل أثم وكل جرم، وأنه_ويا للأسف - لا سبيل إلى الخلاص منها، ولا إلى الابتعاد عنها. . .

ص: 14

‌فضائح المالية العليا في فرنسا

للأستاذ محمد عبد الله عنان

- 1 -

تشغل فرنسا منذ أسابيع بإحدى هذه الفضائح المالية الكبرى التي لا تقف آثارها عند اختلاس مئات الملايين ونكبة آلاف الضحايا، ولكنها تتغلغل في جميع نواحي الحياة العامة، وتثير في الشعب روحا جديدا من السخط والريب في سلامة النظم القائمة التي تحدث في ظلها أمثال هذه الفضائح المروعة. والحادث الذي نعنيه هو فضيحة ستافسكي التي يتتبع الشعب الفرنسي، والرأي العام العالمي تفاصيلها وتطوراتها بمنتهى الدهشة، والتي كان من خطورتها وفداحة آثارها أن سقطت وزارة مسيو شوتان بعد أن حاولت عبثا أن تغالب العاصفة وأن تهدئ روع الرأي العام.

ولا بد قبل أن ندخل في تفاصيل هذا الحادث العجيب أن نشير إلى أن هذه الفضائح المالية الكبرى لم تبق في عصرنا حوادث شخصية أو فردية يسئل عن تدبيرها أفراد معينون، وتحصر نتائجها وآثارها في حدود معينة، بل غدت بالعكس ظاهرة بارزة في سير المالية العليا، وظاهرة من ظواهر الحياة العامة حيثما تبلغ النظم الاقتصادية ذروة التعقيد والتقدم. وتقع في جميع الأمم الأوربية من آن لآخر حوادث من هذا النوع، وتحدث دائما آثارها السياسية والاجتماعية؛ ولكن هنالك حقيقة واضحة: هي أن هذه الحوادث تكثر في فرنسا بنوع خاص وتمتزج امتزاجا قويا بحياتها العامة، وتتخذ فيها صورا هائلة مثيرة، وتلقى دائما سحبا من الريب على كثير من الرجال المسئولين. ونستطيع أن نمثل لذلك بأمثلة عديدة من حوادث العصر الحديث؛ من ذلك فضيحة شركة باناما التي أسسها فردينان دي لسبس سنة 1881 لتقوم بحفر قناة باناما، ثم انهارت دعائمها لأعوام قلائل بعد أن اتسعت أعمالها اتساعا هائلا وكثرت قروضها وعجزت عن الوفاء بتعهداتها، وكشف التحقيق القضائي عن اشتراك كثير من النواب والشيوخ في أعمالها والدعوة إلى تعضيدها اشتراكا مريبا، وأحيل بسببها وزير سابق وبعض الشيوخ على محكمة الجنايات سنة 1892، وقضي على الوزير بالسجن. ووقعت في أوائل هذا القرن بفرنسا عدة فضائح مالية أخرى، بيد أنها لم تكن بمثل هذه الخطورة. ووقعت منذ أعوام قلائل فضيحة (الجازيت ده فرانك)

ص: 15

التي اتهمت فيها مدام هانو الكاتبة الصحفية باختلاس مئات الملايين، واتهم فيها عدد من أكابر الصحفيين والكتاب بالمعاونة في التستر على مشاريعها المريبة والترويج لها في صحف كبيرة محترمة. ثم وقعت منذ ثلاثة أعوام فضيحة شركات أوسترك فكانت من أعظم الكوارث المالية التي عرفت، حيث أفلست من جرائها عدة بنوك كبيرة واختلس نحو مليار فرنك (يومئذ نحو عشرة ملايين جنيه)، وألقيت بسببها ريب خطيرة على وزيري المالية والحقانية وإدارة بنك فرنسا، وانتهت بسقوط وزارة مسيو تاردييه (أواخر سنة 1930)، وقد كان أوسترك بطل هذه الكارثة خادما في مطعم ثم انتهى إلى صف أعظم رجال المال وأسس بنوكا وشركات عديدة قامت علت التزوير والنصب والدعوة، ونكب انهيارها مئات الألوف من أصحاب الودائع، وكان كل جزائه بعد تحقيقات طويلة معقدة أن قضى عليه بالحبس عاما واحدا!

وليست فضيحة ستافسكي التي تشغل فرنسا اليوم إلا مثلا جديدا مروعا يؤيد هذه الحقيقة. فهي كسابقاتها تقوم على اختلاس مئات الملايين، ونكبة مئات الألوف، وهي كسابقاتها تلقي كثيرا من الريب الخطيرة على الرجال المسئولين، وقد سقطت بسببها وزارة قوية تستند إلى أغلبية كبيرة في البرلمان. بيد أنه يمكن أن يقال أن هذه الفضيحة الجديدة تفوق سابقاتها في التغلغل إلى صميم النظم والحياة العامة، وفي التدليل على فسادها، وفي آثارها السياسية والاجتماعية. وقد شهدنا نتائجها الأولى في سقوط وزارة مسيو شوتان وقيام وزارة مسيو دلادييه، ولكن من الصعب أن نتنبأ الآن بما يمكن أن يتلو هذا الانقلاب الأول، خصوصا وان الفضيحة مازالت تتمخض كل يوم عن حوادث وأسرار جديدة، ومازال الرأي العام يضطرم سخطا ودهشة، ويتطلب أجراء العدالة بمنتهى القسوة واصلاح هذا الفساد الدفين بسرعة حرصا على سلامة النظم الجمهورية، وتوطيد للثقة العامة التي زلزلت أركانها.

ولنر الآن ما هي هذه الفضيحة المروعة التي تقيم شعبا بأسره ولنر من هو ستافسكي هذا الذي غدا بطلا من أعظم نكبات العصر.

أن هذه الشخصية المدهشة، شخصية - ستافسك - مازالت تبدو خلال التحقيق الذي تقوم به عدة جهات قضائية وادارية لغزا مغلقا؛ وكان مصرع ستافسكي أو انتحاره عاملا في

ص: 16

ازدياد هذا الغموض؛ فمن جهة نرى ستافسكي الفتى الأنيق الجواد الذي ينثر المال أينما حل بسخاء لم يسمع به، ورب الأسرة الوفي الذي يعبد زوجته وولديه، والمالي الذكي الساحر الذي لا يفتر نشاطه والذي يتقدم كل يوم لإنشاء مشاريع وشركات مالية جديدة ظاهرة القوة والنجاح، إذا بنا نرى من جهة أخرى ذلك الأفاق البارع الخطر الذي لا يفتأ يرتكب جرائم التزوير والنصب والاختلاس تباعا، والذي يحيط نفسه بعصابة مريبة من كبار المزورين، ويشتري ذمم جميع الرجال المسئولين الذين يوجدون في طريقه ويستخلص لنفسه مئات الملايين من أموال الأرامل واليتامى وصغار المودعين، ثم ينفقها على ترفه وبذخه المجرم دون ضمير ولا وازع، ونرى آثار مشاريعه الخيالية الجهنمية تتغلغل في صميم المالية العليا والحياة ت العامة، ونرى أعين السلطات والمحققين تغضي عن تتبع جرائمه مع العلم بها، تلك هي شخصية ستافسكي.

ولد سرج الكساندر ستافسكي سنة 1886 في سبودكا من أعمال روسيا؛ ونزح إلى فرنسا بعد الحرب وتجنس بالجنسية الفرنسية، وبدأ حياته المالية في باريس وسيطا في تجارة الجواهر والحلي. ثم نشط إلى تأسيس الشركات المالية المختلفة، فأسس شركة لصنع اللحوم المقددة، وأخرى للسينما، وثالثة لبيع بعض الأجهزة الطبية وهكذا: ولكن هذه الشركات كانت مريبة، ولم تكن سوى ستار لسلسلة من جرائم التزوير والنصب ارتكبها ستافسكي، واستولى بواسطتها على ملايين عديدة. وكانت أعظم وسائله اذ ذاك تزوير قيم التحاويل المسحوبة لإذنه. واستطاع بهذه الوسيلة أن يحصل خلال سنتي 1925و1926 على ستة ملايين فرنك، وهنا اكتشف أمره وصدر الأمر بالقبض عليه بناء على عدة شكاوى قدمت في حقه من البنوك، فاختفى مدة ولم يستطع البوليس أن يقبض عليه الا بعد أشهر. وقضى ستافسكي في الحبس الاحتياطي حينا ثم استطاع أن يحصل على قرار بالإفراج عنه ريثما تتم المحاكمة. وقدم إلى المحاكمة بتهم النصب والتزوير والاختلاس مع آخرين. ولكن هذه المحاكمة لم تتم قط منذ سنة 1926، ولا زالت حتى اليوم معلقة للنظر امام محكمة الجنح. وكانت مدى أعوام ثمانية تؤجل في كل مرة إلى آجال طويلة لأتفه الأسباب؛ وظهر فيما بعد أن ذلك يرجع إلى نفوذ مؤثرات معينة، وأن الأفاق استطاع أن نؤثر عن طريق أصدقائه الأقوياء على سير القضاء كما استطاع أن يؤثر في عمل البوليس، ولما ظهرت

ص: 17

هذه الحقيقة المدهشة أخيرا كانت مثار السخط والريب في نزاهة القضاء. وكان ستافسكي طريد القضاء أثناء ذلك يعيش في بذخ لم يسمع به في داره الفخمة بحي الشانزليزيه مع زوجته الحسناء أرليت سيمون التي تزوجها منذ سنة 1922، وولديه الصغيرين، وكان يظهر في المسارح والأوساط الرفيعة وفي ملاهي الليل وميادين السباق وأندية المقامرة بأعظم مظاهر الغنى والترف، وينفق الملايين الطائلة في كان ومونت كارلو وبيارتز وغيرها من مدن المياه، كل ذلك باسم (مسيو آلكس) وقد ظهر من التحقيق فيما بعد أن كثيرين ممن اتصلوا به لم يكن يدور بخلدهم أن مسيو آلكس هذا أو آلكس الجميل هو نفسه الكساندر ستافسكي بطل الفضيحة الكبرى.

وفي سنة 1930 وقع ستافسكي في مازق جديد وافتضح أمره مرة أخرى، ذلك أنه قدم إلى بنك التسليف البلدي باورليان طائفة كبيرة من الجواهر الزائفة واستطاع برهنها أن يحصل على سندات للخزينة قيمتها عشرة ملايين فرنك، وأن يقطع هذه السندات ويحصل على قيمتها ولكن هذا التزييف الهائل اكتشف غير بعيد، وظهر أن الجواهر المودعة كلها زائفة لا تساوي أكثر من عشرة آلاف فرنك، بيد أن ستافسكي فطن في الحال للخطر الذي يهدده، وبادر بتسوية المسألة ورد قيمة السندات المسحوبة، وبذا أسبل الستار على الفضيحة بسرعة، وأنقذ ستافسكي مشاريعه من خطر الانهيار وأنقذ نفسه من ظلام السجن.

ولم يمض على ذلك أشهر قلائل حتى استطاع ستافسكي أن ينفذ مشروعه الجديد، وهو انشاء بنك التسليف البلدي في مدينة بايون. وهذه البنوك المحلية الصغيرة تنشأ في عواصم الأقاليم طبقا لقانون خاص، وتقوم بمهمة التسليف برهونات منقولة مثل الجواهر والحلي، وهي تنشأ عادة برؤوس أموال صغيرة، ولكنها تستطيع متى اتسعت أعمالها أن تزيد في رأسمالها باصدار سندات على الخزينة بالاعتمادات اللازمة، وهذه السندات تتمتع بنوع من الضمان الحكومي، لأنها تصدر بمصادقة السلطات المحلية فضلاً عن ادارة البنك، وتمثل السلطات المحلية في إدارة البنك على يد مدير المقاطعة وعمدة المدينة، وتمنح هذه السندات عادة ربحا حسنا لا يقل عن خمسة في المائة، وتعفى من ضريبة الدخل، وهي لذلك تجد إقبالا من شركات التأمين وغيرها من شركات الادخار فتسارع إلى اقتنائها كوسيلة حسنة لتوظيف المال. وقد رأى ستافسكي في الحال أنه يستطيع أن يجعل من إصدار هذه

ص: 18

السندات وسيلة سهلة مدهشة لاختلاس عشرات بل مئات الملايين. بيد أنه حرص بادئ بدء أن يتمتع مصرفه الجديد بسمعة حسنة؛ واستطاع أن يجعل منه مؤسسة ناجحة متسعة العمل. ثم عمد بعد ذلك إلى إصدار السندات تغطية لاعتمادات يريد البنك تحقيقها، ويسدد قيمتها متى حلت آجالها، فأخذ يصدر منها الملايين ثم عشرات الملايين ثم مئاتها؛ وكان اختلاس هذه الأموال الطائلة يجري بالصورة الآتية: يصدر البنك سندات قيمتها عشرة ملايين مثلا، ثم يعرضها في السوق المالية للقطع، فتشتريها إحدى شركات التأمين بقطع مرغب جدا (5 في الماية مثلا) لكي تقبض قيمتها متى حل أجل استهلاكها وتستفيد بذلك من القطع ثم من الأرباح. وقد بذل ستافسكي لترويج هذه السندات جهودا مدهشة، واستعان في ذلك بالجهات الرسمية وبالدعوة الصحفية. ومن الغريب أنه استطاع بواسطة النائب جارا عمدة بايون، أن يستصدر من وزير المالية ووزير التجارة منشورا وجه إلى شركات الاستثمار المختلفة يحثها على اقتناء سندات بنوك التسليف المحلية باعتبارها أوراقاً ثابتة مضمونة ووسيلة حسنة للاستثمار، وذلك طبقا لما نصت عليه بعض القوانين المالية، فكان هذا التعضيد الرسمي أداة قوية في يد ستافسكي ومشجعا للشركات على شراء سندات مصرفه، وكانت هذه الملايين الطائلة بدلا من أن تودع خزينة البنك تذهب توا إلى جيب ستافسكي يبددها على بذخه المدهش وينفق منها على شركائه وأعوانه. ولم تكن هذه الملايين ترصد في سجلات البنك لان السندات كانت زائفة تصدر دون مرجع أو سجل، وقد استطاع ستافسكي كما أثبت التحقيق أن يبيع من هذه السندات المزورة إلى مختلف الشركات والأفراد بما يساوي نحو خمسمائة مليون فرنك (أو نحو ستة ملايين جنيه) في أقل من ثلاثة أعوام! هذا إلى طريقة أخرى للاختلاس لجأ اليها ستافسكي، وهو أنه في فرص كثيرة كان يقدم إلى البنك بعض الجواهر المزيفة باعتبار أنها جواهر ثمينة ويسحب عليها مبالغ طائلة، وفي أحيان كثيرة كان يستخرج الجواهر الثمينة التي أودعها عملاء البنك في خزائنه رهنا للقروض ثم يضع مكانها جواهر زائفة، ويحصل بهذه الوسيلة على عشرات الملايين.

والآن، لنر كيف اكتشفت هذه الاختلاسات الهائلة. ومن المحقق أنه كان من المستحيل أن يمضي ستافسكي في جرائمه طول هذه المدة، وعلى هذا النحو المدهش لو لم يكن مستظلا

ص: 19

بحماية الرجال المسئولين آمنا مطاردة البوليس والقضاء. على أن حادثا فجائيا أدى إلى اكتشاف الحقيقة المروعة، وهو أن إحدى شركات التأمين، كانت قد اشترت من السندات الزائفة ما قيمته ثمانية ملايين حل أجل استهلاكها في أغسطس الماضي، فتقدمت إلى البنك بطلب هذا المبلغ فطلب مدير البنك تسييه رجل ستافسكي وشريكه مهلة للدفع، فرأت الشركة من باب الاحتياط أن توقع حجزاً على بعض المبالغ المطلوبة للبنك، فدهش مراقب الضرائب في بايون لهذا الحادث وارتاب في الأمر لأنه لا يعقل أن مصرفا كبيرا محترما مثل بنك بايون يتوقف عن الدفع بهذه الصورة، وتصادف عندئذ أنه فحص بعض السندات المسحوبة فلم يعثر لها على أثر في سجلات البنك أو حساباته، فأخطر الجهات المختصة، وكان ذلك في يوم 23 ديسمبر الماضي. ولما رأى مدير البنك تسييه أن الأمر قد افتضح ذهب إلى مدير البوليس، واعترف له بطرف من هذه الجرائم، وفي الحال تدخلت النيابة، وقبض على تسييه وبدأ التحقيق في الفضيحة الكبرى وسنرى في فصل تال ماذا كشف التحقيق عنه، وماذا كانت خاتمة هذا الأفاق البارع وماذا كانت آثار هذه الجرائم المثيرة في سير الحياة الفرنسية العامة.

محمد عبد الله عنان

ص: 20

‌الأدب والخلود

بدت في أفق الوجود منذ أقدم العصور أنواع كثيرة من الحيوان والنبات، ظلت تتصارع مع إرادة البيئة وعوامل الموت والحياة حقبا طوالا، حتى فرق بينها قانون (تنازع البقاء) بكلمته الحاسمة، فسكنت رحى الحرب وأسفرت تلك الوقائع عن خطوط متباينة لكل نوع منها عن الآخر: فمنها ما كان ضعيف الايد فقير العدة لم يستطع أن ينجو من نار هذا التنافس المستعر فالتهمته ألسنتها وأسدلت على كيانه وذكراه حجاب العدم إلى الأبد، ومنها ما جاوزته هذه النيران وقد أبقت منه هيكلا هشيما أو بقايا منثورة لم تزل مطمورة تحت أطباق الثرى حتى عثر عليها رجال الآثار والحفريات فنشروها في صدور المعارض والمتاحف، ووهبوها بعثا جديدا لحياة الذكرى. وكان هناك غير هذين ما وهبته الطبيعة أمضى الأسلحة للوقاية أو السطوة، فكان هو الصامد للهول الصائل في المجال حتى خرج مظفرا منصورا رافعا لواء الحياة!

كذلك في أفق الفنون والآداب نرى مثل هذا الصراع العنيف دائر الرحى بين أنواعها المختلفة، وبين مؤثرات العدم والوجود، كأنها كائنات حية شاخصات الجثمان تحكم بينها قوانين النشوة والبقاء. ولئن كانت حرب الأنواع المادية قد خمدت نارها منذ آماد لتؤول إلى نضال آخر بين فصائل النوع الذي ظفر بالبقاء، فأن صراع منتجات العقل وبخاصة ما كان في دائرة الأدب لما يزل حامي الوطيس مشتعل اللهيب منذ أخذ الفكر وأخذت العاطفة تفتح عيونها على الكون، وتتعرف ما فيه من ظواهر وأسرار إلى اليوم. وسيضل هكذا يزداد أواره احتداما كلما نما العقل واتسعت شعاب الحياة أمام العواطف، وكلما ارتقت مثل الإنسانية وآمال المجتمعات والأفراد في سماء الحضارة الرحيبة الآفاق، فكل أدب واهن القوى أو فاقد الأداة لا بد أن يكون مصيرهكمصير ذلك الكائن الضعيف إما فناء أبديا أو فناء يتخلله البعث للذكرى في خزائن الكتب، أو شوارد التاريخ أو على جدار المعابد، وكل أدب موفور القوة موهوب المناعة لابد أن يغالب الزمان ويبقى على الحدثان. هكذا توزعت الجدود على أنواع الأدب في كل عصوره الماضية وكذلك سيبقى نظامها، وقد تكون تلك الظاهرة ملحوظة في جملتها قريبة الإدراك بشكل عام عند من يتنبهون إلى حقائق الموت والحياة في المعنويات كما يعرفونها في الحسيات، ولكن الغموض وسوء الإدراك إنما يقعان في تحديد معاني هذه الحقائق، ودقة الإحاطة بمدلول كلمات الضعف والقوة والغلبة

ص: 21

والهزيمة، وفي العثور على محور التنافس والنزاع، وكشف القوانين التي تعمل من وراء هذا كله لترجيح كفتي الفناء أو الخلود إحداهما على الأخرى. فكثير من متناولي الأدب من يقف اليوم خاشعا أمام تراثنا الأدبي القديم، مستلهماً نفحات الخلود من سطوره وكلماته لأنه قديم باقي منذ مئات الأعوام إلى اليوم برغم الغير والأحداث، دون أن يفرق بين أدب لا يجدر به أن يحفظ إلا ليؤدي مثل وظيفة تلك البقايا الحفرية تسجن في غرف المتاحف فتذكر بنوع باد وانقرض، وبين أدب خالد وثيق الصلة بعناصر الحياة فهو باق بأصله وأثره ولو اندثرت ألفاظه، وليس من سبب لهذا النظر الواهم إلا عدم الإحاطة بدائرة الخلود وتنور الأسس التي يشاد عليها صرحه وما يؤدي إليه هذا الإبهام من قصور عن إدراك الفارق الكبير بين مدلول كلمتي (الخلود) و (البقاء) في العرف الأدبي الدقيق.

