الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 322
- بتاريخ: 04 - 09 - 1939
مجمعنا اللغوي
ماذا يصنع. . . وماذا أثمر؟
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
عرفت الدكتور أحمد عيسى بك لا من طبه - لا جعلت حاجتي إليه، على حذقه وأستاذيته فيه - بل من أدبه وعلمه. وقد كانت له مشاركة في سياسة الأحزاب جنت عليه فيما أعلم ولم يستفد منها إلا العناء الباطل، وإلا الاضطهاد بعد أن دالت دولة الحزب الذي دخل فيه. وما كان له قط عمل في السياسة وإن كان قد حسب من رجالها - وحوسب على ذلك - في وقت من الأوقات. وإنما كان همه العلم والبحث في اللغة، ومازال هذا همه ووكده. وقد زارني مرة منذ بضعة شهور أيام كان الكلام يدور في تخليد ذكرى المرحوم الملك فؤاد، وقال لي: إنه يرى غير ما يرى الناس في وسيلة هذا التخليد، فإنهم يرومون إقامة تمثال هنا وهناك، ولكن الملك فؤاداً كان عالماً محباً للعلم والعلماء، فالأولى أن يخصصوا المال الذي يجمع لنشر الكنوز العربية التي لا تجد لها ناشراً كما فعلت أم المستشرق جيب الكبير. وأراني ديوان شعر عربي طبع في أوربا وعلى الصفحة الأولى منه أنه مطبوع من المال المجعول لتخليد ذكرى هذا العالم المستشرق. وهذا الاقتراح من الدكتور عيسى بك يريك نزعته
ومن أغرب ما سمعت منه في ذلك اليوم أنه رد نحو ألفي كلمة من اللغة العامية إلى أصولها العربية، ورتبها وبوبها وعرضها على مجمعنا اللغوي ليطلع عليها ويطبعها وينشرها إذا وافق. ولكن المجمع آثر أن يهمل الأمر ولم ير أن يصنع شيئاً - على عادته -
وقد عنيت بهذا الخبر لأني أنا أيضاً جمعت طائفة من الألفاظ التي يظنها الكثيرون عامية وهي صحيحة وردت في كتب اللغة وكتب الأدب. وكان الباعث لي على العناية بهذا أني أؤثر أن أستعمل اللفظ المأنوس وأستثقل الحوشي والمهجور، فغايتي شخصية وغايته علمية بحت. وأتيحت لي فرصة فأذعت حديثاً عن العامية والفصحى أشرت فيه إلى بحث الدكتور عيسى بك ورجوت أن ينفض المجمع عنه هذا الغبار الكثيف وان يولي بحث الدكتور عيسى بك شيئاً من العناية التي يستحقها، ولكني احسبني ناديت غير سميع فما عبأ
المجمع بالرجل أو كتابه شيئاً
وقد دافعت مرات عن هذا المجمع بمقالات شتى لي في (البلاغ) وفي المجالس وفي لجان شهدت اجتماعها وسمعت فيها حملات شديدة عليه، فلست أتهم باللدد في خصومته حين أتساءل عن هذا المجمع ماذا تراه يصنع. . . إن كل ما أراه يصنعه هو إجازة صيغ لا يحتاج جوازها إلى إذن خاص منه، ووضع ألفاظ لمصطلحات العلوم والفنون سبقه الكتاب والمترجمون والمعلمون إلى خيرها ولا خير في باقيها، ونشر مجلة لا انتفاع لأحد بها، وطبع معجم الدكتور فيشر أو هو يطبعه ولا فضل للمجمع في هذا. وقد سألت مرة أحد أعضاء المجمع عن هذا المعجم هل اطلعتم عليه وراجعتموه واقتنعتم بصحته فكان الجواب السريع:(لا)
قلت ولكن المجمع ينشره فهو يعد مسئولاً عما فيه، وعسى أن يكون فيه خطأ أو اعتساف أو شطط فمن يحمل تبعة هذا غير المجمع الذي ينشره والذي يعتقد الناس - ولهم العذر - أنه أقره. فكان جواب عضو المجمع أن ترحم على الأستاذ السكندري لأنه كان هو الوحيد الذي اجترأ على الاعتراض على نشر هذا المعجم بغير مراجعة أو بحث كاف
ولست أحاول أن أغض من قدر الدكتور فيشر أو أن أنتقص من قيمة معجمه الذي يقال إنه قضى أربعين عاماً في وضعه فما اطلعت عليه - كما لم يطلع المجمع - وإنما قرأت وصفاً له في الصحف ورأيت أمثلة لما يقال إنه فيه وهي أقل وأضأل من أن تجيز لي الحكم عليه أو الذهاب فيه إلى رأي معين. وإنما ذكرت هذا الحديث على سبيل التمثيل لطريقة المجمع في العمل ومبلغ تقديره لتبعته
وقد قيل لي إن خير ما ينتظر من المجمع هو وضع معجم حديث لهذه اللغة وإن هذا عمله الأكبر؛ وقال لي غير واحد من أعضائه ومن غيرهم إنه معني بدرس اللهجات العامية في أقطار العربية مثل عنايته بوضع الألفاظ لما لا لفظ له في العربية وإن هذا وذاك بسبيل مما يجب أن يضطلع به من وضع المعجم العربي. ولكني لا أراه يضع معجماً بل أراه يطبع معجماً تاريخياً للألفاظ وضعه الدكتور فيشر المستشرق. ولا أراه يصنع شيئاً يذكر في وضع الألفاظ للجديد من المعاني والتعابير؛ ولو أراد كاتب أو مترجم أو مؤلف في علم أو فن أو أدب أن ينتظر حتى يعد له المجمع ما عسى أن يحتاج إليه لما جنى سوى طول
الرياضة على الصبر. ولا أراه يدرس اللهجات العامية بل أراه يرفض أن ينشر بحثاُ للدكتور عيسى بك في العامية رد به آلافاً من ألفاظها إلى أصولها؛ فهل كان ينبغي أن يكون الدكتور عيسى بك مستشرقاً أولاً وعضواً في المجمع ثانياً ليجامله الأعضاء بنشر كتابه بلا بحث أو نظر أو تفليه. . .
ورحم الله الفيروزبادي وابن منظور وابن سيدة وأمثالهم، فما كان أحدهم مجمعاً طويلاً عريضاً ذا أعضاء من الغرب والشرق ومال تكفله له الدولة
وعسى أن يتوهم البعض أني أحاول أن أحمل المجمع على نشر هذا البحث للدكتور عيسى بك، ولهذا أقول إن هذا ظن لا محل له فقد نشر الدكتور كتابه وانتهى الأمر ولا حاجة به إلى معونة المجمع. وأقول أيضاً إن الدكتور الفاضل ما كان يبغي أجراً على عمله أو منفعة أخرى يصيبها من وراء ذلك وإنما رأى أن المجمع أليق جهة بنشر كتابه لأن بحثه يعد بعض عمله
سمعت مرة من رجل مسئول - أو كان من المسئولين يومئذ - وقد قال لمسئول آخر إنه يرى إنشاء مجمع أدبي لخدمة الأدب لا اللغة وحدها كما يصنع المجمع القائم، فقيل له إن التريث واجب في إنشاء هذه المجامع فقد أنشأت الدولة مجمعاً للغة العربية وكان الأمل فيه كبيراً فمضت سنوات طويلات وهو لا يصنع شيئاً يستحق الذكر أو يستحق به ما أنفق عليه من مال الدولة وهذه تجربة لا تشجع على المضي في إنشاء المجامع
فأما إنشاء مجمع حكومي للأدب فقد كنت لا أرى رأي صاحب الاقتراح فيه لأني على شعوري بحاجة الأدب إلى التشجيع وحاجة الأدباء إلى التفرغ للإنتاج أكره أن يكون للحكومة دخل في ذلك وأخشى أن يجني دخولها في هذا الأمر على الأدب. فما يرجى للأدب خير إلا في ظل الحرية، والحكومات بطبيعتها نزاعة إلى السيطرة والتحكم وتسخير الأقلام لها
كان هذا هو اعتراضي على ما اقترح من إنشاء مجمع أدبي على مثال المجمع اللغوي. أما المسئولون فكانوا ينظرون إلى الأمر من ناحية التجربة المخفقة وما تشير به من ضرورة التريث اتقاء لبعثرة المال في غير غرض صالح، ولست أروي هذا إلا ليعرف المجمع رأي الحكومة نفسها فيه لعل هذا يستحثه قليلاً إذا كان رأي غير الحكوميين من أمثالي لا
يعنيه
إبراهيم عبد القادر المازني
جناية أحمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
- 13 -
كتب إلي أحد المتخرجين في كلية الآداب يقول: (ألا ترى أن إصرارك على تفنيد آراء الأستاذ أحمد أمين فيه تجريح لكلية الآداب، وأنت أقسمت على الوفاء لكلية الآداب)؟
وأقول إني ما نسيت ذلك القسم العظيم، وسأظل طول دهري وفياً لكلية الآداب
ولكن كيف يصح القول بأن تفنيد آراء الأستاذ أحمد أمين ينافي الوفاء لكلية الآداب؟
إن كلية الآداب لها رسالة أدبية وفلسفية، وهي تروض أبناءها على الفناء في الحق، وتنكر عليهم أن يكونوا أبواقاً تذيع أهواء الجاهلين، فمن الوفاء لتلك الكلية أن نراقب ما ينشر باسمها من المباحث والآراء، وأن نتعقب أساتذتها بالنقد حين يقضي الواجب بلا ظلم ولا إسراف
وقد استبحت قبل اليوم نقد آراء الدكتور طه حسين وكان عميداً لكلية الآداب، فلم يقل أحد إن ذلك النقد كان تجريحاً لتلك الكلية وخروجاً على يمين الوفاء
وهل خرج الدكتور عبد الوهاب عزام على كلية الآداب. حين أنكر آراء الأستاذ أحمد أمين؟
وماذا تريد منا كلية الآداب؟
أتريد أن نطوف بأحجارها طواف الخشوع فنرى كل صدىً يرن في حجراتها وغرفاتها وحياً نزل من السماء؟
إن تقاليد تلك الكلية قامت على أساس الفتوة، وقد شرعت النضال والعراك حول المذاهب والآراء، فليعرف بعض الأساتذة هناك أن الوشائج الصحيحة بيننا بينهم ترجع إلى أصل أصيل من تقاليد تلك الكلية، هو الثورة على الأخطاء والأغلاط والجهالات
ونحن ماضون في سبيل النقد الأدبي بجرأة وصراحة رعاية للحق، ورعاية لتقاليد تلك الكلية الغالية، جعلها الله إلى الأبد مثابة لحرية الرأي والعقل، ونجاها من عادية الأهواء!
وارجع إلى الموضوع فأقول:
رأى القارئ كيف أخطأ أحمد أمين حين وازن بين الوثنية العربية والوثنية اليونانية، لأن
الموازنة لا تصح إلا بين أثرين، وقد وئدت الوثنية العربية وعاشت الوثنية اليونانية، فالموازنة بينهما لا تجوز إلا في ذهن من يستجيز الحكم على المجهول
وأنا مع ذلك أعترف بأن الوثنية العربية بقيت منها أشياء، فقد صح أن بعض العرب عبدوا الأصنام وعبدوا الشمس وعبدوا بعض النجوم
هذا صحيح؛ وقد شهد به القرآن؛ وشهادة القرآن لا يمكن إنكارها على الإطلاق، فهو عند المؤمنين وحي من عند الله، وهو عند الملحدين صورة صحيحة لأحوال العرب في عهد النبوة. وكذلك يستوي المؤمن والملحد في تصديق ما شهد به القرآن
ولكن كيف كانت تلك الوثنية من الوجهة العقلية والروحية؟
هل يعرف أحمد أمين لأية غاية عبد العرب صنماً في صورة أسد؟
لا يكفي أن يكون الصنم نحت من حجر ليقال إن عبادته أرضية وضيعة، كما يعبر أحمد أمين، وإنما يجب ان نعرف لأية غاية روحية أو عقلية عبد بعض العرب صنماً من حجر على صورة أسد، فقد يكون الغرض من تلك العبادة تمجيد الأنفة والقوة والكبرياء، وهو غرض نبيل رأينا له أشباهاً في وثنية الفرس والمصريين واليونان
وقد عبد العرب أسافاً ونائلة، وهما صنمان لامرأة مليحة ورجل جميل
فهل يعرف أحمد أمين لأية غاية عبد العرب هاتين الصورتين؟
لقد تحدث الأخباريون بأنهما صورة لرجل وامرأة فجرا في الكعبة فمسخهما الله جحرين، وهنا يتحذلق أحمد أمين فيقول:(ولست أدري ما حملهم على عبادتهما مع شنيع فعلهما، وهما إن استحقا شيئاً فالرجم لا العبادة)
فالقول بأن أسافاً ونائلة فجرا في الكعبة فمسخهما الله حجرين هو التأويل الذي اهتدى إليه بعض العوام بعد اندحار الوثنية العربية
أما أهل البصر بأسرار الوثنيات القديمة فيعرفون أن أسافاً ونائلة عند العرب قد يشبهان إيروس وأفروديت عند اليونان، فهما تمثالان لعبادة الجمال والحب، وليسا تمثالين لعبادة الفجور والفسق
وعرض الأستاذ لتصور العرب في الزهرة فلم يدرك ما فيه من جمال، فالزهرة في الوثنية العربية كانت امرأة حسناء فصعدت إلى السماء ومسخت كوكباً، فهل رأى الناس تقديساً
للجمال أروع من هذا التقديس؟
ألا يكفي أن تكون تلك الحسناء نقلت من الأرض إلى السماء، ومن عالم الفناء إلى عالم الخلود؟
قلت لكم إن أسرار الوثنية العربية ضاعت ضيعة أبدية بفضل الدين الحنيف، ونحن غير آسفين على ضياع تلك الأسرار ولكنا لا نستسيغ القول بأن عقلية العرب كانت أرضية وضيعة ونحن نجهل كيف كانوا يتصورون شؤون الدنيا وأحوال الوجود
والعرب قد اعتذروا عن عبادة الأصنام فقالوا: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) وهذه العبارة القرآنية الكريمة تشهد بأن وثنية العرب كانت تحريفاً لدين صحيح قام على أساس التوحيد.
فمن الخطل أن يقول قائل بأن عبادة الأصنام كانت عبادة أرضية على حين يشهد القرآن، بأنها كانت موصولة الأواصر بالمعاني السماوية
ويشهد القرآن أيضاً بأن وثنية العرب كانت لها أحكام متصلة بسكان السماء فقد (جعلوا الملائكة الذي هم عباد الرحمن إناثاً) ومعنى ذلك أن أوهامهم تجاوزت الأرض إلى السماء
إن العرب في جاهليتهم قد عرفوا المصريين واليونانيين والفرس والهنود، فكيف جاز أن تخلو وثنيتهم من السمو الذي عرفت به وثنيات أولئك الناس؟
كيف يكون ذلك والوثنيات ينقل بعضها عن بعض، كما تنقل بعض الديانات عن بعض؟
ثم ماذا؟
ثم يحكم الأستاذ أحمد أمين بأن العرب لم تكن لهم طبيعة فنية وأن ما كان عندهم من تماثيل فمجلوب من مصر أو من اليونان، وأن (يغوث) إله مصري اسمه (يغنوت)
ونحب أن نعرف من هم العرب في ذهن أحمد أمين
يظهر أن العرب في ذهنه هم سكان البادية العربية، وسكان البادية لا يحسنون صناعة التماثيل
والقول بأن العرب في جاهليتهم لم يكونوا إلا سكان البوادي قول أذاعه المستشرقون الذي يهمهم أن يثبتوا أن الحضارة العربية أخذت عن مصر وفارس واليونان وليس فيها أثر عربي أصيل.
والتاريخ الصحيح يقول بغير ذلك، فالعرب في الجاهلية كانت لهم حواضر في الحجاز واليمن والشام والعراق، وكان لهم في تلك البلاد آداب وفنون، ولو عاش قصر غمدان وقصر الخورنق لاستطعنا أن نعرف كيف فهموا قواعد النحت والتصوير وكيف برعوا في تسجيل حوادث التاريخ
ولنفرض أن العرب جهلوا النحت والتصوير كل الجهل، فكيف جاز مع هذا الفرض أن ينهاهم الإسلام عن النحت والتصوير؟ وهل ينهى الإسلام عن شيء غير موجود؟
قل كلاماً غير هذا الكلام يا أستاذ أمين ليصدق الناس دعواك!
قد يقال: وأين آثار النحت والتصوير في البلاد العربية؟
ونجيب بأن ذلك كله بدده الإسلام عامداً متعمداً ليذهب آثار الشرك والوثنية!
وهل تعرفون كم أثراً فنياً حطمه المسلمون بمكة يوم الفتح؟
لقد كانت مصر مملوءة بغرائب التماثيل فحطمها المسلمون ليمحوا شواهد الوثنية الفرعونية. والذي قرءوا التاريخ يذكرون ما فعل الشيخ محمد صائم الدهر: فقد طاف بمصر من الشمال إلى الجنوب ليهشم ما ترك المصريون القدماء من الأصنام والأوثان، وهو الذي جدع أنف أبي الهول، ولو استطاع لحوله إلى رماد
وبعد إسلام أهل مصر بقيت فيهم بقايا من احترام تمثيل الأسود فكانوا يقيمونها فوق قناطر النيل، وكان الشيخ محمد صائم الدهر يسطو عليها من وقت إلى وقت فيهشم منها ما يستطيع
فإن مررتم على جسر إسماعيل بقصر النيل ورأيتموه محروساً بأسدين فتذكروا أن تلك الصور الأسدية ليست إلا رجعة إلى ما كان يصنع المسلمون في تزيين قناطر النيل بصور الأسود. وإن زرتم أطلال الكرنك ورأيتم مداخل القصر محروسة بعشرات الأسود فاعرفوا أن هذا من ذاك
توهم احمد أمين أن دين العرب في الجاهلية كان أرضياً وضيعاً، فكان ذلك التوهم سناداً يركن إليه في تحقير التشبيهات الجاهلية، فهي عنده لاصقة بالأرض وشاهد ذلك أن الجاهليين يشبهون الحيوان بحيوان مثله كتشبيه الناقة بالظليم أو بالثور الوحشي أو بالنعامة أو بالأتان
واحسب أن لو قال هذا الكلام تلميذ بالسنة التوجيهية لسقط في الامتحان أبشع سقوط
فتشبيه الناقة بالظليم أو بالثور الوحشي تشبيه مقبول جداً، وليس مادياً لاصقاً بالأرض لأن وجه الشبه هو السرعة لا الشكل، والسرعة صورة معنوية
أحمد أمين يريد في الواقع أن يقول إن الناقة شبهت بحيوان يعيش في الأرض لا في السماء، وآية ذلك أنه عاب على امرئ القيس أن يشبه الفرس بجلمود صخر حطه السيل من علٍ، وقال:
(إن غير العرب شبهوا سرعة الفرس بالبرق)
ذلك كلام احمد أمين، وما تفتري عليه
فهل رأيتم كلاماً أغرب من هذا الكلام؟
أنا أنتظر رأي أساتذة البلاغة بكلية الآداب والأزهر ودار العلوم
هل من الصحيح أن تشبيه سرعة الفرس بالبرق أدق من تشبيه سرعته بجلمود صخر حطه السيل من شواهق الجبال؟
إن تشبيه سرعة الفرس بالصخرة التي حطها السيل من شاهق لا يقف عند السرعة وإنما يتعداها إلى الثقل. فالفرس عند العدو ثقيل جداً بحيث لا يملك مراعاة ما قد يعترض الطريق من شجرة أو جدار، وكذلك لا تملك الصخرة الانحراف من جانب إلى جانب حين تنحط من شاهق
أما تشبيه سرعة الفرس بسرعة البرق فهو تشبيه لا يقبل إلا عند من يرحب بالأخيلة البهلوانية
وأين الفرس من البرق؟
إن ما يقطعه البرق في لمحة واحدة قد يعجز عنه الفرس في الأعوام الطوال
والغرض من التشبيه هو تقريب بعض الصور من بعض، أما الإغراب في التشبيهات والاستعارات فيهو سخف مرذول
وأحمد أمين الذي تعجبه الصور السماوية كصورة البرق هو نفسه أحمد أمين الذي عاب على العرب أن يتصوروا مصير الغميصاء بعد فراق سهيل
(زعموا أن الغميصاء وسهيلاً كانا مجتمعين فانحدر سهيل فصار يمانياً، وتبعته العبور
فعبرت المجرة، وأقامت الغميصاء فبكت لفقد سهيل حتى غمصت)
تلك هي الأسطورة العربية التي استسخفها أحمد أمين، ولو كان يعرف تاريخ الأساطير لأدرك أن هذه الأسطورة فيها ملامح يونانية، فالنجم الذي يهوي من موضع إلى موضع هو إلهة عاشقة تنحدر لموعد غرام مع إله معشوق
وكانت الغميصاء المسكينة على موعد مع معشوقها سهيل، ولكنها عجزت عن عبور المجرة فظلت تبكي حتى أصابها الغمص
ولو كانت هذه الأسطورة يونانية لا عربية لعدها احمد أمين من غرائب الخيال، وعد أصحابها من الزاهدين في الأرض والمفتونين بالسماء!
وأنتِ كذاكِ قد غُيِّرتِ بعدي
…
وكنتِ كأنك الشعري العبورُ
ثم ماذا؟ ثم ماذا؟
ثم رأى أحمد أمين أن دين العرب في الجاهلية قد ظهر أثره في وصفهم للمرأة، فهم (لم ينظروا في المرأة إلا إلى جسمها. لقد أدركوا تمام الإدراك جمالها الحسي، ولكنهم لم يدركوا جمالها الروحي. ولعوا بقدها الممشوق، وعيونها الدعج، ووجهها الوردي، وخصرها النحيل، وردفها الثقيل، وما شئت من أعضائها وأجزائها. فأما روحها السماوي وجمالها الروحي، وتعشق روح الشاعر لروحها والشعور بأنها مصدر وحيه وإلهامه فشيء لم يستطع إدراكه الشاعر الجاهلي)
ثم يصرح بأن الوقوف عند هذه المعاني في النظر إلى المرأة شيء مخجل (؟)
أما أنا فأقول بأن نظرة الشاعر الجاهلي إلى المرأة نظرة سليمة تدل على الفحولة والفتوة، فجمال المرأة، جمالها الصحيح، هو في نواحيها الحسية، وليس من العيب أن يقول الرجل إنه يشتهي المرأة شهوة حسية، وإنما يعيب الرجل ألا يملك من المرأة غير أنس الروح بالروح
إن أحمد أمين يحب أن يكون روحاً لطيفاً شفافاً يؤذيه أن يتحدث الناس عن العيون الدعدج، والقد الممشوق، والخصر النحيل.
هو يحب أن يضاف إلى رجال الأخلاق!
أما أنا فأبغض أشد البغض أن أضاف إلى هذا الطراز من رجال الأخلاق
أنا أفهم جيداً أن المرأة لا تهم الرجل إلا إن كانت أنثى فيها جميع خصائص الأنوثة، الخصائص التي تشعر بأنها متاع جميل، والتي تحمله على أن ينظر إليها نظر السد الهصور إلى الرشأ الربيب
ولا يمكن للمرأة أن تكون مصدر وحي وإلهام للرجل إلا إذا اشتهاها شهوة حسية، ومن قال بغير ذلك فهو رجل ضعيف لا يدرك جوهر الصلات بين الرجال والنساء
إن الأستاذ أحمد أمين يستقبح قول امرئ القيس:
وبيضةِ خدرٍ لا يرام خباؤها
…
تمتعتُ من لهوبها غير مُعْجَلِ
فأين هو من الفحولة التي يهدر بها هذا البيت؟
قد يقول: وكيف يجوز للرجل الفحل أن يبكي وهو يستعطف المرأة؟
وأجيب بأن بكاء الرجل أمام معشوقته ليس علامة ضعف، وإنما هو علامة قوة، فالدمع في عين العاشق كالسم في ناب الثعبان؛ فالثعبان يخدر فريسته بالسم، والعاشق يخدر فريسته بالدمع
وهنا أستأنس بكلمة قرأتها للأستاذ المازني في جريدة السياسة سنة 1932 وهو ينقد قول شوقي
(ما الحب إلا التضحية)
فقد عد هذه الكلمة باباً من الضعف، ومن عمى البصيرة، لأن الحب في حقيقة أمره ضرب من الأثرة والافتراس
قولوا الحق يا بني آدم، فالنفاق خلق بغيض
قولوا الحق، واعترفوا بأن المرأة لا تهم الرجل إلا بوصف أنها مخلوق جميل له عينان دعجاوان، وجبين مشرق، وجيد كجيد الريم، وقوام كالغصن الرطيب
ولعل أحمد أمين يريد امرأة فيلسوفة لها عرقوب كشهر الصوم في الطول، ولها عين كعين الغميصاء تعينه على سهر الليل إلى أن يبزغ (فجر الإسلام)
والعجيب أن تصدر هذه الأحكام عن رجل يكتب في الفلسفة من وقت إلى وقت، وقد غاب عنه أن في فلاسفة هذا العصر رجل اسمه فرويد، وهذا الفيلسوف يرجع أعمال الرجال إلى أصول شهوانية قد تسوق الناس من حيث لا يحتسبون. وما كان فرويد أول من نظر هذه
النظرة فقد رأيت لها أصولاً في مؤلفات الشعراني، ومن قبل ذلك رأيت لها أطيافاً عند فقهاء الشريعة الإسلامية، وهم رجال أمعنوا في درس أسرار الطبائع
فعمن أخذ أحمد أمين هذه الحذلقة في فهم الأدب النسوي؟
أغلب الظن أنه نقلها عن الكاتب المتحذلق توفيق الحكيم الذي زعم أن كل عبقري محروس بروح نسائية تفيض عليه الوحي من وراء الغيب!
