الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 320
- بتاريخ: 21 - 08 - 1939
الحلف العربي
وقضيتا فلسطين وسورية
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
منذ بضعة أسابيع نشرت لي مجلة (المكشوف) البيروتية في عددها الممتاز كلمة عن الوحدة العربية بينت فيها ما يتيسر من ذلك في الوقت الحاضر، وهو أن يكوّن الأمم العربية - أو التي لغتها العربية - فيما بينها حلفاً قوياً وطيد الدعائم يوحد نظم التعليم العام، ويزيل الحواجز الجمركية، ويلغي الجوازات، وينظم التبادل التجاري، ويوثق الروابط الاقتصادية، ويوحد النظام العسكري، ويعين على إنصاف الأمم العربية التي لم تفز إلى الآن بحقها في الحياة الحرة مثل: تونس والجزائر ومراكش، ويجعل من هذه البلاد كلها كتلة واحدة وصفاً متراصاً متعاوناً للدفاع عن وجودها وصون مصالحها والذياد عن كيانها. وقلت: إن هذا مطلب ليس فيه شطط، فإنا نرى فرنسا وبريطانيا تسعيان لمحالفة الروسيا الشيوعية على الرغم مما بين الدول الثلاث من تفاوت في الأصول واللغة والنظم الاجتماعية والسياسية والأغراض والمصالح والمواقع الجغرافية
وقد نقلت جريدة البلاد البغدادية هذا المقال، وعقبت عليه بقولها: إن الحلف الذي أدعو إليه قد فكر فيه العراق (وأوجد مشروعه فعقد معاهدته مع المملكة العربية السعودية ودخلت فيه مملكة اليمن، وبابه مفتوح لدخول كل دولة عربية أخرى)
وأنا أعرف ذلك وما نسيته ولا أُنسيته يوم كتبت كلمتي إلي المكشوف. وقد كنت في بغداد لما كانت المفاوضة دائرة بين العراق والمملكة السعودية لعقد هذا الحلف، وقبيل الأوبة إلى مصر بشرنا السيد يوسف يسن مندوب الدولة السعودية، والمرحوم يسن باشا الهاشمي رئيس الوزارة العراقية يومئذ، بأن الاتفاق تم ولم يبق إلا التوقيع، فكان هذا أعظم ما سرنا وخير ما عدنا به من بغداد
ومازال الحلف قائماً ولا شك في فائدته للدول الداخلة فيه ولكني لا أعلم أن الفائدة تجاوزت هذا النطاق المحدود. وإذا كانت العراق واليمن والمملكة العربية السعودية قد تعاونت على السعي لإنصاف فلسطين فقد اشتركت معها في ذلك مصر وهي غير داخلة في الحلف، وقد كسبت هذه الدول الأربع لفلسطين العدول عن الوطن القومي وحصر الهجرة اليهودية إليها
في نطاق الثلث، وهذا فوز له قيمته ولا ريب، ولكني أجترئ على القول بأن الفضل فيما كسبت فلسطين العربية، لأبنائها الأشداء الأبطال المغاوير قبل أن يكون لهذه الدول العربية، ولو لم يقم عرب فلسطين قومتهم الباهرة لما أجدى سعي البلاد العربية الأخرى منفردة أو مجتمعة. ومع ذلك أصبح هذا الكسب عرضة للضياع إذا اعتبرنا ما يحدث كل يوم من تهريب اليهود إلى فلسطين وإدخالهم فيها بكل وسيلة غير مشروعة لإحباط سياسة الكتاب الأبيض فيما يتعلق بتحديد الهجرة والعدول عن الوطن القومي، وهؤلاء اليهود يجيئون من بلاد لا تضطهدهم ولا تسومهم شيئاً من العذاب أو الظلم وإنما يُجمعون ويُرسلون إلى فلسطين ليقاوموا السياسة الجديدة كما صرح زعماء اليهود بذلك
وأنا أعلم أن الجنرال نوري السعيد باشا رئيس الوزارة العراقية هدد في لندن بسوء العاقبة إذا لم تعمل بريطانيا على إنصاف عرب فلسطين، وكان لوعيده هذا أثره يومئذ في المؤتمر
ولكن على الرغم من تعاون البلاد العربية في المؤتمر ودخولها فيه وخروجها منه كتلة واحدة، وعلى الرغم من تهديد نوري باشا لم يفز العرب بأكثر من خمسين في المائة من مطالبهم العادلة وحتى هذا القدر يمحوه التهريب اليهودي الآن
ودع فلسطين وانتقل إلى سوريا وانظر ما حل بها
هذه فرنسا عقدت معها معاهدة صداقة وتحالف على مثال المعاهدة العراقية البريطانية، وما نظن أن أحداً سيدعي أن فرنسا أُرغمت على ذلك أو أن سوريا أملتها عليها بحد السيف، ومع ذلك راحت تماطل في إبرامها ثم نقضت سياسة المعاهدة جملة وتفصيلاً وقضت على الحكم الدستوري وقطعت البلاد إرباً، وزادت فاقتطعت الإسكندرون وتفضلت فأهدتها إلى تركيا. وليس ما صنعته ألمانيا بتشيكوسلوفكا بشر مما صنعت فرنسا، فما كانت تشيكوسلوفاكيا أمانة في عنق ألمانيا وإنما كانت شوكة في جنبها وضعتها هناك سياسة فرنسا - وليس هذا دفاعاً عن ألمانيا وإنما هو الحق. وإذا كان المرء لا يجد ما يصلح أن يكون دفاعاً عن ألمانيا في هذا الباب على الرغم من الحقائق المعروفة فأي دفاع يمكن أن يكون هناك عن فعلة فرنسا في سوريا من إهدائها الإسكندرون إلى تركيا، وتقسيمها ما بقى من البلاد السورية إلى محافظات مستقلة إدارياً وقضائياً ومالياً وحكمها جميعاً حكماً مباشراً، وإهمال المعاهدة التي عقدت في سنة 1936؟
والشعب السوري من أسبق الشعوب إلى اعتناق الفكرة العربية والدعوة إلى الوحدة ومن أرقاها وأخلقها بالحياة الحرة.
وإذا كانت سوريا لا تستحق الاستقلال فلا ندري من ذا يستحقه؟
وإذا كانت سوريا التي احتمل رجالها أثقل أعباء الثورة العربية في إبان الحرب الكبرى والتي كانت ولا تزال إلى هذه الساعة على الرغم من محنتها أقوى مؤيد للحركات الاستقلالية في كل بلد عربي - تقابل نكبتها بمثل هذا الفتور، ولا أحب أن أقول الجحود، فلا أدري أية أمة أخرى أولى بالمعاونة والنجدة؟
أنا أعرف كما قلت أن هناك حلفاً عربياً بين العراق والدولة العربية السعودية واليمن، ولكني أستأذن صديقي الأستاذ روفائيل بطي صاحب (البلاد) البغدادية في أن أقول إن هذا الحلف لا يمكن أن يؤتي الثمرة المرجوة منه ما بقيت فلسطين وسوريا ترسفان في الأغلال، فإن هذين البلدين هما قلب البلاد العربية
إن البلد العربي الوحيد الذي يسعه أن يدخل في الحلف العربي الآن هو مصر ولكن دخولها فيه لا يوجد معدوماً، ولا يضيف ناقصاً، ولا يزيد شيئاً على علاقات الود والتعاون بين مصر وبلاد الحلف (العراق والمملكة العربية السعودية واليمن) وإنما الذي يكسب الحلف وزناً جديداً وقيمة عملية من العسير أن تتيسر له الآن هو استقلال فلسطين وسوريا ودخولهما في الحلف وبذلك تصبح البلاد العربية (إلى آخر حدود مصر الغربية) كتلة واحدة حقيقية في وسعها أن تتعاون على مواجهة الطوارئ وملاقاة الأحداث ودفع الأخطار. وليس ذلك لأن سوريا وفلسطين أكثر عدداً أو أوفر مالاً أو أقدر أو أكفأ بل لأن بقاء هذه البلاد خاضعة لسلطان دول أجنبية يشطر البلاد العربية شطرين ويجعل التعاون العملي بين الشطرين متعذراً ويحول دون القيمة التي يسهل أن تستفاد من اتصال الحدود وزوال الفواصل والعوائق
وإلى أن يتم استقلال سوريا وفلسطين لا يجوز الاكتفاء بالقول أن الحلف العربي موجود وقائم وأن بابه مفتوح لمن يريد الدخول فيه فما يتغير شيء حقيقي بدخول مصر فيه قبل استقلال سوريا وفلسطين. وإلى هذا ينبغي أن يتجه السعي قبل كل شيء. وما أظن إلا أن إخواني في العراق يقرون هذا الرأي.
إبراهيم عبد القادر المازني
كتاب مستقبل الثقافة في مصر
الثقافة العامة وتعليم اللاتينية واليونانية
للأستاذ أبى خلدون ساطع الحصري بك
أما الفوائد التي تعزى إلى (تعليم اللاتينية واليونانية) من وجهة خدمات هذا التعليم لـ (تثقيف العقل وتقوية المحاكمة)
فمن الأمور التي تحتاج إلى إنعام النظر من وجوه عديدة:
فإن نظم المعارف السائدة في أوربا، كانت جعلت (الدراسة الثانوية الممزوجة بتعليم اللاتينية واليونانية) السبيل الوحيد الذي يؤدي بالطلاب إلى الدراسات العالية. ولا حاجة للبرهنة على أن عدم وجود سبيل آخر يؤدي إلى ميادين الفكر والثقافة الفسيحة، لا يمكن أن يعتبر دليلاً على عدم إمكان أيجاد سبل أخرى أقصر وأحسن وأنفع من ذلك السبيل. . .
كما أن ذكر الأمثلة الكثيرة عن أعاظم العلماء الذين كانوا من النابغين والمتقدمين في دروس اللاتينية، لا يمكن أن يبرهن على أية قضية كانت في هذا المضمار. لأن التفكير العلمي الصحيح يتطلب التساؤل - تجاه مثل هذه الأمثلة - عما إذا كانت اللاتينية من عوامل نمو عقول هؤلاء العلماء، أم أن مواهبهم العقلية كانت من أسباب تقدمهم في اللاتينية؟
ونرى من المفيد أن نوضح هذه القضية بمثال مادي: لنفرض أننا أخذنا حفنة من الحبوب وغربلناها بغربال معين؛ من الطبيعي أن هذا الغربال سيسقط الحبوب الصغيرة، وسوف لا يحتفظ إلا بالحبوب الكبيرة. فهل يجوز لأحد أن يدعي - عند ما يشاهد هذه الحبوب الكبيرة - أن الغربال سبب (تنمية الحبوب)؟
هذا من جهة، ومن جهة أخرى هل يجوز لأحد أن يدعي أن هذا الغربال هو الواسطة الوحيدة لانتقاء البذور؟ أو أن الغربلة هي أحسن الوسائط لهذا الانتقاء؟ وهل لأحد أن ينفي احتمال سقوط بعض الأنواع من البذور الثمينة والنافعة - مع ما يتساقط من الغربال؟ أو ألا يسلم باحتمال بقاء الأنواع من البذور الرديئة والمضرة، بين ما يبقى في الغربال؟
أننا لا نقصد في سوق هذا المثال وإيراد هذه الأسئلة أن ندعي أن (عمل اللاتينية في العقول لا يختلف عن عمل الغربال في الحبوب) بل إننا نود أن نقول: إن هذه القضايا
كثيرة التعقيد كما يظهر من المثال المادي البسيط الذي ذكرناه؛ فلا يجوز لنا أن نبت في مثل هذه القضايا قبل أن ندرسها من جميع وجوهها ونقوم بأبحاث دقيقة وشاملة في شأنها. . .
فلنفكر كيف يمكن أن يؤثر (تعليم اللاتينية) على القابليات العقلية. لا شك في أن هذا التأثير يجب أن ينجم عن ممارسة تمارين الترجمة التي تجري خلال هذا التعليم. فإن الترجمة تحمل الطالب بطبيعتها على القيام بأعمال ذهنية هامة: إنها تمرنه على نقل الفكرة الواحدة، أو المعنى الواحد من لغة إلى لغة أخرى؛ وذلك يضطره إلى تحليل المعاني والعبارات إلى عناصرها المختلفة، ويحمله على إجراء مقارنات دقيقة بين عبارات اللغتين ويعوده ملاحظة أصغر الفروق وأدق الألوان في معاني الألفاظ والعبارات التي تعرض عليه أو تخطر بباله. . . إن الفوائد التثقيفية التي ينتظر الحصول عليها من تعليم اللغة اللاتينية أو اليونانية، لا تخرج عن نطاق فوائد هذه التمارين من وجهة التأثير على القابليات العقلية. ولا مجال للشك في أن جميع هذه الفوائد لم تكن من خصائص تعليم اللاتينية أو اليونانية؛ بل هي مما يمكن الحصول عليها خلال تعليم أية لغة من اللغات الحية الراقية أيضاً. . .
إن هذه القضية كانت من أهم المسائل التي احتدم النزاع عليها ودارت المباحثات والمناقشات حولها. . . وقد قام عدد غير قليل من علماء النفس ورجال التربية، يدرس هذه المسألة علمياً وتجريبياً. فقد قاموا باختبارات واسعة النطاق، وبرهنوا على أن اللاتينية لا تمتاز على سائر اللغات - من حيث القابلية التثقيفية - بوجه من الوجوه
فلا يجوز لنا مع ذلك أن نتوسل بتعليم لغة ميتة إلى (تثقيف العقل)؛ بل الأجدر بنا أن نصل إلى التثقيف المذكور عن طريق تعليم لغة حية ليستطيع الطلاب أن يستفيدوا منها في الوقت نفسه طول حياتهم الفكرية والاجتماعية
وعندما فكرت أنا في هذا الموضوع - على ضوء الآراء والأبحاث التي أشرت إليها - تذكرت قصة صغيرة كنت قرأتها في كتاب مدرسي، بين موضوعات الإنشاء:
كان رجل يعتمد في تدبير معاشه على نتاج مزرعته. فلاحظ يوماً أن البركة أخذت تذهب عن مزرعته، وأن النتاج أخذ يقل عن حاجته، فشكا حاله إلى أحد أصدقائه، فوعده صديقه هذا بسؤال أحد السحرة، لتدبير مسألته. فأتى إليه - في اليوم التالي - بعلبة سحرية، قال
إنها كفيلة بإعادة البركة إلى مزرعته على أن يستصحبها معه كل ليلة إلى بعض أنحاء المزرعة - من الإسطبل إلى مخزن الحبوب - فأخذ الرجل يعمل بوصايا صديقه ويطوف بالعلبة السحرية في الأنحاء المذكورة. ولم تمض على ذلك مدة طويلة، إلا وقد رأى أن العلبة عملت عملها السحري، وأعادت البركة إلى مزرعته. غير أن هذه العلبة، كانت في حقيقة الأمر علبة اعتيادية فارغة؛ وأما سحرها، فقد نتج من اضطرار الرجل إلى الطواف بها ليلاً في مختلف أنحاء مزرعته؛ لأن هذا الطواف، ساعده على ملاحظة أحوال مزرعته، ومراقبة أعمال مأجوريه، ووضع حد لجميع الأسباب التي كانت تؤدي إلى تناقص موارده.
إنني أشبه عمل اللاتينية في حقل التفكير، بعمل (العلبة السحرية) التي ذكرتها. فإن السحر ليس فيها، بل في الأعمال الذهنية التي تجري بواسطتها. ولا حاجة للبيان أن هذه الأعمال مما يمكن أن تجري دون وساطتها، بل بواسطة أية لغة من اللغات الحية الراقية. . .
إن المناقشات التي ثارت حول مسألة تعليم اللغات القديمة لم تحمل وزارات المعارف في فرنسا على إحداث بعض الإصلاحات لمجابهة الحاجات إلا بعد انقضاء النصف الأول من القرن الأخير
وأما أول التدابير العملية التي اتخذت في هذا الباب فقد كان إحداث نوع جديد من الدراسة الثانوية في عهد وزارة (ديكتور دوروى). عرف هذا النوع الجديد باسم (التعليم الخاص) واستغنى عن تعليم اللغات القديمة، وجعل غايته إعداد الطلاب للمدارس العالية الاختصاصية التي تفتح أمامهم سبل الدخول إلى الحياة العملية
غير أن إحداث هذا النوع من التعليم أثار هجمات أنصار اللاتينية، كما أنه لم يحقق رغائب المجددين. فقد احتج عليه أنصار اللاتينية واليونانية قائلين (إن هذه الدراسة الجديدة ستجذب الشبان إليها من جراء قصر المدة التي تتطلبها والفوائد العملية التي تتضمنها، وذلك سيؤدي إلى انصراف الشبان عن سبل العلم الخالص، والى انحطاط الثقافة الفرنسية العالية). قالوا لذلك بوجوب تطويل مدة الدراسة فيها لإزالة أسباب الإغراء منها
وأما معارضو اللغات القديمة فإنهم قالوا بأن هذا الإصلاح غير واف بالمرام، لأنه أحدث سبيلاً جديداً للدراسات المهنية العالية وحدها، وترك سبل الدراسات الجامعية على حالها،
في حين أنهم كانوا يطالبون بإصلاح تلك السبل أيضاً؛ كانوا يعتقدون بوجوب إحداث نوع في الدراسة الثانوية لا يقصِّر في أهدافه السامية عن أهداف الدراسة الكلاسيكية الراهنة، ولا يهمل شيئاً من المرامي الثقافية التي عرفت باسم (الإنسانيات) منذ عصر النهضة. إنهم كانوا يدعون إلى إحداث (إنسانيات عصرية) تعوض اللغات القديمة باللغات الحية، دون أن تحيد عن أهداف العلم الخالص والدراسة الجامعية. . .
ولذلك ثابر هؤلاء على مطالبهم إلى أن جاءت وزارة (ليون بورجوا) وخطت خطوة جديدة في السبيل الذي كانوا يدعون إليه؛ إذ أنها حوّلت (التعليم الخاص) إلى فرع ثانوي جديد عرف باسم (التعليم العصري). وأصبحت الدراسة الثانوية بعد ذلك متفرعة إلى فرعين متوازيين: كلاسيكي وعصري
بدأ هذا الفرع يشق لنفسه الطريق بين أنواع شتى من الموانع والمشاكل - من قلة الوسائط إلى خصومة المحافظين وعراقيل المعارضين - إذ أن أنصار اللغات القديمة والتعليم الكلاسيكي بذلوا كل ما لديهم من قوة لتحذير أولياء الطلاب من الاعتماد على نتائج هذه البدعة، وحرصوا حرصاً شديداً على إبقاء الجامعات موصدة الأبواب أمام متخرجي الفرع العصري من الدراسة الثانوية
واستمر النزاع والنقاش، ووصل الأمر - في أواخر القرن - إلى درجة من الحدة اضطر معها مجلس الأمة إلى القيام بتحقيق برلماني خاص؛ فألف لجنة لدرس مسألة الثانوية من جميع وجوهها دراسة واسعة النطاق. فاستمعت اللجنة لآراء عدد كبير من رجال العلم والأدب والتربية والتعليم، من رؤساء الكليات والجامعات إلى كبار رجال العمل في المهن المختلفة وخصصت في أبحاثها موقعاً خطيراً لدرس مسألة التعليم العصري والتعليم الكلاسيكي
وقد أظهر هذا التحقيق الشامل عدة حقائق مهمة حول مسألة تعليم اللغات الميتة في المدارس الثانوية
إن الدراسة الكلاسيكية المستندة إلى تعليم اللغات القديمة، كانت لا تزال تتمتع بشهرة عظيمة بين أولياء الطلاب. كان المثقفون منهم قد نشئوا نشأة كلاسيكية، فتعودوا أن ينظروا إلى أن معرفة اللاتينية - معرفة تمكن من ترصيع الكلام ببعض عبارات منها عند
الاقتضاء - من دلائل (الامتياز الفكري) ولوازم (الأرستقراطية المعنوية)؛ ولذلك قلما كانوا يرضون لأولادهم نوعاً من الثقافة تحرمهم هذا الامتياز، وتحط من منزلتهم الاجتماعية. وأما الذين كانوا نشئوا نشأة أبسط من ذلك - ومع هذا أخذوا يطمعون برفع منزلة أولادهم عن طريق تعليمهم تعليماً راقياً - فكانوا لا يرضون لأولادهم أن يفترقوا عن أولاد الفريق الأول في هذا الميدان. . . ولهذا ظلت رغبة الأكثرية متجهة نحو التعليم الكلاسيكي القديم. . .
وزد على ذلك أن معظم مديري المدارس الثانوية ومعلميها أيضاً كانوا متشبعين بفكرة تفوق الدراسة الكلاسيكية على العصرية؛ ولذلك كانوا لا يفتئون يشوّقون التلاميذ الأذكياء إلى اختيارها. . . حتى أن البعض منهم كان يغالي في هذا الاعتقاد أشد المغالاة، فيظهر الفرع الجديد بمظهر (ملجأ المتأخرين) من الطلاب، ويبذل كل ما لديه من قوة إقناع المتفوقين منهم للرغبة عن هذا الفرع. . .
وأخيراً كان في خدمة الدراسة الكلاسيكية جيش كبير من المعلمين المتمرنين المزوَّدين بأحسن الاختبارات وأطول التقاليد؛ في حين أن الدراسة العصرية كانت في حاجة شديدة إلى معلمين خبيرين، يحسنون القيام بالمهام المطلوبة من هذه الدراسة الجديدة. . .
ومع كل ذلك قامت الدراسة العصرية بأعباء التثقيف أحسن قيام وأعطت نتائج باهرة، لا تقل عن نتائج الدراسة الكلاسيكية
واللجنة قررت (بعد ما اقتنعت بذلك) إبقاء الفرع العصري في الدراسة الثانوية (مع العمل لتوسعه وترقيته) ومع هذا قررت في الوقت نفسه الاستمرار على اشتراط معرفة اللاتينية، للقبول في كليتي الطب والحقوق. غير أنه مما يلفت الأنظار، أن القرار الأخير لم يتخذه إلا أكثرية ضئيلة جداً لأن الأصوات التي التزمت جانب اشتراط اللاتينية للقبول في الكليتين المذكورتين لم تتغلب على مخالفيها إلا بصوت واحد فقط!
ولإظهار قوة الآراء المخالفة لذلك، أود أن أذكر بعض الفقرات المستخرجة من التصريحات التي أدلى بها ثلاثة من رجال العلم والفكر في هذا الصدد: وهم ليون بورجوا، وأرنست لاويس، وريمون بوانكاريه. . .
قال الأول ما مؤداه: نحن لم نعتقد أن الذين يتثقفون بالدراسات القديمة، هم وحدهم جديرون
بتكوين الأرستقراطية الفكرية؛ بل اعتقدنا بإمكان (إنسانيات عصرية)، مستقلة عن اللغات القديمة، اعتقدنا بأننا نستطيع أن نعطي نوعاً من الثقافة العامة، تختلف عن الثقافة الكلاسيكية، دون أن تكون أقل سمواً منها. . . فإن الدراسات الكلاسيكية بطبيعتها (كلامية) فلا تسد حاجات عصرنا هذا، ومطالبه الفكرية والأدبية والاجتماعية. . . إن العالم قد تبدل تبدلاً أساسياً منذ عشرين قرناً؛ فالثقافة الكلاسيكية التي توارثت مكتسبات الحضارات القديمة وقيمتها، أصبحت بعيدة عن ملاءمة الحضارة الحالية. . .)
ثم جابه مخاطبيه بالسؤال التالي: (أيها السادة، لنستنطق أنفسنا بكل صراحة؛ من منا يستطيع أن يقول بأنه تذوق ما في مآسي (سوفو كليس) أو محاورات أفلاطون، من جمال فني، على طريف قراءة نصوصها الأصلية. . . إذا لم يكن قد أولع باللغات القديمة ولعاً شخصياً، فتعمق في دراستها بعد الانتهاء من الدراسة الكلاسيكية؟ أما أنا فأعترف - من جهتي - بكل إخلاص - بأنني لم أفهم عظمة (أوديب الملك) إلا في الكوميدي فرانسيز. . . مع أنني كنت من المبرزين في دروس اللغات القديمة وآدابها. . .)
وأما (أرتست لاويس) - الذي يعد من أشهر كتاب التاريخ في فرنسا، والذي ظل مديراً لدار المعلمين العالية مدة طويلة - فقد اعترف خلال تصريحاته بأنه كان مرتاباً في نجاح تجربة الدراسة العصرية - عند إحداثها - غير أنه تخلص من هذا الريب، بعد أن رأى النتائج الفعلية، فأصبح يعتقد بأن قيمة الثقافة التي تكتسب خلال مثل هذه الدراسة، لا تقل - بوجه من الوجوه - عن قيمة الثقافة التي تكتسب من الدراسة الكلاسيكية. وزيادة على ذلك فند الرأي القائل بضرورة اللاتينية لإجادة الفرنسية؛ وصرح باعتقاده الجازم في مساواة قيمة الثقافتين؛ وقال بأن (الحجج التي تذكر لتبرير إيصاد أبواب كليتي الحقوق والطب أمام خريجي الدراسة العصرية، ما هي إلا من قبيل الأوهام الباطلة التي لا تستند إلى تجربة وتفكير) وأظهر استعداده لمناقشة القضية، عند الاقتضاء.
وأما (بوانكاريه) الذي كان من كبار رجال الفكر والحقوق، والذي قام بأعباء وزارة المعارف، وتدرج بعد ذلك إلى رياسة الوزراء فرياسة الجمهورية - فهو أيضاً قد دافع عن الدراسة العصرية من وجهة قيمتها الثقافية دفاعاً حاراً؛ وردّ على آراء القائلين بضرورة اللاتينية للدراسات الحقوقية رداً عنيفاً:
فقد قال - في هذا الصدد - ما مؤداه:
(إنني لا أستطيع أن أسلم بضرورة معرفة اللاتينية لدرس الحقوق الرومانية بل أقول بإمكان درس هذه الحقوق بأساليب جديدة غير التي تعودناها إلى الآن، كما أعتقد بأنه لم يبق لهذه الحقوق من فائدة سوى متعتها التاريخية. فلست متأكداً من أن الاستعاضة عن دراسة الحقوق الرومانية بدراسة الشرائع المعاصرة، لا يكون أشد موافقة وأكثر ملاءمة لمقتضيات الثقافة الحقوقية العصرية)
(هذا، وإني سأذهب إلى أبعد من ذلك وسأزيد على قولي قولاً آخر - مع علمي بأن القول سيعتبر في نظر البعض من ضروب الكفر والإلحاد - فأقول بدون تردد: إن سيطرة الحقوق الرومانية على الفكر الفرنسي المعاصر، لا تخلو من مضار. . . فإننا إذا شاهدنا محافلنا البرلمانية تسترسل في المناقشات البيزنطية إلى الحد الذي نعرفه، يجب أن نعلم أن مصدر ذلك إنما هي الأساليب الرومانية التي تعودناها في تفهم وتصور المناقشات الحقوقية)
غير أن هذه الحجج القوية وأمثالها من التصريحات، لم تتمكن من زعزعة الاعتقادات القديمة كلها من أذهان جميع أعضاء اللجنة البرلمانية، ولذلك أيدت اللجنة - بأكثرية صوت واحد - النظام المتبع في اشتراط معرفة اللاتينية للدراسة الحقوقية. غير أن ضآلة الأكثرية التي أقرّت ذلك كانت دليلاً واضحاً على أن الحل المذكور لم يكن من الحلول التي تطمئن إليها الأفكار، وتستقر عندها الأمور. بل كان من الحلول المؤقتة التي تؤجل النتيجة النهائية، دون أن تضع حداً حاسماً للاختلافات. فكان من الطبيعي ألا تقف الأمور عند هذا الحد، فتستمر المناقشات إلى أن يتقرر (مبدأ المساواة) بين الثقافتين الكلاسيكية والعصرية
وهذا ما حدث فعلاً، فإن مناهج الدراسة التي وضعت بعد التحقيق البرلماني الآنف الذكر، حاولت أن توجد حلولاً متوسطة لكثير من المشاكل فأوجدت مثلاً نوعاً جديداً من الدراسة الثانوية، يحتفظ باللغة اللاتينية، ويضحي باليونانية لتعوضها بالعلوم أو اللغات الحية. ولا شك في أن هذا النوع كان يشغل موقعاً متوسطاً بين (الكلاسيكية القحة) التي تتمسك باللغتين القديمتين في وقت واحد و (العصرية البحتة) التي تستغني عن هاتين اللغتين مرة واحدة. . .