ليس الخلود في الأدب هو مجرد البقاء، وإن أوضح ما يبدي الفرق

بينهما هو ذات هذا التباين الذي أدركناه بين بقاء الآثار والعاديات وبين

بقاء الكائن الحي الخالد، ويمكن أن يعبر عن تلك الميزة الكبرى بأن

خلود هذا الكائن إنما هو بقاء مقرون بالتأثير والتأثر، أو هو بقاء قابل

فاعل، أو هو الحياة، فالأثر الأدبي كالأثر المادي سواء في أن كلا

منهما لا تتحقق له صفة الخلود إلا إذا امتاز بصفات وخواص

تؤهلهلان يظل مشتركاً مع دوره هذا الكون الحي بآثار يحدثها فتزيد

في قوة تلك الدورة، أو بطواعية ولطف تقبل لما يوحي به الكون من

غايات، وما يتطلبه من نظم، وبقدر ثروته من هذه الخصائص تتعين

له منزلته من درجات الخلود المتفاوتة السمو، غير أن الكائن المادي

يؤدي وظيفة حياته هذه بالفعل أو الترك، والأدبي إنما يؤديها بما فيه

من أفكار ووجدانات.

وإذا كانت مؤهلات الخلود للنوع المادي هي في هذا التكوين الدقيق المنظم من عناصر

ص: 22

متجانسة متوافقة، انتخبت من جنس عناصر الكون الخالد، لتشترك باتحاد ذروتها واتساق تركيبها في تأدية سلسلة مترابطة من الغايات، حتى تنتهي إلى الغاية الكبرى من تكون الكائن كله بجميع أجهزته وأعضائه، وهي الاتصال المباشر بدورة الحياة وبالنشاط والحركة والعمل والإنتاج والإهلاك والإدارة بنوعيها من سلب وإيجاب - كذلك مؤهلات الخلود للنوع الأدبي إنما هي في تكوينه من لباب من المعاني، مأخوذ بمهارة من صفحة الكون الزاخر بالحقائق والأحلام، متسق العناصر والأجزاء بدقة وتفنن وابتكار، حتى يبدو في شكل وحدة متلائمة كلها أفكار ووجدانات، تؤدي غايتها العظمى، مؤثرة تارة في الحياة ببعث الحق فيها والخير والفضيلة والكمال، أو متأثرة بها تارة أخرى بتقديس ما بها من جمال وعبادة ما وراءها من أسرار وامتزاج بما فيها من روح!

ذلك هو الشرط الخلود بحدوده العامة، وليس هو قيدا نبتكره ونمليه نحن على الأدب وأهله، وإنما هو فيما نرى قانون ثابت أملته طبيعة الحياة من قبل على الكائنات المادية، ونفذت أحكامه عليها بعنف وقسوة، وهي تمليه اليوم وتطبقه على الكائنات المعنوية بعد أن اشتد تنافسها وكثرت أنواعها، وبعد أن أصبح للآداب كيان ظاهر في الحياة الإنسانية يسعى إلى مثل ويتجه إلى مقاصد، أو كما يقول النحاة بعد أن أصبح (عمدة) لا (فضلة).

ولقد ظهرت آثار هذا القانون بجلاء منذ بضعة قرون في الحياة الأدبية لأمم أوربا الراقية حين أخذت آدابهم تنمو وتستقل وتقوى شخصيتها وتتحدد غاياتها، فنشأت عندهم مذاهب النقد وطرائق البحث التي تعمل كلها في ضوء هذا القانون حتى لا تمنح رتبت الخلود إلا لما أحتوى على عناصره وتحقق فيه شروطه، وهاهو ذا تراثهم الأدبي تجد فيه سجل الخلود منشورا واضحا لا يجمع إلا أمثال أسماء شكسبير وملتون وشلي وبيرون وتنيسون وسكوت في انجلترا وموليير وروسو وفولتير وهوجو في فرنسا ولسنج وشلر وجيته في ألمانيا، وغيرهم ممن يظاهيهم أو يقاربهم مرتبين في درجات مختلفة من الخلود بحسب ما حاز كا منهم من عناصره. أما نحن فلا تزال حياتنا الأدبية ناشئة حديثة، وقد كانت إلى عهد قريب حائرة ضعيفة الإدراك لا تدري أي سبيل تسلك ولا على أي مرفأ ترسو. لأن الشعور بالحياة كان ضيق الدائرة ضئيلا، وكان سوء التقدير وفساد الفهم لغايات الأدب ومعاني خلوده يحاصر هذا الضيق ويأبى عليه أن يكتسب مرونة أو اتساعا. ولكنها الآن قد

ص: 23

أخذت تنهج طريقة أختها الأوربية وتفتح عينها على الحياة وترشف من رحيق أسرارها ومثلها، معتزة بوجودها، مكتسبة كل ما يزيدها نموا وارتقاء، وبهذا حق عليها أن تدفع ثمن هذه الحرية غاليا، وتتقبل راضية أو كارهة قانون الحياة الدائم، فلا خلود إلا لمن ظفر بشرطه وأوفى على غايتة. نعم لم يعد يسيرا في هذا العصر لأثر أدبي أن يظفر بالخلود، لأن التنافس يزداد شدة كلما تقدمت الحضارة خطوة، ولأن ذوق الجمهور قد أخذ يدق وسمو حتى ليكاد يصبح ناقدا عاما، ووجدانه قد بدأ يزخر بالآمال والعواطف حتى يأبى إلا أن يحتسي كأس الحياة حتى الثمالة، وأرادته ايضا قد غدت حرة قوية مؤثرة حتى لا تقنع إلا بنشدان المثل العليا. وهذه كلها نتائج طبيعية لنشر وسائل التهذيب من تعليم وصحافة وأقاصيص وتمثيل وخيالة، ولحياته بروح الدساتير الحديثة التي تكفل له الحرية وتسيغ له الاشتراك في الحكم والدولة، ولشدة أمتزاج الشعوب اليوم بعضها ببعض وسرعة تبادل الأفكار والمشاعر، فهل يقنع هذا المجهود الطامح المهذب إلا بأدب يمثل قانون الخلود فقرة فقرة؟ لابد إذا لوجود هذا الأدب السامي من أديب يملك بفطريه نفسا شاعرة نبيلة دقيقة الحس كميزان الذهب، تتلقى الإلهام والوحي من محيط الوجود كما يتلقى الجارس (الراديو) موجات الأثير حاملات الأغاني لا يشعر بها غيره، وعقل صافياً كالعدسة المكبرة تواجه الشيء فيتجلى فيها بخفاياه وحذافيره، قد صقلته التربية ووسعت أفقه التجارب والثقافة المحيطة، وقدرة ماهرة على التنسيق والتنويع وحسن الصياغة بابتكار واستقلال.

وندع الآن مشكلة اللفظ وما تنتجه من مسائل الفصاحة والبلاغة فإنما نحن نتحدث عن الجوهر لا عن العرض، ونبحث في القانون الثابت المطرد لا الأمر العارض النسبي، ولسنا نعني بذلك ان نهمل البتة ناحية اللفظ فنكسو الحسناء الجميلة ثوباً خلقا مهلهلا، بل الذي إليه نقصد أن سر خلود الأدب أصالة إنما هو في معناه، ثم تأتي مسألة اللفظ بعد ذلك مختلفة باختلاف اللغات متفاوتة بتفاوت الأذواق، فكم في اللغات العامية من معان رائعة حية الأثر تتداولها الألسنة رواية لا تدوينا، وبداهة لا تعليما، وهي خالدة على مر الأجيال في معزل عن اللغة الفصحى بل في نفور منها أن تشوه جمالها، وكم في اللغات الأعجمية من آثار خالدة أيضاً لم تدرك لغتنا الفصحى شأوها بعد ولا يضيرها أن تؤدي برطانة الأعجام! فمسألة الخلود في الحقيقة مسألة المعنى وهي الأمر الثمين النادر، أما اللفظ فيسير

ص: 24

الثمن بتعلم اللغة والاطلاع على أساليبها. وكأننا بهذا نعكس رأي علماء البلاغة الأقدمين إذ كانوا يقولون: ان المعاني منثورة في الطريق يعرفها الفصيح والمفحم والعالم والأمي والبدوي والحضري، ولكن الفرق كله بين هؤلاء في اختيار اللفظ وحسن التركيب!

ولعمري ما أشبههم في ذلك بمن يقولون إن الذهب والفضة مطروحة في الطرقات، ولكن المشكلة المعضلة حقا إنما هي: كيف يحمل الفقير تلك الكنوز؟!

وبنظرة نرددها بين غاية الخلود البعيدة المدى، وبين أدبنا الحديث، نستطيع أن ندرك كيف ينحرف هذا الأدب عن الهدف الذي يجب أن يقصد؛ ثم إذا تتبعنا خط الميل عن الجادة المستقيمة لم نلبث أن نقف على نقطة الانحراف أو رأس المفترق، وليست هي فيما أرى الا حيث يتدفق سيل التقليد الجارف، فيكتسح أدبنا أمامه ويحول بصره عن الهدف إلى صحراء العصور الخالية، ولقد سار أدبنا منذ نشأته في هذا الطريق المنحرف مراحل واسعة، ثم جاء الأدباء المجددون والشباب المثقف الحديث فحاولوا أن يمسكوا بزمامه ويردوه إلى غايته، فإذا به يستقيم ويعدل سيره في أنوارهم وهو حقيقة يوشك ان يعتدل. بيد ان انكساره القديم قد ترك في بصره بعض الزيغ وفي هيكله بعض الاعوجاج!

كانت الروح الفردية هي عماد الأدب القديم، وما زالت هي أيضا عماد أدبنا الحديث، فكما كان رجل الصحراء ينشد أدبه الغنائي في حدود نفسه معتزاً بشخصيته دون غيرها، حين يصف حبه وهيامه وحوادث غرامه أو حين يصف ناقته وفرسه أو يفخر بشجاعته وبأسه، كذلك نحن لا نبرح مقيدين بخطته مقتفين أثره لا نعني أكثر ما نعنى إلا بالتغني بهذه الأغراض الفردية الضيقة من حب شخصي وحزن وسرور ورثاء ومدح لا تعدو حدود النفس، ولست أدري كيف نمهد لنا عذرا عن هذه الأثرة التقليدية إذا وضحت أمامنا أعذار الرجل الصحراوي وقد كانت طبيعة بيئته ونظام حياته لا يسمحان ببناء مجمع مترابط ممتزج بل تلحان على كل فرد أن يكون هو مجتمع نفسه وحكومة شخصه؟

وهل تلك الحياة المفككة هي حياتنا اليوم؟ أليست دعامة هذا العصر المتحضر هي قوة روح الاجتماع وتشييد بناء الوحدة وتربية الفرد ليفنى في المجموع؟ إذن فلن ينطلق أدبنا من رجعيته الا إذا جارى العصر وساير الحياة فاندمج في المجتمع بما فيه من سياسة ودين وتربية وأخلاق وغاص إلى أعماقه وترجح على أمواجه؛ متشربا العواطف الإنسانية لا

ص: 25

على إنها نزعات فردية من شخص لآخر، ولكن على انها ظواهر اجتماعية لها آثارها في المجتمع ولها أحوالها وخواصها المتأثرة به المتغيرة بتغير، وناظراً منصتاً لا في منطقة شخصه ولكن في رحاب المجتمع الطليق يراه كيف يجد ويلعب وكيف يفكر، وكيف يشعر، ويسمعه بأي لحن ينطق ويغني ويئن ويهتف، ضاربا معه على أوتار أفراحه وأحزانه؛ صاعداً إلى سماء الآمال أو منحدراً إلى أرض الهوان، صارخا في ثورته، نائما في رقدته.

وكان الأدب القديم نسيجا من خواطر وأحاسيس هي بنت ساعتها، ووليدة حادثتها، توضع متراصة مسرودة دون أن ينظمها سمط من العلم أو رباط من العقل، وما زال أدبنا الحديث أيضا نسيجا من مثل هذه الخواطر والاحاسيس؛ لا يحاول أن يتقرب إلى العلم أو يصافح الفلسفة أو يمد يده إلى علم النفس، بل كثيرا ما يقف منها موقف الاضداد، فإذا كان منشأ هذا النقص عند أدباء القرون الماضية هو فقرهم من هذه الثروة الفكرية العظيمة؛ وفهمهم الأدب على أنه منفذ للشعور الفردي الوقتي كيفما كان لا كما نفهمه نحن اليوم من أنه دعامة من دعائم الحضارة وأسس الاجتماع المهذب الراقي - فبأي سبب غير عماية التقليد نعلل وجود هذا النقص في أدبنا إذن ونحن في عصر يفهم الأدب على هذا الوجه، ثري بما فيه من منتجات الفكر؟

ولعل هذه الروح الجديدة التي نحاول أن نشربها أدبنا ليتصل بالعلم والاجتماع، تدل بنفسها على أنها لا تستطيع أن تحيا وتنمو وراء هذه الأسوار الضيقة التي كانت تحاصر الأدب القديم: أسوار الشعر الغنائي والحكم المقتضبة والأمثال الموجزة، والفصول الكتابية والأراجيز النظمية تعقد لبيان الأخلاق والنصائح والعظات في قواعد وقضايا آخذ بعضها برقاب بعض. وإنما هي يريد قبل أن نفكر في استلهامها أن نهدم هذه الأسوار ونخرج إلى ميدان القصة والملحمة والرواية الرحيب الجوانب فننثر في فضائه ما نريد من حكم ووصف وعظات وما نشاء من وحي الفكر والوجدان.

أجل، فان ذروة الخلود سوف تدنو من صروح القصة والرواية وما حكاهما، وسوف تكون هذه الأنواع أقوى أنواع الأدب وأكبرها اثرا في تأدية وظائفه في الحياة الإنسانية بين الجماعات والافراد، وستندمج في ثناياها تلك الأنواع الصغيرة التي لا تحتوي الا على خطرات محدودة من مشاعر الحب والانتقام والهجاء والفخر والحماسة والمثل والوصية

ص: 26

والمراسلة وما جرى مجراها، فلا يبقى منها مستقلا إلا ما ترشحه رقة نغماته ووحدة موضوعه وصدق شعوره ليجيب بعض نداءات الحياة القصيرة التي لا تتحمل أعباء القصة ولا تستطيع تغذيتها. وفيما خلا ذلك تنهض القصة بدعوات الحياة الكبيرة وتخض معارك الاجتماع وترتوي من منابع العلم فتصبح صورة صادقة ناطقة للإنسان والكون وما بينهما من أسباب وصلات.

وحري بنا ألان وقد جرت معنا ألفاظ الغاية والهدف والقصد إلى جانب الأدب أن ندفع ما قد يدور بخلد ظان من أننا نريد أن تكون الغاية هي التي تخلق الأدب وتتحكم فيه، فلا يكتب الأديب أو ينظم إلا لغاية قد تعمدها ونصبها أمامه، فان مآل هذا أن يصبح الأدب صناعة لا فنا وأن يصير الأديب مصنوعا لا مطبوعاً، وإنما نحن ننسب الغاية إلى الأدب على سبيل المجاز، ونريد في الحقيقة أن يصدر الأدب عن نفس تشربت من قبل بالغايات والمبادئ حتى ذابت فيها وتحولت إلى وجدان حي ورغبة فنية دافعة، فهي لا تكتب بعد ذلك ناظرة إلى غاية منفصلة، وإنما هي تعبر عن شعورها المتصل بها وفكرها الذي أصبح ملكا لها إرضاء لطبيعتها الفنية وفطرتها الأدبية، فكأن للأدب غاية لا ترى لا بعد صدوره بالفطرة.

وللخلود في الأدب مناطق تختلف سعة وامتدادا. فقد يسري حتى يعم العالم بأجمعه ويصير أدبا عالميا، وقد يقتصر على أمته وشعبه فيكون أدباً قومياً. وحولهما درجات، والسر في هذا إنما يرجع إلى اختلاف موضوعاته: فإذا كان متناوله النفس الإنسانية من حيث هي لا باعتبار الأجناس والأنواع فهو جار مع النفس الإنسانية في كل مكان. وكذلك إذا كانت وجهته الكون والطبيعة والمعاني الكلية التي لا تحدها الأمكنة، ولا تطغى عليها البيئات. ومن أظهر الأمثلة لذلك أدب المعري وابن الرومي والخيام في الشرق، وشكسبير وروسو وهوجو في الغرب. أما إذا كان موضوعه مصبوغاً بصبغة البيئة وألوان المكان وأغراض الشعوب والأجناس فهو خالد في حدود من يصورهم ويتحدث بلسانهم. ومن أمثلته بعض أدب حافظ وشوقي مما يغذي الوطنية في مصر، ورديارد كبلنج في إنجلترا، وجميع الآداب القومية التي يعتز بها اليوم كل شعب. وليس يعني هذا التفاوت في سعة النفوذ تفضيلاً في الرتبة بين خلود وآخر، لان الأديب قد ينتج النوعين وينبغ في الناحيتين معا، ولكنه يقال

ص: 27

كقاعدة عامة في هذا العصر الذي أصبحت القومية روح وجوده أنه لا بد لكل شعب من أدباء قوميين يغذونه بالأدب الرفيع الخالد.

