الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 321
- بتاريخ: 28 - 08 - 1939
ما رأيها؟
للأستاذ عباس محمود العقاد
نعم ما رأيها، والضمير إلى الفتاة العصرية؟
ما رأيها في تعدد الزوجات وفي أن تكون شريكة لفتاتين أو لثلاث فتيات في زوج واحد؟
أنني أبدا فأثير نخوتها فأقول: إنها أعجز من أن تمثل دور الضرة، لأنها لا تفقه من كيد النساء ومأخذ الرجال ما كانت تفقهه جدتها التي كانت تتزود للضر بسلاحه، وتصلح للضر بمقدار صلاحه
ثم أثني فاشهد لها فأقول: إنها أكرم على نفسها وأعرف بالأواصر النفسية بين المرء وزوجه من أن تقبل زواجاً تنقطع فيه الآصرة النفسية وتهبط فيه الكرامة
ثم أعقب على هذا وذاك قائلاً: إنني ما نويت في هذا المقال أن احتكم معها إلى حكم الدين، فقد عرفنا أن الإسلام يجيز تعدد الزوجات ولكنه لا يوجبه، بل يكاد أن يمنعه بحضه على العدل واستكثاره أن يعدل الرجل بين امرأتين ولو حرص عليه
إنما احتكم معها إلى آراء الساسة المحدثين والقادة المعاصرين، فربما كان من العبرة أن نعلم أن هؤلاء القادة لم يجدوا أنفسهم قط في حالة كالتي كانت عليها الأمة العربية صدر الإسلام إلا خطر لهم تعدد الزوجات وأجازوا ما أجازه القرآن، بل أوشكوا أن يوجبوه، وربما كان هذا العلم من دواعي تصحيح النظر إلى أتصول الشرائع والأخلاق التي عابها أناس ونسو ما كان لها من بواعث وأسباب
أقطاب (النازية) في ألمانيا الحديثة ينصحون بتعدد الزوجات لأنهم يطلبون النسل ويكاثرون بالجنود ويتأهبون لليوم الذي يملئون فيه بطاح أوربا الشرقية فاتحين ومقيمين
فالأستاذ أنست برجمان عميد قسم الفلسفة بجامعة ليبزج ينعى في كتابة: (روح الأمومة) الزواج المفرد، ويوجب تعدد الزوجات في سبيل بقاء النوع ومنع انقراضه فيقول: (إن الزواج المفرد طوال الحياة يناقض الطبيعة ويضر بالنوع، فيضمحل حيثما فرضت الزوجة الواحدة على الرجل. وإنما مثال الدولة الصالحة تلك الدولة التي تكون فيها المرأة بغير عقب وصمة عار. ولن يزال في الأمم عدد من الرجال كاف وقابل لإيلاد جميع الإناث. وما علينا إلا أن ننبذ سخافة الزواج المفرد فنعلم أن الطبيعة قد جعلت كل فحل كافياً لعشر
أو لعشرين من البنات اللواتي لم يقتلن في نفوسهن غريزة الأمومة)
والدكتور روزنبرج فيلسوف المذهب ومقرر (نظرياته) ومبادئه يوصي بالرجعة إلى آداب القبيلة الجرمانية في مسائل الزواج، ويقول إنه لولا تعدد الزوجات لما زخرت الشعوب الجرمانية في القرون الماضية؛ (ولولا تعدد الزوجات لبطلت مقدمات الثقافة الغربية، إذ كان عدد النساء في بعض الأزمان يربى كثيراً على عدد الرجال كما يوشك أن يكون الأمر في الزمن الحاضر. . . فهل يقضي على هؤلاء النساء أن يذهبن خلال أيام الحياة محرومات حقوقهن الطبيعية مستهدفات للسخرية المزرية التي يلقاها العانسات؟ وهل يؤذن للمجتمع المنافق القانع بما هو فيه أن يسلم هؤلاء البائسات لأضاحيكه؟)
ثم يتمادى فيبيح إنجاب الأبناء من غير الزوجات الشرعيات، تكثيراً للنوع وتعزيزاً لقوة الأمة الجرمانية!
ورأي المفكرات الألمانيات قريب من رأي المفكرين الألمانيين في هذا الباب. فإحداهن وهي السيدة (شولتز كلنك) تقول في خطاب لها بين الصحفيات: (إن البنات الألمانيات يرجعن في عصرنا الحاضر إلى غرائزهن الأصيلة ويصدعن بحكمها في خضوع واغتباط عارفات أن هذه الغرائز إن هي إلا عطية سماوية يملكن بها الدم والأرض ويصبحن بها نماذج للمرأة الألمانية الحديثة)
وقبل الفلسفة النازية بقرن كامل من الزمان كان نابليون يحتاج إلى الجنود كما يحتاج إليهم النازيون الآن، وكان يغري الأمة الفرنسية بالتناسل كما يغري النازيون أمم الجرمان، وكان يقول مثل ما يقولون اليوم كلما رأى عدد النساء في ازدياد وعدد الرجال في نقصان
فمن قوله في هذا الصدد: (إنني صنعت كل ما استطعت لإصلاح حال اللقطاء المساكين الذين يساقون للعار والمهانة، ولكن المرء لا يستطيع أن يغلو في هذه الناحية مخافة على نظام الزواج، وإلا لم تجد أحداً يقدم عليه)
(وقد كان للرجل في الزمن القديم سريات إلى جانب الزوجة فلم يكن أبناء الزنى محتقرين يومئذ كاحتقارهم في أيامنا. ومن المضحك ألا يباح للرجل اكثر من زوجة فإذا هو كالأعزب كلما حملت أو مرضت)
(إن الرجل لا يتسرى في العصر الحديث، ولكنة يخادن الخليلات وهن خراب لهن كلفة
أفدح من كلفة الزوجات. ولقد درج الفرنسيون على إكبار المرأة وما ينبغي لها مساواة الرجال فما كانت بعد إلا آلة لإخراج الذرية. . .)
(ويطيق الرجل أن يتزوج كثيرات من النساء ولا يبدو عليه أثر ذلك. أما المرأة، فإذا اقترنت مرة بعد مرة فلا محالة يدركها الذبول!)
ويقول نابليون عن المساواة بين الجنسين: (لا مناص من سيادة أحد الجنسين على الآخر. . . فقد يختل نظام الأمة إذا اعتزلت المرأة مكانها المطبوع، وهو مكان الطاعة والخضوع!)
والآن لا أدري. هل أكسبت نابليون وخلفاءه الألمانيين نصيرات بين الجنس اللطيف، أو عصفت بمن لهم بينهن من النصيرات؟
لكن الحرب قادمة، أو يخشى أن تنفجر هنا وهناك من حيث لا نتوقع قدومها. فماذا يكون الرأي إذا خرجنا من الحرب وعندنا ثمانية ملايين امرأة، وليس عندنا من الرجال ألا سبعة ملايين أو سبعة ونصف مليون؟!
اليوم يتكفل الماء العفن بحصد الرجال وتلقيحهم بلقاح: (الأنكلستوما والبلهارسيا) حيثما انتشر ماء الري في إقليم جديد فيصاب الفتيان ولا يصاب الفتيات، ويضعف الرجال ولا يضعف النساء.
فإذا جاءت الحرب، فأتمت هذه البداية، فماذا يبقى من أناقة الجنس اللطيف؟ ومن ترف المتعاليات على الضر أمام هذه الضرورة التي لا تحسن الكلام بلغة (الندى)، ولا تنحني في رقة وابتسام كما ينحني رواد الصالون؟
نسوق النساء إلى الزراعة؟ نقسرهن على العمل؟ نستبدلهن بالرجال في مشاق الأشغال؟
على كل حال ذهبت الأناقة والترف، وذهبت معهما مزايا الجنس اللطيف، ولو كان المشتغلات بتلك المرهقات من بنات الكوخ والبيت الوضيع، ولم يكن من بنات الندى والصالون
ثم هو حل لمشكلة العمل، فأين الحل لمشكلة النوع ومشكلة الأسرة ومشكلة الأخلاق؟!
عمل عظيم بين يدي (وزارة الشئون الاجتماعية) أعانها الله علية!. . .
عباس محمود العقاد
كتاب مستقبل الثقافة في مصر
الثقافة العامة وتعليم اللاتينية واليونانية
للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك
(تتمة)
قد يخطر على بال الإنسان أن يتساءل عندما يلقي نظرة عامة على هذه الأطوار المتتالية: هل تقف يا ترى سلسلة هذه التطورات عند الحد الذي وصلت إليه أخيراً؟ أم ستستمر بعد الآن أيضاً؟ هل يجوز لنا أن نقول إن التطور الأخير سيكون خاتمة الأطوار؟ أم يجب علينا أن نتوقع حدوث تطورات أخرى بعد الآن أيضاً؟. . .
أنا لا أرى لزوماً للتنبؤ عن مستقبل هذه التطورات، لأنني اعتقد أن ما عرفناه عن التي حدثت إلى الآن كافٍ لتوضيح وحل المسالة التي من أجلها خضنا غمار هذا البحث. . . مع هذا أرى من المفيد أن انقل بعض الكلمات التي قرأتها أخيراً - في هذا الصدد - في إحدى المجلات التربوية:
(لقد فرقت بين الإنسانيات القديمة والمجتمعات الحالية هوة خطيرة لا تزال تزداد عمقاً وعرضاً، يوماً فيوماً. . . إن دور الإنسانيات المذكورة قد انتهى، ولم يعد في استطاعتها أن تدعي حق البقاء كمنبع للثقافة العصرية. . . إنها لا تعيش الآن إلا عيشة اصطناعية؛ فقد فقدت كل ما كان لها من قوة وحياة. . .)
كذلك أرى من الممتع أن اذكر ما كان قاله (لابيه دوسان بيبر) في هذا الصدد:
(سيأتي يوم نفهم فيه: أن حاجتنا (يعني حاجة الفرنسيين) إلى تعلم اللغة اللاتينية، أقل من حاجتنا إلى تعلم اللغة المالائية أو تعلم اللغة العربية. . .)
إنني أعتقد أن الحقائق والوقائع التي سردتها آنفاً، حول مسالة تعلم اللاتينية واليونانية في الدراسة الثانوية في أوربا بوجه عام وفي فرنسا بشكل خاص، تعين لنا بكل وضوح الموقف الذي يجب أن يقفه مفكرو العرب حيال هذه المسالة بالنسبة إلى معارف البلاد العربية: لا شك في أن هذا الموقف يجب أن يكون موقف الرفض والأعراض. . .
يجب علينا أن نتذكر - في هذا الصدد - الحقائق التالية على الدوام:
إن تعليم اللاتينية واليونانية في أوروبا لم يشغل الموقع الذي شغله في نظم الدراسة بناء على تأملات وملاحظات تربيوية؛ إنما شغل هذا الموقع تحت تأثير عوامل ووقائع تاريخية كلها خارجة عن نطاق الفوائد التربيوية. . . وأما الفوائد التعليمية والتربوية التي ذكرت فيما بعد لتبرير الحالة الراهنة - بغية إبقاء ما كان على ما كان - فلم تستطع أن تقاوم المحاكمات المنطقية والأبحاث العلمية مدة طويلة. . . ولهذا أخذ نطاق هذا التعليم يتقلص من جميع الجهات تقلصاً مستمراً؛ ولم يعد يمتد الآن إلا على جزء صغير من ساحة الدراسة الثانوية. . . كما أن بقاء هذا التعليم في هذه الساحة الأخيرة أيضاً لا يمكن أن يعلل ويبرر إلا بقوة الاعتياد والاستمرار من جهة وبرابطة الأدب واللغة من جهة أخرى
وأما فكرة اعتبار اللاتينية (واسطة ضرورية لتثقيف العقول) فهي من النظريات التي ثبت خطؤها كل الثبوت: إذ قد أصبح من المسلم في علم التربية أنة لا يوجد موضوع مدرسي (مثقف) في حد ذاته كما أنه لا يوجد موضوع مدرسي يحتكر قابلية التثقيف لنفسه. . . وأما (التأثير التثقيفي) الذي يحصل من الدروس فلا يتبع الموضوع الذي يدرس، وإنما يتبع الطريقة التي يتم بها التدريس. . . فعندما نود أن نجعل (الثقافة) هدفنا الأسمى في الدراسة الثانوية يجب علينا أن نعلم حق العلم أن الوصول إلى هذا الهدف، لا يتم إلا بالبحث عن أوفق (طرق التدريس) لضمان التثقيف والسير على تلك الطرق على الدوام. وأما إضافة لغة أو لغتين من اللغات الميتة إلى مناهج الدراسة، فلا يمكن أن يضمن لنا شيئاً من أهداف التثقيف بوجه من الوجوه
فليس من المعقول - والحالة هذه - أن نضيع أوقات طلابنا في المدارس الثانوية في سبيل تعليم اللاتينية واليونانية
هذا. . . ولا بد لنا من ملاحظة الحقائق الهامة التالية أيضاً في هذا الصدد:
(ا) إن تعليم اللغة العربية يستنفذ من أوقات وجهود أبنائها أكثر من الأوقات والجهود التي تتطلبها اللغات الأخرى من أبناء الناطقين بها؛ وذلك لزيادة تعقيد قواعد العربية من جهة وللنقائض السائدة على أساليب تدوينها من جهة أخرى
(ب) إن حاجة أبناء العربية إلى تعلم اللغات الحية اشد من حاجة الأمم الأوربية الراقية إلى تعلم تلك اللغات؛ وذلك لفقر خزانة الكتب العربية من جهة المؤلفات العلمية والأدبية
(ج) إن تعليم اللغات الأوربية الحية يتطلب من الناطقين بالضاد جهوداً أكبر من الجهود التي يتطلبها من سائر الطلاب الأوربيين؛ وذلك لاختلاف الحروف من جهة وتباعد الأصول والقواعد والأساليب من جهة أخرى
ولهذه الأسباب إذا جاز للأوربيين أن يسرقوا قسما من أوقات بعض أبنائهم في سبيل تعليم اللغة اللاتينية - بأمل الحصول على بعض الفوائد ولو كانت ضئيلة - فلا يجوز لنا نحن أن نقتدي بهم في هذا الباب
وإذا جاز للأوربيين أن يخيروا أولادهم بين دراسة اللغات الميتة ودراسة اللغات الحية، فلا يجوز لنا نحن أن نفكر في مثل هذا التخيير
إذاً يجب علينا أن نتذكر دائماً أننا في حاجة قصوى للاقتصاد في أوقات طلابنا وجهودهم لكثرة الأشياء التي يحتاجون إلى تعلمها ولزيادة الأوقات التي يحتاجون إليها لأجل هذا التعليم
هذا من جهة ومن جهة أخرى يجب علينا أن نفكر في أمر أخر أهم من ذلك أيضاً: هذا الأمر هو ضرورة الاهتمام بمعالجة النزعة الكلامية على أفكارنا. . . إننا كثيراً ما نهتم بالألفاظ اهتماماً كبيراً، وقلما نسعى لتحديد معانيها تحديداً كافياً. . . وكثيراً ما ننخدع بالكلمات الفارغة، ونترك مجالاً واسعاً لتغلب الكلاميات على مناحي تفكيرنا. . فلا نغالي إذا قلنا بأننا مصابون - على الأكثر - بداء الكلاميات. . . إن أوربا أيضاً كانت مبتلاة بمثل هذا الداء؛ وقد صرف مفكروها ومربوها جهوداً عظيمة لمحاربة هذه النزاعات الكلامية، وتغليب روح التفكير الحقيقي ونزعة البحث العلمي عليها. . . ونحن الآن في حاجة شديدة إلى الاقتداء بهؤلاء في هذا المضمار. وأعتقد أن هذه الحقيقة يجب أن تبقى نصب أعيننا على الدوام عندما نفكر في وسائل ترقية ثقافتنا. . .
إنني أعتبر فكرة إدخال اللاتينية واليونانية في مناهج الدراسة الثانوية من الأفكار الخاطئة والمضرة من هذه الوجهة أيضاً لأنها تؤدي - بطبيعتها - إلى زيادة حصص اللغات في دراساتنا زيادة كبيرة، وذلك يزيدنا استغراقاً في الكلاميات ويبعدنا عن مناحي التفكير الصحيحة. . .
ولهذا الأسباب كلها أعارض هذه الفكرة معارضة شديدة
هذا ولا أراني في حاجة إلى إيضاح أنني لا اقصد من هذه المعارضة أن أعترض على كل من يود أن يتعلم اليونانية واللاتينية بل بعكس ذلك أتمنى أن يظهر بيننا من يولع باليونانية ويتخصص في آدابها ويسعى لترجمة مخلداتها؛ كما أتمنى أن يظهر من يتعلم اللاتينية ومن يتعلم الروسية وحتى من يتعلم اليابانية، ليتسنى لنا الاستفادة من نتاج تفكير جميع الأمم على اختلاف ثقافاتها. . غير أن إبداء التمني لظهور بعض الاختصاصيين من أبناء العرب في الآداب اللاتينية واليونانية شي واعتبار تعلم هاتين اللغتين من ضرورات الدراسة العالية قي الحقوق والتاريخ والجغرافيا شي أخر. . .
فأقول لذلك: أننا إذا أدخلنا اللاتينية واليونانية إلى مدارسنا الثانوية يكون مثلنا كمثل الخياط الغبي الذي تناقلت قصته بعض الأقلام: بذل الخياط المذكور جهوداً كبيرة في خياطة (بنطلون) لبحار إنكليزي شبيهاً (ببنطلونه) القديم الذي كان سلمة إياه. وأتقن الخياطة إلى درجة تقليد الترقيع الذي به أيضاً!
بعد أن شرحت رأيي في مسألة تعليم اللاتينية واليونانية شرحاً عاماً أرجع إلى آراء الدكتور طه حسين فيها، وأبين ما أعتقده في هذه الآراء على ضوء المعلومات التي سردتها:
إن أول ما يلفت الأنظار في ملاحظات الدكتور في هذا الباب، هو خلوها من الأدلة والبراهين، وتكونها من سلسلة دعاوى معروضة على شكل نصوص قاطعة يجب الاعتماد عليها بدون طلب برهان. كأن لسان حاله يقول على الدوام:(آمنت أنا، فعليكم أن تؤمنوا أنتم أيضاً)
فأنه عندما يذكر إيمانه العميق بضرورة اللاتينية واليونانية للثقافة المصرية يقول: (والأدلة على ذلك تظهر لي يسيرة هينة وجلية واضحة)(ص281) ولكنه لا يذكر شيئاً عن تلك الأدلة. فكل ما يكتبه بعد العبارة المذكورة لا يخرج عن نطاق بيان (جهل) معارضيه و (نقص دراساتهم) و (عدم إتقانهم الشؤون الثقافية في أوربا) و (عدم نظرهم إلى التعليم نظر التعمق والجد. . .) وما أشبه ذلك من تعبيرات التجهيل والازدراء
إنه عندما يتطرق إلى مسألة (تأثير هاتين اللغتين في تكوين العقل) تلك المسألة الهامة التي تكون حجر الزاوية في دعاوى أنصار اللغات القديمة لا يكلف نفسه مشقة شرح المسألة،
لأنه يعتقد أن ذلك فوق مستوى فهم معارضيه! ويسجل اعتقاده هذا بصراحة كبيرة إذ يقول: (كل هذا ولم أتحدث ولن أتحدث عن أثر هاتين اللغتين في تكوين العقل وتقويمه وتثقيفه وإعداده للتفكير المستقيم فإن هذا الحديث إن ذهبت إليه لم يفهم عني، لأن فهمه يقتضي معرفة هاتين اللغتين وممارستهما وابتلاء آثار هذه المعرفة والممارسة، والذين يعرفون هاتين اللغتين في مصر يمكن إحصاؤهم على أصابع اليد الواحدة أو على أصابع اليدين)(ص297)
وأخيراً عندما يتطرق الدكتور إلى الحالة الراهنة في أوربا ويشير إلى الخصومة القائمة بين أنصار اللغات القديمة وخصومها، يتهم معارضيه (بالإلمام اليسير، بل بالإلمام الناقص المشوه) بهذه الخصومة (ص285) ثم يحاول أن يصف هذه الخصومة (على وجهها الصحيح). غير أن من يقارن بين ما يقوله الدكتور في هذا الباب وبين التفصيلات التي سردناها آنفاً، يرى أن (الوجه) المذكور بعيد عن الصحة بعداً كبيراً. . .
يقول الدكتور طه حسين: (إن موضوع هذه الخصومة لم يكن ضرورة هاتين اللغتين للثقافة والحضارة)(ص285) في حين أن المؤلفات والمجلات التربيوية مملوءة بمباحث ومناقشات طويلة عن ضرورة أو عدم ضرورة هاتين اللغتين للثقافة والحضارة
يقول الدكتور: (كان موضوع الخصومة في حقيقة الأمر هذه المسألة: أيجب أن يتهيأ الناس جميعاً للعلم والتخصص، أم يجب أن يهيأ بعضهم لحياة العلم والتخصص ويهيأ أكثرهم للحياة العاملة؟)(ص285) في حين إن ذلك أيضاً بعيد عن حقائق الأمور بعداً كبيراً. . .
يقول الدكتور: (إن الخصومة حول تعليم اللاتينية واليونانية قامت في أوربا منذ أواخر القرن الماضي بين الديمقراطيين والمتطرفين من جهة، وبين المعتدلين والمحافظين من جهة أخرى)(ص284) في حين إن الخصومة كانت قائمة في عالم الفكر والتربية قبل إن تنتقل إلى ساحة السياسة بمدة طويلة. . .
وقد أسهبت أنفاً في تلخيص المناقشات التي دارت في أوربا حول هذه المسالة، فلا أرى حاجة للتوسع في تفنيد مدعيات الدكتور طه حسين في هذا الباب
أود إن اختم انتقاداتي هذه بملاحظة صغيرة: عندما يشرح الدكتور النظام الذي يقترحه لترقية الدراسة الثانوية يقول: (وكل من أراد إن يهيئ نفسه بعد الثقافة العامة للدراسات
الأدبية المختلفة كالتاريخ والجغرافيا والفلسفة والأدب الخالصة لإحدى اللغات فرضت عليه اللغة اللاتينية ولغة أجنبية حية وخيرته بين اللغة اليونانية ولغة أوربية أخرى) (ص301) وإذا لاحظنا أن الطالب المذكور سيدرس - بطبيعة الحال - اللغة العربية وآدابها أيضاً؛ نجد أنه سيتحتم عليه درس أربع لغات مختلفة على إن تكون الواحدة منها اللاتينية على كل حال. .
إنني اعتقد بان إشغال الطلاب - خلال دراستهم الثانوية - بهذا القدر من اللغويات لا يهيئهم إلى الدراسات المذكورة، بل يجعلهم اقل قابلية لاستساغتها بالمعنى الذي يفهم الآن في دراسة الفلسفة والتاريخ والجغرافيا
أبو خلدون
جناية احمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
- 12 -
لا يعرف أحد كيف استباح الأستاذ احمد أمين ما استباح فصنع بنفسه ما صنع!
وهل كان في مقدور ناقد مهما اعتسف إن يسيء إلى الأستاذ احمد أمين بمثل ما أساء إلى نفسه بلا ترفق ولا استبقاء؟
كنت أدعو الأستاذ احمد أمين إلى رعاية ماضيه فأصبحت ادعوه إلى رعاية مستقبله، فإني أخشى أن تضيع الثقة بكفايته العلمية فيصبح معدوم النصير والمعين، وهو لم يصل إلى ما وصل إليه إلا بمعونة الأصحاب والأصدقاء، والمرء بنفسه قليل
أقول هذا وقد كشف الأستاذ احمد أمين عن دفائنه المطوية فصرح بأنه يحتقر العقلية العربية في عهد الجاهلية ليتخذ من هذا الاحتقار وسيلة لتأييد دعواه في جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي
والجاهليون قوم كانت لهم حسنات وهنوات، وكلمة الحق فيهم لا تؤذي أحداً من الناس، وقد قال فيهم القرآن ما قال فلم يتأذ أحد من إخلافهم، لأنه لم يقل فيهم غير الحق
أما التحامل على عرب الجاهلية، وتجسيم مساويهم وتضخيم عيوبهم، والتشهير بوثنيتهم، والقول بأنها كانت وثنية أرضية وضيعة - كما يعبر أحمد أمين - فذلك إثم منكر يراد به تحقير الأرومة العربية وتسوئ سمعتها في التاريخ، وذلك لا يقع إلا من رجل يمشي في الوعر من عقوق الأباء والأجداد
نحن لا ننكر أن العرب القدماء كان فيهم وثنيون، فقد كان الحال كذلك عند قدماء المصريين والفرس والروم والهنود، وإنما ننكر أن تكون وثنية العرب وصلت إلى الانحطاط الذي تصوره احمد أمين حين ارتضى السخف الذي تنطق به العبارة الآتية منسوبة إلى أحد الأعراب:
(كنا نعبد الحجر في الجاهلية، فإذا وجدنا حجراً أحسن منه نلقي ذلك ونأخذه، فإذا لم نجد حجراً جمعنا حفنة من تراب، ثم جئنا بغنم فحلبناها عليه، ثم طفنا به)
كذلك روى أحمد أمين، وهو في غاية من الطمأنينة عن بعض الكتب القديمة ليؤكد لقرائه
أن العرب أهل لأن يقول فيهم من الإفك ما يقول
وتصديق هذه الأخبار شاهد جديد على العقلية العامية التي يعيش بها بعض الناس، فليس من الصحيح أن العرب كانوا يعبدون الشاة البيضاء فإذا أكلها الذئب أخذوا شاة أخرى فعبدوها، كما حدث الفقيه الذي نقل عنه أحمد أمين
أيها القراء أسمعوا، وعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا
أيها القراء أسمعوا تاريخ الوثنية الجاهلية، اسمعوها مني لا من أحمد أمين
كان في العرب وثنيون، بشهادة القرآن، ولكن أحمد أمين نسى حقيقة تاريخه ما كان ينبغي أن تغيب عن رجل يتصدر لتأريخ الحياة العربية. نسى هذا الرجل أن عصر النبوة شهد معركة عنيفة بين الوثنية والتوحيد، وفي تلك المعركة جاز لرجال الدين أن يلطخوا تاريخ الوثنية بالسواد ليندحر الوثنيون ولتنشرح صدور المؤمنين. فكل ما تقرءونه في الكتب التاريخية والدينية من وصف عرب الجاهلية بالغفلة والحمق، والطيش والخبال، وسوء الفهم، وبشاعة التصور، وخمود العقل، وبلادة الإحساس، كل أولئك الصفات الدميمة وضعت لغرض خاص هو تحقير الوثنية الجاهلية لتقوم على أنقاضها العقيدة الصحيحة عقيدة التوحيد
وكان من حق رجال الدين أن يصنعوا في تشويه الوثنية الجاهلية ما يشاءون، لأنهم كانوا يرونها زيغاً في زيغ وضلالاً في ضلال
أما أحمد أمين فلا يملك هذا الحق، لأن الإسلام قد استغنى نهائيا عن حرب الوثنية الجاهلية بالنصر المؤزر الذي ظفرت به عقيدة التوحيد
والموقف اليوم قد تغير بلا جدال، فهو ليس موقف الموازنة بين الجاهلية والإسلام حتى يستبيح ما يستبيح من تحقير الجاهليين، وإنما هو موقف المفاضلة بين الوثنية العربية والوثنية اليونانية، وهو موقف لا نخترعه أختراعاً، فقد صرح به الرجل الذي هداه فكره إلى القول بأن وثنية العرب كانت أرضية وضيعة وأن وثنية اليونان كانت سماوية رفيعة!