وكيف تستطيع المرأة أن تسيطر على الرجل عند اليأس من طيباتها الحسية؟
إن الرجل قد يذكر المرأة بالشوق بعد أن تموت، ولكن ذلك لا يمنع من أن الأخيلة الحسية لها دخل في تسعير ذلك الشوق
أقول هذا وأنا أعرف أن في بني آدم من يوحي إليه الرياء بتكذيب هذه البينات، ولكن ماذا يهمني وأنا حريص كل الحرص على الجهر بكلمة الحق؟
إن الوثنية اليونانية التي يمجدها أحمد أمين قد جعلت للآلهة شهوات ولذات، فكيف يستنكر أن تكون لشعراء الجاهلية شهوات ولذات؟
إن أفروديت وهي من الآلهة في الوثنية اليونانية قد صهرها الغيظ حين سمعت بأن في الأرض إنسانة جميلة تستهوي قلوب الرجال، وكان من آثار ذلك الغيظ أن قامت بدسائس خبيثة للفتك بتلك الإنسانة التي وصلت أخبارها إلى سكان السماء
الحق كل الحق أن الجمال الحسي هو كل شيء في المرأة، وهي تصل إلى الكمال حين يؤيد جمالها الحسي بالجمال الروحي، كأن تكون على جمالها ذات عقل وأدب وعفاف
وهل تعرفون كيف كان العفاف فضيلة؟
كان العفاف فضيلة لأنه تمكين للرجل من السيطرة المطلقة على مواقع هواه، فهو فضيلة لوحظت فيها الأثرة الرجلية
ما هذا الذي أقول؟
أراني أهيئ الفرصة لثرثرة من لا يفهمون دقائق علم الأخلاق، وأنا أحب أن أسلم من ثرثرة أولئك الناس
الذي يهمني هو النص على أن شعراء الجاهلية صوروا الفطرة السليمة حين جعلوا الأنس بالمرأة الجميلة من النعيم المحسوس ولم يجعلوه من النعيم المعقول
ولو رزقني الله شيئاً من الصراحة لقلت: إن الشهوات هي في الأصل من أجل نعم الله على عباده، وما استنكرها رجال الأخلاق إلا بسبب الإسراف. أما الشهوات في حد ذاتها فهي من دلائل العافية: والعافية نعمة جزيلة ينعم بها الله على من يشاء
وفضيلة العفاف، وهي فضيلة نبيلة لا يقام لها وزن إلا حين تصدر عن رجال مزودين بحيوية الشهوات، فطغيان الشهوة ملحوظ عند النظر في فضيلة العفاف. أما عفاف العاجزين عن الفجور فهو لا يستحق أي ثناء، ولا يضاف صاحبه إلى أهل الكمال وإن لبس مسوح الرهبان
ويجب أن يكون مفهوماً أن الشهوة الحسية لها صلة بتفوق الرجال في الميادين العقلية، فالرجل الآمن من طغيان الشهوات محروم من نعمتين: نعمة القدرة على فهم الجمال، ونعمة القدرة على مجاهدة الأهواء
وكذلك يصح القول لأن الرجل العاجز لا يستطيع أبداً أن يتسامى إلى منزلة أصحاب الأخلاق
فهل ترونني وصلت إلى إقناعكم بأن أحمد أمين أخطأ حين عاب على شعراء الجاهلية أن يجعلوا المرأة من المتاع الجميل؟
أنا أعرف أني أوذي نفسي بهذه التحليلات، وأعرف أنها قد تصورني بصورة الرجل الفاتك، ولكن ماذا أصنع وأنا أريد أن أصدق كل الصدق وأنا أحادث القراء؟
وهل كتب على الدراسات الأدبية والفلسفية في مصر أن تقوم على قواعد الرياء؟
اسمعوا مني كلمة الحق في هذه الشؤون قبل أن تسمعوها من باحث يعيش في لندن أو باريس، فمن العار أن نعجز في عصر النور عما قدر على شرحه الأسلاف في عصور الظلمات
أما بعد فهناك مكاره سيصلاها أحمد أمين في المقالات الآتية وسيعرف أن التجني على ماضي الأدب العربي لا يمر بلا حساب
وأنا أرجوه أن يترفق بنفسه فلا يصر على تحقير الأرومة العربية وتمجيد الأرومة اليونانية، فقد أستطيع أن أحدثه بأن العرب الذي غلبت عليهم شهوات الحواس هم الذي استطاعوا بفضل فحولتهم أن يدحروا اليونان وأن يحولوهم إلى أحلاس في حوانيت
الزيتون والسردين
وقد حدثنا أحمد أمين بأن العرب انحطوا في جاهليتهم بسبب تلك الوثنية الأرضية الوضيعة، ثم حدثنا بأن القرآن لم يرفع عقليتهم، مع أنه وحي سماوي رفيع، فهل يتأثر العرب بالوثنية ولا يتأثرون بالإسلام؟ سنعرف وجه الحق في هذه القضية، في الأسبوع المقبل، وإنه لقريب.
(مصر الجديدة)
زكي مبارك
في سبيل الإصلاح
علماؤنا والإصلاح
للأستاذ علي الطنطاوي
لعل في القراء من يذكر السؤال الذي وجهته منذ أسابيع إلى المفكرين من علمائنا وعرضت فيه إلى بعض المشكلات الدينية وسألتهم حكم الله فيها، حكم الله لا يخالف مصلحة الناس، ولا ينافي حاجة العصر. وقد مرت هذه الأسابيع ولم أتلق من أحد جواباً، ولم أحد فيمن لقيت من علمائنا في هذه المدة إلا أحد رجلين: رجل لم يقرأ السؤال، ولم يدر بأن في الدنيا مجلة اسمها الرسالة، ولم يدخل بيته إلى اليوم كتاب واحد أو مجلة أو رسالة صغيرة مما تفيض به المطابع كل يوم، لأن نذلك كله لغو لا يليق بالعالم أن يلقي إليه بالاً أو يقف عنده أو يعرج عليه، وفي كتب الفقه والأصول والحديث الكفاية، وإن كانت العناية بالحديث والتفسير - أعني بالكتاب والسنة - لمجرد التبرك والاطلاع، ولا للاستنباط والاجتهاد، لأن الاجتهاد سد بابه والفقهاء لم يتركوا شيئاً إلا قالوه، وإن هو احتاج بعد ذلك إلى شيء من الأدب فحسبه المستطرف، والكشكول، والمخلاة، ومسامرات الشيخ محي الدين بن عربي مؤلف الفصوص الذي تجد الكلام على دينه وتقواه في الصفحة 159 من كتاب الإسلام الصحيح للنشاشيبي
ورجل آخر، حملت إليه الرسالة، فقرأ السؤال فكان جوابه عليه لعنة حامية على هؤلاء الملحدين الذي يحلون ما حرم الله، ويدعون إلى الربا الذي نهى عنه الله، وكان له مادة لإعلان غيرته على الدين، وتثبيت منزلته بين العامة. . .
على حين إن المشاكل الدينية من نحو مشكلة الربا قائمة، والناس يتعاملون بألوان من الربا منها الربا الفاحش البين، ومنها الربا الخفيف أو ما يشبه الربا، ولا تجد تاجراً (أعني تجار الجملة لا البقالين) يستغني عن مثل معاملات الحسم (السقونطو) أو عن الاتصال بالمصارف على نحو ما. . . فإذا كان هذا كله من الربا المحرم الممنوع شرعاً، وكان هذا كله مما لا يستغني عنه كانت النتيجة (المنطقية) أن الإسلام لا يصلح لهذا الزمان. . . وهذا محال، فلم يبق إلا إبطال إحدى المقدمتين، فإما أن يقال بالاستغناء عن معاملات المصرف، وإما أن يقال بأن هذه الأحكام الفقهية ليست هي كل الشريعة، وأن من الممكن
استنباط أحكام أخرى شرعية تصلح لهذا الزمان. وإذا نحن نظرنا في تاريخ التشريع الإسلامي وتاريخ الفقه نجد أن المجتهدين لبثوا متوافرين في كل عصر، لم يخل منهم زمان، وإن كان منهم من هو (مجتهد في المذهب) على حد تعبيرهم، ولبث ذلك إلى القرن التاسع حيث غلب الأتراك على البلدان العربية وضعفت العناية باللغة العربية، واستغلقت على القوم آيات الكتاب البينات، وخفي عنهم ما وضح للعلماء الأولين من السنة، فأعلنوا سد باب الاجتهاد!! على أن هذا العصر أيضاً لم يعدم جماعة من أهل الترجيح والتخريج، وهم أنصاف مجتهدين (إن صح التعبير). ونشأ عن وقوف الاجتهاد وسير الدنيا (بل سعيها سعياً) أن كان في الفقه اليوم أحكام تخالف ما يراه الناس صالحاً لزمانهم، مع أن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، لا شك في ذلك أبداً فكيف يكون التوفيق بين الأصل الثابت وبين هذه النتيجة؟
يستطيع العلماء أن يفتوا بأن هذه المعاملات (المصرفية) كلها ربا، وأن الربا كله حرام، ولكن التجار يستطيعون أيضاً أن يثابروا على التعامل بها، والإقامة عليها، وتبقى المشكلة بل تزداد إشكالاً.
فالإصلاح إذن لا يكون بالإصرار على هذه الحواشي الفقهية والدفاع عنها، بل بالبحث عن أدلتها، فما كان منها قطعياً ثابتاً بدليل من الكتاب أو السنة الصحيحة، فهو الذي لا سبيل إلى تبديله، وما كان منها مبنياً على عرف أو دليل فيه احتمال، وكان إلى تعديله سبيل من الشرع عدل
وهذه المسألة على وضوحها تحملنا جهداً، وتكلفنا عناء، لأن من العلماء من لا يريد أن يفهمها، ولا يقدر أو لا يحب أن يفرق بين قول الفقيه واجتهاده وبين النص - ومن يحسب الخروج على المذاهب الأربعة خروجاً على الدين، وأكثرهم لا يبالي بعد ذلك هل سارت الحياة شرقاً أم اتجهت غرباً. . .
ولم يبق أحد جاهلاً بأن المدنية الأوربية قد طغت علينا، وأننا انغمسنا فيها واقتبسنا منها فبدلت حياتنا تبديلاً، وغيرت طرائق معيشتنا في دورنا ومدارسنا وأسواقنا، فأصبحنا أقرب في طراز حياتنا إلى أهل باريس اليوم منا إلى أهل دمشق والقاهرة في القرن التاسع الهجري، واصبح من المستحيل علينا العمل بأحكام استنبطها المجتهدون لأهل القاهرة
ودمشق في القرن التاسع. وإذا نحن وقفنا عند هذه الأحكام والحياة تمشي أصبح بيننا وبين الدين مسافة هائلة لا يمكن قطعها، وأهملنا أكبر مزية لديننا وهو أنه دين البشرية الراقية في كل عصورها، وعطلنا أصلاً مهماً من أصول ديننا وهو الإجماع، مع أن الوصول إلى الإجماع في هذا الزمان أسهل منه في كل زمان مضى لسهولة المواصلات وسرعتها، فلماذا لا ننظم مسألة الإجماع؟
الإجماع هو اتفاق المجتهدين في عصر من العصور على حكم من الأحكام، فلا يمكن تنظيمه إلا بتعيين المجتهدين، والاتفاق على الشروط التي يجب اجتماعها في العالم حتى يعد مجتهداً
وأنا أرى أنه لا مانع من الشرع ولا من الطبع يمنع من إحداث تشكيلات للعلماء، ودرجات وسمات لهم معروفة، حتى لا يختلط الأمر، ويستفتي الناس مفتين جهالاً فيضلوا ويضلوا. ولقد خطونا الخطوة الأولى من عهد بعيد حين جعلنا في كل بلد مفتين رسميين لهم مرجع أعلى، هو شيخ الإسلام، ولكن نسينا أن العالم لا يسمى مفتياً إلا إذا كان مجتهداً، وليس كل من عرف الدر وحواشيه والفتاوى الهندية يصح أن يتصدر للإفتاء. إذا وسعنا هذه الدائرة، وجعلنا للعلماء درجات متعددة تخلصنا من هذه الفوضى العجيبة التي نراها اليوم حين اصبح كل صاحب عمة قد كورها وجبة قد وسعها من العلماء، وحين رأينا في جمعيات العلماء أناساً لا يمتازون من العامة إلا بالزي. وليت شعري لماذا يكون لكل فرع من فروع العلم درجات وشهادات، فلا يستطيع أن يدعي الطب أو يمارس المحاماة إلا من حصل شهاداتها ودرس علومها، ويبقى أمر الدين مهملاً يدعيه كل ذي لحية طويلة؟ إن الطبيب إذا أخطأ قتل نفساً، ولكن العالم الديني إذا أخطأ قتل أمة، وأذهب عليها دينها ودنياها. . .
إذا وضع قانون الدرجات العلمية عرف به العلماء الذي بلغوا درجة الاجتهاد - فدعوا من كافة الأقطار الإسلامية - وعرضت عليهم هذه المشكلات وسئلوا حكم الله فيها، فإن اتفقوا على أمر عد مجمعاً عليه وصار من الأصول الثابتة، وإن اختلفوا استؤنس برأي الأكثر منهم، هذا إذا لم يكن في المسألة دليل شرعي، أما إذا وجد فالحكم حيث يوجد الدليل
وربما أنكر منكر هذا الاقتراح ورآه حدثاً في الدين، وتقليداً للنصارى في درجات قسوسهم، وأنا أرد سلفاً بأن هذا التنظيم من قبيل جمع القرآن، وتدوين العلوم، لم يرد ما يمنعه،
والمصلحة تقتضيه، وليس من شك بعد بأن (هذا) الإجماع أقوى وأظهر من كل إجماع إلا إجماع الصحابة. لأن استقراء المجتهدين وجمعهم والوقوف على رأيهم أهون في هذا العصر منه في العصور الأولى
أما المسائل التي تعد أساس الإصلاح الديني وركنه، فقد لخصها أستاذنا المغربي في (البينات) في مقالة له نشرها منذ ثلاثين سنة، وأنا أنقلها عنه بتصرف فيها:
1 -
وضع مناهج المدارس الدينية على شكل يعد الطلاب للاجتهاد ويهيئ لهم أسبابه
2 -
إصلاح أساليب الكتب القديمة وعرضها بشكل جديد، وقد بدأ بذلك الأستاذ محيي الدين عبد الحميد من أساتذة الأزهر فأصلح بعض كتب النحو، ولكن بمقياس ضيق
3 -
أن يكون ادعاء العلم، واتخاذ زيه بإذن من لجنة علمية خاصة، وبعد ثبوت أهلية الطالب وكفايته
4 -
أن يكون الاجتهاد إجماعياً لا فردياً، لئلا يكون للخلاف مجال
5 -
ألا نلزم أقوال إما بعينه، وإنما نأخذ من كل مذهب ما يوافق العصر، وأقول: إن ذلك لا بأس به في العبادات. أما المعاملات فلابد من وضع قانون لها مقتبس من الدين يختار فيه قول واحد ويوقف عنده ليكون العمل به
6 -
أن نبتعد عن البدع والأحداث وأن نقف عند الكتاب والسنة
7 -
تمييز العقائد الثابتة من التقاليد الموروثة، فلا ندخل في باب العقائد إلا ما كلفنا الله به، ولا نكفر مؤمناً إلا إذا أنكر عقيدة ثابتة
8 -
أن يكون تصحيح الحديث اعتماداً على متنه وسنده، لا على صحة سنده فقط، فإن خالف متنه أصول الدين أو المشاهد المحسوس رد مهما كان سنده، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول مثله
9 -
أن يعمد في العقائد والعبادات والشعائر ظاهر النص وان يكون القياس في المعاملات وما يتعلق بالقضاء ويختلف باختلاف الزمان والمكان
10 -
أن نرفع من شأن العمل قليلاً، فلا نزعم أن المسلم ينجو بمجرد أقوال يرددها، بل نقرر أن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، وعمل الأعمال التي حث عليها الإسلام، وتخلق بالأخلاق التي أمر بها
11 -
وأن نرفع من شأن الأسباب قليلاً، ونعتبرها مظاهر لإرادة الله وقدرته، فلا نهملها إلى حد أن نقول أن السم لا دخل له في موت من تناوله فمات به، ولكنه مات لأن ذلك مقدر عليه
12 -
ألا يبحث الفقهاء فيما ليس من شأنهم، وإنما يدعون كل أمر إلى أهله ويرجعون فيه إلى أربابه. فإذا كان البحث عن اختلاف مطالع الهلال مثلاً لم يرجع إلى قول ابن عباس ولكن إلى قول الفلكيين الفنيين، وفي الطب يرجع إلى أطباء العصر لا إلى داود الأنطاكي ومن روى عنه
عندنا اليوم مشكلات كثيرة كمشكلة الربا والطلاق وثبوت الهلال والسفور، وعندنا الاختلاف على التوسل بالصالحين، ورفع القباب، وعبادة القبور، وكرامات الأولياء، وكل ذلك لا يحل إلا بهذا المؤتمر الإسلامي أو هذا (الإجماع) المنظم، لأن كل فرد من العلماء يؤثر السلامة، فلا يجب أن يجابه الناس بما لا يألفون فيخسر منزلته فيهم ولا يجد الجرأة على ذلك
فهل يتلطف بعض من له صلة بشيخ الإسلام الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي فيحمل إليه هذه المقالة؟ وهل يتفضل إذا حملت إليه فينظر فيها ويولي هذه المسألة شيئاً من عنايته؟
علي الطنطاوي
ذكرى
سوداء!. . .
للأستاذ أديب عباسي
أطل صاحبي بعد أن نقر على الباب نقرتين أو ثلاثاً ونادى:
- ماذا تنوي أن تصنع بيومك؟ أتريد أن تبقى حيث أنت أمام هذا الركام من الهذر والغثاء، أم تريد أن ترى الشمس قليلاً؟
فقلت: ولكن متى نستطيع أن ننظر في كل هذا الذي ترى إذا لم ننتفع بيوم عطلتنا هذا؟ أليس الأولى والأحزم أن ننقل الحمل مجزئاً بدل أن ندعه يربو ويتراكم فنعود غير قادرين على زحزحته بل نقله؟
هذه كانت حجتي في إيثار البقاء في المنزل؛ ولكن صاحبي أدرك أنني أقول بلساني خلاف ما تقوله عيناي، وأدرك أنني أود النجاة مما بين يدي على أي حال، ولهذا لم يرد علي أن قال:
- إنني أنتظرك في أدنى الشارع، فهو يوم من أيام الربيع التي لا تفوت. والوادي اليوم متحف من متاحف الطبيعة للزهر والعطر والخضرة والظل، ولا يفوت هذا اليوم إلا كل خامد الحس كافر بالسحر والجمال.
سرنا ساعة وبعض الساعة في خلال الوادي لا أستمع إلى حديث صاحبي ولا يستمع إلى حديثي إلا بعض سمعنا؛ فلقد كادت روعة الوادي في ذلك اليوم من أيام الربيع تعطل كل اتصال بين نفسينا وبين العالم الخارجي، إلا ما كان بينهما وبين هذه المائدة المثقلة بصوف الفتنة وألوان الجمال. ولم نثب إلى أنفسينا، مما سحرنا الوادي وشدهنا عن كل شيء سواه، إلا حينما رأيننا نخلف الوادي الخضيل وراءنا وننتهي إلى العراء. وعندها شعرنا بالتعب والعطش ينحطان علينا فجأة وفي غير إنذار. وقال أحدنا: هيا إلى تلك الدوحة نتفيأ ظلها إلى أن ينكسر سم النهار فنعود
ومكثنا في ظل تلك الدوحة ساعة ألح علينا بها العطش إلحاحاً شديداً، فقلت:
- ألا نقوم فنسير إلى النبع نزيل هذا العطش الذي يكاد ينسينا كل ما نلناه من لذة ومتاع؟
فأجاب صاحبي:
- لا تنس أن بيننا وبين الماء ساعة كاملة من المسير وفي خلال هذه الساعة سيخف وهج النهار ويخف معه ما بنا من أوام، ولكن انظر: ألا ترى هذه السوداء؟ إنها قذرة، ولكن حبذا نهلة من جرتها الصغيرة!
أننزل إلى الطريق نلاقيها ونطلب أن تسقينا أم ندعوها إلينا وننفحها بقليل من القروش؟
فقلت: أعتقد أن من الأريحية ألا نكلفها الصعود إلينا، فلنقم نلاقيها ونكون أقل أنانية وخور عزيمة
وهممنا أن نقوم، وأخذ كل منا يعيث في جيوبه ليقدم للفتاة شيئاً مقابل ما سيشرب من جرتها ويضطرها إلى الرجوع وملئها من جديد. بيد أن الفتاة أبدت حركة اضطرتنا إلى البقاء، فقد أشارت إلينا بيدها أن امكثا، وأقبلت نحونا. فالتفت إلى صاحبي وقلت:
- ما معنى هذا؟ أتكون قد سمعت كلمتك القاسية فجاءت تعاقبك العقاب الذي أنت أهله؟
فقال: لا ادري، وإنما يجب أن نكون على حذر، وعلى كل فأنا لا أرى في وجهها شيئاً من الشر. وهبها أرادت أن تعاقبنا، فليس ثمة أكثر من أن تسكب على رأسي هذا الماء الذي تحمل، وهو كل ما أتمناه
فقلت: قد تسكب الفتاة الماء كما تتمنى، وقد تسكب الماء والجرة معاً. . . ولست ادري عندها أي الجرتين تكسر الأخرى، جرتك الفارغة هذه، أم جرتها الملأى؟
دنت الفتاة حتى غدت على قيد خطوات منا، وابتسمت ابتسامة خفيفة أزالت من نفس صاحبي ما ساوره من قلق، ثم حيت تحية طيبة وأنزلت جرتها عن رأسها وقالت بلطف: تفضلا
وتناول صاحبي الجرة وبدأ يشرب، وقبل أن ينتهي من شربه أمسكت الفتاة بالجرة وأزالتها عن فمه، فدمدم محتجاً وقال:
دعيني اشرب، إنني سأدفع ثمن الماء!
وابتسمت الفتاة مرة ثانية وقالت في شيء من المرارة والأسف:
- كم يخطئ الناس الحكم! إنني لم اضن عليك بالماء، ولكن لعلك لا تعلم أن الإسراف في الشرب في مثل حالتك من العطش الشديد يأتي بأوخم العواقب. . . هيا يا أخي اشرب (وأشارت إلي)، ولكن يحسن أن ترش يديك ووجهك بقليل من الماء قبل الشرب: إنني لم
اكن أعلم أنكما بهذا المقدار من العطش وإلا لما سمحت لصاحبك أن يشرب قبل أن يغسل يديه ووجهه. . .
وبعد أن ارتوينا وغسلنا أيدينا ووجوهنا طلبت إلى الفتاة أن تجلس وتستريح، فاعتذرت بأدب ولطف وقالت: إن أخوي الصغيرين في مثل حالكما من العطش. فأرجو أن تسمحا لي بالرجوع لأملأ الجرة وأعود إليهما
فقلت بأسف: يؤلمنا أن نكون قد شربنا الماء الذي كان يجب أن يبرد عطش أخويك فلا تضطرين إلى الرجوع ومضاعفة الأمد الذي سيرتوي عنده أخواك
فأجابت الفتاة: لا بأس، إن أبناء الصحراء أكثر احتمالاً للعطش من أبناء المدينة ولو كانوا صغاراً كأخوي
وهنا سأل صاحبي وهو يداري أن تقع عين الفتاة في عينه: ولكن كيف عرفت أننا على هذا الحال من العطش فحدت عن الطريق وأتيت تسقيننا؟
فأجابت الفتاة ببساطة: سمعتك تتمنى لو تتاح لك شربة من جرتي فجئت!
فقال صاحبي بجزع ظاهر: أو سمعت ما قلته إذاً؟ فأجابت: نعم، سمعته. فقال: أسمعته كله؟ فردت: نعم، كله. فقال: وكيف جئت إذاً؟! فحدجته الفتاة بنظرة قاسية ولم تجب. وعندها أدخل صاحبي يده في جيبه وأخرجها ثم مدها إلى الفتاة. وعندها نظرت الفتاة إلي وفي عينيها دموع وقالت: ألا سامحكما الله. ثم حيت وانصرفت
كان إحساساً أليماً حقاً، شعرنا عنده أننا صغرنا وصغرنا إلى حد الضؤولة. وقلت لصاحبي: لقد كنت قاسياً أشد القسوة
فأجاب: أتقول إنني كنت قاسياً؟ لم لا تقول إنني لم أكن إنساناً؟ لعلك تستحيي أن تقولها!
وعدنا إلى الصمت، وفي صدر كل منا نشيج من العواطف الفائرة والأحاسيس المتهدجة الثائرة. ولم نر بداً من ترك المكان في الحال، فقد غدا في نظري بقعة قبيحة أشد ما يكون القبح. مؤلمة اشد ما يكون الألم. وظللت - فيما بعد - كلما سرت في ذلك الطريق أشيح عنه بوجهي كما يشيح كل إنسان عن الموطن الذي حدثت له فيه حوادث مؤلمة مخزية
عدنا أدراجنا، وأحببت أن أصرف صاحبي عن التفكير المؤلم فيما جرى له فسألته: متى تبدأ الامتحانات الفصلية؟
فأجاب في شبه ذهول: إنما نحن العبيد وهم الأحرار!
