الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 323
- بتاريخ: 11 - 09 - 1939
من ذكريات الحرب الماضية
للأستاذ عباس محمود العقاد
كثير على إنسان واحد أن يشهد الحرب العالمية في حياته مرتين، فقد كانت الدنيا كلها لا تشهد حرباً عالمية إلا مرة في كل خمسة قرون أو ستة قرون، وكانت على أوسع ما تتسع له آفاقها تنحصر في دولتين أو ثلاث دول هي كل ما يسمى (العالم) في تلك العصور
أما اليوم فقد شهدنا الحرب العظمى قبل ربع قرن؛ وهانحن أولاء نشهد العالم كله متحفزاً لحرب عالمية أخرى تستغرق كل من على ظهر البسيطة من كبار الشعوب وصغارها ولو لم يشتركوا جميعاً في قتال
ماذا وراء ذلك؟ خير أو شر؟ ونجاة أو هلاك؟ وخطوة إلى حضارة أعلى أو نكوص إلى همجية الكهوف؟
بشر ولا تنفر!
وعلى هذه السنة نقول: إن تتابع الحروب العالمية دليل على وجود المشكلة العالمية بعد أن لم يكن لهذه المشكلة وجود، وبعد أن لم يكن للعالم نفسه شعور بوجوده مستقلاً عن عصبيات الدول والأوطان
ومتى ظهرت المشكلة فتلك بداية الحل، ومتى تفاقم الخطر فتلك علامة النهاية
أي نهاية؟
نهاية الخطر أو نهاية العالم؟ بل نهاية الخطر إن شاء الله
وذكريات الحرب الماضية تفوق الحصر والإحاطة، فهي أربع سنوات لم ينقض يوم واحد منها على غير تجربة جديدة من تجارب الفكر أو من تجارب المعيشة أو من تجارب الحياة
تاريخ أربعة آلاف سنة مجتمع في أربع سنوات، لأن الحرب العظمى قد عرضت على الناس في مدى سنواتها الأربع كل ما عرفه بنو الإنسان من خبرة السياسة وأطوار التاريخ، وقد أرتهم مصائر ملوك ودولات لم يرها الأقدمون إلا من قراءة الأسفار الطوال، وهي قبس صغير مما يراه الناظر رؤية العيان
لكنني أقتصر في هذا المقال على ذكريات تمس الأدب والصحافة لأنني أكتبه في صحيفة أديبة، وفي استذكاره على ما أرجو عبرة للمعتبرين
كانت الرقابة شديدة على كل ما يطبع ولاسيما الصحف السياسية. وكنا نحن الذين ننشر في الصحف بعض المقالات أو القصائد من حين إلى حين نعرف مبلغ تلك الرقابة، ونسمي (الرقيب) بالمكتوبجي تشبيهاً له بالرقباء على الصحافة في تركيا العتيقة، أيام السلطان عبد الحميد
كان المكتوبجي التركي يلمح كلمة (المراد) فيحذفها مخافة أن يكون الكاتب مشيراً بها إلى حبس السلطان مراد
وكان يلمح كلمة (الرشاد) فيحذفها مخافة أن يكون المقصود بها ولي العهد محمد رشاد
وكانت تأتي الأنباء بقتل عظيم من العظماء فتعلم الدنيا كلها جلية النبأ إلا قراء الصحافة التركية فيهم لا يعلمون إلا أنه قد مات بالحمى أو مات بالسكتة القلبية. . . وقس على ذلك سائر الأنباء
وعلى هذا النحو - أو على قريب من هذا النحو - سار بعض الرقباء في قلم المطبوعات الموكول إليه أن يراجع الصحف قبل نشرها، وأن يحذف منها ما يثير الخواطر ولا راد لقضائه، فكانوا يندسون بين السطور بل يندسون في ألفاف مخ الكاتب حتى لا يقع في خلده أنه قد غلبهم بالدهاء وقد (فوت) عليهم كناية من الكنايات، وهم الأذكياء الألباء!
ويحضرني من نوادرهم أنهم حرموا علي ذكر الاستقلال في قصيدة شعرية فغلبوا القائد العام لدولة الحماية! لأنه لم ينكر استقلال مصر عند إعلان الحماية عليها، بل وعد برعايته والمحافظة عليه
أرسلت إلى (الأهرام) قصيدة في وصف (هيكل أدفو) ختمتها بالأبيات الآتية وتبدو فيها أخيلة الحرب وأطيافها:
الناس يغتال القوي ضعيفهم
…
ولدهر يغتال الفتى المغتالا
قهار كل القاهرين تقاصرت
…
عنه مكائد من طغى واحتالا
ذهبوا فما هوت الكواكب بعدهم
…
أسفاً وما نقص الثرى مثقالا
ملكَ الفراعنةُ الحماةُ وخلفوا
…
للملك أعلاماً بمصر طوالا
وخلا الأكاسرة البغاة كأنهم
…
عبروا بمدرجة الزمان رمالا
ومضى البطالسة الكماة وهذه
…
مصر يزيد شبابها إقبالا
تتقوض الأوطان وهي كدأبها
…
من عهد نوح تربة ورجالا
عهد على الله القدير وذمة
…
ألا تضيم لها الكوارث آلا
فتجنبوا فيها القنوط واجزلوا
…
قسط البنين معارفاً وخصالا
إنا لنرجوها ونوقن أنه
…
ما كان يوماً لا يكون محالا
وستستقل فلا تقولوا إنها
…
صمد الهوان بها فلا استقلالا
فظهرت القصيدة وليس فيها البيت الأخير، وسألت عنه أين ذهب؟ فقال لي رئيس التحرير ضاحكاً: في بطن المكتوبجي هذه المرة لا في بطن الشاعر! أيهمك أن تذهب إلى حيث ذهب هذا البيت العزيز من القصيدة؟!
وشاءت المقادير أن أعمل في قلم المطبوعات، لأنني خلوت من العمل واحتجت إلى الإقامة بالعاصمة بضعة أشهر في جو رفيق وفي عمل يناسب ما كنت أعانيه من السقم
فلم أشأ أن أكون (مكتوبجياً) وأنا أعلم نصيب المكتوبجي من السخرية في مجالس الأدباء والصحفيين
فلم يمض أسبوع واحد حتى دعاني مستر (هورنبلور) مدير المطبوعات إليه في مكتبه، وكان رجلاً متحذلقاً يدعي المعرفة بجميع الأشياء وفي مقدمتها اللغة العربية الفصحى التي لا يحسن نطقها، وبدهني قائلاً:
- إذا لم يكن عطفك معنا فلماذا تعمل في هذه الوظيفة؟
قلت: إنني لا فهم ما تعنيه
قال: إنك لا تتوخى الدقة في مراجعة الصحف. وأراني أخباراً تركتها في بعض الصحف وكان من حقها أن تحذف محافظة على (أمن الخواطر)
قلت: إنني لا أجد في هذه الأخبار ما يمتنع نشره بين المصريين، وإني أقرأ في الصحف الإنجليزية نفسها ما هو أهم من هذه الأخبار. فلماذا ينبغي أن يجهل المصريون ما يعلمه الإنجليز وهم محاربون؟!
والواقع أننا كنا نقرأ الصحف الإنجليزية يومئذ فنطلع فيها على أخطر الأخبار وأعنف اللهجات في انتقاد تقصير الحكومة. وكانت هذه الصحف كثيرة الانتشار في مصر لانتشار الضباط والجنود الإنجليز فيها، فإذا وصل بها البريد بعد تقطع وروده فترة من الزمن علمنا
منها ما لا سبيل إلى العلم به من غيرها، وعجبنا لشدة الحجر على الصحف المصرية بالقياس إلى تلك الحرية البالغة وتلك الصراحة الجريئة
فما ذكرت الصحف الإنجليزية للمستر (هورنبلور) نظر إلي طويلاً ثم قال: هل أنت من الحزب الوطني؟
قلت: كلا. ولكني من المصريين
قال: حسن. نحن لا نتفق، وأومأ إلي بالتحية. . . وانصرفت وأنا بريء من المكتوبجية وخلو من العمل في عالم الحرب الذي لا متسع فيه لصناعة الأدب ولا لصناعة الصحافة!
إلا أن الرقابة بغير غرض أهون كثيراً من رقابة يفرضها على الصحف رجل ينطوي على غرض خفي لا علاقة له بواجب الوظيفة
فقد كان من الرقباء من يطمع في المكافأة، وكان منهم من يتعمد حذف الأخبار من بعض الصحف لكي تنفرد بنشرها صحيفة أخرى بينه وبين أصحابها لحمة قرابة أو مصاهرة
وقى الله الصحافة المصرية شر الرقابة (بغرض) والرقابة المنزهة عن الأغراض على السواء!
عباس محمود العقاد
جناية احمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
- 14 -
أبدأ حديث اليوم بالاعتذار لفريق من القراء يريدون أن نكثر من الشواهد كما صنعنا عند الكلام عن إحساس ابن خفاجة بالطبيعة والوجود، فالنضال بيني وبين حضرة الأستاذ أحمد أمين يمس شؤوناً لا تهم غير الخواص، وهم في غنى عن سوق الشواهد وضرب الأمثال
أما الأديب الذي كتب من القدس ولم يذكر اسمه ولا عنوانه فأنا أرجوه أن يعفيني من إثبات رأيه في الأستاذ أحمد أمين لما فيه من إيذاء. وأما رأيه في فلا يحتاج إلى إثبات؛ ولعله استقاه من كتاب (ليلى المريضة في العراق) وأنا راض عما شهدت به على نفسي في أكثر مؤلفاتي. وكنت أستطيع أن أقول إن العيوب التي أضفتها إلى نفسي ليست صحيحة، وإنما جعلت نفسي صورة إنسانية أدرس على حسابها ما في الناس من محاسن وعيوب، ولكني في الواقع لا أهتم بأقاويل الناس ولا أقيم وزناً للأراجيف، لأني مؤمن أصدق الإيمان بأن الناس لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، فهم أعجز من أن ينفعوني أو يضروني؛ وأنا فوق ذلك أعرف أن الأساس السليم هو خلوص النية، وسلامة ما بيني وبين فاطر الأرض والسماوات، وهو عز شأنه يعلم ما بينه وبيني، ولولا فضله ورحمته وستره لكنت اليوم من الهالكين
كم تمنيت لو استطعت شكر الله على نعمه وآلائه، ولكن هيهات، فلله نعم تجل عن الحمد والثناء، ومن تلك النعم نعمة الرضا المطلق بما كتبه وقضاه، فما أذكر أبداً أني جزعت أو ضجرت من مكروه يلم بي. وهناك نعمة أعظم تفضل بها علي الله، وهي الأيمان بأنه تباركت أسماؤه هو وحده القادر على الضر والنفع، فما خشيت غيره ولا رجوت سواه
فأن كنت صادقاً فعند الله جزاه الصدق؛ وان كنت كاذباً فالله وحده هو الذي يملك ستر العيوب، وغفر الذنوب، وعليه أعتمد في نجاتي من شر نفسي
مولاي أنا أحب أن أكثر من الثناء عليك، ولكني أخشى الوقوع في مزالق الرياء، فارض مني بالقليل يا من لا يعرف القليل في الإحسان إلى العاصين والطائعين
إن الكافرين بنعمتك لم يفتهم برك وإحسانك، فكيف يفوتني لطفك وعفوك وسترك وأنا في
سريرة نفسي من أخلص عبادك
مولاي، إليك الأمر كله فافعل ما تشاء، ولن تراني إلا حيث تحب في جميع الأحوال
أرجع كارهاً إلى محاسبة الأستاذ أحمد أمين:
صرح الأستاذ بأن الدين له أثر كبير في الأدب (لأنه من ناحية مصدر كبير من مصادر الإلهام الأدبي، ومن ناحية أخرى كان الأديب ذا دين وثني جامد تأثر أدبه بعقليته فخرج مثله مادياً جامداً، وإذا كان دينه ضيق الخيال لاصقاً بالحجارة والأرض كان خياله في أدبه غالباً كذلك، لأن نفسية الإنسان وعقليته وحدة لا تتجزأ، وان اختلفت مناحيها ومظاهرها. من أجل هذا نرى الأدب الجاهلي في الكثير الأغلب مادياً لا معنوياً، ولا روحياً)
ذلك كلام أحمد أمين. وهو بهذا الكلام يضع قاعدة أدبية: هي تأثر الأدب بالدين
فدين الجاهلية في رأيه دين أرضي وضيع، وكذلك كان أدبهم، لأن الأدب من صور الدين
ولكن العرب لم يطل عهدهم بالوثنية فقد أنعم الله عليهم بالإسلام، وهو دين سماوي رفيع، فكان الواجب أن يتأثر أدبهم بذلك الدين فيسلم من تلك الصبغة الأرضية الوضيعة
منطق الأستاذ أحمد أمين يقضي بذلك
ولكن الرجل يصر على رأيه في تحقير العقلية العربية فيجزم بأن الشعر العربي لم يتغير بعد الإسلام، وإنما ظل في أسر العقلية الجاهلية
فهل يكون معنى ذلك أنه كان مخطئاً حين قال بتأثر الأدب بالدين؟
أم يكون معنى ذلك أن الإسلام لم يستطع أن يمحو تلك العقلية الجاهلية
لا هذا ولا ذاك
فالعرب في جاهليتهم تأثروا بالوثنية، وتأثروا في إسلامهم بالإسلام، ولكن أحمد أمين يمزح في مواطن لا يقبل فيها المزاح
وإلا فمن الذي يقول بأن الشعر العربي لم يتغير ولم يتطور بعد ظهور الإسلام؟
هل كان في الجاهلية شاعر كأبي العتاهية في الزهديات؟
هل كان فيهم شاعر كالشريف الرضي في الحجازيات؟
هل كان قيهم شاعر كأبي نواس في الخمريات؟
كان فيهم شاعر كابن المعتز في التشبيهات؟
هل كان فيهم شاعر كابن الفارض في الوجدانيات؟
هل كان فيهم شاعر كابن خفاجة في الورديات؟
هل كان فيهم شاعر كشوقي في التاريخيات؟
هل كان فيهم شاعر كحافظ في الاجتماعيات؟
وهل استطاع الشعراء الجاهليون أن يصنعوا ما صنع الشعراء الإسلاميون في تنويع القوافي والأوزان؟
هل عرفوا الابتكار الذي ابتدعه الأندلسيون والمصريون والعراقيون؟
هل عرفوا تسجيل التاريخ بالشعر كالذي صنعه بعض شعراء مصر والأندلس؟
إن أحمد أمين يشهد على نفسه بما لا أدري حين يحكم بأن الشعر الإسلامي صورة من الشعر الجاهلي؛ وإلا فإن ضاق ذرعاً بهذا الوصف فليدلنا على باحث يؤيده في هذا الرأي الغريب
وهل في الدنيا كلها رجل يجرؤ على القول بأن الشعر الإسلامي في مختلف عصوره ليس إلا نسخة ثانية من الشعر الجاهلي؟
إن احمد أمين افتتح مقالاته في مجلة الثقافة بتلخيص كتاب الموشي، وهو كتاب يشرح أفانين الشعراء في وصف حياة القصور وملاعب الترف واللين
فهل كان في شعراء الجاهلية من يعرف تلك الأفانين؟
ومن هم العرب بعد الإسلام في ذهن أحمد أمين؟
يجب أن نعرف أولاً من هم العرب في ذهن هذا (الأديب) فظاهر كلامه يدل على أنهم سكان البوادي العربية، وسكان البوادي يتطورون تطوراً بطيئاً جداً، وقد تظل أحوالهم متقاربة الأشكال والأوضاع ألوفاً من السنين. ومع ذلك لا يمكن القول بأن الإسلام لم يغير سكان البوادي ولم ينقلهم من حال إلى أحوال في العقائد والتصورات، لأن الإسلام رجّ البوادي العربية رجة عنيفة وحول سكانها إلى رجال مؤمنين يتابعون ما في القرآن من صور النعيم والعذاب. ولو أن أشعار سكان البوادي دُوِّنت وعرفت مغازيها ومراميها لاستطعنا أن نعرف إلى أي حد أثر الإسلام في تلوين الصور الشعرية عند سكان البوادي العربية
ولكن أحمد أمين قد لا يرضى بظاهر كلامه فيقول إن العرب بعد الإسلام هم الأمم التي تكلمت لغة القرآن في الشرق والغرب بعد ازدهار الحضارة الإسلامية
إن قال ذلك فقد حق عليه الخطأ فيما ادعاه من ضعف سيطرة القرآن على الأخيلة الشعرية في تلك الشعوب
إن أحمد أمين لم يدرس الشعر الإسلامي دراسة جدية، وماضيه العلمي يشهد بذلك، فأعماله كلها كانت محصورة في الدراسات الشرعية والأخلاقية، ولو شئت لذكرته بالأساس الذي أقيم عليه كتاب فجر الإسلام، فقد كان مفروضاً أن يدرس أحمد أمين تطور التأليف، وأن يدرس طه حسين تطور الأدب، وأن يدرس عبد الحميد العبادي تحول السياسة. فالرجل في نفسه وفي أنفس زملائه مؤلف لا أديب
وما يعيب أحمد أمين ألا يكون أديباً، فله مواهب في شؤون غير شؤون الأدب تعوض عليه هذا النقص. ولو وقف حياته على دراسة الفقه والتوحيد لظفر بنصيب من التفرد والتفوق
ولكن يعيب أحمد أمين أن يحاول فهم سرائر الشعراء والكتاب والخطباء، وهو ليس بالشاعر أو الكاتب أو الخطيب
وشاهد ذلك موجود: فهو يحكم بأن الشعراء لم يتأثروا بالقرآن، مع أنه لو نظر في كتب البلاغة وكتب الأدب لعرف أن تضمين آيات القرآن كان من الأغراض الملحوظة عند الشعراء، ولعرف أيضاً أن حفظ القرآن كان من الفرائض التي يتواصى بها الشعراء
لو درس أحمد أمين تاريخ الأدب لعرف أن في الشعراء من كان يقيد نفسه حتى يحفظ القرآن، ولعرف أن أبا إسحاق الصابي وهو على غير الملة الإسلامية كان يقرأ سوراً من القرآن قبل أن يسرع في النظم أو الانشاء، حتى صح القول بأن بلاغة القرآن كانت تجري على سنان قلم أبي إسحاق
ولما اتهم أبو تمام بأنه يشبه ممدوحة بأجلاف العرب ارتجل فقال:
لا تنكروا ضربي له من دونه
…
مثلاً شروداً في الندى والياس
فالله قد ضرب الأقل لنوره
…
مثلاً من المشكاة والنبراس
وهذه البديهة تشهد بان أخيلة القرآن كانت تلاحق ذلك الذهن الفنان
واتفق مرة أن اعترض أحد الأدباء على الاستعارة في قول حبيب:
لا تسقني ماء الملام فإنني
…
صب قد استعذبت ماء بكائي
وأرسل خادمه يقول: إن مولاي يرجوك أن تملأ هذه الكأس من ماء الملام! فقال حبيب: قل لمولاك يتفضل أولاً بإرسال ريشة من جناح الذل!