إن أحمد أمين يقول بأن الوثنية العربية وثنيه أرضية وضيعة، على حد تعبيره المهذب الجميل!
فهل يستطيع أن يقول من أين عرف أن وثنية العرب كانت أرضية وضيعة؟
أنه يجهل - وأنا أيضاً أجهل وسائر الناس يجهلون - كيف كانت الوثنية العربية، لأن تلك الوثنية طمست آثارها منذ أزمان طوال ولم تذكر في أي كتاب إلا بالتحقير والتصغير والتقبيح
وأنا أتحدى الأستاذ أحمد أمين أن يذكر كتاباً واحداً عني مؤلفه بشرح الوثنية الجاهلية شرحاً بين ما لها وما عليها بلا تزيد ولا بهتان
إن العرب ألفوا كتباً كثيرة عن الأصنام، ولكن الغرض من تلك الكتب كان غرضاً دينيا، وهو غرض شريف أرادوا به أن يجعلوا رجعة العرب إلى وثنيتهم من المستحيلات. ولو كانوا يعرفون أن تلك الكتب ستكون حجة يعتمد عليها من يشاء له هواه تحقير الأرومة العربية وتمجيد الأرومة اليونانية لحفظوا لأسلافهم بعض ما كان لهم من حسنات في الجاهلية
والحق أن الخلفاء الراشدين كانوا في غاية من الحزم الصارم العنيف الشريف في حرب الوثنية الجاهلية، لأنهم كانوا يريدون أن يكونوا أمثله عالية في رعاية الميراث الذي خلفه الرسول الكريم، وهو ميراث التوحيد، فلم يسمحوا لأحد برواية الأشعار التي تمثل الوثنية الجاهلية، وخاف المسلمون على دينهم فهجروا ما خلفت الوثنية من أسماء وأحاديث، وبالغوا في التصون من تلك الآثار لئلا يقال إن فيهم نزعة وثنية
كان للعرب صنم أسمه يغوث، فهل يعرف أحمد أمين مبلغ الأساطير التي صيغت حول يغوث؟ وهل يعرف ما صيغ حول اللات والعزى من أقاصيص؟ وهل يستطيع أن يقول بأن الوثنية العربية بقيت سليمة من التحريف والتبديل؟
لو بقيت الأساطير الجاهلية لاستطعنا أن نعرف شيئاً عن الوثنية العربية، ولكن تلك الأساطير ضاعت إلى الأبد، لأن روايتها كانت محرمة على المسلمين، والحكم على الغائب لا يخلو من تعسف واستبداد
لو أن الأستاذ أحمد أمين حين تحدث عن وثنية العرب بالتقبيح كان يريد إظهار فضل الإسلام على العرب لتلقينا كلامه بالقبول. فالإسلام نقل العرب من الظلمات إلى النور، ولكن أحمد أمين يحقر الوثنية العربية لغرض آخر هو قوله الصريح بسماوية الوثنية اليونانية وأرضية الوثنية العربية
كنت أحب أن أنقض كلام أحمد أمين بشواهد من التاريخ؛ ولكن أين أجد تلك الشواهد وقد تقرب العرب إلى الله بوأد الوثنية الجاهلية؟
وهل أملك اختراع الحجج والبراهين، وقد تلقيت عن أساتذتي في الجامعة المصرية وجامعة باريس دروساً كثيرة في تكوين عناصر الحجج والبراهين؟
الحق أني لا أملك إسكات أحمد أمين لأنه يعتمد في تحقير الوثنية العربية على ما رواه القصاص وأنا لا أقيم لتلك الروايات أي ميزان
فالعجز من جانبي تقضي به العقلية العلمية - ولا فخر - والقدرة من جانبه تقضي بها العقلية العامة من غير شك
إن العرب خلعوا وثنيتهم عامدين متعمدين طاعة لله الذي نهاهم عن التعلق بالوثنية، ولم يحفظوا من صور تلك الوثنية غير الصور التي قبحها القرآن ليروضهم على التوحيد، فمن حدثكم أن العرب في جاهليتهم كانوا يعيشون بعقلية أرضية وضيعة فاعلموا أنه يحكم على الغائب بلا بينة ولا برهان
وهنا مسألة دقيقة لا يمكن أن تخطر في بال الأستاذ أحمد أمين، لأنه على فضله بعيد كل البعد عن التعمق والاستقصاء
قلت لكم إن الرب بين الوثنية والتوحيد قضت باندحار الوثنية وتلطيخ سمعتها بالسواد، وأقول الآن إن هناك حرباً ثانية عانتها الوثنية العربية أيام فتنة الشعوبية، فقد أراد الشعوبيون أن يجعلوا العرب في جاهليتهم مثلاً في السخف والحمق والخبال، ولذلك تفاصيل يعرفها من يقرأ كتب الأدب والتاريخ بعقلية المؤرخ. . .
وكذلك نعرف أن الوثنية العربية عوديت مرتين: مرة بسبب العصبية الدينية، ومره بسبب العصبية الجنسية. وقد خفيت أسباب العداوة الثانية على كثير من الناس
وخلاصة القول أن الوثنية العربية حوربت بلا هوادة ولا رفق، ولم يبق من أصولها السليمة ما يعين الباحث على تصحيح العقلية العربية في العصر الذي نسخه الدين الحنيف، فمن حق أحمد أمين أن يتزيد على العرب كيف شاء، ومن حقنا أن نقول: إن إصراره على تحقير العرب في جاهليتهم (وهو لا يعرف شيئاً صحيحاً عن وثنيتهم) هو إصرار الرجل المحروم من نور المعرفة بأصول المباحث العلمية في العصر الحديث
بقيت فتنة أحمد أمين بالوثنية اليونانية التي ابتدعت أفروديت وأدونيس وإيروس، فهل يعرف كيف عاشت الوثنية اليونانية؟
لو أن اليونان كانوا أسلموا كما أسلم العرب لوجد في اليونان من يبدل آثار الوثنية اليونانية بحيث تصبح وتسمى وهي مثل في الرقاعة والسخف
ولكن اليونان عاشوا في جاهليتهم بعد ظهور الإسلام بأجيال طوال، وظلوا يتوارثون أوهام أسلافهم من عصر إلى عصر إلى أن جاء المتطرفون من شعراء الفرنسيس والإنجليز فعكفوا على تلك الوثنية يعبدونها من جديد لأنها قامت على أساس براق هو التقديس لجموع الأهواء وطغيان الأحاسيس
وهنا تحل المشكلة التي حار في فهمها أحمد أمين، فهذا الرجل يعجب من سكوت العرب عن ترجمة ما كان عند اليونان من أشعار وأقاصيص
وأنا أتصدق عليه بحل هذا الإشكال فأقول: إن المسلمين الذين نهاهم دينهم عن أحياء الوثنية العربية قد انتهوا بفضل الدين عن أحياء الوثنية اليونانية
وهل يعرف صاحبنا متى استفحلت حماسة الأوربيين لوثنية اليونان؟
انهم انتصروا لتلك الوثنية يوم استحكمت العداوة بين اليونان والأتراك؟ وهل كان يمكن لشاعر مثل بيرون أن يشايع اليونان لوجه الحق؟
إن الغافلين يجهلون السر في تغني شعراء فرنسا وإنجلترا وإيطاليا بقلعة الأكروبول، فهذا التغني كانت له غاية أصيلة هي تمجيد الأمة التي جعلت عبادة الشهوات من الشرائع. ولو كانوا يريدون وجه الحق لوقفوا على (الكعبة) العربية التي يتوجه إليها الملايين من أهل المشرق والمغرب في أوقات الصلوات، والتي كانت مثابة للألوف من أقطاب التشريع
ولكن الكعبة ليست من هواهم: لأنها لم تمجد الشهوات ولأنها خلت من عبادة أفروديت وأدونيس وإيروس!
إن الشهوة من أهم العناصر في الحياة الإنسانية، وهي تستهوي الناس في كل عصر وفي كل أرض، ولكن العرب امتازوا بين الأمم بالتخوف من عواقب الشهوات، فكانوا لذلك موضع الغضب فلتسخريه من الشعراء الظرفاء الذين بكوا دماً على مصير اليونان أيام حرب الاستقلال
وهل يمكن القول بأن اليونان خدموا الشهامة والفتوه والرجولة كما خدمها العرب؟
هيهات! هيهات!
إنما هي وشائج من الشهوة والعصبية السياسية قضت بأن يقول الأوربيون إن وثنية اليونان كانت وثنية سماوية لتقوم لهم دولة تضايق بعض العرب والمسلمين في الشرق
وأحب أن أبين أوجه الحق في هذه القضية فأقول:
إن هيام الشعراء الأوربيين بالوثنية اليونانية له صلة وثيقة بما كان يكرثهم من مصاعب وأهوال. ذلك بأن الوثنية اليونانية تقوم على عبادة المرح والبهجة والإيناس، فأهواء الآلهة عندهم أهواء حادة من الوجهة الحسيه بحيث يمثلون ما في الطبيعة الحية ندمن غضب وبطش وجبروت؛ وأذواق الآلهة عندهم أذواق مترفة ناعمة تمثل ما في الطبيعة الحية من مرح وجذل وفتون
والشاعر الذي يعيش في رحاب الوثنية اليونانية يعيش عيش السعادة والنعيم، فهو محروس بقوات خفية في جميع الشؤون: فله عند الغضب إله ينصره هو إله الحرب، وله في أوقات السرور إله يرعاه هو إله الخمر، وله عند الصبوة إله يفتح له قلوب الملاح هو إله الحب
وهذا هو السر في أن شعراء أوربا وجدوا في الوثنية اليونانية ما لم يجدوه في الشريعة الإسلامية، مع أن الشريعة الإسلامية محملة بالطرائف من أصول الآداب والفنون
وتوضيح ذلك سهل: فلذي ينظر في الوثنية اليونانية يواجه اصطخاب الأهواء والأذواق والأحاسيس، أما الذي ينظر في الشريعة الإسلامية فيواجه بحراً هائجاً من الواجبات والتكاليف، ويشعر بأنه مسئول عن كل شي حتى خطرات القلوب
وهذه الخصيصة من خصائص الشريعة الإسلامية كان لها دخل في عدم ظفر الإسلام بغزو المشاعر في الممالك الأوربية، فالإسلام دين صارم عنيف لا ينظر للأهواء والشهوات إلا بعين الغضب والمقت، وهو ينذر المسرفين على أنفسهم بالويل والهلاك
وقد أتستطاع الإسلام أن يؤثر في المسيحية فخلق منها مذهب البروتستانت، ولكن ذلك المذهب حول المسيحية إلى ميادين عقلية لا يتذوقها الجمهور الأوربي إلا بمشقة وعنت، وما عاش ذلك المذهب إلا لأن الذين اعتنقوه كانوا أصحاء وسيعودون إلى الكثلكة يوم يغلب عليهم الضعف
واليونان تنصروا بعد الوثنية، ولكن نصرانية اليونان نصرانية شعرية هي مذهب الأورثودكس، وهو مذهب جذاب براق ترف أجنحته بأرواح الشعر والخيال. وهو نفسه مذهب النصارى في مصر، لأن الوثنية المصرية لا تقل ألواناً وتهاويل عن الوثنية اليونانية
والإسلام الصحيح لم يعرفه العرب إلا في عهد الصحة والعافية، فلما ضعفوا خلعوا على إسلامهم أردية جديدة من أردية الوثنية. ولو قام باحث بتدوين الأساطير التي صيغت حول الأولياء والصالحين لأمد الأدب بثروة تفوق الثروة التي عرفها اليونان أيام الوثنية
قد يقول قائل: وما محصول هذا الاستطراد؟
وأجيب بأنه يفسر تلك الظاهرة الغريبة التي لم يقع مثلها في التاريخ: فظهور الإسلام في بلاد العرب لعهد ظهوره كانوا في عافية روحية وعقلية، ولذلك استطاع الإسلام أن ينسخ وثنية العرب إلى غير رجعة، ليحولهم إلى رجال يفكرون في عجائب الأرض قبل أن يفكروا في غرائب السماء، والأرض هي المزدرع الأصيل لطلاب السيطرة والجبروت من أصحاب العزائم الشداد
وأحمد أمين لا يفكر في هذه الحقائق لأنه رجل محترم، والرجال المحترمون يكتفون بما رضيه الناس من المنقولات والمرويات
ولكن أين نحن من جوهر هذا البحث؟
أنا أخشى أن يكون فيما عرضته من الحجج والبيانات شيء من الغموض، لأنني احترست في عرض بعض المشكلات احتراس من يمشي على الشوك لأسلم من تقول المرجفين
فما هو جوهر البحث بطريقة واضحة صريحة تؤكد صدق ما ذهبنا إليه؟
خلاصة القول أن أحمد أمين حكم بأن وثنية العرب كانت (أرضية وضيعة) وأن وثنية اليونان كانت (سماوية رفيعة)
وقد أثبتنا بالبرهان القاطع أن وثنية العرب محاها الإسلام، ولم تبق لها رسوم ولا أطلال، فالحكم لها أو عليها حكم على مجهول ونحن نتساجل بطريقه علمية لا تغني فيها الأحكام على المجهولات أي غناء
وقد تحدث الإسلام عن وثنية العرب في مواطن كثيرة من القرآن، ولكنه لم يشر إلى ما
كان في تلك الوثنية من نفحات الشعر والخيال، لأن الإسلام لا يرى الخير والحق والجمال في عقيدة غير عقيدة التوحيد
وما كان ينتظر أن يصنع الإسلام غير الذي صنع، فحكمه قام على أساس الصدق في تطهير العقلية العربية من أوضاع الأساطير والأباطيل
أما أحمد أمين فموقفه مختلف كل الاختلاف، فهو يعير العرب بوثنيتهم، وهي عنده أرضية وضيعة، مع أنه لم يعرف من تلك الوثنية غير وجهها الدميم، وذلك الوجه الدميم موضع شك وارتياب، لأنه لون بأصباغ جديده خلقتها العصبية الدينية والعصبية الجنسية
وأحمد أمين ينظر إلى الوثنية اليونانية بعين الإعجاب ويراها سماوية رفيعة
ومن المؤكد أنه لا ينضر إليها تلك النظرة إلا وقد جرد نفسه من النزعة الدينية، لأن الإسلام لا يرضى عن الوثنية في أي شكل من الأشكال
فلم يبق إلا أن يكون نظر إليها من الوجهة الأدبية، وعندئذ نقول إنه على حق في الإعجاب بتلك الوثنية، لأنها وثنية حية ولأنها لونت الأخيلة والأذواق في كثير من الممالك والشعوب
ولكن تلك الوثنية ظفرت بحظ لم تظفر بمثله الوثنية العربية فقد ظفرت بالإعزاز والتبجيل على حين لم تظفر وثنية العرب بغير التحقير والتقبيح
فالجميل من الوثنية العربية تناساه المؤمنون، والقبيح من الوثنية اليونانية تناساه المشركون. وكانت النتيجة أن لم يبق من وثنية العرب غير القبح، ولم يبق من وثنية اليونان غير الجمال
قولوا الحق أيها القراء!
ألا ترون أن الأستاذ أحمد أمين يجني على المنطق وعلى التاريخ حين يستبيح ما يستبيح في تحقير الجاهلية العربية وتمجيد الجاهلية اليونانية؟
أنا أحتكم إليكم أيها القراء لتفصلوا بيني وبين هذا الزميل
إن الوثنية العربية قد انقرضت تمام الانقراض، ولن تعود مصدر خوف على العقيدة الإسلامية، فلا حرج على الرجل المسلم من القول بأن العرب في جاهليتهم كانت لهم أوهام وأضاليل قد لا تقل جمالاً عما كان عند الفرس والروم والهنود من أوهام وأضاليل
إن الأساطير تخلق لغاية معروفة هي ملء فراغ الأفئدة والعقول، وكان العرب في جاهليتهم
كاليونان في جاهليتهم يحتاجون إلى تزجية أوقات الفراغ بطرائف الأسمار والأحاديث، فلم يكن بد من أن يبتدعوا ألوانا من الأقاصيص تصور أهواء الأصنام والأوثان، كما أبتدع اليونان، ألوانا من الأقاصيص تصور ما كان عند آلهتهم من نزوات وشهوات وأهواء
ولكن أين الأساطير العربية؟ أين؟ أين؟
لقد محاها الإسلام ليخلو الو للعقيدة السليمة عقيدة التوحيد. وأنا مع ذلك قادر على وضع خطوط للوثنية العربية إن سمح الزمن بأن أعيش في بلاد العرب عامين أثنين أدرس فيهما ما بقي في أذهان العرب من أساطير الأولين، ويومئذ نعرف بعض الفروق بين أحلام العرب وأوهام اليونان. فإن لم تتح هذه الفرصة فقد وجهت الأذهان إلى درس هذا الموضوع الطريف، وهو موضوع حاولت درسه منذ سنين لأقدم عنه رسالة إلى جامعة باريس تحت عنوان:
'
وقد صدني عنه رجال ثلاثة: أولهم الدكتور طه حسين وكانت حجته أن هذا البحث قد ينتهي إلى (الكفر الموبق) وثانيهم لطفي باشا السيد وكانت حجته أنه لا يحسن تعريض الجمهور لفتن جديدة، وثالثهم المسيو فيت وكانت حجته أنه لا يمكن لباحث أن يسبر أغوار هذا البحث إلا بعد أن يقيم في بلاد العرب بضع سنين
ولو أن المقادير كانت سمحت بالمضي في هذا البحث (وكنت شرعت فيه سنة 1927) لكان من المستحيل أن أعجز عن تقديم صورة من الوثنية العربية أقاوم بها السحر الذي تتمتع به وثنية اليونان. فهل أنتظر أن يكون بين طلبة كلية الآداب من يوجه همته إلى هذا البحث الطريف؟
هل أنتظر أن يكون فيهم من يؤرخ المدة التي غفل عنها مؤلف كتاب (فجر الإسلام)؟
إن من القراء من يذكر أني نبهت الأستاذ أحمد أمين إلى هذه النقطة بمقال نشرته في جريدة البلاغ، ومنهم من يذكر أن بعض تلاميذ الأستاذ أحمد أمين دافع عنه يوم ذاك
والمشكلة مع ذلك باقية، وقد فصلتها في كتاب النثر الفني بعبارات تعجب منها الأستاذ احمد أمين، ودهش من سكوت الجمهور عما فيها من صراحة جريئة، أشار إلى انه تلطف بالسكوت عنها يوم نقد كتاب النثر الفني في مجلة الرسالة سنة 1934
أيها المولعون بالمباحث الأدبية والتاريخية
أنا أوجهكم إلى موضوع صدتني عنه ظروف الحياة، وهو درس ما بقي في أذهان العرب من أساطير الأولين لتعرفوا شيئاً من رسوم الوثنية العربية التي حاربها القرآن
فان وفقتم إلى شيء فسنعرف كيف كان العرب يتصورون الدنيا والوجود قبل أن تظلهم راية الدين الحنيف، ويومئذ نعرف كيف كانت جاهلية العرب بالقياس إلى ما عرفنا من جاهلية اليونان
(للحديث شجون)
زكي مبارك
حول نعيم الجنة
بين الحسية والروحية
للدكتور محمود علي قراعة
نحن لم ننكر ما في وجوه أهل الجنة من نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم متكئين على أرائك منصوبة على أطراف أنهار مطردة بالخمر والعسل واللبن، محفوفة بالغلمان والولدان، مزينة بالحور العين، وان فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ولكنا إن آمنا بهذا كله، فإنا اكثر إيماناً بان لذة النظر إلى وجه الله تعالى تفوق كل اللذات، وأن لذة اللقاء والرضى أسمى نعيم. وإنا نرى أن اللذات الأخرى الثانوية لذات حسية تسموا بالروح أو لذات روحية معنوية تطربها، لذلك قال مجاهد في قوله تعالى (وأزواج مطهرة) قال من الحيض والغائط والبول والبصاق والنخامة والمني والولد، فارتفع بلذة الأكل والشرب والنكاح من المستوى البهيمي إلى مرقاة الروح. وأنت في هذه الدنيا إذا جلست إلى مائدة فخمة، فتحركت فيك شهوة الطعام وسررت بألوانه المختلفة أمام ناظريك، تستطيع إن تضع على المائدة الأزهار والرياحين الجميلة، ووجودها لا يلهب الرغبة في الطعام، بل يجعلها شريفة ويوجد حولها جواً روحياً يسمو بها بعض السمو. ولذلك نرى الغزالي وهو حجة في الإسلام يجعل للأكل صفة اجتماعية منظمة، فيرى أن من آدابه إن يكثر الإنسان الأيدي على الطعام ولو من أهله وولده، وان يغسل اليد لان اليد لا تخلو عن لوث في تعاطي الأعمال فغسلها اقرب إلى النظافة والنزاهة، ولان الأكل لقصد الاستعانة على الدين عبادة، وان يبدأ باسم الله في أوله وبحمده في أخره. ولا ريب في إن القصد من هذا السمو بلذة الأكل وإحاطتها بأجواء روحية تخرجها بقدر الإمكان عن ماديتها. فإذا قلنا بروحية اللذات في الجنة وبان الحسي منها يعززه الإشعاع الروحي، فإننا إنما نعبر أصدق تعبير عن روح الإسلام (ولو كره الأستاذان جويق وحمدان). وكذلك يمكن القول عن الصلة بين المرء وزوجه، هل يمكن قصرها على الصلة البهيمية وأبعاد الصلة القلبية الروحية، أم أن الصلة القلبية الروحية هي الأصل، وما عداها تابع؟ ثم لماذا ننكر خطر الإشعاع الروحي؟ أما القول بأن السمو الروحي للذات الحسية يعترضه أن كل شخص لا يمكن أن يتعدى درجته من النعيم، فمردود بأنه لن يتعدى درجته لأن ما حوله من نعيم يهيئ له
السمو الروحي للدرجة المقدرة له. هذا إذا جاريناهم لنستدرجهم، لأنه لم يقل أحد بتحديد اللذة وإن كنا نختلف في درجات النعيم، فكما أنك في الدنيا لك أن تستعمل ملكك في كل أوجه الاستعمال إلا الاستعمال المنافي للقانون أو الذي فيه إساءة لاستعمال الحق أو التعدي على الغير، فأقل ما يتصور أن تكون كذلك في الآخرة لا يحد من استعمالك إلا بعد هذا الاستعمال عن جو السمو الروحي الذي يشع على المؤمنين. ثم إن تحديد الدرجات لا يمنع أن أتمتع بكل ما أستطيع من النشوة الروحية، لأن الممنوع ليس الصعود في نشوتي بل الرقي عن درجتي. ثم إن الذي يحدد هذه الدرجة هو معرفة الله، فبقدر معرفته سبحانه ستكون درجات النعيم، وبقدر معرفته سبحانه ستكون اللذة. ولعل الذين ينكرون هذه الفكرة، يفهمون قول التلمساني إن من شئون النفس أنها كلما قل اشتغالها بالبدن انبسطت وأعطت قواها، وأنها كلما ازدادت علماً فعلمت به، ازدادت قوة على ما هو أغمض وأرفع، فلا هي تنحصر ولا الأمر ينتهي. ولذا رأى المناوي أنه على من أراد أن ينزع عن عالم الحس ويرجع إلى ذاته، أن يعمل على ركود حواسه الظاهرة ليقوى على أن يحس بما لا يقع عليه الحس. فإذا فهموا معنا أن النفس الإنسانية كما قال الغزالي ليست جسماً ولا جسمانية بل هي جوهر مجرد (أي ليست قوة جسمانية حالة في المادة ولا جسماً بل ولا مكانية لا تقبل الإشارة) متصرف في البدن تصرف التدبير من غير أن تكون داخلة فيه بالجزئية والحلول، استطاعوا أن يعرجوا مثل فيثاغورس إلى العالم العلوي (إذا سما جوهرهم) وأن يسموا مع أرسطو وأفلاطون إلى درجة الخروج عن البدن كأنهم مجردون لا أبدان لهم، فيرون أنفسهم داخلين في ذواتهم خارجين عن سائر الأشياء، ويروا في نفوسهم المتجردة من أثقال البدن أنواعاً من الحسن والبهاء، ما تعجب وتريهم أنهم من الجوهر الأعلى الأفضل الشريف وأنهم ذوو حياة فعالة كما قال العلامة مسعود التفتازاني فيفهمون مع الصوفيين أن كل المخلوقات بأسرها مظاهر صفات الله وطريق إلى القرب منه وزيادة معرفته. فإذا ما فهموا معنى هذا فإنا لا نبخل عليهم في أن نضرب لهم مثلاً لحسيات تسمو بأرواحهم، وأسمى مثل هو مثل الصور الجميلة الآدمية وهي حسيات تدعو الكثيرين إلى أحط أنواع اللذات الحسية، ولكنهم إذا أتبعوا السمو الذي ذكرنا، فأنهم واصلون إلى فهم أن هذه الصور موصلة إلى معرفة معانيها، وما معانيها إلا إدراك قدرة الله تعالى وعظيم شأنه