غير أن الإصلاحات التي تقررت بعد الحرب العالمية، انتهت (بعد شيء من الجزر والمد) بتقرير حق المساواة بين الدراسة الكلاسيكية والدراسة العصرية، واتخذت عدة تدابير عملية لضمان هذه المساواة بصورة فعلية. . .
هذا هو ملخص الأطوار الأساسية التي مرت بها مسألة تعليم اللاتينية واليونانية في المدارس الثانوية والفرنسية.
(يتبع)
أبو خلدون
الحق جاهد
للأستاذ عبد الرحمن شكري
إن الإنسان كلما كبر علمته التجارب أن التقاتل على أكثر الآراء عناء زائل وأمر حائل، وأن ما يدعى تقاتلاً على الحق إنما هو تقاتل على المطامع التي تدعى حقاً. قال أحد الفلاسفة: من المقرر في علم الحساب أن جمع الاثنين والاثنين أربعة ولكن لو كانت هذه المسألة من مسائل الحياة التي تختلف فيها مطامع الناس ومطالبهم ومآربهم لكان بين الناس من يعتقد بإخلاص وحسن نية أن جمع الاثنين والاثنين خمسة أو سبعة أو تسعة حسب ما تقتضيه مطامعهم وفوائدهم. وكل منهم يعتقد بإخلاص أن جمع الاثنين والاثنين إذا كان في رأيه خمسة أو سبعة أو تسعة غير مؤسس على ما تقتضيه المطامع والفوائد الخاصة، وإنما وصل كل منهم في اعتقاده إلى هذه النتيجة بالتخلص من لوازم شخصه وبالفكر النظري الخالص من كل شائب. لكن اتفقوا على أن جمع الاثنين والاثنين أربعة لأن الجمع ليس من الأمور التي تختلف فيها مطالبهم أو فوائدهم. على أن الناس في الحقيقة يختلفون في جمع الاثنين والاثنين عند ما يخرجونه من حيّز المسائل الحسابية النظرية العارية وعندما يلبسونه لباساً من مطالب الحياة وفوائدها واختلاف أوجه النظر فيها حتى تصير المسألة الحسابية البسيطة مقنعة غير ملحوظة في أفكارهم ومطالب وكأنها غير موجودة
أذكر أني قابلت أثناء الحرب العظمى الماضية أحد أفاضل الأجانب ممن أتصف بالعدل وصدق النظر في الأمور والاعتدال في الرأي، وجرى بيننا الحديث عن الحرب والأمم المتقاتلة فيها فأطرى الفرنسيين وذم الألمان، وأوضح أسباب المدح والذم. ثم انقضت الحرب وحاولت فرنسا بعدها بمحالفة الدول الأوربية السيطرة على القوى البرية في أوربا وخشيت إنجلترا أن تخل بالتعادل الدولي. وقابلت صاحبنا فذم الإنجليز ومدح الألمان وقال هم أبناء عمنا، وذكر أسباب المدح والهجاء. ولو قابلته الآن بعد أن عادت إنجلترا وفرنسا إلى الوفاق وبعد أن قويت ألمانيا لعاد إلى رأيه الأول وصاحبنا هذا رجل عدل وإنصاف واعتدال في أمور الحياة، وهو في كل حالة كان يعتقد ما يقول، ويرى أنه الحق ولا حق غيره، وهذا الفاضل ليس ببدع، فهذه سنة الناس فيما يسمونه حقاً يحورونه ويحولونه بإخلاص وحسن نية إلى ما يناسب آمالهم ومطالبهم وأحاسيسهم، وهم لا يشعرون بذلك
التحويل، وعدم فطنتهم إلى هذا التحويل هو سبب اندفاعهم في نصرة ما يسمونه حقاً وسبب إباحة كل وسيلة في نصرته؛ ومن هذا الطريق يدخل نفس الفاضل الحسن النية ما يدخلها من شر وقسوة ولؤم، فكل إنسان في الحياة يدخل في معنى الحق ما يتفق وحالات نفسه وخواطرها وآمالها ومسراتها وصداقاتها وعدواتها، وما يناسب نشأته وثقافته الخاصة وميوله، وهو يُدْخل ما يدخله في معنى الحق من غير أن يعمل عمل المنافق الذي يُخفي من رأيه غير ما يعرض على الناس، ولو سمينا طريقته في تحويل الحق إلى جانبه نفاقاً لكانت نفاقاً لا يحس صاحبه أنه نفاق
فإذا أضفت إلى هذا النفاق غير المقصود الشائع في كل نفس ما تقصده أكثر النفوس من تضليل العامد إلى النفاق المدبر، ظهر أن محاولة معرفة الحق أمر جاهد حقاً وظهر السبب في خطأ الناس في قدر مل يعرض عليهم من الأمور التي تسمى حقاً. إذ أن السعار والضراوة في نصرة ما يسميه كل إنسان حقا ليست مقصورة على صاحب النفاق المدبر الذي يعرف صاحبه أنه ينافق فيما يسميه حقا، بل إن الضراوة والسعار في نصرة الحق أمران قد يلفيان في نصرة صاحب النفاق غير المقصود لما ينتصر له من الأمر الذي يسميه حقا. ومن أجل ذلك قلما يعنى الناس أنفسهم بفحص ما يعرض عليهم من الأمور للوصول إلى الحق. فهم أيضاً في حكمهم شأنهم شأن صاحب الأمر الذي يعرضه عليهم كي يقبلوه، فهم إما يقبلونه على أنه حق إذا وافق هواهم وإما يعرفون بطلانه ووجه تزييفه ويدعون أنهم انخدعوا لصاحبه. فإذا خالف هواهم قالوا إنه باطل وهم في كل حالة قد يغالطون أنفسهم ويدعون الفحص والتمحيص ويعتقدون ما يعتقدون أو ما يتظاهرون باعتقاده بحسن نية، وقد يجتمع حسن النية والتظاهر، إذ أن النفس تستطيع أن تخادع نفسها حتى في تظاهرها بغير ما تبطن. ومن أجل غلبة الأهواء يقول البحتري:
أخيَّ إذا خاصمت نفسك فاحتشد
…
لها وإذا حدّثت نفسك فاصدق
فقال احتشد لها لأن النفس أغلب بالأهواء وأملك بميولها، وفي البيت إرشاد إلى ثقافة ولكن الثقافة نفسها قلما تخلو من أهواء النفوس وقلما يستطيع المرء أن يحتشد لنفسه إذا خاصمها بالحق وقلما يحاول أحد تلك المخاصمة وذلك الاحتشاد للحق ما دام يلون الحق كما يشاء، ويصنعه صناعة أو يصطنع في نفسه وهو لا يدري. والحق يختلف أيضاً باختلاف آراء
المرء حسب حالات جسمه وأعصابه الناشئة من سقم أو صحة وقوة أو ضعف وحالات معدته ومطاعمه. ولو فكر المرء في اختلاف الحق حسب اختلاف مطالب المرء ونشأته وثقافته وحالات نفسه وجسمه فإنه قد يستطيع مع إدمان الفكر أن يقلل من ضراوته وأكاذيبه وحقده وغيرها من الوسائل التي يناصر بها الحق، على حد قول القائل إن الغاية تبرر الواسطة، فيبرر ضراوته وأكاذيبه وحقده لأنه يستخدم هذه الوسائل في نصرة الحق الذي هو أيضاً وليد أحاسيسه وحالات نفسه وجسمه
واستعراض هذه الأمور العديدة التي تشكل الحق في نظره يسقط حجته في أن الغاية الشريفة تبرر الواسطة الدنيئة إذ أن شرف الغاية معدوم أو إذا كان موجوداً فقلما يكون بقدر ما يشرف الواسطة الدنيئة. بل إن الواسطة الدنيئة تقضي على بقية الشرف في حقه الذي خالط فيه الصدق حاجات نفسه وميولها
والعصبيات تتلف الحق وتمنع المرء من الاحتشاد الذي أراده البحتري عند محاسبة النفس كعصبية المودة أو القرابة أو المصاهرة أو المنفعة المتبادلة أو عصبية الجوار والبلدة الواحدة، وهذه العصبية الأخيرة قلما تكون إلا إذا اختلف أهل البلدة التي استفحلت عصبيتهم عمن حولهم من أهل البلاد الأخرى اختلافاً في الجسم أو النشأة، ولا عيب في تلك العصبيات إذا التزمت جانب الشرف والإنصاف والضرورة القصوى، أما إذا تعدته إلى جانب الإسفاف والجهل والظلم بغير داع ضاع الحق في مطالب تلك العصبيات. وعصبية المصاهرة على ما بها من عيوب قد تكون مصدر قوة لطائفة كبيرة هي قوام الأمة أو شبه قوام، ولكنها إذا دخل فيها من لا يمتاز إلا بقوة الجسم، وارتفع إلى المصاهرة أناس من السفلة وأهل الغباء نشروا عدوى خصالهم الذميمة وآرائهم المخطئة من ذوي الأناقة في الخُلُق والرأي، ومن ذوي الاعتدال في الحكم، فتنقلب المصاهرة متلفة للحق ولأمور الناس
والضراوة في مناصرة مطالب تلك العصبيات التي تسمى حقاً تشتد كلما قلت الثقافة في أمة وزاد الشعور بالنقص في نفوس أبنائها وكثر التهريج والمهرجون الذين يخلقون لأهل الغباء مبادئ سامية من أحط نزعات نفوسهم.
وأحقاد الناس في الحياة ليست عبيد حاجاتهم وضروراتها بقدر ما هي عبيد هواجسهم المهمة التي تحلق في أذهانهم ونفوسهم كما تخلق الخفافيش تحت قبة البناء المظلم
المهجور، وذلك لأن الحاجات والضرورات تنقضي وتحد، ولكن الهواجس لا حد لها ولا انقضاء.
إن الإنسان لا يدهش كثيراً إذا وصف إمامه إنسان بالشر والمكر والسوء، وهو يعرف أنه أبعد الناس عن هذه الصفات قدر ما يدهش إذا كان هو الموصوف بهذه الصفات لأن دهشته في الحالة الثانية تعود على أمر يخصه ويؤلمه، والدهشة الممزوجة بالألم أشد وقعاً في النفس من الدهشة الخالية من الألم، ولأن كل إنسان يعرف من أسباب أقواله وأعماله مالا يعرف عن أسباب أقوال غيره وأعماله، ويعرف من حالات نفسه في تلك الأقوال والأعمال مالا يعرف عن أحوال نفس غيره، فهو بهذه المعرفة يستطيع أن يسوغ أقواله وأعماله، وبذلك الجهل لحالات نفس غيره لا يستطيع إلا إنكار أقوال غيره إن كانت تستدعي الإنكار أو تحتمله، وهذا بالرغم من أن كل إنسان يعرف من هواجس السوء التي تتردد في نفسه أكثر مما يعرف من هواجس السوء في نفس غيره. فإن الإنسان لا يستخدم ميزاناً واحداً فيما بينه وبين الناس؛ فهو مثلاً يكذب كثيراً ويعد كذبه أمراً هيناً فإذا كذب غيره في حقه عده لؤماً ليس بعده لؤم.
كل هذه الحقائق حقيقية بأن تزهد المفكر المتأمل في سعاره أو ضراوته في مناصرة ما يسميه حقاً وأكثره ليس بحق، وهي حقيقة بأن تزهده في رأي من يرى أن الغاية تبرر الواسطة، إذ إن خطأه في قدر الغاية قد يكون عن حسن نية، ولكنه قد يسوقه حسن النية إلى أعمال اللؤم والإجرام في سعار مناصرته للحق المزعوم الذي في تلك الغاية التي أخطأ فيها وعدها نبيلة وهي ليست نبيلة، وحسن نيته في ذلك الخطأ لا يخليه من أثم ولؤم ذلك السعار وتلك الضراوة
أن الذين يُعنون أنفسهم بالبحث عن الحق قليلون ولا سيما البحث عن الحق في أمور حياة الناس التي تتحكم فيها الأهواء والأوهام، وقد يحسب الساذج أن الحق في حياة الناس كالحق في علم الحساب بمقدار معين لا شك فيه ولا تغير، ولكن الساذج إذا اختبر الحياة واستطاع أن يقضي بخبرته على سذاجته علم أن أحوج الناس إلى مظاهر الحق هم أهل الباطل، ومن هذه الحاجة نشأ سعارهم، ولم ينشأ ذلك السعار من شدة الإخلاص للحق بل من شدة شعورهم أنهم على باطل يحتاج إلى مظاهر الحق
عبد الرحمن شكري
جناية أحمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
- 11 -
لا يريد الأستاذ أحمد أمين أن يفهم أن النقد من علائم الصداقة للحقائق وليس من علائم العداوة للأشخاص، ولا يريد أن يفهم أن ما بيننا وبينه من صداقة لا يجب أن يتعرض للزوال بسبب هذه المقالات التي فرضها الضمير والواجب، وكان خليقاً بأن يفهم وحي الضمير والواجب
ولو قد فهم هذه البديهيات لما استباح لنفسه أن يقول:
(كل الصلات بيننا مفقودة، فلا صلة بين الأستاذ وطلبته إلا الدرس، ولا بين الأديب وقرائه ألا صلة القراءة إن كانت، ولا صلة بين الأدباء أنفسهم إلا صلة السباب، فإن لم يكن سباب فرياء. . .)
وهذه الكلمات تدل على أن صديقنا أحمد أمين قد ضاق ذرعاً بدنياه منذ اليوم الذي رأى فيه لأول مرة توضع منزلته الأدبية في الميزان
فالأساتذة عنده قد انقطع ما بينهم وبين تلاميذهم، والكتاب قد انفصم ما بينهم وبين قرائهم، أما الأدباء فيما بينهم فيتعاملون على أساسين اثنين: السباب والرياء
وكذلك يرانا من السبابين، ويرى أصحابه من المرائين!
والأستاذ أحمد أمين متشائم إلى أبعد الحدود. ولو شئت لنبهته إلى خطأ هذا التشاؤم فأكدت له أن الأدباء عندنا أحسن حالاً مما يتوهم، فقد كتب إلى كثير من أصدقائه وتلاميذه يرجونني أن أترفق في النقد، وشهد ناس بأنه كان حسن النية فيما كتب عن الأدب العربي، ولم يكن إلا مجتهداً خانه التوفيق، وللمجتهد أجرُ حين يخطئ وأجران حين يصيب
وقد هممت بالتجاوز عن جناية هذا الصديق على الأدب العربي بقية هذا الصيف في هدوء وأمان، وليجد الفرصة لمناجاة (بحر العرب) وهو يقتعد صخرة المكس، ولكني تذكرت أن هذه المقالات لا تخلو من فوائد أدبية، وتذكرت أنه على كل حال من طلاّب الحقائق، وطالب الحقيقة قد يشرب من أجلها العلقم والصاب
وأرجع إلى حديث اليوم فأقول:
إن الأستاذ أحمد أمين يرى أن ابن خفاجة لم يتذوق الطبيعة وإن اشتهر بوصف الطبيعة
وليس من المستغرَب أن يقف أحمد أمين من ابن خفاجة حيثُ وقف، لا يتذوق الشعر إلا في النادر القليل فكل أديب في الدنيا حدثته نفسه بأن ينظم من الشعر بيتاً أو بيتين، حتى الدكتور طه حسين، فقد كان له في مطلع حياته غرامُ بصوغ القريض، وسنعرض للمجهول من حياته الشعرية بعد حين أما أحمد أمين فلم يفكر يوماً في نظم الشعر
والواقع أن عظماء الكتّاب في جميع البلاد كانت لهم نزعات شعرية، لأن للشعر مزية قوية في تكوين الأسلوب، وهو الذي
يروض الكاتب على خلق الصور والإحساس بالرنين
والكاتب الحق هو الذي يعاني من المكاره ما يعانيه الشاعر، وقد أخطأ أبو هلال حين توهم أن النثر كلام غير منظوم، مع أن أبا هلال كان من أهل البصر بأسرار البيان
مالي ولهذا؟
أنا أريد أن أنصف ابن خفاجة الذي ظلمه الأستاذ أحمد أمين
كان ابن خفاجة يسمّى (اُلجنّان) وهي تسميةُ تشهد لأسلافنا بسلامة الذوق. وكان يسمّى (صنوبريّ الأندلس)
كان ابن خفاجة جَناناً، لأنه قضي دهرا في وصف الرياض والبساتين، وكانت جنته هي الأندلس وقد فضلها على جنة الخُلد، ومن أجل ذلك اتهمه بعض معاصريه بالمروق حين قال:
يا أهل أندلسٍ لله دَرُّكم
…
ماءٌ وظلٌّ وأشجارٌ وانهارُ
ما جنّة الخُلد إلا في دياركُم
…
ولو تخيرت هذى كنت أختارُ
لا تختشوا بعدها أن تدخلوا سقراً
…
فليس تُدخَل بعد الجنة النارُ
والحق أن ابن خفاجة فُتِن بمناظر بلاده أشد الفتون، فكان يترصد الفرص لوصف ما ترى العيون أو تحسُّ القلوب بتلك البلاد
وكان شعره ونثره قيثارة تجود بأعذب الألحان في وصف الأشجار والأزهار والأنهار والسواقي والسحائب والبروق
وقد ظل ابن خفاجة مفتوناً بوصف الطبيعة نحو خمسين سنة فهل يسوغ لإنسان أن يقول
بأنه لم يتذوق الطبيعة في كل ذلك الأمد الطويل وهو يتغنى بها صباحَ مساء؟
وكيف وكان ابن خفاجة مُرهف الإحساس إلى حدّ الخيال؟
إن ابن خفاجة هو الشاعر الذي تفرّد بالحنان إلى الطبيعة في جميع المناحي الشعرية، حتى في قصائد الرثاء، فكيف يجوز القول بأنه وصف الطبيعة بلا وعي ولا إحساس؟
يضاف إلى ذلك أن ابن خفاجة عُرف بين معاصريه بالزهد في مدح الملوك والترفع عن جوائزهم السنيّة، في زمن كان فيه المديح مذهباً لا يغضّ من أقدار الشعراء، ولا يعرّضهم لسفاهة القيل والقال، فاتسع وقته لمناجاة عرائس الشعر في هدوء وصفاء
إن ابن خفاجة صاحب مذهب في الشعر العربي، ومنزلته في وصف الرياض لا تقلّ عن منزلة أبي نواس في الخمريات والشريف الرضي في الحجازيات
ومن الذي ينكر قيمة الشاعر الذي يقول:
لله نهرٌ سال في بطحاءِ
…
أشهى وُروداً من لَمَى الحسناءِ
متعطفٌ مثل السوار كأنه
…
والزهر يكنفه مجرُّ سماءِ
قد رقّ حتى ظُنَّ قرصاً مُفرغا
…
من فضةٍ في بُرودةٍ خضراءِ
وغدتْ تحف به الغصون كأنها
…
هدبٌ تحفّ بمقلةٍ زرقاءِ
ولطالما عاطيتُ فيه مدامة
…
صفراَء تخضب أيديَ الندماءِ
والريح تعبث بالغصون وقد جرى
…
ذهب الأصيل على لُجين الماءِ
وكيف يتهم في وصف الطبيعة من يقول:
حثَّ المدامة والنسيم عليلُ
…
والظل خفَّاقُ الرواق ظليلُ
والنَّور طرفٌ قد تنبه دامعٌ
…
والماء مبتسمٌ يروق صقيلُ
وتطلعتْ من برق كل غمامةٍ
…
في كل أفقٍ رايةٌ ورعيلُ
حتى تهادى كل خوطة أيكةٍ
…
ريّا وغصَّتْ تلعةٌ ومسيلُ
فالروض مهتز المعاطف نعمةً
…
نشوان يعطفه الصبا فيميلُ
ريّان فضّضه الندى ثم انجلى
…
عنه فذهّب صفيحته أصيلُ
وارتد ينظر في نقاب غمامة
…
طرفٌ يمرِّضه النعاس كليلُ
ساجٍ كما يرنو إلى عوَّاده
…
شاكٍ ويلتمح العزيزَ ذليلُ
وهذا شعرٌ يفسده الشرح والتفسير والتحليلُ
وهل تحتاج محاسن هذه الأبيات إلى من يقيم عليها الدليل؟
ومن الذي ينكر فراهة الفتون في الأبيات الآتية:
وأغيد في صدر الندىّ لحسنهِ
…
حلىٌّ وفي صدر القصيد نسيبُ
من الهِيف أما ردفه فمنَّعمٌ
…
خصيبٌ وأما خصره فجديبُ
يرفَّ بروض الحسن من نور وجهه
…
وقامته نُوّارةٌ وقضيبُ
جلالها وقد غنّى الحمام عشيّةً
…
عجوزاً عليها للحَباب مشيبُ
وجاء بها حمراء، أما مزاجُها
…
فماءٌ، وأما ملؤها فلهيبُ
على لجة ترتجُّ، أما حَبَابُها
…
فنوْرٌ، وأما موُجها فكثيبُ
تجافتْ بها عنا الحوادث برهةً
…
وقد ساعدتنا قهوةٌ وحبيبُ
وغازلنا جفنٌ هناك كنرجسٍ
…
ومبتسمٌ للأقحوان شنيبُ
فلله ذيلٌ للتصابي سحبتهُ
…
وعيشٌ بأطرافِ الشباب رطيبُ
أرأيت كيف فَنىَ الشاعر في الطبيعة فجعلها أصل الحسن والفتون؟
أرأيت كيف غَرِق هذا الشاعر في بحار الصباحة والملاحة، وكيف رأى الزهر والماء أصلاً لكل مليح وجميل؟
وما رأى الأستاذ في الأبيات الآتية:
وصقيل إفرند الشباب بطرفهِ
…
سقمٌ وللعضب الحسام ذُبابُ
يمشي الهوينا نخوةً ولربما
…
أَطَرْته طوراً نشوةٌ وشبابُ
شتى المحاسن، للوضاءةِ ريطة
…
أبداً عليه، وللحياء نقابُ
وبمعطفيه للشبيبة منهلٌ
…
قد شف عنه من القميص سرابُ
عَبَر الخليج سباحةً فكأنما
…
أهوى فشقّ به السماء شهابُ
لقد احتللت بشاطئيه يهزني
…
طرباً شباب راقني وشرابُ
وانساب بي نهر يعب وزورق
…
فتحملتني عقرب وحُبابُ
وركبت دجلته يضاحكني بها
…
فرحاً حبيب شاقني وحَبابُ
نجلو من الدنيا عروساً بيننا
…
حسناء ترشف والمدام رُضابُ
ثم ارتحلتُ وللسماء ذؤابةٌ
…
شهباء تخضب والظلام خضابُ
تلوي معاطفي الصبابة والصبا
…
والليل دون الكاشحين حجابُ
حيث استقل الجسر فوق زوارق
…
نسقت كما تتواكب الأحبابُ
فهل فكر صديقنا أحمد أمين في وصف السباحة وقد سبقه إليها ابن خفاجة بنحو تسعة قرون؟
إن الذي عجز عن وصف الطبيعة هو الذي يصطاف بالإسكندرية كل سنة ولم يفتح الله عليه بغير القول بأنه جلس على صخرة المكس ليأكل السمك المياس، وليفكر في مصير الشمس بعد الغروب، وليقول إنه تحاور مع هيان بن بيان!!
يقول أحمد أمين إن أبن خفاجة لم يتذوق الطبيعة، فهل استمع إليه حين يقول:
ربما استضحك الحَباب حبيبٌ
…
نفضت ثوبها عليه المدامُ
كلما مرَّ قاصراً من خُطاه
…
يتهادى كما يمرّ الغمامُ
سلم الغصن والكثيب علينا
…
فعلى الغصن والكثيب سلامُ
وهل أستمع إليه حين يقول:
أبى البرق إلا أن يحن فؤاد
…
ويكحل أجفان المحب سهاد
فبت ولي من قانئ الدمع قهوة
…
تدار، ومن إحدى يدي وساد
تنوح لي الورقاء وهي خلية
…
وينهل دمع المزن وهو جماد
وليلٍ كما مدَّ الغراب جناحه
…
وسال على وجه السجل مداد
به من وميض البرق والليل فحمة
…
شرارٌ ترامى والغمام زناد
سريتُ به أُحييه لا حْية السُّرى
…
تموت ولا ميْتُ الصباح يعاد
يقلب مني العزم إنسان مُقلةٍ
…
لها الأفق جفنٌ والظلام سواد
بخرقٍ لقلب البرق خفقة روعة
…
به ولجفن النجم فيه سهاد
سحيقٌ ولا غير الرياح ركائبٌ
…
هناك ولا غير الغمام مزاد
كأني وأحشاء البلاد تجنني
…
سريرةُ حبّ والظلام فؤاد
ولما تفرَّى من دجى الليل طحلبٌ
…
وأعرض من ماء الصباح ثماد
حننت وقد ناح الحمام صبابةً
…
وشُقَّ من الليل البهيم حداد
على حين شطَّتْ بالحبائب نيَّةٌ
…
وحالتْ فياف بيننا وبلاد
ومن مزايا ابن خفاجة أنه يتمثل الطبيعة في حركة وحياة، فيراها ترضى وتغضب،
وتضحك وتعبس، كأن يقول:
عاط أخلاّءك المداما
…
واستسق للأيكة الغماما
وراقص الغصن وهو رطبٌ
…
يقْطرُ أو طارح الحماما
وقد تهادى بها نسيمٌ
…
حيَّتْ سليمى بها سلاما
فتلك أفنانها نشاوى
…
تشرب أكوابها قياما
وكأن يقول:
ألقي العصا في حيث يعثُر بالحصى
…
نهرٌ وتعبث بالغصون شمالُ
وكأن ما بين الغصون تنازُعٌ
…
فيه وما بين المياه جدالُ
وكأن يقول:
أخذ الربيع عليه كل ثنيةٍ
…
فبكل مرقبةٍ لواءٌ شقيق
فهو في هذه الأشعار يمنح الطبيعة من الحياة والحركة ما يماثل شمائل الأحياء
وأريد أن أقول إن الطبيعة في نفس ابن خفاجة لها عزيمة وإرادة وقدرة وعبقرية، فهي تصنع ما تصنع عن نظرٍ ثاقب وقلبٍ مشبوب، هي نفس حساسة، تشعر وتُدرك، وتُفيض البؤس والنعيم على الأحياء بإرادة وعزم وإحساس
وقد وقع في كلام الشعراء ما يشابه هذه المعاني، ولكن ابن خفاجة أكثر منها إكثاراً مّيزه بالتفوق والتفرد، فهو أوحد الناس في بابه بلا جدال
وكان ابن خفاجة يُقسم بما في الطبيعة من أنهار ورياض وأزهار وأنداء ومباسم وعيون، فيقول:
أَما والتفات الروض من أزرق النهر
…
وإشراق جيد الغصن في حِلْية الدهر
وقد نَسَمتْ ريح النعامى فتنبَّهتْ
…
عيون الندامى تحت ريحانة الفجر
وهي قصيدة طويلة امتزجت فيها نفس الشاعر بأسرار الطبيعة أشدَّ امتزاج
والطبيعة تواجه ابن خفاجة حيثما تلفَّت، فهو يراها في كل مكان، وانظر كيف يقول:
يا رُبَّ ليلٍ بِتُّهُ
…
وكأنه من وَحفِ شَعرك
تنهلُّ مزنة دمعتي
…
فيه ويندَى نور ذكركْ
أتبعتُ فيه وقد بك
…
يت عقيق خدك دُرَّ ثغرك
وشرِقتُ فيك بعبرةٍ
…
قد ورَّدتها نار هجرك
فكأنما ينفضّ عن
…
حَبَبٍ لها رمان صدرك
ولَرُبَّ ليل قد صد
…
عْت ظلامه بجبين بدرك
ولهوتُ فيه بدُرَّةٍ
…
مكنونةٍ في حُقِّ خِدرك
تَنْدى شقائق وجنت
…
يك به وتَنْفَحُ ريح نَشرك
وقد استدار بصفحتْي
…
سوسانِ جيدك طَلَّ درَّك
حيث الحبابة دمعةٌ
…
تجري بوجنة كأس خمرك
وتهزُّ منك فتنثني
…
بقضيب قدِّك ريح سكرك
وهو في هذه القصيدة يخلع محاسن الطبيعة على الملاح، وقد يخلع محاسن الملاح على الطبيعة فيقول:
وكمامة حدر الصباح قناعها
…
عن صفحة تندى من الأزهار
في أبطحٍ رضعت ثغور أقاحهِ
…
أخلاف كل غمامةٍ مدرارِ
نثرتْ بحجر الأرض فيه يد الصَّبا
…
دُرر الندى ودراهم النُّوار
وقد ارتدى غصن النقا وتقلدت
…
حَلْىَ السحاب سوالف الأنهار
فحللت حيث الماء صفحة ضاحك
…
جَذِل وحيث الشط بدء عذار
والريح تَنفُض بكرة لِممَ الرُّبا
…
والطَلُّ ينضحُ أوجه الأشجار
وأراكةٍ سجع الهديل بفرعها
…
والصبحُ يسفر عن جبين نهار
هزَّت له أعطافها ولربما=خلعتْ عليه مُلاءة الأنوار
وهذا واللُّه أنفس ما قيل في اتصال الأحاسيس بغرائب الوجود وأشعار ابن خفاجه تشهد بأنه كان يحتفل بالمعاني كل الاحتفال وكان يرى شعره نفحة من نفحات الجمال، كأنْ يقول:
تعلقته نشوان من خمر ريقهِ=له رشفها دوني ولي دونه السكر
نرقرق ماء ووجهه
…
ويُذْكى على قلبي ووجنته الجمر
وطبنا معاً شعراً وثغراً كأنما
…
له منطقي ثغر، ولي ثغره شِعر
وقد توجُّع ابن خفاجة لضياع الشباب أشد التوجع ورأى في ملاحة الطبيعة عزاء عما ضاع من سماحة الملاح، فقال:
وكل امرئ طاشت به غرة الصِّبا
…
إذا ما تحلى بالمشيب تحلَّما
فها أنا ألقي كل ليل بليلَةٍ
…
من الهم يستجري من الدمع أنجما
وأركب أرداف الرُّبا متأسفاً
…
فأنشق أنفاس الصبا متنسِّما
وأرشف نثر الطل من كل وردةٍ
…
مكان بياض الثغر من حوَّة اللًّمى
وهو بهذه الأبيات يجعل الجمال الإنساني أجمل ما في الطبيعة من ألوان، وهي نظرة سليمة لا ينكرها غير الذين يرون الشجرة والزهرة أصلاً لكل جَمال
وكان ابن خفاجة في أيام توجعه على صباه يتمنى لو يعرف مصير النفس بعد الموت، كأن يقول في رثاء بعض الأصدقاء:
كنا اصطحبنا والتشاكلُ نسبةٌ
…
حتى كأنا عاتقٌ ونجادُ
ثم افترقنا لا لعودة صحبة
…
حتى كأنا شعلة وزناد
يا أيها النائي ولست بمسمع
…
سَكَن القبور وبيننا أسداد
ما تفعل النفس النفيسة عندما
…
تتهاجر الأرواح والأجساد
كُشِف الغطاء إليك عن سر الردى
…
فأجبْ بما تندى به الأكباد
وهي لفتةُ فلسفية لاذ بها شاعرنا شوقي في أكثر قصائد الرثاء
أما بعد فقد كنا نحب أن نذكر شواهد من نثر ابن خفاجة تمثَل هُيامه بالطبيعة والوجود، ولكنا رأينا الدكتور ضيف سبقنا إلى ذلك في كتابه (بلاغة العرب في الأندلس) ونحن نبغض الحديث المعاد
وما الذي يوجب أن نلحّ في شرح مذهب ابن خفاجة وهو معروف لجميع الناس؟ لقد أردنا أن ننتهز الفرصة فنمتع أنفسنا بالنظر في ديوان ابن خفاجة من جديد، ونذكر به الشبان الذين شغلتهم عنه ملاهي العصر الحديث
ويدعوني الواجب في ختام هذا المقال إلى الثناء على أديبين فاضلين يهتمان بديوان ابن خفاجة ويعدان له دراسة أدبية تحفظ مكانه في التاريخ. أما الأديب الأول فهو عزيز عبد
السلام فهمي. وأما الأديب الثاني فهو جاسم محمد الرجب؛ وأولهما صديق عرفته بكلية الآداب في القاهرة، وثانيهما صديق عرفته بدار المعلمين في بغداد
فمتى تظهر جهود هذين الأديبين في إحياء ذلك الديوان؟
لقد ظهر ديوان ابن خفاجة بالقاهرة منذ اثنتين وسبعين سنة، فكيف جاز ألا يطبع مرة ثانية بعد ذلك الأمد الطويل العريض؟
إن اللغة العربية لغة حية وقراؤها يشارفون المائة مليون، فكيف زهدت تلك الملايين في ذلك الشعر النفيس؟!