فهل هناك أبلغ من هذه الشواهد في الدلالة على أن الشعراء كانوا يتأثرون أشد التأثر بأخيلة القرآن؟
وهنا مسألة دقيقة قد ينتفع بها الأستاذ أحمد أمين، وهي مسألة لم تدرس قبل اليوم، وسيكون لها صدىً في البيئات التي تهتم بدراسة الشعر الجاهلي
وتلك المسألة هي تأثير القرآن في الشعر الجاهلي نفسه
ولكن كيف؟ إن هذا لو صح لكان من الغرائب. وهل يؤثر القرآن في الشعر الجاهلي مع أن الشعر الجاهلي أسبق؟
نعم، القرآن أثر في الشعر الجاهلي تأثيراً شديداً فقد وضعه في الغربال ولم يستبق منه غير ما كان بلغة قريش، وهي لغة القرآن
فالأشعار الجاهلية التي شرقت وغربت بعد الإسلام هي الأشعار التي تساير القرآن من الوجهة اللغوية والنحوية، بغض النظر عما أثر من الشذوذ القليل الذي احتاج إليه اللغويون والنحويون والصرفيون
وهذا (التوجيه) الذي صنعه القرآن كانت له يد في (توحيد) اللغة العربية. فلولا القرآن لظل الشعر الجاهلي مختلف الصيغ والأوزان والأشكال، ولكان باباً إلى (بلبلة) الذوق العربي باختلاف اللهجات والأذواق
فالقرآن هو الذي ساق العرب على اختلاف قبائلهم ومواطنهم ولهجاتهم في تيار واحد. وهو الذي جعل من الشعر الجاهلي سناداً لما فيه من ألفاظ وتعابير، بحيث لم يبق من ماضي الجاهلية غير ما أراد به القرآن أن يعيش
فلا تقل يا أحمد أمين أن الشعر الجاهلي قد استبد بالعقلية الإسلامية، ولكن قل إن الإسلام هو الذي استبد بالأشعار الجاهلية وصيرها من شواهد القرآن
وهناك مسألة أدق، وقد ينتفع بها من يؤرخون الأدب العربي، وهي سبق القرآن إلى غزو الأذواق والقلوب في البلاد التي فتحها المسلمون. فالمعروف عند المؤرخين أن الحياة
الدينية كانت تسبق الحياة الأدبية في كل بلد يدخله الإسلام، لأن الإسلام شريعة مدنية واجتماعية، قبل أن يكون شريعة أدبية وذوقية. فالفرس والهنود والمصريون والأندلسيون سمعوا القرآن قبل أن يسمعوا الشعر الجاهلي. وكذلك كان القرآن أسبق إلى تلوين ما صار عند تلك الأمم من شمائل وأذواق
وأحمد أمين صرح بأن الأدب يتأثر بالدين فكيف جاز عنده ألا يتأثر السلمون بأدب القرآن وهم يقرءون سوره في الصلوات ويتدارسونه صباح مساء؟
إن البيت الواحد من الشعر قد يؤثر في نقل الذوق من وضع إلى وضع، فكيف يجوز أن يحرم القرآن هذه المزية وهو يحمل مئات من الأخيلة والتعابير والمعاني؟
إن القرآن هو أساس ما عرف المسلمون من المذاهب التشريعية والفلسفية، وهو عندهم المرجع في الشواهد اللغوية والنحوية والبلاغية، فكيف يمر سحره القاهر بدون أن يؤثر في أذواقهم الأدبية؟
أليس من العجيب أن يقع هذا القول من أحمد أمين وهو يعرف أن وزارة المعارف المصرية توجب على معلم اللغة العربية أن يحفظ القرآن؟
إن كلية الآداب التي يتشرف بالانتساب إليها أحمد أمين قد اعترفت بخطر حفظ القرآن، ورضيت بألا يكون لخريجيها حظ في تدريس اللغة العربية بالمدارس الأميرية إلا إن كانوا في الأصل من طلبة الأزهر الشريف
فما معنى ذلك؟
أليس معناه أن الأمم الإسلامية قد توارثت الاعتقاد من جيل إلى جيل بأن القرآن له تأثير شديد في تكوين الذوق اللغوي والأدبي؟
ألم يسمع أحمد أمين بأن الأستاذ مكرم باشا حفظ القرآن ليروض لسانه وذوقه على الفصاحة العربية؟
ألم يسمع أحمد أمين بأن الدكتور يعقوب صروف كان يملك خمس نسخ من القرآن ليستطيع الأنس بالبلاغة القرآنية في كل وقت؟
ألم يسمع أحمد أمين بأن من المبشرين من عاش متنكراً في الأزهر بضع سنين ليتذوق بلاغة القرآن لكي يتسنى له أن يواجه الجماهير بلسان عربي مبين؟
ما معنى ذلك أيها الناس؟
معناه أنه صار مفهوماً عند كل مخلوق أن القرآن أس متين من أساس الفصاحة العربية، فكيف جوز القول بأنه لم يؤثر في أخيلة الكتاب والشعراء والخطباء؟
أقول هذا وذهني خال خلواً تاماً من العصبية الدينية، فليس من همي أن أخلق أصدقاء للقرآن، وان كان ذلك مما يشرفني لو تساميت إليه، وإنما أنا رجل أشتغل بتدريس اللغة العربية، وفي تلاميذي مسلمون ونصارى ويهود، ومن واجبي أن أرشدهم جميعاً إلى الحرص على تذوق البلاعة القرآنية، لأنها بلغت الغاية في الدقة والعذوبة والجمال
وأريد أن أستقصي هذا الموضوع بعض الاستقصاء، فقد تضيق الفرص عن درسه بالتفصيل فيما بعد
إن أحمد أمين يقف عند الشعر في درس تأثير القرآن، لأن الوقوف عند الشعر ينجيه قليلاً من المعاطب، إن كان من الممكن أن يعرف سبيل النجاة بعد أن وقع منه ما وقع وهو لنفسه ظلوم
وللأستاذ أحمد أمين أن يسلك من مذاهب النجاة ما يشاء، أما أنا فسأطوقه بطوق من حديد فلا يعرف سبيل الخلاص وإن بالغ في التشكي والتوجع، واستعدى علينا بفلانة وفلان
لابد أن يكون أحمد أمين قد سمع بتأثير الإنجيل في الأدب الفرنسي، ولا بد أن يكون سمع بأن شاتوبريان تأثر في أدبه بأخيلة الإنجيل
فهل يمكن القول بأن أثر القرآن في اللغة العربية أقل من أثر الإنجيل في اللغة الفرنسية؟
إن أحمد أمين يقتل نفسه عامداً متعمداً، إن قال بذلك؟
وأتحداه أن يقول، أتحداه، أتحداه، إن وجد السلامة في غير الصمت!
اسمع أيها الصديق
إن القرآن قص على الناس أخبار الأنبياء، فهل تعرف ما ابتدع المسلمون من الأقاصيص حول الأنبياء؟
وهل تعرف كم مرة تعرض المسلمون لشرح ما في القرآن من أخبار وأقاصيص؟
وهل تعرف عدد التفاسير التي ظفر بها القرآن المجيد؟
حدثنا القرآن عن بعض أخبار يوسف مع فرعون، فهل تعرف أن هذا الحديث كان له مئات
أو ألوف من الحواشي والذيول
ألا تصدق أن هذه الثروة القصصية أثر من آثار القرآن؟
وهل يعرف أحمد أمين أن جميع العلوم التي عرفها المسلمون كان لها ثمرة هي تأييد القرآن
لقد استطاع القرآن أن يؤثر في كل شيء حتى العلوم الرياضية فهي عند أهلها تأييد لآيات القرآن المجيد
والذي يراجع أحوال العرب والمسلمين في حياتهم العلمية والأدبية يراهم يدورون حول القرآن في أكثر الشؤون
وفي مطلع كل علم نرى الأبيات التي تقول:
إن مبادئ كلِّ فنّ عشرة
…
الحدّ والموضوع ثم الثمرة
و (الثمرة) في أغلب العلوم ترجع إلى تأييد القرآن من الوجهات التشريعية واللغوية والعقلية. فعلوم الفقه والتوحيد والصرف والنحو والمعاني والبيان والبديع يراد بها جميعاً فهم ما يشتمل عليه القرآن من أغراض علمية أو أدبية
وقد نقدت ذلك في كتاب النثر الفني حين تكلمت عن مذاهب كتاب النقد الأدبي، ولكن ذلك النقد لم ينسني خطر الحرص البادي من المتقدمين على فهم دقائق القرآن
ومعنى هذا الكلام بطريقة صريحة أني كنت أحب أن تكون العلوم اللغوية والأدبية مقصودة لذاتها، بغض النظر عن جعلها وسيلة لفهم أسرار الإعجاز في القرآن المجيد، ولكني ما كنت أعلم أن سيجيء رجل كالأستاذ أحمد أمين يحكم بأن القرآن لم يؤثر في الحياة الشعرية، ويقول إن ما وقع من العرب لا يصح وقوعه إلا (في الطبيعة القاصرة، والملكات المحدودة) مع أن العرب قد استوحوا القرآن في جميع الشؤون وجعلوا الأدب كله وسيلة لفهم ذلك القرآن
وخلاصة القول أن حفظ القرآن وفهمه كان من الوسائل التي يتذرع بها الشعراء والكتاب والخطباء للتفوق في البيان، فكيف يجوز القول بأن الشعراء لم ينتفعوا به في تطور التعابير والأغراض؟
ولنذكر دائماً أن العرب بعد الإسلام لم يكونوا أمة واحدة، فقد انتشرت اللغة العربية في
أقطار كثيرة مختلفة المشارب والأذواق، وكان المتعلمون بها يشارفون المائتين من الملايين، فهل يمكن الحكم بأن تلك الأمم جميعاً أصابها العقم فلم تنتفع واحدة منها بأسلوب القرآن؟
وهل هذا يعقل إلا عند من يسارعون إلى ارتجال الأحكام بلا مراجعة ولا استقصاء؟
إن مؤرخي الأدب الفارسي ومؤرخي الأدب التركي نصوا على أن القرآن أثر في هذين الأدبين تأثيراً بليغاً، فكيف يجوز ألا يتأثر الأدب العربي بالقرآن وهو به ألصق، واليه أقرب، ومن أخيلته وألفاظه وتعابيره يستمد القوة والحيوية؟
أنا لا أستسيغ القول بأن الأدب العربي وصل إلى ذلك الحد من الجمود في الاستفادة من القرآن مع أنه استفاد من كل ما وصل إليه من ثمرات الآداب الأجنبية، وقد استطاع بالفعل أن يؤرخ الحضارة التي عرفها في الشرق والغرب، بحيث صار مرآة لما رآه العرب في الممالك الأسيوية والإفريقية والأوربية
ولا ينكر ذلك إلا رجل يكابر فيما تلمسه الأيدي وتراه العيون
وأختم كلمة اليوم بعرض فكرة لا يختلف فيها اثنان
وتلك الفكرة هي تأثير القرآن في وحدة اللغة العربية، فبفضل القرآن امتدت الحياة في لغة قريش نحو خمسة عشر قرناً. ولو أن العرب خلت حياتهم من الدعوة الإسلامية لكان من المستحيل أن يكون في الدنيا إنسان يفهم ما أثر من لغة قريش قبل الإسلام بقرن أو قرنين
وإنما استطاع القرآن أن يحفظ وحدة اللغة القرشية، لأنه كان مفهوماً في كل أرض أنه نموذج عال للبلاغة العربية، فكانت البلاد الإسلامية ترجع إليه في صيانة لسان العرب من البلبلة والانحراف.
والكتاب الذي تسود لغته فيما اختلف وائتلف من الأقطار الإسلامية لا يبقى بينه وبين أذواق الشعراء حجاب
وماذا يريد هذا الأستاذ المفضال؟
أيريد أن يُلغي الناس عقولهم ليصدّقوا أحكامه الخواطئ على ماضي الأدب العربي؟
إن جميع القراء قد اتفقوا على أن قدمه زلت وهو يحاول تزهيد الجمهور فيما ورثناه عن الآباء والأجداد من الثروة اللغوية والأدبية. ولو أنني استبحت نشر ما سمعت من أصدقائه
الأوفياء في نقد ما انزلق إليه، لمادت الأرض تحت قدميه، وعرف أنه يتعلق بخيوط الأوهام حين يظن أن في القراء من ينظر إلى أحكامه الأدبية بعين الاستحسان
إن الأستاذ أحمد أمين يعاني اليوم أزمة أخلاقية، لأنه يعرف أن الاعتراف بالخطأ من مكارم الأخلاق. فإن لم يعترف بخطئه طائعاً فسيتولى القراء هدايته إلى الحق. وهو يجني على نفسه إن كان يتوهم أن قراءه ليس فيهم من ينصب الميزان للتمييز بين الحقائق والأباطيل
وسنرى في المقال المقبل شواهد جديدة من أحكام ذلك الرجل المفضال.
زكي مبارك
المعاملات في الإسلام
للأستاذ محمد بهجة البيطار
طالعت في الرسالة الغراء سؤال الأستاذ الطنطاوي الذي وجهه إلى (المفكرين) من علماء المسلمين، ودعاهم فيه إلى النظر في مطالب هذا الزمن المنوعة، ومشاكل المسلمين الكثيرة التي أوقعتهم في بحران من الاضطراب عظيم، وسلكت بهم في سبيل النجاة منه طرائق قدداً. وقد بنى سؤاله على أصلين ثابتين، (أولهما) أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، (وثانيهما) أنه يجعل من المتمسكين به أرقى مجموعة بشرية في العلم والقوة والمال والحضارة، (قال): فكيف يتفق مع هذين الأصلين وجود أحكام في الفقه لا تصلح لهذا الزمن، وأحكام تجعل المسلمين دون الأمم الأخرى في مرافق الحياة؟ وضرب لذلك الأمثال من كتب الفقهاء المتأخرين، ومما وضعوه من شروط وقيود، لبعض البيوع والعقود، يتعذر تطبيقها على كثير من المعاملات في هذا العصر، وعلى ما جرى عليه عرف الناس في التجارات الواسعة؛ وأبدى إعجابه بالفقهاء المتقدمين الذي درسوا وقائع أزمانهم، وطبقوا عليها الأحكام، وفرضوا الفروض وبحثوا عن أحكامها (وهذا مما عابه السلف الذين كانوا يفتون بالواقع، ويمسكون عن القول بما لم يقع إلى زمان وقوعه، لتكون الفتاوى مطبقة على الزمان والمكان والأحوال والأشخاص) ونعى على بعض المتفقهة المتأخرين جمودهم على الفقه الموضوع للقرن التاسع والعاشر، وأثنى على الأستاذ المحدث المحقق الشيخ احمد شاكر فيما كتبه في مسائل الطلاق، وقال: فمتى يعمد العلماء إلى الكتابة
أقول: لاشك أن واجب العلماء هو مواجهه الحقائق التي ظهرت في هذا العصر وبيان الحكم في استعمال جميع ما استحدث من المخترعات إلى اليوم، على قاعدة جلب المصالح للأمة ودرء المفاسد عنها، أي أن تكون فتاوى العلماء الواقفين على أسرار التشريع، وكنه الزمن، وحاجة الأمة - هادية إلى حفظ وحدتها وتنمية ثروتها، وحماية حوزتها، ودفع عوادي الشر عنها، مع إثبات أن ذلك هو الذي يقتضيه هدى الإسلام، وترشد إليه آيات القرآن، وأن المسلمين هم أولى بالمسابقة والسبق في هذا المضمار، فاستثارة دفائن الأرض مثلاً، واستخراج كنوزها ومعادنها، وعلم الزراعة، وفن الري، وإقامة الجسور والمعابر، وتشييد الدور والقصور، وإنشاء السكك الحديدية، والحصون والقلاع، هو عين ما يذكره
الفقهاء في أبواب الركاز والمعادن وإحياء الموات، ومطابق لنصوص الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، وصنع المصفحات والدبابات، والمناطيد والطيارات، والمدرعات والغواصات، والكهرباء وسائر ما ظهر في الوجود من المخترعات والمكتشفات النافعة هو مما أرشد إليه الاسلام، ودل عليه مثل قوله تعالى:(وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه) فرده رد لنصوص القرآن وتعطيل لأحكامه. وهذا هو الفقه العام في الإسلام، وفقه الفروع والأحكام منبثق عنه أو هو جزء منه. فالفقه بإطلاقه سداد في العلم، ودقة في الفهم، وإصابة في الحكم. وهو الذي دعا به الرسول (ص) لابن عمه عبد الله بن عباس بقوله: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل، فكان فقيه الأمة وترجمان القرآن
وهذه الطريق في فهم الدين والفقه فيه هي التي جرى عليها في هذا العصر إمامه السيد محمد رشيد رضا (تغمده المولى برضوانه) فقد أخذ منذ نحو نصف قرن يحل في مناره وتفسيره عقد المشكلات الدينية الدنيوية، ويبين لأمته وجه الحق فيها، وطريق الخلاص منها، مستهدياً بهدى السنة والتنزيل، وهما خير هاد ودليل، مسترشداً بسنن الوجود التي لا تبديل فيها ولا تحويل، وكانت فتاويه تبحث في أدق المسائل الإسلامية، وتحل أعقد المشاكل الاجتماعية حلاً يفي بحاجة العصر، ويتمشى مع قواعد النصوص الشاملة، والمصلحة العامة الراجحة. وقد تكلم عن بعض المسائل الفقهية التي عرض لها الأستاذ الطنطاوي في مقاله كسجدة التلاوة عند سماع القارئ في المذياع، وكالمصارف المالية ومعاملاتها، وأفاض القول في تحريم ما حرم الله من الربا، وتوعد عليه بأشد الوعيد، فبين وجه تحريمه، وعقد فصلاً مستقلاً في حكمته وانطباقه على مصلحة البشر، وموافقة لرحمة الله بعباده، بما لم تره لغيره من المفسرين. وقد ختم هذا الفصل بقوله:(من تدبر ما قاله الإمامان (أي الغزالي والشيخ محمد عبده) علم أن تحريم الربا هو عين الحكمة والرحمة، الموافق لمصلحة البشر، المنطبق على قواعد الفلسفة، وأن إباحته مفسدة من أكبر المفاسد للأخلاق وشئون الاجتماع، زادت في أطماع الناس وجعلتهم ماديين لا هم لهم إلا الاستكثار من المال، وكادت تحصر ثروة البشر في أفراد منهم، وتجعل بقية الناس عالة عليهم. فإذا كان المفتونون من المسلمين بهذه المدنية ينكرون من دينهم تحريم الربا بغير فهم ولا عقل، فسيجيء يوم يقر فيه المفتونون بأن ما جاء به الإسلام هو النظام الذي لا تتم سعادة البشر
في دنياهم فضلاً عن آخرتهم إلا به، يوم يفوز الاشتراكيون في الممالك الأوربية، ويهدمون أكثر دعائم هذه الأثرة المادية، ويرغمون أنوف المحتكرين للأموال، ويلزمونهم برعاية حقوق المساكين والعمال هـ (113: 3)
إن غرض السيد الإمام (كما صرح به في مواضع من تفسيره) أن البلاد التي أحلت قوانينها الربا قد عفت فيها رسوم الدين، وقل فيها التعاطف والتراحم، وحلت القسوة محل الرحمة، حتى أن الفقير فيها ليموت ولا يجد من يجود عليه بما يسد رمقه، فمنيت من جراء ذلك بمصائب أعظمها ما يسمونه المسألة الاجتماعية، وهي مسألة تألب الفعلة والعمال على أصحاب الأموال، واعتصابهم المرة بعد المرة لترك العمل، وتعطيل المعامل والمصانع لأن أصحابها لا يقدرون عملهم قدره، بل يعطونهم أقل مما يستحقون، وهم يتوقعون من عاقبة ذلك انقلاباً كبيراً في العالم ولا علاج لهذا الداء إلا رجوع الناس لما دعاهم إليه الدين. ولكن من الناس من يظن اليوم أن إباحة الربا ركن من أركان المدنية لا تقوم بدونه. (قال)، وهذا باطل في نفسه، إذ لو فرضنا أن تركت جميع الأمم أكل الربا فصار الواجدون فيها يقرضون العادمين قرضاً حسناً، ويتصدقون على البائسين والمعوزين ويكتفون بالكسب من موارده الطبيعية، كالزراعة والصناعة والتجارة والشركات ومنها المضاربة لما زادت مدنيتهم إلا ارتقاء ببنائها على أساس الفضيلة والرحمة والتعاون الذي يحبب الغني إلى الفقير، ولما وجد فيها الاشتراكيون الغالون، والفوضويون المغتالون
وقد قامت للعرب مدنية إسلامية لم يكن الربا من أركانها، فكانت خير مدنية في زمنها؛ فما شرعه الإسلام من منع الربا هو عبارة عن الجمع بين المدنية والفضيلة، وهو أفضل هداية للبشر في حياتهم الدنيا
الشركة الاقتصادية الكبرى
قامت في مصر أكبر شركة زراعية صناعية تجارية أسست بأموال المصريين، وأثبتت فوائد الشركات المالية والتعاون الاقتصادي، وأقامت هذه الشركة لها بيت مال كبير أنشأه المزارع والمصانع والمتاجر، وآوى إليه ألوف العمال، ونجاهم من شرور البطالة ومفاسدها، وزاحم الشركات الأجنبية في البر والبحر والجو، فأشعر مصر بعزة الاستقلال الاقتصادي الذي لا يتم الاستقلال السياسي بدونه، فهذا التعاون الاقتصادي الذي نهض
بمصر هو نموذج من مدنية الإسلام الأولى التي قامت على أساس استثمار الموارد الطبيعية، وتنمية الثروة العامة، لا على نصب شباك المعاملات الربوية لسلب نقود الأمة وإفقارها، ثم الاستيلاء على مواردها وممالكها، بحجة المحافظة على المصالح والأموال، كما فعل الأجانب بملكنا وحكوماتنا. فنحن معشر المسلمين لو كنا متمسكين بقرآننا الذي حرم الربا المفضي إلى إضاعة الثروة والملك، وأعددنا رجالاً لاستخراج كنوز أرضنا، وتعمير بلادنا، وتعزيز شأننا، لكنا بقينا مستقلين بأنفسنا، أحراراً في ملكنا، فكيف يكون الربا الذي كان السبب في استعبادنا وسيلة لإنقاذنا وإسعادنا؟