وجليل جماله، فإذا ناجى المخلوق صورة آدمية جميلة فهو لا يناجيها هي بالذات وإنما يناجي خلقه البادي جماله ومظاهر قوته في معانيها. ولذا نجد أبن الفارض يقرر في تائيته الكبرى أن حسن كل مليح ومليحة معار من حسن الذات الإلهية، وأن قيساً حينما هام بلبنى، وأن مجنون ليلى حينما هام بليلى، وأن كثير عزة حين هام بعزة، وأن كل العشاق حين يهيمون بمعشوقيهم لا يهيمون بهم على الحقيقة، وإنما هم يهيمون بالذات الإلهية التي صورت تلك الصور فأحسنت خلقها، وأن الله مرئي وأن تلك الصور الجميلة المختلفة وإن تعددت إنما تعبر عن معنى واحد وهو الجمال الإلهي، وأن العشاق جميعاً ينضوون تحت لواء لأنهم جميعاً يعشقون معنى واحداً. وبعد أن ذكر في شعره شوقه اللذات الإلهية كلما رأى حسناً وكلما هاجه حب، فيشاهدها فكره بطرف تخيله، ويسمعها ذكره بمسمع فطنته، فينتشي في ظاهره ويطرب في باطنه، ويرقص قلبه وتشدو روحه، ويراها ماثله في معاني الحسن والجلال - خرج من ذلك إلى أن الإنسان يمثل الله على أرضه لأن فيه معنى من معاني جلال الرب. وكما أن من شاهد نفسه في مرآة بدت له صورتها، وأن من تكلم بأكناف القصور سمع صوت نداه، فكذلك كل مظاهر القوة والجمال في هذا العالم ليست غير المعنى الإلهي الذي أودعه فيها. فالعبد على هذا إذا ناجى ربه فإنما يناجي علة وجوده، والرب إذا ناجى عبده فإنما يناجي خلقه وصنعه، فالصلة بين العبد وربه إذن صلة موجود وموجد، وما دام الموجود أصل الموجود، والموجود لا يوجد إلا بهذا الموجد فالعبد عند معرفته نفسه ووقوفها على سموها ورفعتها إنما يعرف في ذلك ربه. والصورة الجميلة على ذلك إذا نوجيت وإذا عشقت وإذا هيم بها، فإنما يهام بها وتناجى وتعشق لهذا المعنى. هذا مثل نضربه للسادة الحسيين. وإذا أرادوا أمثله أخرى فليرجعوا إلى لكتابينا مملكة الجمال والحق والخير، ومناجاة الجمال، ليجدوا أنا نرى أن الذي يشوق هو الحياة في العيون، حياة بريقها وحياة سحرها، والحياة في الحديث والحياة في الابتسامة، وأن خفة الروح هي الني تحبب ألينا الجميل، تحبب ألينا حديثه فتجعله مغناطيسياً جاذباً لقلوبنا، وتبعث ألينا فتنته فتور عينيه، وترسل ألينا تحيته ابتسامته وأنها صلة روحية يعوزنا لتذوقها أن نتفهمها لتحول بينها وبين البهيمية ولنقدس بها المنعم علينا بها. وأحب بعد ذلك من هؤلاء الحسيين أن يجولوا معنا في كتاب تهذيب الأخلاق لأبن مسكويه جولة قصيرة ليقفوا أمام قوله: (وقد
ضن قوم أن كمال الإنسان وغايته هما في اللذات الحسية، وأنها هي الخير المطلوب والسعادة القصوى. وظنوا أن جميع قواه الأخرى إنما ركبت فيه من أجل هذه اللذات والتوصل إليها، وأن النفس الشريفة التي سميناها ناطقة إنما وهبت له ليرتب بها الأفعال ويميزها ويوجهها نحو هذه اللذات لتكون الغاية الأخيرة هي حصولها على النهاية والغاية الجسمانية. وظنوا أيضاً أن قوى النفس الناطقة أعني الذكر، والحفظ والروية كلها تراد لتلك الغاية، قالوا وذلك أن الإنسان إذا تذكر اللذات التي حصلت له بالمطاعم والشارب والمناكح، اشتاق إليها وأحب معاودتها، فقد صارت منفعة الذكر والحفظ إنما هي اللذات وتحصيلها، ولأجل هذه الظنون التي وقعت لهم جعلوا النفس المميزة الشريفة كالعبد المهين وكالأجير المستعمل في خدمة النفس الشهوية، لتخدمها في المآكل والمشارب والمناكح وترتبها لها وتعدلها اعدالاً كاملاً موافقاً. وهذا هو رأي الجمهور من العامة الرعاع وجهال الناس السقاط. والى هذه الخيرات التي جعلوها غايتهم، تشوقوا عند ذكر الجنة والقرب من بارئهم عز وجل وهي التي يسألونها ربهم تبارك وتعالى في دعواتهم وصلواتهم، وإذا خلوا بالعبادات وتركوا الدنيا وزهدوا فيها، فإنما ذلك منهم على سبيل المتجر والمرابحة في هذه بعينها، كأنهم تركوا قليلها ليصلوا إلى كثيرها، وأعرضوا عن الفانيات منها ليبلغوا إلى الباقيات ، إلا انك تجدهم مع هذا الاعتقاد وهذه الأفعال إذا ذكر عندهم الملائكة والخلق الأعلى الأشرف وما نزههم الله عنه من هذه القاذورات، علموا بالجملة انهم أقرب إلى الله تعالى وأعلى رتبة من الناس وأنهم غير محتاجين إلى شيء من حاجات البشر، بل يعلمون أن خالقهم وخالق كل شيء الذي تولى إبداع الكل هو منزه عن هذه الأشياء متعال عنها غير موصوف باللذة والتمتع مع التمكن من إيجادها، وإن الناس يشاركون في هذه اللذات الخنافس والديدان وصغار الحشرات والهمج من الحيوان، وإنما يناسبون الملائكة بالعقل والتمييز. . .) وبذا نراه وضع لنا أساساً سامياً نبيلاً في تقدير اللذات، وأن أسماها ما كان ربانياً. ثم جل معنا إلى أن نصل إلى قوله: (إن الإنسان ذو فضيلة روحانية يناسب بها الأرواح الطيبة التي تسمى ملائكة، وذو فضيلة جسمانية يناسب بها الأنعام لأنه مركب منها، فهو بالخير الجسماني الذي يناسب به الأنعام مقيم في هذا العالم السفلي مدة قصيرة ليعمره وينظمه ويرتبه حتى إذا ظفر بهذه المرتبة على الكمال أنتقل إلى العالم العلوي وأقام
فيه دائماً سرمداً في صحبة الملائكة والأرواح الطيبة). ثم تراه يقرر أنه ليس يعني بالعلوي المكان الأعلى في الحس، ولا بالسفلي المكان الأسفل في الحس، بل كل محسوس فهو أسفل وإن كان محسوساً في المكان الأعلى، وكل معقول فهو أعلى وإن كان معقولاً في المكان الأسفل. ثم نراه يذكر لنا أن للحسن لذة عرضية على حدة، وأن للعقل لذة ذاتية على حدة، وأن من لا يعرف اللذة الذاتية لا يعرف اللذة بالحقيقة ولا يلتذ بها. وهو يسمي اللذة الناقصة التي تشاركنا فيها الحيوانات لذة انفعالية، ويسمي التامة التي يختص بها الحيوان الناطق لذة فعلية أي فاعلة، وسمى اللذات الحسية المقترنة بالشهوات عرضية لأنها تزول سريعاً وتنقضي وشيكاً بل تنقلب لذاتها فتصير غير لذات بل تصير آلاماً كثيرة أو مكروهة بشعة مستقبحة، أما اللذة الذاتية فتسمى كذلك لأنها لا تصير في وقت أخر غير لذة ولا تنتقل عن حالتها بل هي ثابتة أبداً. وخرج من هذا الحكم بأن السعيد تكون لذاته ذاتية لا عرضية، وعقلية لا حسية، وفعلية لا انفعالية، وإلهية لا بهيمية. ثم يحدثنا بعد ذلك عن الجوهر الإلهي الذي في الإنسان وأنه إذا صفا من كدورته التي حصلت فيه من ملابسة الطبيعة ولم تجذبه أنواع الشهوات وأصناف محبات الكرامات، اشتاق إلى شبيهه ورأى بعين عقله الخير الأول المحض الذي لا تشوبه مادة؛ فأسرع إليه وحينئذ يفيض نور ذلك الخير الأول عليه، فيلتذ به لذة لا تشبهها لذة، ويصير إلى معنى الاتحاد، استعمل الطبيعة البدنية أم لم يستعملها، إلا انه بعد مفارقته الطبيعة بالكلية أحق بهذه المرتبة العالية، لأنه ليس يصفو الصفاء التام إلا بعد مفارقته الحياة الدنيوية. فترى من هذا كله إعزاز الجانب الروحي في الدنيا، وهو بلا ريب في الآخرة أعز، وفي الجنة أوفى، فأحب أنا إذا ذكرنا الحور العين مثلاً وأنهن كما ذكر الغزالي غنجات عاطرات آمنات من الهرم والبؤس مقصورات في الخيام، وإذا ذكرنا انه يطاف على المؤمنين وحورهم بأكواب وأباريق وكأس من معين بيضاء لذة للشاربين وأن الذين يطوفون خدام وولدان كأمثال اللؤلؤ المكنون في مقام أمين في جنات وعيون في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر (كما جاء في القرآن في سورة الرحمن والواقعة، وغيرهما) أحب إن يكون فهم لذة هذا كله ما ذكرنا من تقديس خالق هذه الصور وهذه الجنات وهذه الأنهار، وفهم أن اللذة الروحية التي يتمتع بها المؤمنون من كل هذا هي أسمى مما يصوره بعضهم من أن المقصود هو أن يباضع
المؤمن كل هذه الحور وأنه يؤتى قوه عجيبة إذ ذاك على الجماع. ولا أنكر أن يكون هذا في الجنة لأنه لذة وإن كانت لذة حسية إلا أنها لذة لها حبها والرغبة فيها. ولكن الذي أنكره وأنكره بكل قواي أن يكون هذا الأمر الثانوي هم أهل الجنة أو أن يفهم بعضهم من ذكر الوالدان الفهم السقيم الذي سبق أن ذكرناه وعارضنا فيه بعض العلماء، وأرى أن أسمى جزء في التمتع هو التمتع بالفكرة الروحية، وأن يكون المؤمنون في مقعد صدق عند مليك مقتدر ينظرون فيها إلى وجه الله الكريم وقد أشرقت في وجوههم نضرة النعيم، لهم فيها كل ما يشتهون، وأنهم كل يوم بفناء العرش يحضرون، وأنهم ينالون النظر من الله ما لا ينظرون معه إلى سائر نعيم الجنان. هذا وقد ذكر الأستاذ داود حمدان البعث والنشور، والرأي أنه سواء أخذنا بإعادة المعدوم في الكل أو جمع ما تفرق منه، فإنها إذا أعيدت في الآخرة فلا بد أن يجعلها الله تعالى في نشأة أخرى مستعدة للبقاء غير قابلة للفناء مهيأة لما تلقاه من النعيم أو العذاب، وتكون الأرواح فيها قوالب الأبدان والأبدان من جنس أرواحها كما ذكره أبن القيم، وإن جميع الإدراكات من سمع وبصر ولذة وألم لا تكون متفرقة في مواضع البدن كما هي في نشأة الدنيا بل يوصف كل جزء بأنه سميع بصير متلذذ متألم كما تقتضيه نشأته (وننشئكم فيها لا تعلمون) ومعنى (كما بدأنا أول خلق نعيده) أنا نعيد أول خلق ممثلاً للذي بدأناه؛ والتشبيه يقتضي المغايرة (كما ذكر أستاذنا المرحوم الشيخ محمد حسنين مخلوف العدوى في كتابه أحكام الروح ص 98) فهذا لا ينافي إعزاز اللذة الروحية. وكذلك ذكر الأستاذ جويق رؤية الله تعالى، والرأي أنه جل شأنه لا يرى ولا يحس إلا بعين مخلوقة له ومجلي لائق باستعداد الرائي كما نقله الألوسي عن بعض المحققين في تفسير قوله تعالى:(وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناضرة) أنه إذا رفع الحجاب بينه تعالى وبينهم ينظرون إليه وينظر إليهم وجل. وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية فيرونه سبحانه لكن لا من حيث عز ذاته البحت ولا من حيث كل تجل حتى تجليه بنوره الشعاعي الذي لا يطاق، بل بتجل مطاق لهم وملائم لاستعدادهم وأن هذا الحجاب (كما ذكر أستاذنا مخلوف في أحكام الروح ص 102) غير الحجاب المشار إليه في حديث (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه (أنواره وجلاله وعظمته التي منها خر موسى صعقاً وتقطع الجبل دكاً لما تجلى عليه) كل شي أدركه بصره، فلا معنى
لرؤية ذاته تعالى عند المحققين إلا رؤية حجابه (حجاب التنزل والتجلي) كما أنه لا معنى لرؤية ذواتنا إلا رؤية ألوانها وأضوائها، وهذه لذة روحية عند من يفهمون الروحانيات. جعلنا الله رجال روح، ومتعنا في الجنة بحسياتها ومعنوياتها نعيم روح أبدى سرمدي.
محمود علي قراعة
خليل مردم بك
وكتابه في الشاعر الفرزدق
لأستاذ جليل
وصف الفرزدق (الفرزدق واسع المخيلة، حسن الملاحظة، جيد القصص؛ وهذه المزايا أهم عناصر الوصف في الشاعر، وهو أميل إلى الأسلوب القصصي في الوصف. ولو توسع في ما كان يتناوله من المعاني على سبيل التشبيه أو التمثيل أو الإشارة، لو توسع أو خصص، لخلف الأدب العربي صوراً من أروع الصور الشعرية)
ذلك مما قال الأستاذ في الشعر الوصفي الفرزدقي، وقد روى له في هذا الباب أشياء محكمة، وأشار إلى غيرها ذاكراً أماكنها في الديوان. ومما روى له قوله في السفينة:
وراحلةٍ قد عودوني ركوبها
…
وما كنت ركاباً لها حين تُرحل
قوائمها أيدي الرجال إذا انتحت
…
وتَحمل من فيها قعوداً وتُحمل
إذا ما تلقتها الأواذىّ شقها
…
لها جؤجؤ لا يستريح وكلكل
إذا رفعوا فيها الشراع كأنها
…
قَلوص نعام أو ظليم شمردل
وقوله في أسد:
وردُ السراة ترى سودا ملاغمه
…
مجاهر القرن لا يكتن بالخمر
كأن عينيه والظلماء مسدفة
…
على فريسته ناران في حجر
كأن عطارة باتت تَعلّ له
…
بالزعفران ذراعي مخدر هصر
وقوله في شجّة يهدد بها جريراً - روى الأستاذ منه تسعة أبيات -:
بعيدة أطراف الصدوع كأنها
…
ركيّة لقمان الشبيهة بالدَّحل. . .!
إذا نظر الآسون فيها تقلبت
…
حماليقهم من هول أنيابها الثُعل!
إذا ما رأتها الشمس ظل طبيبها
…
كمن مات تحت الليل مختلس العقل!
يود لك الأدنون لو مت قبلها
…
يرون بها شراً عليك من القتل!
وقوله في الشيب:
تفاريق شيب في السواد لوامع
…
وما خير ليل ليس فيه نجوم؟
وأبياته في الذئب مشهورة مستأسدة.
تغزل الفرزدق و (غزل الفرزدق على ما فيه من جفاء اصدق ما قال من الشعر. فهو الذي يكشف عن طبع الفرزدق الجافي ونفسه الماجنة الشرهة إلى اللذة. وهو غزل شهواني غير عفيف فيه فجور ومجون، وعاطفة الفرزدق فيه خشنة. وله غزل يقص فيه حوادثه الغرامية، وقد يصف الحوار الذي يدور بين أشخاص تلك الحوادث، ولاسيما النساء؛ وقصصه الغزلي أشبه بالقصص المروي لامرئ القيس).
وقد أورد الأستاذ أمثلة كثيرة من أقوال الفرزدق تبين أسلوبه في غزله - من ذلك خمسة وعشرون بيتاً - من القصيدة التي مطلعها:
ألا من لشوق أنت بالليل ذاكره
…
وإنسان عين ما يغمض عائره؟!
والختام فيما أورده (الكتاب) هو:
فيارب، إن تغفر لنا ليلة النقا
…
فكل ذنوبي أنت (يا رب) غافره
ومما روى الأستاذ:
يا أخت ناجية بن سامة، إنني
…
أخشى عليك بنىّ إن طلبوا دمي
لو كنت في كبد السماء لحاولت
…
كفاي مطلَّعاً إليك بسلم
هل تذكرين إذ الركاب مناخة
…
برحالها لرواح أهل الموسم؟
إذ نحن نخبر بالحواجب بيننا
…
ما في النفوس ونحن لم نتكلم
ولقد رأيتك في المنام ضجيعتي
…
ولثمت من شفتيك أطيب ملثم!
منع الحياةَ من الرجال وطيبها
…
حدقٌ تقلبها النساء مراض
وكأن أفئدة الرجال إذا رأوا
…
حدق النساء لنبلها أغراض!
وفي (ديوان المعاني) في (ما قيل في شعبان وشهر رمضان وشوال): فمنه قول الفرزدق وأجاد في ذلك:
إذا ما مضى عشرون يوماً تحركت
…
أراجيف بالشهر الذي أنا صائمه
وطارت رقاع بالمواعيد بيننا
…
لكي يلتقي مظلوم قوم وظالمه
فإن شال شوال تُشل في أكفنا
…
كؤوس تعادي العقل حين تسالمه
ومعاني هذه الأبيات كلها مبتكرة لم يسبق إليها الفرزدق.
وإذا لم تكن هذه الأبيات لمن نسبت إليه فمن قائلها؟
وروى البحتري له أبياتاً في الشيب والشباب في حماسته منها:
فلم أر كالشباب متاع دنيا
…
ولم أر مثل جدته ثيابا!
ولو أن الشباب يذاب يوماً
…
به حجر من الجبلين ذابا!
قال الفرزدق في الأدب والحكمة و (للفرزدق في الأدب والحكمة مقدار من الأبيات يشتمل بعضها على رأي صحيح أو حكمة حسنة، أو قول يتمثل به، وهذا الضرب يمثل الروح العربية في أدبها وحكمتها).
وروى الأستاذ للفرزدق جميع الأبيات الآتية:
لا يعجبنك دنيا أنت تاركها
…
كم نالها من أناس ثم قد ذهبوا
يفنى أخوك، فلا تلقى له خلفاً
…
والمال بعد ذهاب المال يكتسب
ألم تعلموا يا آل طوعة إنما
…
يهيج جليلات الأمور دقيقها
قوارص تأتيني وتحتقرونها
…
وقد يملأ القطر الإناء فيفعم
والإناء في طبعات الأغاني والكامل، وطبقات الشعراء للجمحي، والإيجاز والإعجاز للثعالبي. ورواية (الأتي) اقرب إلى الفرزدقية:
فكان كعنز السَّوْء قامت بظلفها
…
إلى مدية وسط التراب تثيرها
وكنت كذئب السوء لما رأى دماً
…
بصاحبه يوماً أحال على الدم
من هنا أخذ صاحب (اللزوميات) القائل:
وأفعلْ بغيرك ما تهواه يفعله
…
وأَسمع الناسَ ما تختاره مُسمعه
وأكثرُ الأنسَ مثل الذئب تصحبه
…
إذا تبيّن منك الضعفَ أطعمه
وبيت الفرزدق من شواهد الصحاح واللسان والتاج وغيرها.
وفي اللسان: (تقول هذا رجل سوء بالإضافة، وتدخل عليه الألف والآم فتقول: هذا رجل السوء. قال الفرزدق. . .)
فقد تلتقي الأسماء في الناس والكنى
…
كثيراً، ولكن لا تلاقى الخلائق
هذا البيت في ثلاثة أبيات ذكر البغدادي منها أثنين (قال: يونس بن حبيب: أشد الهجاء الهجاء بالتفضيل؛ وذلك كما قال صديق مولانا القريب، وابن عمته النسيب الفرزدق بن غالب، وقد قيل له: انزل على أبي قطن قبيصة فحسبه ابن مخارق الهلالي، فإذا هو آخر،
وذم قراه وجواره فقال:
سرت ما سرت من ليلها ثم وافقت
…
أبا قطن ليس الذي لمخارق
وقد تلتقي. . . و (تلاقي) إما فعل حذفت إحدى النائين تخفيفاً، وفي البيت - والحالة هذه - إكفاء أو إقواء، وإما مصدر سكنت الياء فيه ضرورة، وفي (شرح النهج) لأبن أبي الحديد:(ولكن ميزوا في الخلائق). ورواية الأستاذ المردمي والبغدادي أصح.
وروى الأستاذ لأبي فراس من مقلداته:
أحلامنا تزن الجبال رزانة
…
وتخالنا جناً إذا ما نجهل!
قال الأمدي في (الموازنة) - وأني لأنقل قوله على ما بيننا من خصومة قديمة. . . -: (أنكر أبو العباس قول أبي تمام:
رقيق حواشي الحلم لو إن حلمه
…
بكفيك ما ماريت في أنه برد
وقال: هذا الذي أضحك الناس منذ سمعوه إلى هذا الوقت. والخطأ في هذا ظاهر، لأني ما علمت أحداً من شعراء الجاهلية والإسلام وصف الحلم بالرقة، وإنما يوصف الحلم بالعظم والرجحان والرزانة، كما قال الأخطل:
شُمس العداوة حتى يستقاد لهم
…
وأعظم الناس أحلاماً إذا قدروا
وكما قال الفرزدق: أحلامنا. . . ومثل هذا كثير في أشعارهم. ألا ترى أنهم إذا ذموا الحلم كيف يصفونه بالخفة فيقولون: خفيف الحلم، وقد خف حلمه.
ونسب أبو تمام في الحماسة إلى الفرزدق هذين البيتين:
إذا ما الدهر جر على أناس
…
كلاكله أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا: أفيقوا
…
سيلقى الشامتون كما لقينا
وهما للعلاء بن قرظة خال الفرزدق: (قيل للفرزدق مالك وللشعر فوالله ما كان أبوك غالب شاعراً، ولا كان صعصعة شاعراً. فمن أين لك هذا؟ قال: من قبل خالي. قيل: أي أخوالك؟ قال: خالي العلاء بن قرظة الذي يقول: (إذا ما الدهر. . .؟)
وفي (ديوان الحماسة) في باب الحماسة مقطوعة - ثمانية أبيات - للفرزدق، وأختير له في باب المديح والأضياف: ستة أبيات جيدات. يقول فيها واصفاً قدره التي بعث بها إلى ضيفه:
غضوباً كحيزوم النعامة أُحمشت
…
بأجواز خشب زال عنها هشيمها
وروى الأستاذ المردمي للفرزدق هذا البيت:
أترجو ربيع أن تجيء صغارها
…
بخير وقد أعيا ربيعاً كبارها
ونسبة أبو تمام في الحماسة إلى شعيث بن عبد الله، والبيت من مقلدات الفرزدق.
وروى أبو تمام في باب الهجاء لفرعان بن الأعرف في أبنه منازل مقطوعة، فيها هذان البيتان:
وربيته حتى إذا ما تركته
…
أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه
أأن أرعشت كفا أبيك وأصبحت
…
يداك يدا ليث فإنك ضاربه
والبيت الثاني للفرزدق في مقطوعة في أبنه لبطة، وكان من العققة (واستغنى عن المسح شاربه) من بيت في المقطوعة. قالوا: كان فرعان من اللصوص، فهل سرق المقال سرقته المال أو لص الفرزدق اللص. . .
ولم يرو أبو تمام في الحماسة للأخطل شيئاً، وروي لجرير ثلاثة أبيات في رثاء أبنه سوارة، ولا يدل ذلك على أن ليس جرير جريراً ولا الأخطلُ الأخطلَ
يقول الأستاذ: (وللفرزدق ضرب آخر، فيه زهد ونسك وتوبة ووعظ وإقرار بالذنب وزجر للنفس؛ وهذا الضرب يمثل الروح المتأثرة بالدين، وهو في كلا الضربين - في هذا وفي شعره في الأدب والحكمة - يمثل الشاعر الإسلامي في عصر بني أمية عصر العروبة المتأثرة بالإسلام، من ذلك قوله:
ألا كل شيء في يد الله بالغ
…
له أجل عن يومه لا يحوَّل
وإن الذي يغتر بالله ضائع
…
ولكن سينجي الله من يتوكل
تبين ما يخفى على الناس غيبة
…
ليالٍ وأيامٌ على الناس دوَّل
يبين لك الشيء الذي أنت جاهل
…
بذلك علام به حين تسأل
وروى الأستاذ لأبي فراس أربعة عشراً بيتاً من قصيدته التي أعلن فيها توبته وهجا إبليس، منها قوله:
وما أنت يا إبليس بالمرء أبتغي
…
رضاه ولا يقتادني بزمام
سأجزيك من سوءات ما كنت سقتني
…
إليه جروحاً فيك ذات كِلام!
تعيرها في النار والنار تلتقي
…
عليك بزقوم لها وضرام!
وقد اغتبط أبو فراس بهذا الهجاء فغدا إلى الإمام الحسن البصري فقال له: إني هجوت إبليس فأسمع. قال: لا حاجة لنا بما تقول، قال: لتسمعن أو لأخرجن فأقول للناس: إن الحسن ينهى عن هجاء إبليس. . .
قال: أسكت، فإنك بلسانه تنطق. . .
قال الأستاذ: (وللفرزدق معان لا تدخل تحت باب من هذه الأبواب ولكنها ذات بال لأنها تلقى نوراً على حياة الفرزدق الخاصة وحياة محيطه) وأشار إلى أشياء من هذه المعاني وروى أبياتاً للفرزدق يشكو فيها إلى الوليد بن عبد الملك جور عامل، منها قوله:
أمير المؤمنين وأنت تشفى
…
بعدل يديك أدواء الصدور!