إن ديوان ابن خفاجة وصل إلى أقصى بقاع الشرق الإسلامي قبل ظهور المطابع، فكيف يحجب اليوم بعد الانتفاع بالمطبعة السريعة والبريد المضمون؟
ومن أعجب العجب أن يتولى تزهيد العرب في آثار أسلافهم رجل تعرفه كلية الآداب التي توجب على أبنائها أن يتعرفوا إلى آثار القدماء من الرومان واليونان!
ولكن صبراً فستهتدي كلية الآداب بعد حين، وسترجع إلى سيرتها الماضية يوم كانت مثابة القلوب والعقول.
(للحديث شجون)
زكي مبارك
دمشقيات
من (الجادة الخامسة)!
للأستاذ علي الطنطاوي
آمنت بالله واستثنيت جنته
…
(دمشق) روح وجنات وريحان
اللهم، إن كنت كتبت لي (برحمتك) الجنة، فاجعل جنتي في الآخرة على مثال (دمشق)، واجعل قصري فيها في (الجادة الخامسة)!. . .
ولكن كيف لي بتصوير (الجادة الخامسة) لقراء (الرسالة) وهم منتشرون في أقطار الأرض كلها؟. . . وكيف لي بإقناعهم، ولكل منهم بلده، وكلّ ببلده فخور!. . . إن الشام درّة تاج الكون، وإنها بيت القصيد في (معلّقة) الوجود، وإنها اللذة الكبرى مجسمة، وإنها العاطفة السامية، والحب مصوّراً هضاباً وصخوراً ومروجاً وبساتين. . . وإن (الجادة الخامسة) درة دمشق، وبيت قصيدها، وإن الذي تشرف عليه منظر أقلْ ما يقوله الصادق فيه وأبعده عن المبالغة وألصقه بالحق الصراح أنه أجمل منظر على ظهر الأرض، وأن الله حين وزع الجمال على البقاع. . . فخص كل واحد منها - بنوع واحد منه - جمعه كله لدمشق، ووضع أفضل مجموعة منه في (الجادة الخامسة)!
ولقد كنت في البادية منذ أسبوع آيباً إلى دمشق، أحدق في الأفق علّي أرى خيال دمشق: بلد الحب، بلد اللطف، بلد الكرم، بلد الجمال. . . فلا أرى إلا الصحراء بوجهها الكالح الكئيب الصامت الرهيب، فأفرُ من مرآها وأغمض عنها عيني، أحاول أن أختلس من الزمان إغفاءة، فأقطع هذا الطريق المضني على مطية الكرى. . . فلا أرى في منامي إلا طيف دمشق البلد الحبيب، ولا أكاد أستمتع به حتى تقصيه عني سيارة (نيرن) بهديرها الذي يطرد الأحلام، ودويَّها الذي يطيَّر شياطين الشعر، وثقلها ورزانتها التي تشبه أحلام قوم الفرزدق. . . ولبثت على ذلك حتى جاوزنا (الضمير)، واستقبلنا دمشق من طريق حمص، وكنت في شبه غفوة. . . فما أحسست إلا إخواناً لنا من أهل بغداد كانوا معنا في السيارة ينبهونني ليسألوني. فانتبهت، فإذا أنا أرى حولي طلائع الخضرة تمتد إلى السفوح البعيدة. فقالوا: أهذه هي (الغوطة)؟ فضحكت وقلت: هذه سهول لها نظير في كل أرض. . . فكيف تكون هي الغوطة التي ليس لها في الأرض نظير؟ انتظروا تروا. . . وسرنا خلال
السهول ننعم فيها النظر فنرى من جمالها كل لحظة ما لم نكن رأينا. . . حتى بدت أوائل الكروم، كروم (دوما). . . منذا الذي لم يسمع بها؟ تلك التي طارت شهرتها في الآفاق، فأسكرت بمشهدها العشاق وذوي الأذواق، كما أسكرت برحيقها من كان من أهل الرحيق. فقالوا: هذه هي الغوطة؟ قلت: لا. بل هذه كرومها، فانتظروا الغوطة التي فتنت أجدادكم من قبلكم، وفتنت من قبلهم الروم والفرس، وتفتن كل ذي لبَّ إلى يوم القيامة!. . . وسرنا خلال (الكروم)، وهي تمتد عن أيماننا إلى حيث لا يبلغ البصر، و (المناطر)، قائمة على العيدان الرفيعة، منثورة في الأرض، ضاربة في السماء، لا يحصيها العدَّ، كأنها أعشاش العاشقين، أو منارات يؤذن فيها دعاة الغرام، تبعث في النفس ذكريات الحب الدفين (وفي نفس كل إنسان منه ذكريات)، فتعيد الحب حياً. وسرنا خلالها حتى بلغنا (الغوطة)، فسلكنا جانباً منها يحاذي دوما وحرستا. فقلت: هذه هي الغوطة! وسكت فلم أعرفها لهم، ولم أقرظها، بل تركتها تقرظ نفسها. . . ففعلتْ وأربتْ على ما كان في الخيال منها؛ فذهب الإعجاب بالقوم كل مذهب، ونال من نفوسهم كل منال، فسكت اللسان، ونطق القلب، وقالت العينان، وشحّت اللغة، فما تبضّ إلا بقطرة ما فيها ري ولا بلل. . . وهل في اللغة إلا أن تقول: جميل ولطيف ومدهش وعظيم؟ أو ليس الجمال مائة ألف نوع؟ أو ليس للدهشة مثلها من الأسباب؟ فأين الكلمتان الجامدتان من هذا العالم الحيّ؟ إننا معشر البشر ما تعلمنا النطق إلى اليوم
وبلغنا دمشق، فقلت للقوم: إن في سفر الطبيعة صفحات مختلفات، في كل بلد صفحة منها. فسهل وجبل وواد وصحراء وبحر ونهر. . . فتعالوا أشرف بكم على صفحة فيها كل الصفحات. تعالوا أطلعكم على دمشق، وقد رأيتم منها سهلها وغوطتها، لتروا جبلها وصحراءها وواديها!. . . فأبوا عليّ، وجنحوا إلى الهرب، وتعللوا بالتعب، وأصررت وأبيت. . . فرأيتهم لانوا كارهين، فاغتنمت لينهم، ولم أبال كراهيتهم، لعلمي أن ما سيرون سيقع منهم موقع الرضا وفوق الرضا. . . وأخذنا سيارة من المرأب (الكاراج) الذي استودعناه حقائبنا، إلى (الدار) التي استأجرها لنا أخي. . . في (الجادة الخامسة). فما انعطفت بنا السيارة نحو (طريق الصالحية)، وشاهد أصحابنا البيوت ترتقي في الجبل، وهو يجلسها في حجره، ويحوطها بذراعيه، وينحني عليها برأسه الهائل المتوج بالصخر،
حتى تبدَّل سخطهم رضا، وطفقوا يسألون!. . . فقلت: أما الذي إلى اليمين، حيث البيوت الواطية المتلاصقة، والمآذن الكثيرة السامقة، والقباب، فحيّا الأكراد والصالحية؛ وقد أنشأ حي الصالحية الجد الأعلى لآل قدامة، أو آل المقدسي حين نزح إلى دمشق منذ ثمانية قرون فراراً من فلسطين وما حاق بها يومئذ من المحنة. فأحيا الله به وبأسرته العلم في تلك الديار، ونشروا فيها المذهب الحنبلي، وظهر من أسرته علماء فحول كالضياء المقدسي ويوسف بن عبد الهادي قريع السيوطي وشبيهه في سعة علمه وكثرة تصانيفه. . . ولكن الله قدر للسوطي من نشر علمه، وطوى علم يوسف في سجلات دار الكتب الظاهرية. . . ولا تزال آثار هذه النهضة العلمية العظيمة ظاهرة في المدارس الكثيرة القائمة في السفح وبين البساتين. . . ثم تتالى بناء المدارس في الصالحية، حتى أن شارعاً يدعى الآن: شارع (بين المدارس) في الشركسية يحوي أكثر من عشرين مدرسة باقية قبابها وأبوابها، فضلاً عما اندثر منها. وآخر هذه المدارس وأعظمها المدرسة العمرية، أنشأها الشيخ أحمد بن قدامة المقدسي - في منتصف القرن السادس الهجري - ونمت حتى صارت (جامعة)، ودعيت بالمدرسة الشيخة؛ ثم تضاءلت حتى رجعت اليوم خراباً كأكثر مدارس الشام، واختلس الجيران ما قدروا عليه من ساحاتها وأبهائها، فأدخلوها بيوتهم. . . وأما الذي إلى اليسار فحيّ المهاجرين، وقد كان قبل ثلاثين سنة جبلاً أجرد، فأسكن فيه ناظم باشا (المهاجرين) من (كريت) بعد عدوان اليونان عليها، وبنى لهم أكواخاً صغيرة؛ ثم حال الحال فصارت قصوراً للأغنياء، غير أنها لا تزال بقية من تلك الأكواخ خلال القصور، ولا تزال قطع جرداء من الجبل أو صخور ماثلة بين الدور. . .
وذهبت السيارة ترتقي في الطريق الصاعد إلى (المهاجرين)، وكلما علونا فيه شيئاً، بدت لنا من دمشق والغوطة أشياء، حتى إذا بلغنا نهاية الطريق الذي يمشي عليه (الترام) انكشف لنا أعظم منظر تقع عليه عيني: من ورائنا الجبل الفتان (قاسيون)، وهو في الجبال كالفتى الغرانق في الرجال، قوي ولكنه وديع، وحلو ولكنه عظيم؛ وعن أيماننا جبل المزة ووادي الربوة، ذاك الذي يجري فيه بردى في السبعة الأنهار: يزيد وتورا وبردى وبانياس وقنوات وعقربا والديراني؛ تتسلسل كأنها أطواق اللؤلؤ على أحلى جيد، تمتد من صلب هذا الجبل حيث يجري (يزيد) إلى سفحه، حيث يمشي (تورا) من تحته، إلى أسفل الوادي، إلى
سفح الجبل الآخر، إلى صلبه؛ والأشجار على ضفاف الأنهار كلها، والشلالات تنحدر من الأعلى إلى الأدنى تتكسر على الصخور، وتنحط، تخالطها أشعة الشمس فيكون لها بريق ولمعان كلمعان الماس، وأين منها لمعان الماس؟. . . وعن شمائلنا الفضاء الرحب، تملؤه الغوطة كبحر ما له آخر، أمواجه خضر. . . وتقوم في وسطه دمشق، دمشق الجميلة، دمشق القديمة، دمشق الخالدة! والجامع الأموي في وسط البيوت تظلله قبة النسر، كأنه رجل طوال واقف بين صبية صغار؛ ومن الدور التي شبهناها بالصبية ما فيه سبع طبقات، ولكنه الأموي معجزة البناء الإسلامي. . . ومناراته الثلاث الهائلة. . . يا لدمشق ومناراتها السبعين والمائة، وغوطتها وبرداها!. . .
قلت: هل بقى من الطبيعة لون لم تحوه دمشق؟ هذا الجبل، وهذا الوادي، وهذه السهول، وهذه البساتين، والصحراء صحراء المزة. . . وأنت تجوز بهذا كله ماشياً على قدميك في نصف ساعة. . . وهنالك البحيرة تبدو لكم من وراء الغوطة. فهل بقى من الطبيعة لون لم تحوه دمشق؟
قالوا: لا والله، إلا أن يكون البحر، وهذا بحر من الخضرة شهدنا أنه لا إله إلا الله، وأن دمشق أجمل بلاد الله!
قلت: شهدتم وأنتم في (الجادة الأولى) فكيف إذا صعدتم إلى (الجادة الخامسة)؟
وبعد. . . فيا أسفي على أيامي التي قضيتها ساكناً في (البلد) ويا عجبا من قوم عندهم (حيّ المهاجرين) ويقطنون في غيره، وعندهم قاسيون ونيامون (تحت) في السهل! وكيف يؤم الناس المصايف، ويذهبون إلى بلودان ولبنان، وهنا (الجادة الخامسة) لو حلف رجل بأوثق الأيمان على أنها أجمل من لبنان، وأعذب ماء، وأطرى هواء، لما أثم ولا حنث؟
اللهم عفوك! فإني والله لا أستحق هذه النعمة، وما لي على أداء شكرها طاقة!
ينظر ساكن البلد فلا يرى حوله إلا قليلاً مما يُرى. فيحس أنه في دنيا صغيرة تافهة، فإذا قطن (الجادة الخامسة) تكشفت له الدنيا، وتعرت، فرآها في زينتها وفتنتها، فأحسّ انه مع رفيق يؤنسه وحبيب يسليه، حبيب تراه في الصباح كغادة جميلة في جمالها طهر، وفي عينها صفاء، توحي إليك التأمل، وتسمو بك فوق الشهوات، وتراه في ضوء القمر كآنسة مغرية فتانة تهيّج في نفسك الحب، وتشعل في أعصابك النار؛ وتسمع من الجادة الخامسة:
كلمة الخلود في دنيا الفناء، تتجاوب بها مآذن الحيّ، وتبصر المنارات تضيء في الليل من كل جانب فيسمو بك النداء حتى تحسّ أن هذه (الدنيا) قد سمت كلها، حتى صارت هي (العليا). . .
فما أعظم (الأذان) عند من يسمعه من (الجادة الخامسة)!
ينادى في الفجر الساكن الخاشع، لا يشغلكم سكونه وسحره عن عبادة الله والاتصال به!. . . وينادي في النهار الكادح العامل لا تصرفكم الدنيا عن صلاتكم ودعائكم!. . . وينادي والشمس تغيب من أعالي الجبل فيدرك ذروته المساء والبلد والغوطة سابحة في نور الشمس، وينادي حينما يعم الدنيا سحر الغروب، وينادي حين يبدأ الليل، وتستعد الفضيلة للنوم، وتتهيأ الرذيلة للسهر!. . .
في (الجادة الخامسة) يشعر الإنسان أنه يندمج بهذا الكون فيأنس به، ويطمئن إليه؛ ثم إذا هبط إلى البلد فكر فيه واشتاق إليه!. . .
كل شيء في (الجادة الخامسة) ساكن حالم، أما (البلد) فكل ما فيه مضطرب متوثب. . . هنا الشعر والتأمل؛ وهناك. . . هنالك تحت هذه السقوف التي تظهر خاشعة في ضباب الصباح، ووهج الظهيرة، وظلمة الليل. . . خلاف وتنازع على الرياسة، وانقسام وفشل. . . هنالك هبطت قيم الأخلاق وأمحى الإيثار، فالأخوان يصطرعان، والعدو - عدوهما معاً - واقف يصفق لهما ليهيجهما، لتخور قواهما ويسقطا من الإعياء، فيقبل ليفعل بهما ما يشاء. . . هنالك التاجر المفلس من أقطاب السياسة، والتلميذ الراسب من أقطاب السياسة، والعامل المطرود من أقطاب السياسة، وكل الناس من أقطاب السياسة وزعماء البلد. . . لم يبق تلميذ لدرسه، ولا تاجر لدكانه، ولا محام لمكتبه، ولا طبيب لعيادته، ولا رجل لما خلق له، لكنهم جميعاً للخلاف والتنازع، كل حزب يهدم الأحزاب فتنهدم جميعاً، ويبني العدو ما يبتغي. . . أرى هذا كله من (الجادة الخامسة) فأتألم ولكن لا أتكلم، لم يبق لمثلي مجال للكلام. . .
أرى هذا فأذكر بغداد، وما خلفت في بغداد. . . خلفت فيها النظام والاتحاد والطلاب الذين جعلهم نظام الفتوة جنداً، ونحن المدرسين الذين صرنا ضباطاً لهم شارات الضباط وحياتهم وقانونهم
خلفت الاستقلال الذي لا تشوبه شائبة، والشعب المتوثب، والجيش القوي، والاستعداد لنصرة كل قطر عربي. . .
أشهدوا أني أحب بغداد. . . أني أحبها، ولكن دون حبي دمشق. . .
أحب بغداد وأفخر بها، وأحب دمشق حبًّا أكبر آسي عليها، وأرجو لها مثل ما أعطيت بغداد على أن تتم لبغداد نعمتها
اللهم! إن تحت كل شجرة من أشجار الغوطة جثة شهيد مات دفاعاً عن هذه الأرض الطاهرة التي سقيت بالدم؛ ثم إنها لم تخلص لأهلها، ولم تنج من الغاصب الدخيل. . . اللهم كما جعلت دمشق درة الكون، ومنحتها ما لم تمنح بلداً، أكمل عليها نعمتك وهب لها الحرية والمجد، فالحرية والمجد أجمل من كل شيء!
اللهم! متى أطلّ من شرفة داري في (الجادة الخامسة). فأقول:
الحمد لله! كل هذا الجمال لنا، هذه ديارنا لنا، وهذه أمتنا متحدة ناهضة، تمشي في طريق العلاء. . .
متى يا ربّ. . . متى؟!. . .
علي الطنطاوي
خليل مردم بك
وكتابه في الشاعر الفرزدق
لأستاذ جليل
فخر الفرزدق
مدح الفرزدق (والفرزدق سمح بألقاب المدح وصفات التقريظ ولكنه حاذق يمدح الرجل بما يليق أن يمدح به، وينظر إلى خصائصه فيضفي عليها ثوباً من المبالغة)
(ومدح الفرزدق لخلفاء بني أمية فيه براعة ومقدرة يظهر عليها الطابع السياسي جلياً واضحاً أكثر من كل ما مدحهم به الشعراء حتى أخص أنصارهم كالأخطل وجرير وعديّ بن الرِّقاع فهو داعية لهم ولسياستهم، يجاهر بأنهم أجدر العرب بالملك، وأن الله اختارهم لخلافته)
وقد روى الأستاذ طائفة صالحة من أقواله المدحية منها قوله:
وجدنا بني مروان أوتاد ديننا
…
كما الأرض أوتاد عليها جبالها
وقوله في يزيد بن عبد الملك:
وما وجد الإسلام بعد محمد
…
وأصحابه للدين مثلك راعيا
ضربت بسيف كان لاقي محمد
…
به أهل بدر عاقدين النواصيا
وقوله فيه، وقد عدا الفرزدق طوره في البيت الأول وكفر أو كاد:
لو لم يبشِّر به عيسى وبينَّه
…
كنت النبي الذي يدعو إلى النور
فأنت إذ لم تكن إياه صاحب
…
مع الشهيدين والصديق في السور
في غرف الجنة العليا التي جعلت
…
لهم هناك بسعي كان مشكور
فلن تزال لكم والله أثبتها
…
فيكم إلى نفخة الرحمن في الصور
أبا فراس! (لم يلبثوا إلا عشيَّةً أو ضحاها)
من يأمن الدهرَ مُمساه ومصبَحه
…
في كل يوم له من معشر جزرُ
بعد ابن مروان أودي بعد مقدرة
…
دانت لهيبتها الأمصار والكوَر
ثم الوليد فسل عنه منازله
…
بالشام والشام معسول له خِضر
تجبى إليه بلاد الله قاطبة
…
أخلافُها ثرَّة لأمره دِرَر
وفي سليمان آيات وموعظة
…
وفي هشام لأهل العقل معتبر
واذكر أبا خالد ولى بمهجته
…
ريب المنون وولى قبله عمر
وفي الوليد أبي العباس موعظة
…
لكل من ينفع التجريب والفكر
دانت له الأرض طراً وهي داخرة
…
لا يدفع الذل من أقطارها قطر
بينا له الملك ما في صفوة كدر
…
إذ عاد رنقا وفيه الشوب والكدر
كانوا ملوكا يجرون الجيوش بما
…
يقل في جانبيه الشوك والشجر
فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم
…
قفراً سوى الذكر والآثار إن ذكروا
ويظن بعضهم أن لو استمر ملك القوم قرناً آخر لتعربت الدنيا، وأحال أهلها
يقول الأستاذ في باب البحث عن شعر الفرزدق: (وإذا أردت أن تقف على الأسلوب العربي الصريح بجزالته وفخامته فاسمع قوله:
أحلَّ هُزيم يوم بابل بالقنا
…
نذور نساء من تميم فحلت
فأصبحن لا يشرين نفساً بنفسه
…
من الناس إن عنه المنية زلت
يكون أمام الخيل أول طاعن
…
ويضرب أخراها إذا هي ولت
عشية لا يدري يزيد أينتحي
…
على السيف أم يعطي يداً حين شلَّت
وأصبح كالشقراء تنحر إن مضت
…
وتضرب ساقاها إذا ما تولت
لعمري لقد جّلى هزيم بسيفه
…
وجوها علتها غبرة فتجلت
وقائلة كيف القتال ولو رأت
…
هزيماً لدارت عينها واسمدرت
وماكر إلا أول طاعن
…
ولا عاينته الخيل إلا اشمأزت
ويزيد المذكور في هذا الشعر هو ابن المهلب، وكان خلع يزيد بن عبد الملك ورام الخلافة لنفسه، وقال له مشعبذون إنه سيلي الأمر ويهدم دمشق. . .
يخبرك الكهان أنك ناقض
…
دمشق التي كانت إذا الحرب حرّت
ولما واقعه جيش مسلمة في العقر عقر بابل ضرب هريم ابن أبي طحمة المجاشعي يد يزيد فقطعها، وقتله القحل بن عياش وضرب يزيد القحل فماتا جميعاً. قال الطبري: (انفرج الفريقان عن يزيد قتيلاً، وعن القحل بآخر رمق، فأومأ إلى أصحابه يريهم مكان يزيد يقول
لهم أنا قتلته ويومئ إلى نفسه أنه هو قتلني)
وفي هذه الوقعة يقول الفرزدق:
كيف ترى بطشة الله التي بطشت
…
بابن المهلب إن الله ذو نقم
كم فرج الله عنا كرب مظلمة
…
بسيف مسلمة الضراب للبُهَم
ولما ثار يزيد كان الحسن البصري يثبط الناس عنه، قال يوماً في مجلسه: يا عجبا لفاسق من الفاسقين، ومارق من المارقين غبر برهة من دهره ينتهك لله في هؤلاء القوم كل حرمة، ويركب لهم كل معصية، ويأكل ما أكلوا، ويقتل من قتلوا حتى إذا منعوه لماظة كان يتلمظها قال: أنا لله غضبان فاغضبوا، ونصب قصباً عليها خرق وتبعه رِجرجة رعاع هباء ما لهم أفئدة، وقال أدعوكم إلى سنة عمر بن عبد العزيز. فبلغ ذلك يزيد، فأتى الحسن هو وبعض بني عمه إلى حلقته في المسجد متنكرين فسلموا عليه ثم خلوا به، وصار الناس ينظرون إليهم فلاحاه يزيد، فدخل في ملاحاتهما ابن عم يزيد فقال له الحسن: فما أنت وذاك يا ابن اللخناء، فاخترط سيفه ليضربه به فقال يزيد: ما تصنع؟ قال: أقتله، فقال له يزيد: أغمد سيفك فوالله لو فعلت لانقلب من معنا علينا
يقول الأستاذ: (ومدح الفرزدق في جملته من أبواب شعره الجيدة، ومن أحسنه قوله:
إني أرى يزيد عند شبابه
…
لبس التقى ومهابة الجبارِ
وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم
…
خضع الرقاب نواكس الأبصارِ
وروى له من هذا الجيد غير ذلك
رثي الفرزدق و (رثاء الفرزدق قليل، وهو إذا قيس ببقية أبواب شعره يقع مقصراً، وما قاله عن اضطرار أو عن خوف ينم على قوة ومقدرة كرثائه للحجاج وأخيه وابنه)
يقول في الحجاج:
ليبك على الحجاج من كان باكياً
…
على الدين أو شارٍ على الثغر واقفِ
وأيتامُ سوداء الذراعين لم يدع
…
له الدهر مالاً بالسنين الجوالف!
ومهمِلة لما أتاها نعيه
…
أراحت عليها مهمَلات التنائف
فقالت لعبديها: أريحا فعقّلا
…
فقد مات راعي ذودنا بالطرائف!
ومات الذي على الناس دينهم
…
ويضرب بالهنديَّ رأس المخالف!
يقولون لما أن أتاهم نعيه
…
وهم من وراء النهر جيشُ الروادف
شقينا وماتت قوة الجيش والذي
…
به تربط الأحشاء عند المخاوف!