وقول الأستاذ الطنطاوي: بقي أن البنك لا يستعمل المال في التجارة، ولكن يستثمره بطريق الربا أيضاً، وهي التي لا وجه لها عندي. أقول قد أوضح هو أيضاً الفرق في مقاله أو سؤاله بين الربا المرهق (على طريق الفائدة المركبة) أي الربا الجاهلي، وبين معاملات المصارف، فقال عن الأول على طريق الاستفهام التقريري: وأنه حرم لما ينشأ عنه من خراب للبيوت، وتنازع بين الناس، وتسرب البغضاء إلى النفوس؟ وقال عن الثاني: فأنت حين تعامل المصرف لا تستغل حاجته، ولا ترهقه بالفائدة بل هو الذي يعرضها عليك، فهو أشبه بشركة المضاربة (قلت): وهذا يعود إلى الفرق بين ربا النسيئة الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية مثل أن ينسئ الدائن (أي يؤخر) دينه ويزيده المدين في المال، وكلما أنسأه أي أخر الدين في المدة زاد في المال، حتى تصير المائة عنده آلافاً مؤلفة؛ وربا الفضل الذي كان تحريمه وسيلة لا قصداً ودل عليه حديث أبي سعيد الخدري (رض) عن النبي (ص): لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فأني أخاف عليكم الرماء (أي الربا). فربا النسيئة الجاهلي محرم لذاته، وفي الصحيحين: إنما الربا في النسيئة. وفي رواية: لا ربا إلا في النسيئة. وربما الفضل محرم لسد الذريعة أي لكيلا يكون وسيلة إلى ربا النسيئة، وما حرم لذاته لا يباح إلا للضرورة كالميتة والدم ولحم الخنزير، وما حرم سداً للذريعة أبيح للحاجة وللمصلحة الراجحة، وبنى على ذلك الإمام ابن القيم في أعلام الموقعين جواز بيع الحلية من الذهب والفضة بنقود منهما تزيد على وزنها في مقابلة ما فيها من الصنعة. واستدل على هذا الجواز بأدلة منقولة ومعقولة أيضاً، واستشهد على جواز ربا الفضل للمصلحة الراجحة بإباحة النبي (ص) بيع العرايا، وهو من بيع المتماثلين في الجنس مع عدم القبض
والمساواة. فالعرايا جمع عرية كقضية وقضايا، وهي بيع ما على النخل من الرطب بما يخرص ويقدر به من التمر لحاجة من يملكه إلى أكل الرطب، فيشتريه به. فالتمر يدفع مرة واحدة، والرطب يجنى بالتدريج، وقد رخص النبي في بيعها. وذكر ابن القيم من نظائره أيضاً إباحة نظر الخاطب والشاهد والطبيب والمعامل إلى المرأة الأجنبية وإباحة لبس الحرير للرجال لمنع الحكة أو القمل، لأن الحاجة تدعو إلى ذلك كله. (قال رحمه الله: وأين مفسدة بيع الحلية بجنسها ومقابلة الصناعة بحظها من الثمن، من مفسدة الحيل الربوية، التي هي أساس كل مفسدة وأصل كل بلية. وإذا حصحص الحق فليقل المتعصب الجاهل ما شاء وبالله التوفيق (275: 2) وقال أيضاً: فهذا محض القياس ومقتضى أصول الشرع، ولا تتم مصلحة الناس إلا به أو بالحيل، والحيل باطلة في الشرع. أهـ
تفسير المنار لآيات الربا وعمل المصارف
من العجيب الغريب أن يتهم السيد صاحب المنار (رحمه الله تعالى) بتحليل ما حرم الله من الربا، وما أثرناه عنه من مفاسد الربا ومضاره، هو قليل من كثير مما كتبه في تفسيره ومناره، وآخره ما جاء في المجلد الرابع والثلاثين من المنار وهو ختامها، فقد سئل عن أخذ الربا من البنوك لإنفاقه على الفقراء، فقال: من المعلوم من الدين بالضرورة أن الربا القطعي لا يجوز أخذه للتصدق به ولا لغيره، لأن التقرب إلى الله لا يكون بما حرمه الله، فان هذا تناقض بديهي البطلان، ولكن لاستغلال المال في الشركات المالية من المصارف وغيرها أعمالاً ليست من الحرام القطعي قد بيناها من قبل، وسيكون كتابنا الذي وعدنا بإكماله خير مفصل لها إن شاء الله تعالى. وقد نقل عن ابن جرير ما قاله أئمة التفسير من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في الفرق بين هذا الربا الجاهلي المحرم لذاته، وربا الفضل المحرم لغيره، وتقدم بيان ذلك. أما الكتاب الذي وعد بإكماله ونشره رحمه الله فهو في مباحث الربا والأحكام المالية التي اشتدت الحاجة إليها في هذا العصر، وفي الأصول والقواعد العامة للحلال والحرام، وقد رأى أن جمهور المسلمين في حرج شديد من هذه المعاملات المالية العصرية، وكلهم يتمنون لو يجدون لهم مخرجاً منه مع المحافظة على دينهم فنعى على الذين توسعوا باجتهادهم في أحكام المعاملات المالية حتى أدخلوا في معنى الربا كثيراً من صور البيوع والقروض والشركات التي لا تدخل في ربا القرآن الأصلي
(النسيئة)، ولا في ربا الحديث الاحتياطي من باب ولا منفذ إلا بالتأويلات المستنبطة من التعاريف والأقيسة والضوابط المذهبية الاجتهادية كما قال. وليت هذا الكتاب تم وأخرج للناس قبل وفاته ليرى الناس سبل النجاة من هذا التخبط والاضطراب
ولقد علمنا الآن من هذه الأقوال اليسيرة التي أثرناها عنه أن غرضه الأول أن يجتنب المسلمون الربا الذي حرمه الله ورسوله، وأن تجري بيوع المسلمين وقروضهم وشركاتهم على نحو ما سارت عليه في خير عصور هذه الملة وأهداها، مع وضع حدود وضوابط للاضطرار وللحاجة إلى المحظور في القواعد المستنبطة من الأدلة كقاعدة اليسر ورفع الحرج والعسر، وككون الضرورات تبيح المحظورات، وكون المحظور لسد الذريعة يباح للحاجة إليه، ولرجحان المصلحة على المفسدة، ولم يقدر هو ضرورة الأفراد ولا حاجتهم، بل وكل أهل البصيرة منهم إلى معرفتهم بأنفسهم (قال): وإنما المشكل تحديد ضرورة الأمة أو حاجتها فهو الذي فيه التنازع. وعندي أنه ليس لفرد من الأفراد أن يستقل بذلك وإنما يرد هذا الأمر إلى أولي الأمر من الأمة، أي أصحاب الرأي والشأن فيها والعلم بمصالحها عملاً بقوله تعالى في مثله من الأمور العامة (4: 83 ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)، (قال): فالرأي عندي أن يجتمع أولو الأمر من مسلمي هذه البلاد (بلاد مصر) وهم كبار العلماء المدرسين والقضاة ورجال الشورى والمهندسون والأطباء وكبار المزارعين والتجار ويتشاوروا بينهم في المسألة ثم يكون العمل بما يقررون أنه قد مست إليه الضرورة أو ألجأت إليه حاجة الأمة. فقوله: وإنما المشكل تحديد ضرورة الأمة أو حاجتها وقوله: عندي أنه ليس لفرد من الأفراد أن يستقل بذلك وإنما يرد مثل هذا الأمر إلى أولي الأمر من المنة، هو فى معنى فول الأخ الطنطاوي: وهي التي لا وجه لها عندي، فما هو فول علمائنا الأعلام؟ فهذا علم الأعلام لم يجزم بشيء، بل صرح بأن أولي الأمر من المسلمين - وهم أنصاف الأمة الذين ذكرهم مجتمعين - هم الذين يقدرون ضرورتها. فأين قول المفتاتين بأنه أباح الربا هو وشيخه الشيخ محمد عبده؟ وإنما تكلم عن مسلمي مصر لأن البحث فيهم. ولو كان الكلام عن ضرورة الإسلام لصرح بوجوب اجتماع أو إجماع أولي الأمر من المسلمين في أقطار الأرض على تحديد ضرورة الأمة. إذاً فمرد الأمر إلى (المفكرين) من علماء المسلمين كما
قال الأستاذ الطنطاوي ليبحثوا في وسائل هذا الأمر ومقاصده ويبنوا المعاملات المالية على أسس الإسلام الصالحة لكل زمان ومكان، والتي يستبين معها للموافق والمخالف أن قواعد الاقتصاد في الإسلام هي أبر ببني الإنسان، وأحق بتثبيت دعائم الحضارة والعمران
البيوع والمعاملات
أما ما وضعه بعض الفقهاء من شروط وقيود لبعض البيع والعقود، مما ليس فيه نص صريح، ولا قياس صحيح، فالناس غير ملزمين به، إذ أن لكل زمن عرفه وأهله ومصالحه، وإنما نهى الرسول (ص) عن أنواع من المعاقدات والبيوع كانت في الجاهلية لما فيها غبن وغش وغرر وضرر، وأمثلتها معروفة في كتب السنة. والمعاملات تفترق عن العبادات في كون الأصل فيها الإباحة والصحة، حتى يقوم الدليل على التحريم والبطلان. وأما العبادات فلا تكون صحيحة ما لم تكن قائمة على أمر الله، وعلى الوجه الذي شرعه وارتضاه. وفي الأعلام للإمام ابن القيم مباحث ضافية في ذلك أكتفي منها بقوله رحمه الله:
(الخطأ الرابع) اعتقادهم أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على البطلان حتى يقوم دليل على الصحة، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة شرط أو عقد أو معاملة استصحبوا بطلانه، فأفسدوا بذلك كثيراً من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم بلا برهان من الله بناءً على هذا الأصل، وجمهور الفقهاء على خلافه، وأن الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه، وهذا القول هو الصحيح، فإن الحكم ببطلانها حكم بالتحريم والتأثيم، ومعلوم أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله به فاعله، كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه (إلى أن قال): فكل شرط وعقد ومعاملة سكت عنها فإنه لا يجوز القول بتحريمها فإنه سكت عنها رحمةً منه من غير نسيان وإهمال. وقد صرحت النصوص بأنها على الإباحة فيما عدا ما حرمه؛ وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود والعهود كلها، فقال تعالى: وأوفوا بالعهد) وقال: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) وقال: والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) وقال تعالى: والموفون بعهدهم إذا عاهدوا) (2: 34 من أعلام الموقعين)
وقال الإمام نجم الدين الطوفي المتوفى سنة (716) في بحث المصالح: وإنما اعتبرتا
المصلحة في المعاملات ونحوها، دون العبادات وشبهها، لأن العبادات حق للشارع خاص به، ولا يمكن معرفة حقه كماً وكيفاً وزماناً ومكاناً إلا من جهته، بخلاف حقوق المكلفين فإن أحكامها سياسية شرعية وضعت لمصالحهم وكانت هي المعتبرة، وعلى تحصيلها المعول اهـ باختصار، وتمام البحث في رسالة يسر الإسلام، وأصول التشريع العام للسيد الإمام محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى
إنشاء مجلة للأحكام الشرعية (العصرية)
إن من أفضل ما يقوم به المفكرون من رجال الإسلام العناية بوضع مجلة الأحكام، تسير على نهج (مجلة الأحكام العدلية) التي وضعت في عهد الدولة العثمانية، عام (1297) على ألا تكون مقيدة مثلها بمذهب واحد، تبحث في المسائل الشرعية العصرية، وتضع لها ما يناسبها من الأحكام؛ وإنما يضطلع بهذا العبء، ويقوم على تحرير مثل هذه المجلة. لجنة مؤلفة من أكبر علماء هذا العصر، ممن تضلعوا من مورد الكتاب والسنة، وعرفوا مذاهب الأئمة، ووقفوا على كنه الزمن ونواميس العمران، ودرسوا قوانين الدول وحقوق الأمم، ومارسوا الشؤون القضائية والإدارية. ألا وإن عملهم هذا سيكون له فوائد عظيمة جداً، منها أنه يتبين به أن الإسلام دين السماحة والتيسير، توافق أحكامه مصالح البشر في كل زمان ومكان، ولا يخفى أن من قواعده المأخوذة من نصوصه الكثيرة اليسر، ودفع الحرج والعسر، وأن الأمر إذا ضاق اتسع، وأن الضرورات تبيح المحظورات، فاستنباط الأحكام التي يدعو إليها الزمان من مآخذها وأدلتها يكون مبنياً على أساس حفظ مصالح الأمة ودرء المفاسد عنها، وقد تكرر هذا المعنى. (ومنها) أن اعتماد ما كان أقرب دليلاً وأكثر ملاءمة لحاجة العصر وطبيعة الأمة، من مذاهب الأئمة، يتبين به سعة الفقه الإسلامي، وأن اختلاف علمائنا رحمة والأخذ من متنوع مذاهبهم نعمة
(ومنها) رد المزاعم القائلة بأن الإسلام لا يلتقي مع حاجة البشر، ولا يبحث فيما يتجدد من شؤون الزمن. على أن الواقع أن بعض فقهائنا قد بحثوا في بعض ما ظهر في عصرنا من الشؤون؛ فهذا الفقيه الكبير الأستاذ الشيخ محمد بخيت قد ألف كتاباً أجاز فيه العمل بخبر البرق (التلغراف) سماه (إرشاد أهل الملة إلى إثبات الأهلة) ومثله الأستاذ الشهير الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي في كتابه (إرشاد الخلق إلى العمل بخبر البرق) وقد أثبت
أستاذنا القاسمي فتاوى لاثني عشر عالماً من أشهر علماء العصر بجواز قبول خبر البرق في إثبات الأهلة وغيرها، والمذياع والهاتف (الراديو والتلفون) كلاهما أوضح في الدلالة وأوثق من خبر البرق، لأن التلغراف يستفاد مضمونه من تلك النقرات التي ينقرها العامل فيفهم خبره ويترجم المراد منه، بخلاف الكلام بالراديو والهاتف فهو كلام صحيح صريح، وإنما يسمع من يلقي إليه الخبر بهما كلام المتكلم نفسه لا صداه، وما أظن أحداً ممن أجاز العمل بخبر البرق في الديانات والمعاملات يتردد في جواز العمل بالمذياع والهاتف فيهما لما قدمنا؛ وهو أقوى من خبر الكتاب الموثوق الذي قبله العلماء، وأبعد عن التزوير بكثير. وقد كتب النبي (ص) كتبه إلى الآفاق، وبلغ بها دعوته إلى الملوك. وقامت الحجة عليهم وكذلك فعل الخلفاء الراشدون، والملوك العادلون، فقد أرسلوا كتبهم، وقلدوا القضاة والنواب والأمراء عنهم بالكتابة. وعلى ذلك جرت سنة التابعين وأئمة الشرع وفقهاء الأمة، وما أجدر العلماء الآن بإذاعة القرآن والدعوة الإسلامية بالراديو - كما يفعل الإمام المراغي شيخ الجامع الأزهر - لتعم الكرة الأرضية، وتقوم حجة الله على العالمين
فإلى إنشاء هذه المجلة الكبرى الشاملة لكل ما حدث إلى الآن من الوسائل التي تعامل بها العالم أجمع في كافة أنحاء المعمور، وإلى تفصيل ما نشأ عن هذه الوسائل من مسائل وأحكام فقهية، ندعو أعلام الأمة، وفقهاء العصر، وبالله التوفيق.
(دمشق)
محمد بهجة البيطار
ابن حوقل
للأستاذ ميخائيل عواد
يجد المتوغل في تاريخ العرب حركة علمية واسعة النطاق، امتدت أحقاباً من الزمن، وهي كلها جديرة بالعناية والدرس، وحرية بأن تتناولها الأقلام في وقتنا لتجلو مختلف صفحاتها التي كانت إحداها السياحة في البلدان والضرب في مختلف الأصقاع
لقد امتهن بعض العرب هذا النوع من الحياة، فكان منهم من نسميه بالتاجر الرحالة. . . بل إن فريقاً آخر منهم اتخذها علماً، يعلو به ويكتب فيه، وينشر لواءه شرقاً وغرباً. . . ذاك هو الجغرافي المخطط للبلدان. وليس بين الفريقين من مدى واسع، فإن كليهما يستكشف مجاهل الأمكنة والبقاع، ويتولى البحث في أحوال الأمم التي يتردد إلى مواطنها، فيدرس طباعها ويتعرف خواصها ويتصل بأسباب ثروتها، فيصف تربتها وغلاتها وطرقها، إلى ما هنالك من مرافق عامة وخاصة.
هذه كلمة نمهد بها لكلامنا على الرحالة العربي الشهير: (ابن حوقل) الذي ذاع صيته في القرن الرابع للهجرة، والذي بالرغم من ذلك لم يخل مجال البحث عنه من مصاعب وغموض، نظراً إلى أن ما بين أيدينا اليوم من المصادر القديمة لم يورد بشأن منشأه وحياته ووفاته إلا النزر اليسير.
حياته
هو أبو القاسم محمد بن علي الموصلي، ولد ببغداد، ونشأ بها على اتفاق أغلب المؤرخين، وذلك في أواسط القرن الرابع للهجرة، وأقبل على التجول في البلاد الإسلامية، متعاطياً التجارة، لمكانتها الخاصة في الكسب، ولما تقتضيه من التنقل والتجول، وهي الناحية التي شغف بها فتملكته. وصادف عند ابتدائه في تجواله عام 331هـ (942م)، أن انقطع المسعودي الرحالة الشهير عن الارتحال ولزم داره، وعلى هذا فإن ابن حوقل قد خلف المسعودي في هذا المضمار. . . وانتهى رحالتنا من رحلته الواسعة سنة 359هـ (970م). فيكون بهذا قد أمضى ثمانية وعشرين عاماً في حل وارتحال، زار خلالها أقاصي البلدان، فساح في العالم الإسلامي شرقاً وغرباً من نهر السند إلى المحيط الأطلنطي، ووصف بلاد البربر وصفاً جميلاً، كما أنه جال في بلاد الأندلس متنقلاً بين كثير من مدنها
المشهورة. دخل صقلية وأسهب في الكلام عليها، وجاب ربوع مصر وسورية والعراق وفارس. . . ودون أخبار رحلته سنة 367هـ (977م)، ضمن كتابه المسمى بـ (المسالك والممالك والمفاوز والمهالك).
قال فيه عن نفسه: (. . . بدأت سفري هذا من مدينة السلام - يوم الخميس - لسبع خلون من شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة. . . وأنا من حداثة السن وغرته، وفي عنفوان الشباب وسكرته، قوي البضاعة، ظاهر الاستطاعة. . .)
إلى أن يقول: (. . . وقد ذكرت في آخر كتابي هذا كيف تعاورتني الأسفار، واقتطعتني في البر دون ركوب البحار، إلى أن سلكت وجه الأرض بأجمعه في طولها، وقطعت وتر الشمس على ظهرها. . .).
ثم يصف لنا خطته في تأليف كتابه فيقول: (وقد حررت ذكر المسافات، واستوفيت صور المدن وسائر ما وجب ذكره. . . وقد فصلت بلاد الإسلام إقليماً إقليماً وصقعاً صقعاً وكورة كورة لكل عمل. وبدأت بذكر ديار العرب، فجعلتها إقليماً واحداً، لأن الكعبة فيها ومكة أم القرى، وهي واسطة هذه الأقاليم عندي. . .).
ويتضح لنا من دراسة مصنفة إنه اقتصر على ذكر صفات الممالك الإسلامية، ولم يتعرض لغيرها متنصلاً من ذلك بقوله في كتابه المذكور:(. . . أما بلاد النصارى والحبشة، فلم أتكلم عليها إلا يسيراً، لأن تولعي بالحكمة والدين والعدل وانتظام الأحكام يأبى أن أثني عليهم بشيء من ذلك).
ابن حوقل يتعاطى التجسس
ذكر العلامة دوزي في كتابه (تاريخ إسلام أسبانيا) أن ابن حوقل كان عيناً للفاطميين يتعاطى التجسس لمصلحتهم. ولا شك أن يكون قد نال حظوتهم والتفاتهم أثناء نزوله بين ظهرانيهم، فسهلوا له شؤون رحلته وتجارته؛ وقد تمخضت هذه العلاقة عن تبادل الثقة، فوجدوا فيه خير مثال للدعاية، وهو ذاك الرحالة الشهير الذي يجوب بلدان الأرض فينشر دعوتهم على أحسن ما يرام!
كتاب (المسالك والممالك)
جاء في مقدمة الطبعة الأولى (للمسالك والممالك) ما نصه: (هذا كتاب المسالك والممالك والمفاوز والمهالك، وذكر الأقاليم والبلدان، على مر الدهور والأزمان، وطبائع أهلها، وخواص البلاد في نفسها، وذكر جبايتها وخراجاتها ومستغلاتها، وذكر الأنهار الكبار، واتصالها بشطوط البحار، وما على سواحل البحار من المدن والأمصار، ومسافة ما بين البلدان للسفارة والتجار، مع ما ينضاف إلى ذلك من الحكايات والأخبار والنوادر والآثار، تأليف أبي القسم بن حوقل. . . معول فيما جمعه على كتاب الإمام العالم أبي القاسم محمد بن خرداذبة، وقدامة بن جعفر الكاتب. . .).
وقد قدم كتابه هذا إلى أبي السري الحسن بن الفضل بن أبي السري الأصبهاني. قال ابن حوقل: (. . . وقد عملت له كتابي هذا بصفة أشكال الأرض ومقدارها في الطول والعرض وأقاليم البلدان، ومحل الغامر منها والعمران، من جميع بلاد الإسلام بتفصيل مدنها. . . وكان مما حضني على تأليفه، وحثني على تصنيفه، وجذبني إلى رسمه، أني لم أزل في الصبوة شغفاً بقراءة كتب المسالك، متطلعاً إلى كيفية البين بين الممالك. . . وترعرعت فقرأت الكتب الجليلة المعروفة. . . فلم أقرأ في المسالك كتاباً مقنعاً، وما رأيت فيها رسماً متبعاً، فدعاني ذلك إلى تأليف هذا الكتاب. . . وأعانني عليه تواصل السفر وانزعاجي عن وطني مع ما سبق به القدر لاستيفاء الرزق والأثر والشهوة لبلوغ الوطر. . .)