فكيف بعامل يسعى علينا
…
يكلفنا الدراهم في البدور!
وأنى بالدراهم وهي منا
…
كرافع راحتيه إلى العبور!
فلو سمع الخليفة صوت داع
…
ينادي الله هل لي من مجير!
وأصوات النساء مقرنات
…
وصبيان لهن على الحجور!
إذن لأجابهن لسان داع
…
لدين الله مغضاب نصور!
(يتبع - الإسكندرية)
* * *
كتاب الأغاني
لأبي الفرج الاسكندراني
رواية الأستاذ عبد اللطيف النشار
صوت
أنا الفنان لبيكِ
…
مناديتي وسعديكِ
إذا لامست مصباحي
…
أتى بي لمس كفيكِ
كأسرع خاطر يَسري
الشعر للأستاذ توفيق الحكيم وفيه لحن من صنعة علاء الدين أحد أبطال قصة ألف ليلة وليلة
حدثنا أبو الفرج قال: الخطاب في هذا الصوت موجه إلى وزارة المعارف، وكانت قد عهدت إلى طائفة من كبار الأدباء بتلخيص الكتب العشرة المختارة، فلما كان موعد بحثها عن الأديب الذي يصلح لتلخيص ألف ليلة، رأت أن الكتاب ذو جانبين: جانب يفتقر إلى تحقيق علمي وجانب إلى روح فنية. فلم تزل تبحث عمن تتوفر فيه روح الفن حتى وقع نظر وزيرها السابق هيكل باشا على المصباح الأخضر
قال: والمصباح الأخضر هذا هو المصباح المسحور الذي كان علاء الدين قد وجده في كنز مرصود قاده إليه الساحر المصري. وكان علاء الدين لا يزال طفلاً يتيماً، وقد عرف الساحر أن الكنز لا يفتح إلا على يديه فأدعى أنه عمه وقاده إلى الخلاء ثم أطلق البخور وقرأ التعاويذ ففتح الكنز. ودخل علاء الدين واخذ المصباح، وكان الساحر يريد أن يأخذ المصباح منه وهو بداخل الكنز ولكن الصغير كان موفقاَ في الرأي فأبى تسليمه حتى يخرجه، وغضب الساحر فأغلق باب الكنز وترك علاء الدين
وكان مع علاء الدين خاتم أعطاه إياه الساحر من قبل، فلما مسحه جاء خادم من الجن موكل بطاعة من يحوز الخاتم. فطلب إليه أن يفتح الكنز ففعل، ثم نقله إلى منزله ومعه المصباح
ومسحت أم علاء الدين ذلك المصباح لتجلو الصدأ عنه، وكان المسح رمزاً لخادم المصباح وهي لا تعلم ذلك فجاءها الخادم ولم يزل يأتمر بأمرها يفعل المستحيلات من أجلها ومن
أجل علاء الدين حتى فقد المصباح فحازه آخرون
قال أبو الفرج: وكان أخر مطاف هذا المصباح أن أخذه أهل الكهف فبقى في كهفهم ثلاث مائة سنين وتسعاً، وكان لونه من قبل ذهبياً فعلاه الصدأ واستحال على مدى العصور إلى مصباح أخضر
قال: ويظهر أن أهل الكهف كانوا قد طلبوا إلى خادم المصباح أن يوقظهم بعد ثلاثمائة سنين وتسع ولكن هذه مسألة لا ينبغي أن نماري فيها الأمراء ظاهراً ولا نستفتي فيها منهم أحداً
قال أبو الفرج: فلما وضع الأستاذ توفيق الحكيم قصة (أهل الكهف) زار المكان الذي دفنوا فيه قبل بعثهم كما يفعل كبار الكتاب والمحققين من نشدان الحقائق في وجوها وبيئتها، وكما فعل هيكل باشا لما حج قبل أن يكتب السيرة. قال: فوجد الأستاذ توفيق الحكيم ذلك المصباح في الكهف وأراد أن يجلو الصدأ عنه فجاءه خادم المصباح فإذا هو فنان يضع المسرحيات البارعة ويكتب ما يكتب تحت ضوء المصباح الأخضر
ولما وقع نظر الوزير الأديب هيكل باشا على المصباح مسحه هو أيضاً، ولكن لم يظهر له العفريت خادم الطلسم بل ظهر له الأستاذ توفيق الحكيم، فعهد معاليه إليه أن يراجع كتاب ألف ليلة وليلة، فأنشد بين يدي معاليه هذا الصوت:
أنا الفنان لا أبدو
…
لعين ما لها قلب
أنا الفنان لا أبدو
…
لقلب ما به حب
يشق الغيب مصباحي
…
وتساقط دونه الحجب
وسر الغيب في المصبا
…
ح والمصباح لا يخبو
بكف أدركت سري
تولى إمرتي حيناً
…
سليمان بن داود
فهل جددت الدنيا
…
كإنشائي وتجديدي
بنيت الصرح من ماء
…
كريم غير مورود
وسخرت له الريح
…
بتذليلي وتعبيدي
وعلمي منطق الطير
وجئت إليه من سبأ
…
بأخبار وأنباء
فلما استعظم الجهد
…
أتيت له بأحياء
نقلت العرش والتاج
…
إليه وبنت حواء
ولم يتحرك الجفنا
…
ن منه غير إيماء
أهذي قدرة السحر
فلما ضاع مصباحي
…
تحطم كل ما شدت
مضى في رحمة الله
…
وعفت الكون أو كدت
وخال الجاهل الغر
…
بآني بعده مت
ولو خلد مخلوق
…
على الدنيا لخلدت
فموتى آخر الدهر
أنا الفنان لا أبدو
…
إذا ما ضاع مصباحي
فآمالي وأشجاني
…
وأحزاني وأفراحي
وما أخشى وما أرجو
…
معلقة بأرواح
بأرواح خفيات
…
تضاء بضوء مصباحي
فذلك كله سري
قال: وهي قصيدة طويلة جداً، ويزعم الزاعمون أنها منقوشة على مصباح علاء الدين وأنها تفسر سر المردة والشياطين بأنهم أسماء مترادفة لكلمة الفن فهو الذي جعل الناس
. . . . . . . . . . . . . كلما
…
رأوا حسناً عدوه من صنعة الجن
قال الأستاذ توفيق الحكيم: ولقد راجعت اشتقاق كلمة الجن في جميع اللغات فوجدت الذكاء الخارق
والجن بمعنى واحد في كل لغة، فالعرب يقولون العبقري ومكان الجن عبقر. والأوربيون يقولون (جني)(وجنيس). وليس من الصفات المنافية للذكاء أن يبدو المرء كأنه نائم، فلعله يكون قد قضى حيناً من الدهر مع أهل الكهف. وليست زيارة الكهوف بالأمر الذي يسهل احتماله ولا بالذي لا يترك على الهوية العامة طابع النوم العام
وحدثنا الدكتور حسين فوزي قال: لقد أخطأ الكثير من النقاد في فهم كتاب أهل الكهف
للأستاذ توفيق الحكيم فعده البعض عربي الأصل لأن القصة وردت في القرآن الحكيم. وعده البعض مسيحي الأصل لان القصة مروية من قبل أساطير المسيحية؛ وهي في كتاب الله العزيز ذات مغزى يشير إلى قدرة الله على البعث، وهي في الأسطورة المسيحية ذات مغزى يشير إلى معنى آخر. قال: ولكن القصة كما يرويها الأستاذ توفيق الحكيم ذات لون فني آخر، فهي غير منظور فيها إلى هذين المصدرين العظيمين إنما مصدرها كتاب الموتى الفرعوني
قال الدكتور حسين فوزي: وإن قصة أهل الكهف للأستاذ الحكيم ليست إلا لحناً جنائزياً رائعاً لحياة الفنان المحروم من نصفه الآخر. هي تعني الحياة بغير أصدقاء لأنهم فقدوا، إنما مبعث هذا الألم فقدان الصديقة التي لم توجد. قال ولقد غبن الناس صديقي حين سموه عدو المرأة، وما كان الفنان ليكون عدواً لها إلا على تفسير العامة:(من جهل أمراً عاداه)
وحدثنا الأستاذ إسماعيل أدهم قال: (لقد ناقشني الدكتور بشر فارس في تحقيقي العلمي على طريقتي الخاصة لتاريخ مولد الأستاذ توفيق الحكيم وزعم أن التاريخ الصحيح هو الذي ذكره الحكيم نفسه والذي أجمع عليه الناس، ودلت عليه الأوراق الرسمية. ولقد شهد الدكتور بشر فارس بذلك على نفسه أنه غير جدير بالمكانة التي هو فيها من الشعر الرمزي. إنني ما حددت لمولده تاريخاً غير تاريخ مولده إلا إشارة رمزية مني لأنه من أهل الكهف
وحدثنا الأستاذ بشر فارس قال: أما وقد اعترف الأستاذ المعروف بالدكتور بهذه الحقيقة فإن تاريخ مولد الأستاذ الحكيم يرجع إلى القرن الثاني من ميلاد المسيح
قال الأستاذ توفيق الحكيم: لقد وهم كل هؤلاء فإن تاريخ مولدي سابق على تاريخ الكون. أليس أفلاطون يقول إن الفكرة وجدت أولاً ثم وجد الكون على غرارها؟ وبالله ماذا تكون الفكرة (الأديال) غير الفن؟ ألم يكن يقول شوبنهور إن الطبيعة محاكاة للفن وليس الفن هو الذي يحاكي الطبيعة؟ وهل يرى النقاد فارقاً في المعنى وإن اختلف اللفظ بين نظرية أفلاطون ونظرة شوبنهور. . . وهل ثمة فارق بين الأديال وبين الفن.
ثم التفت إلى وزارة المعارف وأنشد:
صوت
أنا الذي دوى
…
بقلبك دون أذنيك
أنا الطيف الذي يبدو
…
لروحك قبل عينيك
وكل ممرد عال
…
وكل مظلل رحب
وكل محبب غال
…
وكل مقطر عذب
وما يعزى إلى المجد
…
وما يبني على الحب
وما يخشى وما يرجى
…
وما يهوى وما يصبى
جميع الكون من أمري
الصوت للأستاذ توفيق الحكيم. وفيه لحن لعفريت في شاطئ الإسكندرية محبوس في قمقم.
(يتبع)
عبد اللطيف النشار
الجبر والاختيار في كتاب الفصول والغايات
(مهداة إلى الأستاذ محمود حسن زناتي)
للأديب السيد محمد العزاوي
(تتمة)
(. . . وقول الحق أمثل من السكوت، واستقامة العالم لا تكون، ولذة الدنيا منقطعة، وخبر الميت غير جلي، إلا أنه قد لقي ما حذر، فأسع لنفسك الخاطئة في الصلاح. . .)
أريد الآن أن أتبين جبرية المعري من أي نوع هي؟ أهي ميتافيزيقية حقاً؟ هل نظر أبو العلاء في الكون فقرر في أحد نصوصه حينما أنكر الاختيار إنكاراً شديداً ما قرره اسبينوزا من أن شعورنا بالحرية في أفعالنا ما هو إلا نتيجة تقدم معرفتنا للأسباب التي تدفعنا، وأن سلوك أي كائن ينتج ضرورة عن طبيعته، كما أن صفات المثلث تنتج ضرورة عن طبيعته كما يقول ليبنتز. وهل نظر أبو العلاء فيما يوجب علينا الجبر؟ أهو هذا النسيج القوي المتلاحم من السبب والنتيجة؟ أم هي قوة تفرض علينا هذا فرضاً مبهماً غامضاً؟ وهل ميز في الجبرية بين اضطرار ميكانيكي يدفع، ولا محيص عما يدفع إليه، وبين دوافع ميكانيكية إن دفعت إلى فعل فلا توجب حدوثه؟
وهل كانت نظرته فلسفية حقاً؟ هل تكلف لها التجريد والارتقاء والقياس والحصر واستنباط الأحكام؟ وهل هو انتهى إلى أحكام ثابتة يمكن أن تضاف إلى الآراء الفلسفية القويمة؟
هل نظر في تقريره الجبرية إلى الناحية النفسية فقال بأن الإرادة تنفصل تماماً عن الشعور والآراء، وإذا كانت الآراء جبرية لا تعدم شعوراً موجهاً نحو غاية فتقتضي لذلك فكرة، والفكرة من أمر ألة حرة العمل؟ هل قرر أن أعمال المرء وليدة مجموعة من الظروف معقدة غاية التعقيد تعين نوع الأفعال الصادرة عن الإنسان؟؟
أو من الناحية الأخلاقية، فقرر على أية أسس إذن يمكن أن تنبني الأخلاق؟ وما هو القول الفصل في التبعات الأخلاقية بأنواعها؟ وما هو الرأي الواضح البين في البعث والحساب والعقاب؟
الواقع أن أبا العلاء لم يتبع البحث العلمي ولا طرقه، بل أن بيئته قد أثرت عليه تأثيراً كان
من نتائجه أن تكيفت نظرة أبى العلاء تكيفاً إن لم يكن كلامياً محضاً فقد شابته الشوائب الكلامية؛ فأهتم بخلق الأفعال: أهي من صنع الله أم من صنع الإنسان. وأهتم لمرتكب الكبيرة أهو خالد في النار أم مجرم يرجى غفران الله. واهتم بصفات الله أهي خارجة عن ذاته أم هي منها؟ وهذا هو السبب الذي حدا بي أن أفصل جبرية أبي العلاء على منهاج الكلاميين
الحق أنه من الظلم أن نقارن بين أبي العلاء وبين الفلاسفة. فأبو العلاء لم يقصد إلى الفلسفة قصداً فنأمل أن يتحدث عن الجبرية كما يتكلم سبينوزا أو ليبنتز أو عمرو بن عبيد وغيرهم من الفلاسفة وعلماء الكلام، وأن يتحدث عن الكون كما يفعل أرسطو أو أفلاطون
ولم يقصد إلى الأخلاق وإصلاح المجتمع فيحدثنا عنهما كستيوارت، وإنما هو أديب قبل كل شيء، وأديب يعني بالصناعة الأدبية: يحفل للفظ ويعني به عناية الجوهري، ويحرص على الغريب منه ويتلغبه ويتقفاه، ويستطرد له استطراداً ربما أضاع المعنى أو أضعفه. وهو كذلك يحفل للمعنى الطريف فيبحث عن أي ثوب يلبسه، وبأي شكل يعرضه، ومبلغ ما يكون فيه من حسن إذا كان على هذه الصورة أو تلك. وهو أديب كذلك يأخذ شواهده وأمثلته مما يرى وما يسمع وما يحس. فهو إذا فكر في أقدار الإنسان ضرب لنا مثلاً مما حوله وأنتزع مواد تفكيره ووسائل تسجيله مما حوله كذلك
فهو لم يحاول أو قل لم يستطع أن يجرد العالم من ظواهره وينفذ إليه حقيقة عارية متحدة، وإنما هو كان يريده رافلاً في تلك الصورة والمعاني التي درج الشعراء على أن يخلعوها عليه. ولعل حرص أبي العلاء على المعاني المبتكرة، والأفكار الخفيفة واللفظ القوي الغريب، والسبك المتين كأن أشد من حرصه على النظرات الفلسفية العريضة الشاملة. ولعل ميله إلى إظهار آثار ذاكرته الأدبية القوية التي تعي أخبار الأقدمين وأشعارهم وعلمهم، ومقدرته اللغوية البيانية التي تسمو به إلى محاولة تقليد القرآن، ومزاجه الشاعري الذي يهفو إلى كل خاطر عابر، ويرنو إلى كل معنى بديع، لعل ذلك صرفه عن إن ينشئ فلسفة خاصة به بينة المعالم واضحة الحدود، أو أن يردد ما قال به معاصروه من الفلاسفة الإسلاميين وغير الإسلاميين. فأنت تستطيع - إن شئت - أن ترى صورة أدبية حقيقية لعصره، وأنت تستطيع إن شئت أن ترى صورة اجتماعية لعصره، ولكنك تكلف نفسك
الجهد إذا حاولت أن تظفر بصورة صادقة كاملة في الفلسفة في عصره أو بصورة لفلسفة له متكاملة متساوية
ولست أريد بهذا أن أنكر إن له فلسفة، وفلسفة جبرية خاصة، كلا، إن الرجل كما رأيت كان يدين بالجبرية ويؤمن بها إيماناً عميقًا قوياً. وكل شيء حوله يدفعه إلى هذا الإيمان العميق القوي. هو بالطبع كان مؤمناً بالله مسلماً ولكن إلهه كان مختلفاً عن إله الناس، كان ذلك الاضطرار الميكانيكي الذي يهيمن على الناس والعالم بجبروته المنضبط وحكمته الخفية، فلا سبيل إلى الشك في أن أبا العلاء له في هذه الناحية تفكير، ولن يستطيع أحد أن ينكر عليه ذلك التفكير
وأن جاز لنا بعد كل هذا أن نعد أبا العلاء متكلماً أو فيلسوفاً بمعنى دقيق فلا أقل من أن نثبت له ما يمكن أن يكون من أدوات الفيلسوف أو المتكلم ونظره، وأن نتبين أثره في الفلسفة حوله ومنزلته بين غيره. لقد كان يعتمد على العقل اعتماداً أهمل معه المتواتر، وفضله على الشرع، فهو قد خالف بهذا الأصل أهل السنة لأنهم يقدمون الشرع على العقل، وخالف المعتزلة لأنه يحترم العقل اكثر من احترامه الشرع مع اتفاقهما في تقديمه. فهو قرر مع المعتزلة قوة العقل على أدراك الحسن العقلي والقبح كذلك ولكنه قدم العقل على الشرع حين كان المعتزلة يضنون بذلك على العقل.
وأما قوله بأن الأفعال حكم مقدور، فهذا الرأي يوافق الجهمية فهم الذين قالوا بأن الله هو الذي خلق الأفعال وفرضها على المخلوق فرضاً. على حين أن المعتزلة تقول بأن المرء هو خالق أفعاله وأن للإنسان قدرة توجد الفعل بانفرادها واستقلالها دون الله تعالى، ونفوا أن تكون الأشياء بقدر الله وقضائه
وإذا ما نظرنا إلى ما يقول في المنزلة بين المنزلتين لا يبدو لنا أنه تأثر بتلك الحدود التي وضعتها المعتزلة من أن صاحب الكبيرة ليس بكافر ولا مؤمن لكنه فاسق يستحق النار بفسقه. فهو كثير الرجاء لغفران الله لكل ذنب، شديد الأمل في رحمته كما رأيت لكل عاص، والشواهد على ذلك كثيرة جداً في الكتاب. أما لفظة (فاسق) فقد حاولت أن أجد لها عنده هذا المعنى الاصطلاحي فلم أوفق، ولعله كان يقصد بها (المذنب) دون أشراط الفسق الفقهية المعتزلية. أحصيت ورود الكلمة فإذا هو قد ذكرها اسماً وفعلاً نيفاً وعشر مرات في
مواضع في الكتاب مختلفة لم يقصد بها إلا مجرد المعصية والخروج عن الطاعة
وفي مسألة البعث لا يوافق أبو العلاء الجهمية ولا المعتزلة. إذ إن كلا الفرقتين تجمعان على البعث. الأولى تقول بأن ذلك جبر والحساب والعقاب جبر كذلك. والثانية تقول به نتيجة إسنادها الأفعال للإنسان. وأما أبو العلاء فلا ينفي شيئاً ولا يثبت شيئاً كما رأينا
ونجده حين يتعرض لذات الله يذهب مذهب المعتزلة والمعطلين؛ فهو لا يثبت لله صفة (وكيف يوصف بشيء خالق الصفات). وهذا نص واضح صريح. وأما قوله بأن الله حده الزمان وبأن المادة أزلية فلا يعنينا هنا كثيراً فليس هذا مقام البحث في فلسفة أبي العلاء الإلهية على وجه عام، وإنما الذي يعنينا هو إثبات الصفات للذات أو تجريدها عنها
استعرضنا أفكار أبى العلاء الجبرية في كل ما تقدم ورأينا ما كان من اضطرابه وتنقله بين المذاهب المختلفة تنقلاً هو أقرب إلى تنقل الشاعر الذي يؤمن بالفكرة لحظة طروقها، ويؤمن بها حين يسجلها أيماناً بجعلها قطعة من نفسه في لحظة ما، أقرب إلى ذلك من تفكير الفيلسوف ينظر في الكون بنظر خاص به، وبه وحده. ونحن لا يمكن أن نقبل هذا الاضطراب من مفكر نحاول أن نقيم له فلسفة ذات أصول وفروع. هذا الاضطراب ليس ناتجاً عن ضعف في التفكير، ولا عن اتهام في العقل وشك في قوته على استكشاف الحقائق واستنباط الأحكام، بل عن تلاشي الشخصية في ذلك المجتمع الإسلامي الذي شاع فيه الحكم بالمروق عن الدين وما يتبع ذلك من إيذاء لم يكن المعري يحب أن يتعرض له؛ فكان إن اضطر إلى النقية والمصانعة بصرف الناس إلى الظاهر من الأمر. بل لعله اضطر إلى هذا الشك وتلك الحيرة لأنه درج على إثبات إله قادر حكم فلم يستطع - أو قل لم يحب - أن يعطله مما يقعد به عن الحكمة والعدل والكمال
وهو كان يدعو بعد كل هذا إلى الزهد؛ ولكن على أي أساس بنى هذا القانون الأخلاقي؟ وما الباعث؟ أكان ثقة منه وأيماناً بل هذه الدنيا مظهر من المظاهر الزائفة وظل للرغبات والأهواء على النفس الإنسانية والعقل البشري، فليس لها كيان واقعي خارج تلك النفوس والعقول؟ فهو يدعو إلى الزهد مبصراً الناس بهذه الحقيقة التي اكتشفها وفطن إليها؟ وهل هو استطاع أن يتبين في وضوح صلة الإنسان بهذا الكون؟ وهل أمكنه أن يدرك حقائق ثابتة وراء هذه العصور الزائلة الخادعة نسبته إليها كنسبة أي فرد من أفراد البشر إليها
فدعا إلى الفضيلة والتراحم باعتبار أن آلام الآخرين هي آلام الشخص وآلام الشخص هي آلام الآخرين لتلك الصلة التي أدركها؟
أغلب الظن بأن باعث هذه الدعوة لم يكن شيئاً من هذا، وإنما كان باعثاً سلبياً محضاً نتج عن جهله بما وراء الموت وخوفه من ذلك ورهبته وعدم تبينه ما يراد به من عقاب وثواب. فهو أن أوصى بالصلاح والزهد فذلك حتى لا يكون المرء - إذا صح البعث والحساب - من الخاسرين. من هنا نرى أن قانونه الأخلاقي الذي أستنه قد بنى على قاعدة سلبية محضة ليس فيها من الفلسفة قدر ما فيها من الحيطة والحذر الذين يوجبهما الجهل والتوقف. وكان الباعث كذلك نوعاً من الضيق القوي لظروفه الاجتماعية والشخصية جميعاً. فلذلك دعا إلى الوحدة والزهد في الناس:(فإن الوحيد في العالم لا يلحقه عيب من سواء). فهو كذلك يتقي المجتمع بطريقته السلبية. هو لا يحاول إصلاحه، فهو يائس من ذلك؛ ولكنه يتجنبه ويتقيه، وكان الدافع كذلك سخطاً شديداً على تحول الدنيا وعدم بقائها على حال:(فالدنيا حية عرماء، لمعة بيضاء، ولمعة دهماء، والأيام عوارم لا تترك لحى عراماً). إذن (ما البقاء إلا طول شقاءٍ، والحياة ظلمة ليس فيها إياة، ومن السعادة أن يموت القوم كراماً). ولكن (أولع الولد بالرغاث). وهو يهيب لذلك أن يا راغبُ رُع، والخشية فادرع، نحن على الدنيا نقترع، نتسايف ونسطرع والقدر لنا مضرع وهو يخاطب الدنيا معبراً عما يسخطه منها:(أيتها الدنيا البالية، ما أحسن ما حلتك الحالية، أين أممك الخالية، أن لُذ بك المتوالية والنفس عنك غير سالية، تتبع أولاك التالية، والله استنجد على تلك الصعدات) وحزنه على الدنيا ناتج عن إنها تخلط بين الفرح والسرور. فقد يكون الرجل كاسياً يمثل ريش الأخيل، وشبابه كروضة الوسمىّ، وعيشه أوسع من الموماة، وعروسه الصالحة الحسناء، فلا يخلو في ذلك من الكدر. إن داء الدنيا عرف قديماً، لا بد له من الانتقال، إما بالموت وإما بالحياة يمكن أن تكون عيشته زاردة مثل الزردة، ويلبس أخلاق ثياب كلباس الرأي، ويعارق العروس أم أن تهلك، وإما أن تختار سواه، وتكون روضة شبابه هشيما) والشواهد على ذلك كثيرة لا تكاد تحصى. وكل ما يمكن أن نستخلصه منها أسباباً لاعتزال أبي العلاء للدنيا ونصحه الناس بالزهد فيها لا يعدو أنها متقلبة لا تدوم، وأن خيرها يختلط بالشر وسرورها يختلط بالكدر، إلى غير ذلك من معاني الشعراء. فهل
لو كانت ظروف أبى العلاء غير ما كانت، وهل لو كانت الدنيا على غير ما وصف أترى كان دعا إلى الزهد؟ ربما كان رأى في الكون ما رأى ولكنه لم يكن يبني الزهد في الدنيا على الأساس الذي بنى عليه دعوته التي رددها في الكتاب كثيراً
ولماذا حرص أبو العلاء على أن يثبت حكمة لتلك القوة التي تصرف أمور الناس، مع شقائه بهذه الحكمة لعدم الاهتداء إلى مراميها؟ تلك الإرادة التي بحث أبو العلاء عن حكمتها فلم يوفق والتي كانت مثار قلقه واضطرابه، والتي يخشى أن يتهمها بالظلم، لما يراه من تناقضاتها ومفارقاتها؟ كان مذهبه يستقيم، وعقله يطمئن إلى ما وصل إليه من تفكير لو أنه قال بإرادة غير عاقلة غاشمة، فإذا ما جردها من العقل والحكمة فلا جناح عليها أن تأنى من المفارقات ما يشاهد أبو العلاء وأكثر مما يشاهد. ولكنه مفكر (شاعر) في (وسط إسلامي) أنشأ الكتاب ليمجد الله ويعظ.