له أشرقت أرض العراق لنوره
…
وأومن إلا ذنبه كل خائف
ومقصدات الفرزدق ومقطعاته في هذا الباب تخبر بأنه يجيد حين يريد. ومن صالح رثائه أبياته في بشر بن مروان، وختامها:
وكنا ببشر قد أمنّا عدونا
…
من الخوف واستغنى الفقير عن الفقرِ
وقد ذكر فيها أنه عقر فرسه على قبره، وقال غير أبي عبيدة: ادعى أنه عقر فرسه ولم يعقره. . .
يقول الأستاذ: (يدل على تخلفه في هذا الباب أنه لما ماتت النوار لم يفتح عليه بما يصح أن يناح به عليها. . .) وقال بشار: (كانت لجرير ضروب من الشعر لا يحسنها الفرزدق، ولقد ماتت النوار فقاموا ينوحون عليها بشعر جرير)
وقول الأستاذ المردمي فيه شيء من الحق، وقول بشار معه البُطل. وإذا كان الفرزدق لم يمل عليه شيطانه شيئاً حين هلكت مطلقته النوار التي أشقى صلاحُها طلاحَه الدهر الأطول. . . فهل يدل ذلك على أن لجرير ضروبا من الشعر لا يحسنها الفرزدق؟ وهل الشعر رثاء وبكاء؟ على أنا إذا جمعنا مراثي الخبيثين - ولجرير اثنتان وعشرون قصيدة ومقطعة، وللفرزدق خمسة وعشرون قصيدة ومقطعة - ووازنا بينها موازنة المقسطين، لم نر جريراً شأى صاحبه إلا برقته في مراثيه لا ببراعة معانيه، والأمر يؤول إلى لين العريكة وقساوة الخليقة. ثم إنه من قلة الإنصاف ألا ترى الرثاء إلا في أن يذكر الشاعر وجوهاً خمشت، وخدوداً لطمت، وشعوراً نفشت، وجيوباً شقت، ودموعاً همرت، والتياعاً وارتماصّاً وأنيناً. . .
إن للشعراء في الرثاء والهجاء والثناء لمجالاً في المقال، وإن البارعين هم المجتهدون المتفننون لا المقلدون المبقبقون. . .
يقول الأستاذ: (على أن له في الرثاء بعض بنيه شعراً يدل على أن الشجي خالط نفسه، والآن عاطفته فنفث حرقة صادقة تشجي السامع كقوله:
بني أصابهم قدر المنايا
…
فهل منهن من أحد مجيري!
ولو كانوا بني جبل فماتوا
…
لأصبح وهو مختشع الصخورِ!
إذا حنت نوار تهيج مني
…
حرارة مثل ملتهْب السعيرِ!
حنين الوالهين إذا ذكرنا
…
فؤادينا اللذين مع القبورِ!
وروى الأستاذ للفرزدق في وكيع بن أبي سود العداني:
فلو أن ميتاً لا يموت لعزه
…
على قومه ما مات صاحب ذا القبرِ
ودفن ابناً له فالتفت إلى الناس فقال:
ما نحن إلا مثلهم غير أننا
…
أقمنا قليلاً بعدهم وتقدموا
(يتبع - الإسكندرية)
* * *
قواعد النقد الأدبي في العربية
للأستاذ محمد ناجي
أتى على العصور الأدبية في اللغة العربية أزمان قويت فيها الروح المعنوية فسالت كما يسيل الماء الصافي، فلم تكترث للّفظ، وغطّتِ الفكرة على كل شيء فكانت قوية قاهرة وهّاجةً تعنو لها الجباه ويقدرها النقاد، وأتى على اللغة العربية حين آخر خبا فيه بصيص هذه الأفكار، فعمد الكتاب إلى المساحيق والطلاء ليخفوا ضعف أفكارهم بالمحسّنات اللفظية غير الطبعية. ومع أننا في النقد الحديث نحبّذ كلّ التحبيذ الفكرة القوية الساطعة التي هي نوع من الإلهام يتصل بالخلد، ولا يتقيد بزمان ولا بمكان، إننا - مع ذلك - نقدّر كل التقدير القالب الذي تتجّلى فيه الفكرة، إذ أن من توافقهما يخرج الأسلوب الحسن المناسب، ونعرف الأسلوب بأنهُ حسن تأدية اللفظ للفكرة التي يحتويها، وكلما كان الأسلوب محسناً في تأدية هذه الفكرة صمد لمعاول النقد الأدبي
وهنالك عناصر كثيرة تكوّن ذاك الأسلوب وتطبعه بطابع خاص، فهناك شخصية الكاتب تفيض في أسلوبه، وهناك (ملامح) تلك الشخصية تتجلى في استعمال ألفاظٍ خاصة نتوقعها كما نتوقع الدقة الموسيقية دليل الانسجام الموسيقي. ومن يقرأ أسلوب الكاتب الإنجليزي د كنز يصادف ذلك النوع من خفة الروح تداعبنا من خلال ألفاظه ونكاد ننتظرها قبل أن يقولها، فهي تميز أسلوبه تمييزاً تاماً عما عداه
هناك إذن عوامل شتى تتجمع فيما نسميه الأسلوب وتتألف من شخصيه الكاتب ومن بيئته، ومن الأفكار المتعارفة في وقته، ومن مجرى الحوادث السياسية والاجتماعية. لكن ما هي القواعد الأدبية والأقيسة التي يمكن أن نحكم بها الأسلوب كما عرفناه؟
لا شك أن لكل قطعة حسنة الأسلوب جيدة التعبير عن المعنى الكائن خلفها، روحاً خاصاً قد نفهمه؛ وقد لا يمكن مهما حاولنا بأقيستنا أن نعرف نوع الجمال والسحر اللذين فيه، فغاية ما يمكننا أن نقول عنه إنه جميل. ثم هناك الجثمان اللفظي الذي يحوي الفكرة المعنوية، وهذا الذي يمكن أن نطبق عليه أقيستنا الصغيرة. وقد نقف أحياناً مكتوفي الأيدي أما القطعة الشعرية فلا يمكننا أن نعبر عن الجمال الروحي الذي بها، إلا أننا قد نبسط هذا التأثير بأن نقول: إنه ملك علينا مشاعرنا فحسب وأنه حاز رضانا وإعجابنا. ولما كانت مشاعرنا
تنحصر في هذه الحواس الخمس وفي ذلك الشعور الباطن بالجمال الذي نملكه، وفي تلك الأفكار التي تحتوي نماذج خاصة نقيس عليها كل جمال نراه، فيمكننا أن نقول: إن القطعة الأدبية تدخل علينا السرور عن طريقين كبيرين: أحدهما عن طريق العين والمرئيات فهي ترسم لنا صورة بارزة وأخيلة قوية ناطقة، وثانيهما عن طريق الأذن بواسطة السحر الموسيقي. فانسجام القطعة الأدبية يعرضها لنقدنا فوق كل شيء عن طريق البصر والسمع، ثم عن طريق قوة العاطفة والفكرة. وعلى هذا الأساس يمكننا أن نضع قواعد بسيطة للنقد الأدبي
أولاها اختيار اللفظ الذي يحسن أداء المعنى المقصود. يقولون عن الشاعر أو الناثر المُجيد إنه لو اْنتُزع لفظ من كلامه لما أمكن وضع بديل منه يؤدي نفس المعنى في نفس المكان؛ ونتبين مقدرة الكاتب من هذا الاختيار للفظ الذي لا يمكن العبث به ولا التبديل فيه. ومن هنا نتبين قوة أسلوب الكاتب ومرونة ذلك الأسلوب ليفي بالغرض المطلوب منه في كل قطعة على اختلافها، ولتأدية الأغراض المختلفة في القطعة الأدبية
يلي ذلك اختيار الكلمات وتنسيقها تنسيقاً موسيقياً، أو كما يرتب الرسام ألوانه ليخرج لنا الصورة الفنية. ولننظر في قوله تعالى:(اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً) فنرى الانسجام اللفظي البديع الذي لا يتأتى تنسيق سواه أن يرتفع إليه. فقوله (أكملت) تراه يتردد في لفظ (أتممت) وفي لفظ (الرضى) الإلهي، كما يتردد النغم الطيب، فهذا إكمال الدين من جانب البشر، يقابله (إتمام) النعمة من جانب اللُّه، وينتج عنه الرضاء. ثم انظر إلى لفظ (الدين) في الأول و (الدين) في الآخر، ولفظ نعمة في الوسط وهي ترادف آخر للفظ (الدين). ولست أجد أبدع في ترتيب اللفظ من آي القرآن
أما الناحية الثالثة فهي الوزن والقافية في الشعر. وليست أدرى لماذا أريد أن نتحرر من هذه القوافي التي تتحكم في أخيلتنا بلا مبرر والتي تلزم الشاعر ترتيباً من الأفكار قد يختل فيه الانسجام، ويضيع عنده الجمال. ولست أدري ما الذي يحول بيننا وبين أن نخرج على هذه البحور (الأثرية) التي قيدنا بها الخليل بن أحمد. ولست أدري لماذا نظل في الموسيقى الفردية ولا نخرج منها إلى الموسيقى الإجماعية التي يتكون فيها الجمال الفني من تضافر أنغام مختلفة لآلات كثيرة تساهم كل منها بنصيبها في تكوين القطعة. وليس من شك في أن
للبحور الشعرية موسيقى خاصة، ولكن كل بحر إنما هي موسيقى فردية، فلنجعل للقافية وللوزن مكانهما في الشعر ولكن يكون أوسع من مكان الترجيع الممل في الموسيقى الفردية. وهناك إلى جانب هذا تمثيل الصوت بحيث يؤدي المعنى ويسمى وقد نظم تنيسون مقطوعة شعرية عن البحر، لتخال وأنت تقرأها أنك تسمع صوت جرجرة البحر وصخب الأمواج، وقد تم لمشاعر ذلك بانتخاب أحرف خاصة.
ثم المجاز والتشبيه، وهمار كنان ينبغي أن نجعلهما يخدمان الفكرة لا أن تخدمهما، فهناك مواقف نحتاج فيها إلى التشبيه، ولا يمكن فهمها بدونه، خاصة إذا كان المعنى المراد تأديته إنما يقرب الذهن إن نحن ألبسناه صورة خاصة من الشبه.
أما الناحية الأخيرة من نواحي النقد فهي التأثير الفني الإجمالي
لكن ما هو هذا التأثير الفني؟ وأخالني أرى أولئك الذين ينتخبون ملكات الجمال، فيعمدون إلى قياس التناسب الجسديلمعرفة التناسق الجمالي، يسألون أنفسهم نفس السؤال: ما هو الأثر الإجمالي الذي يعطيه هذا التناسق الجسدي في مجموعه؟ وفي اعتقادي أن الإجابة على هذا السؤال تتوقف في النهاية على تميز هذا المجموع عن ذلك. إن لكل قوم ولكل زمان نماذج خاصة للجمال، وقد يفهم كل من الجمال بقدر ما توارثه من صور الجمال في ذهنه أو بقدر ما يصبو إليه في زمنه.
قد يقرأ القارئ قطعة ثم يعود إليها فيفهم منها غير ما فهمه في المرة السالفة. ولشكسبير بعض قطع كلما قرأتها تبين لك معنى جديد، فكأنما الكاتب قد ملك ناصية المعاني وهو يكتب إليك من علياء بيانه فتقرأ تعبيره يوماً ما ثم يذهب بك الزمن فتقع في نفس الظروف والملابسات التي عرضت لذلك الكاتب فتتذكر اللفظ الذي كتبه وترى معنى جديداً
حقاً ما أشق مهمة الناقد وما أوهن قواعد النقد!
محمد ناجي
كتاب الأغاني
لأبي الفرج الأسكندراني
رواية الأستاذ عبد اللطيف النشار
صوت
أصلحتُ ما قال سيبويه
…
بما رآه (أوبر كرومبي)
قد أصبحت مصر في لغاها
…
مصباح شرق وزيت غرب
وصرت في أمتي زعيماً
…
كأنني طلعت بن حرب
الشعر للأستاذ أحمد الشايب، وفيه لحن لما يضربْ لصغر سنه
حدثنا الأستاذ أحمد الشايب قال: لما وضعت كتابي (الأسلوب) عمدت فيه إلى تهذيب المنهج في تعليم البلاغة. فراجعت كتاب المستر أوبر كرومبي، ومزجت ما يسميه الإنكليز بالـ (روتاريك) بما يسميه العرب (البلاغة)، وأخرجت من ذلك كتاباً في الأسلوب على طريقة
قال أبو الفرج: ولقد طالعت هذا الكتاب فوجدته بديعاً ولا عيب فيه غير أسلوبه
قال: واعتذر الأستاذ الشايب عن ذلك بالقاعدة الإنكليزية في أجرومية تلك اللغة قال وهذه القاعدة عند علماء البلاغة في كل اللغات أن يكون الحد اللفظي لها مخالفاً للمعنى الذي تضمنته كما يقال في البلاغة العربية: (قبيح أن تبدأ الجملة بلفظ قبيح). قال وهذه القاعدة تصلح ترجمة للقاعدة الإنكليزية التي ذكرتها
قال أبو الفرج: والحق أن المركَّب الذي استحدثه الأستاذ الشايب للبلاغة مركب بديع، وقد خرج فيه عن الطريقة العربية للمركب المزجي وقارب الطريقة التي ذكرها الأستاذ فرويد لمركباته المختلفة.
حدثنا الأستاذ سلامة موسى قال: إن مركب النقص ومشتقاته ليست هي كل المركبات وإنما ذكرت منها ما ذكرت في المجلة الجديدة على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر؛ فهناك مركب مثلاً اسمه مركب الدعاية العملية وهو يتعلق بالدعاية دون غيرها ومرده بالطبع إلى أشياء أخرى غير الغريزة. ومن أمثلة هذا المركب أن في الإسكندرية شاعراً جهيراً اسمه
الدكتور زكي أبو شادي وناقداً كبيراً اسمه الأستاذ إسماعيل أدهم، وهما يشتركان في تأليف كتب باللغة الإنكليزية ويوقعانها معاً بأسماء مستعارة، ولكن الدكتور زكي أبو شادي يوقع بلقبه العلمي فقط:(الدكتور) ويوقع الأستاذ أدهم باسم (ليونارد هاركر) ويرى الناس التوقيع هكذا: (الدكتور ليونارد هاركر) ويحسبونهما رجلاً واحداً بهذا الاسم والواقع أنهما اثنان أحدهما دكتور شاعر والثاني ناقد
قال الأستاذ سلامة موسى: (ولما عرفت هذه الحقيقة، وجدتني أنطق الشعر على الرغم من كراهيتي له، وقلت أهجوهما:
كم ناقد أبسط مِن شاعر
…
وشاعر أمكر من ناقد
فكيف بالله ترى خلة
…
قد ضمت الوصفين في واحد
قال: وواحد هنا لا تشير إلى فرد منهما وإنما تشير إلى المركب الذي مزجهما معاً.
حدثنا الأستاذ إسماعيل مظهر قال: إن نظرية فرويد مردها إلى النسيان. ولقد بوب كتابه عن الحياة اليومية على أساس من ألوان المنسات، فباب عن نسيان الأرقام، وآخر عن نسيان الوجوه، وثالث عن نسيان الأخبار وهكذا. وفي الحق أن الأستاذين إسماعيل أدهم أو الدكتور زكي أبو شادي لم يتجها قط إلى المزج، وإنما أرادا التوقيع بكامل اسميهما ولقبيهما، ولكن أحدهما نسى اسمه بعد أن كتب كلمة الدكتور، والثاني نسى لقبه قبل أن يكتب اسمه ليونارد هاركر، ولقبه هو البروفسور
حدثنا الأستاذ أحمد الشايب قال: أما المركب الذي استحدثه بمزج البلاغتين العربية والإنكليزية فليس من هذا النوع وليس منشؤة النسيان، وإنما وقع لي هذا الخاطر المبارك أيام كنت موظفاً في حكومة السودان وكان الحكم فيها ثنائياً فأنشأت كتابي (الأنجلو اجبشيان أسلوب) لمدارس الأنجلو اجبشيان سودان. أليس كذلك؟ أوريت! وفي رواية أخرى أنه لم يقل: أوريت، وإنما قال: أوكيه
حدثنا الدكتور زكي مبارك قال: هذه والله بدعة قبيحة من المثقفين بالثقافة الإنكليزية. ولقد سمعت منذ أسابيع محاضرة أذاعها الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني من محطة لندن فنعى علينا نحن الفرنسيين المصريين أننا أدخلنا على الأدب المصري عنصر المغالاة وأننا بعد أن بشرنا بالرومانيكية سكتنا. سامحه الله! ومن الذي يزعم أني سكت أو أني سأسكت! على
أن الأستاذ المازني قد فاته أن يتحدث عن بدعة الأستاذ الشايب
وحدثنا الأستاذ المازني قال: لقد أذعت محاضرتي قبل أن يصدر كتاب الأسلوب وأنا الآن أتحدث قبل أن أقرأ الأسلوب فما للدكتور زكي يتعجلني قبل الأوان؟ أيحسب أنه يطيق مهاجمتي كما هاجم غيري من قبل؟
حدثنا الدكتور زكي مبارك قال: ما لهؤلاء يتهموني جميعاً بالشغب؟ أتراني أفعل كما فعل قرقوش فأصدقهم وأكذب عيني! وحقهم جميعاً لا أشاغب ولا أحب من يشاغب ولولا أن الرهبنة ليست في الإسلام لو دعت الناس جميعاً وقضيت بقية العمر راهباً في مسجد نوتردام دي سنتريس!
ليت الصبايا يترهبن ويدخلن معي الدير! إذن لكنت أشهر من أحدب فكتور هيجو صاحب كنيسة نوتردام دي باريس! آه لو ترهبت الصبايا!
قال أبو الفرج: والحق أن أصدقاء الثقافة الفرنسية كانوا أقدر على الاختراع والابتكار حتى ظهر كتاب الأسلوب مازجاً بين البلاغتين فتم الانتصار في الابتكار لأصدقاء الثقافة الإنكليزية
حدثنا الأستاذ أحمد الشايب قال: وهل يحسب أحد أن التقريب بين مصر وبين حليفتها من حيث البلاغة ليس إلا ضرباً سامياً من ضروب الوطنية! أليس ذلك مؤدياً إلى حسن التفاهم بين الأمتين في المستقبل؟
قال أبو الفرج: أما وقد أشار الأستاذ الشايب إلى الوطنية فما سمعت في الشعر المصري أروع وطنية من شعره، ولا رأيت في النقد المصري أقوى من تلك الوطنية في نقده.
قال: لقد نقد الأستاذ الشايب لبهاء الدين زهير فرأيته يهزه هزاً عنيفاً ويسأله: أين شعره في الحروب الصليبية، وأين وطنياته المصرية؟
ولقد قرأت نقده للمتنبي فرأيته يهزه كذلك هزاً عنيفاً ويسأله أين شعره في النيل؟
وهو على الرغم من سمو مكانته يلجأ بدافع الوطنية إلى التضحية ليكون قدوة ومثلاً لغيره من الناس، فكان أول أستاذ جامعي تطوع في فرقة الإنقاذ من الغارات الجوية.
قال: ولقد كنت وإياه وجماعة من المصطافين القاهرين بالإسكندرية عندما أطلقت صفارة الخطر على سبيل التجربة. فقام الأستاذ الشايب من فوره وارتجل هذه القصيدة، وليس أدل
منها على وطنيته وإنسانيته:
صوت
صفيرٌ كصوت البوم ينعق ناعياً
…
ثُكلْتَ من المدعوُّ ويحك داعياً
فودعت أهلي واتخذت كمامتي
…
وبَذْلتي الصفراء وانسقت باكياً
والبذلة الصفراء هي ثوب من المطاط يرتديه المتطوعون في فرقة الإنقاذ
أفتش بالأذنين عن صوتِ معولٍ
…
ولا معول إلا المنون المناديا
أزيز نسور ترسل الموت مُلهَباً
…
وروحاً بلا جسم وصلباً وجارياً
فخضت الردى جوَّا وماءً وخضتهُ
…
لهيباً وأحسست الردى في كيانيا
وفوق يساري شارة تستحثني
…
وتهتف بي أن لست وحدكَ فانيا
وتهتف بي من مات لم يعد عمرهُ
…
ومن ماتَ لم يلقْ المنيةَ ثانيا
وفي عضلي المفتول محمل خائرٍ
…
فإن لم يجدني منقذاً فمواسيا
وفاضت على صدري نفوسٌ كثيرةٌ
…
ووكلت بالأخرى الطبيب المدوايا
فيا غارة ما كان أبشع خضتها
…
وهوَّن منها أنها في مناميا
الشعر للأستاذ أحمد الشايب وفيه لحن من صنعة الأستاذ حمدي باشا الديب تضرب على نغمة صفارة الخطر
(يتبع)
عبد اللطيف النشار
الجبر والاختيار
في كتاب الفصول والغايات
(مهداة إلى الأستاذ محمود حسن زناتي)
للأديب السيد محمد العزاوي
- 3 -
(. . . وقول الحق أمثل من السكون، واستقامة العالم لا تكون، ولذة الدنيا منقطعة، وخبر الميت غير جلي إلا أنه قد لقي ما حذر، فاسع لنفسك الخاطئة في الصلاح. . .)
ومن مظاهر هذا التفكير ما انتهى إليه من نظرته في الجبر.
وأول ما يمكن أن نصادفه من هذا التفكير مشكلة خلق الأعمال ومشكلة التكليف وأمر البعث. فإن المسألتين الأخيرتين نتيجتان مباشرتان لمشكلة خلق الأعمال تتأثران بها سلباً وإيجاباً. فإذا ما أثبت للإنسان خلق الأعمال صحت إذن تعاليم الأديان بشأن القيامة والحساب، وإذا أثبت ذلك لله سقط التكليف عن البشر وانهدمت في رأي العقل والعدل فكرة الحساب والعقاب. ويبدو أن هذا ما يميل إليه أبو العلاء، وإن لم يصرح به تصريحاً. وهو كما نعلم قد أسلم قيادة للعقل، وعقله أدان بالجبر المطلق فلم يكن من الحق في شيء أن يثبت بعثاً ولا تكليفاً ما دام قد أثبت الجبر في الأعمال. بل كان العقل يقضي صراحة بالرفض إلا إذا كان البعث والحساب جبراً كذلك، وهذا ما لم يفعله أبو العلاء منزهاً الله عما يراه من عبث
يرى المعري نفسه مجبوراً على أن يفعل ما يأتيه لا خيرة له والقدر من حوله (أخو الحياة) فيقول: (كذبتْ النحاةُ أنها تعلم لما رفع الفاعل ونصب المفعول، إنما القوم مرجمون، والعلم لعالم الغيوب، خالق الأدب والآداب) فهو لا يرى أن القائم بالفعل هو الفاعل الظاهر؛ وإنما الفاعل شيء آخر (بيده نواصي العباد، لا يخرج بما يقضيه الجمد ولا الحيوان، ولا يفعل إلا ما رِضي وشاء، وغير متعلق به الزيغ والخطأ، ولا شيء من الدنيات) هذا الشيء يخشى أن يصفه بصفة ما (وإن فعلت خشيت التشبيه، وأشركتُ الضعفة العاجزين، مع القوي القادر في بعض المقال إذا قلت فعل الأول وفعل النعمان، وهيهات ما أبعد بين
الفعلين) وقد يبدو هنا أنه أسند إلى النعمان فعلاً قام به ابتداء منفصلاً عن الأول كما يشعر بذلك قوله: (ما أبعد بين الفعلين) ولكن ما الرأي وهو يرى عكس هذا، ويصرح به في نصوص صريحة لا تحتمل الشك ولا التأويل نحو قوله:(وعملي مكتوب مكلوء، مقترى بالحفظ ثم مقروء، وثوب الحياة عني مسروء، وغير القدر هو المدروء، لا يبعد عني السوء، أهُّم بالخير وأهوء، والأقدار دونه معترِضات) فهل رأيت إلى ذلك المكتوب؟ ومحاولته فعل الخير فلا تمكنه من ذلك الأقدار لأن الذي قدرها لم يقدر له أن يفعلها؟ فيغضب أبو العلاء لذلك ويصيح أن (لو كانت المناقشة في غير عالم المستودعات لتمنيت أن تُلقي إليَّ صحيفة العمل فأضرب على ما ضمنته رُجاة الإضراب) ولكنه يائس من ذلك؟ (هل يعصمني الاجتهاد وقد سبق حكمه أنى من أهل الخسار، أم يضرني التقصير وقد نفذ علمه أنى في درجة الأبرار)
وقد يعترض على ذلك بان أبا العلاء نصح بأن (اترك المضلة إلى المرشدة؛ فإن طرق الخير كثير) وقال: (ما يمنعك أن تخيَّر القسى وأنت في بلاد الضال؟) ولكنه رد فيما أوردت على ما يمنع المرء أن يترك هذا إلى ذاك أو أن يتخير القسى.
فالأعمال إذن حكم مقدر على المرء، لا يستطيع أن يحيد عنه، ولا أن يعدل إلى غيره. وما معنى أن يعدل المرء عن (حكم) إلى (حكم)؟ وهو يذهب إلى ما ذهب إليه في مسألة الأرزاق من أن الأحكام تجري على نهج غامض كذلك، لا يدرك أو يعلل، كما جرت الأرزاق على نفس الغموض والإبهام.
ولا يمكن أن تجد عند أبى العلاء علة يقنعك بها أو يقنع نفسه. وإنما العلة لديه أن (الناس أربعة نفر: مسعود نحس فهو المرحوم، ومنحوس سعد فهو المحسود، ومولود بالسعادة إلى أن يموت فذلك المكرم المرموق، وثابت على الشقوة فذلك المُطَّرَح المرفوض.)
وهو يمضي بعد ذلك إلى استخلاص الحكم في هذه القضية، وينظر ما يشير به العقل، فهو يتساءل ما دام كل شيء بحكم الله وقدره (فهل أثم قَيْنُ فتق خشبة مشرفي كأنما درجت عليه بنات الجثل والدعاع. . . فلما تم وكساه الأديم ورواه يمثل ذؤاية الوليد وذلك بعلم الله. . . . . . . . . مرت رفقة من التجر في أعقابهم طالب رزق يقوم الليل ويصوم النهار، فوثب الداعر فضرب عنق جارمة عيال فما تطعم عيونهم من جثاث؟) وهو يعرض
إلى تلك الفكرة في بيان جلي يزيدها تفصيلاً حين يقول: (وليس اللسان ذنب إنما الذنب لمحرك اللسان، كفارس طعن برمح فقتل غير مستحق للقتل، فالجاني الفارس، والرمح غنى عن الاعتذار. وإذا سمعت القدم إلى قبيح فالجريمة لناقلها. مثل رجل ركب فرساً فأخاف سبيلاً فاستجوب العقوبة الرجل دون الجواد. . .