شغف ابن حوقل أثناء تجواله بدرس مؤلفات المتقدمين كالجيهاني وابن خرداذبة وقدامة. وكان لدى إحدى عوداته إلى بغداد عام 340هـ (951م) قد لقي الإصطخري (صاحب كتاب المسالك والممالك ، الذي صنفه نحو تلك السنة أيضاً). فاطلع ابن حوقل على كتاب الاصطخري، وانكشفت له مواطن الضعف فيه، وكان الإصطخري قد طلب إليه أن يراجع مصنفه ويهذب بعض خرائطه الجغرافية ، لكن ابن حوقل أبى ذلك، واعتزم كتابة هذا المصنف (المسالك والممالك) من جديد، فأتمه على ما أراد، حيث ضمنه مشاهداته ودراساته الخاصة وجعله باسمه
وهذا ما حدا بالكثير من المؤرخين إلى أن يقولوا كلمتهم في مصنف ابن حوقل ويعتبروه صورة ثانية لكتاب الإصطخري مع زيادات آتيه من دراساته ومشاهداته الخاصة التي اكتسبها أثناء رحلته، فأضافها إليه حينما عدل عن تصحيح كتاب الإصطخري.
وقد أضاف أبو الفداء في جغرافيته المسماة تقويم البلدان أن (كتاب ابن حوقل مطول، ذكر فيه صفات البلاد مستوفياً، غير أنه لم يضبط الأسماء، وكذلك لم يذكر الأطوال ولا العروض وصار غالب ما ذكره مجهول الاسم والبقعة. . .)
وجاراه في هذا القول الحاج خليفة صاحب كشف الظنون
ومهما يكن من أمر فأن هذا السفر الجليل عظيم الفائدة جدير بالدرس والاستقصاء، لاختصاصه في الجغرافية دون سواها فهو يحوي وصفاً دقيقاً لأغلب الأقطار. ولقد أفادنا بصورة خاصة عن مصر وسورية والعراق، وتعد بحوثه في المغرب وأسبانية وصقلية من المصادر الرئيسية، ناهيك بالمعلومات القيمة عن بقية الأصقاع والبلدان والمسافات، كما أنه لم ينس أن يعطينا فكرة عن ثروة البلاد وتجارة أهاليها، وجباية الضرائب إلى غير ذلك.
طبعات الكتاب
نال هذا المصنف اهتماماً حسناً، فظهرت له عدة طبعات قام بها طائفة من المستشرقين، والفضل الأوفر في ذلك يعود إلى المستشرق الكبير دي غويه، وسنأتي على ذكر هذه الطبعات فيما يلي:
أولاً: الطبعات الكاملة
1 -
الطبعة الأولى: نشرها المستشرق دي غويه الهولندي سنة 1873 في لندن، معتمداً في ذلك إلى نسختي خزانتي ليدن وأكسفورد، كما أنه اعتمد على النسخة العربية المرقومة 2214 في خزانة كتب باريس الأهلية، تلك التي أطلق عليها في طبعته اسم الموجز الباريسي وهو نص النسخة الاستنبولية. وتعتبر هذه الطبعة الحلقة الثانية من مجموعة (المكتبة الجغرافية العربية) أن هذه الطبعة قد نفذت منذ سنين عديدة وأصبحت نسخها من نوادر الكتب
2 -
الطبعة الثانية: اعتنى بنشرها المستشرق كريمرز بمطبعة بريل في ليدن سنة 1938، وقد اعتمد بصورة خاصة على نص النسخة المرقومة 3346، المحفوظة في خزانة السراي العتيق في استنبول، وعلى صورها، كما أنه قابل نص الطبعة الأولى المذكورة آنفاً، وبعض المصادر الأخرى، فجاءت بنتيجة هذه التدقيقات والمقابلات طبعة
متقنة فيها وافر التحقيق، وتحتوي على كل ما هو موجود الآن من مادة كتاب ابن حوقل فأصبحت متكافئة مع الطبعة الأولى، كما أنها زينت بالخرائط ذات الشروح والتعاليق. وقد ظهر من هذه الطبعة حتى الآن: القسم الأول الذي يتقوم من 247 صفحة، وسيليه الثاني والثالث وعنونها الناشر بـ (كتاب صورة الأرض) تأليف أبي القسم حوقل النصيبي
3 -
وكان هذا الكتاب قد ترجم إلى اللغة الفارسية، وعن هذه اللغة ترجمه إلى الإنجليزية السير ويلم أوزيلي وطبعه سنة 1800 في لندن بعنوان (الجغرافية الشرقية لابن حوقل)
وهي تقع في 36 + 327ص، وخريطة
ثانياً: الطبعات الجزئية
1 -
القسم المختص بالعراق العجمي، اعتنى بنشره المستشرق هماكر في ليدن سنة 1822، ويقع هذا القسم في ست صفحات وترجمته اللاتينية في ثمان، وعنونت بـ (خلاصة أخبار المسافر والعجم في معرفة بلاد عراق العجم)
2 -
القسم المختص ببلاد السند، طبع في بون سنة 1838 مع ترجمة لاتينية
3 -
القسم المختص بإفريقية، طبع في باريس سنة 1842
4 -
القسم المختص بمدينة بلرم (عاصمة جزيرة صقلية)، طبع في باريس سنة 1845، مع ترجمة فرنسية، بعناية المستشرق الإيطالي أماري
5 -
القسم المختص بسجستان نشره المستشرق بلاشر في مجموعه المسمى (منتخبات من آثار الجغرافيين العرب في القرون الوسطى) المطبوع بالعربية مع حواش وملاحظات بالفرنسية، سنة 1932 في بيروت (136 - 148)
6 -
ولعل هنالك بعض الترجمات أو الطبعات الجزئية مما لم نتوفق إلى الوقوف عليها لندورتها، فضربنا عنها صفحاً.
(بغداد)
ميخائيل عواد
الشيخ الخالدي أيضاً
للدكتور عبد الوهاب عزام
نقلت في المجلس السابق حديث الشيخ عن العلماء أصحاب الخطوط الجيدة. وقد لقيت الشيخ من بعد فقال:
ومن جيدي الخط صدر الدين القونوي وتلميذه سعد الدين الفرغاني شارح التائية - تائية ابن الفارض - وأبو منصور الجواليقي، رأيت بخطه نصف كتاب المحكم لابن سيده؛ والملك المعظم الأيوبي؛ وابن الأثير المؤرخ رأيت بخطه المؤتلف والمختلف لعبد الغني بن سعيد الحافظ المصري، وهو محدث كبير يعد من أقران ابن عبد البر والحافظ النيسابوري. ومن أصحاب الخطوط الجيدة من علماء الأندلس أبو حيان النحوي وأبو الربيع سليمان الكلاعي صاحب السيرة الكلاعية أجل كتاب في سيرة الرسول
ثم قال: ومن أرادأ العلماء خطاً نجم الدين النسفي صاحب العقائد، والإمام الحصيري أستاذ الملك المعظم، وهو شارح الجامع الكبير لمحمد بن الحسن، والعلامة التفتازاني وابن حجر. ومن علماء الأندلس ثم الإسكندرية الطرطوسي
وأما السيوطي والسيد الشريف الجرجاني والقطب الشيرازي والزمخشري وابن الأثير المحدث وابن مالك وابن هشام وابن عقيل النحويون فخطوطهم وسط بين الجيد والرديء
ولقيت الشيخ مرة أخرى فقال:
الشيء بالشيء يذكر: ومن أصحاب الخطوط الجيدة أبو الريحان البيروني وعبد الملك بن مسرة اليحصبي أستاذ ابن رشد القيلسوف؛ رأيت بخطه مدونة الإمام مالك وفي آخر كل جزء:
بالله يا قارئ استغفر لمن كتبا
…
فقد كفتك يداه النسخ والتعبا
ومنهم الحافظ المنذري صاحب الترغيب والترهيب وكان مدرس دار الحديث الكاملية
ومن أصحاب الخطوط الرديئة شمس الدين الفنري صاحب فصول البدائع في أصول الشرائع، وهو مجلدان كبيران وشارح مفتاح الغيب لصدر الدين العوكزي
وحسب كتاب البدائع أن الفنري ألفه في اثنتين وثلاثين سنة مع أنه شرح إيساغوجى في يوم واحد فيما يقال.
ومن ذوي الخط الرديء أيضاً ابن منظور المصري؛ رأيت بخطه جزأين من مختصر تاريخ دمشق والدارقطني المحدث؛ رأيت بخطه كتاب الكنى والأسماء للإمام مسلم، ومنهم ابن الصلاح، وابن خلدون. ومن متوسطي الخط الحافظ السلفي
قلت: ولا تنس العبد الفقير فهو من أصحاب الخطوط الرديئة
- 2 -
ولقيت شيخنا بعد أن نشرت في الرسالة مقالي عن طرطوس وقبر الخليفة المأمون فتحدثنا عن هذه البلدة، وما كان لها من مكانة في الشعوب الإسلامية، فقال الشيخ:
كنت أعجب حين اقرأ في تاريخ كثير من علمائنا أنهم أقاموا في طرسوس، ولا أدري لماذا عني هؤلاء العلماء بالرحيل إلى هذا الثغر القصي، حتى قرأت في تاريخ أحدهم أنه سافر لأداء فريضة الحج ثم رحل إلى طرسوس للمرابطة، فعرفت أن علماءنا الذين رحلوا إلى طرسوس كانوا يؤدون سنة من سنن الإسلام في مرابطة العدو على الحدود الإسلامية
ممن رحل إلى طرسوس أبو عبيد القاسم بن سلام، أقام هناك زهاء اثنين وعشرين عاماً، وأبو داود المحدث صاحب السنن أقام بها إحدى وعشرين سنة وألف (السنن) هناك، وعبد الله بن المبارك كان يتردد على طرسوس ويطيل الإقامة بها، والثاني أقام وحدث فيها طويلاً. وممن رابط هناك أيضاً أبو زيد المروزي صاحب أعلى إسناد للبخاري، والإمام أحمد، ويوسف ابن أسباط وهو محدث عظيم أجل من ابن المبارك، أقام بطرسوس أكثر من عشرين سنة، وإبراهيم بن أدهم أقام بها ما لا يقل عن عشرين سنة. ولابن المبارك كتاب في مدح طرسوس وأهلها المجاهدين
وكان طرسوس والمصيصة وأذنه والهارونية من مواضع الرباط يكثر العلماء الإقامة فيها
قلت: هذا سر من أسرار عظمة الإسلام وعلوه، وتمكن المسلمين في الأرض. كان علماؤنا لا يرون العبادة اعتكافاً واعتزالاً ولكن جهاداً ورباطاً، كانوا يرجعون إلى الثغور القاصية على بعد الشقة ليجاهدوا أو يرابطوا فسيطروا على الدنيا بالدين ولم ينبذوها من أجله. كانوا كما كان الخليفة الرشيد عباداً حجاجاً غزاة مرابطين:
فمن يقصد لقاءك أو يرده
…
ففي الحرمين أو أقصى الثغور
- 3 -
وحادثت الشيخ في الكتب والمؤلفين فقال:
أربعة كتب يجب عليكم أن تنشروها
1 -
كتاب العين، النسخة التي هذبها أبو بكر الزبيدي الأندلسي. رأيتها في مدريد بخط أندلسي جميل
2 -
كتاب الفعال لابن القطاع. منه نسخة كاملة في مكتبة واحدة في استنبول
3 -
وكتاب الأفعال، للسرقسطي ألفه للمنصور بن أبي عامر ومنه نسخة في استنبول وقد نقلت مقدمته كلها
4 -
والغريب المصنف لأبي عبيد القاسم بن سلام. رأيت نسخة منه منقولة عن الحميدي صاحب الجمع بين الصحيحين وهي نسخة صحيحة
قال: وليت عملكم يتسع لنشر كتب أخرى مثل شرح كتاب سيبوبه للسيرافي والتهذيب للأزهري والاشتقاق الكبير لابن دريد وشرح التسهيل لابن حيان الأندلسي
ومن نوادر الدهر نسخة ابن القطاع من صحاح الجوهري عليه حواش بخطه واستدراكات. قلت: كم لأسلافنا من كتب مفيدة لم تنل حقها من العناية. وعسى أن يوفقنا الله إلى نشرها والاستفادة منها وهو ولي التوفيق
عبد الوهاب عزام
هنري بوردو يتحدث عن هتلر
للأستاذ ناجي الطنطاوي
إن فيليب باريس - في اعتقادي - أول صحفي بل أول كاتب فرنسي استطاع أن يجلو للناس مدى تأثر هتلر في شعبه، وبين لهم أن استيلاء هتلر على نفوس سامعيه وعمق أثر كلامه فيها ناتج عن أنه يشارك شعبه بؤسه وضيقه. يخطب في قدماء المحاربين الذين ذاقوا ويلات الحرب وأصلوا سعيرها، ويخطب في النساء اللواتي صبرن طويلاً على البؤس والشقاء في دورهن التي أقفرت من كل شيء، ويخطب في جميع أولئك الذين مسهم الفقر بنابه وتاقت نفوسهم إلى الخلاص منه، كان صوته الصاحل يدوي في الجموع المحتشدة دوي الجرس الناعي، ولكن وعود الخلاص والإنقاذ كانت تظهر على كل نبرة من نبراته. كان يعلنهم بما سيحدث في المستقبل القريب واثقاً مما يقول ، لا يجهد نفسه بوضع النظريات والفروض، بل يستعيض عنها بخطة سهلة قريبة المنال، توصل إلى السعادة التي يحلم بها الرجال العاملون والنساء السذج
ولقد رأيت النساء الألمانيات يخضعن، وتذل نفوسهن أمام جاذبيته القوية. ولما رأيتهن وافرات الصراحة، رحت أحادثهن وأسألهن عنه، وانبرت واحدة منهن وافرة الجمال والذكاء من مدينة كولونية قدمت من برلين، وأخبرتني أنها حادثته على انفراد بعد (الأسبوع الأخضر) الذي جمع فيه الزعيم رجال الصناعات في كافة أنحاء البلاد الألمانية، ليبين لهم سبيل الاتفاق والتفاهم، وراحت تحدثني عنه قائلة:
- إنه دمث لين الجانب. لقد مثلت أمامه، وكان باستطاعتي أن أكلمه وأحادثه، ولكن الحياء عقد لساني؛ ولم أكن قد زورت في نفسي من قبل كلاماً ألقيه إليه.
سألتها:
- كيف بدا لك شخصه؟
فأجابتني قائلة:
- أن له عينين ساحرتين!
أجل! له عينان ساحرتان. . . هذا هو الجواب الذي أجبنني به جميعاً كيلا يعترفن بقبحه ودمامته. واجتمعت في هامبورغ بامرأة أخرى كانت تطيل الحديث عنه، وهي امرأة مسنة
كثيراً ما تضطرها أعمال زوجها للرحيل إلى برلين؛ وكانت أوثق صلة بهتلر من سواها، فكانت تضيف إلى جمال عينيه الحزن والكآبة اللذين يبدوان عليه دائماً. وبدأت أعير الأسطورة الذائعة في ألمانيا انتباهي واهتمامي، تلك أنه لا يهدأ ولا يسر إلا بالعزلة. ولقد شاد في بافاريا داراً في الجبل كثيراً ما يأوي إليها ليخلو إلى تأملاته، وينتظر إلهاماته. وحدثني المرأة قائلة:
- ذهبت إليه في أحد أيام عيد الميلاد، ودعوته للتفضل بزيارتنا مؤكدة له أنه لن يستطيع قضاء ليلة العيد هذه إلا بين أطفال إحدى العائلات، فما كان منه إلا أن هز رأسه وأجابني بقوله:
(كلا، كلا، إنني سأمتطي سيارتي مساء اليوم وسأتغلغل في الغاب تحت الثلج فأكون بعيداً عن الناس معتزلاً بنفسي) فحضرتني الجرأة إلى أن أتقدم إليها بالسؤال عن صلته بالمساء، فكان جوابها أنه لا أثر لهن في حياته قط. ومضت في حديثها قائلة:
- وسألته في يوم آخر عن السبب الذي أفضى به للجنوح عن الزواج، فأجابني: (أوه، كلا، إنني ذو شعور مرهف وحس دقيق، ووقوع طفل واحد لي في المرض يحول بيني وبين المضي في أعمالي السياسية
وذكرت - لدى سماع هذا - أن هذا الرجل الحساس فد قتل يوم الثلاثين من يونيه عام 1935 ريهم فون كار، وأوبرفورن، وأوتوستراسر، والجنرال فون شليخر وامرأته، وكثيراً غيرهم، يبلغ عددهم زهاء سبع وسبعين نفساً. ولكنني ظللت مصغياً لحديثها اعتقاداً مني أنه من الواجب علينا أن نساير النساء في تفكيرهن إذا وددنا أن نقف على أسلوب التفكير لدى إحدى الأمم. . . قالت المرأة:
- ولما سألته هل يعتقد أن الحكم السائد بيننا هو الحكم الصالح، أجابني بقوله:(كلا، إننا نرفض كل حكم وراثي، إذ أن البنات لا الأبناء هن اللواتي يرثن عادة عبقرية الأب. إن التوريث هو خطأ الملكية)
فتذكرت فجأة هذا التعبير الجميل لمؤرخنا ألبير سوريل: (إن حياة أسرة المرء امتداد لحياته بعد موته، وحياة الأمة امتداد لحياة الأسرة بعد فنائها) وأنا أقول إن حياة الأمم التي يخلفها الملوك هي امتداد لحياتهم إن ماتوا
هذا ما حدثتني به المرأة. أما الرجال فإن كلامهم عن هتلر لا يرافقه حماس كحماسها، إذ أن الناحبة العاطفية تختفي لديهم ويقدرون في الزعيم براعته في الإنشاء والبناء، براعة الرجل الذي أعاد للنظام حرمته بعد أن شوهته الاشتراكية، والذي قضى على البطالة بتمجيده العمل والنظام، والذي أعاد لألمانية كبرياءها وعزتها ومجدها، فعاشت مرفوعة الرأس بين الأمم، ولكن هل ترك الأمم الأخرى تحيا كذلك؟
إن هذه الإشارة الخفية إلى النمسا وتشيكوسلوفاكيا لا تترك أثراً، ذلك لأن المنطق الألماني لا يدخلهما في عداد الأمم
إن صاحب جريدة (دوتش فرانزوزيش غيزبلشاف) وهو الكونت آرنيم، هو من كبار الملاك، وتبلغ مساحة ملكه ستمائة هكتار. وليست هذه المساحة الشاسعة نادرة الوجود في ألمانيا الشمالية إذ أن الأرض هناك مجدبة وغير مقسمة كثيراً، وعدد الزراع هناك قليل، فيضطر المالكون للالتجاء إلى البولونيين، ففكرت - ولم أظهر ذلك - في فلاحنا الذي تحنو عليه الأرض حنو المرضعات على العظيم، وتقدم إليه الغذاء وفق اعتنائه بها، ورغم هذا نراه يذهب إلى المدينة، إلى الضجيج والنور
لقد تنبه الزعيم لهذه الهجرة، ورأى أن وقفها لا يتم إلا برفع منزلة الفلاح: فالبوير (الفلاح) هو عنوان فخري موقوف على تلك الأسر الألمانية ذات الدم الصافي التي تحرث الأربوف، والأربوف هذا هو الحقل الموروث الذي لا تقل مساحته عن مائة وخمسة وعشرين هكتاراً ليس من الجائز تقسيمها، وينتقل هذا الحقل بالإرث إلى الابن الذي يسميه الأب، وليس لديهم قانون الابن البكر، فالأب يختار وريثه بنفسه
إنني أتمنى وأرجو لبلادي قانوناً نيراً يربط الأسرة بالأرض ويثبتها بها كيلا تضطر للهجرة عنها، فالأرض التي تقسمها قوة القانون ليس باستطاعتها أن تؤمن حياة أسرة، وتضطر تلك الأسرة للهجرة والرحيل. وإن باب التوريث في القانون المدني يقضي على زراعة فرنسية، فيفقد فرنسة عقيدتها وإيمانها. يجب علينا حتماً أن نعيد النظر في القانون، وبعض الأنظمة الجديدة تراعي هذه الناحية، ولكنها مراعاة غير كافية
احتفلت ألمانية احتفالاً فخماً بذكرى بلوغ هتلر سن الخمسين فهو قد ولد إذن يوم العشرين من نيسان عام 1889 في بلدة ياسو؛ فلنحفظ هذه التاريخ لأنه من الممكن أن يجلو لنا
تكونه العقلي. كان في العاشرة من عمره عندما حدثت في النمسا - وطنه الأول - فاجعة دينية يظن أن أثرها كان قوياً في خياله الطفلي وأن صورتها ظلت منقوشة في ذاكرته، وعلى الأخص لأن أستاذه اشترك فيها كما يغلب على الظن ولقد ذكرها دون ريب لما دخل فينا التي فتحها، وبراغ التي غلبها وأذلها. ولقد اطلعت على فصل جيد واف مكتوب بقلم جورج غويو عن الحياة الألمانية العقلية يكشف لنا عن هذه الناحية:
صدر في نيسان علم 1897 أمر الإمبراطور فرانسوا جوزيف باعتبار اللغة التشيكية في المحاكم والدوائر والكنائس لغة رسمية، وكانت اللغة الألمانية قبل صدور هذا الأمر هي اللغة الرسمية السائدة فثارت ثائرة الشعب، وقامت ثورة مسلحة كان أبطالها جرمانيو النمسا الذين ألقوا المسئولية على عاتق الكنيسة الكاثوليكية. وكتب أحد المحرضين إذ ذاك ويدعى شونيرير يوم 16 نوفمبر عام 1898 يقول:
(ألا فلنحطم القيود التي تربطنا بكنيسة معادية لألمانيا، لا نريد أن يسود التفكير المسيحي الأرض الألمانية. إن التفكير الجرماني هو وحده صاحب الحق بالسيادة فيها)
ومذ ذلك الحين بدت نظرية التوسع الجرماني في النمسا، بشكل جديد: أنت بروتستانتي. . . معنى هذا أنك ألماني، وكان يذهب المتطرفون إلى أبعد من هذا، حتى أن صحيفة شونيرير راحت تنادي صائحة:(لقد مررنا بفلسطين كما مررنا بروما لنشيد فيهل قبة الجرمانية) وراح شونيرير يهيب بمواطنيه إلى رفض قبول الدين المسيحي والعودة إلى حظيرة الوطنية الحق قائلاً: (يجب على كل فرد من مواطني أن يكون وطنياً ألمانياً لا بروتستانتياً مسيحياً. وسيؤرخ العصر الحديث منذ الآن موقعة (نوريا) بين الرومان والتوتيين قبل المسيح بمائة وثلاث عشرة سنة. ثم يقول جورج غويو: (يقول تاريخ ألمانيا الوطني بالحرف الواحد: إن اليوم الذي أدخل فيه القديس بونيفاس الدين المسيحي إلى ألمانية كان يوم حداد على جرمانية؛ وإن الأخلاق الألمانية الوطنية تعلمنا أن العقيدة الاسكندنافية القديمة التي تأمر بمقابلة اللطمة بلطمة مثلها كانت أرفع وأشرف من العقيدة المسيحية التي تذل الإنسان وتفسد خلقه عندما تأمره بتقديم خده الأيسر؛ وإن التربية الألمانية الوطنية التي تتخذ من الأبطال الجرمانيين القدامى مثلاً أعلى لها يجب احتذاؤه لا تفتأ تفخر بأسلوبها في التربية حتى يكاد يعتقد الإنسان إنها توافق طبيعته. وتفضل هذه
التربية عبادة (ووتان) الإله الوطني على عبادة المسيح الدخيل. وبعد كل ذلك نرى الطقوس الألمانية الوطنية تحيي التقاليد الدينية التي كانت سائدة في الغابات القديمة، وذلك بعودتها إلى عادة تقديم الضحايا للشمس في زمني الانقلابين الصيفي والشتوي وحرقهم على ذرى الجبال. ومع هذا، إذا كان الجرمانيون أفضل شعوب الأرض ألا يكون إله المسيحيين قد استهان بهم وانتقص من أقدارهم باختياره شعباً غيرهم؟
وتملكت نفوس الألمانيين إذ ذاك رغبة صادقة في إنشاء دولة ألمانية موحدة يدين أفرادها بدين واحد هو دين (ووتان) وانقلبت الحركة الدينية إلى حركة سياسة.