فقلت مستغرباً: من تعني؟
فأجاب: هؤلاء السود الذي نسميهم زنوجاً وعبيداً
فأدركت أن صاحبي لن يتحول عن التفكير في الفتاة وما أساء إليها إلا متى شعر أنه نال من إيلام نفسه مثل ما نال من إيلام الفتاة. وعاد يقول:
تباً لهذه المعتقدات التقليدية التي نتلقاها من بطون الكتب وأفواه الناس في الحكم على الأجناس. لقد تآمرت الكتب والخطب والصحف والأحاديث وكل وسيلة من وسائل الإيحاء على أن هذا الجنس الأسود جنس منحط وان خلاص البشرية، إن قدر لها الخلاص، لن يجيء إلا عن طريق الرجل الأبيض وما في رأسه من علم وصدره من أريحية وأعماله من نبل وتضحية! لقد أوحى إلينا بذلك إيحاءً مستمراً حتى حسبناه من القضايا التي لا تناقش ولا يطولها باطل، وحتى غدا سواد البشرة عندنا مقروناً بظلام الباطن وحلوكة النفس وفساد السريرة
فقلت وقد أعداني صاحبي بحماسته:
- إن أجساماً تمتص النور، كما تمتصه أجسام هؤلاء السود لا يمكن أن تضم نفوساً مظلمة. إنه حيث ينفذ النور تذهب الظلمة. لقد أخطئوا خطأً فاحشاً فيما سموا أفريقيا القارة السوداء، لقد كان الأولى والأصوب أن يدعوها القارة البيضاء قارة الشمس والنور. فهل يعودون يوماً إلى الحق ويعطونها اسمها الحقيقي؟ إن في الآفاق البعيدة والقريبة مخا يكاد يشير إلى ذلك
فقال صاحبي بغبطة: صدقت، لا ظلام حيث ينفذ النور ولتكن كنية صاحبتنا وجنسها عندنا من الآن (أصحاب النور)
وأدركت أن قد سري عن صاحبي وزال أكثر ما كان يحز في صدره من ألم، فودعته وانصرف هو إلى منزله وعدت أنا إلى منزلي وقد نقشت الحادثة في صدري نقشاً لم تزله سبع سنوات كاملات مرت عليها
أديب عباسي
كتاب البخلاء
الطبعة الدمشقية بعد الطبعة المصرية
للأستاذ عبد القادر المغربي
جاءني كتاب من بعض الفضلاء يقول فيه: إنه بعد أن قرأ في (الرسالة) ما كتبه الأستاذ (محمود مصطفى) في نقد الطبعة المصرية لكتاب البخلاء اطلع على طبعته الدمشقية التي صدرت حديثاً. فإذا هي تعلن عن نفسها بأن أعضاء المجمع العلمي الدمشقي حققوها ونشروها بالاشتراك مع مؤسسي (مكتب النشر العربي) بدمشق ولم يصرح المؤسسون بأسمائهم على الكتاب وإنما هم صرحوا بأسماء أعضاء المجمع واحداً واحداً ثم قال: (وقد رأيت في تصحيحات هذه الطبعة الدمشقية ما لا تصح نسبته إلى المجمع، لذلك حاولت نقده ثم رأيت أن أتثبت في الأمر من قبلكم أولاً).
فحفزني قول هذا الفاضل إلى نشر كلمتي هذه في (الرسالة) فتكون جواباً له ولكل من حاك في نفسه مثل الذي حاك في نفسه هو:
أنشأ السيد ظافر ابن العلامة الشيخ جمال القاسمي رحمه الله ورفاق له منذ بضع سنين بدمشق مكتباً لطبع الكتب ونشرها دعوه (مكتب النشر العربي). وقد احبوا أن يطبعوا (كتاب البخلاء) للجاحظ فرغبوا إلي أن أعدهم بالمشاركة في تصحيحه مع من وعدهم بذلك من أعضاء المجمع العلمي. فاعتذرت عن المشاركة في مباشرة التصحيح. وإنما أنا أقدم إليهم نسختي المطبوعة التي كنت طالعتها منذ سنين، وعلقت تصحيحاً على بعض أغلاطها. وقلت لهم استعينوا على طبع نسختكم بما في نسختي من هذه التصحيحات، فقبلوا شاكرين
ثم انقضت سنتان لم أجتمع بهم خلالها لأنظر في كيفية تصدير النسخة المراد طبعها وفي طريقة ذكر اسمي في ذلك التصدير
وإذا هم أخيراً يهدون إلي نسختهم الجديدة. وإذا على غلافها الظاهر (أن مكتب النشر حققها ونشرها بمشاركة لجنة من أعضاء المجمع) وعكسوا في الغلاف الباطن فكتبوا عليه (عبد القادر المغربي وفلان وفلان من أعضاء المجمع حققوا ونشروا هذه النسخة بالاشتراك مع مكتب النشر). ثم قالوا في مقدمة الكتاب ما نصه: (لم نجد بداً من أن نفزع إلى علماء
العربية بدمشق نسألهم المعونة ونشركهم بالمسؤولية فلبى دعوتنا نفر منهم)
هذا ما قاله مكتب النشر العربي في هذا الشأن. أما أنا فلا أعلم أن في دمشق لجنة ألفها مجمعنا العلمي أو مرجع آخر من اختصاصه تأليف اللجان لأجل تصحيح كتاب البخلاء. ولا أعلم أنني عضو في لجنة ألفت لهذا الغرض. ولا علم أنني جلست مع مصححي الكتاب أو واحد منهم جلسة واحدة تبادلنا الرأي في تصحيح غلطة واحدة منه. ولا أعلم من نفسي أنها ترضى أن تكون مسؤولة أمام (تاريخ الأدب العربي) عنا يقع في هذه الطبعة الدمشقية من الأغلاط بمجرد مساعدتي لمكتب النشر في تقديمي له نسخة مطبوعة كنت منذ سنين صححت بعض أغلاطها تصحيح مطالع لا تصحيح ناشر طابع. بل لا أعد نفسي مسؤولاً عن تصحيحات نسختي نفسها مادامت لم تعرض لي للتثبت منها ولم أطلع على شيء من (بروفاتها) قبل طبعها. ومن الغريب أنه وقع نظري على عبارة في نسختي المذكورة قلت في التعليق عليه: (إن وصلية) وإذا مكانها في النسخة المطبوعة (إن شرطية)!
وكل ما أعلمه أنني أعطيت نسختي إلى شبان (مكتب النشر) لتصحيح نسختهم عليها بشرط أن تكون تصحيحاتي صواباً تفي نظر إخواني الآخرين الذين سيتولون بأنفسهم أمر التصحيح والتحقيق. . .
كما أن كل ما كنت أتوقعه من حضرات الناشرين الحقيقيين أن تسمح نفوسهم بالإشارة إلى هذا في مقدمة طبعتهم الجديدة. ولم يدر في خلدي قط أن تسمح نفوسهم بجعلي شريكاً لهم في مقاساة عناء تصحيح الكتاب، وفي تحمل متاعب نشره. وزادوا في السماح فجعلوني مسؤولاً عن الأغلاط التي تقع فيه!
وقد كنت أرجو أن ينصفوني بذكر نوع مساعدتي لهم، وتحديد مقدارها. كما أنصفوا زميلي الأستاذ (النعساني) مذ صرحوا في آخر الكتاب بأنه انقطع عن الاشتراك في التحقيق من بعد الصفحة الرابعة والستين. فيكون المعنى أنني أنا ورفاقي بقينا عاكفين على التحقيق إلى النهاية
لو أنصفوني كما قلت لكفوني مؤونة كتابة هذا التعليق الذي اضطررت إلى نشره في (الرسالة) خدمة للأدب العربي وتاريخه ومؤلفاته، وتفادياً من أن يقوم (محمود مصطفى
ثان) فيناقش الطبعة الدمشقية الحساب. ويحملني تبعة أغلاطها من الباب إلى المحراب
(دمشق)
المغربي
عودة إلى الشيخ الخالدي
مجلس آخر من مجالسه
للدكتور عبد الوهاب عزام
حدثت قراء (الرسالة) قبلاً عن الشيخ الجليل العلامة خليل الخالدي، وذكرت طرفاً من علمه بالكتب العربية ومؤلفيها ومواضعها من دور الكتب في البلاد الإسلامية كلها وفي أسبانيا
وقد سعدت بلقاء الشيخ مراراً من بعد في مصر والشام ووجدت معرفته بآثار دمشق مساجدها ومدارسها ومزاراتها ليست دون علمه بالكتب والمؤلفين
وقد شرف الشيخ حلوان منذ حين فساق الحديث إلى الكتب فأفاد وأمتع. فجنيت من حديثه هذه الثمرات:
قال إني في حيرة من أمر هذا الشريف الإدريسي مؤلف نزهة المشتاق. أعجب من رجل شريف يدخل في خدمة ملك صقلية والحروب الصليبية مستعرة، ويكتب للإفرنج عن البلاد الإسلامية فيصف لهم ثروتها وطرقها ومياهها، ويقول عن كنيسة المسيح: القبة الشريفة، وعن صخرة بيت المقدس: الصخرة التي يعتقد فيها المسلمون
ولولا أني قرأت هذا الكلام في نسخة صحيحة نقلت عن نسخة بخط المؤلف وكانت في خزائن الموحدين - وهي اليوم في كتب السلطان محمود في استنبول - ما آخذت الرجل بهذا الكلام خشية أن يكون بريئاً منه
والإدريسي في كتابه عالة على الإصطخري وابن خرداذبة، والهمذاني، وابن حوقل، وابن واضح
وسرنا في شعاب الحديث حتى ذكرنا ابن الأثير صاحب المثل السائل فقال: أديب كبير ولكنه ليس ثقة - والشيخ ينقد المؤلفين على طريقة المحدثين - قال: وقد طعن فيه الوزير القفطي وهو وزير عالم ثبت، ومن المؤلفين غير الثقاة الفتح ابن خاقان صاحب قلائد العقبان. طعن في ابن باجة بغير حق، وابن باجة من أجل علماء الأندلس وفلاسفته، وكان الفتح رجلاً يعيش في الخانات، وقد جلده القاضي عياض في الخمر، وقد مدح هو عياضاً قليلاً خوفاً منه
وعياض عالم كبير له كتاب المشارق الذي أثنى عليه ابن الصلاح في أبيات منها:
مشارق أنوار تجلَت بسبتة
…
وذا عجب كون المشارق في الغرب
قلت: كان ابن الأثير معجباً بنفسه ولكن أدبه يشفع لهذا الإعجاب عندي
قال: ومن العلماء المعجبين بأنفسهم الأتقاني الفقيه مؤلف غاية البيان شرح الهداية، وله شروح على أصول الأخصيكشي. ومنهم الصفناقي، وله شرح على أصول فخر الإسلام البزدوي وعلى الجامع الكبير. ومنهم عصام الدين وكتبه معروفة ولاسيما في بلاد الترك، ولعل سبب هذا أن حفيده قدم إلى استنبول وأقام بها. وقد أهدى عصام الدين إلى السلطان سليمان القانوني حاشيته على تفسير البيضاوي المسماة (أنوار التنزيل)
وقد رأيت في مكتبة بني قرمان في قونية خط الأتقاني على كتاب الأصول للدبوسي، وهو نسخة قديمة كتبت سنة 475، ومن هذا الكتاب نسخة بخط الأتقاني في استنبول. ورأيت في هذه المكتبة من نفائس الكتب كتاب غريب الحديث لابن قتيبة الدينوري، ما رأيته قط إلا فيها. والجزء الرابع من البخاري عليه خط الحافظ أبي الوقت الشجزي، واليه وإلى أبي زيد المروزي تنتهي روايات البخاري
ورأيت في مكتبة جلال الدين الرومي في قونية كتاب التمهيد لعبد الشكور السالمي في العقائد، وهو إمام كالماتريدي ونجم الدين النسفي. ورأيت في مكتبة صدر الدين القونوي كتاب الفتوحات المكية بخط المؤلف في سبعة وثلاثين جزءاً، وفوائد ابن حيان في الحديث بخط ابن العربي، ونصوص الحكم بخط صدر الدين. ورأيت هناك كتاب روح القدس لابن العربي عليه سماعات بخطه وكتباً أخرى عليها خطه، منها الأحكام الكبرى والصغرى لعبد الحق الأشبيلي وهما في فقه الحديث، وقد أهداه محي الدين للصدر القونوي. رأيت فيها تفسير ابن برجان الأندلسي.
ورأيت من مؤلفات الصدر الأجوبة النصيرية كتبها إجابة لخمسين سؤالاً سأله عنها نصير الدين الطوسي، وهي تشهد بتمكن الصدر من العلوم والفلسفة
ورأيت في مكتبة السلطان سليم في قونية كتاب ابن ولاد بخط أحد علماء صقلية كتب سنة 308. اهـ
وعرضت على الشيخ العلامة نسخة عندي من كتاب المثنوي عليها أبيات كتب تحتها أنها
بخط عبد الرحمن الجامي. فقال: لا شك أن هذا خط الجامي، أنا أعرف خطه، رأيته على كتب كثيرة وخطه جيد. ومن العلماء حسني الخط الخيالي صاحب حاشية العقائد، وملا خسرو صاحب الدرر. وقد رأيت له كتاب المرآة في الأصول بخطه، وعضد الدين، والنووي، وقد رأيت قطعة من شرح البخاري بخطه. وأنا أقلد خط النووي
ومن أحسن الناس خطاً الحافظ الصدفي المرسي مسند الأندلس على الإطلاق، وابن عاصم صاحب العاصمية التي كان يحكم بها عامة قضاة الأندلس والمغرب.
ثم انساق الحديث إلى الملك المعظم الأموي فقال إنه كان أعلم بني أيوب له شرح على الجامع الكبير كان أعلم من صلاح الدين مع مكانة صلاح الدين في العلم، وإنه كان يعد في درجة النووي أو فوقه. يقال إنه كان يحفظ التنبيه لأبي إسحاق الشيرازي في فقه الشافعي. وأبو إسحاق شيخ مذهب الشافعية في العراق وإمام الحرمين شيخه في خراسان
وكان المعظم يجل ابن قدامة ويقوم له إن أدخل عليه وما كان يقوم ليسف الدين الأموي صاحب الأحكام لاشتغاله بالفلسفة، وكان من درجة فخر الدين الرازي - ثم قال:
وكان الفخر ذا مكانة عظيمة عند خوارز شاه وبسببه رحل بهاء الدين والد جلال الدين الرومي عن خراسان
قلت: أرأيت لابن تيمية طعناً في جلال الدين؟ قال: نعم طعن فيه وفي الفخر وقال لو أدركت الفخر لضربته بهذا القضيب فلت: قال ابن بطوطة إنه حضر ابن تيمية في دمشق وهو على المنبر يتكلم في نزول الله تعالى إلى السماء وقال: نزل كنزولي هذا (ونزل درجة من المنبر).
قال: إن ابن بطوطة لم يدرك ابن تيمية. والتحريف في الكتب كثير ولا يعول المتثبت إلا على النسخ الصحيحة. إن أكمل الدين البابردي وعليا القارئ شرحا الفقه الأكبر لأبي حنيفة. واعتمدا على نسخة محرفة جاء فيها: (وأبواه صلى الله عليه وسلم ماتا على الكفر). والعبارة الصحيحة: (ماتا على الفطرة). والبابردي هذا شيخ السيد الشريف الجرجاني وتلميذ شمس الأئمة الأصفهاني الذي يقول بجواز الدور والتسلسل في الأمور العقلية
وكثيراً ما يقع العلماء في الأوهام. ألا ترى صاحب الكشاف كيف يروي خرافات إرم ذات العماد؟. . .
ثم قال: إن الزمخشري أكثر الأخذ من كتاب الحجة لأبي علي الفارسي وكتاب الزجاج في القراءات ومن تهذيب الأزهري وقد عكف عليه ثماني سنين في مدينة مرو، ومنه أخذ كتابه الفائق ولم يصرح بهذا
ثم تكلم الشيخ على المتقدمين والمتأخرين من الفقهاء، وذكر الطحاوي من فقهاء الحنفية وأثنى عليه كثيراً وقال: إن قبر الطحاوي في القرافة وعليه قبة. وذكر قاضيخان وقال: رأيت إجازة بخطه دلت على ضعفه في العربية. ثم ذكر من المتأخرين ابن نجيم صاحب البحر وتلميذه الحصكفي والشرنبلالي تلميذ الحصكفي وقال: إن سبب شهرتهم أن قضاة العسكر كانوا يستفتونهم كثيراً، وكان خاتمة هؤلاء المفتين الرملي صاحب الفتاوى
ثم تكلم عن كتب المتقدمين فذكر شرح القدوري؛ قال: رأيت نسخة منه عليها خط الحصكفي. وتكلم عن كتاب المبسوط لمحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة وقال: هو ثلاث روايات: رواية أبي بكر خواهر زاده ويسمى المبسوط البكري، ورواية الجوزجاني ورواية الحلواني. قال: وأما مبسوط السرخسي فهو شرح كافي الحاكم الشهيد الجامع لكتب محمد بن الحسن. قلت: يقال إن السرخسي أملى المبسوط وهو في السجن. قال: الذي أعرفه أن السرخسي ألف كتاب الأصول في قلعة أوزجند، وقد رأيت نسخة منه بخط العلامة الكردلي شيخ البزاز أولها: قال السرخسي في زاوية من حصار أوزجند. أهـ
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام
خليل مردم بك وكتابه في الشاعر الفرزدق
لأستاذ جليل
يقول الأستاذ: (وقد يداخل (الفرزدق) في كلامه ويعاظل في تراكيبه، ويقدم ويؤخر ويتجوز في استعمال الوحشي والغريب والإقواء، وما هو أشبه باللحن؛ وذلك لثقته بنفسه واعتماده على سليقته ولقساوة في طبعه. قال كردين:(سقط الفرزدق شيء يمتحن الرجال فيه عقولهم حتى يستخرجوه). سمعه ابن أبي إسحاق الحضرمي مرة ينشد:
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع
…
من المال إلا مسحتا أو مجلف
فقال له ابن أبي إسحاق: (على أي شيء ترفع أو مجلف؟ قال: على ما يسوءك وينوءك. . .)
والبيت (المجلف) من شواهد الكشاف في مكانين: (فشربوا منه إلا قليلاً منهم. وقرأ أبي والأعمش إلا قليل بالرفع، وهذا من ميلهم مع المعنى والإعراض عن اللفظ جانباً، وهو باب جليل من علم العربية؛ فلما كان معنى فشربوا منه في معنى فلم يطيعوه حمل عليه كأنه قيل فلم يطيعون إلا قليل منهم، ونحوه قول الفرزدق (لم يدع من المال إلا مسحت أو مجلف) كأنه قال: (لم يبق من المال إلا مسحت أو مجلف) وقال في سورة طه: (قرء (فيسحتكم) والسحت لغة أهل الحجاز، والإسحات لغة أهل نجد وبني تميم، ومنه قول الفرزدق (إلا مسحتاً أو مجلف) في بيت لا تزال الركب تصطك في تسوية إعرابه. . .)
وفي (الخصائص): (قولهم ودع الشيء يدع إذا سكن فاتدع متبوع متبع، وعليه أنشد بيت الفرزدق:
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع
…
من المال إلا مسحت أو مجلف
فمعنى لم يدع بكسر الدال لم يثبت، والعائد منها إليه محذوف للعلم بموضعه وتقديره لم يدع فيه، وهذا أمر ظاهر)
وأورد الأستاذ أمثلة مما أشار إليه كردين، وشغلت به الأئمة في القديم، وقد اجتزأنا نحن من تلك الدواهي بواحدة. . .
الفرزدق هو - كما قال الأستاذ - في (صحة اللغة وفصاحة الأسلوب) وقد رويت القول من قبل. وأشعار أبي فراس مبثوثة في كتب الأدب والتاريخ، وأبياته في المصنفات اللغوية
هي من أوائل الشواهد. فلو رجع إليها الفاضل عبد الله الصاوي الذي (عني بجمع ديوان الفرزدق وطبعه والتعليق عليه) في شرح (الأوابد) في بيت الفرزدق:
لن تدركوا كرمي بلؤم أبيكم
…
وأوابدي بتنحل الأشعار
ما كان قال: (شبه القصائد بأوابد الوحش). وأوابد الوحش نفرها، ومثل هذا الشرح يذل البيت ويزيغ القارئ - فلو رجع إلى اللسان والأساس لوجد الأول يقول:(يقال للشوارد من القوافي أوابد. قال الفرزدق: لن تدركوا. . . وقافية شرود غائرة سائرة في البلاد) ووجد الثاني يقول: (أوابد الشعر التي لا تشاكل جودة قال الفرزدق: لن تدركوا. . .) وفي الصحاح: (يقال للشوارد من القوافي أوابد قال الفرزدق: لن تدركوا. . .) وفي التاج: (الأوابد القوافي الشرد مجاز. قال الفرزدق: لن تدركوا. . .)
ولو رجع العلامة اللغوي المشهور الشيخ إبراهيم اليازجي إلى كتب الأدب واللغة ما كان قال في مجلته (الضياء) السنة (3) الصفحة 485 - : (قال الفرزدق:
والشيب ينهض في الشباب كأنه
…
ليل يصيح بجانبيه نهارا
أراد بقوله يصيح صيغة المتعدي من قولهم انصاح القمر، فنقل المعنى إلى النهار كما قال البديع: فلما انصاح النهار بجانب ليلى، ثم استعمل منه متعدياً بتجريده من الزيادة، وهو غير منقول في هذا المعنى)
فلو رجع الشيخ إلى (إعجاز القرآن) للباقلاني و (ديوان المعاني) للعسكري و (حماسة البحتري) و (الأغاني) و (نثار الأزهار) لابن منظور صاحب اللسان، و (الكامل) للمبرد و (أساس البلاغة) و (لسان العرب) و (تاج العروس) لوجد في هذه الكتب كلها رواية البيت الصحيحة:
والشيب ينهض في السواد كأنه
…
ليل يصيح بجانبيه نهار
ووجد في اللسان والتاج هذه الفائدة: (. . . عن أبي عبيده أن جعفر بن سليمان قدم عند المهدي فبعث إلى يونس بن حبيب فقال: إني وأمير المؤمنين اختلفنا في بيت الفرزدق وهو (والشيب) ما الليل والنهار؟ فقال الليل هو الليل المعروف وكذلك النهار فقال جعفر: زعم المهدي أن الليل فرخ الكروان والنهار فرخ الحباري. قال أبو عبيده القول ما قال يونس؛ وأما الذي ذكره المهدي فهو معروف في الغريب ولكن ليس هذا موضعه. قال ابن بري: قد
ذكر أهل المعاني أن المعنى على ما قال يونس وإن كان لم يفسره تفسيراً شافياً، وإنه لما قال:(ليل يصيح بجانبيه نهار) فاستعار للنهار الصياح لأن النهار كان آخذاً في الإقبال والإقدام، والليل آخذ في الإدبار صار النهار كأنه هازم والليل مهزوم، ومن عادة الهازم أن يصيح على المهزوم. ألا ترى إلى قول الشماخ:
وألقتْ بأرجاء البسيطة ساطعاً
…
من الصبح لما صاح بالليل نفّرا
فقال: (صاح بالليل حتى نفر وانهزم)
وبيت الفرزدق في قصيدة مشهورة ناقض بها قصيد لجرير مطلعها:
لولا الحياء لهاجني استعبار
…
ولزرت قبرك والحبيب يزار
وفي قصيدة الفرزدق هذه الأبيات:
إن الملامة مثل ما بكرت به
…
من تحت ليلتها عليك نوار
وتقول: كيف يميل مثلك للصبا
…
وعليك من سمة الحليم عذار؟!
والشيب ينهض في السواد كأنه
…
ليل يصيح بجانبيه نهار
إن الشباب لرابح من باعه
…
والشيب ليس لبائعيه تجار
فالفعل (يصيح) وماضيه (صاح) أي صات، و (نهار) مرفوع فاعل يصيح. وللشيخ اليازجي عجائب في نقد متقدمين وسنعود إلى تبيينها في وقت
في شعر الفرزدق ألفاظ كثيرة فاتت المعجمات التي نعرفها مثل اللسان والتاج وغيرهما. من ذلك (التظاليل والوهون) وقد وردت الأولى في قوله:
وظلماء من جرّا نوار سريتها
…
وهاجرة دوّية ما أقيلها
جعلنا عليها دوننا من ثيابنا
…
تظاليل حتى زال عنها أصيلها
وجاءت الثانية في قوله:
وحبْل الله حبلك من ينله
…
فما لعُرى إليه من انفصام
فإني حامل رجلي ورحلي
…
إليك على الوهون من العظام
والوهون من مصادر وهن وقد ذكروا الوهن بالسكون والحركة. وإني لأستبعد قصده الوهون بفتح الواو بمعنى الضعيف
وفي العربية ألوف من الألفاظ الجاهلية والإسلامية لم تجلبها كتب اللغة. وقد بينت هذا
الأمر المهم في جريدة (البلاغ) المشهورة منذ خمسة أحوال في مقال عنوانه: (العربية، أحاديث فيها) حين أقمت في القاهرة - قبل المرابطة في هذا الثغر - وكنت أكتب (أحرر) في تلك الجريدة
لما تقدم الغربيون ونجم فيها العربانيون وأراد هؤلاء أن يخبروا الأمم العربية والإسلامية الخبرة البليغة ليخدموا دولاتهم في سياساتها أو لمآرب أخرى ذهبوا إلى مثل (الفرزدق) يستنطقونه ويستهدونه، والعالم العاقل لا يضل سبيله، ولا يخطئ حين يختار دليله. وأعمال العربانيين في هذا المعنى، شهرتها تغني عن الإفاضة فيها
ولما كانت المدنية العربية وهم عمرو بن بحر (الجاحظ) وعلي بن عبيده (الريحاني) وعلي بن محمد (أبو حيان التوحيدي) وحبيب بن أوس الطائي (أبو تمام) والوليد بن عبيد (البحتري) واحمد بن الحسين الكندي (المتنبي) ونظراؤهم، فلما عزم هؤلاء النابغون أن يحذقوا لغتهم، ويرصنوا أدبهم، بادروا إلى مدرسة (الفرزدق)، وجثوا بين يديه، وتأدبوا في العربية عليه، ومن صار إلى الينبوع العد ذي النمير السلسال وكرع فيه ارتوى، ومن سعى إلى منجم الألماس ومعدن الذهب رجع جذلان غنياً
وإني لموقن الإيقان التام أن الأمم العربية يوم ترتقي بعد ثلاث مائة سنة (إن شاء الله تعالى) ستحرث الجاهلية والإسلامية (الأموية) حرثاً، وستأصلها علماً أصلاً فلا تذر لفظة من ألفاظها - وإنها لكثيرة - شردت عن أصحاب المعجمات إلا اصطادتها، ولا خبراً مستعجماً إلا ابتحثته ووضحته، ولا ديواناً لكبير وصغير من الشعراء والشواعر إلا أظهرته. وستكرم دواوين لؤمت طبعاتها، وسود التجار الفجار (أو السماسرة) وجوههم عند الله بتشويه صفحاتها.