وإذا خانت اليد فالباسط لها الخب الخئون. . .) ومن هو محرك اللسان ومن مسير الفارس؟ وهل كان في إمكان محرك اللسان ألا يحركه، والفارس ألا يطعن برمحه، وناقل القدم ألا ينقلها؟ كلا، لم يكن ليستطيع، إذن فلا لوم عليه ولا تثريب. ولكن ماذا نقول وأبو العلاء يأبى أن يقول ذلك صراحة؟ فهو لا يعرض لها في بيان أكثر مما نرى. فهو حذر يود ألا يتعرض صراحة لأمر ليس على علم به. ذلك هو أمر الموت وما بعده من الحياة الآخرة. فهو يجهل أمرهما جهلاً يتمنى معه أن يعثر (بمخبر يعتام نفائس ما أقدر عليه يعلمني بعد الموت كيف أكون) وهو نفسه يصرح تصريحاً بهذا الخوف والجهل ويلوم نفسه أنه لم يتخذ الحيطة والحذر حيال هذا الأمر الغامض (وقد سئمت الحياة (وأخاف) أن أنقل فأقدم على ما حزن وساء وأنا أغفلت الحزم: ملت عن الجدد ومشيت في الخبار)
ولكن ما دام لا يأتي أفعاله مختاراً فلم البعث والحساب؟ الواجب ألا يكون بعث ولا حساب إلا إذا كان جبراً هو أيضاً وهو عبث ينزه عنه الله. على أنه يرى أموراً مادية تحول عقلاً دون حدوثه إذ يصرح أن (لو غبرْتُ ألف حقبة ما ورد على منهم كتاب ولا رسول، وعندي خبر خبرِ نيه المعقول: إن جلود القوم تمزقت، واللحوم بليت وتهالكت، وصارت الأعظم رماماً). وهو يسخر من أهل الدار الآخرة سخرية هادئة لاذعة في وقت معاً (سلم الله عليكم أهل ديار لا يشعرون بتبلج الصبح، ولا ترجل النهار، اشتاق إليكم وإلى من أشتاق؟ الأرواح متكلمة، ولا الأجساد ملتئمة، ولا المنازل برحاب) على أنه يؤمن الإيمان كله أن مصيره هو نفس هذا المصير، (أما اللحاق بالقوم فقريب ولست من لقائهم على يقين فالقلب لذلك آسف حزين، أفتراني أوجر على ذلك وأثاب؟!) فهو حزين كما ترى لأنه لا يستطيع أن يتبين حال الأموات في الدار الأخرى، ولأنه لا يستطيع أن يؤمن بلقائهم. وهو يميل إلى أنه لن يلتقي بهم لما قدم من أسباب، فإذا ما أراد بعد ذلك أن يحيي أباه حياه (تحية رجل للقياس ليس براج) وغير هذا من النصوص كثير يدل على وجهة نظره في
البعث. وقد يقال بأنه يؤمن ببعث الأرواح دون الأجساد فقد قال: (عززت باعث الأرواح) ولكنه قال: (والله باعث الأرمام) وقال: (ولا يمتنع أن يكون (جسد) الصالح إذا قبر في نعيم، و (جسد) الكافر في عذاب أليم) فهو لم يجزم بشيء. فالأمر لديه أمر لا يمتنع. ثم هو يتساءل لماذا يعذب الله المسيء ويثيب المحسن وكل الفعلين قد صنع؟ ولكنه يتراجع متهماً نفسه (فسبحان الله غافر ومعذباً. آلرشد دفين أم أنا أفين؟) لا يركن إلى حال من الطمأنينة والثبات كما قلت:(فالدنيا فانية، والنفس لا تأمن التبعات)(ولي ينذر أن الحازم حذر وقد أمنت وأنا مسيء) لذلك فهو يرى أن (الحازم الذي لا يأبس، يمجد الله ويقدس، وبغير طاعته لا ينبس (لعل) الأجل يدركه من أهل الصفاء.)
وكل ما يمكن أن نأخذه عن أبي العلاء في أمر التكليف وشأن البعث إنما هو جهل لا يثبت شيئاً وتوقف ولا ينفي شيئاً، ولعلنا لو قرأنا الكتاب جميعاً لن نجد ما يمثل آراءه في صراحة أحسن من قوله:(وقول الحق أمثل من السكوت، واستقامة العالم لا تكون، ولذة الدنيا منقطعة. وخبر الميت غير جلي، إلا أنه قد لقي ما حذر فاسع لنفسك الخاطئة في الصلاح)
وأبو العلاء حين يتعرض (للفاسق) ومرتكب الكبيرة أهو خالد في النار، نجده يميل إلى التفاؤل تارة فيعتقد أن (غفران إلهنا مأمول ولكنك أيتها الحشاشة فرطت فأوبقت، فانظري هل لك من متاب)(أن لقيتِ شراً فما أجدركِ، وإن لَقيتِ خيراً فإن الله صفوح لا يعجز ولا يشبه العاجزين) وهو يتفاءل حين يقرر أنه (ما جنت السيئة فالحسنة تديه والله غافر ذنوب المنيبين) بل هو يذهب إلى أبعد حدود التفاؤل: (لا آيسُ من رحمة الله ولو نظمت ذنوباً مثل الجبال سوداً كأنهن بنات جمير ووضعتهن في عنق الضعيفة كما ينظم صغار اللؤلؤ فيما طال من العقود، ولو سفكت دم الأبرار حتى أستنَّ فيه كاستنان الحوت في معظم البحر، وثوباي من النجيع كالشقيقين، والتربة منه مثل الصربة؛ لرجوت المغفرة إن أدركني وقت للتوبة قصير ما لم يحل الغصص دون القصص، والجريض دون التعريض، ولو بنيت بيتاً من الجرائم أسود كبيت الشعر يلحق بأعنان السماء ويستقل عموده كاستقلال عمود الوضح، وتمتد أطنابه في السهل والجبل كامتداد حبال الشمس، لهدمه عفو الله حتى لا يوجد له ظل من غير كباث) فانظر إلى أي حد يطمع في عفو الله، ويؤمل مغفرته. على
أن ذلك لا يمنعه ألا يسأل (هل من راق، لذي إيراق، بات شاكياً من الخيفة باكياً، يسأل ربه غفران الكبائر، والله القابل توبة التائبين؟)(ما أحسنت فأطلب الجزاء ولكن أسأت فمرادي الغفران. ومن لي بالوقفة بين المنزلتين لا أكرم ولا أهان وقد يؤديه هذا السؤال إلى اليأس أحياناً: (كيف أغسل الذنوب وقد صار لونها كسواد اللابة والفداف كلما غسل حجر هذه وريش ذاك ازداد سواداً بإذن الله). فهو يصف مجهوده في محاولة غسل الذنوب، ولكن هذا المجهود يذهب عبثاً لأن الله لا يريد:(ولو شاء لبعث مطراً تبيض تحته اللوب، وطيراً مثل النوب، ولكنه أجرى العادة بما تراه. . . ولكن ما هذا الذي تراه ويعتقد أبو العلاء أنك تراه معه؟ لاشيء إلا أن الله قدره يحتث المنية لتجتث وأنا جاِثم) أو جاِث فانظر إلى أي شيء اتجه ذهن أبي العلاء؟ اتجه إلى الآخرة كذلك والمنية، وهو يخشاها لأنه يجهلها ويفزع منها فزعاً يقرب من فزع الأطفال: فأينما ولى وجهه لم يجد إلا هذه المنية التي تجتث الناس، وهذا الميت ذو الحال المبهم، وتلك الحياة الأخرى الغامضة المرعبة، التي تجد في أمرها. أيثبت ما قالت به الأديان، أم يثبت ما أوحى به عقله؟
في تلك المسألة أيضاً - مسألة الخلود في النار - لا نجد أبا العلاء يثبت شيئاً، وإنما هو متزعزع مضطرب متفائل حيناً، متسائل حيناً، شاك متشائم حيناً آخر!
غير أننا لو تأثرنا شبح الكلام في ذات الله لديه في فصوله والغايات لوجدنا صدى الكلاميين وغيرهم. على أنه يقول:
(لا أعلم كيف أُعبر عن صفات الله وكلام الناس عادَةُ واصطلاح، وإن فعلت ذلك خشيت التشبيه. . .،. . . كيف يوصف بشيء خالق الصفات) فهذا نص صريح لا يحتمل الشك في أنه لا يثبت لله غير ذاته، فليس هو من الصفاتيين في شيء وإنما هو من المعطلة. وقد أثبت أنه (لا أعلم كنهك ولا أهوء) وأن (الله القديم الأعظم، وبحكمه جرى القلم، ألا يخلد عالم ولا علم) ولكنه إن اعترف بكون الله (شاهداً ما غاب ولن يغيب، وقديماً ليس لابتدائه وجود، تقاصر لأوليته طوال الأغمار، كالأخيلة إذا حدثتك عنها النظرة الأولى كذبتها الثانية) فإنه يقرر شيئاً خطيراً إلى ذلك. هو لا يتصور أن الله خلق المادة من العدم أو أنه وجد قبل الزمان والمكان وإنما هو (رأى ما يحدث في هرم الدهر، ولزمان في شرخ شبيبته أيام نعام الكواكب وضائع في الأدحى، ونسورها فراخ في الوكر، وأسدها شبل في
الغابة. . . إن كان ذلك فقد علمه، وإن امتنع فالله مؤقت الميقات).
(للبحث بقية)
السيد محمد العزاوي
التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له
مكانه بين قواد حركتنا القومية؟
للأستاذ محمود الخفيف
وسئل رئيس الوزراء عن وجهة نظره في دعوة المجلس دون الرجوع إلى الخديو، فكان جوابه أن الخديو قد نشأ الخلاف بينه وبين وزرائه بحيث لا يمكن الاتفاق بينه وبينهم، ولذلك فقد دعي المجلس دون مراعاة سلطته في هذا، ثم قال:(إن شكوانا من سموه هي أنه سلك مسلكاً يقضي على استقلال مصر وكثيراً ما فعل ذلك دون مشاورة وزرائه)
والحق أن توفيقاً كان يود التخلص من هذه الوزارة بأي ثمن وفيها البارودي الطامع في عرشه، وعرابي زعيم الحركة القومية الذي يسير بطبيعة حركته في طريق تعتبر عند الخديو طريق الضلال والعصيان وتعد كل خطوة فيها ثورة وتكبر، وأي شيء آلم في نفسه من أن يرى فلاحاً من أبناء هؤلاء الذين ما خلقوا إلا للفأس والطاعة العمياء يتربع في كرسي الوزارة ويتكلم إذ يتكلم باسم الأمة ويقبل ما يقبل أو يرفض ما يرفض باسم الأمة؟
ولقد عاب كثير من الناس على البارودي وعرابي مسلكهما تجاه الخديو في تلك الأزمة، وحجتهم أن الواجب كان يقضي على البارودي أن يترك الحكم ما دام قد استحكم الخلاف بينه وبين الخديو، ولقد يبدو هذا الكلام وجيهاً لمن ينظرون في النتائج دون تمحيص المقدمات، أما الذين لا يصدرون حكماً إلا عن تقص وفهم فلا يذهبون مذهب هؤلاء، ولا يقيسون قياسهم
وليست المسألة دقيقة على الأفهام حتى تتشعب فيها وجوه الرأي، فحسب هؤلاء العائبين على الوزارة مسلكها أن يذكروا أن الخديو كان يعمل بوحي من الإنجليز وعلى ذلك فلإجابته إلى مبتغاه لن تكون إلا تسليماً لأعداد البلاد، الأمر الذي لن يقبله وطني؛ ولو أن الأمر كان خلافاً بين الخديو ووزرائه، وكان الخديو يريد وجه الوطن لكان من السهل جداً أن يحتكم إلى الأمة ممثلة في مجلسها النيابي ويجعل له، عن طيب خاطر، القول الفصل
في الخلاف
وهل كان يحمد من الوزارة أن يكون قصارى جهدها الاستقالة من الحكم وإنها لفي موقف جهاد ومقاومة لدسائس الدساسين ومطامع الطامعين؟ كلا. بل أنا لنرى استقالتها في تلك الظروف ضرباً من الفرار ومثلاً من أبلغ أمثله الضعف، وعلى الأخص إذا سلمنا بموقف الخديو من القضية كلها على النحو الذي نذكره، والذي لن نجد دليلاً على صحته أبلغ مما ذكره لورد كرومر في كتابه حيث يقول:(إنه بين للسير أدوارد ماليت في يوم 6 مايو أنه يؤثر أن تفقد مصر بعض امتيازاتها على يد الباب العالي وتعود إليها السلطة المنظمة على أن تبقى في مثل تلك الفوضى) ومعنى هذا أنه كان يريد أن تطلق يده في مصر فيحكمها كما يشاء ولا عبرة في سبيل الوصول إلى هذا الغرض بمبلغ ما تفقد مصر مما حصلت عليه من امتيازات خطت بها خطوات واسعة نحو الاستقلال
وإن الذي يرى هذا الرأي لن يكون احتكامه إلى قواعد الدستور إلا ضرباً من المغالطة، فإذا كان الدستور يقضي باستقالة الوزارة إذا تعذر التفاهم بينها وبين الخديو فلن يكون ذلك إلا على أساس احترام الخديو لذلك الدستور في جملته وتفصيله. . . وما أخطر أن يتخذ الدستور أداة لطرف منهما بالتحايل عليه بما ليس فيه. . .
وقفت وزارة البارودي لا تتحول ولا تلين فكان موقفها هذا ثورة لا شبهة فيها، ثورة قومية كأروع وأجمل ما تكون الثورات القومية، وهو موقف نراه جديراً بالإعجاب والتقدير، وما نحسبه لو كان في بلد غير بلدنا إلا كان يعد من المواقف المشهودة التي تذكر في مواطن الفخر والمباهاة
وكانت الوزارة قوية بادئ الأمر لأنها كانت معتزة بالنواب وإجماعهم على الأخذ بناصرها، ولكنها نظرت فإذا بينهم تهامس وفي صفوفهم إسرار وإعلان، وإذا كبيرهم سلطان يدعوهم إلى الحكمة والروية. . . وكم تحمل على الحكمة والروية أعمال ليست منها بسبب من الأسباب. . . قال سلطان باشا يومئذ للسير أدوارد ماليت:(لقد أسقط المجلس شريفاً تحت ضغط عرابي، وإن نفس الأعضاء الذين ألحوا في ذلك أكثر من غيرهم - وقد استبان لهم أنهم خدعوا - يتوقون اليوم إلى إسقاط الوزارة). . . ولو اطلع عرابي على الغيب يومذاك لرأى أن هذه أخف ضربة من ضربات سلطان هذا، تلك الضربات التي سوف يسددها إلى
قلب الحركة الوطنية في ضجيج الجهاد وسكرات الاستشهاد
وانحاز فريق كبير من النواب إلى جانب الخديو، وإن كانوا ليتظاهرون أنهم يظاهرون الوزارة. . . كتب في ذلك ماليت إلى حكومته في اليوم الثالث عشر من شهر مايو يصف الحال في مصر أو على الأصح يصف مبلغ ما أصابته من نجاح دسائسه الإجرامية، قال: يظهر أن رئيس المجلس والنواب يميلون إلى جانب الخديو، ولقد سألوا سموه أن يأخذ بالعفو فيصالح وزراءه، ولكن الخديو رفض ذلك. . . ويصر سموه على رأيه، فلن يصالح وزارة تحدته صراحة، وتهددته هو وأسرته، واعتدت على القانون بدعوة المجلس إلى الانعقاد دون الرجوع اليه، وفي القاهرة قدر غير قليل من القلق، وكثير من الناس يغادرونها. . .
إزاء ذلك انخلع عن رئيس الوزارة عزمه، وتزايل إصراره شيئاً فشيئاً، حتى رأت البلاد البارودي يرفع إلى الخديو استقالته فيرتكب بذلك إثماً نعيبه عليه أشد العيب. فقد كان عليه أن يستطلع رأي النواب صراحة في جلسة يعقدونها. فإذا ناصروه كان عليه أن يبقى في مكانه حتى يقال، فيحظى بشرف الإقالة، أو ينتصر، فيكون له فخر الانتصار. . .
لقد رفض النواب أن يجتمعوا في مجلسهم - أي أنهم رفضوا أن يشايعوا الوزارة في تحديها الخديو، واجتمعوا في منزل رئيسهم وهذه حقائق نسلم بها، ولكنها أمور شكلية لا تمس جوهر الموضوع. فالأمر الذي كان يهم الوزارة، هو معرفة رأي ممثلي البلاد، وسواء لديها اجتمعوا في مجلسهم أو في أي مكان.
فليس ثمة من فرق بين الاجتماعين، إلا أن هذا رسمي وذاك غير رسمي؛ ولم يكن المجال يومئذ مجال شكليات، وقد جرى الخديو في مضماره الذي اختاره رغم إرادة البلاد. وهل كان نواب الشعب الفرنسي الذين التقوا في ملعب التنس في مستهل ثورتهم الكبرى لا يعبرون عن رأي الشعب لأنهم لم يجتمعوا في قاعة مجلسهم؟
الحق أن البارودي قد هدم جميعاً باستقالته هذه، ولو أنه نال شرف الإقالة، لكان منطقه متسقاً، ولأضاف بذلك إلى نفسه وإلى وزارته معنى من معاني البطولة وحمل الخديو والموحين إليه وزراً جديداً يضاف إلى سابق أوزارهم!
وعجز الخديو أن يقيم في الحكم وزارة، فقد أشفق منها الرجال يومئذ، وأشفق منها مصطفى
فهمي باشا حين عرضت عليه رياستها عملاً باقتراح ممثلي إنجلترا وفرنسا اللذين صار لهما الآن حق إسناد الوزارة إلى من يرضيان عنهم في مصر.
وصرح الوزراء على الرغم من استقالة رئيسهم أنهم هم لا يستقيلون إلا إذا كان ذلك بأمر من مجلس النواب، وهنا يعود عرابي فيثب إلى الطليعة، وقد ضاق البارودي بالأمر ذرعاً؛ فهو الذي أوحى إلى الوزراء بما فعلوا، وقد عز عليه أن يبعد الوزراء عن مناصبهم بمشيئة غير مشيئة الأمة، وتلك خطوة أخرى نضيفها في غبطة وفخر إلى سالف خطواته.
ووقف عرابي في مكانه لا يتزعزع وما كان أصلبه وأشد مراسه إذا وقف في أمر في أمر يرى أنه الحق؛ ولقد صور المبطلون وقفته هذه أنها عودة إلى الثورة المسلحة وأنه يوشك أن يفاجئ البلاد بيوم آخر كيوم عابدين، فما حفل كلامهم ولا خشي تهديدهم؛ وكتبت الحكومات إلى ممثليها في مصر أن (يرسلوا إلى عرابي فيبلغوه أنه إذا أصاب النظام خلل فسوف يجد أوربا وتركيا كما يجد إنجلترا وفرنسا ضده، وأنهم يحملونه تبعة ذلك)
وأصر ذلك الفلاح الذي لولا ما هيأته الأقدار لكان يومئذ يجيل فأسه في حقل من حقول هرية رزنة ولا يدري من أمر الحكم والسلطان شيئاً؛ وظل على عناده يكشف عن طيب عنصره وكرم معدنه فيفهم من يريد أن يفهم أن ذلك الفلاح الذي يجيل الفأس في صبر وصمت في أنحاء هذا الوادي لا ينقصه إلا العلم والحرية ليبهر العالم بعبقريته وبطولته. . .
وصرح سلطان وقد أخذ يكيد للبارودي وعرابي معاً (أنه ليس من الممكن تغيير الوزارة ما دامت القوة الحربية مجتمعة في عرابي باشا) ولم يك يبدر سلطان أن وراء تلك القوة الحربية قوة أخرى لولاها ما قام غيرها. لم يك يدري سلطان باشا أن هذه القوة الحربية التي يشير إليها كانت قائمة في مصر من قبل فما ظهر أثرها إلا في يد عرابي وأنه بذلك يمتاز عن غيره من الرجال
وانتهت الأزمة بأن أشار ممثلاً إنجلترا وفرنسا على الخديو بأن يطرح المسائل الشخصية جانباً، وبما أن سموه لم يستطع أن يقيم وزارة جديدة فإنهم يطلبون إليه أن يجدد علاقته بالوزارة القائمة)
وبقيت الوزارة في كراسيها وانتصرت كلمة الأمة من جديد على يد ذلك الذي خرج من
هرية رزنة وتلقى قسطاً من من العلم في الأزهر، ثم درج بعد مدارج الرقي فكان في نموه كالشجرة الطيبة في سموقها لا كالعليق الذي لا ينمو إلا على غيره من النبات
ولولا ذوو الأطماع من المتربصين بمصر وحرية مصر لجنت البلاد من هذا الانتصار أطيب الثمرات ولعزت بذلك كلمة الأمة حتى ما تذل بعدها؛ ولكن مصر وا أسفاه جنت من انتصارها هذا العلقم والحنظل
وكيف كان يتسنى لمصر السلامة ووراء الخديو الإنجليز يتربصون ويكيدون؟ لقد حق لماليت الآن أن يدعو حكومته إلى التدخل المسلح فقد حانت الساعة وواتت الحجة، ولن يهم إنجلترا أن تكون هي المدبرة لكل ما حدث فلن يكون احتجاج الضعفاء إلا صرخة ضائعة، ولن يكون منطقهم إلا ثرثرة وشكواهم إلا تبجحاً
لم تكن في البلاد ثورة ولا خاف فيها أجنبي على حياته أو متاعه ولكن أعوان السوء صورها يومئذ صورة منكرة انزعجت منها أوربا أشد الانزعاج، مع أن هؤلاء الكاذبين كانوا يعلمون حقيقة الأمر ويوقنون أن المسألة لا تعدو خلافاً بين الوزارة والخديو ما كان ليبلغ ما بلغه من الشدة لولا تدخلهم على ذلك النحو الأثيم
ولم تكن البلاد مثل تلك الحال من الفوضى التي ذكرها المبطلون. وحسبنا أن نورد هنا بعض ما جاء في خطابين كتبهما عرابي باشا إلى مستر بلنت وكان ذلك في أوائل شهر أبريل أي قبل الأزمة التي نحن بصددها بنحو شهر. قال عرابي: (ونحن نرجو لإنجلترا أن تكون أقوى الأصدقاء لمساعدتنا في إيجاد نظام حسن على أساس الحرية فنسير عندئذ على غرار الأمم المتمدنة الحرة. ونحمد الله فإننا سنرى قريباً نجاحك في جهودك ولهذا نعتبر وصولك سالماً لبلادك فألاً حسناً للنجاح المنتظر. . . أما بخصوص النصيحة التي زودتنا بها فنحن نشكرك ونخبرك بأننا لا نقصر في حفظ النظام والهدوء لأننا نعتبر هذا من أهم واجباتنا ونؤكد لك أن كل شيء هنا هادئ؛ فالهدوء والسلام يسودان البلاد ونحن وإخواننا الوطنيون ندافع بأقصى ما يمكننا عن حقوق جميع السكان بصرف النظر عن الأمة التي ينتمون إليها؛ ونحن نحترم جميع المعاهدات والاتفاقات الدولية ولن نسمح لأحد بمساسها ما دامت أوربا تحفظ وترعى علاقتها الودية معنا. أما عن تهديدات الماليين وأصحاب المصارف في أوربا فإننا نتقبلها بالحكمة والثبات واعتقادنا أن هذه التهديدات
تعود عليهم وحدهم بالأذى وتغر الدول التي تنخدع بأقاويلهم. وغايتنا الوحيدة هي تخليص البلاد من العبودية والظلم والجهل وأن نرفع السكان إلى مركز لا يمكن فيه الاستبداد أن يعود كما كان في الأزمنة الماضية ينشر الخراب والدمار في مصر. وإن هذا الذي أكتبه إليك هو ما يفكر فيه كل مصري عاقل يحب حرية بلاده)
هذا ما يقوله عرابي وهذا ما كان يرجوه المصريون من إنجلترا من عهد يرجع إلى قبيل الاحتلال. وكم تكرر في مصر من أشباه ونظائر لهذا الموقف! وكم جاء مثل هذا الكلام على ألسن غير لسان عرابي ولكنا نحجز القلم عن الاتجاه إلى غير ما نحن فيه فالسياسة الإنجليزية في مصر هي هي وإن تغير الزمن واختلفت في موضع زعامة الرجال
وقد أكد عرابي هذه النيات في كتابه الثاني، ومما جاء فيه:(ونحن ميالون أشد الميل إلى التفاهم عن المصالح المتبادلة بيننا وبين الدولة المرتبطة بنا. وليس للدول ذوات المصالح في بلادنا من سبيل للانتفاع بعقودهم ومعاهداتهم إلا إذا كانت الصداقة التي بيننا وبينهم وثيقة. فإذا قطعت هذه الصداقة فالضرر لن يعود علينا وحدنا بل يعود على الدول أيضاً وبخاصة إنجلترا. وليس هناك سياسي كبير الإدراك إلا ويفهم قيمة المنافع التي تعود على إنجلترا من صداقتها لنا ومعاونتها إيانا في كفاحنا). . . وقال: (إننا قد نوينا نية صادقة على أن يكون لأمتنا مركز بين الأمم المتمدنة بنشر المعارف في البلاد والمحافظة على الاتحاد والنظام والقضاء بالعدل بين الناس أجمعين. ولا يمكن لشيء في العالم أن يردنا عن قصدنا قيد شعرة فلن نخشى الوعيد أو التهديد ولن نخضع إلا لحكم الصداقة التي نقدرها ونكبرها - أما عن الهدوء في مصر فنخبرك أنه ليس هناك أي قلق، ونحن الآن نحاول أن نمحو الآثار السيئة التي تركتها لنا الحكومة السالفة)
ويذكر مستر بلنت أن الشيخ محمد عبدة كتب إليه في ذلك الوقت مثل ما كتب عرابي يؤكد له قيام النظام والسلام في مصر يقول: (وإن الخلق العظيم الذي يمتاز به الشيخ محمد عبدة ثم هذا المركز السامي الذي يملأه الآن في مصر وهو منصب الإفتاء الشرعي، كل هذا يجعل لشهادته قيمة تاريخية لا يبلغ الإنسان مهما قال في مدحها، وهذه الشهادة يصح وضعها بجانب الكتب الزرق لإدحاض أكاذيبها المختلفة، وكان في ذلك الوقت رئيساً لتحرير الجريدة الرسمية ومديراً لقلم المراقبة الصحفية فكان مركزه هذا يجعله على علم بما
يدور في الوزارة الوطنية بحيث لم يكن ماليت أو كلفن أو أي أوربي آخر ليدعي مثل معرفته بهذه الشؤون)
(يتبع)
الخفيف
هتفات حب
من دموعي الضائعة!
(إلى التي ضيعت عمري على أقدامها وما زال يحجب نورها
ظلام القصور)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
1 -
أحزان الحيرة
أعاشقٌ أنا! أم فانٍ. . . على جسدي
…
من صرعة الحب أكفان الأسى الأبدي؟
وشاعرٌ أنا! أم شادٍ على وترٍ
…
من الفجائع مشدودٍ على كبِدي؟!
ويائسٌ أنا! أم نَعْشُ المُنى حمَلتْ
…
تابوته لُترابِ الهالكينَ يَدي؟!
وبائسٌ أنا! أم دُنيا مُلفَّقةٌ
…
من العذابات والأرزاءِ والنَّكد؟!
إذا بكيْتُ فلا دَمعٌ يُعينُ. . ولا
…
إذا تصابرْتُ نامتْ جذوة الكَمد. .
هنا جفونٌ كأحلام اليتيم بها
…
خريفُ دَمعٍ طواهُ الحبُّ في خَلدي
أَهدَابها للهَوَى أَحْبارُ صَومعَةٍ
…
طافَ المسيحُ بهم في ليلة (الأحد)
صَلَّت لنوركِ، فاهتزَّتْ لِهيبَتِهِ
…
في ذائبٍ كَطهورِ المحرِمينَ نَدِ
ورَفرفتْ وَجثتْ حتى يُخال بها
…
من الكَرَى غفوةٌ في شاطئ الأبدِ. .
2 -
عُقدة الله لن تَحلَّ
(إن العقدة التي تربطها يد الله لا تستطيع حلها يد المخلوق)
(بنجامان كونستان)
سَيبقى لنا الحبُّ حتى نموتَ
…
ونَغْدوَ أُنشودةً للِفنا
فلا تجزعي في ظلام الُخدورِ
…
غداً من يديكِ يَهلُّ السَّنا
غداً تسكُبين كزهر الحُقول
…
على الحبِّ عطرَ الهوَى والمُنى
غداً نلتقي. . . لا الصَّبا نائحٌ
…
ولا زَوْرقُ الدَّمع يَجري بنا
ولا نحن جُرْحين طبُّ الهوى
…
جَفانا، وَزَفَّ المآسي لنا
وخلَّفنا صَرخةً في الزمانِ
…
وتأويهةً في شِعاب الدُّنى
غداً نلتقي. . لا ضباب السِّنين
…
ولا لغطُ الدْهر في دهْرنا
فلا تذرُ في بَعدنا دَمْعةً
…
ولا تندُبي في الهوى حَظَّنا
فكم دوَّخَ الحبُّ أبطالهُ
…
وَسقَّاهُمُ كأسه قَبلَنا. . .
لقد عَصمَ اللهُ أحلامنا
…
وأتْرعَ من قُدسه كأسنا
وألهمنا كيف نرْعى الهوى
…
ونَبْني على نارِهِ عُشَّنا
ونسخر من هوله كلما
…
تَرامى بِأرزائه حولنا
نَمتْنا على الطُّهر أيامهُ
…
ونَوَّرَ في ظِلِّه عهدنا
وأبصرتُ نبعَ المُنى في القتام
…
فهاتي لي الكأس وامضى بنا. .
3 -
لتحترق الأمهات
إذا كنَّ مثل التي أشعلَتْ
…
ظِلالكِ في الحبَّ دنيا هَجيرْ
وطَنَّتك أُنثى تسيغُ الهوانَ
…
وما أنتِ إلا صفاءٌ ونور
وترْنيمة من شفاه السماءِ
…
شداها ولم يدْر نايُ الدُّهور
وسحريِ وشعري ودنيا هواىَ
…
وسُلوانُ روحي، وخمرُ الشُّعور
فكيف تُنسِّيكِ أهوالُها
…
عِباداتِ قلبي الوفيِّ الكسير!