(دمشق)
ترجمة ناجي الطنطاوي
التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له
مكانه بين قواد حركتنا القومية؟
للأستاذ محمود الخفيف
لم تكن مصر إذاً في حالة تدعو إلى القلق إلا إذا كان الخلاف بين الخديو ووزرائه مشكلة تستدعي حتما تدخل الدول الأوربية لحسمها، إذ لا يتسنى علاجها إلا على هذه الصورة
لم يكن هذا الخلاف الذي نشير إليه سوى الذريعة التي باتت إنجلترا تتحينها لتخطو الخطوة التي كانت سياستها في مصر طوال القرن التاسع عشر متجهة إليها، وكانت إنجلترا قد عولت أن تقطع العقدة إذا لم يتيسر لها حلها، فبقطع تلك العقدة أو حلها تصيب في الواقع غرضين: السيطرة على مصر وهذا قصارى آمالها في الشرق، والتخلص من مشاركة فرنسا لها فيما هي فيه من شؤون مصر وهذا ما كانت مصلحتها تفضي بوجوب الإسراع فيه
والإنجليز قوم نبغوا في أن يأخذوا كل شيء وألا يعطوا شيئاً، وأن يستبطنوا دخيلة كل عدو أو حليف دون أن يكشفوا له عن شيء تنطوي عليه نفوسهم، ولهم في ذلك أساليب يعد نجاحهم في إنفاذها أحد أسباب تفوقهم الكبرى
لذلك تقدم هؤلاء ليلعبوا إحدى لعباتهم السياسية وقد سهلت عليهم سياسة فرسنيه الأمر، فقد رأى هذا أن تبتعد إنجلترا وفرنسا عن التدخل المسلح في شؤون مصر، وفاته أنه إن استطاع أن يوجه سياسة بلاده نحو هذا الهدف فما له حيلة في إنجلترا إن استعصت عليه أو انسحبت منه
وتقدم فرسنيه يعرض على إنجلترا مقترحات لحل المشكلة، فطلب على لسان سفيره أن ترسل الدولتان سفناً من أسطوليهما إلى مياه الإسكندرية وأن تطلب الحكومتان إلى تركيا ألا تتدخل في شؤون مصر في ذلك الوقت، ولكن فرنسا لا تعارض إذا حضرت قوة عثمانية إلى مصر بدعوة من الدولتين على أن يكون عملهما محدوداً وأن تكون تحت مراقبتهما
ورأى فرسنيه أن تحاط روسيا والنمسا وألمانيا وإيطاليا بما تتخذه إنجلترا وفرنسا حيال المسألة المصرية على أن تكون تعليمات تلك الدول إلى سفرائها في الآستانة عين تعليمات الدولتين
أما عن مركز الخديو فقد رجعت فرنسا عن رأيها في خلعه ذلك الرأي الذي كانت تراه لو اتبع قبل ذلك يقضي على كثير من الصعاب
وكان فرسنيه يريد من المظاهرة البحرية أن يلقي الرعب في قلوب الوزراء ليقلعوا عن مقاومة الخديو فتنتهي الأزمة التي كانت قائمة بينه وبينهم، ولقد وافق جرانقل على مقترحات فرسنيه في جملتها ورأى أن يبلغ الباب العالي مع الاحتياط في القول أنه قد تعرض عليه في المستقبل مقترحات أخرى، ولكن فرسنيه لم ير هذا الرأي لأنه كان يرغب عن التقرب من تركيا ولذلك رفضه بادئ الأمر ولكنه عاد فقبله بعد إلحاف جرانفل عليه وكتب إلى سفيره بالآستانة أن يبلغ السلطان أنه (ليس من المستبعد أن تقدم اقتراحات أخرى إلى تركيا فيما بعد)
وأراد جرانفل أن يبعد عن نفسه وعن حكومته تهمة الرغبة في التدخل في شؤون مصر فاقترح أن تدعى الدول الأوربية إلى إرسال سفن إلى الإسكندرية تقف إلى جانب السفن الإنجليزية الفرنسية؛ وما كان جرانفل جاداً فيما يقول فإنه كان على يقين أنه سيقابل من فرنسا بالرفض ولو كانت لديه شبهة أن ستقبله فرنسا لما تقدم به، بل لو كان هذا الاقتراح من جانب فرنسا لعارضت فيه إنجلترا أشد المعرضة؛ ولو أن إنجلترا كنت جادة في مقترحها هذا لبذلت قصارى جهدها لتحمل فرنسا على قبوله ولكنها اكتفت أن تبلغ فرسنيه على لسان وزيرها أنها تأسف ألا تقرها فرنسا على وجهة نظرها وأنها تعد من الخطأ عدم دعوة الدول إلى الاشتراك في تلك المظاهرة، ولكن بما أن فرنسا قد ذهبت في الموافقة على السياسة البريطانية إلى مثل هذا الحد فإن إنجلترا لا يسعها إلا أن توافق فرنسا على ما ترى
وآمن فرسنيه بنزاهة السياسة الإنجليزية، ولو كان غير فرسنيه في موضعه لآمن بها كما آمن هذا، فلم يكن يدور بخلد أحد يومئذ أن إنجلترا كانت تترقب الفرص لتنقض على الفريسة دون فرنسا ولا كان في عملها ما يستراب منه؛ ولكن الإنجليز في هذا العالم خير
من انتصح بنصائح مكيافلي وخير من حذقها ولو قد تأخر الزمن بهذا الرجل لأخذ عنهم مبادئه ولوجد في أساليبهم وخططهم أبلغ أمثلة كتابه
الحق أن هذا المكر كان يدق على فرسنيه وغير فرسنيه من أولي الخبرة والدهاء من الرجال؛ وما كان ليفطن إلى هذا إلا من يسيء الظن بإنجلترا فيكون مبعث فطنته سوء الظن لا حسن الفهم وبعد النظر، ونحن إنما نفطن إلى هذه السياسة بعد أن تكشفت وتعاقبت عليها السنون، ولقد فطن إليها فرسنيه ورجال حكومته وشعبه لا ريب يوم وقعت الواقعة وانفردت إنجلترا بضرب الإسكندرية غير حاسبة لأي شيء من حولها حساباً
وكانت إنجلترا تبغي من سياستها هذه أن تصرف الدول عن مصر فإن دعوة تلك الدول إلى مشاركتها في المظاهرة البحرية يظهرها بمظهر من لا غرض له إلا الصالح العام في حين أن انفرادها هي وفرنسا بالأمر يغضب الدول ويجعلها تميل إلى التدخل لتنال حظاً من الغنيمة في مصر أو في غير مصر يوم يقوم الحساب وتوزع الأسلاب
وفضلاً عن ذلك فقد كانت إنجلترا تحذر أشد الحذر أن تغضب السلطان فينحاز إلى عرابي وحزبه ضد توفيق فيظهر هؤلاء بمظهر المحافظين على حقوق السلطان صاحب الحق الشرعي ضد الخديو ومشايعيه من الطامعين، وهنالك فكل تهمة بالعصيان ضد عرابي أمام الشعب المصري إنما تذهب أدراج الرياح
ولقد فطن ماليت إلى خطورة هذا الأمر وكتب إلى حكومته ينذرها أن إغفال تركيا من شأنه أن يضم النواب إلى العسكريين فيقفوا جميعاً صفاً واحداً ضد أوربا أو على الأقل إنه يقوي جانب عرابي وأشياعه
وودت إنجلترا لو طاوعتها فرنسا فيما أشارت به، ولما وجدت إصرارها على استبعاد تركيا والدول جميعاً لم تر بداً من أن ترسل إلى الدول قراراً ينفي أي نية في احتلال مصر ويؤكد أن إنجلترا لم ترد بالمظاهرة البحرية إلا إقرار السلام داخل مصر وأنها سوف تترك مصر وشأنها إذا قضي على ما فيها من القلاقل؛ وإذا لم تنجح تلك الوسائل السلمية فسوف تتفق إنجلترا والدول على ما تراه هي وفرنسا خير سياسة تتبع
وتحدث اللورد دوفرين سفير إنجلترا بالآستانة إلى وزير الخارجية العثماني في لهجة شديدة قائلاً: إنه إذا لم تعمل تركيا ما من شأنه أن يسهل على إنجلترا خطتها فسوف تزيد إنجلترا
عدد القطع في الإسكندرية وتطيل أمد بقائها جميعاً هناك
ولكن السلطان آلمه وأغضبه أن توجد السفن الفرنسية الإنجليزية أمام الإسكندرية فلم يكف عن احتجاجه وإعلان سخطه مما زاد الموقف العام حرجاً وتعقيداً
وبينما كانت فرنسا وإنجلترا تتبادلان الرأي على النحو الذي نذكر، كان الحنق في مصر على الخديو يتزايد يوماً عن يوم، وما زال الناس في قلق وخوف من موقفه ومشايعته الإنجليز على هذه الصورة حتى وصلت السفن إلى الإسكندرية
ولقد أخذ بعض الناس على الوطنيين أنهم لم يخلعوا الخديو في ذلك الوقت ويتصلوا بتركيا طالبين تعيين غيره؛ والواقع أنها مسألة دقيقة، فمن الناحية الوطنية كان الوطنيون يرون ضرورة خلعه، وحجتهم أن السكوت معناه التفريط في جانب الوطن ولكنهم من الوجهة الأخرى كانوا يرون أن عملهم هذا ينقلب وبالاً عليهم في ظروف كتلك الظروف التي أذاعت فيها أوربا عنهم المزعجات من الشائعات
وفي هذه الآونة حدث في صفوف النواب ما نخجل أشد الخجل من ذكره، فقد انحاز كبيرهم سلطان إلى الإنجليز وشايعه عدد منهم ليس بالقليل ولم يكن للوطنيين من عاصم في تلك المحنة إلا الاتحاد والثبات فكأنما تأبى الأيام إلا أن تجعل من أبناء مصر بعضهم لبعض عدواً، وكأن ذلك لكثرة ما تكرر من طباعهم التي فطروا عليها؛ ولطالما نكب هذا الشرق المسكين بتخاذله وانقسام أبنائه بعضهم على بعض مع أنهم يرون الظالمين الطامعين فيهم من أهل الغرب بعضهم في الكيد لهم أولياء بعض!
وكان انحياز سلطان والمستضعفين من النواب معه إلى الخديو أولى ثمرات المظاهرة البحرية؛ فإن سلطاناً حينما علم بها من الخديو فكر وتدبر ورأى أن المستقبل للخديو؛ فلما حضرت السفن اطمأن إلى الخديو وآثر أن يبادر بالانضمام إليه لتكون له الحظوة والمكانة عنده وعند الإنجليز أولي الجاه والبأس؛ وأمثال سلطان هذا إنما يعملون لأشخاصهم فحسب، وعلى ذلك فهم عبيد القوة وإن تعاظموا، وهم أضعف الناس وإن تطاولوا، وهم أحرص الناس على المادة وإن تظاهروا بالنبل والعفة، وهم إنما يدلون بجاه من يستكينون إليهم إدلال الخادم بسيف سيده
ونشط ماليت وأعوانه من جديد يذيعون أسوأ الأنباء عن مصر وعن عرابي وحزبه على
وجه الخصوص، حتى لقد وقف جرانفل في مجلس اللوردات في يوم 15 مايو يتوعد مصر ويتهدد ويصرح في غير تردد ولا استحياء أن النواب والأمة جميعاً في صف الخديو
وكان مستر بلنت لا يزال يسعى سعيه في إنجلترا لصالح الوطنيين وكانت بينه وبين عرابي مراسلات برقية قبل تصريح جرنفل يؤكد فيها عرابي الهدوء والسلام في مصر، فلما أعلن جرنفل تصريحه أرسل بلنت إلى عرابي رسالة برقية بتاريخ 16 مايو يقول فيها:(قال لورد جرانفل في البرلمان أن سلطان باشا والنواب قد انضموا إلى الخديو ضدك، فإن كان هذا القول غير صحيح فاطلب إلى سلطان باشا أن يرسل إلي تكذيباً، وإذا اتحدتم فلا تخشوا شيئاً. . . ألا يمكنكم أن تؤلفوا وزارة يكون سلطان رئيساً لها؟ وعلى كل حال عليكم بالثبات)
وأرسل هذا الرجل الحر إلى سلطان باشا في نفس الوقت برقية هذا نصها: (أعتقد أن جميع أولئك الذين يحبون مصر يجب أن يتحدوا فلا تتشاجر مع عرابي. إن الخطر عظيم) كما أرسل إلى كل من بطرس باشا وأبو يوسف ومحمد باشا الفلكي هذه البرقية (هل الحزب الوطني مع عرابي الآن؟ الحكومة الإنجليزية تدعي أنه ليس كذلك. إذا ذهب اتحادكم ضمتكم أوربا إلى أملاكها) ووصلت هذه البرقية أيضاً إلى الشيخ محمد عبده والشيخ الهجرسي وعبد الله أفندي نديم
وجاء بلنت رد سلطان فإذا به يقول: (لقد زال الخلاف الذي كان بين الخديو وبين الوزارة ولم يبق له أثر. وكلنا متفق على المحافظة على الأمن والسلام وعلى مناصرة الوزارة الحاضرة)
وتلقى كذلك مسير بلنت برقية من الشيخ الأمبابي شيخ الجامع الأزهر نصها: (من الشيخ الأنبابي شيخ الإسلام. سوى الخلاف بين الوزارة والخديو، والحزب الوطني راض بعرابي، والأمة والجيش متحدان)
وكتب الشيخ محمد عبده إليه أيضاً مثل هذا المعنى.
(يتبع)
الخفيف
من نار الفراق
قبلما يتمرد القلب!
(سأغضب، فاخشى غضبتي، إن نارها=بقلبي بركان خفي
معربد)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
1 -
الغضب الملتاع. . .
سأغضبُ. . . لا أجفو، ولا أتمرَّدُ
…
ولكنْ ضبابٌ سوْف يَنْكى له الغدُ!
سأغضبُ. . . لا أسلو! وكيفَ؟! وإنما
…
حَبيبُكِ تُضنيهِ الجراحُ فيزْهدُ
ويزْهدُ لا عنْ نُور عيْنَيْكِ. . . إنما
…
أغاني الهوَى للقَصْر تَبْلى وتَنفدُ
ويُصبِحُ شادِيكِ المُعَذَّبُ غُنْوَةً
…
مُكبَّلةَ الأنغامِ لا تَتَنهَّدُ
خَريفيَّةَ الأحلامِ، قَبْرِيّةَ الصَّدَى
…
بها الحُبُّ مَخنوقُ الشُّعاعِ مُقَيَّدُ
تُولْوِلُ في صَمْتِ الدُّموعِ كأنها
…
عَزيفُ الليالي. . . لا ربابٌ، ولا يَدُ!
سأغضب. . . فاخشيْ غضبتي! إنَّ نارها
…
بِقَلْبي بُركانٌ خَفِيٌّ مُعَرْبِدُ
إذا ثارَ. . . يا ويْل الهوَى! ويْلَ صفوِهِ
…
إذا هَبَّ إعصارُ الملالِ المبَدِّدُ
ويا ويْل ما غنَّت لكِ الرُّوح شِعرَها!
…
سَيَصْمُتُ بي هذا العَذابُ المغرِّدُ
وتَثْمَلُ أوْتاري بخمْرٍ شَقيَّةٍ
…
على كأسِها جِنُّ الأسَى مُتَمَرِّدُ
سَقَى كرْمَها دَمعُ الثَّكالَى، وهَزَّها
…
أَنينٌ على لَيْل الحَزانَى مُتَردَّدُ
فإنْ رُمْتُ تَغْريداً لحُسْنِكِ لَفَّني
…
جُنوني، وأعْياني السُّكون المشَرَّدُ
ويَغْدُو إلهُ الحُسنِ في عُزْلةِ الهوَى
…
فلا الحُسن معبودٌ، ولا الصَّبُّ يعبُدُ. .
سأغضبُ. . . لكنْ غضبةَ الزَّهر حِينما
…
يُجافيهِ ظِلٌّ في الهَجيرِ مُمَدَّدُ
سأغضب. . لكن غضبةَ اللَّحْن حينما
…
يَدِفُّ به في قَفْرَةِ السمْعِ مُنشِدُ
سأغضب يا نَبْعَ الرِّضا وظِلالَهُ
…
ويا مَنْ إليها جَذْوَتي تَتوَقَّدُ
فخِفِّي إلى أيَّاميَ السُّودِ، وامسحي
…
جَبيناً على كفَّيكِ كم راحَ يَسجدُ!
وَزُفِّي خُطاكِ البِيضِ إني بِنورها
…
إلى واحَتي الكُبرَى أَسِيرُ وأُرْشَدُ. .
2 -
التوبة الكبرى
(القبلة!. . .)
. . . وأَبْعَدُ آفاقِ الهَوَى مِنكِ قُبلَةٌ
…
هِيَ الخُلْدُ أوْ في حبِّنا هِيَ أخْلَدُ
بَقيَّةُ آمالي من الكونِ طَيفُها
…
أبِيتُ لهُ مِنْ لَوْعَتِي أتَهَجَّدُ
نَشُيدة أحْلامِي من الحبِّ، دُونَها
…
وعُمرِي كَعصْفِ السّافِياتِ يُبدّدُ
فهاتِي لرُوحي خَمْرَها وجُنونَها
…
فَمَا بِسِوَاهَا مُهْيجَتِي تَتَعَبّدُ
هِيَ التّوْبةُ الكبرى لِجسمي إذا غَدَتْ
…
بِهِ شَهْوَةُ الآثامِ تُرغْى وتُزْبِدُ
فلا تحْبِسيها في الشِّفاه. . . وأقْبِلي
…
بِثَوْرتها. . . فالعُمْرُ أوشكَ يَنْفدُ!