وستفتن علماء ذاك الزمان الآتي في التأليف في أدب الجاهلية والإسلامية افتناناً. وسيفضلون العربانيين والأئمة من العربيين السابقين (بذوق) حرمه الله الإفرنجي المستعرب أي حرمان، وبذرائع من الطباعة وغير الطباعة لم يحظ بها العالم العربي من قبل. وسيفهم أولئك المرتقون المتقدمون من مثل قول المأمون:(خير الكلام ما شاكل الزمان) ما لم يبد للمنتمين إلى الأدب العربي من العصريين، والمفقحون يجتلون ما لا يبصره المصأصئون
لقد بعث الأستاذ المردمي (همام بن غالب) في هذا الوقت و (البعث) حق، و (الرجعة) عند قوم
إنه اليوم في القاهرة (الحاضرة اللغوية للأمم العربية) إنه الساعة في دار (الجامعة المصرية، جامعة فؤاد الأول) - رحمة الله على الملك العالم - وهاهو ذا يخطب (الدكاترة) والأساتذة والتلامذة وهم حافون به. إنه ليهدر بصوت ذي نهيم كنهيم الأسد، صيت صهصلق، وإنا لنسمعه يقول:
أنا همام بن غالب. أنا الفرزدق
أنا أستاذ (الخليل) و (الريحاني) وحبيب
وإنها العربية الجاهلية الإسلامية الأموية خادمة (الكتاب) والتي قد كونت هذا اللسان
إن الناطقين بالضاد في كل زمان ومكان إلينا لمفتقرون
أنا همام بن غالب وزميلاي جرير بن عطية وغياث بن غوث فالعلم كل العلم في أن تعرفونا وتعرفوا الإسلاميين والجاهليين، والجهل كل الجهل في أن تنكرونا
أنا الفرزدق!!
(تصفيق مشتد بدأ به الصديقان الأستاذ أحمد أمين والدكتور عبد الوهاب عزام، وتبعهما الأستاذ إبراهيم مصطفى وسائر الأساتذة والتلامذة)
حيا الله أديبنا الكبير الأستاذ المردمي وبيّاه بما أحيا لنا (الفرزدق) في هذا الزمان حتى يخطب في (الجامعة) خطبته، ويقول في الجاهلية والإسلامية مقالته، ويصدع بالحق. وقيل (الفرزدق) هو القيل:
إذا قالت حذامِ فأنصتوها
…
فإن القول ما قالت حذام
هذه كلمات اقتبست من فضل الأستاذ المردمي، وطاقات اجتنيت من روض أدبه، أقدمها إليه إعجاباً وإجلالاً وتحية.
(الإسكندرية)
(* * *)
أوراق مبعثرة.
. .
للأستاذ صلاح الدين المنجد
هاهي ذي نسيمات الصيف تهوي إلى هذا الوادي الضاحك. . . قافزة كالفتاة اللعوب؛ تلهو بين العشب وترف فوق الزهر، وتتيه وراء النهر. . . ثم تعانقني، فتهمس في أذني بحياء، وتدغدغ وجهي بدلال. . . فأغمض عيني نشوان. . . فإذا بأوراقي تتبعثر. . . وبذكرياتي تهيج!. . .
يا عجباً لهذه الأوراق!! إن فيها قصة الشباب المستحير والحب الطروب. . . ولكن ما أجدر بعضها بالقراءة. فإن فيها كثيراً من تهاويل الفن، وفرائد الشعر، ونوادر الفكر، وأهازيج الشعب، وأضاحيك الناس. . . أيضاً. . . فلتجمعها (الرسالة) فهي روضة الأدب الزاهر. . . وقيثارة الناغم. . . ومجلته الشرود. . .
- 1 -
قرأت اليوم كتاب (طاغور) عن الشاعر ودينه. إنه يجنح إلى الدقة حتى ليصعب عليك فهمه، ويميل أحايين إلى السهولة حتى ما تجد أحلى ولا أملى منه. إن له آراء طريفة. . . هو يرى أن دين الشاعر ليس كدين الناس (لأن دين الناس عقيدة تهون بها المعضلات. . . فينقلب فيها الشك إلى يقين، والتمرد إلى إذعان). أما دين الشاعر فرقيق رجراج لا يخضع لشيء ولا يقيده شيء. هو كالقضاء الذي يحيط بالأرض تتلاعب في جنباته الظلال والأنوار، ويبدو الهواء فيه كالراعي الجميل ينفخ في مزماره ويغني بين قطائع الغيوم. إنه لا يقودنا إلى هدف ولا يجري بنا إلى غاية، لأنه مطلق لا تحيط به الجدران فتقيده؛ ولا الحدود الضيقة فتحدده؛ ولأنه واسع تتراءى لك فيه عوالم بعيدة وقريبة، تسمع منها زفرات اليائسين، وأنين البائسين، وأغاريد العصافير؛ وتحس بها لغب العاملين، وحمى الضعفاء، واضطراب الوالهين؛ وتستنشق عطر الورد وأريج الياسمين، وترنو إلى دموع العذارى، وعبرات الثكالى، وحزن البنفسج، ورفيف الندى، وضحك الربيع. استمع معي إلى هذا النشيد:
(أبريل يا أبريل. . .! اضحك كالفتاة الخلوب. . . ثم اذرف الدمع مثلها!)
(أبريل يا أبريل. . .! يا من له أذناي، غن كالحبيب عندما تسمع أنيني وترى نحيبي، ثم.
ثم اضحك ضحكة فيها الذهب. . . وازرف الدمع المذوب في الذهب!. . .)
فماذا وجدت؟ أليس هذا نوعاً من (الترف في الشعور؟) واستمع أيضاً إلى شاعر بنغالي قديم:
(استيقظت عند الصباح على خفق شراع القارب يا عروسي الجميلة، فتركت الشاطئ لأتبع الموج الصارخ. . . ثم سألتك: هل آن يا فتاتي حصاد الأحلام في تلك الجزيرة النائمة وراء الأفق الأزرق الجميل. . .؟ فسقط صمت ابتسامتك على سؤالي كما يتساقط صمت الأشعة على الأمواج. . . وانقضى النهار مملوءاً بالأعاصير، وهبت ريح عاتية دفعت بالقارب السكران إلى بعيد، فسألتك: أفي هذه الربوع، تحت رماد هذا النهار الميت. . . الذي ينطفئ على رود. . . شيدت برج أحلامك؟! فلم أسمع جواباً؛ ولكن ومضت عيناك كما تمض حفافي الغمام تحت شمس الطفل. وأقبل الليل. . . فغمرك الظلام، وداعب الهواء شعرك، وداعب شعرك خدي ففاح منك العطر، وهاج مني الأسى، وتاهت يداي تفتشان عن رفارف ثوبك، وسألتك: أوراء النجوم جعلت يا عروس رحلتي قبرك الذي ستدفنين فيه بين الورد والزهر؟. . . هناك. . . حيث ينقلب صمتك إلى نغمات، وحزنك إلى ضحكات. . .؟! فرف ثغرك. . . في الظلام كما ترف نجمة الليل. . . وراء الضباب!) فما هذه إلا نغمات حلوة تذهلنا عن الناس كلما طربنا لها وملأنا نفوسنا بها وهذا هو الشعر الجميل. . .
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
كتاب الأغاني
لأبي الفرج الإسكندراني
رواية الأستاذ عبد اللطيف النشار
صوت
إصرفوا عني طبيبي
…
واتركوني وحبيبي
جسدي راض بسقمي
…
وفؤادي بالنحيف
فاصرفوا عني طبيبي
الشعر (لليلى المريضة في العراق)، وفيه لحن للجاحظ لم تدون نغمته
حدثنا الأستاذ أحمد أمين قال: إن (ليلى المريضة بالعراق) ليست إلا كناية عن الآداب العربية. فهي شخصية خيالية: كماريانا الفرنسية، وجون بول الإنكليزي. وقد تعلق بها في كل جيل كبار أدبائه، وإنما أمرضها كثرة العشاق.
قال: وقد كثرت هداياهم إليها، وكان معظم الهدايا من الأدب الجاهلي، وهو كما تعلمونه ثقيل على المعدات الرقيقة، فأصيبت بعسر الهضم، وما يتلوه من ضعف الكبد ومرض السكر وسائر الأمراض التي تحدث عنها الأستاذ العقاد في مقاله عن (مطاعم الأغنياء).
قال: وكان ممن افتتنوا بها العلامة الجاحظ الذي كاد يشفيها بطبه الناجع، وما طبه إلا العلاج بنبات الأرض التي نشأ فيها المريض، وبالإقامة مدة ما في الجو الذي كانت فيه النشأة، فاستحدث لها من ملابسات الحياة الحاضرة إلى عهده أدباً غير مخزون ولا غريب فأبلت وكادت تعود إلى عهدها من الغضارة والنضارة، حتى ابتلاها الله بطبيب اسمه خلف الأحمر فأعاد لها هدايا الجاهلية، وعاودها المرض من أجل ذلك. فلم تزل مريضة إلى اليوم.
قال: وقد وفقني الله سبحانه وتعالى إلى دواء ناجع فاعتزمت الجامعة أن تنشئ فيها كرسياُ للأدب المصري، وليلانا المريضة في العراق مصرية بلا ريب. فأعددت لها دواء من أعشاب الحياة المصرية، وبعثت إلى أخوالها في بغداد أن يرسلوها.
قال: لكن الرسول الذي بعثت به إليها تطبب وكان كرسول المتنبي الذي يقول فيه:
ما لنا كلنا جوٍ يا رسول
…
أنا أهوى وقلبك المتبول
كلما قد بعثت طيفاً إليها
…
غار مني وخان فيما يقول
قال: وهذا الطيف المتطبب لما لقيها في بغداد استبقاها هنالك وأهدى إليها هدية من الأدب الأندلسي. ففي ذلك تقول:
اصرفوا عني طبيبي
…
واتركوني وحبيبي
جسدي راض بسقمي
…
وفؤادي بالنحيب
فاصرفوا عني طبيبي
وهذا اللحن قديم، كانت تقوله من عهد الجاحظ الأول، وأعادته في عهد الجاحظ الثاني؛ وكل الفارق بين الجاحظين أن أحدهما ذو لون حائل، وشق مائل، ولعاب سائل؛ وأن الثاني ذو يراع صائل، ولسان جائل. . . وقد نسيت السجعة الثالثة!
وحدثنا الدكتور زكي مبارك قال: (هذا اللحن لليلى المريضة في العراق، ما في ذلك شك، وأنا الطبيب، وأنا الحبيب؛ وإنما أرادت صرفي من الباب لكي آتي من النافذة بعد قليل، وهي القائلة على لسان عمر بن أبي ربيعه:
إذا جئت فامنح طرف عينيك غيرنا
…
لكي يحسبوا أن الهوى حيث تنظر
ولكنني لا أنظر إلا إليها، ولا أنظر إلا وعيناي مفتوحتان إلى أقصى حد تستطيعان. وماذا علي في ذك:
يقولون لا تنظر وتلك بلية
…
وما فتحت عيناي إلا لتنظرا
وفي الحق أني أهديت إليها هدية من الأدب الأندلسي وهي موشح من موشحات الهجاء فيمن يتعرضون للأدب الجاهلي. وهاأنذا أرشح نفسي لكرسي في الجامعة للأدب الأندلسي بان أسرف في مدح الأدب الجاهلي. وماذا علي في ذلك؟ أليست الأندلس قد تأثرت بالأدب الجاهلي أكثر مما تأثرت به بقعة أخرى من بقاع العروبة؟ صحيح أن أهل الأندلس كانوا مزيجاً من البربر والأوربيين والعرب؛ وصحيح أنهم كانوا يستقون أدبهم من حياتهم في مناخ بعيد عن المناخ الجاهلي، ولكن، هل الأدب أدب لغة أم الأدب أدب قوم؟ هذه هي المسألة كما يقول الشيخ عبد العزيز البشري نقلاً عن شكسبير؟
اللغة الإنكليزية في أمريكا قد طبعت العقلية الأمريكية بطابع إنكليزي. من ذا الذي يشك في
ذلك؟ ولكن هل يجرؤ أمريكي أن يقول إنه أمريكي؟ أليس عليه أن يقول إنه إنكليزي وإنكليزي قبل كل شيء، وإنكليزي ثم لا شيء؟!
قال الدكتور زكي: ثم إن اللغة العربية لغة عالمية، والصفة العالمية هي أبجدية الإنسانية. فلا يكون الإنسان وطنياً إلا وفيه من الصفات الإنسانية العالمية الشيء الكثير. ثم تتفرع عن الصفات العالمية الأبجدية في حياتنا صفات القومية. فلماذا لا نقف عند الأبجدية؟ ولماذا ندرس الأدب المصري كفرع من فروع الأدب العربي ولا ندرس معه الأدب الأندلسي؟
صحيح أن الأدب الأندلسي قد ضاع معظمه إحراقاً وإغراقاً ولكن لماذا لا ندرس الأدب الذي ضاع؟ ألم أقل إن هناك نثراً جاهلياً، وإن هذا النثر الجاهلي قد ضاع، وإن علينا أن ندرس هذا النثر الجاهلي وإن كان قد ضاع؟ ألا نستطيع دراسته على طريقة المتصوفة بالتسبيح بآلائه والاكتفاء عنه بأسمائه؟
على أني سألزمهم الحجة الدامغة. . . أليس الأدب المصري هو العصر الثاني من الأدب الأندلسي؟ ألم يبدأ الأدب المصري بالأندلسيين الذين هاجروا إلى الإسكندرية، وأقام أكبرهم شأناً فيها عشرين عاماً أنشأ فيها أولى المدارس الأدبية؟ ألم يقرءوا شيئاً عن ابن زهر ومقامه في الإسكندرية أميناً لمكتبتها في نفس الوظيفة التي يشغلها الآن الشيخ بشير الشندي، والتي شغلها السيوطي مدة من الزمن؟
أو ليس ابن زهر هو أستاذ ابن قلاقس وابن الحداد والوجيه؟ ثم أليس ابن الحداد نفسه أندلسياً. . . والمدارس الدينية كمدرسة أبي الحسن الشاذلي ومدرسة أبي العباس المرسي ومدرسة الشاطبي؟ ألم يكن هذا كله هو الأساس الأندلسي الذي بنى عليه الأدب المصري، وشعراء الإسكندرية المعاصرون؟ أليسوا من نسل أندلسي؟ أليس لقب أحدهم آخر شعراء بني الأحمر؟ وأنشد
صوت
عجباً يا قوم قولوا عجباً
…
جحدوا الفن وخانوا الأدبا
جعلوا جِدّيَ فيهم لعبا
…
بلغوا الذروة في الصيت وما
أنصفوا الآداب في الأندلس
يا أبا العباس يا مرسي ويا
…
شاطبيٌ باركا نقدي ويا
سيدي موسى بن ميمون ويا
…
أولياء الثغر بالله أما
تسمعون القدح في الأندلس
قال: وسيدي موسى بن ميمون كان عالماً عربياً في الأندلس، ثم صار الحاخام الأكبر للطائفة الإسرائيلية في الإسكندرية. فكيف يبدأ أستاذ الأدب المصري بتعليم الأدب المصري قبل أن أنتهي أنا من تعليم الأدب الأندلسي!
حدثنا الأستاذ ساطع الحصري بك قال: فيم يختصم هؤلاء؟ أفي دواء لمريضة عندي ولن أبعث بها إليهم؟ إن ليلى هنا وستظل ليلى هنا، فلا دواء من الأدب الأندلسي ولا من الأدب المصري ولكن من المركب العربي بمقادير ونسب. أما لهؤلاء المتخاصمين من ينشدهم شعر العقاد؟
صوت
ما في يدي منه لا عين ولا أثر
…
ولي عليه مغاليق وأعيان
قال أبو الفرج: وقد انتهت الخصومة في شان كرسي الأدب المصري وكرسي الأدب الأندلسي إلى صلح عقده الأستاذان المتخاصمان، وأهم شرائطه أن يشتركا في نشر كتاب الأطباء لابن أبي أصيبعة، ففيه سير الأطباء الشعراء من الأندلسيين الذين كانوا نواة للأدب المصري في القرن السادس الهجري ثم يضيفانه إلى قائمة الكتب العشرة المختارة.
قال: ولقد نشأت عن هذه الخصومة ذيول تمت هي أيضاً بزيادة القائمة زيادة عظيمة!
بارك الله في هذه الخصومات، حتى تستمر أمثال هذه الزيادات
عبد اللطيف النشار
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
494 -
أقبل على سوقك
دخل أبو العتاهية على ابنه محمد، وقد تصوف فقال:
ألم أكن قد نهيتك عن هذا؟
فقال: وما عليك أن أتعود الخير، وانشأ عليه؟
فقال: يا بني، يحتاج المتصوف إلى رقة حال، وحلاوة شمائل، ولطافة معنى. وأنت ثقيل الظل، مظلم الهواء، راكد النسيم، جامد العينين. فأقبل على سوقك؛ فإنها أعود عليك. وكان بزازاً
495 -
نزيل الجبال بالريش
قال ياقوت، قال أبو الرملي: حضرت مجلس أبي القاسم المرتضى وأنا إذ ذاك صبي، فدخل عليه بعض أكابر الديلم، فتزحزح له، وأجلسه معه على سريره، وأقبل عليه مسائلاً، فساره الديلمي بشيء لم نعلم ما هو. فقال له متضجراً: نعم. واخذ معه في كلام كأنه يدافعه. فنهض الديلمي، فقال المرتضى بعد نهوضه: هؤلاء يريدون منا أن نزيل الجبال بالريش. . . وأقبل على من في مجلسه. فقال: أتدرون ما قال هذا الديلمي؟ فقالوا: لا
فقال: قال: بين لي هل صح إسلام أبي بكر وعمر؟!
596 -
ملائكة!!!
في (تاريخ بغداد): اشترى السري بن المغلس السقطي كر لوز بستين ديناراً، وكتب في روزنامجه: ثلاثة دنانير ربحه. فصار اللوز بتسعين ديناراً. فأتاه الدلال وقال: إن ذاك اللوز أريده. فقال له: خذه! قال: بكم؟ قال: بثلاثة وستين ديناراً. قال الدلال: إن اللوز قد صار الكر بتسعين. قال له: قد عقدت بيني وبين الله عقداً لا أحله. ليس أبيعه إلا بثلاثة وستين ديناراً. فقال له الدلال: إني عقدت بيني وبين الله ألا أغش مسلماً لست آخذه منك إلا بتسعين. فلا الدلال اشترى منه، ولا السري باعه!
597 -
وشاهدي فيما ادعيت القمط والتمريخ
في (وفيات الأعيان): كان المبارك بن أبي الفتح الملقب شرف الدين، قد خرج من مسجد بجواره ليلاً ليجيء إلى داره. فوثب عليه شخص وضربه بسكين قاصداً فؤاده. فالتقى الضربة بعضده فجرحته جرحة متسعة. فأحضر في الحال المزين فخاطها ومرخها وقمطها باللفائف. فكتب إلى الملك المعظم (مظفر الدين صاحب أربل) يطالعه بما تم عليه في هذه الأبيات:
يا أيها الملك الذي سطواته
…
من فعلها يتعجب المريخّ
آيات جودك محكمٌ تنزيلُها
…
لا ناسخ فيها ولا منسوخ
أشكو إليك (وما بُليت بمثلها)
…
شنعاَء ذكرُ حديثها تاريخُ
هي ليلةٌ فيها وُلدتُ وشاهدي
…
فيما ادعيت القمط والتمريخُ
وهذا معنى بديع جدا. ً
598 -
ورد تفتح في فنن
قالوا: أحسن ما قيل في الضربة الدامية قول ابن المعتز:
شق الصفوف بسيفه
…
وشفى حزازات الإحن
دامي الجراح، كأنه
…
وردٌ تفتح في فنن
599 -
لقاء الله. . .
في (طبقات الشافعية): قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: سمعت أبا بكر بن فورك يقول: سئل الأستاذ أبو سهل محمد ابن سليمان الصعلوكي (شيخ عصره) عن جواز رؤية الله (تعالى) من طريق العقل. فقال: الدليل عليه شوق المؤمنين إلى لقائه، والشوق إرادة مفرطة، والإرادة لا تتعلق بالمحال
فقال السائل ومن الذي يشتاق إلى لقائه. . .؟
فقال الأستاذ أبو سهل: يشتاق إليه كل حر مؤمن، فأما من كان مثلك فلا يشتاق. . .
600 -
لطيف. . .
في (مفاتيح الغيب): قال أبو علي الحسن الغوري: كنت في بعض المواضع فرأيت زروقاً فيه دنان مكتوب عليها: لطيف. فقلت للملاح: إيش هذا؟ فقال: أنت صوفي فضولي، وهذه
خمور المعتضد. فقلت له: أعطني ذلك المدري. فقال لغلامه: أعطه حتى نبصر إيش يعمل. فأخذت المدري وصعدت الزورق فكنت أكسر دناً دناً، والملاح يصيح حتى بقي واحد فأمسكت فجاء صاحب السفينة فأخذني وحملني إلى المعتضد، وكان سيفه قبل كلامه. فلما وقع بصره علي قال: من أنت؟ قلت: المحتسب. قال: من ولاك الحسبة؟ قلت: الذي ولاك الخلافة. قال: لم كسرت هذه الدنان؟ قلت: شفقة عليك. قال: فلم أبقيت هذا الواحد. قلت: إني لما كسرت هذه الدنان كسرتها حميةً في دين الله. فلما وصلت إلى هذا أعجبت بنفسي فأمسكت ولو بقيت كما كنت لكسرته. فقال: اخرج يا شيخ، فقد وليتك الحسبة فقلت: كنت أفعله لله (تعالى)، فلا أحب أن أكون شرطياً
601 -
. . . لا يلزم باب السلطان
في (مسالك الأبصار ومروج الذهب): كتب على باب (النوبهار) بالفارسية: قال سوراشف الملك: أبواب الملوك تحتاج إلى ثلاث خصال: عقل، وصبر، ومال. ثم لما ملك الإسلام مدينة بلخ كتب تحت هذه الكتابة بالعربية: كذب سوراشف؛ الواجب على الحر إذا كان معه واحدة من هذه الخصال ألا يلزم باب السلطان
بائعة (الكازوزة) الحسناء
للأستاذ علي الجندي
تتردد على جسر الخديو إسماعيل وما جاوره من شواطئ النيل، فتاة في زي القرويات سمعت من يدعوها (هند) يجلس بجوارها في أغلب الأحيان رجل أحسبه يمت إليه بصلة القرابة، ولعل مهمته الأولى أن يحرسها من ذئاب البشر الضارية
هذه الفتاة على حظ عظيم من جمال الفطرة البريء من الصنعة. وقد اعتادت إذا مر بها المتنزهون في ذهابهم وجيئهم أن تعرض عليهم بضاعتها في بشاشة ورقة وأدب
وحدث أنني كنت أرتاد هذه البقعة متفرجاً في بعض الليالي المقمرة، فمررت بها مصادفة - مصادفة يا وزارة المعارف - فابتسمت لي وقالت بصوت يقطر ليناً: تعال يا أمر (قمر) اشرب كازوزة. وقد منعني ما اصطنعه من وقار المربين من تناول شرابها المشعشع بالثلج، ولكنني استطعت أن أرد على التحية بأحسن منها!
وحاولت جاهداً أن أتخلص من تأثير كلمتها (يا أمر) فلم استطع! فقد خالطت مني اللحم والدم، وفعلت بي فعل السحر! كنت أظن - وبعض الظن إثم - أنني جاوزت مرحلة الشباب، فأعادت لي هذه الكلمة الثقة بنفسي وقلبي! وتركتني ألتفت إلى الماضي أستحضر صوره المحببة! ناثراً الدمع في دمن الأنس العافية، وأطلاله الدوارس!
ومخضوبةِ الأطراف، مُخْطَفة الحَشَا
…
على الشَّطِّ تخطو في دلال وفي خَفَرْ
يميس بها سُكْرُ الشباب فتنثِني
…
كغصنٍ زَهتْه الريحُ أو شادنٍ خَطَر
تكاد السباع المقعِيات حيالَه
…
تخفُّ إليه - صابيات - مع البشر
جَلاها الجمال النضر في ثوب فاقةٍ
…
وما حاجة الغيد الغواني إلى الحِبر؟
وهل عابها أن تَعْدَم الوَشْىَ والِحلَى
…
وقد أطلعتْ من وجهها بُلجَةَ السَّحر؟
إذا هتفتْ بالظامئين تَهافتو
…
عليها كنحل هاجها مونق الزهر
وما بهِمُو بردُ الشَّراب، وإنما
…
نُفوسٌ تَوَافتْ من رَدَاهِا على قَدَر
إذا هي هَشَّتْ للوُرود، فإنها
…
- وإن نِعمتْ بالرِّي - لا تحمَدُ الصَّدَر
عفا الله عنهم! إن شَفَوْا غُلَّةَ الصَّدى
…
فَمَن لجوىً بين الجوانح يَسْتَعِر؟
تَرى الشَّرب حول الوِردَ شَتَّى، فلاحظٌ
…
حُشاشته وجداً، وآخرُ ينتظر
ومنْ صادرٍ عنه بمهجة والهٍ
…
تكاد من الشوق المبرِّح تنفطر
مَرَرتُ بها - كالطيف - أسترق الخُطا
…
أحاذِرُ أنْ أصبو، وهل ينفع الحذَر؟
فما راع سمعي غيرُ صوت مُنغَّمٍ
…
يُخالُ - لفّرْطِ اللينِ - ترنيمةَ الوتَر
تقول - وبدرُ التَّم في الأفق سافرٌ
…
يُفضِّض تِبْر النيل -: أيكما القمر؟
هَلُمَّ إلى راح طهُورٍ تُدِيرها
…
عليك رَدَاحٌ زان أجفانَها الحَوَر
ستشربها صِرفاً، وإن شئتَ مزجها
…
فدونك صْفوَ الشهد من ثغريَ العَطر
تألَّفتِ اللذاتُ: ماءٌ وخُضرةٌ
…
ووجهٌ كصبحٍ تحت جُنحٍ من الشَّعر
وهذا النسيم الرَّطْبُ ينفَح بالشَّذا
…
فيفعَل بالألباب ما يفعَل السَّكَر
فخُذْ بنصيب من هناء معجَّل
…
فإن الليالي غيرُ مأمونة الغِيَر
فقلتُ لها: خلِّي التَّصابي لأهله
…
فما للمُرَبَّي في جَني الحسن من وطر
إليكِ، فلي (بالضاد) شُغلٌ عن الصبا
…
وفي الدين عن وصل الكواعب مُزدجرْ
دعيني، فما لي والهوى - قُتلَ الهوى -!