محمد ضياء الدين الريس

ص: 28

‌فلسفة سبنسر

للأستاذ زكي نجيب محمود

- 2 -

تطور الحياة

يبدأ سبنسر كتابه عن تطور الحياة بتعريف الحياة نفسها بأنها التوفيق بين الكائن الحي وبيئته، ويتوقف كمالها على كمال هذا التوفيق. فهذا حيوان يكتسي بالفراء ليتقي لذعة البرد، وذلك قد أعد لاختزان الطعام لما عساه أن يصادفه من قحط وإجداب، وثالث يستطيع أن يتلون بلون الأرض التي يدب فوقها حتى لا يبصره العدو فيفتك به، إلى آخر هذه الوسائل التي زودت بها الطبيعة الأحياء، أو بعبارة أصح، التي قسرها الأحياء قسرا على أن تزودهم بها للذود عن حياتهم، مما يعلم القراء جميعا. وبديهي أن هذه الملاءمة لم تبلغ ولن تبلغ درجة الكمال ما دام الحيوان مخلوقا ناقصا يعتريه الضعف والموت، ولكن مهما يكن من أمر فهو دائب لا يني عن السعي الحثيث في زيادة هذه الملاءمة شيئا فشيئا، بان يكمل هذا النقص تارة وذاك طورا، وينقح من أعضائه حتى تتمكن من مجاوبة الطبيعة ومقاومتها، ومعنى ذلك أن الكائن الحي يشعر بالحاجة أولا ثم ينطلق في سعيه جيلا بعد جيل يستمد من الطبيعة عضواً يسد له ما أحس من نقص، فهو مثلا يشعر بحاجته إلى النظر لكي يتبين ما يحيط به في دقة ووضوح فيكون لنفسه على مر الدهر عضوا للإبصار وهكذا قل في سائر الأعضاء،

وليست الحياة إلا هذا التوفيق الذي لا تنقطع أسبابه، ولا تقتصر هذه المحاولة على أفراد الحيوان، بل تعدوها إلى الأنواع، إذ يسعى كل نوع باعتباره كل الملاءمة بينه وبين البيئة. ويرى سبنسر توافقا عجيبا بين تكاثر الحيوان وما يحيط به من الظروف الطبيعية، فهو يرى أن الأصل في التناسل هو تخلص الكائن الحي من زيادة في حجمه لا تتناسب مع جهازه الهضمي، أي أن كتلة الكائن الحي إذا اطردت في النمو، تصل إلى حد لا تستطيع معه المعدة أن تسد حاجتها في الغذاء، وعندئذ يضطر الحيوان إلى ان يقف نموه عند حد معين، وكل زيادة تجيء بعد ذلك يتخلص منها بان يخرجها نسلا. وتطبيق ذلك، أن الإنسان، ذكرا كان أم أنثى، يأخذ جسمه في النمو إلى حد محدود ثم يقف نموه إذا ما جاءت

ص: 29

مرحلة التناسل، ولذا نرى أن عدد النسل يتناسب تناسبا عكسيا مع درجة النمو، فكلما كبر حجم الحيوان كان نسله أقل عددان فبينما تنسل الذبابة مثلا عشرات الذباب لا يلد الفيل إلا واحدا. كذلك يتناسب عدد النسل مع مقدرة الحيوان على مقابلة الاخطار. فان كان ضعيفا عاجزا عن صد ما يتهدده من الكوارث لجأ إلى كثرة النسل ليعوض فناء أفراده الناشئ من ضعف المقاومة وإلا تلاشى النوع. والعكس صحيح، أي إذا كان النوع قادرا على الاحتفاظ ببقائه، وجبت قلة النسل، والا رجحت كثرة العدد على كمية الطعام. ومعنى ذلك بعبارة أخرى أنه كلما ارتقى النوع في سلم الحياة، كان أقدر على الأحتفاظ بوجوده، وكان بالتالي قليل النسل. وهذه القاعدة صحيحة إلى حد كبير حتى في الأفراد، أي إذا ارتقى الفرد في عقليته وذكائه كان أقل نسلا. ومما هو جدير بالذكر أنه كلما ازدادت عند الفرد كمية الاستهلاك العقلي أي التفكير - قل عدد النسل أو انعدم. ولعل أبلغ آية لذلك عقم الفلاسفة. وقد يشير هذا الدليل إلى إن الإنسانية تسير في تطورها نحو مرحلة تزيد فيها القوة العقلية ويقل عدد النسل.

وعلى الرغم من ان الطبيعة ساهرة على هذا التوفيق بين نسبة التناسل وحاجة النوع. فقد يظهر إنها أخطأت الحساب ومالت نحو الإكثار من السكان، بغض النظر عن كمية الغذاء، وحق لملتوس أن يجهر بدعوته إلى ضبط النسل لما لاحظه من زيادة السكان على مواد الغذاء.

تطور المجتمع

ليست دراسة الاجتماع باليسيرة الممهدة، بل يعترض سبيلها من العقبات والصعاب ما لا يستطيع التغلب عليها إلا الأفذاذ الفحول، فقد حدث مرة ان ارتحل رجل فرنسي إلى إنجلترا يقضي بأرضها بعض الوقت ترويحا للنفس وحبا للاستطلاع فلم يكد ينقضي علت إقامته بها أسابيع ثلاثة حتى اعتزم ان يصدر كتابا عن انجلترا، اذ خيل اليه انه قد درس شعبها فأتقن الدراسة، فلما انقضت شهور ثلاثة، هم بوضع كتابه، ولكنه أدرك أنه لم يتقن الدراسة بعد بحيث يستطيع أن يخرج الكتاب الذي يريد، وآثر الروية والاناة، فلما انقضت سنوات ثلاث، اتسع شعوره بالعجز والقصور، وأيقن أنه لا يعلم من موضوعه شيئا. . . وهذا صحيح، فقد يخيل للإنسان للوهلة الأولى ان دراسة المجتمع سهلة ميسورة، ولكنه

ص: 30

كلما ازداد علما بدقائقه، ازداد يقينا بجهله وعجزه.

فما بالك بالجهود التي بذلها سبنسر، وهو لا يريد أن يدرس شعبا بعينه فحسب، بل يقصد إلى دراسة المجتمع الإنساني باسره وكيف تطور كيانه م حالة إلى حالة؟ فهو يرى أن المجتمع كائن عضوي له أعضاء للتغذية وله دورة دموية، وفيه تعاون بين الاعضاء، وله فوق ذلك تناسل وإفراز، شأنه في كل ألوان الحياة شأن الأفراد سواء بسواء. . . فهو ينمو، وكلما ازداد نموه اشتد تعقداً، وكلما تعقد ازدادت أجزاؤه استقلالا. وحياة المجتمع باعتباره كلا طويلة جداً بالنسبة إلى حياة أجزائه التي يتألف منها. والمجتمع كالفرد يتعاوره التكوين والانحلال وهما وجها التطور: فنمو الوحدة السياسية من الاسرة إلى الدولة ثم إلى عصبة الامم، ونمو الوحدة الاقتصادية من الصناعة المنزلية الصغيرة إلى نظام الشركات ثم إلى الاحتكار، ونمو وحدة السكان من القرية إلى المدينة. . . كل هذه ظواهر للتجمع والتكوين، ولكنك من جهة أخرى ترى تقسيم العمل وتعدد المهن والصناعات، وتنوع الانتاج بين الريف والمدن، وبين أمة وأمة. . . وهي دلائل تشير إلى التنوع والتنافر. . وتستطيع كذلك أن تلمس التطور بشطريه - تآلف الأجزاء في وحدة، ثم تنافرها داخل تلك الوحدة - في كل جانب من جوانب المجتمع: في الدين والحكومة والعلم والفن وغيرها.

فقد كان الدين أول الأمر عبادة طائفة من الآلهة والأرواح، فأخذت هذه تتجمع وتأتلف حتى تركزت في إله واحد. . ثم عاد التوحيد فتفرع إلى جملة من الأديان وطائفة من العقائد، ولم يتحور الدين في شكله فقط، بل تبدل موقعه من النفوس كذلك. فقد كان الجمهور الذي تدور حوله رحى الحياة بأسرها، ذلك لأنه ألقى في روع الإنسان الأول ان هذه الحياة الدنيا غرور ولهو، ويجب أن يربأ بنفسه أن تنغمس في حمأتها أو تتلوث بأدرانها ولتكن الآخرة وحدها محطا لآماله ومعقداً لأمانيه فهي خير من الأولى وأبقى، ولكن ما لبثت وجهة النظر أن تطورت، وتوجه الإنسان بشطر من عنايته نحو هذه الحياة التي يعيش فيها. وأخذت تلك العناية تزداد شيئا فشيئا كلما اتسع نطاق العمل الصناعي.

أما نظام المجتمع فلعل أبلغ ما طرأ عليه من تغيير، هو الانتقال التدريجي من النظام الحربي الذي ساد أوربا إبان العصور الوسطى إلى النظام الاقتصادي الصناعي، ويتقد سبنسر أن تقسيم الحكومات إلى ملكية وأرستقراطية وديموقراطية وما إلى ذلك، ان هو الا

ص: 31

عرض تافه لا يمس الجوهر والصميم، وأما الحد الفاصل الذي يميز دولة من دولة، فهو أساس بنائها الاجتماعي. هل يقوم علت النزعة الحربية أم يصطبغ بصبغة الصناعة، وبعبارة أخرى تنقسم نظم الاجتماع نوعين: جماعة تعيش من أجل النزال والقتال، كما كانت الحال في نظام الاقطاع، وجماعة لا تجد في الحياة هدفا تتجه صوبه وتحيا به ومن أجله سوى العمل، فتلك تحارب من أجل الحياة، وهذه تعمل من أجل الحياة.

وللدولة الحربية صفات تلازمها، منها ان السلطة تتركز في قبضة الحكومة وحدها، ويغلب أن تكون حكومة ملكية لا تدخر وسعا للتفريق بين الشعب الواحد إلى طبقات بعضها فوق بعض، فتكون الحرب والفروسية صناعة الأشراف، وللسوقة الصناعة وفلاحة الأرض. . . كذلك تعظم في الدولة الحربية سيطرة الرجل في الأسرة، ذلك لأن الرجال هم عماد الحروب، وأين منزلة الرجل في حومة الوغى من منزلة المرأة قابعة في عقر دارها؟! ويمقت سبنسر هذا الضرب من الاجتماع الذي تدور حياته حول قطب الحرب، لأن مصلحة الفرد تذوب وتتلاشى في صالح المجموع، ولأن الدولة لا تقوم الا على القتل والسرقة، ونحن إن كنا نصم الإنسان الأول بالوحشية لأنه كان يلتهم لحوم البشر، فما أجدرنا أن نزدري هذه الدول الني تأكل شعوبا بأسرها في وجبة واحدة! ويعتقد سبنسر ان رقي الإنسانية مرهون بإلغاء الحروب، وهو لا يرى سبيلا لتحقيق هذا المثل الأعلى سوى أن تقطع الأمم شوطا بعيدا في الصناعة لأنها تعمل على المساواة والسلام، وهي تقسم السلطة بين أعضاء المجتمع جميعا ولا تركزها في أيدي الحكومة وحدها، وفضلاً عن ذلك فهي تشحذ العقول وتدفعها إلى الابتكار، وهو المعول الهدام الذي يكفل لنا تحطيم التقاليد الوراثية التي تقوي من شوكة الحكومة. . . وستصبح الوطنية في ظل الصناعة حبا للوطن لا كراهية الأوطان الأخرى، ثم إذا اطرد نموها، فستؤدي حتما إلى ازالة الحواجز الجمركية التي تفصل الدول بعضها عن بعض، وعندئذ تورق دوحة السلام وتمتد فروعها حتى يتفيأ ظلها أبناء الإنسانية جميعا. . . وإذا ما خفقت راية السلام وأمحت الحروب، زالت دولة الرجل، ولا يعود له في أسرته سلطة الحجاج التي ينعم بها، ويرتفع قدر المرأة حتى تقف معه كتفا إلى كتف، لتشابه ما يؤديان من عمل، وعندئذ فقط يتحقق تحرير المرأة الذي تنشده.

ص: 32

ولما كانت الصناعة تستقي ماء حياتها من العلوم، فلا ريب في أن تقدمها وانتشارها ينتجان تربية التفكير العلمي وصحة الاستنتاج للأسباب والمسببات، ولن يلجأ الإنسان بعدئذ إلى قوى الطبيعة الخارقة والأبالسة والشياطين يعلل بها أحداث الحياة. . . وفوق هذا كله سينقلب التاريخ رأسا على عقب، فستزدهر صحائفه بذكر الرجال العاملين بدلا من الملوك المحاربين، وسيفسح في مجاله للمخترعات والأفكار. . . سيزداد الشعب سلطانا وقوة، وتتقلص سطوة الحكومة وتنكمش، وسيبطل ذلك الوهم العتيق البالي الذي يفرض على الفرد أن يحيا من أجل دولته، وأن يضحي بنفسه في سبيلها، وسيعلم الناس حقا ان الدولة إنما وجدت وأنشئت لصالح الفرد، وان كان هذا هكذا فلا يجوز أن تضحي الحياة من أجل العمل، بل يجب أن يكون العمل أداة تستغلها الحياة في تحقيق السعادة والهناء.

تطور الأخلاق

على أي أساس نشيد مبادئ الأخلاق؟ وبأي مقياس نزن الخير والشر؟ أما سبنسر وأتباعه فلا يترددون لحظة في إخضاع الأخلاق، كأي شيء آخر، إلى قوانين التطور وانتخاب الطبيعة، وبعبارة أخرى يريدون أن نلقي بزمام الإنسان فقي يد الطبيعة نفسها تختار من أخلاقه ما تشاء. وقد ناهضهم طائفة كبيرة من العلماء والكتاب، يربأون بأخلاقنا التي تواضع المجتمع عليها أجيالا متعاقبة، أن توضع بين مطرقة الطبيعة وسندان التطور، يفعلان بها كيف شاء لهما الهوى وفي ذلك يقول هكسلي: إن علم الحياة لا يصلح دليلا خلقيا بأية حال من الاحوال، اذ كيف نترك مصيرنا في كف الطبيعة العمياء، وهي كما قال عنها تنسون الشاعر الإنجليزي (ملطخة بالدماء ناباً ومخلباً)!! نعم، كيف نذر الطبيعة تصب في قوالبها ما يطيب لها من أخلاق وهي كثيراً ما تمجد الوحشة والمكر والخداع وتمقت الرحمة والعدل والحب؟!

ولكن تحدث بهذا المنطق لغير سبنسر! لابد أن تخضع مبادئ الأخلاق للانتخاب الطبيعي وتنازع البقاء، وليبق من أخلاقنا ما يصمد لهذه التجربة القاسية، وليفن منها ما تذروه هذه الريح العاصفة. . . الأخلاق - كأي شيء آخر - تعود على الإنسان بالخير أو بالشر بمقدار ما تساوق أغراض الحياة (والخلق السامي هو ذلك الذي يسير مع الحياة ويشاطرها فيما ترمي إليه) فلنقبل من الأخلاق ما يلائم الحياة، ولنرفض منها ما يعترض سبيلها

ص: 33

ومجراها، أو بعبارة أخرى يجب أن تكون الأخلاق بحيث تعاون الفرد على البقاء في مضطرب الأهواء المختلفة المتنازعة التي تصدر من أعضاء المجتمع. ولما كانت هذه الملاءمة بين الفرد والمجتمع تختلف باختلاف الزمان والمكان، كانت بالتالي فكرة الخير تختلف عند الشعوب أوسع اختلاف. ويرى سبنسر أن الطبيعة قد زودتنا بمقياس دقيق نميز به الطيب من الخبيث، وهو مقياس السرور والألم، فإذا صادف سلوكنا من أنفسنا ارتياحا ورضى، كان ذلك دليلا على ملاءمته للحياة الكاملة، لان ذلك الاطمئنان الباطني علامة على أن الطبيعة قد اختارت ذلك السلوك ليكون سبيلا إلى حفظ الحياة. فأنت تستطيع إذن أن تفرق بين الخير والشر، بما يبعثه العمل المعين من سرور أو الم لأنهما دليل ساقته الطبيعة نفسها للتفريق بين هذا وذاك.

نعلم مما تقدم أن الأخلاق يختلف لونها باختلاف البيئة الطبيعية أو الاجتماعية، لأن الأولى صدى الثانية وانعكاسها، ولما كان نظام المجتمع في العصور الوسطى أخذ يتطور في كثير من أسسه وقواعده، كان حتما أن ينشأ عن هذا التحوير انقلاب في فكرة الأخلاق. فقد كانت أكاليل المجد والفخار لا تعرف موضعا غير هامة الفرسان المقاتلين، فأما هؤلاء الذين يقضون نهارهم في الزراعة والصناعة فعبيد أرقاء حقب عليهم الذلة والهوان، ولكن وجهة النظر أخذت تتطور منذ حلت الصناعة ورسخت قدمها، لانها تعتمد كما قدمنا على القوة العقلية، فأضحى العمل أشرف ما يمارسه الإنسان. لأنه عماد المجتمع وسنده. . . ولما كان هذا العمل لا ينمو ولا يستقيم إلا تحت ظل العدالة، وهذه بدورها لا تورق أو تزدهر إلا في جو من الحرية؛ كانت هذه الحرية أول واجب في عنق الدولة، وقد عرف سبنسر العدالة بان:(كل إنسان حر في أن يفعل ما يشاء، على شريطة ألا يتعارض ذلك مع حرية إنسان آخر له ماله من حقوق). ولا يستقيم هذا النص مع نزعة الحرب، لانها تعبد سلطان القوة وتفرض الطاعة العمياء، ولكنه شرط أساسي لنجاح الصناعة لأنها تعتمد على السلام والحرية في الراي والابتكار.

تلك هي حقوق الإنسان الأساسية عند سبنسر. حق الحياة وحق الحرية، فأما شكل الحكومة فلا يقيم له وزنا، فلتكن ملكية مطلقة أو دستورية أو ما شئت من نظم، فما لنا ولها ما دمنا نتمتع بالحرية والحياة؟ وفي هذا يسخر سبنسر من النساء اللائي يلححن في طلب الحقوق

ص: 34

السياسية، لأنها في رأيه وهم باطل لا يسمن ولا يغني من جوع، فضلاً عن أنه يتوجس من المرأة خيفة ان هي وثبت إلى مقاعد النيابة والحكم، اذ يخشى ان تدفعها غريزة الإيثار إلى تقوية الضعيف الذي يجب أن يرك للطبيعة تسحقه، فلا تذر من الاحياء غير الاقوياء، نعم يجب أن تتحكم الأنانية وان تظل أساسا لأعمالنا بحيث لا تلين لعاطفة الإيثار، فهي أسبق منه إلى الوجود، وهي أصلح للحياة والبقاء. . . . وهل الإيثار إلا أثرة في لبه وصميمه! أليست الأبوة حباً صريحاً للنفس؟ والوطنية ما هي؟ ألا تراها أثرة مجسمة؟ فأنت لا تنتصر لهذه البقعة من الأرض إلا لأنك تعيش بين أرجائها!

وخلاصة الرأي عند سبنسر أن المثل الأعلى للأخلاق هو مزيج متزن بين الاثرة والإيثار_الإيثار الذي يشبع الأنانية ويغذوها.

زكي نجيب محمود

ص: 35

‌في تاريخ الأدب العربي المصري

ابن قلاقس 532 - 567هـ (1138_1172م)

- 1 -

في ثغر الإسكندرية، مهبط الوداع واللقاء. حيث تجلب السفن قوما وتذهب بآخرين، وتحمل أناسا إلى أوطانهم، بينما تذهب بغيرهم إلى بلاد غير بلادهم وآل غير آلهم، وحيث البحر الأبيض يحمل عبابه السفن، مهتدية بمنار الثغر، فتحط اليه أو ترحل عنه، وفي رابع ربيع الآخر عام اثنين وثلاثين وخمسمائة ولد لعبد الله بن مخلوف بن علي ولد سماه نصبر الله، وكناه أبا الفتوح، ولقبه الناس بعد ذلك بالقاضي الاعز، وشهر في كتب الادب بابن قلاقس، وأرجح ما نراه سببا لكنيته الأخيرة أن أحد الأجداد في عمود نسبه يسمى بقلاقس، فحمل حفيده الشاعر النسبة إليه، (وقلاقس بقافين. الأولى مفتوحة والثانية مكسورة جمع قلقاس، وهو معروف) ولسنا ندري السبب الذي من أجله سمي جده بهذا الاسم.

ولد هذا الطفل الذي كان على ما يظهر نحيفا ضئيل الجسم، وظلت صفة النحافة ملازمة له، لم تبرحه طوال حياته حتى قال حينما كبر يحدثنا أن ضآلة الجسم لا تحول بينه وبين العلا:

جوهر المرء نفسه وبها الفض

ل، وما غير ذاك فهو فضول

والصغير الحقير يسمو به الس

ير فيعنو له الكبير الجليل

فرزن البيدق التنقل حتى ان

حط عنه في قيمة الدست فيل

ويروي بعض الرواة أنه لم تكن له لحية، ولكن شعره يحدثنا أنه كان خفيف العارضين يقول:

لا تغرنك اللحى من أناس

درجوا كالحمير تحت المخالي

ولئن خف عارضاي فاني

لا أبالي بكل وافي السبال

يلبس على رأسه عمامة كالتاج، وذلك كل ما تستطيع ان تصل اليه إذا أردت أن تعرف شيئا عن خلقه وزيه، فإذا أردت أن تدرس أسرته وأن تعرف شيئا عن أبيه وأمه فانك غير مهتد إلى ما يشفي غليلك، اللهم الا أنه يرجع في نسبه الاول إلى قبيلة عربية هي قبيلة لخم ان صح ما يقوله النسابون عن نسبه.