(سأغضب. . . لا أجفُو! ولا أتمرّدُ
…
ولكنْ ضبابٌ سَوْف يبكي له الغَدُ)
(فخِفِّي إلى أيامِيَ السُّود، وامْسَحي
…
جبيناً على كفَّيك كم راحَ يَسْجُدُ!)
(القاهرة)
محمود حسن إسماعيل
كلمة ولوع
للأستاذ خليل شيبوب
غريبةٌ هذه الحياةُ
…
وكل ما في الورى غريبُ
يا هند ما بال مقلتيك
…
ملؤهما الدمع والصفاء
كأنما تحت حاجبيك
…
من الدجى النجم والضياء
فكفكفي الدمع لا عليك
…
تبتسم الأرض والسماء
هذا فؤادي يجثو لديك
…
عبادة والهوى ضروب
غريبة هذه الحياة
…
وكل ما في الورى غريب
لما سكرنا من التصابي
…
صرنا بأمنٍ من الوجلْ
نحن حسبنا الهوى يحابي
…
قلباً بقلبٍ قد اتَّصل
فضاع ما كان من حساب
…
وخاب ما كان من أمل
الموت أشفى من بعض ما بي
…
لو أنه حاضر قريب
غريبة هذه الحياة
…
وكل ما في الورى غريب
نحن اجتمعنا ثم افترقنا
…
وهكذا العمر ينقضي
الحب نار بها احترقنا
…
والنار تفني وإن تُضي
بنا اشتفى من لو اتفقنا
…
ما كان يرضى فلا رضي
يراقب السُّمّ قد شرقنا
…
به ولا يشعر الرقيب
غريبة هذه الحياةُ
…
وكل ما في الورى غريب
ما قيمة الكون والبرايا
…
في عالم بارز الرؤى
لعلها هُيِّئَتْ ضحايا
…
لعالَمٍ آخر نأى
وإنما هذه الرزايا
…
أوجَعُها الحُب مخطئا
حسبت في نوره هدايا
…
إذاً ضلالي فيه مريب
غريبة هذه الحياةُ
…
وكل ما في الورى غريب
يا هند إني فقدت رشدي
…
سامحك الله في رشادي
أضعته فيك وهو عندي
…
أعز في العين من رقادي
يا حبها ما نقضت عهدي
…
لها ولا حُلْتُ عن ودادي
أدعوكِ هنداً وأي هند
…
أدعو ولا سامع مجيب
غريبة هذه الحياةُ
…
وكل ما في الورى غريب
نحن ضيوفٌ على الزمان
…
منزلنا الليل والنهار
وما لنا فيه من أَمان
…
ولا لنا فيهما قرار
من تحتنا لُجَّةُ المكان
…
وفوقنا لُجَّةٌ تُدار
وعمرنا شرُّ ما نعاني
…
فداؤنا ما له طبيب
غريبة هذه الحياة
…
وكل ما في الورى غريب
(الإسكندرية)
خليل شيبوب
العودة.
. .
للأستاذ العوضي الوكيل
تَعودين لي. . . حبَّذا أن تعودي
…
وأن تصِلِيني بعيْشٍ جديدِ
تعُودينَ أروعَ ما عادَ لي
…
ربيعٌ تحلَّى بزاهي الورود
تعودينَ مُشْرقةً في الضميرِ
…
ورائعةً كمعاني القَصِيد. . .
وفاتنةً كبناتِ الخيالِ
…
وآخذةً بعِنانِ النَّشِيد
تعودينَ لمحةَ طَرْفِي اللهِيف
…
ونبضةَ قلبي المشُوقِ العميد
تعودين أنساً لذي نُفْرَةٍ
…
يَقِرّ به بعد طولِ الشُّروُد
وراحةَ ذي سفرٍ مُجهَدٍ
…
يميل لها بَعدَ مُضنِي الجهود
كأنَّ النوى سَفرٌ في الهجيرِ
…
بصحراَء ما إن لها من حدودِ!
تعودينَ. . . رُبَّتَمَا عودةٍ
…
تَبُثُّ بشعري معاني الخُلودِ
فكم قَبْسةٍ منك في طَيِّهِ
…
وأخرى بروحِيَ عندَ الوَصِيد
أهمُّ لألْقِيَها في الحروفِ
…
فَتعْيا بها لهَجاتُ الوُجود
فاحبِسها في دمِي نَشْوَةً
…
وروحِي تَهتف: هل من مزيد؟
تعودينَ. . . رُبَّتَمَا عودة
…
تُضاعف إحساس قلبٍ رشيد
فيخلُقُ فيك المعاني العِذاب
…
وينظمها في النُّضارِ النَّضيد
ويُخصِبُ في القولِ إخصابَهُ
…
ويرفَعُ فيهِ رفيعَ البُنودِ. . .
ويُنهِلُ من شاَء منْ وِرْدِهِ
…
ولا من ورودٍ كهذا الوُرودِ!
تعودين. . . يا حُسنَ أُنسِ اللقاءِ
…
حُفْ بِثغْرٍ رَوِيٍّ وَجِيدِ
ألا فأطيلي الزمانَ القَصيرَ (م)
…
نَغْنَمُهُ بَعدَ يأسٍ شديدِ
ومُدِّيه مَدَّاً ولا تَبْخلي
…
على ذلكَ الطامِعِ المستزيدِ!
(دماس - دقهلية)
العوضي الوكيل
رسالة الفن
دراسات في الفن
الحرب والفن
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
الشعوب المحاربة بطبعها هي الشعوب التي تسكن الصحارى والمراعي، وما يشبه الصحارى والمراعي من الأرض القاسية على أبنائها التي لا تجود عليهم برزق كاف أو رزق منتظم، فيحملهم الفقر على هجرة أرضهم والإغارة على أرض غيرهم لينهبوها ويعودوا إلى أرضهم، أو ليغتصبوها ويستوطنوها سادة لأهلها. فإذا اطمأنوا في أرضهم الجديدة فإنهم على مر الزمن قالعون عن طبعهم داخلون في طبعها فلا يبقى لهم من نزوعهم إلى المحاربة إلا ما سمحت به
أما وهم على طبعهم الميال إلى الحرب فإن فنونهم تكون مما يلائم حياتهم. وهم في حياتهم رحالة، فقراء، مقاتلون؛ وقلقهم الدائم الذي يضطرهم إلى الهجرات المتتابعة لا يخلق عندهم الفنون التي تحتاج إلى أدوات ثقيلة، والى مكان تسكنه. لهذا لم يكن عند القوقاز تماثيل ولا صور، ولهذا لم يكن عند العرب موسيقى مما يستلزم عزفها الأدوات الثقيلة التي تزحم المحارب في المحارب. ولهذا لم يكد يكون عند الشعوب المحاربة من الفنون إلا الشعر والغناء والرقص
أما فقرهم فيصبغ روح الفن نفسها، فهو يخلق فيهم حباً للمال كما يخلق فيهم زهداً فيه. فهم يحبونه لأنه دليل على البطولة الواجبة للحصول عليه لأنه لا يستخلص إلا بالحرب والمجاهدة؛ وهم يزهدون فيه لأنه ليس دليلاً على شيء من هذا، فقد يبذل الكريم ماله للمحتاج حتى يفتقر فلا يأسف على ضياعه ولا يمكنه أن يعلن حسرته عليه إلا إذا أراد أن يعرض بأهله وأن يتهمهم بالتخلي عنه حتى ليستشعر الذل، أو إذا كان هذا الفقر نتيجة لكارثة لم يكن للإنسان يد في صدها كالطوفان أو
الحريق
ودأبهم على المقاتلة يشارك هذا الفقر في صبغة روح الفن كذلك، إذ يخلق لهم مثلاً علياً من
البطولة، والشجاعة، والكرم والسماحة، والمروءة، والعزة، واحترام الكبير صاحب التجارب مهما هرم وضعف، واحترام الصغير الضعيف، واحترام المرأة العاجزة، إلى غير ذلك من أخلاق الفتوة والفروسية.
ومن أبرز ما تخلقه الطبيعة في نفوس هؤلاء المحاربين: شدة الإيمان بالقضاء والقدر، وبإسراع هذه الحياة إلى الذهاب، وبهوان شأن هذه الحياة نفسها؛ فيخلق هذه في فنونهم إلى جانب عنفها الأصيل، روحاً من المرح والمجون والاستخفاف الذي يشبه الطيش أحياناً، تشجيعاً لهم على الحرب، وتعزية لهم بين الحرب والحرب.
ويظهر هذا في الشعر، كما يظهر في الغناء، وكما يظهر في الرقص
أما الشعر، فتكاد لا تخلو قصيدة جاهلية مما يدل على طبيعة العرب الأولى من ذكر النساء والخمر، والعبث. . . فوق أساسها القائم على الفخر وتعداد المآثر، ودلائل البطولة، وأيام النصر
وأما الغناء فلم تجد به الطبيعة على العرب إلا لينفس به أفراد عن خوالج ذواتهم. وذلك أن الطبيعة في بلاد العرب تكاد تكون بكماء لا تعلم الآذان إلا حسن الإصغاء إلى الصمت، وذلك على خلاف أوطان القوقاز التي تشارف البحور من بعض أطرافها، وللبحور أصوات، والتي تنطوي على الجنات الصغار في بعض أنحائها، وفي هذه الجنات مياه وأطيار وأشجار ودواب، ولكل هذه أصوات، والتي قد تهب فيها على هذه الجنات نسائم، وقد تهب رياح، وللنسائم همسات، وللزوابع صرخات؛ وقد تعلم القوقاز من شدو الطبيعة هذا غناء أوفر مما تعلمه العرب، فكان لغنائهم ألوان للأفراد، وألوان للجماعات، وألوان أخرى لشتى المباهج والأحزان، وألوان طاوعتهم في التعبير عن أنفسهم وما في أنفسهم من الحماسة والفخر والبطولة. . . وإلى جانب هذا، فإن في غناء القوقاز ما يقوم دليلاً على حبهم للنساء والخمر والعبث
وأما الرقص ففيه هذا كله أيضاً. . . فهو رقص بالخناجر والسيوف. وهو ليس إلا تمثيلاً للحرب، فيه من عنفها وحدتها كل عنفها وحدتها، لا يخففها شيء إلا ما يذكره المحاربون دائماً وهم في (أوقات الفراغ) من جمال النساء، وحلاوة الخمر، وبهجة العبث.
فالراقص العربي والراقص القوقازي يكران ويفران، ويضربان ويطعنان، ولكنهما مع هذا
يتثنيان ويتخلعان رشاقة وتلطفاً إرضاء للمرأة، كما يرتشفان الهواء وهما يرقصان ثم يترنحان سكراً أو تمثيلاً للسكر، كما يهزلان ويخلطان عبثاً ومرحاً ومجوناً
هذه هي فنون الحرب في الشعوب المطبوعة على الحرب وهي منطلقة بفطرتها في براح الأرض.
وعندما تستقر هذه الشعوب تبدأ فيها فنون الاستقرار، فينشأ الرسم والنحت والخط والعمارة والتمثيل. . . ولعل أقرب مثل لهذه الشعوب هو الشعب التركي، فإنه لم تنشأ عنده هذه الفنون الأخرى إلا عندما اطمأن في أوربا، أما قبل ذلك فقد كان الشعب كله جيشاً، والجيش لا يملك أن يستقر لفن ما. ولم يظهر النحت في الحضارة التركية العثمانية لأنها كانت حضارة إسلامية، ولأن المسلمين ظلوا زمناً طويلاً وهم يكرهون النحت لصلته القديمة بالوثنية الجاهلية التي أقام العرب فيها الأصنام ليعبدوها محاكاة لما كانت تفعله المدنيات التي كانت تطوق جزيرتهم. فالنحت ليس من فنون المحاربين، ولذلك فإننا لا نراه عند القوقاز الذين لم يتسرب إليهم مثلما تسرب إلى العرب من رشح المدنيات
وعندما تحارب الشعوب المستقرة بعضها بعضاً، أو عندما تصد هذه الشعوب غارة الغائرين عليها، تكف العمارة، ويكف النحت. وقد كان للرسم أن ينام أيضاً لولا أن الطباعة تمهد له الانتقال الذي يلائم الحرب. وقد كان للتمثيل أن يهدأ كذلك لولا أنه ينقلب دعايات حربية. أما الشعر والغناء والرقص فهي فنون الحرب التي تستطيع مصاحبتها ومعاشرتها في كل حين.
والعمارة تكف لأن الحرب تهدم القائم المبني فيما مضى، وهذا لا يشجع على البناء الجديد مادام البناء عرضة للهدم، والنحت يكف لأن صاحبه لن يجد عندما ينشغل الناس بالحرب من يزوره ليقرأ السلام على تمثاله، والرسم ليس من فنون الحرب الطبيعية لاستلزامه المكان والأدوات الثقيلة، وكذلك التمثيل، بل إن التمثيل يزيد على الرسم امتناعاً في الحرب لأنه يستلزم بطبعه كثيراً من الهدوء والاستسلام إلى حادثات الزمان ليستخلص منها موضوعات، والهدوء في الحرب منعدم، ولا حوادث في الحرب إلا هذه المآسي ذات اللون الواحد والطابع الواحد، وهي مما يحسه الأفراد العاديون إحساساً لا يمتاز عليه إحساس الفنانين امتيازاً كبيراً، وهي مما يعبر عنه الناس في كل ساعة بأقوالهم وأفعالهم فهم في
غنى عن ترديده وترجيعه في رحاب الفن
ولكن الرسم أنقذته المطبعة فمكنته من الحياة في الحرب، والتمثيل استعانته الدعاية فأعانها وإنه لقدير على نجدتها
والرسم والتمثيل فنان، وهما لا يستطيعان متى تيقظا أن يستعصيا على دوافع الحياة ومؤثراتها فلا بد أن يخضعا لما تخضع له فنون الحرب من هذه الدوافع وهذه المؤثرات. ولا بد أن تدب إليهما ما تخلقه الحرب في الأحياء من الحماسة والفخر بالبطولة والفتوة وسائر فضائل الحرب، كما يجب أن يشيع فيها الميل إلى النساء والخمر والعبث. فهذا الموكب من الأحاسيس هو الذي تتجند له البشرية في الحرب
والعالم اليوم في حرب، فهل ستنطبع الفنون بهذا الطابع الذي تبصمها به الحرب؟
قد كان العالم في حرب منذ ربع قرن. ولقد حدث أن تأثرت الفنون بالحرب، فتوقفت العمارة والنحت، وانتعش الشعر بروح الحماسة التي استطاعت بقدرة الله أن تصل حتى إلى مصر وإلى أمير شعرائها المترف المرحوم أحمد شوقي بك فقال:
بني مصر مكانكمو تهياً
…
فهيا مهدوا للملك هيا
خذوا شمس النهار له حلياً
…
ألم تك تاج أولكم مليا؟
. . . ومع أن الشعب لم يكن يفهم هذا الكلام (النحوي) فقد أساغه في لحن صاغه له فرد من أفراده كان فقيهاً يقرأ القرآن في المقابر، وكان فقيراً يستعين على الحياة في محنته بدهن الجدران وطلائها، وكان يغني في المواخير حيث كان يستطيع أن يجد من لا يتكبرون على الاستماع إليه وهو المرحوم الشيخ سيد درويش الذي غنى هذا النشيد بين عشرات الأغاني الملتهبة الأخرى
وكما انتعش الشعر بهذه الروح الحماسية: سواء منه العربي والمصري الدارج، فقد انتعش الغناء بها في العالم كله وفي مصر أيضاً بفضل سيد درويش كذلك، ولم يبرأ الغناء في العالم كله، ومصر محسوبة في العالم، من الإسراف في ذكر النساء والخمر والعبث
أما الرقص فقد جن جنونه في الدنيا، وكف الراقصون عن التانجو والفالس والفوكس تروت، وعفرتتهم الشارلستون وأمثالها من الرقصات المجنونة المكهربة التي انتشرت في العالم على أثر هدأة الحرب، والتي أخذها العالم عن الجنود الذين اقتبسوها من زملائهم
المحاربين الزنوج الذين كانوا يجمعون من المستعمرات، فرأوا فيها ما كانت تنزع إليه أجسامهم من الترنح والنزق. وقد مهد لهذه الرقصات الشعواء عند الناس حال النشاط الخارق وتوتر الأعصاب الذي استولى عليهم في الحرب
أما الرسم فقد سخرته الحرب، فكان من أقوى وسائل الدعاية فيها، وازدهر منه الكاريكاتير الذي يحتمل سخرية الخصوم بالخصوم، والذي ينفسح لكل خيال يحلق إليه الرسام
ومع هذا فلم يخل رسم الحرب من النساء والخمر والعبث، فقد انتشرت في الحرب العالمية الماضية صور النساء العاريات، والرجال العراة، كما ذاعت نكات السكارى المصورة وغيرها من النكات. . .
وكذلك التمثيل فقد احتضنت منه الدعاية جانباً كما احتضن منه المجون جانباً، فشارلي شابلن، وريجيدان ، وكشكش بك، والبربري عثمان، كلهم من مواليد الحرب، وقد كانوا جميعاً في تمثيلهم يؤدون واجب الدعاية لأوطانهم وجيوشهم، كما كانوا جميعاً في يروحون عن الناس بتهريجهم. وإذا كانوا قد مثلوا شيئاً بعد الحرب فإن طابع الحرب ظاهر فيه إلى مدى بعيد، فالعالم لم يستطع أن يتحول بشعوره عن حالة الحرب إلا بعد وقت طويل من خمودها.
والذي يتابع روايات شارلي شابلن يرى أنها أخذت تتخلص شيئاً فشيئاً من التهريج المناسب للحرب، وتذهب شيئاً فشيئاً إلى نقد الحياة الإنسانية في جوهر نفسها وفي مظاهر اجتماعها حتى كانت روايته الأخيرة (العصر الحديث) نقداً عاماً للإنسانية عامة.
ولكن شارلي لا بد أن يعود إلى فن الحرب منذ اليوم. بل لقد أعلن العالم بروايته (الديكتاتورية) التي سيقارع بها ألمانيا وهتلر والتي أعتقد أن أثرها في النيل منهما سيكون أعظم بكثير من حملة تجردها جيوش كثيرة عليهما. . . فإن هذه الرواية ستكون حملة يقود فيها شارلي شعبه الهائل الذي يكاد يشتمل أفراد الإنسانية جميعاً.
وكذلك من يتابع روايات نجيب الريحاني يرى أنها كانت في أيام الحرب دعاية وبهجة وتهريجاً وعرضاً موسيقياً اتسع لثلاث زعامات فنية: هي زعامة نجيب الريحاني، وزعامة بديع خيري، وزعامة سيد درويش. . . ثم أخذ مسرح الريحاني بعد ذلك يهدأ قليلاً قليلاً، حتى مثل الريحاني في السنوات الأخيرة كوميديات تكاد تكون درامات من كثرة ما فيها من
الجد إلى جانب الهزل، ومن وضوح الهدف الخلقي الذي كانت تنطلق إليه. فقد كان الريحاني أخيراً زعيماً مصرياً اجتماعياً مصلحاً، هو وشريكه بديع
وأجد الحق يجبرني على أن أشهد بها لله أن مسرح الريحاني هو البيئة الفنية التي تماشي الحياة الطبيعية في مصر أكثر من غيرها
ولابد أن يتغير الريحاني في الحرب. ولكنه في هذه المرة لابد أن يرتقي عما كان عليه في الحرب السابقة، ولابد أن ينثر الدعاية والتهريج الأصيلين بين درر من موسيقى زكريا أحمد وفن الجد، وإن له في شارلي شابلن أستاذه أو زميله الكبير أسوة
فإذا كان حال الفنون في الحرب العالمية الماضية هو هذا الحال الذي رأيناه فسيكون إذن حال الفنون هو هذا الحال نفسه في هذه الحرب العالمية القائمة إذا طال أمدها وتمكنت مؤثراتها من النفوس؛ وستكون هذه هي الحال في فنون الدنيا كلها، فإذا لم تظهر مثل هذه الفنون في مصر فان مصر إذن خالية من الفنانين. . .
وكل هؤلاء الذين يقولون نحن ونحن. . . عليهم أن يقروا في المخابئ وعلى أفواههم الكمامات. . . فهذا هو مجال الفن إذا كانوا يحسون أثر الحرب
- فإذا لم يكونوا يحسون الحرب؟!
- فقد يحسون القيامة. . . فصبراً إلى يوم يبعثون!
عزيز أحمد فهمي
رسالة العلم
لحظات الإلهام في تاريخ العلوم
تأليف مريون فلورنس لانسنغ
2 -
عصر النار
منذ عصور طويلة أدرك الإنسان وجوده في هذه الدنيا. ومع أنها وطنه ووطن أبنائه وأحفاده إلى مدى أجيال لا عداد لها فإنه كان غريباً فيها، وكان عليه أن يتعرف على كل شيء بها.