وقد حاول الأستاذ علي أدهم أن يعقد صلة بين أبي العلاء وبين شوبنهاور. ولست بصدد أن أتحدث عن نصيبها من الصحة. وإنما أقول أن أوجه الشبه إن صدقت في وجهات متعددة من نظر الرجلين إلى العالم والمجتمع بحكم ما بينهما من مزاج التشاؤم، فأنها لم تصدق في تلك الناحية الخاصة. حقاً إن كلا الرجلين قد أثبت الجبر وقال به. ولكننا إن تجاوزنا عن اختلاف الوسائل التي سلكاها فإنا لن نتجاوز عن فرق دقيق بين الجبريتين
أبو العلاء ردد كثيراً أن القوة المسيرة للكون (عاقلة) يصدر عنها الأفعال، والأقدار، والأرزاق، عن حكمة خفية لا يدرك كنهها وإن اجهد نفسه الجهد كله؛ وهو كذلك لم يستطيع أن ينظر إلى العالم نظرة تجريدية فلسفية، ولكنه قرر على أي تقدير بأن الدنيا شر، والطريقة المثلى للتخلص من شرورها وآلامها هي الزهد فيها وكبح الشهوات، وكبت الغرائز، والخلوص إلى العبادة والتفكير
وشوبنهاور قد اعتبر الحقيقة المطلقة إرادة عامة (لا تعقل) وذهب إلى أن ليست ثم إرادة فردية، فالفردية مجرد وهم لأنها قائمة على فرق الزمان والمكان. وقد قرر أن الإرادة شر في أساسها، وهي شبق حافز إلى الوجود، وحرص على اللذة والتمتع؛ فالحياة إرادة ورغبة تفيضان إلى الشقاء لأن الإرادة لا يمكن أن تروى غلتها أبداً من الرغبة في الحياة. وهو يعتبر غاية الحياة لذلك هي (الشقاء) وأفضل السبل فيها أن يخترق الإنسان حجب الوهم
الفردية ويرى عقم مطلب إشباع الرغبة ويتحرى العفة، فيصل إلى هدوء صوفي يشبه الهدوء البوذي، واعتبار الحياة قطعة من الفن. . .
فهما ينتهيان إلى غاية واحدة ويقرران مبدأ أخلاقياً واحداً ولكن بنظرين في الكون مختلفين، وانك لترى قانون شوبنهاور قد بنى على أسباب فلسفية محضة، فما ابعد بين المفكرين.
(تم البحث)
السيد محمد العزاوي
من نار الفراق
سأسخر بالأقدار بعدك!. . .
للأستاذ محمد حسن إسماعيل
(أنني أقدس فيك قلباً ما وهب الله متله لبشر، وعواطف ملائكية طاهرة، وإخلاصا ما شابه زور أو خيانة، وما أنا إلا زهرة شاء حظي السعيد أن أتتفتح على نور حبك وسحر أنغامك. فأي قوة في العالم تستطيع أن تنتزع هذه الزهرة إلى غير أرضها دون أن يلحقها الفناء، أو تفصل روحي عن جسدها!. . .)
من رسائلها إلي
تريدين مني الصبر هاتي رحيقَهُ
…
وإلا فخَلِّيني ونيرانَ ثوْرتي!
نفختِ لَظاها في دمي، وتركتِها
…
تؤِّجج أحلامي وتكرب حَيرتي
وتَنسَخُ أيَّامِي عليكِ قصيدةً
…
مشوشةَ الأنغام تَهذي بلوْعتي
وتنتظرينَ الصبرَ؟ إني نشدتُهُ
…
فأقبلَ بركاناً يُزلزِلُ هَدْأَتي!
أيصبرُ من سوَّى جمالُكِ عُمرَهُ
…
ينابيع تَقديسٍ وحبٍّ ورحمةِ؟
وأسكرتِهِ بالحسن والطهر والهوى
…
وكنتِ له في الله أقدسَ توْبةِ!
وعلَّمتِهِ إنْ هزَّ للفنِّ رُوحَهُ
…
تُكبِّر للإلهام أطهرُ كعبةِ
ونشَّأتِهِ في الدَّمع حتى أذابهُ
…
أناشيدَ أحزانٍ وبؤسٍ وحسرة
أنا الساخرُ الجبارُ لا الدَّهرُ هزَّني
…
ولا النكبات السود هيَّجن عزلتي
أمُرُّ بأرْزاءِ الزَّمانِ كأنني
…
خُطا العاصف العربيد في ظل زهرة
وأبِصرُ حشدَ الناسِ أسرابَ هاجسٍ
…
من الإثْمِ زَحَّافٍ بأرْجَس مُهْجةِ
وأَسمعُ لا من زيْفِهم وبيانِهِم
…
ترانيمَ عزَّافِ بأمنع قِمَّةِ. . .
فما لي على كَفَّيكِ طرَّحتُ أدْمُعي
…
وسُخْري من الدُّنيا وعزِّي وكِبْرَتي؟
ومَيَّلْتُ أنَّى سرْتِ في التُّرْبِ خاشعاً
…
وطهَّرْتُ من أنوارِكِ البيضِ سجْدتي؟
وضيَّعتُ أيامي - وما ضِعنا - إنما
…
ذهْبن قرابِينَ الهُدى لحبيبتَي!
فيا زَهرتي ما لي أُناديك فانياً
…
فتصرُخُ أَصْداءُ النداءِ بخيْبتي
ويرتدُّ لي شجوِي كما ردَّتِ البلِى
…
بقيَّاتِ آهاتِ الثَّكالَى لميِّتِ!
(القاهرة)
محمود حسن إسماعيل
الأمواج والشاطئ
للأستاذ حسن كامل الصيرفي
سألَ الشاطئ يوماً بَحْرَهُ:
…
أيها البحر أجبْني كم حَوَيْتا!
ودَّ لو يكشف عنهُ سِرَّهُ
…
بيدَ أن البحرَ قد حاول صَمْتا
قالت الأمواجُ للشاطئ ماذا تبتغي
…
من سؤالكْ؟
قال: إني أبتغي ما غاب عني
…
من مَدَارِكْ
فانثنتْ عنهُ بجَزْرٍ ساخرهْ
ثم عادت باندفاعٍ نحوهُ
…
في اصطخابٍ مثل رَعْدِ
عالياتٍ، هابطاتٍ ترتمي
…
فوق صخرٍ منه صَلْدِ
وعلى الشاطئ جاء ثائرَهْ
قال: إني رابضٌ منذ وُجِدْتُ
…
وَوُجِدْتِ
جاهلاً سِرَّكِ، إني لستُ أدري
…
ما احتوَيْتِ!!
فانثنتْ عنهُ بجَزْرٍ ساخرهْ
ثم عادت ثانياً وهي تقول:
…
أنتَ سِريِّ أنتَ سِريِّ
سوف يحويكَ ضميري!!
…
لا تَسلني. أنت سرِّي
ولأسراريَ إني مُضْمِرِهْ. . .
واستمرَّ البحرُ يمتدُّ امتدادا
…
وكذاك الموجُ يشتدُّ اشتدادا
ثم ردَّ الأُفْقُ عيني حاسِرَهْ
حسن كامل الصيرفي
الطائر والشمس
للأستاذ خليل شيبوب
عندي أحاديث هوى جَّمة
…
تجري كما يجري بها الخاطر
سطَّرها حبيَ في مهجتي
…
ثم رواها جفنيَ الماطر
لكنما أغربها قصة
…
مأثورة شاهدها حاضر
عن طائر هام بشمس الضحى
…
وأين من شمس الضحى طائر
فرخ ضعيف ريشه، قابع
…
في وكره، مرتجف حائر
يدرج منه بعض شيء إلى
…
حيث شعاع باسم باهر
يصيب دفئاً عنده كلما
…
فاض عليه نوره الغامر
يجر ذيلاً، فهو طوراً به
…
طول، وطوراً ذيله قاصر
ما شك فيه أن ما يغتلي
…
به حشاه والدم الفاتر
صنعة هذا النور في أصله
…
وأنه من فوقه صادر
وإذ رأى وجه السماء انجلى
…
له هناك الحَدَثُ الكابر
أَتْون نار جاش من صدره
…
دَفْقُ ضياءِ خاطفٌ حاسر
قطب من الجمر ولكنما
…
عليه قام الفلك الدائر
وجه يفيض النور منه كما
…
يفيض نبع الروضة الفائر
لكن هذا النور روحٌ ولا
…
جسمَ، ولكن لهبٌ ثائر
في الشرق مرجان فإمَّا ارتقت
…
في الأوج مار الذهب المائر
والورد مفروش متى غرَّبت
…
والأرجوان البهج الفاخر
هذى هي الشمس التي نورها
…
بحر حياة ما له سابر
الكائنات الغرُّ من حولها
…
أبدعها ناظمُها الناثر
فاتنة الدنيا ولكنها
…
ليس إليها مسلك ظاهر
ترعرع الطائر لكنه
…
من كل ما يؤنسه نافر
يسير في الروض وعيناه في
…
السماء والعمر به سائر
واشتدَّ حتى طار مستشرفاً
…
ما حولَهُ فهو له حَاصِرُ
إذا اعتلى جوّا فسرعان ما
…
يحطه إعياؤه القاهر
وهو لجوج النفس في صدره
…
منها جوى ملتهب ناشر
يذهبُ فيها يومَهُ هائماً
…
وقلبُه تحت الدجى ساهر
مرتقب في الدوح أن ينقضي
…
الليل ويأتي السحَر الباكر
حتى يراها وجهها مشرق
…
كما يطل الملك الظافر
ومرت الأيام لا تأتلي
…
والحب نبت مخصب كاثر
فاستشعر اليأس أَلا إنه
…
مستضعف ليس له ناصر
لا الروض يسليه ولا حوله
…
من الطيور الصادح الصافر
ولا نجوم الليل إما رنت
…
ولا النسيم الخافق العاطر
ما الروض والطير وما زهرة
…
بها تحلَّى الغصُن الزاهر
سوى مثيرات الجوى فالمنى
…
هناك نور فاتن سافر
ذاك حياة النفس معبودها
…
وحبها الأول والآخر
جاء إلى الجدول يوماً لكي
…
يطفئ ظمئاً وقْدُه ساعر
إذا به في الماء يجلي له
…
وجه نقي وادع طاهر
الشمس جاءته بلا موعد
…
زائرة يا حبذا الزائر
فاختلط المفتون في عقله
…
كأنما طالعه ساجر
وكاد أن يخذله قلبه
…
وطاش مما أبصر الناظر
حتى إذا ثاب إلى رشده
…
والحسن ناه والهوى آمر
خالسها القبلة في نغبة
…
أسكره معسولها القاطر
لكنها غابت سريعاً وقد
…
قام سحاب دونها ساتر
تحجّبت عنه ولمَّا قضى
…
ما يننويه قلبه الشاكر
كأنها غضبى زوت وجهها
…
عنه فأودى جدُّه العاثر
هل قّصر العاشق في عشقه
…
فكل تقصير له عاذر
إن كان ضعفاً فله راحم
…
أو كان ذنباً فله غافر
وحينما طاح به بؤسه
…
والجسم منهوك القوى خائر
خفَّ إلى الدوح وفي صدره
…
طعنة يأس جرحها غائر
خاب فلم يصبر وحكم الهوى
…
ألا يعيش الخائب الصابر
ومات في الدوح فأكفانه
…
أغصانها والورق الناضر
يا زينة الدنيا ويا فتنة ال
…
عمر ويا من حبها جائر
إليك مني صورةً في الهوى
…
صوَّرها عاشقك الشاعر
حسب المنى دمعة حزن على
…
صب شهيد ما له ذاكر
فأنت تلك الشمس معبودة
…
حباً وقلبي ذلك الطائر
(الإسكندرية)
خليل شيبوب
رسالة الفن
دراسات في الفن
الزعامة فن
على ذكرى الزعيم سعد
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
ما دام الفن هو التعبير عن الإحساس، وما دامت الزعامة هي التعبير عن إحساس الجمهور، فالزعامة إذن فن، بل إنها فن عريض.
فكيف كانت الزعامة تعبيراً عن إحساس الجمهور؟
إذا نظرنا إلى المجتمعات البدائية رأينا هذه المجتمعات تحس الخوف من الطبيعة؛ فهي تستعد للحرب في كل لحظة، وهي إما أن تعد لهذه الحرب سلاحاً، وإما أن تعتمد فيها على القوة البدنية وحدها. ولكنها على أي حال من الحالين تأخذ أهبتها المادية لتقاوم بها أحداث الحياة. فإذا نظرنا إلى الزعماء في هذه البيئات رأيناهم أشد الناس تعبيراً عن هذا الإحساس المركب الذي يبدأ بالخوف وينتهي بيقظة القوة البدنية. فهم أشد الذين في هذه المجتمعات حذراً على أنفسهم وعلى مجتمعاتهم، وهم أشدهم انتباهاً للخطر إذا ادلهم، وهم أشدهم مقاومة لهذا الخطر، وهم أشدهم قدرة على قهره، وهم إلى هذا أشد الذين في هذه المجتمعات استكمالاً لمميزاتها الملحوظة فيها حتى لا يكون الزعيم منهم عرضة لهجوم عاص من شعبه قادر على وخزه في إحدى نواحيه الضعيفة فيه بينما يكره الواحد من جمهوره أن تكون ضعيفة فيه. فإذا كان من مميزات جمهور أحدهم السرعة في الجري إلى جانب ما يهتم به الجمهور من تنمية القوة البدنية وجب على الزعيم أن يكون سريع الجري إلى جانب الذي امتاز به على الجمهور من قوته البدنية، وإذا كان من مميزات جمهور أحدهم الخفة في تسلق الأشجار، وجب على الزعيم أن يكون خفيفاً في تسلق الأشجار إلى جانب الذي امتاز به على الجمهور من قوته البدنية. وهكذا.
فإذا تركنا البيئات البدائية رأينا نظرتنا هذه تصدق في كل الحالات: في البيئات الزراعية، وفي البيئات الصناعية، وفي البيئات الاجتماعية المختلفة، وبقدر ما تتسع هذه البيئات
وتضيق تتسع الزعامة فيها وتضيق. فهناك زعامة للجنس البشري كله هي زعامة الأنبياء والرسل الذين فاضوا بالهدى على الخلق جميعاً، وهؤلاء زعامتهم تخلد بعد ذهابهم عن هذه الحياة الدنيا، وفي هذا تعويض للحصر الذي تلقاه زعامتهم في حياتهم. وهناك زعامة لجنس من الأجناس البشرية كزعامة موسى الذي يريد هتلر أن يرد عليها اليوم بزعامته الآرية. وقد تدوم هذه الزعامة بدوام الجنس إذا ظل الجنس متشبثاً بأنانية الطفولة وغرورها. وهناك زعامة لجماعة من جنس بشري يسكنون أرضاً ما، وهي الزعامة الوطنية كزعامة سعد زغلول، وهي تدوم ما دامت دواعيها وما ذكرها الذاكرون بعد زوال هذه الدواعي، وكثيراً ما تزول هذه الدواعي، لأن مشكلات الوطن كثيرة التقلب
ونحن إذا حسبنا عدد المرات التي استدعت فيها طبيعة التطور والارتقاء الروحيين وجود رسالات إنسانية عامة وجدناه أقل من عدد المرات التي استدعت فيها هذه الطبيعة وجود رسالات خاصة بحيث نستطيع أن نتصور التطور والارتقاء جاريين في موجات صغيرة، وهذه تجري في موجات كبيرة. وكأن الموجات الصغيرة هي موجات التطور، وكأن الموجات الكبيرة هي موجات الارتقاء. . .
وهذا شيء لا يستغرب؛ فنحن إذا تسللنا إلى نهاية التخصيص في البيئات الاجتماعية الإنسانية حتى نذهب إلى مجتمعات الصبيان في الحواري والفصول، وإلى مجتمعات الشبان في النوادي والحقول، وإلى مجتمعات النساء في الشوارع والبيوت، وإلى مجتمعات الرجال في الأكواخ وفي القصور، وجدنا لكل جماعة من هذه الجماعات زعيماً، فإذا أحصينا عدد هؤلاء الزعماء استطعنا أن نؤلف منهم في كل وطن ألف برلمان تؤيد الزعيم
وعلى هذا كانت أغلى الزعامات هي أندرها، ولا بد أن تكون اشدها تطابقاً على نظم الطبيعة، لأن نظم الطبيعة هي العامة وهي الثابتة، ومراعاة تطورها وارتقائها يجب أن تلحظ في هذا التطابق. وهذه الزعامة لم تتحقق على أشمل الوجوه إلا في حالة واحدة هي زعامة النبي الرسول محمد (ص)
وإذا استسغنا بعد هذا القول بأن الزعامة فن تخلقه الطبيعة في نفس الزعيم كما تخلق
الألحان والأنغام في نفس الموسيقي، وكما تخلق المعاني والأخيلة في نفس الشاعر، فإننا لن نستبعد أن تكون قد تعرضت للصناعة مثلما تعرض لها غيرها من الفنون. وقد تجمل الصناعة الزعيم إذا كان رائدها التحسين والتجديد. وقد تتلف الصناعة الزعامة إذا حادت بها عن اتجاهها الطبيعي إلى اتجاه آخر كالرغبة في الجاه، أو الرغبة في المنفعة، وهذا هو ما يحدث للفنون جميعاً من موسيقى وشعر وتمثيل ورقص وتصوير وغير ذلك
ولما كان أغلب المجتمعات البشرية اليوم قد تعلم القراءة والكتابة، ولما كان من المحتم أن يكون الزعيم في كل مجتمع من هذه المجتمعات قارئاً كاتباً، فإن الزعماء في هذه الأيام يقرءون ويكتبون: الزعماء السياسيون، والزعماء الفنانون - أي الذين يمارسون الفنون الجميلة - والزعماء الماديون، والزعماء جميعاً. وهم يقرءون فيما يقرءون تواريخ الزعماء السابقين، وبهذه القراءة يستطيع الزعيم الضعيف في ناحية من النواحي أن يقويها، أو أن يغطيها أو أن يدعيها. . . وما دام باب الادعاء قد فتح مع غيره من أبواب التصنع، فقد أصبح من الميسور في هذه الأيام أن يدعي الزعامة في أي ناحية من نواحي الحياة مدع ليس بزعيم.
فكيف يستطيع الإنسان في هذا العصر إذن أن يحكم على الزعيم بأنه زعيم حقاً، أو أنه قد استطاع أن يجعل نفسه زعيماً لأنه زعيم، ولكن في نوع من أنواع التفكير، وقد كان المجتمع في حاجة إلى زعيم في الإحساس والتعبير عن هذا الإحساس، وما يصحب هذا التعبير من جهاد؟
نستطيع أن نصل إلى هذا الحكم العادل إذا نحن راجعنا إحساس المجتمع، وراجعنا ما يجب أن يكون التعبير به عن هذا الإحساس، وراجعنا إلى جانب هذا إحساس الزعيم وتعبيره عنه وطابقنا هذا على ذاك. . . فإذا انطبق وكان الزعيم بعد ذلك سائراً بشعبه إلى ما يؤمله فهو زعيم، وإلا فهو ذاك المفكر الذي ذكرناه
وهذا هو ما يسمى في الفن بالطابع. فأشد الفنانين تمكناً من الفن عند جمهور من الجماهير هو أشد الفنانين تمكناً من طابع هذا الجمهور الذي يطبعه ويميزه من غيره من الجماهير
وقد اتفقنا في أحاديث سابقة على أن الفنون تسعى بالبشرية متجمعة أو متجزئة في طريق التطور والارتقاء، والزعامة كذلك مادامت فناً، وأشرفها إذن ما كان أكثرها تقريباً
للمستقبل من الحاضر
ومن الزعامة ما تكون لحالة طارئة، تزول بزوال هذا الحادث أو تدوم - إذا دامت - حتى يسحب ذيوله. وقد يحدث أن ينزع جمهور من الجماهير إلى أن يتناسى زعيماً من زعمائه في حياته بينما هو لم ينحرف عن جادته فيستغرب الزعيم هذا ويستغربه معه آخرون، ولا يكون لهذا من سبب إلا أن زعامة الزعيم كانت طارئة استدعاها حادث طارئ. ومثال هذى زعامة هندنبرج التي أبقاها عليه هتلر في السنوات الأخيرة من حياته بينما كان الشعب يريد أن يحل زعامة هتلر محلها لأنه رأى نفسه يحس شيئاً جديداً زيادة على النزعة الحربية التي كانت تعبر عنها زعامة هندنبرج، ولأنه رأى هتلر يعبر عن هذا الإحساس. ولم يقل أحد إن هندنبرج كان قد فقد شيئاً من مميزاته الشخصية إلى آخر يوم من أيام صحته، وإنما الذي حدث هو أن الحادث الذي تزعم له هندنبرج ألمانيا لم يصبر حتى تنتهي حياة هندنبرج ليسحب بعدها ذيوله. . . وذلك الحادث هو الحرب الماضية وآخر ذيولها الذي سحبته عن ألمانيا هو الرضى الذي خنعت به السنوات الطويلة أمام شروط الصلح وما كان فيها من روح التشفي والانتقام. وهناك زعامات ماتت في حياة أصحابها ولم تجد من يحفظها عليهم
ومن الزعامة ما يكون قريباً يلحقه جمهوره بسهولة فلا يعود يحفل به إلا كما يحفل المرء بهدف قريب وأصابه. وقد يتقي الزعيم من هؤلاء الزعماء كما يتقي الزعيم من السابقين زعماء الطوارئ شرّ هذا الركود الذي يصيب زعامته لزوال الطارئ أو لضآلة الزعامة، وهو يتقي هذا الركود باختلاق الحوادث في الحالة الأولى وبفلسفة الزعامة وتعقيدها في الحالة الثانية حتى يظن الجمهور أن وراء قبة الزعيم شيخاً فيتابعه ويظل يتابعه وهو لا يدري إلى أين يسير به زعيمه. ولعل المثل الصالح للزعيم الذي ينطبق عليه هذان الوصفان معاً هو نابليون، فقد ظل يأكل عقول الفرنسيين ويسحرهم حتى نفى ونفيت معه فرنسا من مجتمع الدول ذوات الحول والرأي النافذ، وقد يكون موسوليني من بين الزعماء الأحياء الذين يشبهون نابليون في هذا
وإذا كنا نحن اليوم وعلى البعد نستطيع بغير تحرج وبغير تهيب أن نقرر هذه الحقائق وأن نصف هؤلاء الزعماء بهذه الأوصاف فإن أحداً ممن كانوا في متناول أيديهم لم يكن
ليجرؤ على شيء من هذا، لا خشية من هؤلاء الزعماء أنفسهم، فالأرجح أن فيهم من الحكمة ما يوسع صدورهم للنقد الحق على الأقل، بل خوفاً من جماهير هؤلاء الزعماء. فإنهم يكرهون أشد الكراهية أن ينقد زعماؤهم بالباطل أو بالحق، لأنهم في العادة يقيمون من هؤلاء الزعماء أوثاناً تمثل أعز أمانيهم في الحياة، وهم لهذا لا يحبون أن يخدش أحد زعماؤهم ما دام هذا الخدش يصيب أمانيهم العزيزة الغالية في أجسادهم. وهذا واضح اليوم في الترك الذين يتعصبون لمصطفى كمال تعصباً أعمى لا روية فيه، كما أنه واضح في شعبي هتلر وموسوليني، وكما أنه واضح في جماهير المعجبين بالفنانين المشهورين، فقد يقبل الفنان النقد يوجه إليه من ناقد صادق، بينما جمهور هذا الفنان لا يحب أن يلتفت إلى عيب فيه
هذا إذا كان الزعيم فناناً من هواة الحق ولم يكن مهرجاً. أما إذا لم يكن من أصحاب الحق فهو كأدنى فرد من أفراد الجمهور الأعمى يحب الشقشقة ويحب الطنطنة
والزعيم الفنان (يتكون) كما تقدم في أول هذا الحديث بطريقة طبيعية هي طريقة الانتخاب، ولكنه ليس انتخاب الأصوات، وإنما هو انتخاب الضمائر، بحيث لو نزع من مكانه وأحل محله غيره لظهر هذا الجديد وفيه النقص والشذوذ والتكلف
وتستطيع المجتمعات أن تساعد الطبيعة في تكوين الزعماء: كما أنها تستطيع أن تعرقل هذا التكوين؛ وهي تساعد على تكوينه بأن تتزود من الإحساس الداعي إلى التعبير عنه أو الذي تريد أن تعبر عنه، وبكثرة المحاولة في التعبير عنه، وهي تساعد على عرقلته بإهمال هذا الإحساس، وإهمال التعبير عنه
والأصل أن يحدث هذا بدافع من الطبيعة وحدها. ولكن إذا مست حاجة الشعب إلى الزعيم القائد وانتبه عقله إلى هذا، فإنه يستطيع أن ينتج زعيما باصطناع هذه الطريقة التي رسمتها الطبيعة لإنتاج الزعيم ما دام بين أفراده من يصلح بطبعه لأن يكون زعيماً. ولعل هذا الذي تحاوله مصر الآن، فلا ريب أن فيها حركة يقوم بها بعض الأفراد يريدون من رائها أن يتيقظ الجمهور المصري فيرهف حسه للحياة، فيرجح بعد ذلك أن يعبر الجمهور عن إحساسه بلسان زعيم لا نزال ننتظره منذ مات سعد زغلول
ولا ريب أن الزعيم المصري المنتظر يختلف اختلافاً كبيراً عن سعد زغلول، فقد كانت
حال المصريين التي استدعت زعامة حالاً لا تملك إلا أن تهتف أو أن تثور متخبطة في ثورتها، ثم أن تهدأ بعد ذلك حتى تستجمع قوتها لتهتف وتثور من جديد. وقد كانت زعامة سعد تصور هذه الحال في خطبه الرنانة، وفي بياناته الطنانة، وفي نكاته اللاذعة القاسية التي كان يلقي بها تلطم ما يعترض زعامته أو ما يقاوم اتجاهها الذي تقود فيه جمهورها.