وكيف التي من ترابٍ وطينٍ
…
تُذِلُّ التي من صَفاءِ العبير!
عفاءً على الحبِّ إن أَوقَفتْ
…
تسابِيحَهُ أُمَّهاتُ الشرور
مُذِلُّ الجبابر بين الورَى
…
وصولجهم بالَّليالي يَدُور
أَتُوقِفُ إعصارَهُ صَخْرَةٌ
…
من الشرِّ بين ظَلامِ القصور!
محمود حسن إسماعيل
في يوم رحيل
للأستاذ العوضي الوكيل
(يا راحلاً وضميرُ القلبِ مثواهُ)
…
لقد قضى بشقائي بعدكَ اللهُ
قد كنت من هذه الساعات في حذر
…
حتى أصابَ فؤادي ما توَّقاه
أطعنةٌ في شغافِ القلبِ موغلةٌ
…
أم ذلك الموتُ يبدو لي محيّاه
العيشُ بعدك بؤسٌ لا نعيمَ بهِ
…
والبعدُ والبؤسُ أمثالٌ وأشباه
إن كان قد سرني في القربِ من رَغَدٍ
…
فسوف تحزنني في البعدِ ذكراه
قلبي - وليس كقلبي في القلوب - غَدَا
…
وخفقُهُ بعدَ هذا البُعْدِ أوَّاه
أوّاه لو تنفعُ المحزونَ أوّاهُ
…
القول بعدك هانت ثم جدْواه
إني وإن كنت في أهلي وفي وطني
…
أنا الغريبُ الذي آدتْهُ بَلواه
سأمانُ ينكرُ دنياهُ ويشنؤها
…
بُغضاً كما نكرته اليوم دنياه
صُمَت مسامعه عن كل هاتفةٍ
…
كما خلت منِ سوَى النائي حناياه
فأين رنّةُ صوتٍ ليس يُشبِهها
…
شيءٌ من الصوتِ: أعلاه وأدناه؟
وأين لمحةُ عينٍ حدِّ ساحرةٍ
…
أحييتْ من الوجد ما كنا نسيناه؟
وأين لفتةُ جيدٍ زانَهُ جَيَدٌ
…
وأين فرْع كغصن البان تيَّاه؟
وأين ما يُفحمُ الأشعارَ واصفةً
…
أكلُّ ذاك نعيمٌ قد حرِمناه؟!
يومُ الرحيل وكم تؤذيك ذكرتُهُ
…
يا قلبُ قد جاَء كالأغوالِ مَرآه
ما أن تفيد الرّقي فيه ولو كثُرَتْ
…
وليس تنفع من ذي البثّ شكواه
الأربعاء. . . اذكروه واذكروا أملاً
…
أصيله كان مثواهُ ومأواه
ما زلتُ أذكره عمري وأكبره
…
وكيف لي - وأنا المشتاق - أنساه؟
هذي سويعاته في النفس خالدةٌ
…
طوباهُ من يوم أنسٍ كانَ، طوباه
اليوم ما زال يدعوكم. . ولو نطقتْ
…
أيام دهري. . . لقد قالت ثناياه
أهلاً بكم ما حللتمْ فيه آونةً
…
ومرحباً ما أَظلّتْكُم عَشاياه
يا راحلين. . فؤادي في ركابِكُم
…
فما له بعدكمُ عزٌّ ولا جَاه
آليتُ ما ليَ في الأيام بَعْدَكُم
…
من مأمَلٍ كان قلبي قد تمناه
فإن ذكرتم فؤاداً بات يذكُركم
…
أرضيْتُمُ حبَّهُ الغالي ونجواهُ
العوضي الوكيل
رجعة
للأستاذ فريد عين شوكة
أَلقيتُ أعباء النَوى عن كاهلي
…
ورحمت نفسي من جَواها القاتل
وسعيتُ شطرك والحنين يدُعُّني
…
دَعَّا إليك، وما له من خاذل!
وحملتُ آلامي وكنتُ حفظتُها
…
لأذيعها لك في اللقاء العاجل
حتى لقيتُك فامَّحي من خاطري
…
ما كنت فيه من العذاب الهائل
وجمدْتُ وانعقد اللسانُ، كأنما
…
أنا في لقائك صورة من (باقل)
يا مستريح البال ليت لمهجتي
…
بعض الذي بك من قرار شامِل
هبْني شذذت! أليس عذري أنني
…
نهبٌ لثوراتي وجمِّ بلابلي؟!
مالي عصيتُك يائساً فهجرْتني
…
عَجْلانَ غير معاتِب أو سائل
غفراً فقد أخطأتُ فيما خلْته
…
يشفى فؤاديَ من هواك الواغل
إني حسبتُ القلب يَّطرح الهوى
…
ويُفيق من خبل الغرام الخابل
فإذا فؤاديَ جذوة مشبوبة
…
طول النوى وإذا لقاؤك شاغلي
وإذا أنا هيمانُ حتى أهتدي
…
بالبدر في ليل البعادِ اللائل
شهرُ حرمتك فيه ذقت به الجوى
…
ناراً تَلظَّى في حشايَ الذابل
ونَزَتْ على قلبي جراحاتُ النوى
…
كالموج ثار على سفينٍ جافل
شهر كأن اليوم من أيامه
…
إن مرَّ يرجعُ فهو ليس براحل
يا طالما سألَتْك فيه رسائل
…
وصْل المحب فلم تصخْ لرسائلي
وغفلتَ عن حزَني وشدة لهفتي
…
ويلُ الشجيّ من الخليِّ الغافل!
سجلْتُ حالك في الخصام وفي الرضى
…
فوقفتُ منك على سجلّ حافل
ترضَى فتعرض لي الحياة بهيج
…
تهفو لفتنتها عيونُ الثاكل
وتذيقني نِعمَ الوصال هنية
…
يا طيب مَنهلها لقلبي الناهل
فإذا غضبْتُ لقيتُ منك معانداً
…
يُعيى بنفرته جميع وسائلي
ومضيتَ لا تُبقي على ما بيننا
…
وقطعتَ من دنياك كل حبائلي
يا من أرى في وصله كل المنى
…
حققْ وصالك للمحب الآمل
لا شيَء في دنيا الصبابةُ يشتهى
…
مثل التمتع بالحبيب الواصل
فريد عين شوكة
رسالة الفن
دراسات في الفن
الفن هو الإنتاج الروحي
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
يقول علماء البلاغة والتربية والمنطق وغيرهم من العلماء الذين يتصدون لدراسة العلوم المتصلة بالفنون أو العلوم التي من فوقها فنون: إن الفن هو التطبيق العملي للقوانين الخاصة بموضوع ما. فإذا كان موضوع البلاغة هو جمال الكلام فإن فن البلاغة هو التطبيق العملي للقوانين التي يحصل الجمال للكلام باتباعها. وإذا كان موضوع التربية هو تنشئة الأحداث على وجه من الصلاح أو على أوجه الصلاح كلها فإن فن التربية هو التطبيق العملي للقوانين التي يتم صلاح الأحداث باتباعها على وجه من الوجوه أو على أوجه الصلاح كلها؛ وإذا كان موضوع المنطق هو ربط الكلام على الحق الصادق حتى يطابقهُ فلا يزيد عليه ولا ينقص عنه ففن المنطق هو التطبيق العملي للقوانين التي يتحقق باتباعها هذا الربط وهذه المطابقة
وبهذا التفصيل وبهذا التيسير أباح العلماء لأنفسهم ولتلاميذهم أن يستضعفوا الفنون وأن يستسهلوها وأن يعدوها، ما داموا قد وجدوا هذا التعريف الذي استنبطوه لها شيئاً، يمكن أن يحققه كل إنسان، وأن يمضي في تحققيه ما شاء له تهاون هذا التعريف الذي يمنع عن الفن ما يلزم لحدوثه، اللهم إلا أن يكون تطبيقاً عملَّيا للقوانين. . . وبهذه الإباحة كثر الكتاب الذين يطبقون قوانين التربية، وكثر المجادلون وتفاقم عدد المحامين الذين يطبقون قوانين المنطق. ومع هذه الكثرة فلا يزال الكتاب المبدعون قليلين، ولا يزال المربون المثقفون نادرين، ولا يزال المجادلون والمحامون الساطعون يعدون في الجيل على أصابع اليد أو على أصابع اليدين
فلو كان الفن حقاً هو التطبيق العملي للقوانين لكان كل من يعرف الطريق إلى هذا التطبيق فناناً كما كان من يعرف الطريق إلى التطبيق الخاصة بالأعداد حاسباً، وكما كان كل من يعرف الطريق إلى تطبيق القوانين الخاصة بعناصر المادة كيميائياً.
ولكن الأمر ليس كذلك. فبعض ما يدرس على الناس في ثوب الفن ليس فناً، وبعض ما يساق إلى الناس مجرداً من ثوب الفن هو في الحقيقة فن. ولا بد أن يكون القارئ قد سمع لحناً من الألحان قال عنه صاحبه ومن يروجون له، إنه موسيقي وجعلوا دليلهم على قولهم أن فيه تطبيقاً عملياً لقوانين الأصوات والأنغام في الوقت الذي لم يستشعر حين سمعه إلا هذا التطبيق العملي وحده لهذه القوانين دون أن يدفع هذا اللحن إلى نفسه عاطفة ينقلها من نفس صائغه، أو خيالاً ينبعث من روحه، ويعبر عن إحساسه وذوقه وذاته. هذا بينما لا بد أن يكون القارئ قد راعه يوماً شراب أو عطر ألفه كيميائي ممن تنفذ نفوسهم وأذواقهم إلى تطبيقهم العملي لقوانين المادة وعناصرها. وكما أنه لا بد أن يكون قد سمع عن نسبة أينشتين، فأحس ما قيل عن غموضها وتعقيدها وتساميها أنها ليست تطبيقاً مجرداً لقوانين الأعداد وإنما هي حسبة فيها شيء من روح أينشتين نفسه لم يصل إليها إلا لأنه يتجه في تطبيقه لقوانين الأعداد اتجاهاً خاصاً به هو، مرجعه إحساسه الذي قاد تفكيره.
فإذا سلمنا بهذا استدعى الإنصاف أن نحكم على ذلك الموسيقي الذي لا يضع في لحنه إلا التطبيق العملي لقوانين الصوت والأنغام بأنه غير فنان. وعلى هذا القياس كان غير فنان كذلك كل من يتصدى لأي فن من الفنون وليس معه إلا ما اكتسبه من معرفة القوانين الخاصة بهذا الفن، ومعرفة طرق تطبيقها. كما أن الإنصاف يستدعي إلى جانب هذا أن نصف بالفن كل من ينتج إنتاجاً فيه من نفسه وذوقه كأينشتين الذي ابتدع النسبية وككل كيميائي يبتدع شراباً أو عطراً فيه من ذوقه.
والنتيجة اللازمة لهذا هي أن ينهار هذا التعريف الذي وضعه علماء البلاغة والتربية والمنطق وأمثالهم للفن. فهو تعريف غير جامع مانع كما يقولون هم، لأنه يسمح للأدعياء بالدخول في زمرة الفنانين، كما أنه يحرم فنانين صادقين من الاستمتاع بحقهم الطبيعي في الإنصاف بالفن بينما هم جديرون بأن يتصفوا به
وما دام هذا التعريف قد انهار فقد لزم أن نبحث عن تعريف آخر نقيمه مقامه ويكون فيه الجمع والمنع اللذان تتطلبهما صحة التعريف
أما أنا فأحب أن يكون تعريف الفن هو هذا العنوان الذي رصدته على رأس هذا الحديث وهو أن الفن هو الإنتاج الروحي. ولست أرى من عيب لهذا التعريف إلا أنه يسمح لكثير
من الأعمال البشرية التي اعتاد الناس ألا يحسبوها بين الفنون بأن تكون فنونا. فهو يسمح للنجارة إذا كان فيها من روح النجار وذوقه الخاص أن تكون فناً، كما يسمح لصيد السمك إذا كان فيه من وسيلة خاصة ترجع إلى ذوق الصياد وتلهمه إياها روحه أن يكون فناً. وهكذا فليس من عيب في هذا التعريف إلا إمكان تعميمه على الأعمال البشرية جميعاً
وقد لا يكره هذا التعميم إلا الفئة الخاصة من الفنانين الذين يبدعون تلك الفنون التي اصطلح الناس على تسميتها فنوناً جميلة. فهؤلاء وحدهم أو بعضهم هم الذين يحبون أن يقتصر الإنصاف بالفن عليهم فلا يكون النجار فناناً، ولا يكون صياد السمك فناناً، ولا يكون أحد من الناس فناناً إلا من كان أديباً أو موسيقياً أو ممثلاً، أو رساماً، أو واحداً من هؤلاء الذين يسبحون في (السموات العلى) لا لشيء إلا اعتادوا التعالي على البشرية بأدبهم وموسيقاهم وتمثيلهم ورسمهم
غير أن هذا في الواقع نوع من الأرستقراطية القاصرة، أو المقصورة يكرهه الفن الصحيح. والفن لا يكرهه لأنه ديمقراطي بطبعه أو لأنه بلشفي، وإنما يكرهه لأنه دون الأرستقراطية التي يحبها لنفسه. فالفن متعصب كل التعصب لأرستقراطية الروح، وهو يفخر بأن ينسب إلى نفسه كل ما انتسب إلى الروح من أعمال البشر، حتى ولو كان نجارة أو صيد سمك، ولكنه يأبى أن ينسب إلى نفسه كل ما خلا من الروح حتى ولو كان لحناً أو شعراً أو رسماً.
والفن في هذا لا يحيد عن الحق. وأشرف للفن أن يحتضن النجارة وصيد السمك متى جمعنا الروح والذوق، من أن يحنو على كلام سخيف منظوم ولكنه ميت، ومن أن يدخل إلى حظيرته ألحاناً روعي فيها أن تكون تطبيقا عملياً لقوانين الصوت والنغم، ولكنها ما تزال جامدة كأنها الصوت ضغط وتركز حتى تحجر!. . .
ولا أظن أهل الفنون الجميلة إلا مقتنعين بهذا الرأي، وما أظنهم بعد اليوم إلا آخذين به، فهم مقربون إليهم كل من تنفذ روحه إلى عمله، وكل من يسري من نفسه إلى عمله لونه الخاص يطبعه ويلونه، فيكون عمله تعبيراً عنه يعرف به. وهم مبعدون عنهم كل أجرد النفس، قاحل الحس، مجدب الروح والشعور، وإن قضى حياته يعزف على الأوتار، أو يسود الصحائف بالحبر.
وقد يعنينا أن يؤمن الفنانون بهذا الرأي مثلما يعنينا أن يؤمن به الجمهور، وأن يأخذ به النقاد أخذاً شديداً، وأن يعدلوا عن قياس الفنون إلا بمقياسه، وأن يشيع قياسهم لبقية الأعمال البشرية بهذا المقياس. فإنهم إذا فعلوا هذا فإنهم سيبرئون الفنون من طفيليات كثيرة تلتصق بها وتدعى النسبة إليها، كما أنهم سيعودون بالحق فيعترفون لكثير من الأعمال البشرية الفياضة بالروح بأنها فنون.
صحيح أنه مقياس قاس، ولكنه في الوقت نفسه مقياس عادل، إذ يرد إلى كثيرين من أصحاب الجهاد الروحي اعتبارهم الإنساني بعد ما ظلوا الأحقاب الطويلة وهم لا يحصون بين الناس إلا على أنهم صناع أو عمال. زد على ذلك أنه سيكشف لنا الأقنعة عن وجوه كثيرة متنكرة: لها أرواح ولها فنون ولكنها تتكلف في الحياة فنوناً غير فنونها فتعيش فيها ميتة بدون أرواح لأن أرواحها منصرفة إلى ما تصبو أليه
وكي يتصور القارئ قسوة هذا المقياس فليطبقه على بعض الأعلام من الذين يقال عنهم في مصر إنهم فنانون
فلنأخذ في الأدب مثلاً الأستاذ أحمد أمين، ولنأخذ في الموسيقى مثلاً الأستاذ محمد عبد الوهاب، ولنأخذ في التمثيل مثلاً الأستاذ جورج أبيض، ولنأخذ في الرسم مثلاً الأستاذ محمد ناجي الذي كان ناظراً لمدرسة الفنون الجميلة العليا إلى عهد قريب
أما الأستاذ أحمد أمين فقد أثبت عليه الدكتور زكي مبارك في مقالاته الأخيرة بالرسالة أنه أستاذ يكتب ولكنه لا يسري من روحه شيء في كتابته، فأنت لا تعرفه حين تقرؤه إذا كان راضياً أو كان غاضباً، وأنت لا تشعر به إلا هادئاً دائماً وفاتراً. وحسبه هدوءاً وفتوراً ما سجل عليه الدكتور زكي مبارك مظهره وهو أنه عاش وقتاً طويلاً في الواحات فلم يعرف الناس انه عاش في الواحات إلا يوم أعلنت هذه الحقيقة الغريبة على صفحات الرسالة في الجدال الأخير. بل حسبه هدوءاً وفتوراً وبعداً بفنه عن الروح أنه كان قاضياً ومع هذا فإنه لم يكتب قصة واحدة من قصص الحياة التي عرضت له وهو في القضاء. وهذا دليل على أنه يعيش في دنيا، ويكتب في دنيا أخرى. وهذا يستدعي واحدة من اثنتين: فإما أن يكون الأستاذ أحمد أمين بروحين يعيش بواحدة ويكتب بالأخرى ولا صلة مطلقاً بين الواحدة والأخرى، وإما أن يكون كما هو الآن متنكراً يعيش ويكتب فلا تعرفه على حقيقته ما عاش
أو كتب
والأستاذ محمد عبد الوهاب لا يخلو له لحن من نص موسيقي يستحسنه في موسيقى سيد درويش أو في الموسيقى الغربية؛ ولا معنى لهذا إلا أن يكون الأستاذ عبد الوهاب عاجزاً عن إطلاق روحه بالتعبير الموسيقي ذي العاطفة أو الخيال على وجه من الحسن يرضيه، أو أنه عاجز عن التعبير الموسيقي أصلاً. فإذا أضفنا إلى اضطرابنا هذا في أمره أنه كثيراً ما يخطئ في التصوير الموسيقي فيصور الفرح بأنغام الحزن، والحماسة بأنغام الخلاعة، والأنين بأنغام الطرب، عزز هذا لدينا سوء الظن به وقادنا هذا إلى الحكم على فنه بأنه مقطوع الصلة بالروح، وإلا كانت روحه مجنونة مختلطة الأحاسيس تضطرب إذ تشعر وإذ تعبر عن شعورها وهو ليس كذلك، وإنما روحه هي المنصرفة إلى شيء آخر غير الإبداع الموسيقي لأنها لم تخلق له. فالأستاذ محمد عبد الوهاب فنان متنكر مثل الأستاذ أحمد أمين
والأستاذ محمد ناجي الذي يقنع في فنه بأن يرسم خطوطاً تشبه ما يراه من الخطوط في الخارج، وأن يصبغها بألوان تشبه ما يراه من الألوان في الخارج - لا يمكن أن يزيد في اعتبار الفن (الرسم) على أنه نقاش أمين - إذا كان أميناً - يغني الفنان الذي يحتاج إلى نسخ كثيرة من الصورة الواحدة على آلة من آلات الطباعة، زد على ذلك أنه يحتاج دائماً إلى شرح صوره بكلام وإشارات يتقنها أكثر مما يتقن التصوير، ويصل بها إلى إقناع جمهوره الذي يدعوه إلى مشاهدة صوره أو الذي يبيع له صوره، بجمال هذه الصور وروعتها، إذ يقعد هذا الجمهور عن إدراك هذا الجمال إذا اكتفى بالنظر إلى هذه الصور. فالأستاذ ناجي هو أيضاً مثل صاحبيه فنان متنكر: يحترف شيئاً لا يتقنه، ولا يتقن شيئاً لا يحترفه
أما الأستاذ جورج أبيض الذي لم يتقن إلى اليوم إلا الأدوار الثلاثة أو الأربعة التي تعلمها أيام كان طالب بعثة التمثيل المصرية في باريس وهي عطيل ولويس الحادي عشر والملك لير ومضحك الملك فيما أظن، وقد أتقنها جميعاً بالأسلوب الفرنسي التلحيني الذي تعلمه في فرنسا والذي يصرخ في مشاهديه بين كلمة وأخرى، وبين كل حرف وآخر بأنه تمثيل ليس فيه من الطبيعة ولا حتى من التطبع شيء. . . الأستاذ جورج أبيض الذي انحصر فنه في هذا وحده يحرجنا كثيراً إذا طالبنا بأن نعترف له بأنه فنان فيه روح نافذة معبرة. . .
تظهر في تمثيله. . .
وقد يسألنا سائل كيف نجح هؤلاء الأساتذة في حياتهم على الرغم مما تنكره عليهم جميعاً من صلة فنونهم بأرواحهم. ونحن نجيب عن هذا بأن ثلاثتهم: أحمد أمين ومحمد عبد الوهاب ومحمد ناجي قد نجحوا لأن لهم أرواحاً تسري في أعمالهم ولكن من طريق التجارة والإعلان لا من طريق الفن، وعلى هذا الأساس يتحقق رأينا ويصبح هؤلاء السادة الأفاضل فنانين تجاراً معلنين، وإن كانوا فنانين في هذه الفنون الجميلة التي تصدوا لها، والتي عرفهم بها الناس
أما سر نجاح الأستاذ جورج أبيض فلا شك أنه رضاء الله عنه، فهو رجل طيب ما كان الله إلا ليجبر خاطره.
وأخيراً، فهكذا يقسو مقياسنا، ولكنه هكذا يرحم حتى هؤلاء إذ يعتبر كلا منهم فناناً فيما يسر له. . .
عزيز أحمد فهمي
رسالة العلم
من الذرة إلى الألكترون
الكهرباء كالمادة ظاهرة ذرية
للدكتور محمد محمود غالي
تتبع الكهرباء التطورات ذاتها التي تتبعها المادة - الكهرباء تركيب ذري شبيه بالتركيب الذري للمادة - التحليل الكهربائي وقانونه لكاشفه (فراداي) أول دليل على التركيب الذري أو الحبيبي للكهرباء - الأشعة الكاثودية دليل ثان على هذا التركيب الحبيبي - نظرة للإلكترونات المهاجرة والمكونة للأشعة الكاثودية - تكبر ذرة الهيدروجين الإلكترون الذي يدور فيها أكثر ما تكبر الشمس المشتري الذي يدور حولها.
تُرى هذه الرمال الفسيحة، وهذا الخلاء الشاسع والسكون الرهيب، تُرى هذا القمر الساطع والمُشتري يتألق في الفضاء، والمرِّيخ تراه في هذه الليلة من السنة في أقرب مكان لجارته الأرض - تُرى في هذه الصحراء المجاورة لمصيف (سيدي بشر) بعيداً عن الضوضاء نستطيع أن نطلع القارئ على موضوع يُعد من أهم ما قدمه العلماء في السنين الأخيرة؟ - هذا الموضوع خاص بالتعرف على الإلكترون بعد أن تعرفنا على الذرة وهو من المكونات الأساسية في الذرة ومنه يتكون التيار الكهربائي.
كانت السنون تتتابع والاختراعات تتوالى، والاكتشافات آخذت طريقها في الازدياد، ولا يدري أحد ما يخبئه الغد من مفاجآت علمية، وما يحمله القدر في طياته من تطورات يتوقف عليها مستقبل الإنسان - تُرى ما بداخل الذرة؟ - هذا العالم الصغير الذي حدثنا القارئ أنه من الضآلة بحيث أن النسبة بينه وبين كرة من الصلب يبلغ قطرها حوالي 3. 5 سنتميترات كالنسبة بين حجم هذه الكرة والكرة الأرضية
أو يَسْبَحُ في هذا العالم المتناهي في الصغر عوالم أصغر منه، عوالم يسميها العلماء اليوم الكترونات؟ - أو تسبح هذه الإلكترونات تارة حرة طليقة في المادة أو في الفضاء بسرعة عجيبة هي سرعة الضوء وطوراً تسبح دائرة ومقيدة حول نواة وسطى في الذرة وتكون مع النواة الذرات السابقة الذكر، وهل توجد ظواهر طبيعية تدلنا على هذه العوالم الجديدة
المتناهية في الصغر - كل هذا نود لو نعرفه ونود أن نعرف المناسبات التي استدل بها العلماء على هذا التحليل الجديد للمادة. هذا التحليل الذي يذهب بنا بعيداً عن حدود الذرة ويدخل بنا فيها
لقد تكلمنا عن الزمن الذي يمر علينا وتتعين بمروره الحوادث وتكلمنا عن الحيز أي الفضاء الذي تحدث فيه هذه الحوادث، وشرحنا ما يفهمه العلماء من المادة وكيف تنقسم إلى عناصر وكيف تتكون العناصر من الذرات المختلفة، وحسبي أن الشخص العادي يدرك أن هناك ظواهر عجيبة تختلف عن المادة، من بينها ظاهرة الكهرباء، ويدرك أن ثمة فارقاً كبيراً بين أسلاك الترام المرفوعة على أعمدة في شوارع العاصمة معتبرة مادة مصنوعة من النحاس وبين الأسلاك ذاتها بعد مرور التيار الكهربائي فيها - كلنا يسمع عن ظاهرة الكهرباء ولا يراها، كلنا يعرف أنه يكفي مرور هذا التيار الذي لا نراه في الأسلاك المرفوعة لتسير مركبات الترام من محطة إلى أخرى - كلنا يعرف أن الكهرباء ظاهرة تختلف عن المادة وإن ظهرت فيها
ومن العجيب أن تتبع الكهرباء في تطوراتها الطريق ذاته الذي تبعته المادة، إذ تنتهي هي أيضاً بالذرية الكهربائية كما تنتهي المادة بالذرية المادية، وقد استترت الكهرباء بادئ الأمر وراء نوع من الظواهر المستمرة والمنتظمة، وهو الوضع الظاهر الذي يبدو لنا في مختلف الظواهر الكهربائية، ومع ذلك فقد انتصرت في نهاية الأمر فكرة التركيب الأتومي أي الذري للكهرباء كمل انتصرت قبل ذلك الفكرة ذاتها في كل ما يُكَوِّن المادة في الكون
على أنه كان من الصعب تصور هذا التركيب الذري في حالة الكهرباء إذ لو جاز لنا أن نتصور للمادة تركيباً حبيبياً، كل حبة مستقلة ومماثلة للأخرى فإنه لا يجوز لنا بسهولة أن نذهب إلى تعميم هذه الحالة ذاتها في الكهرباء فنفرض لها تركيباً حبيبياً مماثلاً للتركيب المادي ونفرض بذلك ذرة كهربائية لا يمكن تجزئتها فإن الأمر الأخير يبدو غريباً ويتطلب منا براهين قوية على وجوده. ذلك لأننا نتصور الكهرباء في العادة حالة طارئة على الجسم أكثر ما نتصورها جسيمات تجري في أنحائه، بل إننا نتصورها مجموعة من القوى أكثر مما نتصورها مادة في الوجود، ومع كل ما تقدم ومع مخالفة حقيقة الكهرباء لخيالنا وتصوراتنا فإن الفكرة المادية للكهرباء قد ثبتت أخيراً ونجحت نجاحاً لا يمكن أن يضعها
أحد العلماء اليوم بسهولة محل الشك ولا يمكن أن يبعدها عن حظيرة اليقين.