وكل طفل يولد في هذه الدنيا يولد غريباً، حتى في داره. فالوليد يتعرف في بطئ على الحجرة التي يقيم فيها، ثم على الطريق الذي به مسكنه، وعلى أبيه، وأمه، واخوته، وأخواته؛ ويتبين فيما بعد أنه يستطيع المشي، وأنه يستطيع الكلام!
وفي يوم ما ينتقل من هذا العالم الصغير عالم الدار إلى المدرسة فيجد دنيا أوسع من التي عرفها من قبل. وربما سافر بعد ذلك فعرف عن دنياه أكثر وأكثر
ومهما يؤد المرء من عمل فإن غيره قد هيأ له سبيله فسهل عليه تناوله، فعندما يتقدم الصغير في السن ويريد أن يشيد لنفسه منزلاً فإنه لا يحتاج إلى تعلم صناعة ابتناء المنازل فإن تلك الصناعة معدة متهيئة لما يقع عليه اختياره، وليس على من يريد التخاطب بالمسرة أن يخترعها، بل يدعو الأخصائيين فيضعون الأسلاك في منزله. وتنقل إليه الصحف واللاسلكية والصور المتحركة أخبار العالم وتخبره الكتب عن جغرافيته وتاريخه ويتهيأ العالم بسائر الوسائل العلمية
ومن بواعث السرور لنا نحن الذين وجدنا حياتنا مريحة ميسرة ممتعة أن نتعرف على الرجال والنساء اللذين هيئوا لنا العالم هذه التهيئة
إنهم أناس عاشوا في هذه الدنيا قبل أن نوجد بها، وعاشوا فيها في عصور بعيدة مظلمة. وليس في وسعنا أن نعرف شيئاً عن فريق منهم إلا بواسطة ما تركوه لنا من الأشياء كالأسلحة الحجرية والنقوش المرسومة على الكهوف ومعابد الآلهة. ومن هؤلاء الرجال فريق آخر عاش في عصر الأقاصيص والسير حين كانت أعمال الإنسان تنقل أخبارها إلى
بقاع الأرض بالحديث الشائع الذي لا يدرون كتابته
ومنهم فريق ثالث عاش في بداية العصر التاريخي، وفريق عاش في القرون الوسطى، وآخر عاش في بضع المائتين الأخيرة من السنين، ولا يزال فريق غير هؤلاء يعيش بين ظهرانينا إلى الآن
لم يصل إلى الناس أي جزء من المعرفة إلا بواسطة استكشافه على يد إنسان. وقد كانت الأرض التي وجد الإنسان الأسبق نفسه فوق ظهرها حافلة بالكنوز كما هي اليوم، ولكنه لم يستطع استكشاف كنوزها لنفسه فلم تفض إليه بأسرارها، وكان عليه أن يتعلم إيقاد النار وإذابة الحديد الواشج بالصخور، وكان عليه أن يعرف مقاييس الزمن وأن يستخدم البوصلة في تسيير السفن، وكان البخار والكهرباء ينتظران استكشافهما على يده، والفحم والنفط لا يزالان مدفونين في باطن الأرض قبل أن يستخدمهما في إدارة الآلات
وكان إنسان العصور السابقة يستطيع لكل هذه العناصر أن يأتي بالعجائب ولكن كان لابد له قبل ذلك أن يستكشفها، وأن يعرف مزاياها.
وبسبب الحذق الذي أبداه الإنسان في أعماله أصبح اليوم غير غريب عن دنياه، وليس ذلك فقط، ولكنه أصبح السيد المنتصر في الدنيا
لقد اجتاب على مدى قرون طريقاً طويلاً جبلياً فأصبح هذا الطريق مهيعه إلى النصر
وكما أنه لابد أن يوجد دائماً رجل مشغوف بالمخاطر منتج من شأنه أن يضيف جزءاً من المعرفة إلى كنوز المعرفة وإلى الذهن الإنساني، فكذلك توجد دائماً لحظة في حياة كل رجل من هؤلاء الرجال هي التي يتبين فيها حقيقة جديدة تدفع إلى عمل شيء يجعله ويجعل جيرته أحكم أو أرغد أو أغنى أو أسعد. هذه هي اللحظات التي تدور حولها قصصنا هذه
إن العلم معرفة من المعارف الإنسانية وقد نمت المعرفة الإنسانية بما في الأنفس من نزعات وثابة جوالة جوابة، ومثل اللحظات العظيمة في حياة العلم على مدى العصور كمثل لحظات الإلهام والنصر في حياة الفرد، وفي هذه اللحظات يظهر الإنسان وهو المخلوق الذي ميزته الروح والعقل بمظهر الانتصار على دنيا المادة
سر صنع النار
كما يرويه أهل الجزر في المحيط الهادي
منذ أجيال طويلة، كان أبناء الفناء لا يزالون حديثي العهد بسكنى الأرض، ولم يكن أحد منهم ليعرف سر صناعة النار، ولم يكن يعرف ذلك السر إلا آلهة العالم السفلي.
وكانوا يتولون حراستها دائبين خشية أن يعلم الإنسان ذلك السر، فيصبح من الحكمة في مستواهم. وقد كان موطن النار في العالم السفلي كما يعرف ذلك كل من رأى دخانها المتصاعد من فوهات البراكين. ولكن كان من الصعب تعرف الطريق إلى ذلك العالم، لأن الرقباء كان كثيراً عددهم على أبوابها.
وحدث مرة أن أقام بين الفانين في العالم العلوي شاب اسمه ماوي؛ ومع أنه فان كسائر من على ظهر الأرض، فإن أبويه كانا يعيشان في العالم السفلي بين آلهته، وكانوا يترددون إلى الأرض للقيام بمهام الآلهة.
وكانت أم ماوي واسمها (بوراتاتنجا) إذا أتت لزيارته أبت أن تؤاكله، وكانت في ذهابها ومجيئها تحمل سلة أتت بها من العالم السفلي، وهي تتناول الطعام على انفراد مما في تلك السلة. وفي أثناء نومها يوماً نظر ماوي إلى ما في السلة، وأخذ منها طعاماً، فذاقه، فوجده أفضل من كل ما ذاقه إلى الآن. ومع أنه كان من نوع سائر الطعام، فإن به شيئاً يجعله أفضل منه.
وعلم ماوي شيئاً عن النار وعرف أن الآلهة يطبخون الطعام على النار التي يصنعونها، فأصر على أن يملك النار ما دامت تجعل الطعام من الجودة كما رآه. وأصر على مراقبة أمه سراً عند عودتها، وعلى أن يخاطر بالذهاب إلى العالم السفلي ليحظى بهذه الهبة الغالية
واقتفى ماوي أثر أمه وأفلت من الحراس عند الأبواب الأولى؛ أما عند بعض الأبواب الداخلية فقد كان عليه أن ينتظر طويلاً حتى يتبدل الحراس ليتمكن من الدخول أثناء اشتغالهم بالكلام
لكنه وصل بعد مخاطرات كثيرة إلى منزل أمه وقال لها: إنه غير راغب في العودة إلى العالم الأرضي حتى يعلم سر صناعة النار
قالت الأم: (ولكنني لا أعلم هذا السر ولا يعلمه أحد غير إله النار وهو لا يفشيه. ومتى احتجت إلى نار جديدة فإني أذهب إلى أبيك (بو) وهو يذهب إلى إله النار ويطلب إليه منحه جزءاً من الخشب المحترق
قال ماوي: (إذن فسأذهب إلى إله النار وأطلب إليه تعليمي سرها)
فبذلت بوراتاتنجا كل ما في وسعها لتبعد ابنها عن إله النار لخشيتها أن يصاب ابنها الفاني في العالم السفلي. ولكن ماوي أصر على الذهاب وسأل عن موطن إله النار فدلته أمه على الطريق وكان اسم مسكنه (بيت شجر الموز)
وقالت له حين هم بالذهاب: (احترس يا ماوي فإن إله النار قوي جداً وقد يشتد به الغضب)
وذهب ماوي إلى بيت إله النار وعرفه للحال عندما رآه لكثرة الدخان المتصاعد فوق سطحه
وكان إله النار مشغولاً بطبخ طعامه، ولكنه وقف وسأل ماوي عما يريد
قال ماوي: (أريد جذوة من النار). فكان جواب إله النار - وهو يعود إلى الطبخ -: (لن ينال أحد الفانين جذوة من النار)
قال ماوي: (إن الفانين في حاجة إلى النار، وإنه قطع كل هذه المسافة أملاً في الحصول عليها) فقال الإله وقد ولاه ظهره: (لقد علم الفانون ما فيه الكفاية، ولو عرفوا النار أيضاً لصاروا آلهة). . .
وعاد ماوي حزيناً لأنه رأى إله النار لن يعلمه هذا السر. ولكنه عزم على البقاء مختبئاً بالقرب من منزل إله النار ليرى هل سيكون في وسعه أن يعرف بنفسه سرها. ومع أنه طلب جذوة من النار - كما أخبرته أمه أن أباه يفعل - فإنه أدرك أثناء نظره إليها أن جذوة لن تكفيه لأنه لا يستطيع أن يستبقيها مشتعلة أثناء رحلته إلى الدنيا
واختبأ ماوي بين أشجار الموز وراقب إله النار وهو يغذيها فلما تعب وجاع أسعده الحظ وهو يكاد ييأس ويعود إلى بيت أمه، فمن خلال الفوهة الجبلية التي كان إله النار يرسل منها دخان ناره إلى العالم (حيث لا يزال الناس يرونه إلى هذا اليوم) - من خلال هذه الفوهة انصب وابل من المطر، وكانت نار هذا الإله تحت هذه الفوهة مباشرة. وكان اندفاع الماء شديداً فلم يجد الإله فرصة حتى ولا لأخذ جذوة منها فانطفأت النار قبل أن يجد متسعاً من الوقت للالتفات.
وكان إله النار في البداية حاد الغضب فلم يستطع أن يفعل شيئاً سوى أنه لعن المطر الذي أطفأ ناره قبل أن ينضج طعامه أو يكاد. ثم التفت ليستوثق من أن أحداً ليس قيد النظر.
ولكنه لم ير ماوي الذي كان على شجرة مشرفة على المنزل، ثم دخل حجرة أخرى وأغلق الباب، وأخذ من بعض أركانها قدراً من ألياف مجففة من الكاكاو وأخذ قدراً من ركن آخر نحو خمسة أو ستة من فروع الموز. وكان في وسط الغرفة كتلة صغيرة من خشب صلب بوسطها تجويف
وكان ماوي يراقب باهتمام ما يفعله إله النار فوجده ينتقي فرعاً خفيفا من فروع الموز ويفتله فتلاً محكماً ويمسك بقوة أطرافه المفتولة ويحكها بقاع الفجوة التي بالكتلة الخشبية
وكان في أثناء فتله ينشد:
شجر الموز يا شجر
…
أعطني منك ما استتر
جذوة منك تختفي
…
خلف غض من الثمر
أعطني منك جذوة
…
حية تبعث الشرر
وفي هذه الأثناء رأى ماوي الدخان وقد بدأ يتصاعد من الفرع المفتول في الفجوة، ثم زاد تصاعد الدخان، فلما رأى الإله تصاعد الدخان ألقى في النار بألياف الكاكاو. ودهش ماوي إذ رأى ناراً محرقة ساطعة
لم يضيع ماوي وقته سدىً بل أسرع بالعودة إلى العالم وأخذ ألياف الكاكاو وفروع الموز وكتلة من الخشب الصلب وبدأ يجرب العمل بذلك ليعرف هل يستطيع الحصول على النار
وقد استغرقت منه التجربة وقتاً طويلاً لأن صنع النار ليس بالعمل السهل. وستدرك ذلك إذا حاولته. ولكنه استفاد من تجاريبه علمه كيف يمسك بورقة الموز الجافة وكيف يفتلها وكيف يشتد في حكاكها بالخشب
ولما وثق ماوي من أن النار تعيش في شجر الموز وأن في وسع أي إنسان أن يحصل على جذواتها - ذهب إلى رؤساء القبيلة فأخبرهم بذلك فجاءوا إليه خلسة وراقبوا صنعه النار
ومع أن بعضهم خافوا أن يحل بهم غضب الآلهة لأنهم تعلموا هذا السر غير المباح للفانين فإن أجرأ هؤلاء الزعماء طربوا لحصولهم على هذه القوة
بعد ذلك علم الناس أن النار تكمن في الخشب، وأنها تخرج منه طوع الإرادة، وأن أحدهم يستطيع أن يصنع النار كلما أراد فينضج طعامه ويدفئ نفسه
وكان يوماً عظيماً في عمر الإنسان ذلك اليوم الذي عرف فيه كيف يصنع النار
(يتبع)
ع. ا
من هنا ومن هناك
لغة الشعر وأثرها في الحروب الحديثة
عن (فيلادفيا انكويارار)
من الوسائل الهامة في أيام الحروب فن كتابة الرسائل السرية. وقد ألف مستر فليشر برات كتاباً جديداً بين فيه أصول هذا الفن منذ نشأ إلى أن ترقى وعم استعماله بين سائر الأمم.
وقول مستر برات في كتابه سالف الذكر: (إن سائر اللغات المكتوبة (شفر) وليس لرموزها معنى في ذاتها، إلا أنها تكون ذات معنى حينما تترجم بطريقة يعرف سرها الكاتب والقارئ؛ وإذا كان هذا قد غاب عن أذهان الناس، فذلك لأننا نتعلم القراءة ونحن على أبواب الحياة)
ولكي نفهم ذلك تمام الفهم، يجب أن نرجع بأذهاننا إلى العصور الوسطى، فقد كان اللذين يعرفون القراءة ندرة في تلك العصور؛ فإذا تسلم أحدهم رسالة، ذهب بها إلى شخص يعرف القراءة ليحل رموزها، كما نفعل حينما ترد علينا رسالة مكتوبة بالشفرة في هذه الأيام.
وكن طبيعياً بعد انتشار القراءة أن تظهر الحاجة إلى لغة الشفرة. أما لغة الأسرار الحربية في العصر الحديث فقد ظهرت الحاجة إليها متأخرة، ولم يصل فن الكتابة السرية إلى الدرجة القصوى من الأهمية إلا بعد نشوب الحرب العظمى. حتى أن كبار الضباط البريطانيين في حرب البوير كانوا يجدون سهولة في تبادل الرسائل باللغة اللاتينية التي تعد شفراً بالنسبة للبوير
وانتهى دور اللغة اللاتينية وبدأت محاولات كثيرة لوضع لغة سرية للميدان منذ سنة 1900 إلى سنة 1914 يراعى فيها البساطة وسرعة التلقين، وقد قامت كل من إنجلترا وفرنسا وألمانيا بدورها في هذا الشأن
فلما أعلنت الحرب العظمى في ذلك اليوم من شهر أغسطس أذاعت ألمانيا في جميع أنحائها كلمة (ولد اليوم مولود) وكانت هذه الجملة هي الرمز الذي وضعته لكلمة الحرب، ومنذ ذلك اليوم والنصر والهزيمة معلقان بصدى كلمة تسمع من وراء الحجرات لمعرفة شيء من تلك الرموز
ومما يرويه مستر برات على سبيل المثال أن (فون كلوك) كان يقود جيشاً ألمانياً في مساء 2 من سبتمبر 1914، فأصدرت إليه تعليمات بالمذياع ليحول وجهته بعيداً عن باريس، متجهاً إلى جنوب شرقي فرنسا، فلم تصل إليه هذه الرسالة، ولكنها وصلت إلى الفرنسيين، حيث استطاعوا حل رموزها، وقد بادر الجنرال جوفر بتغيير الخطة التي كان قد وضعها، وتقدم الجيش الفرنسي من باريس إلى المارن حيث تم له النصر على الألمان
إن فن الشفرة على جانب عظيم من الخطورة، وله المكان الأول من اهتمام الدول وقت الحروب. فالنصر والوقيعة بالأعداء حيث تكون أسرار الكتابة في طي الكتمان، وفناء الأمم وضياع العروش والممالك، حيث تفشى هذه الأسرار
ستالين يفضل الاتجاه نحو آسيا
(عن مجلة (باريد))
لم توضح بالكلمات الخطة التي وضعها ستالين ورفقاؤه لروسيا إلى الآن. ولكنها قد تتبين بالحركات والأعمال. ونستطيع أن نحكم بناء على ما نراه من حركات ستالين، أنه يصور روسيا دائماً كإمبراطورية شرقية عظيمة، يبزغ نجمها من آسيا
وكثيراً ما يعتقد في نفسه أنه مبعوث لبناء إمبراطورية آسيوية كبيرة، تعيد الحياة إلى الأصقاع المهجورة في سبيريا، وأواسط آسيا؛ وقد سار بخطى واسعة لتحقيق أمله هذا في عشر السنوات الأخيرة
وقد يرى ستالين أنه مرسل لخلق جيل جديد من الشرقيين، يجمع بين العنصر الأسيوي والعنصر الأوربي على تخوم روسيا
وسياسة روسيا الخارجية كسياسة أميركا كلاهما مرتبط بمجرى الحوادث في أوربا وآسيا معاً. إلا أننا في الوقت الذي نرى فيه سياسة أميركا تتحول شيئاً فشيئاً على يد الرئيس روزفلت من الناحية الآسيوية إلى الناحية الأوربية، نرى مقاصد روسيا تتجه على النقيض: من الناحية الأوربية إلى الناحية الآسيوية
' ن نظرة واحدة إلى الحالة في أوربا تجعلنا نعذر ستالين في اتجاهه نحو آسيا، أو على الأقل اتجاهه إلى ذلك الجزء من آسيا الذي يقع على تخوم روسيا: إذ أن المساحة الشاسعة
التي ستشغلها روسيا الآسيوية، وما تحوي من الموارد العظيمة لم يعرف تقديرها بصفة عامة
إن مطامع ستالين وعزيمته القوية لا تذهب إلى الاستيلاء عاجلاً على روسيا الآسيوية فحسب، ولكنها تمتد إلى الأصقاع والأقاليم المتفرقة في أواسط آسيا، خارج تخوم روسيا الحالية، حتى يكون للأجيال القادمة أرض جديدة يستغلونها بغير ثمن، بعيداً عن منازعات الدول
ويملأ الدنيا رجال الدعاية الروسية بأن روسيا السوفيتية لا تميل إلى التوسع، لأنها من الأمم الراضية القانعة. وهذا قول قد يبدو صحيحاً إذا أريد به أوربا، فحكومة السوفييت تبدو قليلة الاهتمام باسترداد أملاكها المغتصبة في أوربا، وإن كثيراً منها أخذ في ظروف قد تكون بعيدة عن الإنصاف. فإذا اتجهنا إلى آسيا وجدنا الموقف يختلف كل الاختلاف
فستالين لا ينوي استرداد الأراضي التي كانت يوماً ما في حوزة روسيا في الشرق الأقصى فحسب، ولكنه يعمل للاستيلاء على المواطن الهامة بعيداً عن الحدود الروسية الحالية أو تخومها السابقة
وقد أعلن أن الجيش الأحمر على استعداد لحماية أراضي منغوليا من أي اعتداء، والسوفييت يستغلون تلك البلاد منذ 1924، كما تفعل اليابان في منشوريا منذ 1931 على حد سواء
دخل الدكتاتورين
(عن (ذي برسباين تلغراف))
كان يتقاضى هتلر وهو مستشار الريخ 40000 جنيه في العام، فلما آل الأمر إليه في ألمانيا تنازل عن هذا المبلغ وقرر أن يكتفي بما ينال من أرباح كتابه (كفاحي)
أما ثروة الدكتاتور الألماني فهي في حيز الكتمان، إلا أنه مما لاشك فيه أن مجموع ما حصله من كتابه لا يقل عن مليون جنيه بحال من الأحوال
والمال - حتى في ألمانيا الحديثة - يعود على صاحبه بالمال، فمن الطبيعي أن تبذل المجهودات اللازمة لتنمية الثروة التي جمعها هتلر من حقوق طبع هذا الكتاب ومضاعفتها
وإذا عرفنا أن الذين يديرون أمر هذه الثروة، يمتازون في عالم الاقتصاد بمعرفة الأحوال والظروف الاقتصادية قبل غيرهم تبين لنا مقدار ما يستفيدونه من استغلال هذه الثروة
ولم يستطع دكتاتور مدى التاريخ أن يجمع ثروته من مثل هذا المورد العجيب، فقد كانوا يجمعون المال من الأبواب التي يعتقدون صلاحها، وقد بذل هتلر كثيراً من نفوذه في نشر كتابه وترويجه. ومن الطرق التي يتبعها في ذلك - على سبيل المثال - أن كتاب كفاحي وإن كان القانون لا يمنع أن يباع منه نسخة مقروءة، إذا وجدت مثل هذه النسخة منه عند بائع الكتب، تعرضه لتهمة اليهودية بغير تردد
ولا يجهل أحد القانون الذي صدر في ألمانيا بإلزام كل شخص يريد الزواج باقتناء نسخة من كتاب (كفاحي)، ولكن الذي لا يعرفه الأكثرون أن هذه النسخة يجب أن تدفع ثمنها الحكومة. وبهذه الوسائل تتمشى الدعاية والمنفعة جنباً إلى جنب. فبينما لا يكلف الفوهرر رعاياه بنساً واحداً نظير خدماته بطريق مباشرة يتقاضاهم مبلغاً يتراوح بين 150000 و200000 بطريق غير مباشرة
على أن للفوهرر امتيازات أخرى غير هذه؛ فمن البديهي أن كل ما يحتاجه أو يستعمله في حياته الخاصة تلزم بدفعه الحكومة
أما موسوليني فيتقاضى من الحكومة 1500 جنيه في السنة، ولكنه يربح من الصحافة أضعاف هذا المبلغ؛ فهو يستغل باسمه صحيفة (بوبولو ديتاليا) وقد أصبح كل إيطالي يقرأ هذه الصحيفة لعلمه بأنها صحيفة الدتشي. وتقوم الحكومة بدفع مصاريفه الخاصة - كهتلر - فهو لا يحتاج إلى إنفاق شيء من ماله الخاص
ولعل أفقر الدكتاتورين هو ستالين. ويقال إنه يتقاضى 80 جنيهاً في العام. أما المبلغ الحقيقي الذي يتقاضاه فمن المحتمل أن يكون 500 جنيه على وجه التقريب
على أنه ليس لديه ما ينفق فيه هذا المبلغ، فالحكومة تقوم بدفع الثمن لكل ما يحتاج إليه
البريد الأدبي
جواب عن أسئلة الأستاذ الطنطاوي
جاءنا من علامة حضرموت ومفتيها الأستاذ عبد الرحمن عبد الله هذا الجواب عن سؤال الأستاذ (الطنطاوي) المنشور في العدد 316 وقد أملاه على أحد تلاميذه قال:
يتعاظل الكلام من ازدحامه في الجواب عن هذا السؤال الخليق باللسان النضناض، والإفراد بالتأليف الفضفاض، حتى تبرد القلوب وتطمئن النفوس باتساع صدر الإسلام وضمانه للفوائد وقبول مبادئه للمصالح العامة إلى الأبد، وحتى تتأكد بأن الفقه الشافعي مبني على الأسس الثابتة من الكتاب والسنة. وخذ من عفو الخاطر ولسان البديهة ما يكون لهفة معجلة وتعلة للسائل إلى سنوح الفرصة للإفاضة فيما يشفي أوامه بالأدلة الناصعة والبراهين القاطعة.