ص: 36

- 2 -

الحياة العملية لابن قلاقس يشوبها العموض، فلسنا ندري على وجه اليقين كيف تعلم، ولا ماذا تعلم، ولا على يد من تخرج، وان كنا نعلم انه درس في الازهر، وربما يكون قد طالت مدة دراسته حتى صح أن ينسب ويقال له الأزهري، كما إننا نعلم أنه صحب الشيخ الحافظ أبا طاهر أحمد بن محمد السلفي وهو أحد الحفاظ الذين رحلوا في طلب الحديث، ولقي المشايخ الأعلام ودرس الفقه على مذهب الشافعي، ثم ألقى عصا التسيار بالإسكندرية، حيث قصده أهل العلم من البلاد النائية، ويقال أنه لم يكن في اخر زمانه مثله، ولقد بنى الوزير المصري وزير الظاهر العبيدي له مدرسة بالإسكندرية وكل أمرها إليه، فقام بأعبائها.

أتصل ابن قلاقس بهذا العالم وانتفع بصحبته كثيرا، وان شعره الذي مدحه به يدلنا على ما كان بينهما من أواصر المودة وقوة العلاقة، كان السلفي رجل حديث فلا بد أن يكون ابن قلاقس قد درس عليه الحديث، وكان رجل فقه ولغة وأدب فلا بد أن يكون صاحبنا قد تأثر بفقهه وأدبه، وإذا كان الشاعر يهضم دراساته كلها ثم تأبى إلا أن يظهر أثرها في شعره فكذلك كان صاحبنا؛ فانك ترى في شعره بعض اصطلاحات علمية تدلنا على دراسته وما تلقاه، وأتنصت إليه يقول:

البدر في العرض الضياء وأنت قد

جمعت بجوهر ذاتك الاضواء

ألا يذكرك ذلك باصطلاح المتكلمين حينما يتحدثون عن العرض والجوهر والذات، ويقول:

وأنت ورثت الأكرمين علاهم

وعالت على قوم سواك الموارث

ويقول:

ملك شاعر الحماسة يأبى

أن يمل التسهيم والتقسيما

فهو يشير إلى الميراث والعول والتسهيم والتقسيم التي هي من الاصطلاحات الفرضيين واستعمالاتهم، ويقول:

وجدي بنحوك لا عطفا ولا بدلا

فانظر إليه تجده الكل توكيدا

ويقول:

خفضت بها الأشعار حتى كأنها

وإن رفعتني الآن من أحرف الجر

ص: 37

ويقول:

وأحسن بالرفع رفع الحدي

ث وإظهاره للجوى المضمر

فهو في كل هذه الأبيات يشير إلى قواعد النحو من عطف وبدل وتوكيد وخفض ورفع وحروف جر وإظهار وإضمار، وهي كلها اصطلاحات نحوية تلوكها ألسنة النحاة، كما كان في البيت الاخير يحدثنا عن رفع الحديث الذي هو من مصطلحات المحدثين كما قال:

لوارث الحمد يرويه ويسنده

إلى مناسب أجداد وآباء

إذ هو يشير إلى الرواية والإسناد اللذين يجريان على ألسنة المحدثين. ويقول:

حيث الدماء عقار يستحث على

ما شئت من رمل للخيل أو هزج

ففي رمل وهزج تورية ببحري الرمل والهزج اللذين يعرفهما علم العروض ويقول:

وأراك تريف الجمال بوجهه

فانظر إلى ألف العذراء ولامه

تلك هي العلوم التي نستطيع استنباط أنه درسها من شعره، واذا شئت أن تجملها قلت إنه درس الدين وعلومه واللغة العربية وعلومها كما أنه قد أخذ بحظ كبير من دراسة أدب الشعراء الغابرين وحفظ الكثير من أقوالهم، يدلنا على ذلك معارضته لهم في أشعارهم وقصائدهم واقتباسه الكثير من أفكارهم وتعبيراتهم، وإن شعر شاعرنا ليدلنا حقيقة على اطلاع واسع وثقافة متغذية بأشعار السابقين له: جاهليين وإسلاميين، وسوف نتحدث بعد عن اقتباسه ومعارضته حينما نحدثك عن شعره. قلنا انه صحب الحافظ السلفي، ونقول، ان التاريخ لم يحفظ من أسماء أساتذته إلا هذا الاسم، وقليا ان العلاقة التي كانت بينهما متينة العرى وثيقة الصلة تلمسها في شعره، وتقرؤها في المدح الذي يفيض قداسة وحبا، كما تلمس فيه بلك الدرجة العظيمة التي وصل اليها السلفي، وتلك المنزلة السامية التي كان يضعه فيها أهل عصره، وحسبك أن تسمع قوله فيه:

نجم علا نوره فكاد بأن

تقبض بالضوء عين من جحده

سائل به من رمته هيبته

فمات من خوفه، وما عمده

ألم تزره كواكب ضمنت

رجم شياطين كيده المرده

وأصبح العاضد الإمام به

في دولة بالسعود معتضده

وابتسم الثغر عن مفضله

بما ارتضى الله جده ودده

ص: 38

خر له الناس ساجدين فلو

شئت عددت النجوم في السجده

وشعره فيه كثير جدا يوجد في ديوانه، وكان السلفي كثيرا ما يثني عليه، ويقدره حق قدره.

- 3 -

عاش ابن قلاقس طوال حياته في عهد الدولة الفاطمية، تلك الدولة التي جعلت مصر سيدة لإمبراطورية ضخمة تمتد من المحيط الأطلسي إلى نهر الفرات، غير أن شاعرنا كان في آخر عهودها، وبعبارة أخرى كان في عهد ضعفها وانحلال قواها، إذ لم يكن الأمر والسلطان فيها للخليفة: يصرف الأمور ويدبر الشئون؛ ولكنهما كانا في أيدي الوزراء يفعلون ما يفعلون، ويدعون ما يدعون، ويولون الخلافة من يشاءون، فقام التنافس على الوزارة. كل يرجوها لنفسه ويصرف في سبيل نيلها ما شئت من مال وجند، مما كان مدعاة لأن توجه مصر قواها إلى نصر بعض بنيها على بعض لا إلى عدو آخر مغير، ولهذا كان تاريخ الدولة الفاطمية في آخر عهدها تاريخا للنزاع الذي كان قائما حينذاك بين الوزراء، ولعل ضعف سلطة الخليفة في أكثر المدة التي عاشها ابن قلاقس هي التي لم تدعه إلى السعي للاتصال به، بل هو لم يتصل بأحد من رجال السياسة المصرية المبرزين إلا بشاور الذي تغلب على خصمه رزيك وانتزع منه الوزارة، ولا زال الغالب يجد النصير ويجد المادح؛ لهذا تسمع ابن قلاقس يقول له:

يا آل شاور أنتمو دون الورى

للملك كالأرواح في أشباحه

والى معاليكم إشارة خرسه

والى أياديكم ثناء فصاحه

ويقول حينما انتصر على بني رزيك:

بك الاسلام قد لبس الشبابا

وكان سناه قد ولى فآبا

وهز الملك عطفيه بملك

تقلد فهمه، وكفى، ونابا

وقد لبست به الدنيا حلاها

جلاها حسنها خودا كعابا

وقالوا: أطول الاملاك باعا

فقلت: نعم، وأنداهم جنابا

سلوا عنه بني رزيك لما

أفاد الحرب منهم والحرابا

فان جعلوا الظلام لهم مطيا

فكم جعل النجوم لهم ركابا

ليهن الملك أن أمسى مصوناً

عشية راح غيرهم مصابا

ص: 39

وكذلك له شعر يحدثنا عما قام بين شاور وشيركوه الذي قدم لمساعدته ثم أبى شاور أن يفي له بما عاهده فاضطر شيركوه إلى الانسحاب من مصر مؤقتا؛ ويقول في ذلك ابن قلاقس:

عارض الصفح في يديك الصفاحا

ورأى البأس أن تطيع السماحا

فرفعت الجناح عن جارم الذن

ب بعفو خفضت منه الجناحا

ووضعت السلاح حين أراك ال

حزم والرأي ان وضعت السلاحا

أي ثغر سما اليه أبو الفت

ح فلم يبتدر اليه افتتاحا

بخيول طارت بأجنحة النص

ر فراحت بها تباري الرياحا

شاركت شيركوه في النفس والما

ل وصاحت به فصاحا فصاحا

طلب الأمن، فاستجيب، وما يع

رف منك الطلاب إلا النجاحا

بعد ما ضيق الحمام عليه

سبلاً غودرت لديه فساحا

فليطل تعدها الفخار، فقد را

ح طليقا لبيضكم حيث راحا

وبغير شاور لم يتصل شاعرنا بسياسي مبرز في السياسة المصرية اللهم إذا استثنينا القاضي الفاضل الذي توصل بجده ومهارته إلى أن يثب على كرسي ديوان الإنشاء عوضا عن الموفق بن الجلال الذي كان أستاذا له، وكان يشغل هذا المنصب قبله، وإذا أنت قرأت شعر ابن قلاقس في مدح القاضي لحظت فيه تأنفا واجتهادا في استعمال المحسنات اللفظية، ولا غرو فالقاضي الفاضل زعيم طريقة عرفت به وعرف بها: هي طريقة الجمال والتزيين اللفظي، فكان من حسن الذوق أن يجتهد مادحه في السير على نهجه واتباع مذهبه لان في ذلك إذاعة لطريقة يريد أن يذيعها، ويقولون: إن أول قصيدة قالها فيه هي التي أولها:

ما ضر ذاك الريم ألا يريم

لو كان يرثى لسليم سليم

ومنها:

من لفظه راح، وأخلاقه

روح، وتلك الدار دار النعيم

فارشف بأسماعك من قهوة

ما أحدثت من ندم للنديم

بلاغة جرت جريرا، ولم

تدع حطاما بيد ابن الحطيم

رأى به الديوان ديوانه

مطرزا باسم شريف وسيم

ص: 40

وقال يا عبد الحميد ادرع

من بعد هذا اليوم ثوب الذميم

علامة السؤدد معروفة

جسم نحيف وعلاء جسيم

وله فيه مدح كثير، وثناء على أخلاقه، وطريقة انشائه، وصاحبنا مع فخره بشعره يقف أمام القاضي الفاضل فيقول له:

أتينا بقرى الأشعا

ر نهديها إلى المدن

إلى من بحره الزا

خر لا يعبر بالسفن

إلي من لفظه يط

رب كاللحن بلا لحن

وهذان العظيمان شاور والقاضي الفاضل أكبر من اتصل بهما شاعرنا في الديار المصرية.

يتبع

أحمد محمد بدوي

ص: 41

‌من طرائف الشعر

الى زوجي الفاضل

قصيدة طريفة من الأدب النسوي الجميل

للسيدة منيرة توفيق حرم الصاغ محمد ماهر رشدي مأمور بندر

الزقازيق

طالَ السهادُ وأرّقت

عيني الكوارثُ والنوازل

لما جفاني من أح

بُّ وراحَ تشغلهُ الشواغل

وطوى صحيفة حبنا

وأصاخ سمعاً للعواذل

يا أيها الزوج الكري

م وأيها الحب المواصل

ما لي أراك معاندي

ومعذبي من غير طائل

لم ترع لي صِلةَ الهوى

وهجرتني والهجرُ قاتل

هل رمُتَ ان تغدو طلي

قاً لا يحولُ هواكَ حائل

أو رمتَ غيري زوجةً

يا للأسى مما تحاول

ان تبغ مالاً فالذي

تدريه انَّ المال زائل

أو تبغ أصلا فالتي

قاطعتها بنتُ الأماثل

أو تبغ حُسناً فالمحا

سنِ جمةَّ عندي مواثِل

أو تبغِ آداباً فأش

عاري على أدبي دلائل

أنا ما حَفِظتُ سوى الوفا

ءِ ولا ادَّخرت سُوى الفضائل

وأنا وَلي شرفُ العفا

فِ أُعَدُ مفخرة المنازلْ

فَجَزَيتني شرَّ الجزا

ءِ وكنتَ فيه غيرَ عادِل

أنسيتَ عهداً قد مضى

حُلوِ التَّواصُل والتراسل

أيام تبذل من وسا

ئل أو تنِّمقُ من رسائل

وتبثُ معسولَ المُنَى

وتمدُ أسباب التحايُل

ولبِثتَ تُغريني بما

تبديه من غرِّ الشمائل

ص: 42

فحسبتُ أن الدهر أن

صفني وأن السعد ماثل

ظناً بأنك لم تكن

لا بالعَقوق ولا المُخاتل

ماذا جرى فهجرتَني

والحُب شيمته التساهل

عاشَرت أهل السو

ء فاقتنصوك في شر الحبائل

ومَضيتَ تطلب بينهم

عيش المقيدَّ بالسلاسل

ورضيت هجر حليلةٍ

لمَّا تزل خير الحلائل

والله ما فكرت يو

ما في جفاكَ ولم أحاول

فجفوتَ يا قاسي الطبا

ع ولم تُدار ولم تجامل

فاعلم بانك قاتلي

والموت فيما أنت فاعل

أين المسائل والموا

صل في العشي وفي الاصَائل

أين المودةُ في الهوى

بيني وبينك بالتبادُل

أين الحديثُ العذبُ من

ك وأين ولَّى سحرُ بابِل

أني أسائلُ أين عه

دك في الهوى إني أسائل

أعلمت ما فَعل النوى

بي من ضنى أم أنت ذاهل

فاربأ بنفسِكَ وانهها

وارجع إلي زين العقائِل

منيرة توفيق

الذكرى

للشاعر الدمشقي أنور العطار

تهبطُ الذكرى على قلبي فيحيا

ثم تنأى عن حِماهُ فيموت

غَلبَ اليأسُ على مأمله

وطوى ضجته الكبرى السكوت

فهو كالبلبل غنَّى بُكرةً

ولدى الامساء وافاه الخفوت

رُبَّ ذكرى غلغلت في ساحه

هي عندي أبد الآباد قوت

نعشَت رُوحي منها نفحةُ

مثلما ينعشك المسكُ الفَتيت

يا سرباً لم أزل أنشُدُه

طول عمري وهو عن عيني يفوت

ص: 43

بينما الأمر جميع فإذا

عشيَ المنضورُ منهوبٌ شتيت

وحياتي نهرٌ معتكرٌ

غيبته فلوات ومرُوُتُ

أعشبَ الشوكُ على أعطافه

ولقد يزهو بها آسٌ وتوت

الدنا بعدكِ قفرٌ وحشةٌ

ما بها مأوى لقلبي ومَبيِتُ

خلتِ الأكوانُ من بهجتها

وامحت منها صفاتٌ ونُعُوت

لا تظني شجوها يكرُبني

إني في الألم العاتي ربيت

كلُ ما لاحَ لعيني رائعاً

هو عندي بعد ما غبت مقيتُ

زهِدَ القلبُ الأماني كلها

وثوى يصدفُه عنها القُنوتُ

غير ذكرى صورةٍ اعبُدها

أنا منها في عذابِ ما حَييت

الرّزايا رصَّنتني خِبرةً

والرزايا قد تربى وتقيتُ

كلما حرَّقني جرحُ الهوى

صاح قلبي: إن جرح الحبِ صيت

يالهٍّم مُستفيض إن يغِب

ملكوتٌ منه يطلعُ ملكوت

لكِ في قلبي طيفٌ ماثلٌ

هو في عيني تمثال نحيت

غلَّف الأجفان ما يبرحُها

مُشرِق الساحة بحلوه الثُبوتُ

الم أكن أرضى بأفراح الورى

وأنا اليوم بأوجاعي رضيت

تُنشد الروحُ إذا طفت بها

وإذا غِبت تولاَّها الصُموت

أنا كالشارد من فرطِ الأسى

مضنَّى هم على العيشُ مُميِت

نَسَج الدهر لحظِّى دارة

رُبما أربت عليها العنكبوت

الأماني الحائرة

لله كم من أمان بت أرقبها

فيها يحاربني دهري وأيامي

تراكمت فهي أكوام مكدسة

ليست تعد بأقلام وأرقام

أحدث النفس عنها كل آونة

وما أحدثها في غير أوهام

لهفي عليها وقد راحت تقاذفها

يد المقادير من عام إلى عام

ما أن نظرت اليها وهي حائرة

إلا أنثنيت بقلب صارخ دام

الا تحقق لي الايام أمنية

حتى أودع أشجاني وآلامي

ص: 44

لكم أجِّمعُها حولي وأندبها

بكل أنشودة حرَّى، وأنغام

مأرب كبياض الفجر باسمة

حفت بعاثر جد غير بسام

يا حسنها من أمان لو يحققها

دهري، وما رجفت أضغاث أحلام

دار العلوم العليا

محمد برهام

الساعة

وآلة تقطع الأيام سائرة

لا تبصر العين من تسيارها أثرا

أرى عقاربها اللاتي، تدور بها

عقاربا كل حين تلدغ العمرا

كأنها تبصر الأوقات راسمة

لها وما ملكت كفا ولا بصرا

تهاجم العمر دوما وهي ساكنة

والعمر يركض منها خائفا حذرا

نعدها من جماد وهي مدركة

من وقتنا ما اختفى عنا وما ظهرا

تطوى السنين وتجري وهي ثابتة

وتمنح الناس - لكن لم تفه - عبرا

فأن يكن أي سير في المكان يرى

ففي الزمان مسير جاوز النظرا

ان صاغها من جمادات حجى بشر

فقد ترقت فأضحت ترشد البشرا

كأن دقاتها في كل آونة

دقات قلب خفوق بالنوى صحرا

كأن في جوفها قلاب الزمان غدا

يدق مستعجلا من نفسه ضجرا

يقطع الخفق منه كل آونة

جزءا فتحسبه بالخفق منتحرا

بالخفق نحيى وذاك الخفق ينقصنا

جزءاً من العمر من أرواحنا أنبترا

كأن دقاتها في السير حشرجة

للدهر يلفظها جزء قد أحتضرا

كأنما هي أنفاس يرددها

دهر تأوّه أو ذو علة زفرا

كأن توقيعها المرنان وقع خطى

للدهر في موكب نحو الفنا عبرا

يبغى الفرار من الساعات عقربها=خوفا على العمر ممن تتلف العمرا

لكن يعود اليها مكرها جزعا

كساكن قفصاأو موثق أسرا

ليت القلوب من الساعات قد وقفت

أو ليت عقربها الجرار قد كسرا

ص: 45

حتى تمر بنا الأوقات سانحة

ما أن نحس لها طولا ولا قصرا

وكي تمر بنا الأوقات عابرة

جسر الحياة وهذا البرزخ الخطرا

ما العمر إلا منام طال أم قصرا

فلا تقطع مناما في الرقاد سرى

من يصح من نومه لم يلقى غير أسى

وفاز بالسعد من في حلمه سكرا

دمشق

أحمد صافي النجفي

قصر الأحلام

في عالم الأحلام قد

شاهدت أعجب الرؤى

رأيتُ قصراً شاهقاً

بين الكواكب استوى

أبراجه من ذهبٍ

مؤتلقٍٍ مثل الضحى

أشجاره تحكي الزمر

دً الكريم في النقا

ينبوعه يرسل ما

ءً كاللجين في الصفا

بلغته في مركب

يجره بعض القطا

ثم دخلتُ ساحةً

كهالةٍ من السنى

تضم حوراً قد رفا

ن في الحرير والحُلى

وقيل لي ذلك قص

ر الخلد لو شئت البقا

أصحابه قد وهبوا

صعدا على طول المدى

لكن حبيبي لم أجده

بين هاتيك الدُمى

فعدتُ أدراجي الى

دنيا الزوال والفنا

أبحث عن خليّ بها

هناك في عشّ الهوى

حسين شوقي

يا أم. . .