…
ألم يكفِ ما حُمِّلتُ في زمن غَبَر؟
أُرِقتُ ونام الناس مِلَء جفونهم
…
أبكي لظبي صَدَّ، أو جُؤذَرٍ نفَر
فمن ذاق منه الأعذَبين فإنني
…
لقيتُ به التبريح والهم والسهر
فلا تنكئي قرحاً بقلب دملته
…
على لوعة حرى، ووجد قد استدر
ألم تُبصري فودي تنفس صبحه
…
وكان حبيباً - للدُّمى - ليله العكر
وما ذاك من مَرِّ السنين، وإنما
…
لبستُ بياض الشيب في مَيْعة العُمُر
جناه على رأسي زمانٌ مُذمَّمٌ
…
يشوب لنا صفو اللذائذ بالكدر
ربيع ولا خصب، وظل ولا ندىً
…
وماء ولا ريّ، وروض ولا ثمر
شقائيَ أني بين قوميَ دُرّةً
…
وقد خلقوا تعشى عيونهم الدرر
ولو أنهم هانوا عليَّ، وسَمْتُهمْ
…
على الأنف، لكنْ مَن له شيمتي غفَر
أُشيد لهم مجداً ويأبَى سِفاههم
…
سوى هدمه! هل يستوي النفع والضرر؟
تَواصَوْا على أكلي - وفي لحميَ الردى -
…
وما في النًّهى أن تُؤكلَ الحيّة الذكر
تولّى زمان اللهو (يا هند) فاعذري
…
وأقصرَ عما كان غَيّه (عُمَرْ)
كفتنا - على برْح الجوى - منك نظرة
…
وفي دين أهل الشعر لا يَحْرُم النّظر
سقى الغيثُ عهداً كم دعاني به الهوى
…
فلبيتُ، لا أُعنَي بمن لامَ، أو عذَر
زمانَ فؤادي بالحسان مُوكلٌ
…
إليهن أسعى بالأصائل والبُكر
شفيعي إليهن الصبا، ووسيلتي
…
رَقائقُ أشعارٍ يلين لها الحجر
مرابع غِزلان تعفَّت، ولم تكن
…
سوى مُتعة الآذان والقلب والبصر
نديمي بها (سُعْدَى) وريقتها الطلى
…
وروحي وريحاني الأحاديث والسّمَر
كأنّ فؤادي يُسْعَر الجمرُ فوقهُ
…
- إذا عادت الذكرى - ويوخز بالإبر
وحيّاك عنّا الله يا (هند) كلما
…
تخطرتِ بالشطين، فاستضحك النهَر
ودام لك الوجهُ الصبيح، ولا ذَوَى
…
عليك شبابٌ من صِبا (الخلد) مختصر
نظمنا لك الشعر النضير قلادةً
…
ترف على رمانتي غصنك النضر
إذا ظفِرتْ حسناء منه بحلية
…
فما ضر أن يغري بها البدو والحضر
علي الجندي
ترنمية الرياح.
. .
للأستاذ ميخائيل نعيمة
هّللي، هللي يا رياحْ
…
وانسجي حول نومي وشاح
مٍن خرير الغديرْ
…
واهتزاز الأثير
واختلاج العبير
…
في دموع الصباح
هللي، هللي يا رياح
طوّقيني بنور النجوم
…
وافتحي لي قصور الغيومْ
واتركيني هناك
…
فَوراء السماك
قد لمحت ملاك
…
باسطاً لي الجناحْ
هللي، هللي يا رياح!
هاأنا يا ملاك النعيمْ
…
يا رسول الإله الرحيم
ما عساك تشاء
…
مِن تراب وماء
فيهما ألف داء
…
ما لها مِن براح؟
صفّقي، صفقي يا رياح!
ما أنا يا ملاكي السعيد
…
غير طيف شريد طريد
علَّمَتْهُ الحنينْ
…
عاديات السنين
فاستطاب الأنين
…
واسترقَّ النواحْ
صفقي، صفقي يا رياح!
أتَرَدّى رداَء المنون
…
وأداوي الأسى بالظنون
كل فكري عناد
…
كل قلبي سواد
كل دربي قاد
…
كل عيشي كفاح
قهقهي، قهقهي يا رياح!
كان لي في قديم الزمان
…
مرتع في رياض الجنان
بِعتُه بالوعود
…
هل تراه يعود
لو نكثتُ العهود
…
والتمستُ السماحْ
قهقهي، قهقهي يا رياح!
يا ملاكي، ألا من مآب
…
لطريد براه العذاب؟
إنْ يعزّ الرجوع
…
أفَلَا من هجوع
لغريب الربوع
…
يا ملاك الصلاح؟
ولولي، ولولي يا رياح!
قل، لماذا اعتراكَ الذبول
…
هل تراك نظيري تجول
في رحاب الفضا
…
نادباً ما مضى
طالباً عوضاً
…
عن ديار الفلاح؟
ولولي، ولولي يا رياح!
عجباً بالدموع تجيب
…
فإذن أنت مثلي غريب
أنت مثلي طريدْ
…
هائم تستعيد
ذكر ماض بعيد
…
كان حلماً وراح
هّومي، هومي يا رياح!
أنت مثلي ضللت الطريق
…
فيكَ سرٌّ كسرِّي عميق
لا تَنُحْ يا ملاكْ
…
ما دهاني دهاك
إن نكن للهلاك
…
فالهلاك ارتياح
هوّمي، هومي يا رياحَ
قم بنا فالرياح تكادْ
…
تجعل الدمع مِنّا جماد
وتَعالَ نَنَمْ
…
في سرير الندمْ
علَّ شهر الظُلَم
…
في المنام يزاحْ
أسكتي، أسكتي يا رياح
مخائيل نعيمة
رسالة الفن
دراسات في الفن:
. . . والفن زعامة
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
هؤلاء جماعة من أبناء الصعيد العمال في عمارة، وهذان زعيمان متقدمان عليهم. أحدهما هذا الذي استجلبهم من الصعيد ووصلهم بهذا العمل الذي خبره ووقف على سره فهو مرشدهم فيه وقائدهم، والآخر هذا الذي يغني لهم أثناء العمل ما اشتد بهم العمل وما هان عليهم؛ فهو أكثرهم شعوراً بوحشة الغربة، وهو أشدهم شعوراً بوجوب الكفاح في سبيل الرزق، وهو أشدهم تفاؤلاً ورضاً بقضاء الله، وهو أشدهم نزوعاً إلى التعبير عن هذا كله، وهو أقدرهم على هذا التعبير، وأحلاهم فيه
فإذا وازنا بين زعامة المقاول، وزعامة المنشد، رأينا أن زعامة العيش تتستر وراء زعامة الروح والفن استحياء وتخاذلاً ما شبعت البطون، وما جرت الأرزاق في نهجها الطبيعي، وما سار العمل على نمطه المرسوم. فهؤلاء الجماعة من العمال لا يذكرون أن لهم إماماً يتبعونه في الحياة غير منشدهم إلا عند ما يطلبون الأجر أو العمل، وهم فيما عدا ذلك هائمون وراء شاديهم الذي يغنيهم، والذي يستدرج إلى نفوسهم ذكريات الماضي، ويقرب منها آمال المستقبل.
وفي ساعة من الساعات يفيض الشادي بالسحر والحنان والبهجة، فيرشف منها شعبه وينهل، وإذا بجمهور آخر من أبناء الصعيد أيضاً كانوا يمرون في فراغهم بهذا الحشد السكران، فيتجمعون حول الشادين يشدون معهم، لأنهم حنوا إلى الصعيد مثلهم، واستوحشوا الغربة، وذكروا الأحبة وهاجت في نفوسهم الآمال، وطاب لهم هذا الترويح الذي وجدوه فأقبلوا عليه يستروحون. وإن منهم من يقف كالمسحور يهزه الطرب ولكنه يعجز عن ترديد ما يسمع.
وفي ساعة أخرى يمر بهؤلاء الشادين جماعة آخرون شادون ولهم هم أيضاً زعيم يغني على ليلاه وأتباعه يرددون؛ فإذا صادف الغناء الطارئ هوى عند الماكثين فهم أصدقاء
وأحباء، فإذا رأوا في الغناء الطارئ تعريضاً بمفخرة من مفاخرهم فهي معركة حامية قد تذهب فيها الأرواح
هذه صورة بسيطة من صور الزعامة الفنية وهي من الصور القليلة التي لا تزال قريبة من الطبيعة في صدقها وانحصارها. وإن لها شبيهاً عند أبناء البلد من القاهريين، فهم لا يزالون يقيمون حفلات الغناء في مشاربهم العامة، يقيم الحفلة مها مغنيان لكل منهما شعب يتبعه أينما حل، فإما يجد ما يصبو إليه من احترام وتوقير، وإما يحمي زعامته وكرامته بالعصي. . .
وثمة صور أخرى لهذه الزعامة التي تفرضها الطبيعة فرضاً، والتي لم تستطع الحضارة معها إلا أن تعممها فكان ذلك من حسناتها القلائل التي نجت من الصاحبات السيئات. من ذلك تلك الزعامات الفنية التي تقوم المطبعة والسينما والمسرح بالترويج لها، وبالطواف بها في بيئات العالم المختلفة. فأدوات النشر هذه تذيع آثاراً فنية بين الناس، فتجد هذه الآثار الفنية من يطرب لها، ومن يرى فيها ترديداً لشيء كان يجول في نفسه ويريد أن ينفثه منها، أو من يرى فيها شبيهاً لشيء رآه وأحسه، ولكنه لم يستغرق في تأمله، أو من يرى فيها إمكان الحدوث على هذه الصورة من صور الجمال التي حققها له الفنان. . . وهؤلاء جميعاً عندما يرون هذا يشهدون للفنان الذي أسعدهم به أنه زعيم عليهم فيه، فمنهم من يتقرب إلى زعامته بفن فيه من روح فن الزعيم ويذهب مذهبه، ومن هؤلاء من يأبى إلا أن ينافس الزعيم حتى يتزعم هو، ومنهم من يرضى بالمتابعة، وأكثر الناس يرضون بالمتعة يصيبونها عند الزعيم الأصيل وعند المتزعمين وراءه، ومنهم من يهتم الاهتمام الكبير بالمناوشات التي تدور حول الزعامة. بل إن منهم من يثيرها ويشعل نيرانها رغبة منه في التلذذ بشهود الصراع الروحي الذي لا يكون من ثمرته إلا الرقي والذي لا ينبت على جوانبه الغل ولا الحقد إلا حيث يكون النقص والعجز
وتتسع الزعامة الفنية كغيرها من الزعامات كلما اتجهت إلى العموميات التي يشعر كل الناس بان لهم صلة بها. فالأديب الذي يذكر الرحمة يجد في الناس عدداً يطرب لذكرها أكثر من العدد الذي يجده أديب آخر يذكر منظراً خاصاً من مناظر الطبيعة لا يعرفه إلا القليلون من الناس هم الذي يعيشون عنده، وهم الذين يطربون لذكره إذا جرى على لسان
الأديب. ذلك أن الرحمة عاطفة تدركها النفوس الإنسانية جميعاً، ولكن هذا المنظر الطبيعي الخاص لا يدركه إلا أهله فقط
وليس معنى هذا أن زعامة الفنان صاحب الجمهور الكبير افضل من زعامة الفنان صاحب الجمهور الصغير. فقد يحدث أن يستشعر فنان بمشكلات تزحف نحو الإنسانية من بعيد فيراها، ولا يراها معه من الناس أحد غيره، وعندما تمتلئ نفس هذا الفنان شعوراً بهذه البشائر أو النذر، وعندما يعبر عنها بفنه، فإنه قليلاً ما يجد الناس الذي يتذوقون تعبيره ويوافقون عليه ويطمئنون إليه، وإنما يغلب أن تثور عليه الجماهير، ويغلب أن يتصدى له من زعماء الفن في عصره من تقاعد بهم الحس فيزمونه بالعجز أو الخبل، أو الالتواء أو شتى هذه التهم التي يتقاذف بها المتقاطعون الذين لا يتفاهمون، والذين لا يريدون أن يتفاهموا. وكثيراً ما ينكمش الفنان السباق في حنايا فنه وتلافيفه فيقضي ما يقضي من العمر وهو غريب عن عصره، حتى إذا ولى عن الحياة، وولى معه جيله وجاء بعده أناس قربتهم الحياة مما كان يراه ويتحدث عنه آمن هؤلاء به، واستعادوا فنه واسترجعوه، وأقاموه من أنفسهم في مقامه الحق. . . وجعلوه هو الزعيم، فهم أحياء وزعيمهم ميت. . . وفي هذا ما فيه من عدل الثأر الذي له عند آبائهم الذي أنكروه، فهم كلما ذكروا زعيمهم وطلبوا له الرحمة لعنوا آباءهم لأنهم كانوا كافرين.
ويقابل هؤلاء الزعماء السباقين زعماء آخرون زعامتهم معكوسة فهم لا يقودون الجماهير، وإنما يجرون وراء الجماهير، وقد يد هؤلاء من وفرة التابعين ما لا يجده الواثبون الصاعدون. وهؤلاء الزعماء الأذناب لونان، منهم من تسوقه نفسه إلى استرضاء الجماعات لأنه يحب رضا الجماعات ولأنه بطبعه فرد من أفراد الجماعات لا يزيد عنهم حساً، ولا يزيد عنهم قدرة على التعبير، وإنما كل ما يميزه هو الجرأة على التعبير والانطلاق به. ومنهم من يتسقط هذا الرضا عند الجماعات ليتسقط معه الربح المادي والجاه والشهرة، وهذا أدنأ من صاحبه وأقرب إلى التجارة منه إلى غيرها. فالفنان في غير التجارة لا يعبأ (بالزبائن) ولا يحسب حساباً لأذواقهم. أما التاجر وحده فهو الذي يستقصي طبائع الأسواق مستعرفاً أي البضائع يروج فيها وأيها يبور
وليس هذا من طبع الزعامة في شيء، وإنما هو من ملق العبيد الذي تضيق عنه أخلاق
الفن. وإنما أمانة الزعامة تقتضي الإرشاد والإصلاح والتحسين. فإذا كان الجمهور متردياً في رذيلة من الرذائل فليس زعيماً ولا هادياً من لم ينقذه منه. وكما أن الجماهير تتردى في رذائل خلقية، وفي رذائل عقلية، وفي رذائل اجتماعية، فإنها تتردى كلك في رذائل حسية يجب على من يحمل لواء الزعامة الفنية فيها أن ينقذهم منها أو أن يحاول إنقاذهم على أقل تقدير مادامت هذه الزعامة سبقاً في الحس، وسبقاً في التعبير. . . وإلا فهي لا شيء. . . أو هي تلك الأنانية الفنية الضيقة التي ليس لها شأن إلا بصاحبها فقط
أما الرذائل الخلقية والاجتماعية والعقلية فهي الأغلاط الإنسانية التي يعالجها أصحاب الفضيلة الإصلاح الاجتماعي والناهضون بالعقل المؤدي إلى العلم النافع. . . وأما الرذائل الحسية فهي التي ينفضها الفنانون عن أنفسهم بالسليقة أو بالتدريب الحسي فيزيحونها كذلك عن نفوس الذين يتابعونهم في إحساسهم ويتتلمذون عليهم فيه، والذين يشابهونهم في طريق التعبير عنه. ومن أمثلة هذه الرذائل الحسية ما تعانيه البشرية اليوم من استعار التعصب للقومية المادية، فهو وإن كان مما تلزم إثارته عند الشعوب الضعيفة حفظاً لكيانها بين الشعوب القوية المتعصبة؛ فإنه مما يجب أن يكافح وأن يقاوم بكل وسائل الكفاح والمقاومة عند الشعوب القوية، لأنه لا معنى له إلا الانحطاط بالمثل البشرية العليا، إلى حيث تكون أدنأ المثل وأضيقها رحاباً وأقذرها أهدافاً.
والفنانون الذي ينتظرهم العالم اليوم لينقذوه من هذه الرذيلة هم الفنانون الذين يحسون القبح في هذا الإحساس ويشمئزون منه ويدعون إلى فض هذا النزاع المادي المتستر تحت قناع القومية ولابد أن تبدأ دعوتهم بأن يشعروا شعوراً صادقاً بأن الإنسانية حين تقدمت بعقلها وعلمها في طريق الحضارة الماثلة الآن تلكأت أو انتكست في سعيها الحسي، فلم توازن بين هذا التقدم في الحضارة وبين ما كان يجب أن يصاحبه من الإحساس الذي يشمل البشرية كلها كما استطاعت الحضارة أن تربط أطراف العالم بعضها ببعض وأن تخلط الشعوب بعضها ببعض، وأن تصل العقول بعضها ببعض، بحيث أصبح الياباني يعرف كل ما يعرفه الإنجليزي من المعلومات، وبحيث أصبح الأمريكي يقرأ ما يقرأه الأسترالي من الكتب وبحيث أصبح التركي يدرك ما يدركه النرويجي من الحقائق العلمية. . .
ولكن إحساس اليوناني لا يزال بعيداً كل البعد عن إحساس الإنجليزي، وشعور الأمريكي لا
يزال بعيداً كل البعد عن شعور الأسترالي، والمثل العليا التي يجري التركي وراء تحقيقها لا تزال مختلفة كل الاختلاف عن تلك المثل العليا التي يسعى النرويجي اليها؛ وليس ذلك إلا لأن الفنون قصرت حيث نشطت العلوم، ولأن إحساس البشرية تبلد حيث التهب عقلها. وما كان عقل البشرية ليهديها إلى الخير وحده، فلابد له من إحساس وأخلاق يسير في مصاحبتها إلى هدف الهدى
على أن هذا لا يصح أن يدفع اليأس إلى نفوسنا من صلاح الناس، فإن بذرة النجاة موجودة، وطريق السعادة ممهد قد رسمه الإسلام. وليس ينقص الإنسانية اليوم إلا فنانون مسلمون يضربون بإلحاح على ذلك الوتر المشجي الذي عزف عليه القرآن أول مرة فرتل قوله تعالى: إن أكرمكم عند الله أتقاكم. فمتى شاع هذا الإحساس في الناس شاعت فيهم السعادة. وقد كاد هذا الإحساس يشيع لولا أن انقسم العرب على أنفسهم فأصبحوا مشارقة ومغاربة، ولولا أن استعصمت أوربا بتعصبها، فألحت في محاربة المسلمين الذي نزلوا الأندلس ومضت في الحرب إلى أوائل هذا القرن حتى احتل اللورد اللعين فلسطين فقال: اليوم فقط وضعت الحرب الصليبية أوزارها.
على أن الإنسانية قد بدأت تحس هذا الإحساس النبيل، وإن كان يداخل نفسها في هدوء وفي بطئ، وإن كان عقلها ولسانها لا يزالان ينكرانه. ولولا هذا الإحساس لاشتبكت الدول في الحرب منذ عام أو منذ عامين، ولكن هذا الإحساس هو الذي يكتف القادة من غير أهل الفن، ويمنعهم من توريط أنفسهم بإعلان الحرب لأنهم يكادون يكونون مؤمنين بأن الشعوب أصبحت لا تتغاضب ولا تتقاتل جرياً وراء فكرة القومية المكذوبة؛ ولأنهم أصبحوا يرون أن الأفراد اليوم يعتزون بحياتهم، وبمتعة الدعة أكثر مما يعتزون بالرغيف.
وليست الشهادة الحرفية بتوحيد الله، والاعتراف الحرفي برسالة محمد هي كل ما نطلبه، وإنما نطلب لسعادة البشرية الإيمان بوحدانية الله إيماناً يتطرق إلى كل عمل وكل قول مما يعمل المؤمنون ويقولون، والإيمان برسالة محمد إيماناً ينفي كل ما يراد به تفضيل طائفة من طوائف البشر ورفعها على الطوائف الأخرى؛ فإن محمداً لم يكن يرى فضلاً لعربي على عجمي إلا بالتقوى
هذا هو الفن الجديد الذي تريد الإنسانية اليوم. وقد يجود به عليها مسلم، وقد يجود به
نصراني، وقد يجود به يهودي ممن تتسع أذهانهم وتصفو نفوسهم فتحب إلى جانب المادة ما هو خير من المادة، بل قد يجود به وثني مثل غاندي
وقد كان طبيعياً أن ينعقد اللواء للزعامات القومية فيما مضى وأن تصطبغ حتى الزعامات الفنية بألوانها في أقتم درجاتها لأن البشرية لم تكن قد التحمت هذا الالتحام الذي تشابكت به اليوم؛ فلم يكن عجباً أن يكون زعيم القبيلة هو فارسها وهو شاعرها كما كانت عنترة العبسي في قومه مفخرة لهم، له اليد الطولى في مجدهم الحربي ومجدهم الفني أيضاً. . . ولكن منذ بدأت الآفاق تتفتح أمام المجموعات البشرية حق عليها أن ينفتح إحساسها حتى يحيط بكل ما تضرب فيه الحياة وحتى يلم بكل ما يضطرب فيها
ولا ريب أن الإنسانية قد انتبهت إلى هذا الآن، فقد قضت وقتاً طويلاً وهي تجرب هذه الدعوات التي تهتف بالقوميات والعصبيات المادية فتبين لها أنها دعوات ضعيفة عاجزة منافقة
أما ضيقها فتابع لضيق البيئات التي تصلح لانتشار كل منها، وأما عجزها فتابع لما تستدعيه من التنفير الذي ينفث الكراهية في نفوس الناس فيرجم بعضهم بها بعضاً، وأما نفاقها فظاهر في أتباعها كما أنه ظاهر في ميوعتها وحيرتها وتناقضها مع نفسها، فقد كانت للإنجليز قومية يدعون إليها ويفخرون بها، وكان منهم من أسرع إلى أمريكا فاستوطنها ثم أبى أن يخضع لسلطان وطنه الأول فانقلب على قوميته وأنشأ مكانها قومية أخرى يحبها ويناضل في سبيلها لأنها تتصل بالأرض التي يعيش عليها ويأكل منها، ولا أكثر. وهذا ما حدث للأسبان الذين نزلوا أمريكا الجنوبية فقد انقلبوا على إسبانيا أمهم الأولى؛ ثم انقلبوا على أنفسهم واستأثر كل جماعة منهم بقطعة من الأرض. . . وهذا يثبت أن فكرة القومية والوطنية المادية ليست من الشرف في مكان يعلو على المادة ويتسامى عليها، وما من شك في أن (قومية الفكر) أو (قومية الفن) خير منها. ويتضح فضل الروحانية بمراقبة هذه القوميات المادية عندما يحتك بعضها ببعض فإننا نرى أن المادة والشغف بها يزيدان الصراع بين الناس استعاراً بينما المذاهب الروحية كلما توغلت في نفوس الناس على أساس من الصحة والسلامة ومجاراة الطبيعة والبعد عن التكلف كان ذلك أدعى إلى تقارب البشر، وزيادة تفاهمهم وتعاونهم
فالفن إذن ليس زعامة فقط، وإنما هو أرقى الزعامات
ليت الداعين إليه يزيدون في الناس، وليت دعوتهم تذيع!
عزيز أحمد فهمي
حركة السير ريالزم
للأستاذ رمسيس يونان
(يجب أن نحقق لكل إنسان نصيبه من الخبز. . . ونصيبه من
الشعر. . .)
تروتسكي
يخطئ من يظن أن حركة السير ريالزم هي حركة أدبية أو فنية خالصة، وإن كانت تستخدم الشعر والقصة والرسم والسينما. . . ويخطئ من يظن أنها حركة سياسية بحتة، وإن كان القائمون بها يدينون بمذهب سياسي معين. وليست هي أيضاً مزيجاً من الفن والسياسة، فقد صرح (أندريه بريتون) زعيم الحركة مراراً وتكراراً بأنه لا يوافق على أن يتخذ الفن وسيلة للدعاية السياسية. وقد فصل (أراجون) من جماعة السير رياليين لأنه خالفهم في هذا الرأي. فما هي إذن حركة السير ريالزم هذه؟ وما غايتها؟
يصعب علينا أن نضع تعريفاً للسير ريالزم في كلمات قليلة. فإذا كان لابد من ذلك فعلينا أن نقول: إنها حركة اجتماعية فنية، سياسية، فلسفية، سيكولوجية. . . ولا بأس أن نضيف أيضاً أنها حركة دينية. فهي تستلهم شعر (ريميو) و (بودلير) و (توتريامون) وتأخذ عنهم حب الخيال الثوري البعيد عن المنطق وأساليبهم الغريبة في الشعور والتعبير. وتستلهم فلسفة (هيجل) في إيمانها بالحرية؛ وتدين مع (كارل ماركس) بالتفسير المادي للتاريخ؛ وتأخذ عن (فرويد) نظرياته في العقل الباطن؛ ثم هي فوق ذلك تحاول أن تعتمد على هذه العناصر جميعاً في خلق ميثولوجيا جماعية جديدة تناظر الميثولوجيات التي خلقتها الديانات القديمة
ومهما قالوا عن كارل ماركس، ومهما قالوا عن فرويد فلا شك في أنهما الرجلان اللذان استطاعا أن يؤثرا في الفكر الأوربي الحديث أكبر التأثير. فإلى كارل ماركس يرجع الفضل في تفسير التاريخ على أساس من حروب الطبقات وفي التنبؤ بثورة العمال وبدكتاتورية العمال، ثم بالعصر المقبل (الموعود) الذي تزول منه الطبقات وتكتمل فيه المساواة الاقتصادية. وقد تأثر العمال بالمذهب الماركسي فنشطت حركاتهم ونمت أحزابهم
حتى أصبح الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية أساس السياسة الأوربية في السنين الأخيرة؟ كما تأثر بهذا المذهب عدد كبير من رجال الفكر والأدب. . . وهانحن أولاء نرى أن أعلاماً مثل (برناردشو) و (ولز) و (أندريه جيد) و (مالرو) و (توماس مان) يدينون به وينافحون عنه
والسير رياليون كما قلنا يؤمنون بالمذهب الماركسي، ولكنهم يرون في نفس الوقت أن الدعوة إلى التحرير الاجتماعي يجب أن ترافقها دعوة إلى التحرير النفسي، فالنفس الإنسانية مكونة أيضاً من طبقات يتحكم بعضها في رقاب بعض. ولا سبيل إلى الوصول إلى التحرر النفسي ما لم تستطع أن نزيل الحدود التي تفصل بين العناصر المتنازعة في باطن النفس
ولقد أقنعنا (فرويد) بأن الشخص (السليم) من الأمراض النفسية هو نموذج مثالي لا وجود له. وما الفارق بين (العاقل) و (المجنون) إلا اختلاف في الدرجة ولا في النوع. والسبب الأساسي لهذه الأمراض جميعاً هو أن للنفس الإنسانية رغبات، كثير منها لا يتحقق بالنسبة للعقبات التي تقابلها من الوسط الخارجي، والطفل الصغير لا يدرك هذه العقبات ولذا كان خياله لا يعرف الحدود، فهو إذ يرغب في سيارة فخمة، أو في حصان مطهم، أو في قصر باذخ، لا يشعر بأن هناك عائقاً من العوائق يمكن أن يحول دون ما يبتغيه، ولكن رويداً رويداً يتعلم الطفل خلال ممارسته للحياة بأن رغباته جميعها لا يمكن تحقيقها، فيضطر إلى كبح هذه الرغبات ويتعود التسليم بالأمر الواقع. وكلما كبر في السن نمت فيه هذه العادة - عادة التسليم بالأمر الواقع. على أن الصراع بين الرغبات وبين الواقع يستمر طوال الحياة، فحتى الكهل وهو على أبواب القبر لا يستغني عن الأحلام.