أما الزعيم المنتظر فهو الذي سيكون إحساسه أشد من إحساس المصريين بالحال الذي نحن فيه، الذي سيكون أشد المصريين تعبيراً عن هذا الإحساس، وأشدهم مقاومة لدواعي الشر فيه، وأشدهم إلهاباً لدواعي الخير فيه.
والحال الذي نحن فيه الآن يغلب عليه الجهل والجوع والضعف والحيرة، فزعيم المستقبل إذن هو الذي سينقذنا من هذا كله، والذي سيعيد إلينا مصريتنا ناصعة معتزة بكل مفاخر الفراعنة والعرب والإسلام، وهو الذي تحاول الأزمات المتعاقبة على الوطن في هذه الحقبة من الزمن أن تتمخض عنه.
وإننا نرجو الله أن توفق مصر في زعيمها الجديد كما وفقت في زعيمها الراحل. فالحق أنه لم يكن من الممكن أن يكون لمصر زعيم أفضل في صفاته الشعبية من سعد زغلول في ظروف زعامته. وقد أثمرت هذه الزعامة ثمرتها الطبيعية وهي هذه الحال التي نحن فيها الآن، والتي زاد فيها إحساسنا بالحياة، وزادت فيها قوة تعبيرنا عن هذا الإحساس، وزادت فيها محاولتنا إلى بلوغ أمانينا. . .
فمن هو الزعيم الذي سينبعث منا؟. . . لا ندري
ومتى ينبعث؟. . . لا ندري أيضاً. . . فقد يتدرج الزعيم في الظهور إذا لم تتحرج الحياة فيظهر فجأة
ومهما قيل إننا ارتقينا على يدي سعد، فإننا لا نزال على مقربة من عهده، فالزعيم الجديد ستكون فيه من سعد صفات هي ترديد ما لا يزال مضمراً في نفس الشعب المصري من الإحساس منذ أيام سعد، وهي صدى هذا الإحساس المضمر وترجمته. فلا بد أن يكون الزعيم المقبل خطيباً إذا جاء قريباً لأن الخطابة هي التي يجمع بها الزعيم أشتات الأحاديث والأماني التي يرددها الجمهور فيما بين أفراده، وإن شعبنا لما يصل من الرقي إلى حيث يمكن أن يظهر فيه زعيم صامت أو قليل الكلام
فإذا كان هناك زعيم في الخفاء اليوم ولم يكن خطيباً لأنه أرقى من مستوى الشعب، فإنه يستطيع أن يتدرب على الخطابة فإن لها صنعة، وصنعتها تجوز على الجماهير
وعندما يهون أمر الخطابة فلا تكون من عماد الزعامة في الشعب المصري فإنه سيكون قد بلغ من الرقي مبلغاً يقف به إلى جانب الإنجليز الذين يقودهم المجربون والنافعون.
عزيز أحمد فهمي
حول الفن المنحط
للأستاذ كامل التلمساني
قرأنا بالعدد 319 من الرسالة الغراء كلمة بعنوان (حول الفن المنحط ـ كلمة أخيرة) رداً على ما كان قد كتبه أديب فاضل عن جماعة (الفن والحرية)، وما كان من نقاشه مع الأديب أنور كامل عضو الجماعة في رده عليه من ناحية توخى فيها أنور كامل البعد عن التفاصيل الفنية وذكر الأسماء والتواريخ. أما وقد ذكر الأستاذ الفاضل في كلمته هذه اسم الأديب الشاعر أندريه بريتون وترجم كلمة قديمة له عن السيرياليزم ثم تكلم بعد ذلك معقباً بكلام من عنده؛ فلهذا فقط أجد نفسي مضطراً لتصحيح ما أورده من الأخطاء في حق هذا الكاتب وحركته. ولكيلا أتيح الفرصة للقراء الأفاضل بأن يروا صورة مشوهة ممسوخة لهذه الحركة العالمية التي تعبر عن أسمى وأنبل المشاعر الإنسانية في القرن الحاضر، والتي وصلت عن طريقها الحضارة الفنية سواء في الشعر أو التصوير الحديث إلى الدرجة العليا واضعة بذلك قاعدة المدرسة المعاصرة في الشعر الحر والتصوير المبني على الفكر الشاعري والتحليل النفساني الحديث. ولعل الزملاء من المعارضين قد يتحرون الدقة بعد ذلك في إيراد ما يريدون من مصادره الأخيرة الموثوق بها بشأن هذه الحركة التجديدية التي ما زالت تتسع وتتجدد حتى اليوم ولا يقف أمام نشاطها ركود الفكر أو خمول البحث والتنقيب.
والظاهر أن الأديب الفاضل قد اكتسب معلوماته عن السيريالزم (الفن البعيد عن الحقيقة الظاهرة) كما يتضح من كتابته عن طريق تلك الفقرات التي أتت إجمالاً في كتاب:
، & ونحن نعتقد أن مجرد قراءة فقرات كهذه كتبت منذ عدة سنوات لا تخول له الحق في التحدث بمثل ما تحدث به، وأن في هذا جناية على الفكر والكاتب الذي تحدث عنه، و (للرسالة) بما لها من تأثير وانتشار لا يقف مداه عند مصر، بل يتعداه إلى الشرق العربي أجمع! ولذا وجب أن نذكر هنا هذه (الكلمة الأخيرة) رداً على كلمته وليس لنا رجعة بعد ذلك اللهم إلا في نشرات تحليلية مفصلة أو معارض ومحاضرات عامة يتسع لها الموسم الشتوي المقبل وهو قريب
لقد تطور السيرياليزم في السنوات الخمس الأخيرة تطورات عدة بعيدة المدى في جوهرها،
ونشر أندريه بريتون في هذه المدة عدة بيانات متتابعة عن الحركة وما تجدد فيها وما اكتسبت من آراء وفكر؛ وكان آخر هذه التطورات مقالته الرائعة في العدد الأخير من مجلته: مينوتور والتي لا بد للأستاذ من الاطلاع عليها وعلى ما سبقها من مقالات، إذ بحثت بجلاء الاتجاهات الأخيرة في التصوير السيرياليستي، كذلك ما كتبه أقطاب الحركة من النقاد والشعراء والكتاب الفرنسيين والإنجليز
والسيرياليزم ليست (حركة فرنسية محضة) كما يقول الأستاذ بل هي حركة أول مميزاتها أنها عالمية في التفكير والأداء، وليس لها من الطابع المحلي أدنى نصيب قل أو أكثر. وإنه لمن المدهش العجيب حقاً أن يسمح الأستاذ لنفسه أن يقع في مثل ما كتب من الخطأ الفاحش، وإني لأنصحه في هذا الموضع بقراءة ما كتبه الناقد الإنجليزي الكبير هربرت ريد في كتابه عن الحركة السيرياليستية وما أورده بشأن العالمية وهذه الحركة الحرة وبعدها كل البعد أن تتهم بأنها فرنسية محضة كما قال الأستاذ. بل إني أخبره أنه ليس بين قادة التصوير فرنسي واحد، فالمصور جورجيو دي كريكو إيطالي يوناني، وسلفادور دالي أسباني وكذلك بيكاسو نفسه، وبول كلي وماكس أرنست من ألمانيا، وبن روز إنجليزي، وكذلك هنري مور وأما بول دلفو فهو بلجيكي، وشجال روسي الجنسية وهكذا. . . هؤلاء يا سيدي الفاضل هم قادة الحركة. ومن السخرية أنه لا يوجد بينهم فرنسي واحد!! وليس للفن بلد يا صديقي. فلقد أخطأت عندما قلت فيما قلته:(وأظن أن الحركات الفنية لا تنتقل بمثل هذه السهولة من قطر إلى آخر. . . دعك من حديث الشخصية والإلهام. . .)
وعلى ذلك فهناك حركة مماثلة في كل من إنجلترا والمكسيك وبلجيكا والولايات المتحدة وهولاندا الخ. فهل ترى يا سيدي أنه من العيب أن تقوم بعض الصور المصرية مستندة أو متأثرة بمثل هذه المدرسة!. إننا نريد حضارة تسير مع العالم ولا نريد أن نقف حين يسير الجميع. ثم إني أنصحك أيضاً أن تقرأ في هذا الموضوع نفسه افتتاحية عدد يناير 1939 من مجلة لتعرف بنفسك في صمت أنك بعيد عن فهم هذه المدرسة
هل رأيت يا سيدي (عروسة المولد الحلاوة) ذات الأيدي الأربع؟ هل رأيت عرائس القراقوز الصغيرة؟ وهل سمعت قصص أم الشعور والشاطر حسن وغيرها من الأدب
الشعبي المحلي. . . كل ذلك يا سيدي سيرياليزم
هل رأيت المتحف المصري. . . كثير من الفن الفرعوني سيرياليزم
هل رأيت المتحف القبطي. . . كثير من الفن القبطي سيرياليزم. إننا لا نقلد المدارس الأجنبية بل نخلق فناً نشأ من تربة هذه البلاد السمراء وتمشى في الدماء من يوم كنا نعيش بتفكيرنا المطلق حتى هذه الساعة يا صديقي
تقول يا سيدي إن هذه الحركة الفرنسية كما زعمت (باعثها الأول نظريات العالم سيجموند فرويد). هذا كلام عام فيه كثير من التهويل واستدرار التصفيق من أيدي الجمهور - إن كان الجمهور عماده الجهل - بدون حق. هذا كلام بعيد عن التحليل الدقيق، ففرويد له قيمته عندهم وعند كل العالم الحر الطلق الديمقراطي النظيف في فكره وتفكيره. وهل هي جريمة يا سيدي أن يدخل التحليل المبني على أساس نظريات فرويد في التصوير كما هو كائن في الأدب والشعر في بلدنا هذا وهو بلد حر ديمقراطي؟ وليست مصر حتى الآن قطعة من ألمانيا ولم تستعمر إيطاليا بلدنا بعد حتى تحرق مؤلفات فرويد في الميادين العامة بين صيحات الفرح والوحشية. . .! لا يا سيدي ما زالت مصر ديمقراطية وتأثرك بالفكر الفاشي والنازي بنظرتك هذه إلى فننا يجب أن تكبتها وترى لنفسك الطريق القويم. . . هل تعلم يا سيدي أن صور محمود بك سعيد كبير المصورين كلها فرويدية وأن معظم كتابات الأستاذ محمود تيمور بك وتوفيق الحكيم وغيرهما كذلك
ليس لمجرد استناد فننا إلى نظريات فرويد - لو كان في ذلك بعض الصواب عند بعضنا - ما يدعوك لدعوة مثل هذا الفن بالانحطاط بأعلى صوتك؛ أنصحك هنا يا سيدي أن تعرف قبل أن تكتب هذا علاقة هذه الصور بالعلامة سيجموند فرويد. إني أدلك على هذه العلاقة في فصل ممتع بكتاب & للنقادة أو ارجع إلى ما كتبه السيرياليست الإنجليزي في أعداد عن ذلك أخيراً
لقد ذكرت فيما نقلت من مقالك لتستشهد به كلمة (الكتابة الآلية) فهل تدري يا سيدي أن هذه الكتابة الآلية قد ولت وذهب زمانها الآن. إن الشيء الحي يتجدد دائماً من تلقاء نفسه. ولا داعي للاستشهاد اليوم يا صديقي بشيء عرفت عنه شيئاً الآن فقط بعد أن تركه أصحابه بالصورة التي عرفته عليها. هل قرأت يا سيدي الأستاذ ما هو
السيرياليزم؟ ? واثق أنك لم تقرأه وإلا لما استشهدت بقوله الذي ذكرته اليوم وإن كان قد قاله منذ سنوات عدة والذي لم تذكر ما قدم له به وما ذكره بعد ذلك. ربما تجد إحدى الصور التي قد تسرك يا سيدي في محاضرة قالها الشاعر المصري بالفرنسية جورج حنين عضو الجماعة نشرتها له مجلة التي تصدر بالقاهرة عدد أكتوبر 1937
وأخيراً هل تعلم يا سيدي أن زعيم النقد في مصر أحمد بك راسم وهو رجل له رأيه في الفن منذ كتب للفن أن يظهر في مصر قد تكلم عن ثلاثة من أعضاء هذه الجماعة من المصورين في عدة مقالات ذكر في آخرها بالأهرام 17 سبتمبر سنة 1938 وبالبلاغ 15 أكتوبر سنة 1938 تأثير الفن الشعبي والفن الشرقي في فنون هؤلاء الفنانين وهم الأستاذان كمال وليم وفتحي البكري وكاتب هذه السطور. إن بعض الأعضاء في هذه الجماعة مثل أبو خليل لطفي وحسين يوسف أمين قد بلغوا بفنهم درجة ثقافية عالية بالفن الشعبي المحلي في فنهم خيال وفكر شخصي لا دخل للسيرياليزم فيه وإن كان به ما بالسيرياليزم من بعض الصلات والأصول خصوصاً في الصور الحفرية التي يعملها المثال أبو خليل لطفي. أما صور الأستاذ يوسف العفيفي وفؤاد كامل فهي تخرج من القلب تواً ومن أعصابهما ودمائهما تتكون خطوطهما، وفن كليهما شخصي محض ليس لغيرهما صلة مباشرة به عن قرب أو عن بعد. إني أحب أن أجيبك هنا بما أجاب به أستاذنا يوسف العفيفي أحد النقاد المعارضين لنظريته يوماً إذ قال له:(إن السيرياليزم ما هو إلا الاسم العلمي الحديث لما نسميه نحن: الخيال. حرية التعبير. حرية الأسلوب، والشرق منذ الأزل موطن كل هذا)
وليس لنا عودة بعد هذا. ولعل فيما ذكرت وأوردت في إيجاز ما يدعو قراء الرسالة الأفاضل لقراءة بعض هؤلاء الكتاب والنقاد
كامل التلمساني
عضو جماعة الفن والحرية
رسالة العلم
الشقيقان
الإلكترون والبوزيتون أو السالب والموجب
للدكتور محمد محمود غالي
ذكرنا أن المادة مجموعة من الذرات، وأن الكهرباء مجموعة
من الذرات الكهربائية، أسماها العلماء (إلكترونات)، كتلة
الواحدة منها حوالي 20001 من كتلة أخف الذرات (ذرة
الهيدروجين)، وذكرنا أدلة حسية على وجود هذه
الإلكترونات أو الجسيمات المتناهية في الصغر. من ذلك أن
المجال المغناطيسي يجذبها كما تجذبنا الكرة الأرضية، وذكرنا
أن مسار هذه
الجسيمات يدل على أن كهربائيتها سالبة. والآن نخطو بالقارئ خطوة أخرى لنحدثه في نوعي الجسيمات الكهربائية. فكما أن العناصر المادية تبدو لنا مختلفة وفق اختلاف الذرات، كذلك الكهرباء تبدو لنا مختلفة وفق نوع الذرات الكهربائية، ففي المادة - ترى مثلا - الماء المكون الأعظم لسطح الكرة الأرضية، هذا الماء الذي يروي النبات الذي عليه نعيش، وفي المادة نرى المعادن نُكوِّن بتكييفها أعظم معالم المدنية.
وفي الكهرباء نرى نوعين مختلفين من الذرات، الذرات السالبة والذرات الموجبة، والأولى تكوِّن التيار الكهربائي وقد عرفنا أنها مكونة من جسيمات صغيرة جداً تتدفق في المادة كما يتدفق النيل في بلادنا حاملاً أمطار الحبشة سر رخائنا وأصل ثروتنا، والثانية مكونة من جسيمات صغيرة جداً تساوي كتلة الواحدة منها كتلة الأولى تقريباً وشحنتها موجبة. ولقد عكف العلماء البحث عن ماهية هذه الكهرباء الموجبة دون أن يجدوا وسيلة
واحدة لفصل جسيماتها عن المادة التي تحملها كما حدث أن استطاع الباحثون التعرف على الجسيمات السالبة بعيداً عن المادة
حقيقة أمكن الحصول، داخل أنابيب التفريغ الكهربائي على تيارات موجبة نعني تيارات تسير من القطب الموجب إلى القطب السالب، ويصح تسميتها الأشعة الموجبة ولكن اتضح من تعيين كتلة وحدات هذه الأشعة أنها كتلة ذرات الغاز المتبقي في هذه الأنابيب، بحيث أن هذه الذرات تتكون من ذرات الغاز بذاته، ولا تمثل الذرات الكهربائية الموجبة، وهكذا اعتقد الكثير أن الكهربائية السالبة هي وحدها التي تظهر على شكل إلكترونات حرة، بيد أن الكهربائية الموجبة لا تنفصل عن المادة وتكون جزءاً منها.
وعندما أمكن لمليكان العالم الأمريكي المعروف أن يحصل في سنة 1907 على إلكترون حر واحد ويتأكد العلماء كلهم معه كما سيعرف قريباً قارئ الرسالة أن هذا الذي حصل عليه هو ألكترون حر واحد ليس باثنين أو بثلاثة - زاد تعطش العلماء إلى العثور على أثر جسيمات الكهربائية الموجبة حرة طليقة، ومرت السنون طويلة منذ حادث (مليكان) دون أن توجد مناسبة علمية واحدة استطاع الباحثون فيها أن يحصلوا على شقيق الإلكترون التائه كأنه لم يكن من أبناء هذا العالم الذي نعيش فيه
وشاءت الظروف أن يكون كشف الذرة الموجبة في المعهد ذاته الذي أحرز فيه (مليكان) نجاحه المنقطع النظير، وفي المعهد الشهير الذي يديره (مليكان) في باسادينا بكاليفورنيا كشف (أندرسون) حديثاً الذرة الكهربائية الموجبة، هذه الذرة التي أسماها العلماء في بادئ الأمر (البوزيترون) أي الذرة الموجبة والتي فضّل (بيران) شيخ علماء السوربون أن يحذف الراء من هذه التسمية ويطلق على الذرة الموجبة (بوزيتون) وذلك في كتاب (حبيبات المادة والضوء) ولقد كان هذا الكشف من ناحية أندرسون نتيجة لدراسة خاصة بالأشعة الكونية التي كتبنا عنها أربع مقالات بالرسالة وألقينا محاضرتين عنها هذا العام إحداهما في الجمعية الطبية العلمية بكلية الطب، والأخرى في جمعية
المهندسين الملكية. والظاهر أن جزءاً هاماً من هذه الأشعة الجديدة على معارفنا يتكون من الذرات الكهربائية الموجبة كما أن لهذه الأشعة قوة اختراق عجيبة بحيث تستطيع عندما تتصادم مع المادة أن تخرج منها الذرات الموجبة التي اتضح أن كتلتها تعادل كتلة
الإلكترونات ذرات الكهربائية السالبة.
ولقد استطاع الباحثون باستعمال أشعة جما الراديومية أن يحصلوا على البوزيتون. وهكذا اتضح أن عملية إخراج الذرات الموجبة من المادة أصعب بكثير من إخراج الذرات السالبة، هذه الذرات الأخيرة تظهر في الأحوال العادية كجسيمات حرة، فهي التي تحدث كل الظواهر الكهربائية المعروفة بالظواهرالإلكترونية التي تعد من بينها الأشعة الكاثودية وتعد من بينها كل هذه الإلكترونات المهاجرة والسريعة التي تكون الأساس في فن الراديو حيث تعد هجرة الإلكترونات في الفراغ من سلك (الأمبول) حتى (الأنود) العمل الأساسي في نجاح هذا الفن
على أن معرفة هذه الحالة الذرية للكهرباء التي ابتدأت بمعرفة الإلكترون وانتهت بمعرفة شقيقه (البوزيتون) وفصلهما عن المادة وقياس كتلة كل منهما، كل هذا صحح في الأذهان الصورة الحقيقية التي عليها ظاهرة الكهرباء، وبعد أن كانت التيارات الكاثودية معتبرة عند العلماء حالة خاصة لظاهرة الكهرباء، فهم الباحثون أن الهجرة الحرة للجسيمات الكهربائية هي الحالة العامة الطبيعية، فالإلكترون مهاجر حر يسافر في كل مكان وفي أي اتجاه بسرعة كبيرة تعادل سرعة الضوء، وما المادة عندما تجري الكهرباء فيها إلا وسط مقاوم لطبيعتها الحرة، وسواء اعتبرنا (الأمبول) للفرغة مكاناً تسبح فيه الكهرباء أو اعتبرنا الأسلاك النحاسية مكاناً تروح وتغدو فيه، فالكهرباء في الحالتين ظاهرة واحدة. . . الكهرباء شخصيات مهاجرة وعوالم متنقلة، وليس ثمة فارق بين هجرتها في الأنابيب المفرغة وهجرتها في الأسلاك إلا أنها في الأخيرة تعمل لها طريقاً بين ذرات المادة المتراصة في هذا السبيل ما نسميه المقاومة الكهربائية
عندما تحادث من القاهرة صديقاً لك بالإسكندرية وتستمر المحادثة بينكما ست دقائق في المساء كما هو المعتاد، فإن كل لفظة تسمعها تُترجم في الواقع من بلايين البلايين من الشخصيات المهاجرة في السلك النحاسي الذي مدّه العمال بين العاصمتين. عندما تقول لصديقك في التلفون (كيف حالك) فقد حدث في هذه اللحظة من جراء صوتك بضع مئات الآلاف من الذبذبات التي تمثل صوتك والتي يمكن تسجيلها والتي كان لها أثر على التيار الكهربائي بينكما، وفي كل حرف نطقت به وقعت حرب عوان لا تقارن بها مواقع
فردان والمارن، فإن ملايين الملايين من المهاجرين كانت تدفع طريقها بصعوبة وسط ملايين ملايين الذرات المادية كجيش محارب اضطر أن يجتاز صفوف العدو أو أن يخترق مدينة مزدحمة بالسكان وكان لا بد له في الحالين من مجهود مضنٍ قبل أن يكون قد اخترق كل ما أمامه
هذه العلاقة بين عدد المهاجرين وشكل الذبذبة ثابتة لدرجة أنه أمكن التوسع أخيراً في طريقة نقل المكالمات التليفونية، بحيث أنه يمكن الآن على سلك واحد أن يتكلم حوالي 350 متكلما في وقت واحد بحيث يمكن في الحال تحليل الأصوات أو بالأحرى الذبذبات عند خروجها من السلك الذي يضمها جميعاً فيسمع كل متكلم صاحبه في الوقت ذاته الذي حدثت فيه المكالمات جميعاً، وقد تمت مثل هذه الخطوط بين كثير من البلاد الكبيرة نذكر منها على سبيل المثال الخط الرئيسي بين لندرة وبرمنجهام وبين هذه ومانشستر. وقد قدر العلماء أنه في الأحوال العادية يهاجر في واحد على الألف من الثانية حوالي كانتيليون من الإلكترونات
ولقد درس العلماء ما يحدث في التوصيل الكهربائي وكشفوا ظواهر غاية في الأهمية، وعرفوا ما ينتج من ضعف المقاومة الكهربائية عند تبريد الأسلاك الموصلة تبريداً بلغ في هذه التجارب درجة الهواء السائل، وقد وجدوا أن التيار الكهربائي يستمر عند هذه الحالة عدة ساعات دون أن يُغذّي الأسلاك التي يولد التيار فيها أي منبع كهربائي، طيلة هذه المدة، وفي حلقة معدنية محاطة بهيدروجين سائل كون الباحثون بطريق التأثير تياراً كهربائياً، وذلك بتقريب مغناطيس من الحلقة؛ ومن جامعة ليد الشهيرة نقل الباحثون بالسكك الحديدية الوعاء المحتوي على الحلقة إلى جامعة أيترخت حيث اتضح بواسطة الجالفانومتر أن التيار المتكون بالتأثير لا زال موجوداً وأن الإلكترونات لا زالت تدور دورانها في الحلقة ولعل ذلك راجع إلى هدوء نسبي في التهيج الذري المستديم والواقع في الحلقة المعدنية بحيث وجدت الإلكترونات طريقاً سهلاً بين هذه الذرات التي اقتربت بهذا التبريد من السكون وعليه فثمة ثلاثة أنواع رئيسية من الجسيمات:
(أ) الجزيئات وهي المكونة للحوادث الطبيعية
(ب) والذرات وهي المكونة للتغييرات الكيميائية
(ج) والإلكترونات ومعها البوزيتونات المكونة للظواهر الكهربائية
أما أن يكون الجزيء مركباً من ذرات فهذا لا جدال اليوم فيه إلا إذا أزلنا من العلوم علم الكيمياء. وأما أن تكون الذرة مركبة من مكونات أصغر منها أهمها الإلكترون والبوزيتون فهذا أيضاً أمر لاشك فيه وإلا جاز لنا أن نستغني عن كل معارفنا في الكهرباء
هذان الشقيقان يلعبان دوراً هامً في معارفنا، وسنحاول مع القراء أن نتعرف عليهما أكثر من ذلك.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسبخانة
من هنا ومن هناك
لو كنت يهودياً
(ملخصة عن مقال (للمهاتما غاندي))
كل عواطفي تتجه نحو اليهود، فقد توشجت بيني وبينهم أواصر المودة أيام إقامتي بجنوب أفريقيا، وصار لي بعضهم أصدقاء مدى العمر، فأتيح لي أن أعرف كثيراً عن هذا الاضطهاد الأبدي الذي يعانيه اليهود عن طريق هؤلاء الأصدقاء.