قد مزّقتْ صدرَها النبالُ

وهَّدها السُّقم والهُزالُ

ص: 46

لبيكِ يا مصرُ، لا تراعى

فِدًى لك المالُ والرجالُ

يا أم لا تجزعي، فأنَّا

نَقضي، ليبقى لك الجلالُ

من نيلك الكوثر أحتسينا

سُلافة سكرها حلالُ

تطوف بالفكر في فجاج

يقصرعن نقشها الخيالُ

وتدفُع الروح في صعيد

من عالم الوَهم لا ينالُ

أروع ما قد لمست فيه

حرية صاغها الجمالُ

لبيكِ يا أُم هاكِ قلبي

آليتُ لن يَهَدأ النضالُ

هيا إلى الموتِ يا فؤادي

أو يُصرع الظلمُ والظلالُ

ما أكثر الأُمنيات عِندي

تجري وما ضمها مجالُ. . .

يضيقُ دهري عن رجائي

ايسرُ ما أنشُدُ المُحَالُ. .!!

مختار الوكيل

ص: 47

‌بين الشك والأيمان

(شيللر)

للأستاذ خليل هنداوي

تتمة ما نشر في العدد الماضي

- 3 -

في عام 1790 كتب شيللر إلى صديقه (كاربز) الأمين (ما أحوجني إلى رفيق يقيم معي، ويقدر على إسعادي، وتبديد وحشتي ونفي همومي وتجديد أيامي) وكأن الأقدار رغبت في تحقيق رجائه فوهبته امرأة ما كان أدناها من هذا الصاحب الذي تمناه، وفيها يقول (غوته) إن الجمال النقي يرتسم على ملامحها، وأشعة الظهر تلمع في عينها. هي كثيرة الإحساس بكل ما هو خير وجميل في الحياة، وتغلب على مشاعرها الرقة والإيناس. وكان تأثير هذه الصاحبة الأمينة في حياة شيللر شديدا، فقد نفحت روحه بالأمل الذي هو سر الحياة، وكتب إليها قبل زواجه منها (أصبحت أرى نفسي متفتحة لكل ما هو خير وجميل. قد وجدت نفسي. . .) وبعد زواجه كتب (الآن غلب على مزاجي الاعتدال. وأيامي تنقضي خالية من ثورة الأهواء، صافية هادئة. وقد عدت إلى أعمالي بنفس ملؤها الطمأنينة كعادتي السابقة) وهذا الذي عرفناه ثائراً، شاكاً، ناقماً على نفسه وعلى الناس تميل روحه للاستسلام وتغلب عليه السكينة، فإذا ما عراه داء شكر ربه لأن يداً فوقه تبدي له من العطف أضعاف ما يحس من الألم. وقد منحته السماء طفلاً فقال (أحس بأنني أرى مشعل حياتي الذي بدأ ينطفئ، يشتعل في غيري. إنني راض عن القدر) ويتجه قلبه إلى أمه الكهلة التي يضطرم قلبها عليه حباً وحناناً فكتب إليها (كل ما يجعل حياتك سعيدة يجب أن يكون لك يا أماه! وأن الواجب يقضي علي أن أنقذ روحك من كل ملل. بعد تلك الأتعاب التي أرهقتك يجب أن يكون مساء حياتك صافياً هادئاً. . . .)

استشاره رجل يريد أن يقبل على ذلك العلم الخطير (الفلسفة) فراح يصرفه عنه بقصيدة تصف مخاطر هذا العلم وطريقه الملتوية.

هل أنت متأهب مع سلطان برهانك الكئيب؟

هل أنت ناضج الفكر لتظهر في الهيكل الذي يحرس. . . كنزه الخطير.

ص: 48

وهل أنت شاعر بما سترى؟ وبأي ثمن سوف تشتريه؟

وهل أنت موقن بأنك تبذل شيئا لا تملكه لقاء شيء أكيد؟

وهل تحس أن قواك كافية لمعركة هي أشد المعارك هولا! تلك المعركة التي تثور بين القلب والروح والعاطفة والفكر؟

وهل تملك جرأة وشجاعة تسعفانك في قتال (ثعبان) الشك الخالد، الكامن في داخلك؟

ألا فر، وأمعن في الأرض فراراً، إذا لم تكن واثقا كل الثقة بالدليل الذي تحمله في صدرك. فر من هذه الشواطئ المغرية قبل أن تلتهمك الهاوية. . . كثيرون هم أرادوا أن يمشوا نحو النور فوقعوا في ظلمات فوقها ظلمات.

ألا أن الطفولة تؤول حقا بصاحبها إلى نور الشفق!)

أن هذه المقطوعة تبين أن الشاعر قد نقم على الفلسفة وسئم معنوياتها. واستغنى عن هدايتها. وكان موفقا كل التوفيق في ممثليه مخاطرها.

ولكن هل كانت الفلسفة كلها شكا يعذب ويؤلم؟ هل تكون الحياة - وجميع أبوابها مغلقة - إلا هذا الشك المؤلم؟

والشاعر يبدي رأيه أكثر وضوحا في هذا النوع من الفلسفة في مقطوعته (صورة ساييس المحجوبة)

وهذه هي المقطوعة:

هجر الدار، ولم يعبأ بما

ستذوق النفس من برح الألم

جاعلاً وجهته مصر، لكي

يفهم الأسرار ممن قد فهم

هذه (ساييس) قد أرخت على

وجهها ألف حجاب تلتثم

كل من يطلب يوماً ان يرى وجهها

يبلى بأنواع السقم

لم يزد صاحبنا الا جوى

زاد في القلب لهيبا وضرم

غافل الكهان عنها ليلة

وتوارى تحت أسدال الظلم

رفع الأستار عنها ورأى. . .

(هل رأى حين رأى غير عدم)؟

لم يقل عما رآه وثوى

بخشوع تحت أقدام الضم

فبراه السقم حتى شفه

وتردى جسمه حتى انهدم

ص: 49

قال: ويل للذي يطلبها

بطريق منكر: ثم وجم!

وفي هذه القصيدة غموض يحاكي غموض الحقيقة. والفقرة الأخيرة منها تدل على ما ساور الشاعر من الندم الممض والألم العنيف. ولكن لماذا الندم؟ هل على معرفة الحقيقة؟ ولكن هل هي الحقيقة الكامنة وراء الحجاب عرفها؟! كنا نود أن نعرفها كما عرفها، ونتذوق بعد ذلك ما تذوق الرجل في سبيل معرفتها - ولكنني أخشى من إن الرجل لم ير - وراء التمثال_إلا ما يحمل عادة التمثال! والوثنيون إنما يعبدون من التمثال ما نسجت قلوبهم وراء ملامحه من أقداس وطهارة. ولو أنهم تمثلوا ما يعبدونه بعقولهم لما رأوا إلا حجارة مسندة لا تضر ولا تنفع. وهؤلاء وغيرهم ممن ينشأون في كل عصر إنما يعبدون ما تصوره لهم قلوبهم وترسمه نفوسهم، وهل تساوي اثنان من شريعة واحدة في عبادة واحدة؟ ذلك يتمثل في صلاته شيئاً لا يتمثله الآخر، مع أن الصلاة واحدة والوجهة واحدة. وسر هذا الخلاف يعود إلى ما يتمثله هذا القلب المباين لذلك القلب في كثير من ضروب التفكير والشعور. وما أكثر أولئك الذين إذا منعتهم عن عبادة تمثالهم المقدس! وأريتهم حقيقة عارية، تقتل أمانيهم وتهدم حياتهم، فيودون لو بقوا في جهالتهم سادرين ناعمين!!

هذه الحقيقة التي تكاد تمثلها هذه النقطة هي حقيقة العدم! ولكن هل أراد الشاعر أن يصل إلى هذه الحقيقة؟ انه وصل إليها طوعاً أو كرهاً، ولكنه ندم لانه أضاع قيمة حياته! وهو إنما يريد أن يعرف شيئا من الحياة هو أقدس وأسمى من حقيقة الفناء!

ما كان أدنى شيللر بهدوئه وكآبته الصامتة في أيامه الأخيرة من هذا الرجل الذي أخذ يتلاشى بعد معرفته الحقيقة، فقد أخذت حوادث الدهر وصور الموت تجوز إلى نفسه، وهذه مقطوعة (الناقوس)

(في فناء الكنيسة تتهادى رنات الناقوس! تلك الرنات العالية التي ترافق أغاني القبر. تنبئ عن عبور المسافر الذي مضى إلى ملجئه الأخير. وا أسفاه!! هذا المسافر هو زوجة عزيزة! أو أم اختطفها الموت من حضن زوجها، ومن بين أولادها الذين منحتهم السعادة والغبطة، وأرضعتهم بمحبة ورفق. هذه الروابط الجميلة تقطعت إلى الأبد

لأنها نزلت إلى مثوى مظلم عميق. . . هذه الأم!)

كانت هذه القصيدة بعد ثلاثة أعوام لسان حال شيللر في الحوادث التي تتالت عليه، فقد

ص: 50

غادرت أمه الوجود، هذه الأم التي كانت كلما ازدادت عمرا، ازدادت عطفاً على ولدها. كتبت له في كتابها الأخير (لا يوجد ولد - كمثلك - في الوجود) وأخذت صورة ولدها قبل أن يغتالها الموت وضمتها إلى صدرها ضماً شديداً، وأشبعتها لثماً وتقبيلاً، وماتت يشرف على قبرها صليب حجري نقش عليه هذه الكلمة (أم شيللر)

أما الشاعر فقد تسرب إليه اليأس، وزادت عليه الأسقام حتى خرب صدره وخارت قواه وفسدت رئته. وهو_برغم ذلك_يريد أن يغلب على هذه المحن ناظراً إلى غده الزاهي. ولكن المرض المبرح ضن عليه بكل شيء حتى بنعمة الأمل. ففي شتاء عام 1805 استسلم للألم صامتاً راضياً هادئاً. ولكن ثورة الشك في اللحظات الأخيرة طغت على نفسه وروحه، أقلقها تساؤلها عن العالم الثاني، سمعه بعض عواده في أغرأقة من إغراقات الحمى يهتف (أهنالك جحيمك؟ أهنالك سماؤك؟ ولكن السكون المغمور بالملل والتعب غلب عليه فاستسلم، وما الموت إلا استسلام، وفي الأمسية الأخيرة سألته أخته القائمة على سريره (والآن كيف أراك؟ فأجابها بصوت خافت: (أراني دائما أكثر هدوءاً) فكانت هذه الجملة هي آخر ما لفظت شفتاه، ثم سكنت ملامحه، وارتعش رأسه ارتعاشة واحدة، ثم سكن منه كل شيء وهو في الخامسة والأربعين.

ما كان أقدس هذه الكلمة؟ وما كان أكبرها باعثا للهدوء في النفوس المضطربة. ولكننا لا نعلم: أهو هدوء الإيمان، أم هدوء الملل والقنوط.

هذه الكلمة وحدها تمثل كل حياة الشاعر وهي:

(أراني دائماً أكثر هدوءاً)

دير الزور

خليل هنداوي

ص: 51

‌العلوم

نباتات التربة المجهرية

للأستاذ يونس سالم ثابت مدرس النبات بكلية العلوم

لا شك في أن التربة هي مصدر الحياة، واليها المرجع، وهي ليست

آهلة فقط بمختلف النبات الذي نراه في غدونا ورواحنا، ولكنها تعج

بكثير من دقيق النبات الذي لا يرى إلا بالمجهر.

وتنتمي النباتات المجهرية في التربة إلى الطحالب والبكتيريا والفطر، فالطحالب تحتوي أجسامها على مادة الخضير (الكلوروفيل) وهي المادة التي تكسب النبات اللون الأخضر والتي تساعده على أخذ المجهود اللازم لنموه من غاز الكربون الجوي عند تعرضها لضوء الشمس.

وطحالب التربة صغيرة الحجم مختلفة الشكل بسيطة التركيب تنتشر على سطح الأرض وتكسيها أحيانا لوناً أخضر أو بنياً داكناً وقد تعيش داخل التربة بعيدة عن ضوء الشمس، وفي هذه الحالة تستمد غذاءها الكربوني من مصادر غير الهواء الجوي.

والطحالب تساعد كثيراً على تهوية الأرض فعندما تقوم بعملية التمثيل الكربوني تأخذ غاز ثاني أكسيد الكربون من التربة وتطرد غاز الأؤكسيجين وبذلك تصبح التربة أكثر صلاحية لنمو الكائنات الأخرى - ويشاهد ذلك بنوع خاص عند زراعة الأرز. فقد شوهد أن وجود كميات وافرة من الطحالب في مياه حقول الأرز يجعل الماء مشبعا بالأوكسجين، ووفرته ضرورية لتنفس جذور الأرز. فإذا قلت كميات الطحالب قل المحصول.

والطحالب تزيد المادة العضوية في التربة وتقوم أحيانا بتفتيت الصخور.

أما البكتيريا فيظن كثير من الناس أنها ان هي إلا كائنات

مجهرية تسبب معظمها أمراضاً، فهي كثيرة الضرر قليلة

الفائدة، ولكن الحقيقة هي أنها في التربة على عكس ذلك حيث

نرى إن نفعها فيها أكثر من ضررها. والبكتيريا أجسام دقيقة

ص: 52

جداً لا يرى أكبرها حجماً إلا بالمجهر حيث يكون طوله

حوالي 1100 من المليمتر. وهي تختلف في الشكل من كرية

إلى عضوية أو حلزونية وكثيراً ما توجد لها أهداب غاية في

الدقة تساعدها على الحركة.

والبكتيريا تقوم بأعمال شتى في التربة، فمنها ما يحول المواد العضوية نباتية كانت أو حيوانية إلى مواد أخرى بسيطة التركيب. ومن بين هذه الأخيرة غاز ثاني أكسيد الكربون الذي ينتشر في الجو، وكذلك غاز النشادر ذو الرائحة النفاذة الخاصة، وغاز النشادر لا يصلح غذاء لمعظم النباتات الخضراء وعلى ذلك يقوم نوع خاص من البكتيريا بتحويله إلى حمض الازوتوز، وهذا المركب الأخير يتناوله نوع خاص آخر من البكتيريا ويحوله إلى حمض الأزوتيك، وأملاح هذا الحمض (الازوتات) هي الغذاء الصالح للنبات الأخضر.

وكذلك يعلم الزارع تعد طول تجربته أن نباتاً كالفول أو البرسيم أو الترمس وأشباهها إذا زرع في أرض زاد من خصوبتها، ولذلك فهو يراعي دائماً هذه الظاهرة عند ترتيب الدورة الزراعية للمحاصيل. أما سبب ازدياد الخصوبة فهو ناتج من نشاط نوع من البكتيريا تسمى بالبكتيريا العقدية ينفذ من التربة إلى أنسجة جذور نبات الفول مثلا ويعيش هنيئا في تلك الأنسجة.

وهذا النوع يمتص غذاءه الكربوني من الجذر وغذاءه الأزوتي من الهواء الجوي الذي يوجد بين الأنسجة أي أنه لا يتغذى من الأزوت الموجود في التربة. وتكون نتيجة هذه العملية ظهور انتفاخات صغيرة أو عقد على جذور الفول. فبعد الحصاد تتحلل الجذور بما عليها من العقد فتزداد في التربة كمية الازوت المركب.

أما الفطر فهو عبارة عن خيوط دقيقة متفرعة لا لون لها تعيش بين أنسجة النبات الراقي أو بين المواد العضوية الموجودة في التربة وهي منتشرة في الطبقات السطحية ويقل وجودها في الطبقات العميقة. والفطر تقوم بتحويل المواد الكربوادراتيه (كالخَلَوُوز وغيره) إلى مواد بسيطة التركيب، واليها فقط يعزى مثل هذا العمل النافع في الأراضي الزراعية.

ص: 53

وفضلا عن ذلك فهي تقوم بتحويل المواد العضوية الازوتية إلى مواد أبسط منها تركيباً كالنشادر. وتساعد أيضا على إذابة المادة المعدنية الموجودة في التربة وربما فاق عملها في هذه الناحية عمل الشعيرات الجذرية في النباتات الراقية.

وهناك ظاهرة أخرى أخذت تثير كثيراً من الاهتمام في السنين الأخيرة وهي أن بعض الفطر الموجود في التربة يكون مع جذور بعض النباتات أجساما غريبة تسمى جذورا فطرية وهذه تتكون من أنسجة الجذور ومن خيوط الفطر.

ويعيش كلا الفردين (الجذور والفطر) عيشاً رغداً ما داما مجتمعين ولكن في كثير من الأحيان لا ينمو أحدهما نموه العادي إذا أقصته الظروف عن رفيقه. ويقوم الفطر في الجذر الفطري مقام الشعيرات الجذرية أي أنه يمتص المادة المعدنية من التربة ويرسل بها إلى الجذر وفي مقابل ذلك يمد الجذر خيوط الفطر بالمادة العضوية اللازم لها. فنرى اذن أن المنفعة بينهما متبادلة. فضلاً عن القيام مقام الشعيرات الجذرية فأننا نجد أن كثيرا من خيوط الفطر تهضمه خلايا الجذر وبذلك يكون الفطر مورداً داخليا لغذاء الجذر.

يونس سالم ثابت

ص: 54

‌شذرات

صعدة في الجو جديدة

في عام 1932 أطلق ريجنر بالونات من المطاط تحمل أجهزة علمية تسجل من ذات نفسها فبلغ علوا قل الضغط عنده إلى 22م. م. وصعد البالون الروسي الحديث يحمل بروكوفييف ورفاقه فبلغ حسبما قدروا علوا قدره 61000 قدم أي ما يعدل ضغطا قدره 50 م. م.

وفي الخريف الماضي ارتفع أمريكيان ببالونهما إلى ضغط قدره 645 م. م. أما البلجيكيون كوسينس وكبفر فأقل ضغط سجلوه بلغ 83م. م. واليوم تأتي الأخبار بان محاولة جديدة ستكون يرجى فيها الصعود إلى أعلى من 68000 قدم وهي الطبقة التي بلغها الروس.

في الصعدات القديمة كان الطائرون يغلقون أنفسهم في حجيرات مكورة محكمة السد. أما في هذه المحاولة الجديدة فسيركب الطائرون في سلة البالون العادية المفتوحة ولكنهم سيلبسون بذلة من المطاط الرخص تغلف أجسامهم تغليفاً تاماً فلا تتصل بالجو الذي يبلغون. وبما أن هذا الجو سيكون قليل الضغط وبما أن هذا سيؤدي إلى انتفاخ تلك البذلات لما بها من هواء صعدوا به من سطح الأرض لذلك ستتفرع تلك البذلات من تعض هوائها، وذلك إلى الضغط الذي يحتمله جسم الإنسان في أثناء تنفسه من الأكسجين. والطائر على هذا الحال سيستطيع الحركة والتنقل في شيء كثير من الحرية واذن سيتمكن من معالجة أجهزته وتسجيل ملاحظاته عن الجو بها وهي ذات مساس بالجو نفسه لا محجوبة عنه كما كان الحال في الصعدات السابقة. وباستخدام السلة المفتوحة مكان القارب المغلق الثقيل سيخف الوزن كثيراً فيزيد لاشك العلو الذي يرجى بلوغه.