وعادة التسليم بالأمر الواقع بين الناس هي الأساس الذي ترتكن إليه دعوات المحافظين، وهي العقبة الكأداء التي تقف في سبيل كل تجديد وإصلاح. ولما كان السير رياليون يؤمنون بضرورة تغيير النظام الاجتماعي الحاضر فإنهم يثيرون حرباً شعواء على هذه العادة
والأساليب التي يتبعونها في ذلك متعددة: منها ما سيمونه (تغريب) الأشياء أي نقلها من وسطها المألوف إلى وسط غريب عنها (المثل الكلاسيكي لذلك كلمة لوتريامون: '
' فمن المألوف أن نرى الأسرة في غرف النوم فإذا هي تفاجئنا في رسم سير ريالي على شاطئ البحر، وقد تعودنا أن نرى السحاب في السماء فإذا هو يباغتنا داخل الجدران. . . وهكذا نشاهد في الرسوم السير ريالية شجرة تنبثق منها ذراعان، وسمكة مضطجعة بجانب فتاة عارية، وعيناً تطل من وسط ثدي، وأجزاء من جسم الإنسان طائرة في الهواء، وهيكلاً عظيماً يرقص لأن سمكة بجانبه تغرد. . .
ولليسر رياليين أسلوب آخر في مقاومة عادة التسليم بالأمر الواقع هو اللجوء إلى إثارة الرغبات المكبوتة وتنشيطها وحفزها على التمرد. ومن هنا كلمة (سلفادور دالي) المشهورة: (يجب أن يكون الفن مغرياً بالأكل ' أي مغرياً بتحقيق الرغبة واجتلاب اللذة. وكلمة (نيكولا كالاس): (الفن معمل بارود ' أي وسيلة لهدم عاداتنا في التفكير والسلوك.
وهناك أسلوب ثالث هام من أساليب السير رياليين هو ما يسمونه الأسلوب (الأتوماتيكي) في الكتابة والرسم. وهنا يحاول الشاعر أو الرسام منهم أن يتجرد من رقابة عقله الواعي تاركاً لخياله العنان، حتى يصل إلى حالة تقرب من الغيبوبة، ثم يسجل كل ما يهب ويدب في نفسه من الخواطر أو يتراءى له من الأشكال
وقد استعار السير رياليون هذا الأسلوب الأخير عن فرويد. ففرويد يجلس مريضه على مقعد وثير مريح، ويوحي إليه بأن يرخي عضلاته ويرسل نفسه على سجيتها، ثم يبوح دون تحوط أو تحفظ بكل ما يخطر بذهنه من أفكار، وبكل ما يختلج في قلبه من عواطف. وبهذا يكتشف فرويد (العقد) التي تكونت من الرغبات المكبوتة في نفس المريض، فيصارحه بهذه الرغبات، ويحاول أن يقنعه بالتفكير فيها بعقله المنطقي الواعي وبالتنازل عنها إذا تعارضت مع حقائق الوسط الخارجي: يعني التسليم بالأمر الواقع. وهنا نقطة الاختلاف الجوهري بين فرويد وبين السير رياليين: فهؤلاء لا يريدون بحال من الأحوال سيطرة العقل الواعي على العقل الباطن، بل هم يريدون مواجهة العقل الواعي بالعقل الباطن، والمنطق بالخيال، والواقع بالحلم، والحقيقة بالخرافة، والحكمة بالجنون. . . محاولين أن يؤلفوا من هذه العناصر جميعاً أداة جديدة للتفكير والمعرفة والنظر إلى الأشياء
لهذا يتهم السير رياليون فرويد بأنه (قد اشترى جرأته في البحث العلمي على حساب التحفظ والتسليم بالأمر الواقع في الناحية الاجتماعية).
ثم إن السير رياليين لرغبتهم في نشر مذهبهم حتى يصبح (فلسفة عامة) بين الناس يصرحون بأن النبوغ الفني والكفايات الأدبية لا تهمهم. فجميعنا نشترك في الصراع النفسي بين الأحلام وبين الواقع؛ وعلى ذلك فكل منا يستطيع أن يأخذ بنصيب من مجهوداتهم، إذ الغاية المرجوة عندهم هي إشاعة (جو سير ريالي) في الحياة
والخلاصة أن السير ريالزم وإن كانت تعتمد كثيراً على المذهب الماركسي وعلى أبحاث فرويد، إلا أنها مع ذلك حركة مميزة مستقلة. وقد أشرنا إلى خلاف جوهري بين السير رياليين وبين فرويد، كما أشرنا إلى اختلافهم مع الاشتراكيين الذين يعتقدون - ونحن على رأيهم في مرحلة انتقال سريع - بضرورة توجيه المجهودات الأدبية والفنية جميعاً في سبيل الدعاية السياسية المباشرة.
رمسيس يونان
رسالة العلم
ألغاز الكون وأسراره وتطور مخ الإنسان
للأستاذ نصيف المنقبادي
شرفني عالمنا المصري المحقق الدكتور محمد محمود غالي بالرد على ما قام في ذهني من الحيرة بين ما يقرره العلم من أن الكون سائر لا محالة نحو السكون التام أو (الموت الحراري) بسبب تحول الطاقة كلها في العالم بأسره من صورها العليا كالكهرباء والطاقة الميكانيكية الخ، إلى صورتها السفلى وهي الحرارة المنخفضة الدرجة فلا تستطيع أن تتحول من جديد إلى صور أخرى منها، وبين ما يدل عليه العقل من استبعاد بل استحالة أن يكون للكون نهاية، لأنه لو كان هذا سيحدث لكان قد حدث من قديم الزمان. ومن البديهي أن ما لا بداية له لا يمكن أن تكون له نهاية
وإني اشكر للدكتور الفاضل النصائح الثمينة التي أسداها إلي من وجوب عدم الجزم بشيء خارج ما يثبته العلم التجريبي. وقد دل حضرته بهذا على أنه عالم بطبيعته يتحلى بالروح العلمية الحق. وأقول هذا على رغم تواضعه الذي جعله يرى عدم استحقاقه بعد لهذا الوصف. وهذه فضيلة أخرى للدكتور تدل على أنه على جانب كبير من أخلاق العلماء الحقيقيين وسعة عقولهم. وإني أقول جازماً ومؤكداً - برغم نصيحة الدكتور لي - بأنه سيكون مفخرة مصر في البيئات العلمية العالمية في القريب العاجل
والذي فهمته من مجموع رد الدكتور أن الموضوع الذي أثرته لغز من ألغاز الكون وسر من أسراره لا يستطيع العلم أن يحله الآن
وهذا قول حق وهو ما أعتقده من جهتي. أما العامل الغريب عن العلم الذي افترضه الدكتور افتراضاً ورمز إليه بلاعب العصا فإنه خارج عن نطاق البحث العلمي؛ وإني لا أرى له أي أثر في الطبيعة، ولا أجد في الكون ما يؤيده أو يدل على شيء منه ولو عن بعد. وهذه نواميس الطبيعة العمياء تسير على الدوام في طريقها لا تحيد عنه قيد شعرة، بدليل أن الإنسان يقيسها بالأرقام ويعرف نتائجها مقدماً قبل أن تقع، إذا عرفت أسبابها ومقدماتها، ويدخلها في معادلاته وحساباته. فيحسب مثلاً مقدماً تواريخ كسوف الشمس وخسوف القمر والسيارات الأخرى وغيرها، بالثانية وكسور الثانية في كل نقطة من بقاع
الأرض. أو ليست أساس جميع العلوم - العلوم الحقيقية اليقينية - القاعدة المنطقية البديهية القائلة بأن نفس الأسباب تنتج حتماً نفس النتائج: ، ، وبالجملة فإن أحوال الظواهر الطبيعية لا تدل على تدخل عوامل أخرى في سيرها، وإلا لظهر تغير من وقت إلى آخر في نظام النواميس التي يديرها، فتسير الأرض اليوم مثلاً بسرعة كذا في اتجاه معين، وتسير غداً بسرعة أخرى في اتجاه آخر، ويتصرف الراديوم تارة على وجه معين طبقاً لنواميس محدودة، وطوراً نراه يتبع طريقاً آخر ويجري على قواعد أخرى
وأظن أن الدكتور يذكر أكثر مني ما حدث لأحد العلماء الرياضيين الفلكيين - ولعله اسحق نيوتن - من أنه افترض نفس العامل الذي نحن بصدده لتصحيح ظاهرة فلكية تحدث في فترات بعيدة، تخالف ما تدل عليه الحسابات وتعجز عن تفسيرها النواميس المعروفة في ذلك الحين أو التي اكتشفها هو. ولم تلبث الأبحاث والاكتشافات التي جاءت بعد ذلك أن نفت ذلك الفرض وفسرت تلك الظاهرة التفسير العلمي الصحيح. فهذه سابقة لمحاولة فاشلة من هذا القبيل يجب أن تجعلنا على حذر من تعليل الظواهر الطبيعية بمثل ذلك العامل. وإن العلم حافل بمثل هذه السابقة، بل إن تاريخ العلم إنما هو تاريخ انتصاراته على تلك النزعة القديمة
وبالجملة فإن العلم يجب أن يكون محصوراً في تفسير ظواهر الطبيعة بالنواميس الطبيعية التي تقع تحت المشاهدة والاختبار، والتي يمكن قياسها أو قياس بعض نواحيها.
أما لماذا تجري النواميس الطبيعية هكذا، ولماذا هي تدير ظواهر الطبيعة على هذا النحو، وما الغرض من ذلك كله، فهذا لغز آخر من ألغاز الكون؛ بل إنه اللغز الأول وهو ما سماه هربرت سبنسر ' أي ما لا يمكن معرفته. ويتصل بهذا الموضوع ويتفرع منه المسألة التي نحن بصددها الخاصة بنهاية الكون طبقاً لآراء بولتزمان وقواعد علوم الميكانيكا والطبيعة أو علم الطاقة الجديد العام الشامل ' الذي يتوقع العلماء أن يندمج فيه عاجلاً أو آجلاً جميع العلوم الأخرى الطبيعية والبيولوجية
لي رأي خاص في هذا الموضوع عنَّ لي أثناء دراستي للعلوم البيولوجية، وهو أن عجزنا الحالي عن إدراك أمثال هذه (الألغاز) التي تشمل أيضاً الأمور الأخرى المستعصية الآن على العلم مثل الوراثة وأسبابها وكيفية حدوثها في الحيوانات والنباتات، ومثل الشعور في
الأحياء وفي الحيوانات على الأخص (بما فيها الإنسان) وكيف أن مواد كيميائية، أي جمادات محضة، مشتقة من الأرض والهواء بفعل العوامل الطبيعية، وعلى الأخص طاقة الشمس تشعر بوجودها وتحس بما يحدث لها - أقول إن عجزنا الحالي عن إدراك حقيقة هذه الأمور التي نسميها ألغازاً وأسراراً لا يدل على أنه من المحال معرفتها، وإنما يرجع ذلك إلى نقص في تكوين مخنا وعدم نموه بعد إلى الدرجة التي تجعله يستوعبها ويلم بخفاياها ويفسرها التفسير العلمي الصحيح
لا يخفى أن الحيوانات العليا الممتازة بشيء من الذكاء مثل الكلاب والفيلة والقرود الشبيهة بالإنسان المسماة (الشامبانزيه، والغوريلا، والأرونجوتانج، والجيوبون) تعجز عن إدراك معظم الأمور التي نعرفها نحن ونعدها من البديهيات. هي ألغاز وأسرار بالنسبة لها، ولو كان في وسعها أن تتكلم أو تكتب لوصفتها بأنها الأمور المجهولة التي لا يمكن معرفتها ' على حد تعبير هربرت سبنسر
ولا شك في أن هذا كان حالنا فيما مضى من الزمن قبل أن يتم تطورنا الإنساني بفعل العوامل الطبيعية. فلما تم هذا النمو ونما على الأخص مخنا بسبب الظرف الطبيعي الذي طرأ علينا في ذلك الماضي البعيد وهو اضطرارنا إلى الوقوف على الدوام على قدمينا الخلفيتين لتسلق الأشجار لنقتات ثمارها بسبب ما حدث في ذلك العهد من نقص الغذاء على الأرض من جهة، ونمو الحيوانات المفترسة من جهة أخرى. واستعمال أيدينا في القبض على فروع الأشجار وقطف ثمارها، ثم في تناول الأشياء والأجسام المادية الأخرى وفحصها والتأمل فيها، وذك مدة مئات الألوف من السنين - أقول إنه حين تم هذا النمو في مخنا أدركنا شيئاً فشيئاً كثيراً من الأمور التي ظلت غامضة على أجدادنا، وأخذت معلوماتنا تتسع بالتدريج إلى أن قام العلم وازدهى وساد العالم في عصرنا الحالي
وبطبيعة الحال لا يمكن القول بأن التطور الإنساني قد تم ووقف عند هذا الحد وهو لم يمض عليه اكثر من ثلاثمائة ألف سنة (متوسط تقدير العلماء) منذ أن تميز عن النوع الذي تفرع منه. ومعلوم أن حياة الأنواع الحيوانية والنباتية تعد بملايين السنين والمرجح أن يستمر التطور في المستقبل، غير أنه لا يمكننا أن نعرف من الآن الاتجاه الذي سيسلكه لأن هذا متوقف على العوامل الطبيعية والاجتماعية المختلفة التي تطرأ وتستجد من وقت إلى
آخر لأسباب محلية لا يمكن التنبؤ بها، ومن باب أولى لا يمكن حصرها مقدماً وتحليلها ومعرفة نتائجها
ولكن الظواهر كلها تدل على أن المخ سيواصل نموه على ممر الزمن في نفس الاتجاه الذي بدأ فيه بدليل اضطراد رقي الأمم المتحضرة عقلياً وتفوقها على الأمم المتوحشة تفوقاً تدريجياً مستمراً
فإذا استمر التطور في هذا الاتجاه فإن الفكر الإنساني يصل حينئذ إلى درجة من القوة تجعله يحل بسهولة المسائل المعلقة في العلم وفي الفلسفة ويسمونها الآن ألغازاً أو أسراراً ويكشف عن أسبابها ونواميسها الطبيعية، ويتحول الإنسان إذ ذاك إلى نوع جديد من الـ الذي يتكلم عنه نيتشه
وعلى الجملة فنحن الآن فيما يتعلق بتلك المسائل الغامضة المستعصية على عقولنا على ما كان عليه أجدادنا البعيدون بالنسبة للأمور التي لا تدركها عقولهم البسيطة ونعدها نحن من البديهيات نظراً إلى النمو الكبير الذي طرأ على مخنا أثناء تطورنا
وهناك بعض شواهد تؤيد هذا الرأي. فكلنا سمع بذلك الشخص المدهش الذي يقوم بأعمال كالمعجزات في الحساب دون أن يستعين بأية ورقة لأنه أمي لا يعرف القراءة ولا الكتابة. وقد اختبرته أنا وعدد من المعارف فكنا نكلفه بعمليات طويلة عويصة بأن نطلب منه مثلاً أن يجمع خمسة أو ستة أو عشرة أعداد كبيرة مكون كل منها من أرقام عديدة، أو أن يضرب عددين ضخمين الواحد منهما في الآخر، أو أن يقسم أحدهما على الثاني، أو أن يستخرج الجذر المربع أو المكعب لعدد من سبعة أو ثمانية أرقام الخ، وكنا بطبيعة الحال نحتاط بإجراء هذه العمليات على الورق مقدماً قبل أن نضعها له لتطابق إجاباته على نتائجها. وليتصور القارئ ما كنا نعانيه من التعب وبذل الوقت الطويل في ذلك. وكم كانت دهشتنا عظيمة كل مرة حين كان يفوه بالرد فإذا به مطابق تمام المطابقة لما وصلنا إليه بعد تسويد الأوراق الكثيرة. وإذا وقع خلاف فكان يتضح لنا من مراجعة حساباتنا أنه لم يخطئ هو في شيء بل إن الخطأ جاء منا
ويمتاز هذا الشخص بذاكرة للأرقام مدهشة خارقة للعادة، فإننا كنا نتلو عليه من أوراقنا الأعداد الضخمة الكثيرة المكون كل منها من ثمانية أو عشرة أرقام طالبين منه جمعها أو
ضربها أو قسمتها فكان يعيد علينا سردها دون أن يخطئ في رقم واحد منها. وأغرب من هذا مقدرته الغريبة على أن يجري معنوياً في الحال العمليات الحسابية الكبيرة المعقدة التي تطلب منه دون أن يستعين بالكتابة وهو يجهلها كما تقدم لنا القول. فلا شك في أن جزءاً من مخ هذا الشخص نما نمواً استثنائياً أكثر من المعتاد جعله يذكر الأعداد الضخمة التي تتلى عليه ويحسبها بتلك السهولة المدهشة، الأمر الذي يعجز عنه باقي الناس. وقد شاهد كاتب هذه السطور شخصاً آخر من هذا القبيل من سنين في باريس بولوني الجنسية
ومثل أولئك الحسابين الشواذ الأشخاص الذي نبغوا في الموسيقى من حداثة سنهم نبوغاً فوق الطبيعي، فترى الواحد منهم وهو في سن الطفولة يلتقط أية نغمة يسمعها لأول مرة ويعزفها على الآلات الموسيقية التي يجيدها لدرجة الإعجاب الكبير ويؤلف الأدوار التي يعجز عنها كبار رجال الموسيقى العاديين، ويقود الجوقات الموسيقية وقد لا يزيد عمره على العاشرة أو الثانية عشرة. والأمثلة عديدة من هذا القبيل وهي معروفة للجميع. فلا شك في أن مخ هؤلاء النوابغ الخارقين للعادة نما في ناحية منه نمواً أكثر من الحالة الطبيعية جعلهم يمتازون بتلك المقدرة التي يعجز عنها باقي الناس
وكذلك الحال بالنسبة لعظماء الرجال الذين نبغوا في العلم أو الأدب أو الفنون الجميلة أو الفنون العسكرية. فهذا بسكال العالم الرياضي الكبير استنبط من تلقاء نفسه وهو في سن الثانية عشرة النظريات الهندسية القديمة الأساسية قبل أن يدرسها. وهذا نيوتن مكتشف ناموس الجاذبية. وهذا جوت أو جيته العبقري الألماني الكبير مؤلف رواية فوست الخالدة فإنه لم ينبغ فقط في الشعر والأدب بل وأيضاً في العلوم البيولوجية وله اكتشافات جليلة في علوم الحيوان والنبات وتكوين الجنين تؤيد ناموس التطور والتسلسل الذي قال به وبحث فيه قبل داروين بخمسين سنة، لمناسبة ظهور نظرية لامرك سنة 1809. وهذا نابليون عبر بجيشه جبال الألب وفتح إيطاليا وهو لا يتجاوز الثانية والعشرين؛ ثم غزا مصر، ثم انتصر على أكبر قواد أوربا ودخل جميع عواصمها ظافراً وهو في مقتبل سن الشباب. وهذا فكتور هيجو العظيم. وهذا أينشتين، وغيرهم. ولا شك في أن مخ هؤلاء العظماء نما نمواً فوق المستوى الطبيعي لباقي البشر. والنمو المقصود هنا ليس في حجم المخ ولكن في تكوين خلاياه وصفاتها الطبيعية والكيميائية وتشعب فروعها واتصالها (أي اتصال الخلايا)
بعضها ببعض بواسطة هذه الفروع الخ. وبالجملة فإن النبوغ والعبقرية وقوة التفكير ترجع إلى نمو المخ
فلا يبعد أن يصل مخ الإنسان أثناء تطوره في المستقبل البعيد إلى درجة من النمو تجعله يحل بسهولة المسائل المستعصية عليه الآن ويردها إلى أسبابها الطبيعية فلا تعد ألغازاً وأسراراً
كما أنه يجوز مع شديد الأسف أن يتجه تطورنا اتجاهاً آخر بفعل عوامل جديدة وظروف تطرأ علينا نجهلها الآن فنتحول تحولاً يختلف كل الاختلاف عما نتوقعه فنصبح نوعاً مغايراً للنوع الإنساني الحالي ولنوع الـ الذي نصبو إليه بل قد نتحول إلى أنواع مختلفة قد يرتقي بعضها إلى تلك المرتبة العليا ويتأخر بعضها بالمعنى الذي نفهمه من الارتقاء والانحطاط، ذاك لأن الطبيعة لا تعرف هذه الفوارق التي لا توجد إلا في تفكيرنا ومن الخطأ تسمية ناموس التطور بناموس أو مذهب (النشوء والارتقاء) على الطريقة القديمة
نصيف المنقبادي المحامي
دبلوم في الفسيولوجيا العليا الحيوانية والنباتية من كلية العلوم
بجامعة باريس (السوربون)
لحظات الإلهام في تاريخ العلوم
تأليف مريون فلورنس لانسنغ
مقدمة
العلم هو الذي وصل بالعالم إلى ما هو عليه اليوم، فهو الذي ابتكر كل أداة في الحياة العصرية؛ ولكن العلم الذي نركن إليه في كل وسائل راحتنا ومتعنا ليس بالقوة الجامدة النائية التي تعمل عملها بيننا وهي عن نفوسنا بمعزل. إنما العلم معرفة إنسانية أفادها في بطئ، واحتمل في سبيلها الآلام رجال مثلنا وقد استخدموها لصالح النوع الإنساني
وهذا الكتاب يقدمنا إلى زعماء النهضات العلمية الذين خلفوا الدنيا الحاضرة. وفي الأقاصيص التي تضمنها هذا الكتاب نراهم في أسمى اللحظات التي أدوا فيها مهماتهم، وقد تضمنت كل العصور لحظات هي التي نسج منها التاريخ. وإنه ليبدو لنا أحد هذه المخترعات كأنه بداية لعهد جديد في حياة الإنسان مع أنه كان في العصر الذي وجد فيه يكاد لا يكون موضعاً للملاحظة إلا من القليلين البعيدي النظر الذين أنجزوه
ومن أمثلة الكشوف التي غيرت اتجاه العالم اختراع آلة الطباعة والآلات المتحركة بذاتها وآلات التخاطب على مسافات متباعدة سواء منها السلكي واللاسلكي. ووراء كل كشف من هذه الكشوف رجل أو طائفة من الرجال ميزتهم الجرأة أو المخاطرة والمهارة وحب الإفادة. وفي الصفحات التالية سير رجال ألفنا سماع أسماء بعضهم؛ والبعض لما نألفه، ولكننا مدينون لهم جميعاً بدين ضخم. وسنرى سيرهم في لحظات انتصارهم المثيرة. نحن جميعاً نعبأ بأنفسنا وبعالمنا. وكل مجموعة من السير تتعقب آثار الفكر الإنساني في أحد اتجاهاته فإنما يراد بها إشباع حياتنا العصرية بمجهود ذلك الفكر، وفي كل تريب موفق لكل مجموعة من هذه السير ما يمكننا من الإفادة منها. فاستكشاف النار مثلاً يبدو لنا أقل استغراقاً في الغابر عندما نتبين أننا لا نزال نعيش في عصر النار وإن كان بيننا من يتنبأ بأن أبناءنا وأحفادنا سيعيشون في (عصر الكهرباء) الذي بزغ فجره الآن
لقد اخترع أهل العصور الأولى العجلة، واخترع الرجل العصري الآلة التي تدير عجلات العالم، واستكشف كيف يستعمل الوقود وقوة الماء والكهرباء في تسيير هذه الآلة
لقد كان الرجل يريد دائماً أن يطير ولكن الآلة التي يديرها النفط هي التي جعلت هذه
الرغبة في حيز الإمكان
ولقد كان الزمان والمكان مشكلتين أمام أهل العصور الأولى، فكان الإنسان مضطراً إلى لزوم دنيا مزدحمة ضيقة هي دنيا وجوده الحاضر، فتمكن من السيطرة على اعتبار المكان بواسطة الكتابة والطباعة والتصوير الشمسي والآلة الناطقة، وتمكن من السيطرة على اعتبار الزمان بواسطة الساعة والمنظار المقرب وآلة البرقية والمسرة واللاسلكية والآلة البخارية والسيارة، وتمكن بواسطة الطيارة من انتصارات جديدة على اعتباري الزمان والمكان
يجد الصغار من البنين والبنات أنفسهم في هذه الدنيا العجيبة ويتوقون إلى استئناف النصر فيها ويطيبهم منها كل ما كان في الإمكان، فمما يساعدهم على تفهم الدنيا أن يعرفوا كيف شيد بناء المدنية الحديثة
وإن دراسة زعماء النهضات وتقدير ما نحن مدينون به لهؤلاء الزعماء بمثابة تقديم الشكر على الصنوف التي نتناولها من صنع أيديهم
وفي تلك الدراسة وفي ذلك التقدير ما يجعل الشبان أكثر زهواً بتراثهم الإنساني عندما يتبينون أن معارك العالم قد خاضها في كل العصور رجال ونساء مثلنا
وعندما يسطع على لوحة إدراكهم وميض اللحظات العظيمة في حياة العلم سيرون لمحات لا من الماضي والحاضر فحسب، بل من اللحظات العظمى في حياة الإنسان، لحظات الإلهام التي استمتع بها المخترعون والمستكشفون فكانت إيذاناً من الله بظهور هذه الاختراعات وتلك الاستكشافات
عصر النار
صنع النار. الصخر المذاب. الحديد
النار أنفس ما كان في حيازة الإنسان فتخيل كيف تكون الدنيا إذا انطفأ كل ما فيها من النيران، ولم يبق فيها من يستطيع إيقادها!