إنهم المنبوذون في المسيحية. ولقد أرى وجه الشبه يتقارب كثيراً بين المعاملة التي يعاملهم بها المسيحيون، والمعاملة التي يعامل بها الهندوس طائفة المنبوذين. فقد كان الدين هو الذريعة التي ارتكبت باسمها تلك المعاملات الهمجية التي تعانيها الطائفتان. فإذا وضعت تلك الصداقة جانباً، ونظرت إلى الأمر من ناحيته العامة وجدت عواطفي جميعها تتجه نحو اليهود
إن المبادئ السامية تقضي بان يعامل اليهود كغيرهم من خلق الله أينما ولدوا وحيثما نشأوا فاليهود الذين يولدون في فرنسا فرنسيون ولا شك، كما أن المسيحيين الذين يولدون في فرنسا فرنسيون. فإذا اتخذ اليهود فلسطين وطناً لهم، هل معنى ذلك أنهم يستمرئون فكرة إخراجهم مقهورين من ديارهم؟ أو أنهم يريدون أن يكون لهم وطنان يعيشون فيهما كيف يشاءون؟ إن تلك الصرخة في طلب الوطن القومي تعطي الألمان حجة براقة اللون لطرد اليهود
إن اضطهاد الألمان لليهود على أي وجه نظرنا إليه، يلوح لنا أنه منقطع النظير في تاريخ العالم. إن المظالم الغابرة لم تصل في يوم من الأيام إلى ذلك الجنون الذي اندفع هتلر إليه! وإنه ليندفع إليه بعامل ديني، إذ انه يدعو إلى دين جديد من الوطنية قوامه الطرد والمحاربة. فباسم الدين تعد هذه الأعمال المنافية للإنسانية، من الأعمال الإنسانية التي يجازى مرتكبوها في الدنيا والآخرة خير الجزاء
إذا كانت في الحياة حرب عادلة تقوم باسم الإنسانية، فالحرب ضد ألمانيا واجبة لمنعها من اضطهاد عنصر بحاله من بني الإنسان. ولكنني لا اعتقد في الحرب بحال من الأحوال، إن ألمانيا تلبس الباطل ثوب الحق، والهمجية ثوب الإنسانية. فهل يحتمل اليهود هذا الاضطهاد
الغريب؟ ألا يوجد سبيل للاحتفاظ بالكرامة والشعور بشيء غير الضعف والإهمال والخذلان؟
إنني أقر هنا بأنهم لا يعدمون هذا السبيل. إن إنساناً يعتقد في وجود الله يجب ألا يشعر بالعجز والخذلان. إن اليهود كالمسيحيين والمسلمين والهنود في اعتقادهم بوحدانية الله، إلا أنهم يشخصونه ويعتقدون أنه يتولى جميع أعمالهم فما أجدرهم بألا يشعروا بأنهم بغير نصير
لو كنت يهودياً مولوداً في ألمانيا وكنت أحصل رزقي بها، لصرخت في وجه أقوى رجالها:(إن ألمانيا وطني ولا أخرج منها ولو قطعت أوصالي، أو ألقى بي من حالق). ولرفضت أن اطرد منها أو أخضع لأي نوع من أنواع الاضطهاد بها، ولا انتظر رفقائي اليهود ليصحبوني إلى عصيان مدني، ولكني سأكون على ثقة بأنهم سيحذون حذوي في النهاية
لقد نجح الهنود في حركة العصيان المدني في جنوب أفريقيا، وكانوا يقفون ذلك الموقف الذي يقفه اليهود الآن. بل إن مركز اليهود في ألمانيا خير من مركز الهنود في جنوب أفريقيا. إنهم أكثر ذكاء وأقوى استعداداً من هنود جنوب أفريقيا، وفضلاً عن ذلك، فقد أوجدوا خلفهم سنداً من الرأي العام في أنحاء العالم
إنهم إذن جديرون أن يقفوا رجالاً ونساء ذلك الموقف الحازم معتمدين على قوة الله الذي سيعينهم ولا شك على احتمال الشدائد، وإنهم بذلك ليرفعون من شأن ألمانيا ويبرهنون على أنهم أبناؤها الجديرون بهذا الاسم، لا هؤلاء الذين يسيرون باسمها وسمعتها نحو الهاوية. . .
ولايات متحدة عالمية
(عن مقال (للمركيز أوف لوثيان))
جرب العالم في ربع القرن الأخير كل رأي في سبيل منع الحروب. ففي عام 1918 بدأت محاولات جدية لإنقاذ العالم من الأوتقراطية ونشر مبادئ السلم والحرية. ثم أعقب ذلك محاولة عصبة الأمم، ثم ميثاق كلوج فاتفاق عدم التسلح. فلما انتهت تلك الآراء بالخيبة وأخذ شبح الحرب يلوح ثانية للعالم، أقبلت بعض الأمم تفكر في حماية نفسها من الحرب،
فعاد بعضها إلى التسلح، وتذرع بعضها بالتحالف، وآثر بعضها الوحدة ونظام الحياد الدقيق. ولكن شيئاً من ذلك لم يفلح لوقاية العالم من الحرب، وإن كانت كل أمة من هذه الأمم تعتقد تمام الاعتقاد بأن الحرب إذا اندلع لهيبها - ولا يستطيع أحد أن يقول إن هذا أمر بعيد الوقوع - فسوف لا تنتهي إلا وهي على حافة الدمار
إن فكرة السيادة الدولية هي أهم أسباب الحرب. فمن أجل السيادة يقضي على العالم الإنساني بأن يعيش تحت عوامل الفوضى وإذا كانت هناك أسباب أخر لاشك فيها لإثارة نيران الحرب كالخوف والطمع والزهد والتعصب للعنصر، إلا أن هذه الفوضى. هي التي تشعل نيران تلك الشرور، وتجعلها أمراً لا مفر منه، فلا تلبث أن تؤدي إلى الحرب عاجلاً أو آجلاً، كما هو الشأن منذ سقوط آخر نظام عالمي وهو نظام الإمبراطورية الرومانية. لذلك تقع الحرب بين الأمم ذات السيادة فحسب، أو الأمم التي تسعى وراء السيادة. والسيادة تجعل المنافسة على التسليح أمراً لا معدي عنه، وتضحي بالأخلاق في سبيل النفوذ السياسي، وتسوق الأمم القوية إلى الاستعمار والضعيفة إلى طلب الاستقلال، وتقضي على فكرة التعاون التجاري بين الدول، وتزيد في عدد العمال المتعطلين بزيادة التعريفة الجمركية وغيرها من العوائق، وتزعزع الحالة المالية والاقتصادية، وتقضي على حقوق الفرد، وتحيل الأمم وهي في طريقها الذي لا آخر له في طلب الأمن بالقوى الحربية - إلى مجرد ولايات للرق والاستعباد
إن العلاج الوحيد للحرب هو الاتحاد الذي ينطوي على القضاء التام على فكرة السيادة الدولية، سواء اتخذت مظهر القوة كما يرى الاشتراكيون والفاشست، أو اتخذت صفة التحالف الديمقراطي. فكل اتفاق يؤول في النهاية إلى السيادة سيكون نصيبه أن يفشل تماماً كما فشل في الولايات المتحدة ما بين سنة (1881 - 1889) إذ أن الداء الكمين الذي يسبب الحرب لم تستأصل جذوره
يجب أن نختار بين الحرب، والسعي المتواصل وراء السيادة الدولية، مع ما في ذلك من القضاء على السلم وحرية الفرد، وبين الرجوع إلى فكرة حقوق الإنسان القائمة على اتحاد الشعوب تحت نظام إقطاعي كالذي تسير عليه أمريكا الآن إذا كان للحرية أن تعيش، وللسلم أن يقوم على دعائم ثابتة.
الله وشفاء الإنسان
(عن مجلة (ساينس أوف ثوت))
قد يتساءل الإنسان وهو يعرض لفكرة الحرب، ويفكر في الشقاء والبلايا التي تعترض الإنسانية في هذه الحياة:(كيف يرضى الله لعبيده هذه الحال؟) هذا السؤال وأمثاله يخطر ببال كثير من الناس. وهم إذ يفكرون هذا التفكير لا يريدون أن ينظروا إلى الحياة على وجوهها المختلفة المتعددة الجوانب، مسوقين إلى آراء واهية الأساس لا تنتج عادة غير الزيف. فنحن نظن أن عقيدتنا في الله والمسيح كافية لإصلاح كل شأن وقضاء كل مأرب مع ما نراه من البؤس الذي يعانيه كثير من المؤمنين المخلصين في إيمانهم، لا فرق بينهم وبين غيرهم ممن لا يؤمنون بشيء. ومثل بسيط كاف لحل هذا اللغز، وإفهامنا الحقيقة التي توجب ذلك
إن مجرد الإيمان بالفن لا يجعلنا من رجال الفن. فمن الواجب إذن إن نصبح فنانين. وعند ذلك يخلق في نفوسنا ذلك الشعور الداخلي الذي يخالط حياتنا ويجعلنا نعيش للتعبير عن الفن
وكذلك نستطيع إن نقول إن مجرد الاعتقاد في الله والمسيح لا يؤدي إلى ما تنشده نفوسنا، ما لم نكن مسيحيين كالمسيح، فيخلق في نفوسنا ذلك الشعور الداخلي الذي يمازجها ويجعلنا نحيا للتعبير عن قدسية هذا الشعور
فكما يعبر الموسيقي عن الأعمال الخالدة التي يضعها كبار الموسيقيين، نعبر عن الله العظيم ونترجم عن روحه
لقد وهبنا الله الحرية. وإن شقاء الحياة لمن الدلائل القائمة على ذلك. والحياة تسيرها حركة باطنة، وكل منا يملك في نفسه تلك القوة الخالقة التي تسير الحياة. فهذه القوة وذلك النشاط هما المادة التي تخلق فينا أسمى مظاهر الحياة
إن كل ما يحرزه الإنسان من التقدم في الحياة، يرجع الفضل فيه إلى القوة الباطنة: فهي التي تسمو بطبيعته وتهبها العمق والاتساع.
والفرق بين الناس يرجع إلى الباطن دائماً، فقد كان السيد المسيح لحماً ودماً في ظاهره،
ولكنه في الباطن كان متصلاً بالسموات والأرض. لقد خلقنا الله لنعيش كما يعيش الفنان المعبر عن الفن، وأمدنا بالروح والقوة والنشاط والحركة، ووهبنا القدرة على الاختيار، والحرية، وخلق فينا حياتنا الباطنة، فلسنا إذن آلات متحركة. إلا أن الحرية لا تسير بغير نظام. وإطاعة هذا النظام لا تفقدنا الحرية. فالحركة والنشاط والمادة والعمل والنجاح يجب أن تسير جميعها على نظام خاص.
والفرق بين الخضوع لقانون الفنان المعبر، والخضوع لقانون الإله، هو حرية الاختيار في الحالة الأولى - بمعنى وعي حقائق الأمور - والإجبار الذي لا اختيار فيه في الحالة الثانية. وما دام الله قد خلقنا لنكون الفنانين المعبرين عن جلاله، وجعلنا أحراراً في الحياة، فالحرية إذن سنة الله، وهو بقدرته يحمي هذه الحرية. فإذا خضعنا للقانون حمى نفوسنا وحفظ حريتنا. وإذا عارضنا ذلك القانون، عارضنا حريتنا، وخضعنا لقانون الآلة الصماء
فعدم تنفيذ إرادة الخالق يقضي على حريتنا، إذ يساء استعمال الحركة والنشاط والمادة والتقدم، وينحدر العالم إلى مهاوي الشقاء. . .
البريد الأدبي
تاريخ الأمم والبلدان الإسلامية
هذا عنوان الكتاب الضخم الذي أخرجه من أسابيع المستشرق العلامة الأستاذ كارل بروكلمن، وقد نشره في مدينة مونيخ من مدن ألمانية. وعنوان الكتاب في اللغة الألمانية:
والحق أني لم أقرأ الكتاب بعد، وذلك لأني على سفر ولأني أستريح ههنا من عناء المطالعة العلمية. غير أني رأيت ألاّ أهمل إخبار قراء (البريد الأدبي) بخروج ذلك الكتاب المفيد وحسبي اليوم أن أجمل لهم مشتمله على أن أعود إلى النظر فيه بعد زمن
1 -
العرب والدولة العربية: الجزيرة قبل الإسلام. النبي محمد. الخلفاء الراشدون. الأمويون
2 -
الدولة الإسلامية: العباسيون سقوط الخلافة وقيام الدول الصغيرة. الفرس والترك. الإسلام في الأندلس وشمال أفريقية. الشرق الأدنى أيام الحروب الصليبية. المماليك في مصر. الترك والمغول
3 -
العثمانيون والإسلام: قيام الدولة العثمانية واتساعها في عهد سليمان. حضارة العثمانيين في أوج ملكهم. قيام الدولة الفارسية الثانية ومنافستها للدولة العثمانية. انحلال الدولة العثمانية حتى نهاية المائة الثامنة عشرة
4 -
الإسلام في القرن التاسع عشر: الدولة العثمانية ومصر. الحياة العقلية في تركية ومصر. شمال أفريقية والسودان وإيران والأفغان
5 -
حال الدول الإسلامية بعد الحرب الكبرى: تركية. مصر. الجزيرة. الشام. فلسطين. شرقي الأردن. العراق. إيران. الأفغان
(تلال الفوج. فرنسة)
بشر فارس
أهداف الفتوة العراقية
كان يجب أن يكون مفهوماً أن في مصر رجالاً أكرمهم العراق من أمثال الزيات
والسنهوري وعزام، وهؤلاء تُقبَل شهاداتهم الكريمة في العراق بتحفظ واحتراس، لأنهم ينظرون إلى العراق نظر المحب إلى الحبيب
وأنا عشت في العراق ونعمت بكرم أهل العراق، ومن السهل أن يقال إني أنظر إلى العراق نظر المحب إلى الحبيب
ولكنني أبعدت عن نفسي شبهة التلطف فلم أقل في أهل العراق غير كلمات سجلت فيها ما يملكون من محاسن وعيوب
واليوم أراني مقهوراً على إعلان ما أُضمر لإخواني في العراق من الحب والإعجاب بعد ظهور المجموعة النفيسة التي أصدرتها مجلة العلم الجديد بوزارة المعارف العراقية، وهي مجموعة مقالات وأحاديث نشرها سعادة الدكتور سامي شوكة في مناسبات مختلفات، وهي تدور حول محور واحد هو تقوية الفتوة في النفس العربية
ولا يمكن أن يتصور قيمة تلك المجموعة إلا أحد رجلين: رجل قرأها وعرف ما فيها من معانٍ سامية، أو رجل عرف الدكتور سامي شوكة وطالع ما في روحه الوثاب من قوة وحماسة
والدكتور سامي شوكة معروف لأهل مصر، فقد زارها منذ أشهر أيام المؤتمر الطبي العربي وشاء له كرمه أن يودعها بهذه الكلمات الحِرار:
(أودّع مصر القاعدة الحربية لجيوش أمتي العربية التي استندت إليها في فتح أفريقية وأوربا الغربية يوم كانت تقود العالم نحو الحق والفضيلة والعدل. أودع مصر أكبر كوكب في سماء بلادي العربية، مصر التي تضيء لنا بعلومها وثقافتها سبيل الرقي والتقدم. أودع مصر عاصمة القرآن في القرن العشرين)
ومما يجب النص عليه أن الدكتور سامي شوكة وهو مدير المعارف العام بالعراق يحتم على جميع التلاميذ والمدرسين أن يلبسوا ملابس الفتوة لترتفع بينهم فوارق الترف في الملابس وليشعروا بأنهم جنود مستعدون لتلبية نداء الوطن حين يفزع إلى أبنائه الأبطال
فيا صديقي الذي لم أشهد فيه غير الشهامة والصدق، أعزك الله ونصرك، وجعلك قدوة لمن يخدمون المعارف بسائر الأقطار العربية
زكي مبارك
مداعبات النشار
سيدي محرر (الرسالة)
وجه نظري أحدُ الأصدقاء إلى المداعبات التي ينشرها حضرة الشاعر الفاضل عبد اللطيف النشار، وقد أبى لطفه إلا أن تشملني. وهو حر في ذلك لولا أن بعض ما يكتبه أتاح فرصة لسوء التفاهم مع بعض الأدباء. وحسبي أن أقول إن آرائي من أدبية واجتماعية وغيرها صريحة معروفة، ولم أحتج مرة لستر أبى الفرج ولا غيره في التعبير الملفوف عنها. وعلى هذا فلست مسؤولاً عما يقوله زيد أو عبيد من معارفي أو أصدقائي ولا أشاطر أحداً منهم خفيةً، كما أن أحداً منهم لا يتحمل مسؤولية كتابتي. وأما عن خلطه الآخر وذكره رجلاً من أعلام النحالة المشهورين وهو المستر (ليونارد هاركر) فمغفور أيضاً لمثل حضرته ما دام ذلك من مظاهر لطفه. وقد ينتفع حضرته لهذه المناسبة بالإطلاع على مجلة وإن لم يرضه أن يجد أبناء العالم الجديد يفهمون العلم والأدب والتأريخ لهما على غير ما يفهم
وبعد. فلما كنت قد نفضت يدي من الأدب العربي منذ زمن فإني أعدّ نسياني تفضلاً كريماً من آبي الفرج الأسكندراني وأدعو له بالهناءة والتوفيق.
أحمد زكي أبو شادي
في الفصول والغايات
قال أبو العلاء المعري في كتابه العبقري (الفصول والغايات في تمجيد الله والمواعظ):
(الجسد بعد فراق الروح كما قُص من يدك، وقُصِّر من فودك: إذا ألقى فسيط في النار لم تباله، وإذ غرق فليل في اللُّج فكذاك؛ هكذا يقول المعقول، ولله نظر في العالم دقيق. لا يمتنع أن يكون جسد الصالح إذا قبر في النعيم، وجسد الكافر في عذاب اليم، لا يعلم به الزائرون، وعابد الله ليس بغبين. ليت أنفاسي أُعطين تمثلاً، فتمثل كل نفس رجلاً قائماً يدعو الله تبتلاً يمنع جفنه لذيذ الإغفاء)
رويت الفصل كله ليُعلم أن الشيخ قد فن في الكتاب فنيناً، ونوّع فصوله تنويعاً، فلم يقتصر على أشياء ما تعداها. وما أقصد بما أملئ أن أبحث بحثاً فلسفياً ولا (دينياً). الخطب ضئيل:
في الفصل: (فليل) وقد قال محقق الكتاب في التفسير: (الفليل: ناب البعير المنكسر، أو ما ندر عن الشيء كسحالة الذهب وبرادة الحديد وشرارة النار) وعندي أن الفليل هنا هو الشعر، (ما قص من يدك) تشرح (الفسيط) و (ما قصر من فودك) توضح (الفليل). وفي اللسان:(الفليلة والفليل الشعر المجتمع) وفي فقه اللغة: (سبيخة من قطن، عميتة من صوف، فليلة من شعر، سليلة من غزل)
وإن استقل أديب نقد لفظة واحدة في هذا الكتاب فلا يلمني، وليلم إمعان العلامة محققه في التدقيق ومبالغته في الضبط فهو الذي حرمه نقداً كثيراً يشتهيه. . .
إن (الفصول والغايات) كتاب عجيب ما اخرج عالم في هذا الوقت من معادن الأدب القديم عديله، ولم يحقق مصنف تحقيقه. ولن يشينه أبداً إن الطبعة الأولى لم تنفذ حتى اليوم، وإنما يعرُّ ذلك القاهرة ومصر وبلاد العرب، ويخبر أن القوم (إلا أقلهم) لم يبرحوا في الشط.
* * *
مصارحة وتصحيح
لا ندري ما الذي يحمل الدكتور زكي مبارك على أن يحرف كلام الناس ثم يتهمهم بأنهم يحرفون كلامه! لقد أتهمنا حين أنكرنا عليه قوله: (اشغلني عنك يا رباه بما سيكون في الجنة من أطايب النعم) بأننا حذفنا قوله عقبه: (فأن بصري أضعف من أن يواجه نورك الوهاج) ليجوز لنا أن نصفه بسوء الأدب في الدعاء، وسوء الفهم للدين. والجملة التي أخذناه بها لا يمكن أن يصلحها أية جملة أو جمل يمكن أن تضاف إليها، فضلاً عن جملة يصح في نفسها أن تكون موضع مؤاخذة لأنها تثني على الله سبحانه بما لا يكاد يصلح ثناء على الشمس التي خلقها. فلو أننا ذكرناها لأخذنا كاتبها مؤاخذة أخرى، ولكننا اكتفينا بمحاسبته على أشنع غلطتيه، كما سبق أن نبهنا
والآن يأتي الدكتور في خطابه في العدد 319 من الرسالة فينسب إلى كاتب فيها أنه قال: إن من حق الدكتور أن يتكلم في الأدب لأنه دكتور فيه، وليس من حقه أن يتكلم في الدين لأنه ليس دكتوراً فيه! والذي نعرفه أن الكاتب الذي يعنيه الدكتور لم يقل هذا، وإنما قال إن
للدكتور أن يتظرف أو يتمجن في أسلوبه حين يكتب في الأدب الذي هو دكتور فيه، وليس له أن يتظرف أو يتمجن حين يكتب في الدين أو حين يدعو الله. فهو ينكر على الدكتور لا مجرد الكتابة في الدين، ولكن إساءة الأدب في الكتابة، سواء أكان دكتوراً في الدين أم غير دكتور فيه. وأظن نعمة الإسلام التي يحمد الدكتور الله عليها من شأنها أن تجعل الدكتور يوافق الكاتب على ما قال، سواء أقر بما سماه الكاتب تمجنا في دعاء زكي مبارك الذي دعا أم لم يقر.
على أننا مع هذا نحب أن نصارح الدكتور زكي مبارك أن خيراً له وللناس أن لا يكتب في الدين، لا لأنه غير دكتور في الدين ولكن لأنه غير متمكن فيه. وفرق بين الاثنين. فلو كان متمكناً في الدين لجاز له أن يكتب فيه ولو لم يحمل فيه شهادة أو لقباً ما.
ولكنه للأسف غير متمكن، ودليل ذلك أخطاؤه الكثيرة التي وقع فيها، والأخطاء التي لا يزال يقع فيها كلما كتب في الدين أو فيما يتصل به.
والخطأ في الدين ليس كالخطأ في الأدب، كما أن الحال في الدين ليس كالحال في الأدب فوضى لا يهتدي فيها بمعيار يميز الخطأ من الصواب. فمعيار الحق والصواب في الدين موجود لا يخطئ، إلا وهو الكتاب الكريم والسنة المطهرة. ما وافقهما كان هدى وصوابا، وما خالفهما كان خطأ وضلالا. والعقل بعد أن ثبت عنده أن القران من عند الله، وأن محمداً رسول الله، ملزم - ملزم بمنطقه هو - أن يسمع ويطيع من غير تردد ولا ريبة سواء فهم الحكمة أم لم يفهم، كما يقبل النظريات الرياضية مهما بدت معقدة غريبة. إن للعقل طبعاً أن يحاول الفهم ما استطاع، بل هذا هو واجبه، لكن ليس له أن يوقف السمع والطاعة في الدين على الفهم و (المعقولية) وإلا أصبح الدين رأياً يتغير، أي أصبح غير دين
فقول الدكتور زكي مبارك إن لكل مسلم الحق في أن ينظر إلى الله وإلى الوجود كيف شاء في حدود المنطق والعقل، قول يحتاج إلى تكملة، تكملة الاهتداء بالكتاب والسنة، لأن العقل قوة لا تستطيع تفكيراً صحيحاً إلا من مقدمات صحيحة. والمقدمات الصحيحة في الدين - بعد الدخول فيه بالعقل - لا توجد إلا في كتاب الله وسنة رسوله. فإذا لم يهتد العقل بهما فقد ظل سواء السبيل
والدكتور زكي مبارك في تطبيقه ما يسميه المنطق والعقل كثيراً ما يخالف الكتاب والسنة
كما فهمهما أولو العلم من المسلمين من لدن زمن الرسول إلى يوم الناس هذا. ومن هنا كانت أخطاء الدكتور، ومن هنا كان ما يشكو منه من سوء الظن به. فلو أنه اهتدى بالكتاب والسنة في تفكيره لقلت أخطاؤه كثيراً، ولجاءت حين تجيء من نوع لا يضره ولا يضر الناس. إذن لما قال - مثلاً - (اشغلني عنك يا رباه) بأي شيء لأي سبب؛ ولما جزم بأنه سيدخل الجنة بكتابه (التصوف الإسلامي) فضلاً عن أن يدخل معه (على حسابه) ألوفاً من الأدباء كما يقول، لأن الزيات - في زعمه - قال قولاً كهذا (والزيات رجل صادق الإيمان ورجاؤه عند الله مقبول) فإن هذا النوع من الكلام حابط باطل في الدين، فقد شهدت بالجنة من هي خير من الزيات لمن هو خير من زكي مبارك فأنكر النبي ذلك عليها وقال: من أدراك؟
ويجب أن يذكر الدكتور أن الإسلام ليس مجرد إقرار، ولكنه أيضاً عمل. والكتابة عمل، بل هي من الأديب من أهم الأعمال. فليراقب الدكتور الله في كتابته فلا يأتي فيها بما ينكره الإسلام، فإن فعل فلن يجد في المسلمين إلا من يحسن الظن به، فإن الذي حمل على سوء الظن به إنما هو ما وجد فيما كتب إلى الآن من مخالفة الكتاب والسنة حتى فيما يتعلق بالأساسي من الأمور
(بور سعيد)
محمد أحمد الغمراوي
فتوى الأزهر في أسباب الرق وأحكامه
أرسل بعض علماء جاوة إلى لجنة الفتوى بالأزهر الاستفتاء الآتي:
(رجل باع ولده الحر لمسلم أو لغيره، فهل يصح هذا البيع؟ وهل يصير هذا الولد ملكاً للمشتري؟ وإذا لم يصح البيع فما حكم عقده؟ وهل يجب استرداد الثمن؟ وما هي أسباب الرق بالضبط؟)
وقد أجابت لجنة الفتوى على هذا الاستفتاء بما يأتي:
الاسترقاق ظاهرة اجتماعية نشأت منذ ابتدأ الاجتماع الإنساني.