ومما يذكر عن الرحلة الروسية أنهم اكتشفوا أن تركيب الهواء في تلك الطبقات العالية هو نفسه الهواء على سطح الأرض، وأن الرطوبة نقصت على حدود الاستراتوسفير 42 في المائة وقد كانت 92 على سطح الأرض، وفي الصعدة الجديدة المزمعة سيحملون معهم جهازاً لقياس الطيف لتسجيل نور الشمس هناك وضوء السماء وجهازاً لتقدير حرارة الشمس وأجهزة لأخذ عينات من الهواء وكمرات وكل هذه الأجهزة لتشغل بالأيدي الطليقة في الجو الطلق لا في داخل الحجيرة الحبيسة كما كان الحال. ولكن مما يؤسف له ان العين

ص: 55

والأذن لابد من تغطيتهما فلا ترى الأشياء ولا تسمع إلا من وراء الزجاج. فاللون البنفسجي الغميق الذي رآه الطيارون البلجيكيون والروس سوف لا يراه الطيارون الجدد إلا من دون الزجاج.

ولعل أرجى ما يرجى في هذه الرحلة الجديدة سيكون مما اقترحه الدكتور لوسينس من استخدام خزانة ولسن في أخذ صور فوتوغرافية لأشعة ب العالمية هذه الأشعة الأخيرة لا يزال مجهولاً.

أزمة الضباب

من متاعب الملاحة الضباب لا سيما في البحار الشمالية، ومن آخر ما حاولوا في التغلب على مصاعبه: استعاضة الكمرة

عن العين رجاء أن تنفذ عين الكمرة في طبقاته الكثيفة إلى أبعد مما تصل عين الإنسان. ففي الأيام الأخيرة ركبوا في السفينة الأمريكية الكبيرة (منهاتن كمرة تحس أفلامها أشعة ما دون الأحمر، وفي هذه الكمرة وسيلة مكنية تتوضح الصورة بها وتتثبت من نفسها فتخرج تامة كاملة بعد دقيقة من كشف الكمرة. والى الآن لم تصادف السفينة العظيمة المذكورة حالة جوية لإجراء التجارب المقصودة، فإذا هي صادقت هذا الجو فلا شك أن النتائج ستكشف القناع عن الدرجة التي بها يستطيع الملاحون الاهتداء بالكمرة مكان العين والنهار حالك والبصر كليل.

ص: 56

‌العالم المسرحي والسينمائي

كلمة صريحة حول الإعانة الحكومية للمسارح

لناقد (الرسالة) الفني

لم تكن للحكومة - إلى سنوات قلائل - أية صلة بالمسرح المصري

وبالعاملين فيه. وكانت دار الأوبرا الملكية ملحقة بوزارة الأشغال

فكأنها كانت في نظر الحكومة بناية من المباني لا داراً للفنون والآداب.

وبقي الأمر على هذا المنوال حتى وزارة الوفد الأولى التي كان يرأس

المغفور له صاحب الدولة سعد زغلول باشا فرأى مرقص حنا باشا

وزير الأشغال أن يولي المسرح في مصر قسطاً من عنايته واهتمامه،

فكانت المباراة الأولى التي اشترك فيها مديرو الفرق والممثلون

والممثلات، وكانت هذه المباراة هي أول اتصال مباشر بين الحكومة

والمسرح.

وقد ذكرنا في كلمة لنا (حول أزمة المسرح في مصر) كيف اضطربت سياسة الحكومة في اتصالها بالمسرح فعدلت عن طريقة المباراة بعد أَن أقامتها عامين متواليين على ما نذكر إلى سياسة الإعانة السنوية، وألفت في وزارة المعارف - بعد أن الحقت بها دار الأوبرا وأصبحت هي الوزارة المشرفة على الشؤون الفنية - لجنة تتفقد المسارح وتقدر للفرق وللممثلين المبالغ التي تمنح لهم في حدود الإعانة المقررة.

وسارت الوزارة في هذه الخطة سنوات برغم ما ظهر من فسادها وعدم جدواها، وبرغم صيحات الاستنكار التي رددها الكتاب والنقاد طوال هذه السنين. ويكفي أن نلقي نظرة عجلى على حالة المسرح المصري اليوم لنرى أن النقاد كانوا على حق في انتقاد هذه الطريقة، فلقد سار المسرح من سيء إلى أسوأ في هذه السنوات الأخيرة رغم ما بذلته الحكومة من إعانات سنوية، فلو أن هذه الطريقة كانت مجدية لاعانت على النهوض بالمسرح وعلى انتشاله من الهوة التي تردى بين جنباتها، ولكن حال المسرح قبل الإعانة

ص: 57

كان خيراً منه بعدها، وفي ذلك ما يدعو للعجب حقا ولكنها دلالة حاسمة على أية حال على فشل طريقة الإعانة.

وكأن الوزارة ولجنة الإعانة تنبهتا أخيراً إلى هذه الحقيقة بعد أن ظهر جليا أن الإعانة لم تثمر الثمرة المنشودة، وأن المسرح قد هوى إلى الحضيض وانصرفت الجماهير عنه حتى اضطرت الفرق إلى إغلاق دورها حيال الكساد الذي منيت به. تنبهت الوزارة أخيراً إلى الحق إذ صدمت بالواقع الملموس فرأت أن تعدل عن خطتها القديمة إلى خطة أخرى، وقد نمى الينا أن لجنة الإعانة في اجتماعها الأخير في الأسبوع الماضي فكرت في تكوين فرقة من جميع المشتغلين بالمسرح من رجال وسيدات تحت اسم فرقة اتحاد المسرح المصري) وقد عرضت الفكرة على مديري الفرق الذين حضروا الجلسة فوافقت أغلبيتهم عليها وأبدوا استعدادهم للانضمام أليها وشكلت لجنة فرعية لتضع تفاصيل المشروع بالاتفاق مع مديريالفرق على أن يبداء في الحال وعلى أن تختص وزارة المعارف هذه الفرقة بالإعانة السنوية كلها.

ونحن نسجل هنا أولا عدول الوزارة عن خطتها القديمة، وهذا اعتراف صريح منها بفشلها، وهي خطوة طيبة على أية حال. أمافكرة تأليف فرقة تضم جميع المشتغلين بالمسرح فمن العسير أن نكون لها أو عليها قبل أن نطلع على تفاصيل المشروع وعلى النظام الذي سيوضع لهذه الفرقة. والفكرة من حيث هي لا بأس بها، بل لعلها العلاج الوحيد لانتشال المسرح من الوهدة التي سقط فيها، وتضافر هذه القوى مجتمعة له خطره ولا شك، وهذه الفرقة إن تحقق وجودها ستجذب الشعب ايها ما في ذلك ريب، وستكون تحت تصرفها بطبيعة الحال طائفة صالحة من الروايات لتمثلها. وأعني الروايات ألا نموذجية التي ترجمها بعض الأدباء تحت إشراف الوزارة عن شاكسبير وابسن وموليير وراسين وغيرهم من أقطاب الفن المسرحي في العالم، كما أن مبلغ الإعانة سيكون العماد الذي يمون الفرقة بما تشاء من وسائل الاستعداد المسرحي في المناظر أو الملابس أو الأدوات المسرحية جميعا على اختلافها وتنوعها. وفي النهاية نستطيع أن نقول أن هذه الفرقة تتوافر بين يديها من القوى المادية والمعنوية، ما ينهض بها إلى الذروة الفنية التي نطمع فيها وينشدها أنصار المسرح وهواته في مصر.

ص: 58

قلنا أن الفكرة من حيث هي فكرة حسنة لا بأس بها في مجملها، ولكنها ككل فكرة في العالم قد لا يعدو جمالها الخاطر والفكر فإذا لم تخرج للناس في ثوب القشيب الذي يلائم جلالها وخطرها بدت شوهاء ووئدت في مهدها وكان الفشل نصيبها المحتوم وهذا ما نخشاه.

على أن الزوارة إذا أخذت بالحزم ووضعت لهذه الفرقة نظاماً داخلياً محكماً يضع الكل على قدم المساواة وعهدت بتنفيذه إلى أيد مخلصة قديرة لا تعرف الأغراض سبيلاً أليها ولا الأهواء مدخلاً إلى قلوبها، وأعلنت أنها ستأخذ بالشدة والعنف كل من يحيد عن هذا النظام وتقصيه عن العمل وتحرمه حرماناً مطلقاً من إعانتها، لو أحس القوم هذه النية الصادقة وهذه الإرادة القوية والعزم النافذ من الوزارة، لسارت الأمور على أحسن ما يرام ولرجونا لهذه الفكرة النجاح والتوفيق. وأخوف ما نخافه أن تلين قناة لجنة الإعانة ويجد فيها البعض مغمزا يهدمون عن طريقه هذه الفكرة، أو لعلهم ينتظرون حتى يخرج المشروع إلى حيز الوجود وتبدأ الفرقة عملها فيضربون ضربتهم.

على أن من الخير أن تعلن الوزارة من الآن في لهجة حاسمة إنها عدلت نهائيا عن خطتها القديمة ولن تتبع سياسة توزيع الإعانة بين مديري الفرق والممثلين بأية حال؛ وأن هذه الفرقة (فرقة اتحاد المسرح المصري) هي التي ستخصها بإعانتها كلها، فإذا لم تتألف هذه الفرقة فلن ينال أحد مليما واحدا من الوزارة. وأني لأعتقد - في رأيي الضعيف - أن كلمة كهذه من الوزارة سيكون لها صداها في جميع الأوساط، وستكون من أكبر العوامل في إنجاح المشروع، وأشد ما أخشاه أن تنكص لجنة الإعانة، إذ تصطدم في خطاها الأولى لتحقيق مشروعها الجديد ببعض العقبات فتفضل العافية والراحة على الجهد ومقاومة الصعاب، وتقرر صرف الإعانة على النحو المتبع في السنوات الماضية. وأن تفعل لتكونن قد أجرمت في حق الفن وفي حق هذا البلد الذي يطمع أن يكون له من مظاهر الثقافة الحقة ما لغيره من سائر البلدان.

ص: 59

‌سيناريو سينمائي

لبيت أمير الشعراء أحمد شوقي بك

نظرة، فابتسامة، فسلام

فكلام، فموعد، فلقاء

من وضع ناقد (الرسالة) الفني

1 -

منظر مقرب لعدسة منظار. . يظهر في العدسة شبح فتاة جالسة، المنظر يبتعد قليلا قليلا فتظهر أجزاء المنظار المختلفة.

2 -

الضوء نهارا. . منظر مستدير لفتاة على شرفة منزل جالسة مطرقة ورأسها إلى الأرض تطرز. . . المنظر يبدو أولا من بعيد جداً. . ثم يقترب ويقترب حتى يملأ الشاشة.

3 -

شاب وراء نافذة وهو مغلق الشيش وينظر من خلفه بحذر وبلهفة. . بيده منظار.

4 -

كيوبيد إله الحب معه جعبة سهامه. . يخرج سهما ويرشقه.

5 -

الشاب لا يزال ينظر من خلف الشيش. يتراجع قليلا إلى الوراء ويضع يده على قلبه.

6 -

الفتاة لا تزال تطرز. . تستريح وتضع الشغل جانبا. . ترفع رأسها. . تظهر علائم الخجل على وجهها. . تجمع شغلها في ارتباك ظاهر وتجري مسرعة إلى الداخل.

7 -

الفتاة من الداخل أمام شباك الشرفة وهي تقفله. . . . قبل أن ترد المصراع نهائيا تنظر إلى الخارج نظرة أخيرة في خلسة وحذر. . فجأة ترد المصراع في غضب ظاهر ولكنه مفتعل. . . بعد قفل المصراع تعطي ظهرها له وتقف مسندة اليه. . . النور كله محصور في الوجه. . . على ملامح الوجه الاستنكار ولكن في شيء من مظاهر الطفولة. . . يخف هذا الاستنكار شيئاً فشيئاً ويتحول بعد قيل إلى شيء من الرضا. . .

تبتسم. . . يضاء الجسم كله. . . تظهر عند قدميها وردة. . تنظر اليها على مهل. . . تنحي وتأخذها. . . تتأملها. . . تشمها. . . تقبلها. . . فجأة كأنها خجلت من نفسها فتضع الوردة في صدرها وتجري حيث تختفي.

8 -

باب الشرفة حيث كانت الفتاة واقفة. . . النور يغمره. . . يخفت النور قليلا قليلا. . . يظهر شبح كيوبيد يبتسم. . . يأخذ سهما من جعبته ورشقه في الاتجاه الذي سارت فيه الفتاة. . . النور يخفت قليلا قليلا. . . المنظر يبتعد ويرى كيوبيد يضحك في انشراح.

9 -

على شاطئ النيل. . . أناس متفرقون. . . قليلون. . . شبان. . . فتيات. . . يمشون

ص: 60

على مهل. . . يتنزهون.

10 -

الفتاة آتية من بعيد مع طفل صفير يشبه كيوبيد. . . تقف أمام النيل ساهمة

11 -

الشاب قادم من بعيد يمشي على حذر كأنه يتبع إنسانا ما. . . يسرع في مشيته. . . يتمهل. . . ينظر أمامه. . . كأنه رأى من يريد فيسرع في المشي

12 -

الفتاة تتحرك وتمشي على مهل. . . والى جانبها الطفل. . . تلتفت فجأة خلفها. . . ثم يظهر عليها الارتباك. . . تمسك بيد الطفل وتسرع في المشي. . . يسقط منديلها من يدها دون أن تشعر.

13 -

المنديل على الأرض. . الشاب يسرع لالتقاطه. يقف لحظة. . . ويسرع في المشي.

14 -

الفتاة والطفل. . يمشيان بشيء من العجلة. . . الشاب يتقدم نحوهما في هيئة المتردد. . الفتاة تنظر خلفها. . . فتراه. . . يزيد ارتباكها تريد المضي في سيرها. . . الشاب يسرع أليها. . . يمد يده بالمنديل. . . الفتاة تنقل النظر بين الشاب وبين يده الممدودة بالمنديل. . . تمديدها على مهل لتأخذ المنديل. . . تحني رأسها علامة الشكر. . . الطفل يتقدم نحو الشاب ويمسك بيده ويجره للمشي معهما. . الثلاثة يمشون سويا. . . الارتباك ظاهر على الشاب وعلى الفتاة بينما يضحك الطفل الصغير في خبث. . . يمشون صامتين. . . يبدأ الشاب بالحديث مع الفتاة. . . كلمات قليلة. . . ترد عليه ورأسها إلى الأرض. . . يمشون قليلا وهم يتحدثون. . . يظهر عليهم التبسط في الحديث. . تظهر الألفة. . فجأة تقف الفتاة وتمد يدها مودعة للشاب الذي يمد يده. . بالسلام. . الطفل يمد يده للشاب مسلما. . الشاب ينحني ويقبله. . تمضي الفتاة مع الطفل. . . الشاب واقف في مكانه يتبعهما بنظراته. . . تختفي الفتاة والطفل.

15 -

الشاب وحده واقف يفكر. . . يبتسم. . . ينظر أمامه. . . يمشي في هدوء

16 -

الوقت ليل. . . ضوء القمر يغمر كل مكان. . . حديقة زاهرة. . . النسيم يميل الأغصان في لطف. . . صوت غناء هادئ جميل من بعيد. . . يتخلله صوت خرير مياه

17 -

الفتاة في شرفتها واقفة ورأسها مسند إلى النافذة وعيناها تنظران في الفضاء. . . ضوء القمر يغمرها

18 -

نافذة يلمع من ورائها نور كهربائي. . . يطفأ النور ويعم الظلام

ص: 61

19 -

الفتاة في موقفها في المنظر (17) تستيقظ من غفوتها وأحلامها وتنظر أمامها. . . إلى بعيد. . . نظرة ساهمة حالمة. . . تتقدم إلى سلم الشرفة

20 -

سلم الشرفة الهابط إلى الحديقة. . . الفتاة تنزل عليه بهدوء وحذر وهي تتلفت خلفها

21 -

أقدام رجل تمشي في الحديقة على مهل. . . تمشي. . . تقف. . . تدور. . تمشي

22 -

أقدام سيدة تمشي على مهل. . . تقف. . . تتقدم منها أقدام الرجل. . . الأقدام الأربعة أمام بعضها على مسافة قصيرة. . . تقترب. . . تقف وهي مواجهة. . تتقدم أقدام الرجل إلى محاذاة أقدام السيدة. . . وقوف لحظة. . تمشي الأقدام الأربعة معا. . . يسمع صوت ناي من بعيد. . . خرير مياه

23 -

مقعد حجري وسط الحديقة تحت خميلة جميلة. . يظهر خلفه سور الحديقة. . . القمر يعمر المكان بالنور. . . الأقدام الأربعة متجهة نحو المقعد. . . تظهر تحته وكأن صاحبيها جالسان عليه

ٍ24 - في الشارع. . . إلى جانب سور الحديقة خفير يمشي ذهابا وإيابا. . . ينظر إلى داخل السور. . . يمعن النظر باهتمام شديد. . . يبتسم. . . يبتسم ببلاهة مضحكة. . . يبتعد على مهل. . . وهو ينظر خلفه ويبتسم ويبرم شاربه

25 -

لأقدام تحت المقعد. . . تتساقط عليها بعض الورورد منثورة ورقا.

26 -

كيوبيد من بعيد يضحك وهو سعيد جداً وظاهر عليه الفرح الشديد. . . المنظر يقترب رويداً رويداً. . . جعبة سهامه إلى جانبه على الأرض. . . يمد يده فيأخذها. . . يحملها على كتفه. . يمشي. . . يختفي. . . الضوء يخفت قليلا قليلا.

محمد علي حماد

ص: 62

‌التناسل في فيراكروز

في ديسمبر سنة 1932 صدر قانون الأنسال في مقاطعة فيراكروز بالمكسيك، وهي أكثر المقاطعات سكانا. وبهذا القانون تأسس مكتب للتناسل وصحة العقول، واندمج في مصلحة الصحة فاكتسب بذلك من قوة الحكومة والسلطان الشيء الكثير. وبتأسيسه افتتحت مراكز لضبط النسل وتعقيم من ليسوا أهلا للأنسال، سواء لضعف في الأبدان أو العقول. وهذا الإصلاح حلقة في سلسلة بدأها حاكم تلك المقاطعة منذ تولاها، فقد أغلق (الصالونات) وجعل تعليم التناسليات إجبارياً في المدارس، وعلاج الأمراض الجنسية كذلك، وأمر الأطباء أن يتدخلوا في الزواج قبل أن يتم، وفي الطلاق كذلك، فيكون له قوة على العقد وقوة على الحل إذا تعارض ما انعقد والصالح الخاص أو العام. وهكذا نجد من الأمم الأقل من هو أسبق إلى الإصلاح وأجرأ عليه من الأمم ذات القدم الراسخ في الحضارة والمكان المستقر من المدنية.

القصص

عنترة

مأساة شعرية في خمسة فصول لفخر الشرق المرحوم شكري

غانم

ترجمة الأستاذ محمد كامل حجاج

ينتمي هذا الشاعر العبقري إلى أسرة عظيمة لبنانية، وقد نبغ في الشعر الفرنسي وله ديوان فرنسي ظهر حوالي سنة 1900، وروايتان مثلتا بالاوديون سنة 1905 في فصل واحد وهما (وردة) أو (زهرة الحب) و (ربع ساعة من الف ليلة وليلة) ورواية قصصية كبيرة تسمى (دعد) وأهم رواياته التمثيلية عنترة وقد أبت عليه قوميته إلا أن يبتدئ بتمثيلها على مسرح شرقي فاختار الأوبرا الملكية المصرية ولحسن حظه كانت فرقة الكوميدي الفرنسية في ذلك الوقت مؤلفة من أعظم الممثلين الذين يسود على مجموعهم الانسجام والتوافق وفي مقدمتهم الممثلة القديرة مرجريت مورينو وقد تقدمت بها السن إلى أن أصبحت تمثل دور

ص: 63

العجائز وقد قامت بدور عبلة، وداراجون وقد توفي بالانفلونزا منذ بضع سنين وقد قام بدور عنترة، ومونتو وقد مثل دور وزر المعروف بالأسد الرهيص.