لننتقل بالقارئ إلى إثبات الفكرة الذرية للكهرباء:
لقد كان الدليل الأول على وجود الذرة الكهربائية التي أسماها العلماء الإلكترون في قوانين (الإلكتروليس) وهي القوانين التي تخص انتقال الكهرباء في السوائل، هذا الانتقال المرتبط بتحليل كيميائي يقع في هذه المواد الموضوعة في السائل
نذكر أن فراداي الإنجليزي هو الذي كشف القانون الأساسي في هذه الموضوع والذي يتلخص في أن كمية من أي مادة تتحلل كهربائياً ترتبط بعلاقة بسيطة مع قدر التيار الكهربائي ومع الوزن الذري للجسم الموضوع في السائل، بحيث إذا أرسلنا تياراً كهربائيا معينا في محاليل مختلفة فنرسل التيار مرة لنحصل على عنصر معين، ونرسل التيار ذاته مرة أخرى للحصول على عنصر آخر فإننا نحصل على التوالي على العنصرين بواسطة هذا التيار الكهربائي بكميات مختلفة ولكنها بالنسب التي تعينها المعادلات الكيميائية لهذه العناصر في جزئيات المحاليل الموجودة فيها
ولم يكن ثمة تفسير لهذه الحالة ولارتباط التحليل الكهربائي بالوزن الذري إلا أن كل ذرة من ذرات العناصر المختلفة تحوي عدداً معيناً من الوحدات الكهربائية وأن الكهرباء وحدات مستقلة غير متصلة كما أن المادة وحدات مستقلة ومنفصلة
وعلى هذا لا تتوزع الكهرباء بكميات اختيارية في الأجسام بل إن كل ذرة مادية تحوي عدداً معيناً من الوحدات الكهربائية فهي تحوي واحدة أو اثنتين أو خمسين مثلاً أي عدد كاملاً ليس به كسور الوحدة المعتبرة شخصية لا تستطيع الوجود في المكان والزمان إلا كاملة. إنك تستطيع أن تدعو عدداً معيناً من الأصدقاء لتناول الغداء فتستطيع أن تجمع على مائدتك سبعة منهم أو ثمانية أو أكثر، بحيث إذا أردت أن تزيد عدد المدعوين فإن أقل ما تستطيعه أن تزيدهم فرداً واحداً ما دمنا نتكلم عن أصدقاء أحياء يسعون إليك بدعوة منك؛ وليس لك أن تفكر أن تدعو من الأصدقاء أكثر من السبعة وأقل من الثمانية فإن هذا غير موجود فالأصدقاء لا توجد إلا بالواحد وليس بجزء منه. كذلك اتجهت الفكرة في الكهرباء أنها لا توجد أو تزيد إلا بالوحدة الكهربائية التي لا تتجزأ بحيث اتجهت الفكرة في بادئ المر بأنه ليس هناك حالة كهربائية بل أن ثمة ذرات كهربائية تشبه الذرات المادية موجودة
في الذرات المادية أوعليها. ولقد لفت النظر إلى هذه الحقيقة (هلمولتز) في سنة 1881 وهو الطبيب الفيسيولوجي الألماني الذي منحته جامعة برلين كرسياً في الطبيعة سنة 1871 والذي رفعته أعماله في الضوء والكهرباء والصوت إلى مصاف علماء القرن التاسع عشر.
ويسمون (يون) وفق النطق الفرنسي أو (أيون) وفق النطق الإنجليزي وتكتب في اللغتين الذرة محملة بالكهرباء أو مجموعة معقدة من الذرات مجتمعة ومحملة أيضاً بعدد من الوحدات الكهربائية ويتكون (اليون) بانقسام أو تقطيع أوصال جزيء غير مشحون بالكهرباء فمثلاً تتحلل سلفات ذرات من النحاس محملة بالكهربائية الموجبة وبقايا من الكبريت والأوكسجين محملة بالكهربائية السالبة وتسمى الأولى باليونات الموجبة والثانية بالسالبة، ويحمل اليون الواحد ذرة واحدة أو أكثر من الذرات الكهربائية
وقد درس (لانجفان) العالم الفرنسي الذي انتخب أخيراً عضواً في المجمع العلمي الفرنسي ما نسميه اليونات الكبيرة واليونات الصغيرة وأتم في هذا دراسة معروفة قام بها منذ أعوام في أعلى برج (إيفيل) في باريس حيث نعرف أن هذا العالم الدائب اليوم في العمل للاشتراكية والمسائل الاجتماعية العامة، قضى نحو ستة أشهر في أعلى البرج للقيام بهذا البحث الذي يحمل اليوم اسمه والذي يذكرنا بدراسة (مارسيل بريلوان) لدراسة كروية الأرض بطرق ضوئية مدى أشهر طويلة في ست غرف موزعة في نفق سامبلون المعروف
وشأن الكثير من مجموع المعارف التي تكون ميراثنا العلمي اليوم لم يقف البرهان على هذه الحالة الذرية للكهرباء عند قوانين (الألكتروليس) المتقدمة والعلاقة بين الوزن الذري للعناصر وبين شحنتها الكهربائية عند ما نعمد إلى تحليلها كهربائياً، وإنما وجدت الفكرة الذرية الكهربائية برهاناً جديداً من طريق يختلف كل الاختلاف عن طريق التحليل الكهربائي المتقدم الذكر، ذلك أنه أمكن للباحثين فصل الكهرباء عن المادة التي تحملها، وبهذا أمكن البرهنة على أن الكهرباء مادة مستقلة في الحيز وأن لها صوراً منفردة في الفضاء. وإلى القارئ كيف توصل العلماء إلى ذلك:
عندما يحدث تفريغ كهربائي داخل (أمبول) مفرغ من الهواء وهو غلاف زجاجي كالغلاف
المكوّن للمصابيح الكهربائية فإنه يتكون داخل (الأمبول) بثق من الضوء ضعيف وملون، وهذا الضوء ناتج من تصادم الألكترونات مع جزيئات الهواء المتبقي داخل (الأمبول) بعد تفريغها عند انتقال الإلكترونات السريعة من القطب الموجب داخل (الأمبول) إلى القطب السالب، بحيث يظهر أثر هذا التصادم القوي بهذه الإضاءة. ولو أننا عمدنا إلى تفريغ ما بداخل الغلاف الزجاجي من هواء فإن هذا الضوء يتضاءل لقلة عدد جزئيات الهواء التي تتصادم مع الإلكترونات المقذوفة ويبدأ أن يكون للغلاف الزجاجي لون أخضر تحت تأثير هذا القذف الألكتروني، وهذا اللون الأخضر حادث من تصادم هذه الإلكترونات مع جزيئات الزجاج. وتتضح هذه الحقيقة بأننا لو وضعنا أي جسم داخل الغلاف الزجاجي في طريق هذه الإلكترونات وليكن حلقة معدنية مثلاً فإن صورة هذه الحلقة ترتسم على الزجاج وسط اللون الأخضر. وتعين الصورة المواضع التي غابت عنها الصدمات بحكم الجسم الذي وضعناه في الطريق، ويمكن الاستدلال أيضاً على اتجاه هذه الإلكترونات ومسار هذه الأشعة الإلكترونية التي ثبت أنها تسير من القطب السالب إلى القطب الموجب، وقد أسمى العلماء هذا السيل من الإلكترونات الأشعة الكاثودي نسبة إلى القطب السالب الذي يسمى الكاثود
هنا تساءل العلماء عما إذا كانت هذه الأشعة داخل (الأمبول) أشعة موجبة أو أشعة ولقد ثبت أنها أشعة حبيْبيّة أي جسيْميَّة، إذا قَّربنا مغناطيسياً من الأمبول فإن هذه الأشعة تنحرف عن طريقها تبع وضع المغناطيس. ويبدو لنا ذلك من انتقال البقعة الخضراء على الغلاف الزجاجي، وفي هذا دليل على أن الأشعة مكونة من جسيمات صغيرة يتجاذبها المغناطيس في مواضعه المختلفة الذي نعلم أنه لا يؤثر إطلاقاً على الموجات الكهربائية. ويقول ريشنباخ في كتابه (الأتوم) الذي ترجمه للفرنسية موريس إن هذه الكهرباء المادية جسيمات مهاجرة وإن التيار الكهربائي يُمثل مجموعة من الأفراد المهاجرين من قطب إلى قطب
وبالطريقة ذاتها التي يؤثر بها المجال المغناطيسي على هذه الأجسام المهاجرة يؤثر أيضاً المجال الكهربائي على طريقها، وقد وضع الباحثون كفتين معدنيتين في طرفي (الأمبول) بينهما فارق في الضغط الكهربائي، ولاحظوا انحراف الأشعة الكاثودية بنفس الطريقة التي
تنحرف فيها عند وجود مجال مغناطيسي ويزداد هذا الانحراف مع القوة الكهربائية المستعملة ولقد وجد العلماء في قياس درجة هذا الانحراف طريقة لقياس كتلة الألكترون أي كتلة واحدة من بلايين البلايين الأفراد المهاجرة، ذلك أنه يمكن معرفة القوة الجاذبية من معرفة شدة المجال الكهربائي أو المجال المغناطيسي كما أنه يمكن معرفة الشحنة الكهربائية لأحد هذه الإلكترونات، وذلك بالالتجاء إلى تجارب أخرى وعدنا القارئ بشرحها قريباً عندما نتحدث عن تجارب (بيران) الفرنسي (ومليكان) الأمريكي، ومن الجلي أن يدرك القارئ أن بهذه المعارف يمكن التوصل لمعرفة كتلة الإلكترون، لأن ثمة علاقة سهلة بين كتلة الجسيم وبين الدرجة التي ينحرف بها في مجال معروفة قوية.
وقد توصل الباحثون لحساب هذه الكتلة فوجدوا أنها حوالي
12000 من كتلة أخف ما نعرفه من الذرات، وهي ذرة
الهيدروجين. وبناء على ما تقدم فالإلكترونات جسيمات تصغر
كثيراً جميع الذرات الكيميائية المعروفة، وقد توصل العلماء
أيضاً إلى معرفة شحنة الإلكترون وهي تمثل كمية الكهرباء
تيار مقداره واحد على عشرة آلاف مليون من المللي أمبير
يستمر مروره مدة واحدة على مليون من الثانية.
وتذكرنا النسبة الخاصة بكتلة الإلكترون وكتلة نواة ذرة الهيدروجين النسبة بين كتلة الشمس وكتلة الكواكب الكبيرة التي تسير حولها، إذ تبلغ كتلة الشمس 1050 مرة تقريباً كتلة المشتري أما النسبة بين كتلة الشمس وكتلة إيرانوس وهو الكوكب التالي في الكبر للمشتري فتبلغ 3500 تقريباً، وعليه فإن كوكباً فرضياً يكون أصغر كتلة من المشتري وأكبر من إيرانوس، وتوازي كتلته كتلة الأرض 167 مرة تقريباً، تمثل النسبة بين كتلته وبين كتلة الشمس النسبة بين كتلة الإلكترون الحائر داخل ذرة الهيدروجين وكتلة هذه الذرة
ولا شك عندي أن ثمة شموساً غير شمسنا وكواكب أخرى غير كواكبها توجد فيها هذه
النسبة صحيحة فإن قوانين المصادفة وتعدد الشموس وإمكان اقتراب بعضها من بعض وطول الزمن يحتم علينا أن نقبل وجود هذه النسبة في الكون. ومن يدري فربما يكون لهذه النسبة علاقة بالخليقة والوجود. . .
هذا الإلكترون الحائر، هذا الكوكب الصغير بالنسبة إلى الذرة لا يكفي في الكلام عنه هذه الأسطر التي نعتبرها مقدمة لموضوعه ودليلاً على وجوده. هذا الموضوع سنتناوله مع القارئ، ونأمل أن يساعدنا هذا السكون بعيداً عن الضوضاء على تتبعه
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة
من هنا ومن هناك
هل تقضي الحرب القادمة على المدنية؟
(عن مقال للكاتب العالمي (ج. ب بريستلي))
طالما تردد على أسماعنا أن العالم إذا ابتلى بحرب عالمية جديدة فمعنى هذه الحرب القضاء على المدنية. وقد يبدو هذا الكلام صحيحاً، وقد ينفعنا لتذكير بعض الناس بأن الحرب لم تعد ذلك الحادث الخيالي الذي يسمعون به من بعيد. ولكن هذا القول في الحقيقة لا يحمل نصيباً من الصحة. وهو في نظري قول بعيد كل البعد عن الصواب، فأنا لا أستطيع أن أتصور أن العالم أجمع يتفانى في هذه الحرب
فمن المحتمل كثيراً إذا وقعت الحرب أن تترك ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا للخراب والإفلاس. ولكن من الخطأ أن نظن المدنية متاعاً موروثاً لتلك الدول فيقضي عليها إذا حل بها الدمار. فهذا قول ظاهر البطلان
إنني أرى مجرى المدنية يتحول عن أوربا الغربية. وأتوقع أنه إذا جاء مؤرخ بعد بضع مئات من السنين ليؤرخ هذه الفترة من الزمن، ويسجل التقدم الذي أحرزه العالم فيها سوف لا يقول إذن ماذا كانت تفعل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا
إنني أعتقد أنه سوف يرى بغير غموض أن حركة التقدم التي شملت العالم الحديث في هذا القرن، قد انتقلت من الأمم المعروفة بالأمم الصغيرة في هذا العصر إلى الأمم العظمى، ومن سكان الجزر الصغيرة إلى سكان القارات والممالك الكبيرة
ولمعرفة ذلك يجب ألا ننظر إلى ما تم وانتهى ولكن إلى ما يتم. مما لاشك فيه أن انتشار التعليم من أقوى الدلائل على هذه المدنية الجديدة. فحيثما يحل العلم محل الجهل، تقوم دعائم المدنية
إنني حينما أسمع كلمة انتهاء المدنية يتجه نظري حول العالم أجمع فأتذكر تلك الجامعات والكليات التي عمرت بها أوربا الوسطى وقد كنت أحاضر بها في الخريف الحالي. كم من أمثال هذه الجامعات في العالم؟!
قد يكون من السهل نقد نظام التعليم في تلك الجامعات التي أشير إليها. وقد نستطيع أن نقول إنه سيمضي زمن طويل حتى تكون كجامعات كمبردج واكسفورد وقد نجد الحجة
أمامنا في ضعف المواد التي تدرس بها وعدم وصول طلابها إلى الدرجات العليا في التعليم
ولكننا إذا نظرنا إلى ماضيها المجدب وقسناه على تقدمها المحسوس نحو المدنية والرقي عرفنا كيف تأتي هذه الأمم بالمعجزات
إنني أجيل النظر حول العالم كما قدمت فأذكر الصين مثلاً وقد أنشئت فيها الجامعات وانتشرت في بلاد لا يكاد يسمع باسمها الإنسان. وإذا كانت اليابان قد دمرت بعضها في غزوها فإن تلك الجامعات تشاد في أماكن أخرى بعيدة عن أماكنها السابقة ولو أدى الأمر إلى بنائها وسط الكهوف والأحراج
وهكذا أصم أذني حينما أسمع كلمة الحرب وانتهاء المدنية. فهذا تشاؤم لا مبرر له ووهم لا أساس له من الحقيقة. إن المدنية تسير في طريقها. وهو على كل حال طريق ليس من السهل على القذائف والمدمرات أن تناله بسوء
الهند الطموح
(عن مقال للزعيم الهندي (جوهر لال نهرو))
إذا كانت الوطنية هي التي خلقت الأمم الأوربية منذ مائة سنة أو أكثر، وهي التي أقامت الدعائم للمدنية التي يكاد بناؤها أن ينهار في السنين الأخيرة، فمما لاشك فيه أن الوطنية هي القوة التي تحفز الأمم الشرقية التي تئن تحت نير الحكم الأجنبي للسعي وراء الحرية في هذه الأيام فألفت بين القلوب أبنائها وشدت من عزائمها وأطلقت روحها الحبيسة من عقالها، وتلك ناحية سامية في حياة تلك الأمم، تضيف نجاحاً جديداً إلى النجاح الذي نالته الحرية في تاريخ الإنسانية. ألا أنها على الرغم من ذلك لم تستطع الخروج بها عن تلك الدائرة الضيقة، إذ أن انشغال الأمم بالسعي وراء حريتها لا يترك لديها مجالاً للتفكير في شيء آخر، ولم تستثن الهند من هذه القاعدة. فالهند في كفاحها قد نسيت العالم برهة من الزمن ولم تفكر في غير شأنها. إلا أن القوة التي أحرزتها، والثقة التي أحياها النجاح في نفوس أبنائها، قد جعلتاها تفكر في دائرة أوسع وأعم
إن غزو اليابان لمنشوريا قد أوجد شيئاً من العطف على الصين، كما أن اغتصاب إيطاليا للحبشة قوبل باستياء شديد، كذلك المأساة التي حلت بوسط أوربا قد قابلها العالم بالأسف
العميق، ونحن لطول تجاربنا للإمبراطورية البريطانية، لم نصدق شيئاً من وعودها للأمم الضعيفة، ولم نثق بمعاونتها في عصبة الأمم، لذلك كنا نتتبع سياستها الخارجية باهتمام، وقد أصبحت معارضتنا لنفوذ الإمبراطورية البريطانية جزءاً من سياستنا التي تعارض كل نفوذ إمبراطوري أو فاشي في أنحاء العالم
لذلك كانت بعثتنا إلى الصين، والمؤنة التي أرسلناها إلى أسبانيا باسم الهند، من الطرق التي اتخذناها لنبين سياستنا الخارجية، واستقلالنا بها عن بريطانيا. وأكثر من ذلك فقد اطرحنا جانب التفكير في أي مساعدة حربية إذا ثارت الحرب. أن الشعب الهندي وحده هو الذي سيقول إذا كانت الهند تدخل الحرب أولا تدخلها. وأي إرادة تملي عليه من الحكومة البريطانية ستقابل بالرفض. يجب علينا أن نقرر سياستنا الخارجية بأنفسنا، وكذلك سياستنا المالية والحربية، ولنا الحرية التامة في الارتباط بالأمم الأخرى
إن سلطان الإمبراطورية البريطانية يتلاشى أمام أعيننا، وليس لديها إزاء الهند غير طريقين: الطريق الطبيعي والمنطقي الذي يلزمها بالتنازل للهند عن حقها في تقرير مصيرها على قاعدة الحرية التامة وإلغاء المجلس الذي أقيم ليمثل إرادتها المطلقة
والطريق الآخر هو الذي تستطيع الهند أن تملي فيه أحكامها القاسية عليها حيث تصطدم بالوطنية الهندية. وإذا كان هذا الطريق سيؤخر حريتنا قليلاً إلا أنه مما لا شك فيه أنه سيؤدي إليها ويظهرنا على أمور لم تكن في الحسبان. من أجل ذلك نرى الحكومة البريطانية تتجنب مع الهند أي حركة من شأنها أن تدعو إلى العنف
إنها قد ترحب باتفاق ودي مع الوطنية الهندية يكون نتيجة إقامة المجلس الوطني، ولكن ذلك سيؤدي بلا شك إلى الطريق الذي ابتدأت منه، وذلك ما تخشاه
البريد الأدبي
حماية الملكية الأدبية
عنيت وزارة التجارة والصناعة بوضع تشريع لحماية الملكية الأدبية في مصر، إلى جانب ما أخذت في وضعه من تشريعات أخرى لحماية براءات الاختراع، وحماية الملكيات الفنية والموسيقية وغير ذلك مما تنتظم معه حياة استغلال المواهب، وتستقر به حقوق المؤلفين والمبتكرين.
وقد انتهت إدارة التشريع بوزارة التجارة من وضع أساس هذا التشريع وعرضته على معالي وزير التجارة توطئة لاتخاذ الإجراءات الخاصة بإصداره
وقد رؤي أن يشتمل هذا القانون على مادة خاصة بحماية حقوق المؤلفين الأجانب، أملاً في أن يمهد ذلك لاشتراك مصر في الجمعية الدولية لحماية حقوق المؤلفين، فيحفظ للمؤلفين المصريين عن طريقها حقوقهم في مؤلفاتهم في البلدان الأخرى.
مغالطة
قلت في الرسالة (العدد 314، باب رسالة النقد) إن هذا الكتاب: (مجموعة محاضرات دُرْكايمْ) لا وجود. وهي (المجموعة) التي استند إليها الأستاذ إسماعيل أحمد أدهم فذكر عدداً من صفحاتها (أجل!) رجاوة أن يدل على أنه قرأ فيها هذا التعبير ثم عاد الأستاذ أدهم (الرسالة العدد 317) يقول - غير هيَّاب -: إن هذه المجموعة موجودة وهي تحمل التي طبعت للمرة الأولى عام 1895، فمن المجموعة (كذا!) الاجتماعية لمكتبة بباريس على أنها ' ثن زاد فقال:(والنسخة التي (يريد: بين) أيدينا (يريد: يدينا) هي الترجمة الإنجليزية وفيها العبارة مترجمة والترجمة بقلم. . وراجعنا اليوم نسخة من طبعة عام 1912 في الفرنسية، والعبارة وجدناها (يريد: ووجدنا العبارة) ترددت أكثر من مرة (يريد: غير مرةّ)). اهـ كلام أدهم
والرد الواضح على هذا أن ترجمة عنوان الكتاب وما هو بمجموعة كما يدعى الأستاذ أدهم، فقد قرأته على أساتذتي في السربون غير مرة) هي: قواعد (أو أصول) المنهج الاجتماعي (أي منهج علم الاجتماع). فأين تعبير (مجموعة محاضرات)؟ وترجمة هذا التعبير الأخير:
وإن زاغ الأستاذ ادهم فذهب إلى أنه ترجم العنوان الشامل وهو ' (وماهو بعنوان الكتاب المذكور قبلُ) فترجمة هذا العنوان الأخير هي: أعمال (السنة الاجتماعية)(وهي مجلّة). فأين تعبير: (مجموعة محاضرات. . .)؟
وهذا يدل على أحد أمرين كما قلت في مقالي السابق: فإما أن الأستاذ أدهم لا يحسن النقل من الفرنسية إلى العربية لرّقة معرفته باللغة الفرنسية، وإما أنه يبتدع المصادر على سبيل التهويل. وله أن يختار أحد الأمرين، وأنصح له أن يختار الأول فهو أهون شراً
ومن ذلك كله يتبين أن الأستاذ أدهم يحسن الإيهام من طريق المغالطة. وهو ممن لا يخشى أن يستكره الحجج على مواضعها فيجتلبها اجتلاباً. ثم إنه ممن ينحرف إلى ارتجال المصادر ارتجالاً؛ وقد بينت ذلك في المقال السابق من الرسالة وفي مقتطف أغسطس. ولم أنسى أن الأستاذ أدهم استند إلى الإصحاح الرابع عشر من سِفر دانيال (العهد القديم) وكل السفر اثنا عشر إصحاحاً، وأنه استند إلى الجزء الثالث من (الفهرست) لابن النديم، على حين أنه يقع في جزء واحد؛ ولعل القارئ لم ينس ذلك (راجع الرسالة العدد 314).
وبعد، فإني لم أكتب هذه الكلمة، متعقباً فيها قولاً للأستاذ أدهم (وقد والله سئمتُ تعقب أقواله كلها)، إلا ليعلمَ أني لا أزال أعده أجنبياً عن العلم الصرف، بعيداً عن مطارح الثقة والدقة. فليتروّ وليتحرّز قبل الكتابة وليفطن إلى أن في مصر وفيمن غاب عنها لأجلِ من له بالمرصاد، مهما لوَّي قلمه وكابر.
ولعله يقول إن هذا التعقيب (شكلي)، وهو قول طالما يفزع إليه ويستغيث به. فالذي أعرفه أن الدقة والأمانة في تدوين المصادر مما يعظم شأنه في جامعات فرنسة وإنجلترا وألمانية وإيطالية ومصر! وأما علمي بما يجري في جامعة موسكو - حيث تلقى الأستاذ أدهم صنوف العلوم، كما جاء في مجلة الحديث الحلبية - فجدّ قليل.
(تلال الفوج - فرنسة)
بشر فارس
حول نعيم الجنة
شددنا النكير على الدكتور زكي مبارك لقوله: (اشغلني عنك يا رباه، بما سيكون في الجنة
من أطايب النعيم) فكتب يقول: إنه لم يقل هذا وإنما قال: (اشغلني عنك، يا رباه، بما في الجنة من أطايب النعيم فإن بصري أضعف من أن يواجه نورك الوهاج) وزعم أننا حذفنا شطراً من كلامه ليجوز أن نقول عن شطر (فهل رؤى سوء أدب وسوء فهم للدين كالسوءين المتجسمين في دعاء زكي مبارك هذا؟)، في حين أن عباراته بشطريها (غاية الغايات في الإيمان بعظمة الله ذي العزة والجبروت)؛ هذا هو دفاع زكي مبارك. فهل يجد الدكتور زكي مبارك حين يقول هذا؟ وهل في الحق أن الجملة التي لم نذكرها ذلك الأثر الإكسيري في الجملة التي ذكرناها فتقبلها من غاية الغايات في سوء الأدب وسوء الفهم للدين إلى غاية الغايات في الإيمان بعظمة الله ذي العزة والجبروت؟
لننظر أولاً إلى غايات زكي مبارك في تعظيم الله والثناء عليه: إن بصر زكي مبارك (على حِدَّته) - كما يقول في رده - أضعف من أن يواجه نور الله (الوهاج) أهذا ثناء على الله أم على بصر زكي مبارك؟ وتعظيم لله أم تعظيم لزكي مبارك؟ إن بصر زكي مبارك أضعف من أن يواجه نور بعض ما خلق الله. فلو أطال التحديق في الشمس ضحىً لعمى؛ بل لو حدق في القوس الكهربائي لَكلَّ. فهل بلغت الغفلة بزكي مبارك أن يرى ثناء على الله ما لو أثنى به على بعض مخلوقاته لكان تقصيراً في الثناء، فضلاً عن أن يراه غاية الغايات في الإيمان بعظمة الله؟
ثم وصْف (الوهاج) في دعاء هذا الصوفي الذي لا يدرك معاني دعائه غير صفوة المؤمنين، ما معناه وما مغزاه حين يصف به نور الله سبحانه؟ إن الكلمة في اللغة توصف بها الأجسام المتألقة اشتعالاً، وقد وصف الله بها الشمس في سورة النبأ كما يعرف كل إنسان. فكيف غاب عن الدكتور المتصوف أن وصفاً كهذا - فيه من التكييف ما فيه - لا يليق أن يوصف به نور الله سبحانه؟ سيلجأ الدكتور إلى المجاز يلتمس فيه محملاً. فليلجأ، وليخبرنا على أي محمل يمكن أن يحمل هذا اللفظ حين يصف به نور الله رجل يرى أن دعوى النظر إلى الله أعرض من الصحراء
الواقع أننا هممنا حين كتبنا أول مرة أن نجعل هذه الجملة التي يدَّرِيء بها الدكتور الآن هي أيضاً موضع نقد ولوم لولا أننا آثرنا أن ندع ما جاء منه على أي حال في صيغة ثناء، وأن نقصر الكتابة على ما لا يمكن أن يتصور فيه عذر مما جاء في صدر ذلك الدعاء
على أننا سنفرض أن ليس في ثناء زكي كبارك هذا ما يمكن أن يكون موضع مؤاخذة أو استدراك، فما علاقة كلال بصره عن نور الله بما جاء في صدر دعائه من طلب الانشغال عن الله؟ أبلغت الدراسات الفلسفية بالدكتور زكي مبارك أن يرى أن ليس لما وراء البصر في عبادة الله مذهب، فإذا لم يستطع أن يبصر فلينصرف عن الله وليشتغل عنه بنعيم الجنة؟ أهذا هو حاله الذي تسامى إليه في (التصوف الإسلامي)؟ وهل معنى رؤية الله عنده في نعمة المشكورة الاشتغال بتلك النعم عن الله؟ أم هل في منطق فلسفته أن المؤمن بعظمة الله وجبروته يستطيع أن يجترئ على الله ذي العزة والجبروت فيسأله عن نفسه سبحانه بنعيم الجنة لأي سبب من الأسباب؟
لا. ليس من الممكن أن يكون الدكتور زكي مبارك جاداً حين يزعم للناس أن عبارته تلك قد بلغت غاية الغايات في الإيمان بعظمة الله لمجرد ذكره فيها أن بصره أضعف من أن يواجه نور الله. إنه يسخر وهو يصطنع الجد كبعض من قرأ لهم من أدباء العرب أو أدباء الفرنسيين. إنه يسخر من نفسه أو يسخر من الناس؛ لكنه يسخر في مجال لا ينبغي لمؤمن أن يسمح للسخرية أن تحوم حوله ولو من بعيد. وقد أهبنا بزكي مبارك مخلصين أن يتوب إلى الله من اجترائه عليه وأن يخلص التوبة. فلئن أصر ليوشكن أن يسخر منه الله.