وترجع هذه الظاهرة إلى تغلب القوي على الضعيف وتسلطه عليه واستخدامه إياه
وقد كان الرق شائعاً قبل الإسلام في جزيرة العرب، فكان الناس يتخطفون الغلمان والفتيات من بين أهلهم ويذهبون بهم إلى الأسواق حيث يوجد النخاسون وسماسرة الرقيق؛ وكذلك كان شائعاً قبل الإسلام في أمتي الفرس والرومان على ما كان في جزيرة العرب وأشد
وكانت معاملة الأرقاء في هذه الأمم تختلف في القسوة واللين تبعاً لاختلاف دياناتها وتقاليدها، إلا أن هذه المعاملة على العموم كانت قاسية جداً يظهر فيها سلطان القوي على الضعيف بأجلى معانيه، بل إن الديانة الهندية القديمة المؤسسة على رعاية الطبقات البشرية كانت تعتبر الأرقاء من الطبقة الدنيا التي تلزمها الخسة لذاتها، ولا يمكن أن ترقى يوماً إلى ذروة الطهارة الإنسانية
فجاء الإسلام وسوى بين الناس جميعاً وأعلن أن لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، ولكنه وجد نظام الاسترقاق قائماً بين الأمم ومعتبراً فيها من النظم الاجتماعية المتغلغلة في صميم الحياة إذ ذاك، فلم ير من الحكمة في التشريع أن يلغي هذا النظام إلغاء تاماً بل عمد إلى تقرير المبادئ الآتية التي تخفف من آثار الرق وتنظم العلاقة بين المالك والمملوك لا على أساس القوة والضعف كما كان في الأمم السابقة، بل على أساس المحبة والأخوة وتبادل المنافع والتعاون في شؤون الحياة. ولا نبالغ إذا قلنا إن مبادئ الإسلام التي شرعها في الاسترقاق تعتبر بمثابة إلغاء الرقيق. وإليك بعضاً من هذه البادئ
أولاً: ضيق الإسلام في أسباب الرق حتى حصرها في سبب واحد هو محاربة المشركين للإسلام وصدهم الناس عن سبيل الله، فأذن للمسلمين الذين يدافعون عن دينهم ويردون عنه عادية المشركين أن يضربوا الرق على من يقع بين أيديهم من أسرى هؤلاء المشركين المحاربين
ثانياً: لم يجعل هذا الاسترقاق ضربة لازب ولا نتيجة حتمية لمحاربة المشركين والظفر بهم، بل جعل ذلك من قبيل نظم السياسة الحربية، فخير الإمام في أن يلجأ إلى الاسترقاق إذا رآه وسيلة من وسائل الإعزاز لدين الله وكسر شوكة المعتدين، وفي أن يمن على الأسرى فيطلق سراحهم بفداء أو من غير فداء
ثالثاً: إذا رأى الإمام أن في الاسترقاق وسيلة حربية لإعزاز الدين ودفع اعتداء المعتدين فلجأ إليه فإن الإسلام لم يترك الحبل على الغارب ولا ترك الرقيق لمشيئة مالكه ورحمته
يحمله من عناء الأعمال ما شاء كما كان في زمن الجاهلية، ولا جعل حظيرة الرق حظيرة أبدية لا يتسنى للرقيق الخروج منها بحال، بل عنى بأمر الرقيق وأوصى المسلمين به خيراً، قال تعالى:(وبالوالدين إحساناً، وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس). وقال صلى الله عليه وسلم: (من كانت له جارية فعلمها فأحسن تعليمها ثم تزوجها كان له أجران)
ثم رّغب في العتق ودعا إلى تحرير الرقاب، وجعل لمن أعتق رقبة ثواباً عند الله يعدل ثواب كثير من الطاعات، بل أوجب الإسلام ببعض المعاصي تحرير رقبة كمن قتل نفساً خطأ أو أفسد صيامه عامداً أو حنث في يمينه التي عقد عليها قلبه
وآيات القرآن العظيم وأقوال الرسول الكريم في الرفق بالرقيق والإحسان إليه في المعاملة كثيرة ومشهورة. من هذا يتبين أن ليس للرق في الإسلام إلا سبب واحد هو ما أسلفنا الإشارة إليه من محاربة المشركين واعتدائهم على المسلمين، وأن الاستيلاء على المشركين بأي وسيلة كانت زمن السلم، ومن غير محاربة، وخطف الأولاد من أهليهم كما كان يعمل في الماضي، كل ذلك لا يترتب عليه أن يكون المستولي عليهم أرقاء ولا يسوغ التصرف فيهم بحال
وإن بيع الرجل ولده يكون بيعاً باطلاً يجب منعه، ويجب رد الثمن للمشتري، ورد الولد إلى أبيه والله أعلم
محمد عبد اللطيف الغمام
رئيس لجنة الفتوى
سعد وسعاد ومعاوية بن أبي سفيان
ذكر صديقي الأستاذ علي الجندي أني مررت على قوله (وإلى تلك الجهة الأموي المدل بمكانه من قريش ومكانه من الخليفة مروان ابن الحكم) مراً خفيفاً. ففهمت أن مروان بدل من الخليفة مع انه ليس بدلاً منه. ولو أنصفني صديقي لذكر أني حين لم استسغ ذلك
مررت به مراً دقيقاً، وأن هذه الدقة كانت سبباً في ظهور أمر لم يكن أحد لينتبه إليه لولا أني لم استسغ ذلك، وذلك الأمر هو أن الذي فعل ذلك مع سعد وسعاد هو ابن أم الحكم لا مروان بن الحكم، كما جاء في بعض الروايات. ولا شك أن منشأ ذلك الخلاف بين الروايتين هو اشتباه الاسمين، والمعقول في هذا أن يشتبه اسم ابن أم الحكم باسم مروان بن الحكم، لأن الثاني أشهر من الأول، فمن القريب جداً أن يكون بعض النساخ أبدله به، لأنه لم يسمع إلا باسم مروان بن الحكم
وقد ذكرت لصديقي الأستاذ الجندي أني لم أستسغ ذلك لمروان بن الحكم لأنه كان رجلاً كبيراً يطمح إلى ما يطمح إليه كبار الرجال، ولا تدنو نفسه إلى مثل تلك الصغائر، ولم يكن كما قال الأستاذ رجلاً مفتوناً مدلاً، بل كان رجلاً عاقلاً ذا دهاء وسياسة، وقد اشتغل بالسياسة العالية وهو شاب صغير في خلافة عثمان رضي الله عنه، فكان فيها مشيره ووزيره، وقارع في ذلك أمثال علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله ومعاوية بن أبي سفيان، وما زال يطمح إلى أبعد الغايات ويعمل ليظفر بملك المسلمين حتى ظفر به وأسس دولة بني مروان الكبيرة فكان لها ما كان من الملك الكبير في الشام وغيره من البلاد الإسلامية، ثم بالأندلس التي نافست الدولة العباسية، فمثل هذا الرجل لا يستسيغ العقل أن يقع في تلك الصغيرة التي جاءت في تلك القصة، وإنما يستسيغ وقوع ذلك من أمثال ابن أم الحكم
وهذا إلى ما ذكرته في كلمتي الأولى هو منشأ اضطراب تلك القصة عندي، لا أنها موضوعة أو غير موضوعة كما نسب إلي الأستاذ الجندي، فإني لم أذكر ذلك أصلاً، ولا يمكن أن يقع فيه رجل يفهم شيئاً في الأدب. ولا زلت أرى أن تلك القصة موضوعة، وأنه لا فرق فيها بعد ذلك بين أن تكون واردة في كتاب تزيين الأسواق أو في غيره من الكتب التي يحتفل الأستاذ الجندي بروايتها، مع أن احتفاله بروايتها يناقض تردده في أنها موضوعة أو غير موضوعة، كما يناقض جزمه بوضع ما جاء فيها من الأشعار على لسان معاوية
وقد سكت الأستاذ الجندي عن دليلي على وضعها من هذا البيت الذي جاء فيها:
قد كنت تشبه صوفياً له كتب
…
من الفرائض أو آيات قرآن
وهو دليل على وضعها لا يمكن نقضه، ولا أدري لماذا سكت الأستاذ الجندي عنه
أما ما ذكره الأستاذ الجندي عن مروان في تلك الفتن التي فرقت كلمة المسلمين، فهو من الأمور التي أختلف العلماء قديماً فيها، ومقام مروان في تلك الفتن كمقام معاوية رضي الله عنه. على أن ذلك خروج عن موضوعنا، لأني نفيت ما ورد في تلك القصة عن مروان بن الحكم لأنه كان رجلاً كبيراً لا يقع في تلك الصغائر، لا لأنه كان رجلاً عادلاً يتنزه عن الظلم
ولا أحب بعد هذا أن أطيل النقاش في كل ما جاء في كلمة صديقي الأستاذ الجندي، لأن القصة لا تستحق طول النقاش، ولأني لا أحب أن أشغله عن المضي فيما ينشره بمجلة الرسالة الغراء. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عبد المتعال الصعيدي
العثور على أبيات من الشعر وقطعة نثرية في آثار الفيوم
أذاعت مصلحة الآثار بياناً عما قامت به بعثة جامعة ميلانو الملكية من أعمال البحث والتنقيب عن الآثار في منطقة مدينة ماضي بالفيوم. ومن أهم ما عثرت عليه عدد من المستندات معظمها أدبي، وقد عثر عليها في أحد أركان حجرة صغيرة، وقد تحولت كلها إلى قطع متناثرة من تأثير الطبيعة.
ومن الأنظمة التي تتبعها البعثة دراسة النصوص وجمع أجزاء الآثار بعضها إلى بعض. وقد أمكن معرفة ثماني فقرات من الإلياذة، وكذا أوائل سبعة عشر سطراً من الشعر لا تمت بصلة إلى هزيود ولا إلى أبو للنيوس برودس
ووجدت أيضاً أجزاء صغيرة من أناشيد، ونص قطعة نثرية يرجح أنها لخطيب أكثر من أن تكون لمؤرخ، وفيما عدا القطعة النثرية المكتوبة بحروف صغيرة فإن الباقي مكتوب بحروف جميلة كبيرة الحجم يرجع تاريخها إلى أوائل عصر المسيح أو قبل ذلك بقليل.
كتاب الجماهر
مما أتحفنا به الأديب الكبير الأستاذ النشاشبي في (نقل الأديب) العدد 318، قول عن (التاج) جاء فيه: (نقل شيخنا عن أبي الريحان في كتاب الجماهير قولهم. . .
لأن الرطوبة فصل مقدم لذات الماء. . . الخ) (رقم 482 حاشية 1) والكتاب إنما هو (الجماهر) لا الجماهير، وأسمه الكامل (الجماهر في معرفة الجواهر) لمؤلفه أبي الريحان البيروني نشره المستشرق العلامة الدكتور سالم الكرنكوي (ف. كرنكو) وطبعته جمعية دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد سنة 1355 هـ، والعبارة المنقولة في التاج هي في ص120 من كتاب الجماهر كما يلي:
(لأن الرطوبة فضل يقوم لذات الماء. . . الخ) وهذا هو الصواب.
(دمشق)
س. أ
على منهج الأغاني
للأستاذ النشار منزلة رفيعة في نفسي ولكتابته الأخيرة عن شعرائنا قدر كبير من اهتمامي وعنايتي وإعجابي وهو صديقي وأستاذي من زمن بعيد، ولكن ذلك لا يمنعني أن أقول كلمة عن أشياء عنت لي في مقالاته
لم أجد اتفاقاً بين الأغاني ومنهجه غير وضع لفظة (الصوت) على بعض الشعر وغير (حدثنا فلان عن فلان) وقد قال الأستاذ في مقاله الأول (ولن نخترع ولن نلفق إلا أن يكون ذلك من مستلزمات الكتابة) ومع هذا فيكاد يكون 80 % من مقالاته تلفيقاً على طريقة (إن لم يكن فقد كان يجب أن يكون)
وقد كان صاحب الأغاني يذكر الصوت فيترجم لصاحبه ويذكر آراء النقاد والعلماء فيه ثم يقص شيئاً من أخباره.
والأستاذ النشار لم يفعل شيئاً من ذلك فهو يكتب شعراً لغير الشاعر ونقداً لغير الناقد ثم يقول: (إنهم لا يقولون ذلك ولكن أحسب هذا هو الذي يجب أن يقولوه) ولعله لجأ إلى هذا ليتسنّى له تصريف القول كما يريد. وكان الأجدى لو عمد إلى أبيات من شعر من يريد أن يترجم له يتميز فيها مذهبه وطريقته ثم يكتب ما قد قيل فيه من رأي ثم يعقب برأيه. وقد يذكر الأستاذ الإسكندراني ما لا داعية إليه مثل أن يقول: (حدثنا الأستاذ خيري سعيد قال: حدثنا العلامتان هيجل وشليجل قراءة عليهما. وحدثنا الناقدان هردر وفيخت ولم يقل بماذا
حدثوه، وأغلب الظن أنهم لم يحدثوه بشيء، أو لعله آثر ألا يروي عن هؤلاء العلماء الألمان حتى يرى ماذا ستصنع ألمانيا في مشكلة دانزج)
فما نرى في مثل هذه العبارة ما يفيد الأدب أو التاريخ!
وقد ترجم أبو الفرج إلى الآن لشاعرين نراه خالف ما أتفق عليه الرأي في أحدهما، فمثلاً إذا جاء في القرن الخامس والعشرين من يريد أن يعرف زعيم المدرسة الحديثة في القرن العشرين لا يستطيع أن يعتمد على رأي الأستاذ، لأن المعروف والحق أن الذي فتح باب الحديث إنما هو (مطران) ومن خلفه (أبو شادي) أما ناجي فلم يكن له - فيما نعلم - تأثير بالغ في هذا الاتجاه. وقد يحجنا الأستاذ بأن هذا رأيه، فكان عليه - وقد خالف المشهور والمعروف - أن يعزز رأيه بالحجة والدليل
وكذلك نراه يقول عن صالح جودت (الموسيقار الكبير) وقد نفهم أنه يريد من ذلك السخرية ولكنا نرى أن في هذا مضلة لمن يأتي بعدنا
ومسألة رابعة أريد عنها جواباً. من المأخوذ بالرأي المتحدِّث أو المتحدَّث على لسانه؟ وبعبارة أوضح من نأخذ بما قال الأستاذ في امرئ القيس، الدكتور هيكل أم صاحب الأغاني؟
يقول الأستاذ على لسان هيكل: (وأني لأعجب من معلم اللغة العربية لا يقول لتلاميذه إن امرأ القيس وإن كان عبقرية فذة في فنه فإنه كان في آرائه وشعره نحو النساء كأي حمار في الطريق وإن غزله لا يختلف شيئاً عن النهيق؟) أهذا يقال؟!
والأستاذ النشار قد أجاد في ابتكار طريقة خاصة يدون بها التاريخ الأدبي لعصرنا الحاضر، فيها خفة وفيها ترويح عن نفوس القراء، ولكن ذلك قد يضطره إلى ما لا حاجة إليه كأن يقول:(واللحن لجوبلز على نغمة المترليوز)
وبعد، فرجائي إلى الأستاذ ألا يحوج الزمن إلى من يهذب (المنهج) كما أحوجه إلى من يهذب (الأغاني)
ودعوتي إلى الله أن ينسأ له في الأجل حتى يتم كتابه وحتى يتمتع قراء العربية بكتابته
علي محمد حسن
كلية اللغة العربية
المسرح والسينما
من التاريخ
النهضة المسرحية في مصر
ونصيب الفرقة القومية منها وواجبها حيالها
كيف قامت النهضة المسرحية على يد فرقة رمسيس؟
لكي نجيب على هذا السؤال يجب أن نعود خطوة أو خطوتين إلى ما قبل بدءِ هذه النهضة، كيما نرسم تلك الفترة الغريبة التي مر بها المسرح وقتذاك لنرى في أي بيئة نشأت فرقة رمسيس، وفي أي ظروف أنشئت؟
نحن في عام 1917، والحرب الكبرى ما تزال في أيامها العصيبة، والناس هنا يسمعون بها، وتصل إليهم أخبار أهوالها ويعانون الأزمات الناشئة عنها. بيد أن أكثرهم كان بعيداًِ عن الاصطلاء بنارها، وعلى كل حال لم يكن بهم من حاجة لقليل أو كثير من المآسي يضيفونها إلى مآسي الحرب وآلامها. كان بهم حاجة في الواقع إلى ما يفرج عن نفوسهم ويخفف عن صدورهم وقر الحياة والأيام العصيبة التي تجتازها الدنيا حينذاك.
ومن ثم، فإنهم كانوا أقرب إلى تناول الأشياء المرحة منهم إلى تقبل ما يفجع أو يخلق الأحزان ويثير كوامن الذكريات الأليمة
وقامت السينما ودور اللهو بنصيبها في هذا السبيل، وقام أبناء المسرح بنصيبهم أيضاً؛ وبدأت الفرق الهزلية تنتعش وتزجى بضاعتها، فيقبل عليها الناس!
كان بربري مصر الوحيد يعمل في: (كازينو دي باري) عند مدام مارسل، بين عشرات من الفتيات الجميلات!
وكان عزيز عيد، وروز اليوسف، ونجيب الريحاني وغيرهم يعملون حيناً في (الأبيه دي روز)، وحيناً آخر في (مسرح برنتانيا القديم)، أو على غير ذلك من مسارح كانت قائمة وقتذاك
كان هؤلاء جميعاً يعملون ليضحكوا الناس وليدخلوا المسرة إلى قلوبهم والنشوة إلى نفوسهم. حتى خرج إليهم نجيب الريحاني بشخصيته الطريفة: (كشكش بك) عمدة كفر
البلاص. فأحدث بها ثورة في دنيا الهزل! وراح يلقي بنصائحه الغالية من على منبر (الأجبسيانة): فيتحدث عن النساء اللائي سلبن لبه وشغلن باله، وجعلنه يبيع الأطيان، ويرهن الضياع ليستمتع بهن في مصر أم الدنيا! ووضع أمين صدقي رواية (حمار وحلاوة) وأخرجها نجيب الريحاني على مسرح (الأجبسيانة) فنالت نجاحاً منقطع النظير، وكانت بدء عهد جديد للمسرح الهزلي في مصر، ولأول مرة في تاريخ المسرح المصري لاقت رواية كل هذا الإقبال من الجمهور، حتى ظلت تعرض حوالي أربعة شهور!
وكانت بمثابة إعلان ضخم عن هذا النوع الاستعراضي من الروايات المرحة الصاخبة بألحانها وموسيقاها، وراح الناس يتغنون أغانيها وينشدونها في الطرقات والبيوت؛ وراح أهل المسرح ينسجون على منوالها! وبينما بربري مصر الوحيد يقول لمن حوله من الفتيات:(اللي في الدست تطلعه المغرفة)! ومصطفى أمين يطربهم بصوته البلدي الممتع. . . يجد أمين صدقي أن من الخير له أن يترك نجيب ليغترف من ذهب مدام مارسل، ويفيء في ظلالها ونجد نجيب في بديع خيري من يقوم بمهمته عنده فيحسن القيام بها
ومضى كل في سبيله. فلا تنقضي بضعة شهور حتى لا يكون في مصر غير: (كشكش بك) و (بربري مصر الوحيد)! وحتى لا يكون فيها غير شارع واحد بلغ صيته الآفاق هو شارع عماد الدين!
ويتضاءل شأن المسرح الأدبي وينزوي أبطاله حيارى لا يدرون ما يفعلون. ولقد وصل الحال بجورج أبيض بطل التراجيدي أن يستعين باسم (كشكش بك) وروايته (حمار وحلاوة) ويتخذ منهما شفيعاً لدى الجمهور ليقبلوا على شهود روايته العظيمة (أوديب الملك)، وعرضت (أوديب) إلى جانب الفصل الأول من (حمار وحلاوة) على مسرح الأجبسيانة، وسمع الناس (تجعيرة) أوديب إلى جانب صوت أبو الكشاكش المبحوح!
إلى هذا الحد من المهانة انحدر التمثيل الجدي، أو قل - في تعبير لطيف - إنه ما عاد يشغل عقول الناس بعد الذي كان من شأن المسرح الهزلي.
في هذه الظروف، وفي تلك البيئة، نبتت شخصية كانت مجهولة؛ وظلت مجهولة إلى حد ما حوالي خمسة أعوام بعد ذاك. هذه الشخصية هي التي تزعمت نهضة المسرح في فرقة ومسرح رمسيس عام 1922.
كان يوسف وهبي بن عبد الله باشا وهبي طالباً من طراز طريف، كان أخوه محمد بك وهبي صاحب مدرسة وادي النيل الثانوية، وكان اسم يوسف وهبي الطالب الفخري مدرجاً بين أسماء الطلبة العاملين! وما كانوا يشهدونه إلا لماماً، إذ يجدونه كل بضعة أسابيع إلى جوار زميله وصديق الصبا مختار عثمان يتحدثان في غير الدرس ويصغيان لغير وحي العلم، كان كل منهما موجوداً بجسمه، غائباً بعقله في ملكوت الفن الجميل.
وفي نهاية العام شهد الطلبة زميلهم يوسف وهبي على مسرح المدرسة في مونولوج ظريف، صور فيه صاحبه جنديً جباناً يدعى (هتشكو)، يصارع الخوف فيصرعه، ويدعى الشجاعة، وهي منه براء!
وطاف يوسف بمونولوجه بعض الحفلات المدرسية وغيرها. فرأى الناس فيه شيئاً فذاً عجيباً إلى جانب (مونولوجست) ذلك الزمان من أمثال: عبد الله شداد، ومحمد عبد القدوس، وحسن فائق، وحسني رحمي، وأحمد عسكر. . . وغيرهم، كان يوسف شيئاً آخر سواهم، كان يعني أشد عناية بشخصية الجندي الجبان ويمثلها أبرع تمثيل، ويغالي فيها بعض الشيء. فيسترعي الانتباه وينال الإعجاب!
ودارت الأيام سراعاً، ووضعت الحرب أوزارها، واشتعلت نيران الثورة في مصر، وتطور فن المونولوج، وكل فن، وكل شيء في مصر. واتجه المسرح اتجاهاً وطنياً شعبياً في الحدود التي سمح له بها، وبينما يشهد الناس مصرع (العشرة الطيبة) على مسرح الكازينو دي باري لتدخله في السياسة من قريب أو بعيد، إذ بهم يشهدون مصرع (حنجل يويو) من بعدها لنفس السبب ولأسباب أخرى تتصل بالأديان!
بيد أنهم شهدوا في الرواية الأخيرة شخصية يوسف وهبي - لأول مرة - في دور (أستاذ) بجبته وقفطانه وعمامته، ورأوا فيه شيئاً جديداً يسترعى انتباههم، لكنه سرعان ما توارى فلم يسمعوا باسمه، ولم يعلموا بخبره إلا في عام 1922 حينما ظهرت الإعلانات المضيئة على باب مسرح رمسيس تعلن عن أسماء أبطال وبطلات فرقة رمسيس بطريقة مبتكرة هي إحدى تفانين يوسف وهبي بطل الإعلان في الشرق وكان الناس ينظرون ويسخرون من هذه الجماعة التي تورط نفسها في هذا العمل العظيم، وتحاول بجرأة أن تحمل أعباء النهضة المسرحية عن أكتاف من ناءوا بحملها من جبابرة المسرح، وفي وقت لم يكن
يرجى فيه للمسرح الأدبي أي نصيب من الحظوة عند الجمهور
الإنتاج السينمائي في مصر وعلة ضعفه
الإنتاج السينمائي في مصر ما يزال ضعيفاً رغم بعض الروايات الناجحة، أو التي يصح اعتبارها ناجحة بالقياس إلى غيرها، وعلة الضعف فيما نرى هو عدم وجود الرواية السينمائية الكاملة. أما أوجه النقص الأخرى فقد أمكن تداركها، فكل الأعمال الفنية الآلية قد تهيأت لبعض الاستديوات في مصر مجلوبة من مصانعها في الخارج، وكذلك بعض الرجال الفنيين الذين تحتاجهم هذه الآلات وهذه الأعمال؛ وإذا كانت التربة المصرية قد أنبتت وأثمرت بعض المخرجين المصريين من الشباب، فإن استخدام بعض الأجانب قد عوض عن النقص الموجود. وقد أثبتت التجارب أن ممثلينا وممثلاتنا يصلحون إلى حد ما للعمل السينمائي كما أن بعض الوجوه الجديدة قد برزت في الميدان وأثبتت وجودها!
أما التأليف السينمائي فقد دلت الأيام على أنه الشيء الوحيد الذي ينقص إنتاجنا السينمائي ويشل حركته أو يؤخرها
سمعت مخرجاً يقول: إن الرواية السينمائية تعتمد في نجاحها على الإخراج، أما الموضوع فهو آخر ما يعتد به، لأن المخرج النابه يستطيع أن يأتي بالمعجزات من لا شيء. وهذا لا يعدو أن يكون كلام مخرجين يطبلون لأنفسهم ويزمرون. أما الواقع فهو أن الرواية القوية هي أول ما يعتد به في صناعة السينما وكل ما عدا ذلك إن هو إلا (رتوش) للصورة وتجميل لها. لذلك ننصح منتجينا أن يفتشوا أولاً عن (الرواية) فإذا وجدوها فإن الباقي سهل وميسور، ومهما بذلوا في سبيل الحصول على الرواية الكاملة فإن النصر الأكيد الذي يأتيهم عن طريقها سيجعلهم بعد ذلك يضاعفون البذل والعطاء شاكرين لنا هذه النصيحة التي نقدمها إليهم بلا ثمن
(فرعون الصغير)
السينما والصيف
تطور الحال، وصار للسينما في الصيف موسم يعمل له حساب بعد أن كان الأمر غير ذلك منذ سنوات قليلة، حين كانت أغلب دور السينما لا تعمل إلا شتاءً. فإذا عملت صيفاً، فإنها
لا تلقى إلا إقبالاً قليلاً. أما اليوم وبعد أن أنشئت دور السينما الصيفية، وزاد الإقبال عليها زيادة هائلة، وأصبحت تدر ربحاً وفيراً، إلى جانب تكاليفها الزهيدة. فقد بدأت الشركات تعمل حسابها للموسم الصيفي، وتعد له العدة كالموسم الشتوي على السواء، وسيكون لهذا أثر ملحوظ في صناعة السينما، وسيكون من شأنه زيادة الإنتاج ووفرة الأرباح وشدة التنافس؛ وبالتالي ازدهار صناعة السينما وتقدم شأنها عند الأمم
بعض روايات الموسم القادم
* انتهى العمل من روايتي (العزيمة) و (حياة الظلام)
* تم إخراج (يوم سعيد) ولم يبق إلا بعض الأعمال الفنية الأخيرة
* يعمل الأستاذ جلال في إخراج (إرمانوسه) للسيدة آسيا والآسنة ماري كويني.
* يخرج إخوان لاما (قيس وليلى) على طريقتهم المعروفة.