ومن الغريب المدهش أنهم حفظوا الرواية وأخرجوها وأعدوا مناظرها في خمسة عشر يوماً وقد سحروا الجمهور بابداعهم النادر وكانت الرواية موفقة من جميع الوجوه.

اشتهرت مورينو بحسن القائها ونبرات صوتها الموسيقي وكانت تلقي الشعر بسهولة وهي تقلد ساره برنار وتضيف إلى ذلك قدرا كبيرا من شخصيتها الخاصة وعواطفها المتأججة وحركاتها الخالية من كل تكلفن، ورشاقتها النادرة وظرفها في الحديث. وقد مثلت دور ابن نابوليون في النسر الصغير وروكسان في سيرانو دوبرجيراك. وقد فتنت النظارة في هذه الروايات الثلاث ولم يستطع أحد من الأجواق أن يحرز هذا النجاح من سنة 1909 إلى الآن.

مثلت رواية عنترة للمرة الأولى بمسرح الأوبرا الملكية. ثم مثلها مسرح الاوديون بباريس في 12 فبراير سنة 1910 فلاقت إعجابا شديداً ونجاحا باهراً وقرظتها أغلب الجرائد الفرنسية الشهيرة مثل الفيجارو والجولوا والاكلير والدييا والطان واللبيرتيه ومجلة التياتر المصورة والاوبنيون كما قرظتها وذكرت ملخصها دائرة معارف لاروس في ملحقها الشهري سنة 1910. وهي تستحق أكثر من هذا لبلاغتها النادرة وتفكيرها العميق وتحليلها الأخلاقي ومناقشاتها الطلية وعواطفها المشتعلة ورقتها ومواقفها الفنية الرائعة.

ومن سمو أخلاق شاعرنا النابغة ونبل عواطفه أنه أنبأ في القطعة التي أوردناها عن اقتراب ظهور النبي (ص) وما سيكون له من شأن خطير كما نوه بإعجابه الشديد ببلاغة القرآن بعبارة تستعصي بلاغتها على أي شاعر مع أنه مسيحي فجزاه الله خيراً ورحمه رحمة واسعة.

المنظر الثالث من الفصل الرابع

عنترة. ثم شيبوب. ووزر بن جابر الملقب بالأسد الرهيص

(يدخل عنترة في الحال)

هل هو عربي؟ لا. . . كان الخائن مختبئا في الظلام وراء هذه الصفاة كالذئب، ولا بد أن يكون أجنبياً

ص: 64

(يسمع صوت شيبوب من بعيد)

هاهو شيبوب، هل يقوده؟ لأني أرى شبحين

شيبوب (يتكلم بصوت مرتفع)

تقدم!

(ثم ينظر شيبوب وهو يجر وزرا من يده)

لقد قطع الخوف ساقيك! وعز عليك البقاء فودع اذن الحياة

(مخاطبا عنترة الذي يقترب منهما)

لا جدال ولا ريب! فانه يستر وجهه! وعيناه لا تخترقان حجب الظلام إلا لرمي السهام، وسيطفئ الموت شعلتيهما بعد قليل

(يجره بجانب عنترة وهو جالس على صخرة وكان شيبوب يتكلم وهو سائر حتى يصل إلى عنترة)

لا تبصران الصخور ولا الخمائل ولا الجحور حتى أنني كدت أن أحمله

عنترة - لكنه يحسن الهرب!

شيبوب - لا، انه لم يهرب وكان جالسا على مقربة من صفاة، وقد طعن نفسه بسهم عندما اقتربت منه؛ وترى هنا قليلا من الوضوح فانظر!

(ثم يزيح شيبوب اللثام عن وجهه ويحدق فيه)

آه! وزر!!

عنترة - وزر! أتحلم؟ كلا!

شيبوب - هو بعينه

عنترة - الفارس المختال الذي عرفته من قبل؟ (ثم يحدق به هنيهة) نعم نعم، كيف تكون خائنا؟ أقبلت في الليل الدامس لتقترف إثما ملؤه النذالة والصغار، ولم ير مثله في البلاد العربية! هل بلغت بك السفالة أن تفعل فعلتك هذه؟ ماذا عملت بقناتك وحسامك؟ لقد أحسنت بستر وجه دمغ بميسم النذالة والجبن. ما أبشع هذا الوجه الدميم. أتنهض وترفع عينين باردتين ملؤهما الخجل والخزي؟ أم يتلهفان لاقتراف جرم آخر؟ تكلم.

وزر - عيناي فارغتان وقد استعضت عنهما بقلب مليء حقداً!

ص: 65

عنترة - ولم؟ وعلى من تحقد؟

وزر - لا تتجاهل وما هو إلا عليك!

شيبوب - ماذا تقول؟

عنترة - دعه! ويلزم أن يوضح هذا الرجل. أجب!

وزر - أنظر إذن! هاهو جوابي! هاتان العينان الخامدتان المفقوأتان كأنهما حجران أسودان كئيبان! آه! إنك تسميني النذل يا عنترة وما النذل الا أنت!

شيبوب - قد بلغ السيل الزبى!

عنترة - (وهو يزيح شيبوب عن وزر)

إنني أجهل أمرك، ولقد أسرتك من قبل وأنا راع صغير الشأن وأنت فارس مدجج بسلاحك ثم سافرت في مساء ذلك اليوم وسلمتك إلى غيري ولا أعلم ما فعلوا بك في غيبتي وأنت أسير

وزر - ألم تك أنت الذي أمرت أن يفقأوا عيني؟

عنترة - (وقد غير لهجته شيئاً فشيئا)

كلا! فاني لا أعرف أن أسيء إلى ضعيف. أما كنت أستغرب ما حصل لك منذ هنيهة؟ وكيف لي وأنا الذي ما زلت أحارب ورائدي الشرف ومبدئي النبل أن تعزو ألي هذا الجرم الفظيع دون عذر أو مبرر. أو يتهمني به عدو مقهور موتور نهش صدره الحسد. إنني فتنت بالحروب وهي صناعة كثير من الملوك ذوي الحول والطول وغيرهم من السادة الأمجاد الذين لا يستطيعون أن يشقوا لهم طريقا إلى الأفئدة ويعتقدون أنهم بالغوها بظبأ البيض الصفاح، وهذا خطأ ظاهر وما فتئ الإنسان عرضة للخطأ

أيترك الإنسان حنقه ليبطش بالمقهورين ويخفي أرواحهم من أعماق جفونهم ويسلبهم حقهم في هذا النور حتى يجعلهم أمواتا وهم أحياء كلا! ثم كلا! وأقسم بهذا الهلال الصيرفي الذي بزغ في السماء، انني لا أستطيع أن أقترف مثل هذا الإثم. إنهم يريدون أن يلوثوا اسمي بمثل هذه الريبة ويجردوني من الخير الوحيد الذي يقود إلى المجد والفخار وهو الطيبة. . . فهل تثق بي إذن؟

وزر - أثق؟. . . نعم!. . . أود أن لا أثق، إنني أبحث في قلبي وأفتش في ذاكرتي لان

ص: 66

عندي أسبابا أخرى أهم وأقوى تبرر بغضك!. . . مهلا!. . . (يناجي وزر نفسه على مسمع من عنترة)(ان كان ترك لك عينيك ولم يكن لك جلاداً فهل كف أن يكون خائناً لكل عربي نحب حريته واستقلاله. انه يريد أن يبيع ويسلم بلاده إلى الفرس)

(ثم يوجه الكلام إلى عنترة) وهذا ما أعرفه منذ أكثر من عامين، لقد كبر وعظم جرمك حتى برر كل اعتداء واغتيال وسحب ذيل النسيان على الجريمة التي كنت ضحيتها، والعربي لا يحفل بفقد عينيه ومته في سبيل إنقاذ بلاد العرب!

عنترة - هل نصبت نفسك حكما؟

وزر - (وقد اطمأن شيئا فشيئا) لقد حكمت نفسي بكل الوسائل من سلاح وقول وكل ما يصلح للقتل والانتقام، أما تراني ادن جريئا سفاحا؟

عنترة - عجبا لك! كيف يعرفون أن يشوهوا الحقيقة الحسناء! يخفون صورة الجمال تحت كثيف البراقع والأصباغ كالعجائز ينقشن وجوههن بالوشم ويتكحلن ويصبغن خدودهن بالحمرة. يريدون أن يزيدوا الجمال حسنا فيشوهونه. يجب أن تغمره الشمس وهو في صحة عربة فيتركونه في بساطته ووداعته ويزيلون هذه الصبغة الدميمة التي تحجبه.

أصخ لي يا وزر: فاني سأجعل جمال الحقيقة ولونها الوضاح يخترقان جسمك إلى أن يبلغا نفسك السوداء وسوف أقتل فيك الريب والشك بكلمة: أما كنت فيما مضى صديقا للملك المنذر

وزر - أنا؟

عنترة - نعم أنت! وتعلم جيدا مقاصد هذا الملك

وزر - (بلهجة مرة)

عنترة - ما هو الآن بحلم

وزر - وكيف؟

بلى، وهي وحدة العرب في يد ملك فرد، وهذا صحيح، ولكن ذلك لم يكن إلا حلما لذيذا

عنترة - لقد تخلص وتحرر من نير الفرس وسأنضم إليه الآن. . .

وزر - تنضم إليه؟

عنترة - وستظهر حكمة فرد آخر كطلوع الفجر ويؤيده الله بقوته فينشر قوله الأبدي. إلا

ص: 67

تشعر بالأرض وهي تميد قبل انتشار هذا القول الذي سيمليه على الناس رب قوي عظيم. لقد زلزلت الأرض زلزالها واهتز النخل في الصحراء من عبث رياح السماء اللواقح، وأصبحت آمال الإنسان تتتابع مسوقة بنسيم الصبا كأسراب هائلة من نبات الهديل تنشد أيكا تحط عليه لتريح أجنحتها المتعبة فلا تعثر عليه. تسير تلك الأسراب حيارى مترددة لا رائد لها إلا المصادفات: ولكن المغرب سيتوهج شفقه بزخرفه وقد اقترب الزمن الذي ستتصل فيه الأرض بالسماء حتى يسمع أهل الدنيا كلام الله الكريم، كلاما ذهبيا في إطار الألفاظ اللجينية، وستهب قبائل العرب من كل فج عميق من فيافيهم المترامية الأطراف وقت طلوع هلالهم الفضي المتألق. . .!

(ينوه في هذه الفقرة عن ظهور النبي صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن)

وزر - أواه! إنني لاشعر باستنارة إمارتي بالسوء باحمرار الفجر وضوء اللهب! صبت عليكم اللعنات يا من خدعتموني! لقد قطع سهمي خيط حياته الذي تتعلق به آمال أسلافنا وهذا الخيط الذي انتظمت فيه حبات المستقبل! يا لكم من خونة مجرمين! وان قبره ستدفن فيه بلادي! عفوا وغفرانا!

عنترة - لقد عفوت عنك وسامحتك ولكن هذا الجرم سيقع على من حللوه وأن إثمك قد خط فوق الرمال وسرعان ما تمحوه الرياح، ولكن المجرم المحرض سيلاقي جزاءه في القريب العاجل إن امبد الأجل، وإني أحمد الله وأمجده وآمل أنيكون الجرح خفيفا. . .

وزر (بلهجة قوية وأنفاس مضطربة)

ماذا تقول! هل أصابت طعنتي؟

عنترة - لقد أصابت ذراعي وليس لها أقل تأثير

وزر (وهو هائج)

انها لعظيمة خطيرة! فاسحقني بحجر من هذه الأحجار كما تسحق العقارب والأفاعي! ادفعني بقدمك بكل ازدراء واحتقار فأنني لا أستحق أية رحمة ولا شفقة! إنني لتعس شقي! وإن جرمي لعظيم لم يخط فوق الرمال. لقد نقش نقشا عميقا فوق جسمك الكبير الذي يماثل النحاس بصلابته بآلة الحقد والحفيظة! فاسحقني سحقا!

عنترة - ولم هذا اليأس؟

ص: 68

وزر - إنني خائف!

وزر - هل أسود الجرح؟

شيبوب (وهو يزيح الثوب عن الجرح) نعم قد اسود!

وزر - (وقد كشف عن صدره لشيبوب) انظر هل اسود جرحي مثله؟

شيبوب - لا يفترق عنه

وزر - (وهو خائر القوى) هذا هو المنظر! ولا يغني حذر من قدر، أي عنترة! قد اشتريت جرمي بحياتي وأني أريد نجاتك ولا أستطيعها لأن سهمي يحمل السم الزعاف بين أسنانه. . .

شيبوب - ويل لك من شقي! ألا تجد له دواء؟. . .

وزر - هيهات هيهات!

شيبوب - ولو يقف سير السم

وزر - لا ينجع فيه دواء

شيبوب - ولكن الأدوية كثيرة جداً

وزر - كلا! إن سمي لا دواء له وهو يندفع كالسيل وهو هو الذي يقتلني. أنني أعالج سكرات الموت يا عنترة فاصفح عني وسامحني!

عنترة - مت بسلام واطمئنان!

وزر - ما العمل الآن؟ ويل لي من شقي! لقد نسيت! أسرع عنترة وفوت مالك وزوجك ورجالك من هذا المضيق، فان عمارة الوغد الذي قادني إلى هذا المكان يتربص لقتلك. . . ومعه مائتان. . . وسيمرون من هنا

عنترة - إنني مازلت قويا قائما على رجلي فقل لي أين هم؟

وزر - كلا، فلات ساعة لحاق يا عنترة والأفضل الهرب. . .

عنترة - الهرب؟

وزر - ليس لك! فلا فائدة لك منه ترتجى. . . ولكن الآخرين فهربهم وإن ساعدك لكفيل بتهريب زوجك وعشيرتك. . . فعجل دون أن تنتظر أن يكفر موتي عن حياتي. . . شيبوب - اواه؟ إنك لن تموت

ص: 69

عنترة - لم يرد الموت ان يدركني في الحروب!

شيبوب (مهددا جثة وزر) ويل لك أنها الخائن!

عنترة - (يمنعه) ولم هذه الإساءة للموتى؟ فلينم بدعة وسلام! وان موتي لم يختلف عنه في الأجل والشكل وسيموت كلب ضال وهو في عنفوان قوته دون أن يثب الوثبة الهائلة ليصل إلى الماء وينهل الحياة. ولما شحب لونه وأسلم روحه الصغير ومن يعلم لأي جلاد؟. . مات من غلته أمام خرير الماء. كلا فاني سأثب هذه الوثبة مهما حل وحصل! وسأحيا!!! وسأحيا!!! إذ لابد أن أحيا. أوقد النار يا شيبوب واصهر حد السيف أو الرمح فان السم مهما بلغ أمره فلا يقوى على الحرق إذا ما تعدى الجرح وان مت فسأموت مختالا فخورا. ويخيل ألي وقتئذ إنني قتلت بالحديد

(وقد أسرع شيبوب في إيقاد النار بقطع من الخشب ثم وقعت عيناه على جثة وزر) ولكن الآخر مات بنفس الجرح وقد سرى السم في جسمه واصبحت جثته بمثابة نذير! إلهي انما أنا عبدك وخادمك! إنني أسعى وأعمل لك فلا تمتهني هذه الميتة بل على الأقل في الموضع الذي ينتظرني فيه الحصار! يالهذه الجثة! إنني وجل! وعيناي تطرفان أمام الموت كما تطرف أجفان المولود الجديد من الضوء. ما انتابني قط الخوف فكيف حل بي الآن. وإذا كان الإنسان في الحروب مقداما فهل يكون دائما في كل المواقف؟

(ثم يسوق الكلام إلى شيبوب) هل تمكنت من مشاهدة عبلة وتطمينها؟

شيبوب - إنها نائمة وتنتظرك وهي واهية القوى من وعثاء الرحيل والتأثر والفضل لسلمى في تهدئتها

عنترة - ما أعزك علي يا عبلة

شيبوب - لقد احمر النصل

عنترة - يجب أن تضع النصل المصهور في الجرح دون اضطراب وارتعاش فان حياتي معلقة به

شيبوب - وا أسفاه! ستتألم كثيرا

عنترة - كلا! احرق! احرق فاني لا أحب أن أموت (ثم يعري عنترة كتفه فيكوي شيبوب الجرح)

ص: 70

ثم ينزل الستار

الفصل الخامس

عنترة وشيبوب

يأتيان من المعسكر والوهن باد على عنترة وهو متوكئ على كتف شيبوب

شيبوب - نعم، لقد بدد صوتك الشك عندهم والباقون سيستعدون لموالاة سيرهم

عنترة - ولكن هذا يوم الراحة الذي وعدوا به

شيبوب - لم أقل عنه شيئا البارحة، وقد أرجأت البت فيه إلى هذا الصباح

عنترة - ألا يدهش أحد من هذا السفر السريع؟

شيبوب - كلا وفضلا عن هذا فلا يعلم القريبون منا ولا البعيدون بمصابك. . هل تشعر بتحسن؟

عنترة - إن نسيم الصباح يطفئ قليلا الحمى؛ والكي وحده الذي يؤلمني هل دفن ميت البارحة؟

شيبوب - أجل، هناك بجانب تلك الخميلة

عنترة - ان الموتى مهما بلغ أمرهم لهم الحق في الراحة. ولننتخب الآن المكان الملائم لمشروعي. . . هناك! لا. . بل بجانب تلك الهاوية فاتها مكان مكشوف قليلا. . . ويجب أن يتمكن العدو حينما يصل من رؤية عنترة حيا أو ميتا. والآن أيها الرفيق والأخ يجب أن نفترق في هذا المكان ولنرجع من هذا الطريق الذي كان بالأمس طريق الأمل؛ أما أنا فسأتمم حياتي وواجبي

شيبوب - ألا تريد إذن أنوب عنك

عنترة - ولم يا شيبوب يحدث موتي ارتباكا في سير الأمور؟ وتصيح عبلة وسط هذا الاضطراب دون أن تتمكن من الوصول إلى الملك؟ لا! بل يجب أن ينفع حتفي رجالي وعشيرتي ومجدي ويترك نقطا من الابريز الوهاج في صفحات تاريخي!

شيبوب - ولكنني سمعت أن المنذر من علماء الطب فتعال! تعال! ومن يدري؟

عنترة - لقد فات الوقت، إذ بيننا وبين المنذر ثلاثة أيام ولقد مات وزر بسرعة ولا مرد للقضاء

ص: 71

شيبوب - نستطيع أن نؤخره بجهد عظيم!

عنترة - لا يمكن تأخير ساعة الموت، ولم هذا الجشع الذي ينقص الكرامة ويسقط الاعتبار. وصباح حافل بالحوادث خير من يوم عظيم خال. . . . . . . . . . . . . . . . .

أتبكي؟ ومتى كانوا يبكون فارسا سقط عن جواده في ميدان المجد والفخار؟

شيبوب - إني أبكي قومنا جميعا، أبكي بلادك وأمتك وكل ما سيموت بموتك. عفوك اللهم وغفرانك!

عنترة - إن مستقبل الأمة والبلاد لا يتوقف على فرد ولو كان فارس الزمان أو كان ملكا دانت له الدنيا من أقصاها إلى أقصاها ولا شيء يقف تقدم أمة. انني أراها ترقى وتتقدم من المشرق إلى المغرب في ازدهاء كسف الكوكب الذهبي في فلكه. ولا يهم النسور المختالة حتى الخطاطيف ريشة تزيد أو تنقص من أجنحتها القوية!