محمد أحمد الغمراوي
سعد وسعاد
في أول كلمة كتبها شيخنا الجليل عبد المتعال الصعيدي، كان مثار الاضطراب عنده في القصة أن سعداً ذهب يبث شكواه إلى الخليفة مروان والخليفة معاوية في وقت واحد. وإنما سبق ذلك إلى ذهنه لأنه مر بالقصة خفيفاً فجعل (مروان) بدلاً من الخليفة في هذه الجملة (والى تلك الجهة الأموي المفتون المدل بمكانه من قريش ومكانه من الخليفة، مروان بن الحكم) مع أن سياقه القصة وما تقدم هذه الجملة من كلام لا يجعل مجالاً للشك في أن المراد بالخليفة: معاوية وبالوالي: مروان. هذا إلى أني أعتقد أن مكانتي عند العلامة الصديق لا تتدلى إلى قرار أجهل الفرق معه بين عهد مروان وعهد معاوية وهو لا يسع أن يجهله تلاميذنا في المدارس الابتدائية
وقد أردت أن أمهد العذر للأستاذ الكبير فيما ذهب إليه، لأن إغضاب جملة في مرضاة صديق ليس بالشيء الجلل، فقلت لعل طول الجملة ألقى عليها ظلاً من الغموض، قلت ذلك وأنا أعتقد أني ظالم لها، فليس فيها غموض ولا إبهام ولا تحتمل غير ما أراده منها كاتبها وغير ما فهمه القراء
ثم كان أن ظهر الشطر الثاني من القصة ووضح منه (أن المدل بمكانه من الخليفة) ليس إلا الوالي مروان بن الحكم، وكان ذلك جديراً أن يرفع هذا الاضطراب - إن صح وجوده - لأن الاضطراب كما يعرف العالم لم يتعد منطقة (دانزيج) إلى الآن، ولكن العلامة الصديق عاد فقرر في كلمته الثانية أن الاضطراب لم يرتفع بل ازداد، ومعنى ذلك: أنه لا بد من وجود الاضطراب سواء أكان مروان مشكواً منه أو مشكواً إليه! غير أن شيخنا وقد ظهرت له براءة الجملة مما رميت به رأى أن ينقل الاضطراب - بزكانته التي أعرفها له - إلى القصة نفسها، فرماها بالوضع كأن كل قصة موضوعة يجب أن تكون مضطربة! ولو أخذنا بهذا المنطق لحق العفاء على كل ثمرات الخيال
أما إن القصة موضوعة فقد أبنت رأيي فيها مع الحذر والحيطة، ولا يسعني إلا أن أحمد الله على أن فراستي لم تخني كما حمده الأستاذ الصديق، فقد ألقى في روعي أنه سيتدرج من رمي الجملة بالاضطراب إلى رمي القصة بالوضع، فبادرت بإعلان رأيي مقدماً لأوفر عليه العناء، ولكنه كما لم ينتظر الشطر الثاني من القصة ليتثبت من وجود الاضطراب، لم يتريث حتى يقرأ ردي على كلمته ليعرف رأيي في القصة
والآن أود أن يتسع صدره للنقاش فيما يلي:
1 -
رجح أن الوالي الظالم ابن أم الحكم، لا مروان ابن الحكم أخذاً برواية داود الأنطاكي في تزيين الأسواق. ويظهر أن أستاذنا الفاضل يقيم لهذا الكتاب وزناً كبيراً، بدليل استقائه منه جل ما كتبه عن (بني عذرة) وأن مثله كثيراً ما أعتمد عليه بل أني أحفظ أغلب أشعاره؛ ولكن رأيي أن الشيخ داود الأنطاكي كان في تصنيفه لهذا الكتاب كحاطب ليل، وقد تكون ثقة ثبتاً عند الشيخ الفاضل، ولكنه ليس أوثق عندي من شهاب الدين النويري ولا من الإمام ابن الجوزي راوي قصة سعاد كما فصلتها
2 -
يستبعد شيخنا أن يقع هذا الظلم من مروان بن الحكم وهو يعرف أنه كان مستشاراً
لعثمان رضي الله عنه ففرق جماعة المسلمين! وكتب عن لسان الخليفة كتاباً مزوراً إلى والي مصر لولا انكشاف أمره لأريقت دماء بريئة! ويعرف أنه في موقعة الجمل تغفل طلحة وهو من أنصاره فرماه بسهم في أكحله أودي بحياته! فأين يقع اغتصاب سعاد من هذه الأفاعيل؟! ثم أين هو الاغتصاب؟ ألم يُملق سعد، وعجز أن يَمُون زوجته؟ والفتيا على أن إعسار الزوج سبب من أسباب الفرقة. ثم ألم يطلقها سعد على كل حال (وإن كان مكرهاً) وإذا صح أن الخلافة تثبت بالتغلب أفلا تثبت الزوجية؟ ثم ألم يتزوجها مروان بعد انقضاء العدة واستبراء الرحم على سنة الله ورسوله؟ فهذا الزواج لا ينافي الحِلَّ وإن باين التديَّن والورع ومكارم الأخلاق، ومروان ليس بمعصوم من النزوات
3 -
لست أنكر أن (مروان) من زعماء بني أمية، ولكن أيظن شيخنا أن معاوية يغمض عن هفواته رعاية لهذه القرابة؟ وهو عاهل العرب الذي كان يتألفهم بسياسته الحازمة الرفيقة الصارمة، وهو خليفة المسلمين المسئول عن أبشارهم وأعراضهم وأموالهم. أيخشى معاوية أن يحاسب (مروان) على ذنب اجترحه وهو الذي بلغ من شكيمته أن ينازع عليًّا الخلافة. على قرابته وسابقته وفضله - ومن مروان إذا قيس بمعاوية؟ ألم يَعِده لأن يعهد إليه بالخلافة بعد يزيد فلم يف له بذلك ولم يقف عند هذا الحد فعزله عن ولاية المدينة؟ ثم ما هي الذلة التي ضربت على مروان في هذه القضية؟ أيكون ذليلاً لأنه ثاب إلى رشده واستجاب لداعي الحق ونزل على حكم الخليفة؟ وهل كان ينتظر منه أن يبسط لساناً أو يسل سيفاً والذنوب تخرس الألسنة وتغمد السيوف؟
4 -
حكم شخنا بأن القصة ضعيفة في سبكها وشعرها، وأنا أوافقه في ذلك وأخالفه، أوافقه على أن بعض الشعر ضعيف بل سخيف، وقد أشرت في الهامش إلى أنه قد يكون وضع على لسان معاوية. وأخالفه في أن سائره جزل قوي محكم، وهو ما قاله سعد وسعاد أو قيل على لسانهما
أما سبك القصة فهو عمل خالص لي، وليست القصة إلا هيكلا عظميا كسوته اللحم وأجريت فيه الدم، فإن كان لا يزال مصرا على أن هذا السبك ضعيف، فلا يسعني إلا أن أحترم رأيه، ولكن ذلك لا يمنعني أن أقول: إن أدباء القصة لا يتفقون معه في ذلك، وهم بحمد الله كثير في هذا البلد الأمين
5 -
بقي أنه يرى أن هذه القصة موضوعة، وأقول: أن هذا ظن لا يغني من الحق شيئاً! وأبرأ الذمة، وأبعد من الزلل أن يتابع صديقه الصغير في عدم الجزم بذلك، فراويها الإمام ابن الجوزي ومنزلته معروفة، ووقائعها ليس فيها ما يهول ويستغرب. أليست زبدتها أن والياً - وإن كان مروان - أكره زوجاً معسراً على طلاق امرأته الجميلة ليتزوج بها، وأن الخليفة رد الحق إلى نصابه، وأي عجب عاجب في أن يحدث هذا؟
هذا ما عنّ لي فيما كتبه شيخنا الفاضل. . . والسلام عليه ورحمة الله وبركاته
علي الجندي
أين علماء الأزهر؟
الأستاذ العالم علي الطنطاوي رجل مؤمن الروح، مشرق القلب، نير البصيرة. وهو بعد من أولئك الشبان الأخيار الذين يحرقون أنفسهم مداداً وبخوراً في سبيل حياة الإسلام وعزته، في عصر مزور أصبح فيه كل من يتكلم بالدين يرمى بالرجعية والجمود والغفلة وعدم مسايرة تيار الحضارة الحديثة والتطورات العلمية الجديدة
أقول هذا بمناسبة نداء الأستاذ الأخير الذي وجهه لعلماء المسلمين على صفحات الرسالة يحثهم على معاونته في تأليف كتاب في (الدين الإسلامي)(يضم بين دفتيه الإسلام الذي جاء به النبي محمد خالياً من الحشو والزيادات والبدع والخرافات، يقرأه الشاب المسلم الذي يعرف الدين فلا يحتاج بعده إلى شيء، ويقرأه العامي فيفهم منه دينه، ويقرأه الغربي (مترجماً) فيحصل له عن الإسلام فكرة واضحة صحيحة)
ويعلم الله أن نفسي انطلقت لهذه الفكرة النبيلة وانتظرت ماذا سيكون من أمر علمائنا، وخصوصاً سادتنا علماء الأزهر الشريف فهم أحق الناس لتلبيتها والنهوض لها والاهتمام بها. . . ولكن ماذا كان؟ كان أن ذهبت دعوة الرجل هباء، فلا حس ولا حركة ولا حياة!
في الحقيقة أن أساتذتي علماء الأزهر مقصرون. وفي الحقيقة أنهم قوم لا يهمهم من الحياة إلا صفو أنفسهم وفخفختها، وإن تظاهروا بالرهبنة والزهادة، وضجوا بالحوقلة والحسبلة؛ أما رفعة الإسلام ومجده، فذلك شيء منسي على هامش حياتهم!
أين الدجوي والجبالي واللبان وأبو العيون والأودن والجزيري وأبو دقيقة؟ أين هؤلاء؟
وأين غيرهم وغيرهم من علماء الأزهر الذين لهم قلم وفكر وبيان! أنا لا أستطيع أن أفهم!
يا إلهي. . .! متى يستكمل شباب المراغي الحي عدته فيحمل المشعل ويتقدم القافلة؟!
عبد العليم عيسى
القومية العربية والوحدة الإسلامية
إلى الأستاذ ناجي الطنطاوي
خاطبتم الأستاذ العلامة (ساطع الحصري بك) في العدد 317 من الرسالة العزيزة في قوله: (أعتقد باستحالة الوحدة الإسلامية) وقلتم: (أفتكون هذه الوحدة التي أمكن تحقيقها في عصر صدر الإسلام وعصر الأمويين والعباسيين ومن أتى بعدهم مستحيلة في عصرنا هذا؟) وتقولون هذا وأنتم تعلمون أن الدين الإسلامي الحنيف لم تصن مبادئه وتحفظ قوانينه كما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إلا في زمن صدر الإسلام. وفي عصر الأمويين إذ كان الدين الحنيف يسهر على مصالحه العرب الذين جالدوا ومنعوا دخول العناصر الغريبة عن العرب في صميم الحكم والقضاء، فلما أن جاء العصر العباسي وكثر فيه الغرباء عن العرب وانتصر السفاح بمساعدة الخرساني وهو فارسي أصبح الفرس يتدخلون في الحكم مجاهرين (أن الدولة لم تقم إلا على سواعدهم وازدادت هذه التدخلات بعد أن انتصر المأمون على أخيه الأمين بقوة جيش خراسان هذه العناصر أيضاً. ولم تزل هذه العناصر الغربية تلح على الأمة الإسلامية حتى انحطت إلى ما هي عليه الآن. ولو قدر الله أن يبقى الحكم في يد العرب لازدهرت الأمة الإسلامية ولم انحطت إلى ما هي عليه اليوم
أن المسلمين العرب اليوم في حاجة قصوى إلى الاتحاد والاتفاق مع المسيحيين العرب الذين يشاركونهم لغتهم وعاداتهم
وتقاليدهم. وليس من العقل في شيء أن نترك أخانا وجارنا المسيحي العربي من أجل هندي بعيد لا تربطنا به عادات ولا لغة ولا تقاليد! تقولون بعد: (إن كل مسلم في سورية أو مصر أو العراق يعتقد أن المسلم الهندي أو الياباني أو الأوربي أخ له الخ)
وهذا صحيح، ولكن هل تعتقدون أن المسلم الهندي يفيد المسلم المصري أو السوري أكثر مما يفيده المسيحي المصري أو السوري؟ هاهي ذي فلسطين الذبيحة تكوى بالحديد وبالنار
فهل رأيتم هندياً أو يابانياً مسلماً تطوع للدفاع عنها حيث يتعانق الهلال والصليب وحيث يقف المسيحي إلى جانب المسلم يدفعان معاًشر المستعمر المغتصب؟
إن حلول الأمم الأجنبية في بلاد المسلمين العرب أكثره مسبب عما يسمونه (حماية الأقليات) وحين يأتي يوم تنطق فيه العقيدة العربية على لسان المسيحيين العرب المخلصين (إننا لسنا أقليات بل نحن من صميم الأمة) حين يأتي ذلك اليوم فإن الأمم المستعمرة لا تجد أمامها من هو محتاج إلى حماية فتنسحب
لقد أعطتنا (فلسطين) درساً وافياً في القومية وفي العقيدة فها هي ذي تكاد تتلاشى (لا سمح الله) والدولة التركية المسلمة ترفع صوتها باحتجاج واحد. قد تستطيع الأمم الإسلامية أن تعقد اتفاقاً تشكل منه دولة واحدة لها سيادة ولكن معنى ذلك هو ذَوَبان العرب في بقية الدول المسلمة القوية لم
في مقدور المسلم أن يوثق علائقه بإخوانه المسلمين أين كانوا وهو جاد في حقل (القومية العربية) ومخلص للقضايا الوطنية المشرفة
(طرابلس)
محمد على عكاري
الكتب
فوزي المعلوف وآثاره
للأستاذ فائز. ح. عون
بقلم الدكتور إسماعيل أحمد أدهم
وهذه دراسة جديدة عن علم من أعلام الأدب الحديث تظفر به المكتبة الإستشراقية في اللغة الفرنسية من أديب شرقي تقدم بها كأطروحة إلى جامعة باريس لينال عليها إجازة الدكتوراه في الآداب. والدراسة تمتاز بطابعها المدرسي في العموم وكونها أقرب إلى التثبت العلمي منها إلى التخيل والنظر في المنهج، ففيها رجوع إلى المصادر واستقصاء لها، ودلالة على مناحي أهميتها مم تجده مبذولاً في قائمة المصادر والمراجع، وبعد ذلك ترى الضم للعناصر المتفرقة من المراجع بلا تعديل ومناقشتها بإحكام، ثم بعد ذلك الرجوع إلى ما يتصل بها من آثار فوزي المعلوف، والخلوص من ذلك بأحكام تغلبها نزعة التقدير
تستهل الدراسة بمقدمة عن الشعر العربي الحديث في طليعة
القرن العشرين، يتناول فيها صاحب الأطروحة بالبحث انبعاث
روح النهضة في الشرق العربي وخاصة لبنان، مبيناً الأسباب
التي كانت تعوقه عن أن يدور في آفاق الحياة الجديدة، التي
أخذت منها سوريا بطرف، وهذه الأسباب تعود إلى النظام
الحكم - عنده - وهو لهذا يرى أن الشعر العربي السوري لم
ينهض إلا في المهجر سواء كان مصر أم أمريكا. وهو يرى
فقدان زعيم المدرسة اللبنانية في الشعر، وقد تخرج على
مذهبه الإبداعي جل المجددين في الشعر العربي، يذكر منهم
جيران ورشيد أيوب، ويرى فوزي المعلوف منهم. على أنه
يخطئ حين يقدر أن مطران هاجر إلى مصر عام 1884،
والصحيح أنه نزلها صيف عام 1892 كما جاء في البحث
السابع من دراساتنا عن مطران بمقتطف يوليه ينه 1939،
كذلك لم يلاحظ الكاتب أن مطران وإن أثر على جبران ورشيد
أيوب وفوزي معلوف، فقد كان تأثيره على جبران من جهة
الطلاقة الفنية، ولجبران بعد طبيعته الخاصة وأخيلته وأجواؤه.
أما رشيد أيوب وفوزي معلوف فقد وقفا من مطران موقف
التأثر التام بمعنى سوق أغراضه الشعرية، يظهر ذلك في
وحدة القصيد وسلسلة المعاني وبث فكرة مطردة في القصيدة،
وهذا ما فطن إليه الكاتب بالنسبة لفوزي المعلوف في أكثر من
موضع من الدراسة. على أنه يعود في المقدمة فيشير إلى تأثر
احمد شوقي بمطران في بدء شبابه، وما بدا من أثر مطران
في النثر التوقيعي (الشعر المنثور). ويلج المؤلف في غمام
هذه المقدمة المحيط العائلي والاجتماعي بالنسبة لفوزي
المعلوف، وهو يقف من هذا المحيط عند المجمل منه دون أن
ينزل إلى تفاصيله، أو يدل على روحه الشيء الذي تأثر به
فوزي المعلوف فجاءت شخصية متأثرة بأربابه
والفصل الأول - من القسم الأول وهو عن الشاعر في لبنان - وقف على مولد الشاعر ونشأته. وفي هذا الفصل يقف المؤلف من طفولة الشاعر ونشأته عند حد النسيج الخارجي المربوط للزمان دون أن يحاول النزول إلى أعماق الطفل فيظهر بدرات روحه وخلجات نفسه، ومن هنا جاء عيب ملحوظ على الدراسة تكاد تراه في كل الفصول التي ترتبط بالترجمة عن حياة الشاعر. والفصل الثاني من هذا القسم وقف على الكلام عن آثار الشاعر الشعرية في الفترة الأولى من حياته ويجيء بعد ذلك الكلام عن المستر سلات تذهب منحى الفن المسرحي
أما القسم الثاني فيجيء عن الشاعر في البرازيل. الفصل الأول عن قصائده التي تذهب مذهب المقطوعات؛ أما الفصل الثاني فوقف على الكلام عن بساط الريح والفصل الثالث عن أسئلة الأدب، ويجيء بعد ذلك فصلان: الأول عن فكرة الشاعر والثاني عن فنه وفي ختامهما ملخص يتألف من مجموعها القسم الثلث من الكتاب، وفي نهاية الكتاب ملحقان الأول يحصر آثار المعلوف والثاني يحمل النص العربي للشعر الذي استشهد به في الدراسة، ففهرس لأسماء الأعلام، فقائمة بمواد الدراسة
وهذا العرض السريع لترتيب فصول البحث يبين مقدار تمكن المؤلف من الروح المنهجية في البحث التي جعلته يقسم بحثه تقسيماً معقولاً، على أن في الكتاب بعض هنات بسيطة جاءت في العموم في المواقف التي عرض فيها لفوزي المعلوف بالنسبة لشعراء آخرين، ويظهر أن سبب ذلك يرجع إلى آثار الآخرين الذين تتصل شخصياتهم أو آثارهم بشخص المعلوف أو فنه الشعري. من ذلك كلامه عن مطران ومقارنة فوزي المعلوف به. فهذه المقارنة خطأ من جهة المنحى الذي ذهب إليه المؤلف، فقد قرر أن مطران وقف عند حد التعبير عن احساسات الحب (عاطفيا) ' في حكاية عاشقين بعكس فوزي المعلوف الذي ارتفع في ملحق على بساط إلى آفاق فلسفية تتصل بعالم ما وراء الطبيعة، ومن هنا جاء ما عند فوزي المعلوف في بساط الريح - في نظر المؤلف - من الصراع بين الروح والجسد. وهذه الملاحظة وإن كانت صادقة ولكن إطلاقها بعد ذلك على الشاعرين فيه شيء
من الخطأ لأن المسألة ترجع في ذلك الحين إلى كل آثار الشاعرين والطابع العام لشعرهما، وفي ذلك الوقت لا أظن أن هذا الحكم يتسق خصوصاً وما يعرف عن شعر الخليل في ملحمته (نيرون) أو قصيدته (رعمسيس) أو قصة (الجنين الشهيد) مثلاً
على أننا بعد ذلك لا ننكر ما قد أظهره المؤلف في دراسته من النظر، خصوصاً فيما أخذه على الناقد المعروف الأستاذ صديق شيبوب وما أبداه من مقارنة الشاعر موضوع الأطروحة، وبين رديارد كبلنج.
والدراسة في العموم غنم عظيم للمكتبة العربية، وللأدب العربي الحديث
إسماعيل أحمد أدهم
المسرح والسينما
من التاريخ
النهضة المسرحية في مصر
ونصيب الفرقة القومية منها وواجبها حيالها
على هذه الصفحات سنكتب تاريخاً موجزاً للنهضة المسرحية في مصر، تلك النهضة التي قامت على أكتاف أبطال وبطلات (فرقة رمسيس) منذ سبعة عشر عاماً حتى الآن. سنكتب تاريخاً لهذه النهضة على غير الطريقة التي يكتب بها التاريخ. هو ليس تاريخاً بالمعنى المفهوم والطابع المعلوم، بل مجرد خواطر وآراء علقت بالذهن ووعتها الذاكرة مدى هذه الأعوام الطويلة. وكان لا بد يوماً من إخراجها للناس، وفي وقتها المناسب، وليس أنسب من هذه الظروف، وقد تهيأت لنا أسباب النهوض بالمسرح، ثم لا نجد من ينهض به، أو يعمل مخلصاً في سبيله!
أليس محزناً للنفس وموجعاً للقلب أن تمنح الفرقة القومية خمسة عشر ألفاً من الجنيهات في كل عام، ثم لا يكون من عملها وإنتاجها إلا أن تسيء إخراج بضع روايات قديمة سبق أن أخرجت للناس في أبهى حلة وأتم نظام وأكمل ترتيب، وأن تسيء كذلك إخراج بضع روايات جديدة هزيلة: هي عناوين للتفاهة والغثاثة، ومفسدة للأخلاق، وموحية بأحط التعاليم وأقبح الآراء؟؟
مما يؤسف له حقاً أن يجد الكاتب لزاماً على نفسه أن يتحدث عن الفرقة القومية كلما تحدث عن المسرح في مصر، مع أنه لو أسقطها من حسابه، وأغفل ذكرها، لما خسر شيئاً يذكر في تقديره للأمور وفي حسابه للأرقام. أما المؤرخ فلن يستطيع هرباً من الحقيقة، وسيجد نفسه مضطراً لتدوين هذه الفترة المحزنة في حياة المسرح المصري. فمنذ كان المسرح في مصر لم ينعم أبناؤه بعهد ذهبي كهذا العهد، ولم تيسر الأمور مثلما يسرت لهم الآن ومع ذلك فأنهم لم يصيبوا من أعمالهم غير الفشل والخسران المبين! ومن العجيب أن يحدث هذا بعد سبعة عشر عاماً من وثبة المسرح المصري على يد فرقة رمسيس التي أنشئت لحساب فرد واحد، ومن غير معونة من هنا أو من هناك، وفي وقت خسر المسرح فيه سمعته،
وكان لأهله حينذاك مسبة وعاراً.
يذكر الذاكرون أن المرحوم عبد الله باشا وهبي كان عزيزاً عليه أن يرى ابنه يوسف وهبي ممثلاً، وكان عزيزاً على أي رجل آخر أن يرى ابنه (مشخصاً) على المسرح؛ فلم يكن التشخيص في نظر الناس مهنة وضيعة للذين فقدوا كل أمل في الحياة وكل أمل في الكرامة، وكل أمل في العمل الشريف. ولم تكن الحكومة لتعترف بوجود هذه الفئة من المهرجين أو تقيم لهم وزناً
أنشئت فرقة رمسيس وسط هذه العوامل وبين هذه الآراء؛ ومع ذلك فإنها سرعان ما اكتسبت ثقة الجميع: الأمير قبل الفقير والعظيم فبل الصغير. وأصبح مسرح رمسيس محط الطبقة الممتازة في مصر وملتقى الكبراء والعظماء وذوي الرأي والخطر في البلاد؛ ولم ينفض عنها جمهور ما، ولم ينصرف عن تشجيعها إلا منذ حادت عن طريقها المرسوم وتنكبت السبيل السوي!
أما الفرقة القومية التي ترعاها الحكومة بعنايتها، وتمنحها مالاً ومسرحاً، وتجلب لها جمهوراً راقياً، ويشرف حفلاتها ملك البلاد وكبار رجال الدولة وعظماؤها. أما هذه الفرقة التي تهيأت لها كل أسباب النجاح والفلاح فإنها لم تحظ حتى الآن بما حظيت به فرقة رمسيس من مجد، ولم تخط خطوة واحدة نحو مثل المكانة التي نالتها تلك الفرقة، ولم تكتب سطراً واحداً في تاريخها تستطيع أن تفخر به أو تطمئن إليه، وحتى أصحاب الِشأن فيها يهزون رؤوسهم أسفاً وحسرة، ويقفون حيارى لا يدرون أين المفر من هذا المصير المحتوم الذي يطل عليهم من بعيد بعيونه البشعة ويقترب منهم رويداً رويداً.
وقد أردنا بكتابة هذا التاريخ الموجز، وسرد هذه الخواطر والآراء أن نضع أمام الرجال المسئولين جميع العوامل التي كانت من أسباب نهضة المسرح، وكذلك جميع العوامل التي كانت من أسباب سقوطه وانهيار بنيانه، ليكون لهم في النهاية مجموعة من الحقائق التي يسترشدون بها في تنظيم الفرقة القومية ووضع برنامج لها تسير عليه ولا تحيد عنه إلا في سبيل الكمال. والواقع أن الفرقة القومية لا تحتاج بعد ذلك الذي تهيأ لها من أسباب إلا النظام والتنظيم والخطط المرسومة التي تسير بمقتضاها وتسترشد بهديها. أما الطرق الارتجالية التي تأتي عفو الخاطر، وأما هذا العبث المحض في اختيار الروايات وإعدادها
وإخراجها وتوزيع أدوراها وفق الأهواء والخواطر. أما كل هذا وغير هذا مما فعلته الفرقة القومية، أو أتاه أصحابها، فقد قضى على سمعتها، وهو وشيك أن يقضي على الفرقة نفسها القضاء الأخير.
ولا يتوهمن أحد أننا من أعداء الفرقة القومية إذ نحكم عليها هذا الحكم؛ فالحقيقة أننا من أنصارها والمتحمسين لها والداعين إليها، وما عداوتنا إلا النظام، أو قل الفوضى التي تسير عليها؛ وما نبغي إلا الإصلاح، ولا بغية لنا سوى هذا.
وكاتب هذه السطور بعيد عن التحيز كل البعد. وسيرى القراء أنه كما سيعطي فرقة رمسيس حقها من التمجيد ونصيبها من الفخار، كذلك سيخصها بنصيب من النقد اللاذع، لأنها كما نهضت بالمسرح، فإنها كذلك هبطت به إلى الحضيض. فحساب الجميع عندنا بالعدل المطلق، وهدفنا الأسمى المصلحة العامة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد الذي كان، ومخافة ما سوف يكون
صناعة السينما في مصر
إن الجهود الفردية التي وجدت الشجاعة لديها لتمزق الحجاب عن ذلك الفن الرفيع في وقت كان فيه الفن السينمائي في مصر لغزاً غامضاً يراود أحلامنا في كل صباح وكل مساء - إن هذه الجهود الفردية التي أدت مهمتها وراحت ضحية جرأتها لتستحق منا اليوم كل تمجيد وثناء. إنها تشبه في كثير طلائع الجيوش التي تعرض صدورها لرصاص العدو وتكشف أجسادها لسهامه، فتروح ضحية جهلها وعدم خبرتها. . . بيد أن من يأتي بعدها لا يقع في أخطائها، ويعرف كيف يحمي نفسه ويعبر على أشلائها إلى النصر والمجد!. . .
فإذا كنا ندين اليوم لطلعت حرب باشا بهذه النهضة السينمائية الشاملة، فيجب أن نذكر أولئك الذين سقطوا في الميدان منذ أعوام فكانوا الشهداء، والذين ألهموا من أتى بعدهم وحفزوهم لنشدان الكمال وجعلوهم يرفعون عيونهم إلى أسمى الغايات. أما (أستوديو مصر) فقد أصبح بفضل طلعت حرب باشا يضارع أمثاله في أوربا وأمريكا، إذ فيه كل المعدات الحديثة، وفيه الرحابة وكمال الاستعداد ونخبة ممتازة من الفنيين الذين في استطاعتهم إخراج أية رواية من أي نوع. وقد دل إخراج (لاشين) التي نجحت إلى حد ما، أن في مقدور هذا الأستوديو أن يخرج روايات ممتازة ترضى أطماع أمثال سيسيل دي ميل. . .
وليس يعيب الجهود الفردية اليوم إلا قصورها عن أن يشمل عملها كل العناصر المؤدية إلى النجاح الكامل. لهذا فإنا وإن كنا نؤيد حرية العمل وندعو إلى المنافسة الشريفة، إلا أننا ننصح بعض الأفراد أن يضموا جهودهم بعضها إلى بعض ليصلوا مجتمعين إلى ما تصل إليه الشركات الكبيرة والمؤسسات الضخمة
ونحن يسرنا أن يكثر عدد المنتجين السينمائيين، وبالتالي يكثر عدد الشركات. وحينئذ تصبح مصر هوليود الشرق وتطرد منتجاتها الفلم الأجنبي من أسواق الشرق جميعاً، وهذا غاية ما نرجوه
(فرعون الصغير)