إن منازلنا تصبح باردة لا تطاق فيها الحياة، ويصبح طعامنا غير قابل للنضج، وتقف قطاراتنا وبواخرنا، وتمتنع عن العمل مصانعنا، ولا يمكن صنع الكثير مما نأكله أو نشربه
أو نلبسه أو نتولى إدارته بأيدينا
إننا نعيش في عصر جدير بأن يسمى حقاً (عصر النار).
ولقد بدأ عصر النار منذ آلاف كثيرة ة من السنين. وليس على وجه الأرض قبيلة ليس لديها أسطورة عن نشوء النار للمرة الأولى وصيرورتها في حوزة الإنسان. ذلك بأنه ليس في وسع مخلوق غير الإنسان أن يصنع النار، وأن مقدرته على صنعها جعلته في مستوى أرفع كثيراً من مستوى الحيوان، وكل أسطورة من هذه الأساطير تنص على أن النار كانت عند الآلهة، ويختلف بعضها عن بعض في بيان الطريق الذي حصل به الإنسان على النار، فيروي اليونان أن بروميذيوس صعد إلى السماء وأوقد شعلته من عربة الشمس، وسرق النار فنزل بها إلى الأرض. وقد كان الآلهة لا يريدون أن يحصل الإنسان على النار، لأنهم يعلمون أنه بعد حصوله عليها سيصبح كأنه واحد منهم، فهو بواسطتها يستطيع تعرف أسرار الأرض والانتفاع بكنوزها، وكانوا لا يرون أن يحبوه هذه المعجزة
ولا يعرف أحد حق المعرفة كيف عرف الإنسان سر صنع النار. وربما كان السر رؤيته البرق يصيب الغابات الجافة فيحرقها. وربما كان فيمن رأوا ذلك المشهد رجل أجرأ ممن عداه فاحتفظ بجزء من النار السماوية عندما وجدها تحرق الغابة بتعهده إياها وبتغذيتها بالوقود. فإن كان أحد قد فعل ذلك فمما لا ريب فيه أن قبيلته تعده مخوفاً محترماً لأنه عرف أسرار الآلهة. وقد كان في كل قبيلة أناس من مهمتهم أن يتولوا حراسة النار، فكانوا يتناوبون حراستها أناء الليل وأطراف النهار ويغذونها ويتعهدونها كيلا تخمد فيخسر الناس هذه الهبة الغالية من هبات الآلهة ويموت الإنسان برداً. والأرجح أن مئات من السنين منذ اليوم الذي عرف فيه الإنسان كيف يحتفظ بالنار قد مضت والإنسان منتفع بالنار دون أن يعرف كيف يحدثها. وكان كل ما في وسعه أن يبحث عنها حيث توقدها آلهة البرق أو إله الغابة، فيحمل منها قبساً إلى كهفه وينعم به. ثم جاء يوم صنع فيه الإنسان النار لنفسه، إما بسنه قطعة الخشب محددة على لوحة صلبة من البلاط، وإما بدق حجرين من الصوان. وعلى أي الفرضين فإن اللحظة التي استطاع فيها الإنسان صنع النار كانت أعظم لحظة في حياة الإنسان في عهده الأول، فإن وجود هذه القوة في يده مكنه من المفتاح الذي يستطيع به استخراج ما في الأرض التي يسكنها من كنوز.
ولما كنا لا نعرف حقيقة الأسطورة التي تنبئ عن استكشاف الإنسان النار لأول مرة، لأن هذا الاستكشاف أسبق كثيراً من العهد التاريخي وعهد الأساطير فإننا سنروي القصة التي يعتقدها أهل جزائر بولونيزيا عن رجل مخاطر جريء تمكن من معرفة أسرار العصي النارية وكيفية استعمالها في مأوى إله النار.
(يتبع)
ع. ا
من هنا ومن هناك
إلى أي طريق يتجه الشباب الألماني؟
(عن مجلة (باريد))
هل يستطيع هتلر أن يعتمد كل الاعتماد على الملايين التي حشدها لأجل الحرب؟
هذا سؤال جدير بالعناية والتفكير. ولقد كتبت مسز نورا والن المؤلفة المشهورة مقالاً في (الأفننج بوست) عن روح الشباب الألماني يلقي ضوءاً جديداً على هذا الموضوع.
يقول كثير من الألمان: (إننا لم نكسب الشباب). وتقول مسز والن: إنني لم أصدق هذا القول حتى شاهدت بنفسي كثيراً من الحوادث التي تؤيده.
إن الحالة في ألمانيا كما تبدو للعيان تدل على الانسجام والتوافق بين حزب النازي وبين الشباب في ألمانيا. فهم ينتظمون في الصفوف، وينشدون الأناشيد، ويهتفون ملء حناجرهم، ويرفعون أيديهم اليمنى للتحية، ويرتدون الملابس الحربية التي يؤمرون بارتدائها، وتبدو عليهم مظاهر الطاعة في كل شيء.
إلا أن كثيراً من هذه المظاهر تخفي وراءها المقت والاحتقار. وقد سمعت بعض الآباء يقول: (من يدري ماذا يفكر أبناؤنا؟ إن قليلاً منهم الذين يستطيعون أن يصرحوا لأمهاتهم أو آبائهم بذات نفوسهم إنهم على ما يظهر يضمرون لنا الكراهية والاحتقار، وإننا لم نكن كذلك في شبابنا)
ولقد سمعت بعض أساتذة المدارس يصف الجيل الحاضر في حذر واحترس فيقول: (إن الشباب الذي يعيش في ألمانيا اليوم جيل عجيب؛ فهم في ظاهرهم خاضعون للنظام والقوانين، وفي باطنهم على خلاف ذلك. فكل ما يمنعون منه لا يلبث أن يصير موضع بحثهم ومثار شهوتهم؛ فهم يبحثون عن الكتب المحرمة، ويسعون وراء الحصول عليها بهمة لا تعرف الملل. وكم تكون دهشة المعلم حين تنكشف له الحقيقة، ويجد تلاميذ فصله ملمين بهذه الكتب أكثر من إلمامهم بدروسهم المدرسية. إن لنا تراثاً عظيماً وذخيرة كبيرة من الآراء والأفكار الألمانية التي تناقض نظرية النازي. وعلى الرغم من الضغط الشديد الذي يلاقيه أطفالنا فإنهم لا يشبون على جهل بهذا التراث. فحرق بعض الكتب لم يكن ليخلي المكتبات منها. ففي ألمانيا عدد لا يحصى من الكتب الممنوعة التي يستطيع الشباب
أن يحصلوا عليها. إن الفكر الألماني وإن كان بطيئاً، إلا أنه ليس بليداً على الإطلاق. فهو سريع الانفعال، ومن السهل استثارته، ولكنه يكتشف المزاعم الخاطئة كيفما كانت).
وتقول مسز والن في مقالها هذا إنها سمعت بعض أعضاء النازي يقولون: (من يدري ماذا يكون إذا قامت الحرب؟ لقد جندنا جيشاً جراراً من أبناء ألمانيا، ولكننا لا ندري إلى أي ناحية سيتجه ذلك الجيش)
لقد زعزع حزب النازي الثقة التي وضعها فيه أبناء ألمانيا، فقد كانت مزاعمه الأولى التي اجتذب بها قلوب الشباب، مبنية على أساس من المثل الأعلى، فزعموا أنهم يعملون على ترقية الجنس وليست لهم رغبة في غزو بلاد أخرى أو إزعاج أهلها بأي حال. ولكنهم نقضوا العهد فساقوا الجيش لاحتلال بلاد غير بلادهم. وهذا أمر لا يرتاح إليه الشباب، فقليل بين الشباب الألماني الذين يميلون إلى روح الاستعمار البغيض
مذهب التعقيم
(عن (داي بروك) الألمانية)
كثير من المذاهب والأنظمة التي ظهرت في ألمانيا هذه الأيام وضعت للأجيال القادمة. وقد كان قانون التعقيم الذي يرمي إلى منع النسل العاجز أو المصاب بالأمراض المتوارثة، عن الظهور على مسرح الحياة، من القوانين التي قابلها العالم بالاهتمام، وعالجها بكثير من النقد والتمحيص
وقد أعلن الكثير من العلماء والمفكرين من مختلف الأمم، أن هذا المذهب سيكون له شأن كبير في تحويل وجهة التاريخ الإنساني، وعده آخرون رجعة إلى الهمجية والوثنية الأولى.
ولم يكن هذا القانون وليد الفكر الألماني وحده، فقد نبتت بذوره في الولايات المتحدة، وكثير من الأقاليم السويسرية، والولايات الاسكندنافية، وما زال الصوت يرتفع في كثير من الممالك ومنها بريطانيا العظمى، بتنفيذ مثل هذا القانون.
أما الأسباب التي أدت إلى ظهور هذا القانون فهي بسيطة يدركها الطفل الصغير، ولكن السبب الجوهري هو التكاليف الباهظة التي تتحملها الحكومة من جراء هذا النسل
فالطفل الصحيح الذي يتعلم في المدارس يكلف ألمانيا 75 ماركاً في السنة، بينما يكلفها
الطفل المصاب بنقص في قواه المدركة أضعاف هذا المبلغ. وتبلغ المصاريف التي تنفقها الحكومة من أجل الشخص المعتوه من 6 إلى 8 ماركات في اليوم. أما الأشخاص المصابون بالميول الإجرامية الذي يحتاجون إلى حراسة خاصة ورعاية صحيحة لتقويمهم، فيتكلف كل شخص منهم 20 ماركاً في اليوم
وقد ثبت أن العامل الألماني لا يكتسب في الغالب ما يعادل ما تنفقه الحكومة على الضعفاء والمعتوهين وأصحاب الآفات والمجرمين. فهل تسمح ألمانيا التي تكافح جهدها للاحتفاظ بكيانها بأن يستمر هذا التيار الجارف من النسل العاجز بغير انقطاع، فتضع على كاهل العمال عبئاً لا قبل لهم باحتماله، أو تخطو خطواتها المباركة لقطع هذا النسل. . .
وقد شمل قانون التعقيم الصم والبكم والعمي الذي خلقوا بهذه الآفات وإن كان الكثيرون منهم لا يكونون عالة على الحكومة بعد تعليمهم، فهناك سبب آخر ساعد على تنفيذ هذا القانون عليهم قد يكون أكثر أهمية من أي سبب آخر. ذلك أن عدد ذوي العاهات قد يتجاوز عدد الأصحاء إذا ترك على ما هو عليه
وقد اصبح الرجال ذوو المكانة والعقول الراجحة في ألمانيا يكتفون من النسل بطفل أو طفلين، وأصبحت العائلات الصحيحة تتجنب كثرة الأطفال، هذا فضلاً عن الوقت الذي يصرفه أبناء الطبقات الممتازة في التعليم والتخصص في الدراسات العالية مما لا يمكنهم من الزواج قبل سن الثلاثين. بينما يتزوج ذوو العقول الضعيفة في سن تتراوح بين الثامنة عشرة والخامسة والعشرين
وعلى هذا القياس لا يمضي مائة عام حتى تكون نسبة النسل الضعيف قد تجاوزت نسبة النسل الصحيح عشرات المرات
وقد أخذت الحكومة الألمانية تراقب هذه الأحوال بيقظة ودقة وتبذل غاية جهدها لإخراج جيل قوي صحيح
البريد الأدبي
بحر العرب لا بحر الروم
كثير من الكتاب يسمون البحر الأبيض المتوسط (بحر الروم) حين يحلو لهم أن يذكروا التسمية القديمة لذلك المحيط
وأنا أقترح أن نسميه (بحر العرب)
وهذا الاقتراح له أساس من التاريخ. فقد كان من أسلافنا من يسميه (البحر الشامي) وذلك اسمه في أكثر كتابات ابن فضل الله العمري صاحب (مسالك الأبصار)
والواقع أن الشوام هم أقدم من انتفع بذلك البحر: بحر العرب، وهم أقدم من عرف أنه موطن استغلال، حتى جاز القول بأن الفينيقيين القدماء هم الذين أسسوا مدينة مرسيليا منذ نحو خمسة وعشرين قرناً. ومرسيليا هي عروس الشاطئ الفرنسي من بحر العرب، ولا يفوقها في الحسن غير الإسكندرية وهي عروس الشاطئ المصري من بحر العرب، وربما كانت الإسكندرية أجمل مدن الشواطئ على الإطلاق، ولذلك تفصيل سنطالع به القراء بعد حين
فما رأي الأستاذ إسعاف النشاشيبي في هذا الاقتراح؟
أنا أظن أن عنده شواهد كثيرة تؤيد القول بأن البحر الأبيض المتوسط هو بحر العرب لا بحر الروم، وانتظر أن يتسع وقته لتعريف القراء بما كان يملك العرب من السيطرة على هذا البحر أيام ازدهار الحضارة العربية
وصدق بدوي الجبل حين قال:
أيها البحر أنت مهما افترقنا
…
ملك آبائنا وملك الجدود
زكي مبارك
الجبر والاختيار
جاء في المقال الأول للأديب السيد محمد العزاوي المنشور في العدد 318 من الرسالة ما يأتي:
(أما رجال الدين والكلاميون من المسلمين فقد خاضوا فيها (أي مسألة الجبر والاختيار)
وكان همهم الأول البرهنة على أن الإنسان إما خالق لأفعاله فهو مسئول عنها أمام الله في القيامة، ويحق عليه الجزاء ثواباً وعقاباً، أو أن الإنسان وأفعاله من خلق الله، فلا يكون ثمة حساب أو عقاب. وهمهم الثاني هو البحث في معرفة الله لما يحدث: أهي قبل الحدث أم بعده)
ونحن نرجو من الأديب الفاضل أن يصحح هذا القول، فإن المسلمين، القائلين منهم بأن الإنسان خالق لأفعاله وغير القائلين، متفقون على أنه مسئول عنها أمام الله، وعلى أنه مجزي بها؛ فإن أهل السنة لا يقولون بأن الإنسان خالق لأفعاله، ولكنهم لم يجعلوا خلقه لأفعاله أساساً لاستحقاق الجزاء، ولا عدمه لعدمه. فقوله (أو أن الإنسان وأفعاله من خلق الله فلا يكون ثمة حساب أو عقاب) بعيد كل البعد عن الحق. وكذلك قوله (وهمهم الثاني هو البحث في معرفة الله لما يحدث: أهي قبل الحدث أم بعده) في غير محله أيضاً، فإن المسلمين لا يختلفون في أن الله تعالى عالم بكل ما يحدث قبل حدوثه، إلا أنهم قالوا:(إن علمه بالمتجددات على وجهين: علم غير مقيد بالزمان، وهو باق أزلاً وأبداً لا يتغير ولا يتبدل؛ وعلم مقيد بالزمان وهو علمه تعالى بالمتجدد أو المتغير، وهذا العلم متناه بالفعل بحسب المتجددات، وغير متناه بالقوة كالمتجددات الأبدية. والعلم لا يتغير بحسب الذات، ويتغير من حيث الإضافة، ولا فساد فيه، وإنما الفساد في تغير نفس العلم) نعم قالت فرقة من القدرية: (إن الله لم يقدر الأمور أزلاً، ولم يتقدم علمه بها وإنما يأتنفها علماً حال وقوعها) ولكن هذه الفرقة قد خرجت بهذا القول عن الإسلام (فقد كفرهم عليه الإمام مالك والإمام الشافعي، والإمام أحمد وغيرهم من الأئمة) على أن هذه الفرقة لو عدت من الإسلام لا يصح أن يجعل قولها - وهو من الضعف ما هو - مقابلاً لقول سائر المسلمين، أو على الأقل لا يصح الادعاء بأن هم رجال الدين والمتكلمين هو البحث في هذه المسألة على هذا النحو
وجاء في هذا المقال أن المعتزلة قالوا: (بأن الله لا صفات له غير ذاته، فشاركوا الجهمية في هذا الأصل)
وهذا الكلام يحتاج إلى تصحيح، أولاً من جهة عدم توضيح قول المعتزلة، فإن تركه بلا توضيح يوهم إنكارهم الصفات إنكاراً غير حميد كما يدل عليه اعتبارهم شركاء للجهمية
فيه. وهم إنما يقولون: إن صفاته عين ذاته، أي أن ذاته تسمى باعتبار التعلق بالمعلومات عالماً، وبالمقدورات قادراً إلى غير ذلك، أي بمعنى أنه عالم بذاته لا بأمر زائد على ذاته (العقائد النسفية وحواشيها ص 106). وثانياً يحتاج الكلام إلى تصحيح من جهة ادعاء مشاركتهم للجهمية في هذا الأصل، أي أصل إنكار الصفات؛ فإن (الجهمية وطوائف أخرى ملحدة يعطلون الأسماء والصفات تعطيلاً يستلزم نفي الذات المقدسة)
(فلسطين)
داود حمدن
اللغة العربية والجامعة المصرية
في مقال الدكتور زكي مبارك المنشور في العدد 318، كلام طيب في مؤاخذة القائمين على التدريس بكليات الجامعة. إنهم زعموا أن بالعربية قصوراً عن حاجة العلم، كأنهم يريدون أن يجدوا للمخترعات الحديثة (دون تعب منهم ولا سعي) أسماء في معاجمنا القديمة، فإذا لم يجدوا وصموا خير اللغات بالعجز والقصور، وما العجز في الواقع إلا عجزنا، وما العيب إلا فينا وفي هممنا. والكنز لا تنتفع به حتى ننبش فوقه بالمعاول
ونحن (في الشام) ما ينقضي عجبنا من قيام كليات في الجامعة المصرية على عقوق العربية إلى اليوم، بينما أثبتت الجامعة السورية منذ عشرين عاماً (في عمل صامت) صلاح العربية لتكون لغة علم. قام أساتذتها (وهم خريجو أرقى معاهد الغرب) يدرسون العلوم بالعربية ولاقوا في هذا السبيل عناء جاهداً. ولا ريب أن الأمر شاق لا يحمله إلا بطل يبذل له ما يبذل المجاهد الشجاع في الميدان
وخير برهان على اتساع لغتنا هذه المؤلفات العلمية الجامعية الضخام التي ألفها لسد حاجة الجامعة الدكاترة الأساتذة: الخياط. سبح. الشطي. الخاني. خاطر. . . وغيرهم؛ بل إن بعضهم طبع معجماً خاصاً بالمصطلحات التي وضعها لفنه، وما أظن أن ذوي الشأن في مصر علموا بهذا
وحبذا لو تبادلت الجامعتان العربيتان في مصر والشام نشراتهما وأنظمتهما ومطبوعات أساتذتهما ومعاجمهم ومصطلحاتهم. ثم تداولتا الرأي بما ينهض التأليف العلمي بلغة العرب.
والوطن يشكر الذين رفعوا اسمه بأعمالهم كما يشكر غيرة وزير معارف مصر وجهد الدكتور زكي مبارك.
(دمشق)
س. أ
حول الوحدة العربية
قرأت في العدد (319) من الرسالة مقالاً للأستاذ عز الدين التنوخي عضو المجمع العلمي العربي بدمشق تأييداً لما يكتبه الأستاذ أبو خلدون ساطع الحصري بك نقداً لكتاب (مستقبل الثقافة في مصر)
وقد عرض في هذا المقال لمبحث طريف حين طلب إلى الدكتور طه حسين أن يكون أديب الأقطار العربية كلها أولى من أن يكون في قطر واحد أديباً! ثم قال: (. . . أوليته - وهو مسلم مصري - خاطب العرب بما خاطبهم به الأستاذ مكرم عبيد - وهو النصراني المصري - وهو لذلك أشد اتصالاً منه بالفراعنة ذوي الأوتاد!)
وبهذه المناسبة أقتبس شيئاً من مقال للأستاذ مكرم عبيد في هذا الموضوع يجنح إلى تحليل فكرة الوحدة العربية وتأييدها وذكر أنه قابل الأستاذ مكرماً في دمشق وسأله عن تلك النعرة الفرعونية في مصر وأنه لا يزال يذكر أن الأستاذ أجابه بما معناه: نحن عرب في مصر ولا نمجد الفراعنة إلا لأنهم عرب!
وأنا أقول إن الأستاذ مكرم عبيد وإن كان أديباً كبيراً (ومن نوابغ مصر في ثقافته وأخلاقه ووطنيته) إلا أنه سياسي عتيد، ولا يخفى ما في جوابه السابق من أساليب السياسيين، ولعل ذلك لم يغب عن الأستاذ التنوخي! فإن فكرة رد الفراعنة إلى أصل عربي يطول مداها، وتصل بنا إلى غور التاريخ مما لسنا في حاجة إليه اليوم. خصوصاً وإني أعلم أن فكرة كراهية الفرعونية في مصر ترجع إلى سببين: أحدهما سياسي والآخر ديني؛ أما السياسي فهو أنها تقف حجر عثرة في سبيل الوحدة العربية كما يراها أنصارها. وأما الديني فيرجع إلى فكرة خاطئة هي أن فرعون قد ذكر في (القرآن الكريم) بأنه حاكم باطش مستبد بالرسل. . . وهذه الفكرة خاطئة لأن فرعون الباطش الفرد لا يعني فراعنة ثلاثين أسرة
حاكمة توالت على عرش مصر في مدى ثلاثة آلاف سنة أو يزيد. وإذا كان موسى عليه السلام قد لقي من عنت فرعون ما دفعه إلى الخروج بقومه من مصر، فإن يوسف عليه السلام قد لقي عند فرعون إكراماً وتقديراً لمواهبه واستغلالاً لتلك المواهب في حكم البلاد. قال تعالى:(وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي، فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين. قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم. وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء. نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين)
هذه هي نقطة الضعف في السبب الديني الذي يدعو إلى كراهية الفرعونية في مصر. أما السبب السياسي وهو أن الفرعونية تقف حجر عثرة في سبيل الوحدة العربية فذلك أنهم يريدون أن تقوم هذه الوحدة على أساس الاشتراك الجنسي دون العنصرية أو القومي، فهم لذلك يريدون أن يفرضوا العربية على جميع الذين يدخلونهم في نطاق هذا (الحلف العربي) أو (الاتحاد العربي) ويستعظمون أن يتسمى أحدهم بغير هذا الاسم. فأنا آخذ عليهم هذا. وذلك أن العرب خرجوا من جزيرتهم - التي هي وطنهم الأول الخاص بهم - يحملون مشعل الإسلام في أيمانهم فنزلوا على الشعوب الأخرى واختلطوا بها اختلاطين: اختلاطاً ثقافياً واختلاطاً جنسياً. . . فأما الثقافي فبني على أساس الإسلام والقرآن والأدب العربي، وأما الجنسي فعلى أساس المزاوجة والمصاهرة. ولا شك أن الاختلاط الأول كان أفعل من الثاني؛ فإن الجنسيات الأصيلة في البلاد المفتوحة لم تمح محواً إن لم تكن قد حافظت على تغلبها في أكثر تلك البلاد، بينما غلبت الثقافة العربية على جميعها وإن كانت المؤثرات الجديدة التي صحبت التوسع العربي قد استدعت منذ انتهاء الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية، أن يعترف بانتهاء تسميتها (بالدولة العربية) فأصبح المؤرخون يسمونها بعد هذا التاريخ (بالدولة الإسلامية)!
وإني ارجوا ألا يفهم من هذا أنني لا أؤيد وجود وحدة بأي نوع من الاتحاد وتحت أي اسم من الأسماء، ولكني أوجه إلى أقرب الطرق إلى تحقيق حلم من هذا النوع. . . إن مباحث الأدب والتاريخ لا تنتهي، ولكنها تصبح عظيمة الجدوى إذا اصطحبها النظر إلى واقع الظروف القومية والاجتماعية الملابسة، وقد تتحقق الوحدة المنشودة بإرشاد المخالفين لها أكثر مما تتحقق بإرشاد المؤيدين، فإن الناظر إلى حالة كل دولة شرقية على حدة يدرك
طول الأمد المطلوب لتحقيق شيء من هذا القبيل للانحلال الظاهر في كل عضو من أعضاء هذا الجسم على انفراد، فليكن العلاج علاجاً لكل عضو مستقلاً عما سواه، حتى يصح الجسم بصحة جميع أعضائه!
وبعد ذلك، أفلا يرى معي كل منصف أن الدعاة إلى القومية قد يكونون هم اصلح الدعاة إلى وحدة عربية أو إسلامية قوية منيعة في وقت ليس قريباً جداً، وأن من يراد له أن يكون أديب الأقطار العربية كلها لا أن يكون في قطر واحد أديباً، قد يكون هو أديب الأقطار العربية الحق، الذي يمهد السبيل القويم - وإن كان بطيئاً - لوحدة هذه الشعوب التي تدين بدين واحد في أغلبها، وبأماني وطنية واقتصادية واحدة في مجموعها؟!