شيبوب - كلا يا عنترة! فان هذه الفكرة لا تنطبق على ذويك!

عنترة - حتى ذوي! إذ سيكون ألمهم شديدا ينفذ إلى سويداء قلوبهم. وكل شيء في الدنيا يتألم حينما يولد أو يخلق حتى الحبة تتعفن قليلا قبل أن تنبت وما الحياة إلا ثمرة شجرة الموت. اذهب وارحل فلربما رأيتني في يوم قريب وسأظهر لك مرة ثانية في الخيط الأسود الذي يخطه موتى في الموضع الذي مر فيه الزارع. وستنبت تحت قدميه الحبة التي بذرها

سافر واسهر عليها واحرسها أيها الصديق والحارس الأمين، ومن يدري ماذا سيكون شان المولود الذي ستلده

شيبوب (وهو ناظر إلى جهة المعسكر) اذهب وكن على رأس الجند ومر من المضيق!

(عبلة آتية من المعسكر وهي تعدو وشيبوب وراءها. أواه) (عنترتي لقد فهمت كل شيء وحدثني به قلبي. لا تمكر على فان قلبي لقلب بطلة ولو انه تألم كثيرا ولكنه يستطيع أن يستمر في ألمه

(ثم تقع على قدميه)

إنني لا أتألم إذا شاطرتك حظك، أما أنا ظل ارتبط بظلك؟

ص: 72

عنترة (وقد غالب آلامه)

هذه زهرتي المسكينة قد أضجعها إعصار وهي مثقلة بماء السماء. انهضي فان الشمس ستشرب وهي منحنية عليك عبرات حبك. لقد بدد الحديد المصهور كل خوف أني لاشعر بخفة وطأة الموت وأكاد أفلت من مخالبه. وانك تستطيعين يا عبلة أن تذهبي وأنت مطمئنة مرتاحة البال (ثم يقول بلهجة حنان وتأثر) هذا واجب عليك، وان لك غرضا يجب أن يكون نصب عينيك ستبتهج له نفسك وهو أمل عظيم يتوج المرأة ويولد الغد من أسراره الخفية. . . وحبذا لو نضجت ثمرة حبنا يا عبلة. وان مت وجب عليك أن تضاعفي حبك لهذا المخلوق الصغير (ثم يبتسم) ولكن ما العمل؟ وكأني أحزنك وأقطب جبينك واسعد عبراتك، ولكن كل شاعر حزين الفؤاد ولو من غير ما داع ولا سبب

عبلة (تنهض وهي منهوكة القوى مصعدة الزفرات) سأرحل ولكنك لا تخدعني، واعلم أن كل لحظة أو خطوة تبعدني إلى الأبد عن وجهك ونظرك المملوء بالعطف والحنان، ولا تقل عنك شجاعتي وسأذهب طائعة، وأتمنى أن ألد ولدا يثأر وينتقم لأبيه! وإني أحب الحياة لأجلكما وهل يساعدني الحظ على نيل هذه الأمنية؟

عنترة! إنني كالسكران من هذه الضحية وذلك الألم. فالوداع الوداع! وآمل أن لن تلين عبراتي من قناتك (ثم يتعانقان)

عنترة_الوداع الوداع يا ابنة الأمير النبيل سلالة الأبطال الأماجد الذين يقابلون الأهوال بعيون كعيون النسور القشاعم، أن دم أسلافك لا يكذب كما يصدق دم راعيهم القديم الذي نال الشرف اليوم

(ثم يصطحب شيبوب عبلة)

اذهبي ولن ترحلي وحدك يا عبلة، ان نفسي لتشيع خطواتك وسأجعل نصب عيني الساعات والأيام التي نسجت منذ طفولتنا خيوط حبنا وسأبذرها في الهواء لتكون ذرات حياتي هذه لك بمثابة حرس عظيم! ثم أحرسكم جميعا فيما بعد من أعالي السماء

(ثم يعود إليه شيبوب)

شيبوب - يا لك من مسكين.! يجب أن تلحق بها في أقرب وقت. هيا بنا فأنني تام العدة والسلاح، وهذه آخر واقعه أخوضها ويلزمني أن أستعد لها كالفوارس البواسل وأتلقى

ص: 73

الطعنات إلى أن أقع مضرجاً بالدماء

شيبوب! يا أخي وزميلي في الحروب! لنتعانق دون ضعف أو أسف لا يجدي ولا ينفع، وعيون جامدة لا تعرف أن تدمع

(ثم يطيع شيبوب إشارة عنترة وهو يكظم زفراته ويذهب)

سأموت الآن بغير شهود ونعم ما فعلت. أنني أستطيع الآن أن اعبر آلامي ويتسنى لعيني أن تبكيا دون أن تسيل عبرات الآخرين. لقد خارت قوي ولكني ضاعفت قواكم ولن يرى أحد منكم ضعفيوآلامي. (ثم يخترق شعاع من الشمس المشرقة سحب الضباب المربد وينير وجه عنترة)

والشمس لا تفترق عنا إذ تولد ثم يراها الناس وهي تموت. أيتها الشمس اذهبي إلى ذوي وانضمي إلى موكبهم وقولي لهم بأني أحميهم في الحياة والممات. الوداع يا أمان الحب والمستقبل الزاهر أواه! أنني اشعر أن البرد يغير علي شيأ فشيأ وقد اضطربت عيناي، ماذا دهاني! هل هذه وطأتك أيها الموت! مهلا مهلا! فاني أنا الذي أهاجمك واشد عليك دون وجل. لامتط الجواد والريح في يدي كما كنت من قبل! سأجبرك أن تخضع لامري وسيقود ذراعي سيرك الأعمى الأحمق

(ثم يعلو جواده وهو في الرمق الأخير) والآن تفتح روحي جناحيك فطر وحلق. يخيل إلى أني أنام نوما هادئا وأرى سربا من الطير آتيا من الشرق!. . . يقترب مني ويحيط بي ثم يذهب ويعود. ولكنه حياتي بأجمعها التي تضمني كأكفان نسجتها الأيام التي عشتها. أيام الأمل والحب والحرب، أن الماضي يعرض أمامي وأرى أول الكفن: أي أيام الطفولة! إن خيوطك لمن خز وعسجد وانت وحدك اللامعة الزاهية! إننا ننسج بأيدينا أكفاننا، وهذا كفني يطويه الموت بإصبعه! وهو يدفنني في طيات حياتي!. . . لا تتحرك يا عنترة. . . بجب ان يراك العدو حينما يقبل مستعدا للكفاح. . .

(ثم يسلم النفس الأخير ويميل رأسه ويبقى جسمه منتصبا معتدلا مستندا ذات اليمين إلى رمحه وذات اليسار إلى الصخور القائمة وفي هذه الآونة يأتي الرجال شاهرين رماحهم وسيوفهم وعلى رأسهم عمارة بن زياد فيلمح على حين غفلة عنترة وقد أضاء وجهه شعاع الشمس المشرقة فلمع سلاحه وهو راكب جواده)

ص: 74

عمارة - آه! إنه لحي لم يمت!

الباقون (وهم يولون الأدبار مذعورين) حي!

ينزل الستار

محمد كامل حجاج

ص: 75

‌الكتب

أهل الكهف

قصة مسرحية للأستاذ توفيق الحكيم بحث وتحليل ونقد بقلم

الأديب عبد الرحمن صدقي

تتمثل حياة الشرق في كتابين: القرآن الكريم، وحكايات ألف ليلة وليلة. فالأول يهدي إلى ما يجب أن يكون، والثاني يصور ما هو كائن واقع. يعالج أحدهما من طريق الوحي الديني علائق الإنسان بالله والمحدود باللا محدود وموقف البشر حيال المسائل الخالدة التي تفوق مداركه ولا تني تعذبه. ويستعرض الآخر لعياننا وأخلادنا صوراً حية تترى وتترى، مؤنسة كل الايناس مؤثرة أبلغ التأثير، لزحمة الحياة، والوان المجتمع على اختلاف شياته وتعدد أصباغ نسيجه، وأنماط الناس، ومطالب العيش، ودوافع الغرائز المعقدة المتضاربة، ومسارب الأحاسيس العميقة الغامضة.

وقد عمد الأستاذ الحكيم إلى هذين المرجعين من الحكمة الإلهية ومن الحكمة البشرية. فاستوحى من الأول قصته المنشورة عن أهل الكهف، واستأنف من الثاني قصته التي لم تنشر بعد عن شهرزاد. فكان اختيار المؤلف (الحكيم) أول عناصر نجاحه.

وسيقصر كلامنا هنا بطبيعة الحال على القصة المنشورة (أهل الكهف)

عمل الفنان

لأجل أن نرد ما لقيصر لقيصر وما لله لله، نسوق ملخصا لشرح البيضاوي للسورة الكريمة. وظاهر من هذا الشرح أنه كل ما اعتمد عليه مؤلفنا في قصته التمثيلية البعيدة الغور.

هم فتية من أشراف الروم، أرادهم دقيانوس الجبار على عبادة الأوثان والشرك بالله؛ فأبوا وهربوا إلى الكهف، وقد مروا في هربهم بأحد الرعاة فتبعهم وتبعه كلبه، وكان دخولهم الكهف غدوة وألقى الله عليهم سباتا سنين عدة: اختلف الناس في عدتها، فقالوا ثلاث ماية، وزادها غيرهم تسعا، والله أعلم بما لبثوا. وظلوا على الحال التي كانوا بها تحسبهم أيقاظا وهم رقود وكلبهم باسط ذراعيه بالوضيد. ثم قضى الله انبعاثهم، فانتبهوا ظهيرة وظنوا أنهم

ص: 76

في يومهم أو اليوم الذي بعده، فلما نظروا طول أظفارهم وأشعارهم التبس عليهم الأمر وأعياهم علمه. فأخذوا فيما يهمهم، وبعثوا أحدهم إلى المدينة ليأتيهم بطعام على أن يتخفى ولا يشعر بهم أحدا لخوفهم أن يظهر رجال دقيانوس عليهم فيرجموهم أو يرغموهم على الشرك. فلما دخل المبعوث السوق وأخرج الدراهم وكانت مضروبة باسم دقيانوس اتهموه بأنه وجد كنزا فذهبوا به إلى الملك وكان نصرانيا موحداً، فقص عليه القصص. فقال بعضهم ان آباءنا أخبرونا أن فتية فروا بدينهم من دقيانوس فلعلهم هؤلاء. فانطلق الملك وأهل المدينة من مؤمن وكافر وأبصروهم وكلموهم. ثم قالت فتية الكهف للملك نستودعك الله ورجعوا إلى مضاجعهم فماتوا. فدفنهم الملك في الكهف وبنى عليه بيعة. والأقوال مختلفة في عددهم فمنهم من قالوا ثلاثة رابعهم كلبهم، ومنهم من قالوا خمسة، ومن قالوا سبعة. ويروى أن أسماءهم يمليخا ومكشلينيا ومشينيا وهؤلاء أصحاب يمين الملك ومرنوش ودبرنوش، وشاذنوش أصحاب يساره، وكان يستشيرهم. والسابع الراعي الذي وافقهم واسم كلبه قطمير. واسم مدينتهم أفسوس وقيل طرسوس.

هذه هي المادة الأولية التي أتيحت للمؤلف فانظروا كيف صارت في يديه، وكيف نحت فيها هذه المجموعة من التماثيل الحية وأقام منها هذا الأثر القصصي.

لقد شاء له الفن أن يأخذ بقول الزاعمين أن فتية الكهف ثلاثة وآثر الاقتصار عليهم حتى لا يتوزع اهتمام القارئ أو الناظر، فيضعف التأثير وتقل المتعة فحسب الفن اثنان من مستشاري الملك والراعي. وارتأى أن تتقدم السن بأخذ هذين المستشارين ويكون الوزير الأول، أما الثاني فيكون فتى في ميعة الشباب وريعانه. ثم يشاء الفن القدير أن يجعل للوزير زوجة وولدا ً كان يخفي أمرهما، وأن يجعل للفتى حبيبة في الخفاء هي ابنة الملك ووحيدته. وقد اعتنق الرجل دينه الجديد حباً في زوجته المسيحية، كما أن حب سليلة الأباطرة للفتى المسيحي حبب اليها دينه. فإذا فأما من سباتهما وقد تفترت من طول الرقاد أوصالهما، كان لهما من العلائق القلبية ما يذكرانه فتنازعهما النفس إلى طلب الخروج من الكهف، ويختلفان فترى الفتى نزقاً كعادة العاشق المشوق، أما الزوج فحذر كظيم شأن رب الأسرة المسئول. ويشاء الفن أيضا أن تكون ابنة الملك في عصر انبعاثهم شبيهة كل الشبه بابنة دقيانوس حتى يطول وهم صاحبها وأما الراعي فلا تطول خديعته، فما هو إلا أن

ص: 77

افتقد غنمه فلم يجدها، ورأى أبناء هذا الجيل على غير عهده بهم سمتا ولهجة وزيا، حتى اتضحت له الحقيقة، وثقلت عليه الحياة فعاد زاهدا فيها إلى رقدة الكهف. ثم تبعه الوزير ثاكلا متفجعا باكيا وقد علم موت زوجته ومصرع ولده كهلا منذ دهر طويل في حومة الوغى وميدان الشرف. وأخيرا الفتى العاشق وقد تبددت أحلامه، وبدت لناظريه هوة الزمن السحيقة تفصله عن المرأة التي يحبها.

وهكذا دخل الفن على العبرة القصصية فخرج منها - كما يرى القراء - بآية فنية.

التحقيق التاريخي

لم يقصد المؤلف بروايته وجه التاريخ. ولا أظن به طمعا في أن يكون مؤرخاً. وهيهات أيضا لكاتب هذه السطور أن يدعي لنفسه هذه الدعوى العريضة. بيد أنه لما كانت القصة التي نحن بصددها لها صلة بالتاريخ، فلا مراء في أن الدراسة التاريخية هي على الأقل من مستلزماتها.

ولقد راجعت القليل من المراجع في التفسير، ومن معاني التاريخ الموضوعة في العربية، ثم انتقلت إلى غير الكتب العربية مما هو موضوع في تاريخ الإمبراطورية الرومانية ونشأة المسيحية بغض النظر عن مؤرخي الكنيسة ورجالها. فإذا مؤلف أهل الكهف لم يسلم من نقص في هذه الجهة وأخطاء قد لا يكون لها خطر في صميم الفكرة، بيد أنه كان من المستحسن على كل حال تداركها ولو تكلف قاصنا المسرحي اليسير من العناء في التحقيق التاريخي

فقد زعم أن العاهل دقيانوس هو صاحب عصر الشهداء أي ديوقلاسيانوس لتقارب النطق واحتمال التحريف في تعريب الاسماء الأعجمية عند العرب. والحقيقة أن دقيانوس هو ذوقيوس كما يلفظها البعض أو دسيوس عاهل الرومان الذي حكم من عام 249 إلى عام 251 بعد الميلاد. وكان مع بسالته وحسن تدبيره شئون الملك شديداً على النصارى، فنقض ما كانوا فيه من أمان وسكينة، وأجمع العزيمة على سحق المسيحية. فكان شديد الكراهية للبطارقة وكان كل مؤمن في ملكه الواسع رهنا بالسجن والتعذيب، وقد شاع لعهده التفنن في التعذيب بالجوع والعطش. واشتد اضطهاداته في سنة 250 ميلادية فلم تعد وقائع مفردة بل أمور عامة وتدابير منظمة. ولعل فتية القصة هربوا إلى الكهف في هذه السنة

ص: 78

ثم إن أكبر فتية الكهف هو مكسلمينا. والأجدر بالمؤلف اتخاذه بدلا من مرنوش. كما أن أجملهم وأجلدهم تمليخا فلا محل لإطلاق اسمه على الراعي وحسب الراعي أن يدعى راعيا

كذلك لا نستسيغ تسمية الوادي الذي به الكهف في ظاهر المدينة بالرقيم. لأننا أميل إلى قول المفسرين بأن الرقيم إشارة إلى لوح من الحجر أو الرصاص عمد إليه رجلان مؤمنان من بيت الملك، فكتبا فيه شأن الفتية ورقما أسماءهم وأنسابهم، وأودعاه في تابوت من نحاس مختوم بخاتم من فضة، وجعلاه على باب الكهف

وأما المدينة التي كانت مسرحا لوقائع القصة فليست طرطوس كما استحسن المؤلف استنادا إلى قول في البيضاوي بل هي مدينة كما ذكر ذلك البيضاوي نفسه وعليها أجمع المؤرخون والمفسرون من المسلمين ورجال الدين من النصارى، ولا عبرة بوهم واهم من المفسرين زعم (أن مدينة أفسوس هي طرطوس وكان اسمها في الجاهلية أفسوس فلما جاء الإسلام سموها طرطوس) فقد ساقه إلى هذا الخلط جهله بتلك المدينة الداثرة إطلاقا، واقتصار علمه على طرطوس التي فتحها العرب، ولقد عمد في حيرته إلى قطع العقدة بدلا من حلها، فقطع بأن المدينتين واحدة، وشتان مابينهما في موقعها الجغرافي وماضيهما التاريخي

ومدينة أفسوس قديمة، وبها للمشركين هيكل لإحدى آلهتهم أرتميس (أو ديانا وحرم لتمثالها المقدس. وهذه الربة هي الأم العذراء للحياة والانتاج. وكان لأهل المدينة ولع بعلوم السحر والكهانة حتى بعد انتشار النصرانية فيها. وقد اشتهرت بأوليائها وشهدائها. وقد زعم القوم أن مدينتهم كانت الموطن الأخير لمريم العذراء وأنها دفنت بها، ومع هذا فأن اعتقادهم في أرتميس الأم العذراء أيضا لم يزل قائما قويا. وقد كان من حق أفسوس على الأباطرة الرومان أن تكون أول مدينة ينزل بها ولاتهم على آسيا وأن يتقلدوا فيها مقاليد الولاية. وأفسوس معروفة بكثرة ما خلفته من نقودها المضروبة المتنوعة وما على سكتها من بديع النقوش وطوابع الحكام.

وأخيراً يحسن تعيين الملك الذي ابنعث على عهده أهل الكهف وهو إمبراطور الدولة الشرقية المسيحي تاودوسيوس الصغير 2وحكمه من عام 408 إلى عام 450 ميلادية.

ص: 79

وكانت قد فشت في زمانه بين الناس بدعة القائلين ببعث الارواحدون الاحساد، فجاءت معجزة الكهف تفنيداً لهم وآية على قدرته تعالى وكان هذا الملك في أول حكمه قاصراً يدير الدولة باسمه القاضي أنتيميوس ثم تولت القوامة عليهأخته بولكيريا فدرج بعنايتها على الصلاح ودماثة الخلق والنزاهة وحسن الفكر والروية. وبولكيريا أسم تاريخي يصلح بدلا من بريسكا في رواية المؤلف بعد تبديل بسيط

ونقف عند هذا الحد لنقول أن الرواية لا تخسر بهذا التحقيق التاريخي شيئا. ولعل الأستاذ الحكيم لو اطلع على معظم التفاسير والتواريخ من عربية وغير عربية في هذا الموضوع وحوله، لصدقنا فيما نذهب إليه من أن روايته الكبيرة تكسب عظمة من وجود هذه المواد في يدي صناع مثله، وأنه كان بهذا التشبع بالتاريخ قميناً بأن يفرغ عليها إلى جانب ذلك السنا الفلسفي والضرام العاطفي والروح الإنساني لوناً محليا ظاهراً يصبغها في غير تكلف منه أو تعمل، بطبيعة المناخ الآسيوي، وبذلك المزيج من الحس الوثني، والتصوف المسيحي.

(له بقية)

عبد الرحمن صدقي

ص: 80