(شبرا - مصر)
عامر محمد بحيري
العربية والإسلامية
دفعني إلى معاودة الكتابة في هذا الموضوع الرد الذي قرأته موجهاً إلي في العدد (320) من (الرسالة)، على أن مثل هذا الموضوع لا يعتذر من كثرة الكلام فيه، وإنما يعتذر (ولا يعذر) من قصر الكلام فيه، ولم يبن حقيقته
والمسألة هي أن هناك أخوة إسلامية دينية، وهنالك وحدة إسلامية سياسية، وهنالك إسلام وهنالك مسلمون، ولابد من فصل كل واحدة من هذه المسائل عن الأخرى
فكون المؤمنين اخوة، وكون المسلم أخاً للمسلم ولو اختلفت الديار وتباينت اللغات أمر مسلم به ديناً، ولا يكون مسلماً من ينكره لأن الآثار القطعية تواردت عليه، ولأنه أصل من أصول الدين، ولأن شعائر الدين كلها من نحو الصلاة والزكاة والحج والأحكام الفقهية تدور كلها على اعتبار الناس أصنافاً: مسلمين وذميين ومحاربين، ففي إبطال الأخوة الإسلامية واتخاذ الأخوة العربية أو الوطنية خروج صريح على الدين الإسلامي
هذا من ناحية الدين، وليس معنى هذا أن الإسلام ينظر إلى المواطنين غير المسلمين نظر العدوان أو يسقط حقوقهم أو يعاملهم على نحو ما يدعي من ينادي بحماية الأقليات، بل الحقيقة التي يعرفها كل من له أقل اطلاع على الإسلام، أن الإسلام يحفظ للمواطنين غير
المسلمين كل حقوقهم ويضمن لهم حرياتهم، فليفهم هذا
أما الوحدة الإسلامية وتحقيقها عملياً فشيء آخر لا نبحث فيه الآن، ولكننا نعتقد أن له مائة طريق إلى تحقيقه، وحسبك علماً بنظام الإمبراطورية الإنكليزية الذي استطاع أن يضم ممالك منثورة في كل آفاق الأرض لتعلم أن الفكر البشري لا يعجزه حين استكمال هذه الشعوب قوتها وحريتها، إيجاد نظام صالح للوحدة
أما الاحتجاج بعمل بعض المسلمين اليوم وموقفهم من فلسطين فلا يقوم حجة على الإسلام، لأنه فرع منه ولأن الدين مبدأ ثابت لا يعد عدم اتباع فئة من المنتمين إليه لأوامره وأحكامه نقصاً فيه. وأما نفي مساعدة المسلمين في الهند لثورة فلسطين فباطل، والأموال الكثيرة التي انهالت من الهند على مجاهدي فلسطين لا يستطيع نكرانها أحد
(دمشق)
ناجي الطنطاوي
حول معنى بيت
قال الأستاذ الصعيدي في العدد (319) من الرسالة تعقيباً على هذا البيت المنسوب إلى معاوية
قد كنت تشبه صوفياً له كتب
…
من الفرائض أو آيات قرآن
مقالته الآتية: (ومثل هذا لا يمكن أن يقال في عصر معاوية لأن نظام التصوف لم يكن قد حدث في ذلك العصر ولم يكن فيه كتب في التصوف يحملها المتصوفة وغيرهم).
أما إنه لم يكن هناك كتب في التصوف في ذلك العصر فهذا صحيح، لأن أول كتاب وضع للناس في التصوف هو كتاب (اللمع) لواضعه الشيخ أبي نصر عبد الله بن السراج الطوسي المتوفى سنة 649هـ. وقد قام المستشرق الإنكليزي نيكلسون بنسخه وتصحيح وطبع في مدينة ليدن 1914. بيد أن هذا البيت لا ينهض دليلاً للأستاذ الصعيدي على أن قصة سعد وسعاد موضوعة فقد فهم كلمة (كتب) في البيت على ظاهرها
والذي أراه في تفسير هذا البيت أن أسلوبه مقتبس من أسلوب الذكر الحكيم: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً) أي مكتوباً موقوتاً، والمكتوب هو المفروض: أعني
مفروضاً محدداً بوقت لا يتعداه. فكلمة (كتب) ليس المراد منها في البيت هذه المدففات من مخطوطات أو مطبوعات، وإلا فما معنى من الفرائض؟ بل هي جمع كتاب بمعنى المكتوب عليه أي المفروض فيكون الأسلوب هكذا: له مفروضات من الفرائض، كما تقول أقمنا بها عمراً من العمر. ومعنى البيت إذن:(قد كنت يا مروان في مبلغ يقيني بك تشبه الصوفي الذي جعل لنفسه مفروضات من الفرائض يتعبد بها أو آيات قرآن يرتفع بها فلا يسف إلى وهدة الآثام)
وبهذا يسلم البيت من الاعتراض التاريخي الذي يوجه إليه على تفسير الأستاذ الصعيدي. أما أن القصة موضوعة أو واقعة فهذا منحى آخر
أحمد عبد الرحمن عيسى
رسالة النقد
نظرات في كتاب
(بعث الشعر الجاهلي)
تأليف الدكتور مهدي البصير
للأديب خليل أحمد جلو
الكتاب - كما يحدثنا المؤلف - عدة فصول من كتابه (الأدب العربي قبل الإسلام) الذي نقله إلى الفرنسية وعرضه بشكل أطروحة في السوربون. فأخفق لأن المستشرقين لا يرحبون بكتاب يشيد بالأدب العربي ويحيي ما اندثر منه، فاضطر إلى تأليف كتاب في الأدب الفرنسي البحت فاطمأنوا إليه وأجازوه الدكتوراه!
والكتاب - بتعريف آخر - هو مجموع المحاضرات التي ألقاها صاحبه على طلاب دار المعلمين العالية ببغداد
والكتاب إذا أردت أن يفطن إليه أهل العراق، قلت هو كل ما ألقاه الدكتور من أحاديث في دار الإذاعة اللاسلكية في الصيف المنصرم
ولا تحسبني أيها القارئ الكريم من الكاذبين إذا تفقدته في الأسواق فلم تجده، فإن وزارة المعارف قد اشترته وهو في المطبعة بثمن يدل على عطف وتشجيع، فأنقذت صاحبه من عناء التصريف وحسرة البوار، وأخذت بما يروى:(ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) وهل أحد من الناس أولى من الأديب بالرحمة والإنعام في هذا الزمان!؟
إن الدكتور كان بخيلاً على أصحاب المكتبات أن يرتزقوا منه، وكان ضنيناً على القراء أن ينتفعوا به. فهل أمن النقد حين استخفى كتابه عن السوق؟ وهل اطمأنت نفسه حين فرضه على طلابه في دار المعلمين العالية فرضاً ألا تذيع نواقصه وتنشر عيوبه؟ وهل نجحت حيلته حين أذاعه في المذياع العراقي ارتجالاً ولم يسمح للصحف والمجلات أن تنشره؟
لقد خابت ظنون الدكتور، ولم يفت النقاد المترصدين أن يصمدوا له ويتناوشوه. فاليوم عليه (البعث) وعلينا (الحساب)
ولأكن عند حسن ظن الدكتور! فلست أبغي التعريض بشخصه ولا المس بذاته وهو من
ذوي الماضي المجيد، ومن دعاة الحركة الوطنية، وممن صاول وقارع البغاة المستعمرين، وممن لهم كرسي رفيع في دار المعلمين العالية
اقتضى هذا الإطراء ما أعرفه عن الدكتور من ضيق الصدر بالنقد واحتباس نفسه منه سواء أكان موجهاً إليه أم إلى غيره. واقتضاه أيضاً سوء الظن بالنقاد والارتياب بما يؤاخذون به المخطئين. ألم تلاحظوا الدكتور زكي مبارك لا يفتأ يعلن صداقته وحبه لأحمد أمين في رده عليه، وبعض الناس لا يفتئون يتهمونه بالأغراض والمقاصد، بل وأشركوا معه صاحب الرسالة؟
فليعلم الدكتور - غير معلم - أني لا أضمر له كرهاً وليس لي معه مآرب، وأن الأدباء من حسناتهم النقد النزيه، ولعل ربك يريد أن يسبغ علي بعض حسناته حين قيض لي نقد كتاب (بعث الشعر الجاهلي)
أما بعد فإن كتابك يا سيدي ناقص من عدة وجوه لزم علينا تبيانها واستقصاؤها
أولاً: إنك اقتصرت في بحثك على خمسة شعراء هم امرؤ القيس، وزهير، وعمرو بن كلثوم، والحارث، وعنترة، وتركت الآخرين مقبورين لم تبعثهم. فهل أنكرتهم وشككت في تراثهم؟ وإذا كان ذلك فأين الدليل والبرهان؟ وإذا لم يكونوا من صلب بحثك فلم سميت الكتاب (بعث الشعر الجاهلي) الذي يقتضي ألا تدع ارتياباً في شاعر جاهلي ولا شكاً فيما روي عنه من قريض. هل تعتقد أن ما أغفلته حقيقة مسلم بها لا تحتاج إلى التنويه والإشارة على الأقل؟
إن الذي يطمع أن يبعث الشعر الجاهلي يجب ألا يدع شاردة ولا واردة منه إلا استقصاها وامتحنها، وإن من النقص الفظيع أن تكتفي في بحثك بخمسة شعراء. وهل تناولت غير شرح معلقاتهم كأن لم يكن لهم من دون المعلقات قصائد وأبيات أخر تحتاج إلى التدقيق والتحقيق؟!
ثانياً: لم يخطر على بالك أن تستعرض رأياً من آراء المستشرقين واستدلالات المنقبين الأثريين مثل (نولدكه) و (جويدي) وغيرهما من الذين كانوا الأساس الذي اعتمد عليه الدكتور (طه حسين) والمنبع الذي أخذ منه في إنكار الشعر الجاهلي أو الإغراق في الشك فيه. وركنت إلى المصادر العربية القديمة دون ترو واحتراس ودون جدال ولا مناقشة.
ولخصت حياة الشعراء متجنباً كل ما يدعو إلى الشك والارتياب ويعوزه التدليل والبرهان. وشرحت المعلقات ولم تر حاجة أن تستهلها ببحث يقرر أنها جاهلية وأنها ليست في مجموعها أو بعضها من انتحال الرواة أو اختلاق الأعراب، أو صنعة النحاة، أو تكلف القصاص، أو اختراع المفسرين والمحدثين والمتكلمين. وهل يصح لكاتب يريد أن يبعث الشعر الجاهلي بعد أن حامت حوله الشكوك والأوهام أن يغفل عن ذلك؟ وهل يبعث الشعر الجاهلي بسرد حياة الشعراء وشرح معلقاتهم كما يدرسها طلاب المتوسطات
ولابد أن اروي لك نماذج من بحثه لتستدل على صدق ما أقول ولؤمن أن البحث العلمي الصحيح يمقت ذلك
يقول الدكتور البصير مقرراً وجود عمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة اليشكري: (إن منابع التاريخ العربية في القرون الوسطى تذكرهما وتروي لهما. إذن فلا سبيل إلى إنكار وجودهما ولا إلى الشك في شاعريتهما)(ص 48 - 49). ويعتقد أن القارئ قد أقنعه هذا البرهان، وأنه لا يمكن أن يقال أكثر من ذلك في إثبات الشاعرين، فيصدر أمراً عسكرياً (بالشروع بالبحث حالاً) عن شرح معلقتيهما
مهلاً يا دكتور! إن قولك لا يطمئن إليه اشد الناس سذاجة حتى تنفي عن ذهنه ما أحيط به عمرو بن كلثوم من أساطير جعلته أقرب إلى أبطال القصص منه إلى أشخاص التاريخ. وحتى تقنعه بالنص التاريخي أو الأدلة المنطقية التي تقرب إلى عقله صحة ما وقع بين آل المنذر وبني تغلب من ناحية، وبين ملوك الفرس وأهل البادية من ناحية أخرى. وحتى تدحض شكوك الرواة في بعض المعلقة واختلافهم في الأبيات الأولى: أقائلها عمرو بن كلثوم، أم قالها عمرو بن عدي بن أخت جذيمة الأبرش. وأنت مضطر أيضاً، إذا أردت أن تفهم أشد الناس سذاجة، أن تعلل ما في قصيدته من تكرار في الأبيات والحروف، وشذوذ عن سلامة الطبع البدوي
وجدير بك وأنت تبحث في قصيدة الحارث التي آمنت بصحتها أن تقنع القارئ بأنها ارتجلت ارتجالاً، ولم يفكر فيها الشاعر تفكيراً طويلاً ويرتب أجزاءها ترتيباً دقيقاً.
تراني أيها القارئ الكريم أطيل عليك فيما يجب أن يتناوله الدكتور مهدي البصير في بحثه عن الشاعرين: عمرو والحارث ومعلقتيهما. ولكن الحق معي فإن كتابه يدعى (بعث الشعر
الجاهلي) لا (بحث في الشعر الجاهلي)، وإن الكتاب ألقي على طلاب دار المعلمين العالية ولم يلق على طلاب المتوسطات. وإني منتقد يجدر به أن يدلي إلى الدكتور بما لاحظه من نقص وإغفال ويرشده إلى طريقة البحث العلمي الصحيح لعله ينتصح ويتلافى هذه الأغلاط
ولندع ابن كلثوم والحارث ولننتقل إلى زهير وامرئ القيس
أما زهير بن أبي سلمى فإن الدكتور لا يجد صعوبة ولا مشقة في إقرار شخصيته التي تتناقلها المصادر العربية القديمة وأشعاره التي ترويها، فيحدثنا في مستهل حديثه عن زهير:(إننا لسنا بحاجة إلى إقامة الأدلة التاريخية على أن زهير بن أبى سلمى قد وجد حقيقة وقرض الشعر)(ص 31) ثم يقتصر (على درس معلقة زهير) ويقصد بالدرس هنا تفسير الغريب من ألفاظ المعلقة وشرح بعض المعاني فقط. ولا أظنك ترميني بالغلو إذا قلت إن الذي يريد أن يبعث الشعر الجاهلي ملزم في كلامه عن زهير أن يبحث عن نسبته إلى مزينة، وإقامته في غطفان، وكونه من أسرة معروفة بقرض الشعر؛ وحظوته عند هرم، ورأي النقاد الحديثين والرواة الأقدمين فيه، وعلاقته بالإسلام مع ذكر الأدلة والشواهد التي تقنع القارئ بصحة ما يقول. وهل يثبت ما ذكره في مستهل حديثه أن قصيدة الشاعر جاهلية وأنها لزهير وأن ليس للمنتحلين يد فيها؟ وهل يصح له أن يغفل ما يتحدث به الرواة عن زهير: أنه تنبأ بالإسلام قبل البعثة، وأنه أوصى ابنيه كعباً وبجيراً أن يسلما، وأن له شعراً فيه أصول دينية إسلامية، وأن النبي رآه فاستعاذ بالله من شيطانه فانقطع زهير عن الشعر حتى مات؟
أما حديثه عن امرئ القيس فهو غاية في الظرف والفكاهة وجهل أفهام الناس. فهو يلخص تاريخ امرئ القيس تلخيصاً خالياً من كل ما ترويه الكتب العربية من أساطير وأعاجيب لينجو من عناء المناقشة ومشقة الدحض والإثبات. ثم يستجهل القارئ معرفة غير ما يروى عن الشاعر، ثم يقول:(ولا نزاع أنه (أي تلخيصه) منسجم مطرد. . وظاهر أنه لم يكن أكذوبة من أكاذيب القصاص) (ص 10)
(يتبع)
خليل أحمد جلو
المسرح والسينما
من التاريخ
3 -
النهضة المسرحية في مصر
ونصيب الفرقة القومية منها وواجبها حيالها
فرقة رمسيس
جمع يوسف وهبي حوله بطلات وأبطال المسرح في ذلك الحين إلا من أبطرتهم الشهرة وأفسدهم المجد، أو خاف منهم على نفسه، وهو في مستهل حياته الفنية التي يرجى منها الخير. . . وليوسف بعض العذر فيما فعل، فما معنى أن يستظل باسم كبير لامع يتضاءل اسمه إلى جانبه ولا يفيد منه شيئاً يذكر، ويكون مصدر خطر على مشروعه الكبير الذي أرصد له ثلاثة عشر ألفاً من الجنيهات من ماله الخاص، فينسب إليه الفضل في النجاح إذا كان مقدراً له ولا يكون ليوسف إلا فضل صاحب المال، وما أتعسه من فضل لا يرتضيه فنان لنفسه! ويوسف إنسان ذكي له كل المميزات التي تجعل منه زعيماً في وسطه، وله كل عيوب الأذكياء التي تفقدهم عطف الكثيرين، وتذكي في نفوسهم الغيرة منهم والحقد عليهم. وقد شق طريقه بجرأة لا مثيل لها، وتزعم جماعة المسرحيين، وأقصى من لا يستطيع الزعامة عليهم، واحتضن من وطئوا أكنفهم له، وارتضوا بقيادته لهم على حين أن ماضيهم الطويل وخبرتهم بالمسرح ودرايتهم به كانت تجعلهم في أنفسهم ينظرون إليه ويبتسمون!
وترقب الناس ما ستخرجه لهم (فرقة رمسيس) من جديد يقبلون عليه. أما القديم فقد عرفوه وشبعوا منه وارتووا. وعلى أي حال، فهل تستطيع (فرقة رمسيس) أن تخرج أوديب أو عطيل أو مدام سان جين؟. . . إن جورج ابيض الذي تزعم التراجيدي لم يكن قد فقد مكانته فيه، وما كان أحد يعتقد أن يوسف أو سواه يحسن القيام بأدواره، وأن تستطيع فرقة رمسيس أن تخرج للناس (الموت المدني) أو (النائب هالير) ولم يكن أحد قد تصور مدى لحظة من الزمان أن عبد الرحمن رشدي يمكن أن يبزه آخر في هذه الأدوار التي اشتهر بها وأتقنها كل الإتقان.
ترقب الناس ما ستأتي لهم به فرقة رمسيس الجديدة من جديد - كما ترقبوا حين أنشئت
الفرقة القومية ما ستأتي به لهم هذه الفرقة الجديدة من جديد - والناس عادة لا يرحبون بالقديم لعرفانهم به ولمللهم إياه. ثم إنهم كانوا قليلي الثقة بغير جورج أبيض وعبد الرحمن رشدي!
وقد كان هذه الفكرة التي تخامر أذهان الجماهير، والتي تحدث بها بعض النقاد والكتاب عند تكوين فرقة رمسيس من الدوافع الهامة التي حدت بيوسف لأن يعمل على هدمها نظرياً وعملياً، وتقويضها من أساسها بطرقه المعروفة - وسنفصل ذلك فيما بعد - على أن هذه المجهودات الهدامة كانت من العوامل التي أثرت تأثيراً عكسياً في النهضة المسرحية في مصر، وأساءت إلى يوسف وفرقته إساءة عظيمة، وأفقدته عطف الجماهير وتقديرها
أما يوسف من جانبه فإنه كان راغباً في عدم التحكك بمجد الآخرين، كان يريد أن يبتني المجد لنفسه وبنفسه، وكان يريد أن يظهر في ثوب جديد خلاب، حتى لا يجد الجمهور وجهاً للمقارنة بينه وبين الآخرين فيه. ومن ثم فقد أعلن أنه تلميذ (كيانتوني) الإيطالي، ووضع في برنامجه روايات جديدة لم يعرفها الجمهور من قبل، ولم يسمع بها، ولو أنه كان في أعماقه يحلم بأوديب وعطيل ولويس، وكل الروايات التي اشتهر بها غيره من الأبطال ونالوا بها المجد. وكان يعتقد في نفسه القديرة، أو يرى في نفسه أنه مستطيع التأثير في الجمهور بطريقته الخاصة. فينتزع الإعجاب منه وينتزع راية المجد من الآخرين، وقد أخرج فعلاً فيما تلا من سنين بعض الروايات القديمة المعروفة، كما قام بمشهد صغير من عطيل ضمن مشاهد إحدى الروايات العصرية، لكنه لم يظهر في عطيل نفسها أو أوديب أو سواها من الروايات الضخمة التي أصبحت ملكاً لجورج ابيض طوال عمره!
وفي الساعة الثامنة والدقيقة الخامسة والأربعين من مساء اليوم العاشر من شهر مارس عام 1923 رفع الستار في مسرح رمسيس عن رواية المجنون التي قيل يومئذ إنها من تأليف يوسف وهبي.
(للكلام بقية)
اختيار الروايات في الفرقة القومية
يخطئ من سيظن أن الفرقة القومية أو أصحاب الشأن فيها يعرفون السبب الحقيقي الذي
من أجله أنشئت الفرقة، وإلا فما هذا العبث المحض الذي نراه في اختيار الروايات، وما هذه السياسة المضحكة التي يسيرون عليها، وكأنما هم موكلون بالتنكيل بفن التمثيل لقاء ما تكافئهم به الحكومة من أجر؟!
ولنضع أمام القارئ أمثلة يسيرة من هذه السياسة العجيبة.
(الخطاب) و (جنون الشرف)
في الموسم الأسبق أخرجت الفرقة القومية رواية الخطاب (لسومرست موغام)، وهي رواية أقل ما يقال فيها أنها تحض على الرذيلة، وتشجع عليها، وتكافئ الخاطئين، وتجزي الأبرياء شر الجزاء!
ومعرب هذه الرواية هو الأستاذ سليم سعده وقد خيل إليه أنه فهم رسالة الفرقة القومية في هذا الزمان فعرض على مديرها رواية (جنون الشرف) لبيرانديللو، وهي رواية أقل ما يقال فيها أنها تصور الشرف في أجمل الصور، وتحض على حبه والتعلق به. ولكن المدير الفاضل رفضها وطلب إلى المعرب أن يختار سواها من الروايات الشعبية التي هي أقرب إلى متناول هذا الشعب الذي لم يرق إلى درجة بيرانديللو. فاختار المترجم رواية (الخطاب) فقبلت في الحال وكانت سبة للفرقة أبد الدهر!
الروايات التاريخية في السينما
تقول الأنباء: إن إخوان لاما يخرجون رواية تاريخية عن المجنون وأن الثالوث المعروف (آسيا. ماري. جلال) يخرجون رواية تاريخية تحت اسم أرمانوسة أو شيء كهذا - فمن الضروري أن نقول لهؤلاء وهؤلاء ولغيرهم كلمة، أو نسدي إليهم نصيحة.
منذ أعوام أخرجت السيدة آسيا رواية تاريخية عن (شجرة الدر)، وأخرجت السيدة بهيجة حافظ رواية عن (ليلى بنت الصحراء)، وأخرج إخوان لاما بضع روايات كانت مزيجاً من التاريخ وصور الصحراء، وأخرجت السيدة عزيزة أمير وغيرها روايات فيها تاريخ وفيها صور من أهل البدو، وكيف يعيشون، وكيف يملئون الدنيا غراماً!
وكانت هذه الروايات جميعاً تنقصها الطلاوة والحبكة مع أن أصحابها قصدوا فيما قصدوا من لياذهم بالتاريخ والصحراء والملابس المألوفة أن يستروا بها أشياء كثيرة من عدم كفاية
الاستعداد، وعدم حبكة الموضوع، بعد أن جربوا التعرض للموضوعات العصرية، فأخفقوا بعض الإخفاق، أي أنهم لجئوا إلى الروايات التاريخية ليداروا بعض العيوب وليفيدوا من الضخامة والمناظر الطبيعية الساحرة، وصور التاريخ الخلابة. مع أن الروايات التاريخية أو ذات المناظر الخارجية، تحتاج لعناية أدق واستعداد أوفى. وتحتاج فيما تحتاج إلى براعة فائقة في الإخراج لا يفهمها إلا الراسخون في العلم. فمن العدل أن نقول لهؤلاء جميعاً من البداية إن تعرضهم للروايات التاريخية لن يفيدهم شيئاً إذا قصدوا إلى ستر بعض العيوب أو الإفادة من الطبيعة ومناظرها. من الحق أن نقول لهم إن إخراج رواية تاريخية معناه البذل العظيم والتضحية الكبرى. ولينظروا كيف تفعل الشركات الأمريكية والإنجليزية على الخصوص. بل ليتأملوا كيف فعل استديو مصر في إخراج (لاشين). وليتريثوا قليلاً وليفكروا كثيراً قبل الإقدام على هذه المجازفات
ونحن على أي حال ندعو لهم بالنجاح والسداد والتوفيق
(فرعون الصغير)
أخبار سينمائية
جريتا جاربو وميلفين دوجلاس
استقر الري أخيراً على أن يكون ميلفين دوجلاس زميل جريتا جاربو في رواية نينوتشكا، وهذه ليست أول مرة يظهر فيها ميلفين إلى جانب جريتا فمنذ أعوام ظهر معها في رواية (إنك في حاجة إلي) ولم يكن وقتها قد نال إلا قليلاً من الشهرة.
جاري كوبر
أمضى جاري عقداً مع سامويل جولدوين وستكون أولى رواياته (النصر الحقيقي) مع أندريه ليدز في دور القيادة.
تيرون باوار
منذ عامين لم يكن تيرون باوار شيئاً مذكوراً، ومع ذلك فإنه في العام الأخير قد ظهر في خمس روايات كل منها تكلفت أكثر من مليونين من الدولارات، وإحداها كما يذكر القراء
رواية (قنال السويس) التي منع عرضها في مصر لتعرضها بغير حق لشخصيات تاريخية معروفة. أما (حريق شيكاغو) فقد نالت نصراً عظيماً وقوبلت بعاصفة من النجاح في كل مكان. وهكذا ارتفع تيرون في لمح البرق تسنده الملايين وتحوطه قلوب الفتيات في العالم
مارلين ديتريش
وقد عرفت في رواية (الملاك الأزرق) مع (أميل جاننجز) وسطع نجمها في رواية (مراكش) أو (قلوب محترقة) مع (جاري كوبر). واليوم تفخر بها شركة (بارامونت) وتعتز بمكانتها في هوليود
وقد دعاها الهر هتلر أن تعود إلى بلادها فرفضت وفضلت الخروج من جنسيتها لتعيش حرة طليقة من كل قيد