أما أولاً فلأن في الاستعانة بالتوكيل في الرؤية والتسلم ما تندفع به المشاق في المتعارف بين التجار
وأما ثانياً فلأن مقابل الأظهر في المنهاج صحة بيع الغائب وإن لم يره البائع ولا المشتري، وبه يقول الأئمة الثلاثة. وقد جاء في فتاوى ابن حجر وأبي مخرمة أنه متى أمر السلطان باتباع مذهب معتبر في قضية وجب اتباعه، فما على الحكومة إلا أن تصدر أمرها بالعمل بذلك وينحل الإشكال
وأما ثالثاً فلأن الإمام النووي اختار انعقاد العقود بالمعاطاة، وتسامح في القول بها الإمام الغزالي وهو ممن لا يجهل مكانه من التصلب والورع في الدين. وقال في التحفة: وعلى الأصح لا مطالبة بالمعاطاة في الآخرة للرضا
وأما رابعاً فلأنه يسن للمقترض أن يزيد في الدفع على ما اقترضه لما صح من قوله صلى الله عليه وسلم: إن خياركم أحسنكم قضاءً. وإذا انضم إلى ذلك الأمر من السلطان بدفع الزيادة تحتم دفعها وصار واجباً كما بينت ذلك في كتابي (صوب الركام) ففي إمكان البنك المصري وأمثاله مع هذه المنادح الواسعة أن يتبسط في معاملاته ويفتنّ في مكاسبه بنجوة عما حرمه الله وأذن عليه بحربه من الربا
وأما خامساً فلأن القول بالمصالح المرسلة يمهد السبيل لكل مصلحه، ويفتح الباب لكل
منفعة.
وأول من فتحه على مصراعيه الخليفة الثاني رضوان الله عليه. أوليس هو القائل: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أحرمهما. وجاء في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر واحدة، ثم قال عمر أن الناس قد استعجلوا ما كانوا فيه على إناءه، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم.
وقد أجمع الفقهاء الأربعة على نفوذ الثلاث باللفظ الواحد، وإنما أمضاه عمر لما ظهر له في إمضائه من المصلحة كما قاله النووي وتبعه السبكي. فهو إذن قريب من القول بالمصالح الذي عليه الأكثر من المالكية، وبه يقول كثير من الشافعية، منهم علامة اليمن ابن زياد. وتوسع فيه الحبر البدل شيخ مشايخنا الإمام عبد الرحمن ابن سليمان الأهدل، حتى لقد نقل عن العلامة الحشيبري الحكم بالعادة في القضية التي تخشى فيها الفتنة من الحكم بالنصوص الفقهية. فليهدأ بال السائل وليفرخ روعه، وليعلم أن من أرسخ القواعد لدى فقهاء الشافعية وأصولهم أنه إذا ضاق الأمر اتسع. وأن الفقه ليس إلا الخير العام الموافق لتيسير الإسلام، الضامن لمصالح الأمم على مرور الأيام. وإنما قد يؤتى من جمود بعض منتحليه فيظن به ما هو منه براء، وبينه وبينه سبل وعرة وأرض عراء. هذا ما سنح، والعذر ممهد للضعف والزيادة والنقص، لأنه كما قلنا بلا إعمال روية ولا إتعاب خاطر ولا مراجعة صحيفة، ومن ورائه تفصيل، أنا به عند الحاجة كفيل، إن شاء الله تعالى.
(حضرموت)
عبد الرحمن عبد اللاه
مفتي حضر موت
إلى الدكتور زكي مبارك
هل تسمح لي يا دكتور أن أسألك عن معنى جملة جاءت في مقالك الأخير؟
إنك تقول: (. . . فكل ما تقرءونه في الكتب التاريخية والدينية من وصف عرب الجاهلية بالغفلة والحمق والطيش والخيال وسوء الفهم وبشاعة التصور وخمود العقل وبلادة
الإحساس، كل أولئك الصفات الذميمة وضعت لغرض خاص هو تحقير الوثنية الجاهلية، لتقوم على أنقاضها العقيدة الصحيحة، عقيدة التوحيد)
(وكان من حق رجال الدين أن يضعوا في تشويه الوثنية الجاهلية ما يشاءون لأنهم كانوا يرونها زيغاً في زيغ. . .)
وقد عرض لي عند قراءتها إشكالات:
1 -
إن التاريخ هو العلم الذي ينبئنا بأخبار من مضى، وكتبه هي مادة هذا العلم؛ فإذا كان في كتب التاريخ وصف للعرب بهذا الذي تقول أو بعضه أو ما يشبهه، فإنه يبقى صحيحاً معتبراً حتى يجيء من ينقضه بالأدلة العلمية المستندة إلى النص الصحيح. أما حكمك عليه بالوضع بلا دليل فلا يصنع في رده شيئاً، فهل لك عليه من دليل؟
2 -
وردك لما روته الكتب الدينية، أو يفهم من كلامك أنها روته، وحكمك عليه بالوضع أشد، لأن هذه الكتب الدينية، من دواوين الحديث أو مجموعات التفسير أو تصانيف الأئمة، حجة للمسلمين في دينهم، ومصدر يأخذون منه شريعتهم، فإذا صح لكل أديب تكذيب شيء منها بلا دليل صارت كلها عرضة للتكذيب، وبطل الدين. وإذا كانت مسألة اليوم هينة لا تمس جوهر الدين فإنها تجر حتماً إلى ما ليس بالهين وتكون سنة في الناس سيئة - أعيذ الدكتور زكي مبارك أن يكون صاحبها الذي سيحمل وزرها ووزر من عمل بها
3 -
ما الدليل على أن الرواة اختلقوا الأخبار لتحقير الوثنية أو أنهم منعوا من رواية أنبائها؟
4 -
ليس في الإسلام طبقة خاصة تعرف برجال الدين، وإنما فيها العلماء من محدثين ومفسرين وفقهاء وأصوليين، وطبقاتهم طبقات الصحابة والتابعين وتابعيهم والأئمة المجتهدين ومقلديهم، فأي أولئك الذين حكم عليهم الدكتور بصنع هذه الأخبار التي تشوه الوثنية ووضعها؟ وهل من الكذابين بين الصحابة والتابعون الذين نقل عنهم الشيء الكثير في ذم شرك الجاهلية وقبيح أحوالها؟
5 -
وما معنى قول الدكتور بأن ما جاء في الكتب التاريخية والدينية من الأخبار الموضوعة (بزعمه) إنما أريد منها تحقير الوثنية لتقوم على أنقاضها عقيدة التوحيد، مع أن المعروف الثابت أن الوثنية هدمت منذ هدم الله أصنامها، ومحيت أنقاضها، وقامت عقيدة
التوحيد قبل انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ورست دعائمها؟
هذا وليثق الدكتور أن هذه أسئلة مستفهم، يجب أن يعرف جوابه عليها.
علي الطنطاوي
حول نعيم الجنة
قرأت في العدد (316) من الرسالة رد أستاذنا الدكتور زكي مبارك، فأجيب بالآتي: ذكر الدكتور ما يفيد أن هناك من يرى أن الجنة رمز ومجاز، ولكن لما كانت اللذات الأخروية هي لذات لا تدرك إلا بالعقل المحض، فقد قال مثل العلامة الأصفهاني: إنه لما أراد الله أن يقرب معرفة تلك اللذات من أفهام الكافة شبهها ومثلها لهم بأنواع ما تدركها حواسهم، فقال تعالى:(مثل الجنة التي وعد المتقون، فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى) ليبين للكافة طيبها بما عرفوه من طيب المطاعم، وقال:(مثل الجنة التي وعد المتقون) ولم يقل الجنة لينبه الخاصة على أن ذلك تصوير وتمثيل، وأن الإنسان إن اجتهد ما اجتهد أن يطلع على تلك السعادة فلا سبيل له إليها إلا على أحد وجهين: أحدهما أن يفارق هذا الهيكل ويخلف وراءه هذا المنزل فيطلع على ذلك. والثاني أن يزيل قبل مفارقة الهيكل الأمراض النفسانية فيطلع من وراء ستر رفيق على ما أعد له
ولكنا لا نستطيع الأخذ بنظرية التصوير هذه، لسبق وجود جنة بها أشياء مادية، وخرج منها أبوانا آدم وحواء لأكلهما من الشجرة المحرمة، ولا نريد أن ندخل في الخلاف الذي ذكره ابن قيم الجوزي في الجنة التي سبق لآدم السكنى فيها هل كانت جنة الخلد أم جنة أخرى؟ لأنه على أي حال يجب استبعاد النظرية التصويرية لمعارضتها لكثير من النصوص. إذن لم يبق إلا قول الدكتور زكي مبارك:(إن الإنسان مكون من جسد وروح، وهو كذلك في الحياة الأخروية). ولا أدري لماذا تشبث أستاذنا الدكتور بذكر هذا الشيء البديهي، ولكني أطمئن دكتورنا على أن الثواب والعقاب سيكونان للروح مع البدن. أذكر خلاصة ما ذكره الخوارزمي من أدلة على هذا من أن الأفعال والتدابير والآراء كلها تصدر من الجسد الحي، وأن الطاعة والمعصية حصلتا منهما جميعاً، وأن الثواب بالطاعة والعقاب
بالمعصية إنما صدر من الجسد بواسطة الروح فيجب أن يكون العقاب والثواب لهما وأن كلاً منهما محتاج لصاحبه، لولا الروح لكان القالب خشباً مسندة، ولولا القالب لما كان روح. فكل راض فاعل وعامل من وجه فيكون الخطاب والثواب والعقاب لهما جميعاً، حتى قال ابن عباس رضي الله عنه: لم تزل الخصومة قائمة إلى يوم القيامة حتى تختصم الروح مع الجسد فيقول الجسد: أي رب خلقتني كالجثة ولم تجعل لي يداً أبطش بها ولا رجلاً أمشي بها ولا عيناً أبصر بها حتى دخل هذا علي كالشهاب، فيه نطق لساني وسمعت أذني وأبصرت عيني وبطشت يدي، فأحل عليه العذاب ونجني من النار. فتقول الروح: يا رب خلقتني كالريح ولم تجعل لي يداً ورجلاً وعيناً وسمعاً فلم أتحرك إلا بحركته ولم أسكن إلا بسكونه، فما ذنبي وما جرمي يا رب؟ أحل عليه العذاب ونجني. قال: فيضرب الله تعالى لهما مثلاً كالأعمى والمقعد يصطحبان، أما الأعمى فلا يبصر، والمقعد لا يقدر على المشي، فبلغا إلى بستان فجلسا وتشاورا وطلبا حيلة، فقال الأعمى: أنا لا أبصر فمر أنت وأت بالعنب، وقال المقعد: بل مر أنت فإني لا أقدر على المشي، ثم تناظرا وتناصفا وقالا: هذا أمر لا يتم بأمر دون الآخر، يا أعمى قم أنت فارفعني حتى أتسلق الحائط وأقطف العنب. فلما توافقا قطعا العنب وأكلاه. وقال المقعد: لولا أنت يا أعمى لما أكلت. وقال الأعمى: لولا أنت يا مقعد لما أكلت. ونحن لم ننكر تمتع الروح والجسد فقد قلنا في كلمتنا الأولى في العدد 315: (إن الإسلام دين روحانيات ومعنويات، وأن ليس معنى هذا أنه لا يعنى بالحسيات والماديات، بل هو يعنى بها وبتنظيمها التنظيم الذي يتصل بأن يرقى بالإنسان إلى الروحانيات. . . وأنه إن أراد ببعضها اللذة الحسية، فإنه لا يريدها حقيرة متواضعة، كما هي في دنيانا، بل يريدها عزيزة تتصل أكبر مما تتصل بالروحانيات والمعنويات)، فالذي يحتمل الجدال ليس ذكر أن النعيم سيلحق الجسم والروح أم لا لأنا أجمعنا على ذلك، بل هل أغلب اللذات سيكون حسياً أم روحياً؟ أو بمعنى آخر هل تغليب اللذة سيصف لذات الجنة بأنها روحية أم بأنها حسية؟
على أنه يطربني أن أرى أستاذنا الدكتور زكي مبارك ينزع نزعة روحية من غير أن يشعر، إذ يقول في كلمته في العدد 316:(سيكون في المؤمنين من يكون نعيمهم برضوان الله أطيب بنعيمهم بما في الجنة من ثمرات وطيبات) وإن كنت لا أفهم كيف يرى عدم
تعميم أن الرضى بالنعيم أطيب مما في الجنة من ثمرات مهما كانت درجة المرضي عنه. ولعل المخرج من هذا قول الدكتور في العدد 318 في الرد على الأستاذ الغمراوي: (إن العبادة الصحيحة هي رؤية الله في نعمه المشكورة) فإني أرى أنه بهذين قد زحزح نفسه كثيراً عن رأي حسية لذات الجنة، لولا ذكره ما ذكر من دعاء ناقشه فيه الأستاذ الغعمراوي مناقشة عنيفة في كلمتين، فكتب أستاذنا الدكتور زكي كلمة يحمد الله تعالى فيها على نعمة الإسلام
على أن وجود الأشياء الحسية في الجنة لا يعني أن التمتع سيكون حسياً، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يجب ملاحظة تغيير ما في طبيعة الإنسان في الدنيا عنها في الآخرة لوجود قوى نفسية نازعة للبهيمية وعدم إمكان تصور هذا في الآخرة، على فهم أن أصحاب الجنة لم يصلوا إليها إلا لأنهم فهموا خصائص الروح وتمتعوا كثيراً كل حسب درجته بلذتها، فلا يعقل أن يكون حبهم للذة الروحية في العالم الثاني أقل من حبهم لها في عالمهم الدنيوي. ثم إن للجو حكمة، فجو الجنة جو روحي لا يمكن أن يعمد إنسان إلى الخروج عنه؛ على أن الحسيات لها بعض العناية بها، وللذاتها بعض الرغبة فيها، على أن تكون ثانوية وتابعة، وعلى أن تنحو نحو الفكرة الروحية. وإذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى - كما في الحديث القدسي -: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة، ألم تنجنا من النار! فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ويكفي أستاذنا الدكتور زكي مبارك من علامات روحية اللذات في الجنة أن أصحاب الجنة سيكونون ولا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب واحد، يسبحون الله بكرة وعشية، وتحيتهم فيها سلام، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين
محمود علي قراعة
المغرب الأقصى وفكرة الخلافة
قرأت متأخراً في العدد الممتاز من مجلة (الهلال) الأغر مقالاً للأستاذ عبد القادر حمزة باشا عن الخلافة الإسلامية وعدم إمكان قيامها في الوقت الحاضر، جاء فيه ما يلي:
(وإذا قيل إنه من الميسور أن تقوم الخلافة بين الأمم الإسلامية المستقلة، وأن مصر أولى هذه الأمم بتلك الإمامة لأنها قلب العالم الإسلامي؛ إذا قيل هذا، فيجب ألا ينسى أن هناك من يعارض في الخلافة، ولا يعترف بها كتركيا والمغرب الأقصى وغيرهما، وما من فائدة في قيام نظام لا يعترف به الجميع)
أريد أن أسأل حضرة الكاتب عمن أخبره بأن المغرب يعترض على فكرة الخلافة.
فإذا كان هذا الفهم وصله عن طريق الصحف الاستعمارية، أو عن تصريحات الرجال الرسميين، وهو لن يصله إلا عن هذين الطريقين، فأريد أن أقول لسعادته: إن القول في مثل هذا الأمر ليس هو من حق هؤلاء ولا من أولئك. القول الفيصل في هذا إنما هو لإرادة الشعب المغربي؛ والشعب المغربي لن يعارض مطلقاً في كل فكرة يستمد منها الإسلام والعرب القوة والمجد، كفكرة الخلافة الإسلامية، أو الوحدة العربية.
وإذا كانت وضعية المغرب لا تسمح له في الوقت الحاضر أن يساهم في مثل هذه الأعمال الكبيرة، فهو يرجو أن تتحقق لأنه يعلم أن مثل هذه المشروعات العظمى ستعود عليه وعلى باقي الأقطار العربية التي تحت الاستعمار بأكبر المنافع، وسترفع عن كاهله كثيراً من القيود والسدود
على أن موضوع كلام الكاتب إنما كان في الأمم المستقلة، والغرب ليس كذلك، فهل نسي سعادته أن المغرب تحت حماية فرنسا؟ وما وجه قران المغرب بتركيا؟ إن المغرب يختلف تمام الاختلاف من حيث الأوضاع والنظم عن تركيا. والمغرب يمسك على دينه بأيد من حديد، ويريد اقتضاء قواعد الإسلام حذواً بحذو، كما سنها الرسول، وكما نزل بها القرآن
وأعود فأقول: إن الحركة القومية بالمغرب التي يترأسها الزعيم الأكبر محمد بن الحسن الوزاني - أطلق الله سراحه - كانت صرحت في جريدتها (الدفاع) أن من الأسس التي ترتكز عليها (القومية المغربية)(الامتثال لواجب الرابطة العربية، والجامعة الإسلامية)، وهي ما كانت لتقول مثل هذه الكلمة لو لم تكن شاعرة بما يختلج في ضمائر الشعب المغربي من حب الوحدة الإسلامية، والتضحية بكل غال في سبيلها
وهل كتب علينا الشقاء إلا يوم كتب على الخلافة الإسلامية بالعدم!
(فاس)
(أبو الوفاء)
حول معنى بيت
ذكر الأستاذ أحمد عبد الرحمن عيسى في العدد (322) من مجلة (الرسالة) الغراء أن هذا البيت المنسوب إلى معاوية في قصة سعد وسعاد:
قد كنت تشبه صوفياً له كتب
…
من الفرائض أو آيات قرآن
لا يحتمل ما فهمته فيه من حمل كلمة - كتب - على ظاهرها، وإنما هي جمع كتاب بمعنى مكتوب، والمكتوب هو المفروض، فيكون المعنى له مفروضات من الفرائض، وإذا كان هذا هو معنى البيت فإنه لا يكون فيه دلالة على أن قصة سعد وسعاد موضوعة
وإني أرى أن هذا المعنى الذي ذكره الأستاذ يزيد في ضعف هذا البيت وسخافته ويجعله متهافت اللفظ والمعنى، وتهافته اللفظي ظاهر لا خفاء فيه؛ وأما تهافته المعنوي فلأن الصوفي لا يمتاز عن غيره بمفروضات مكتوبة يقوم بها، لأن المكتوبات واجبة على سائر الناس، وإنما يمتاز الصوفي بالخلوة ومداومة العبادة وغير ذلك مما اخترعه المتصوفة. وقد فهم الأستاذ أحمد عيسى الفرائض في البيت على ظاهرها فخفي عليه المعنى الذي فهمته فيه، مع أن الفرائض هي الأوراد ونحوها مما يفرضه الصوفي على نفسه، وهو إطلاق سائغ لا شيء فيه، ومعنى البيت عليه: له كتب من كتب الأوراد ونحوها
وأرى أيضاً أن البيت يدل على أن القصة موضوعة ولو حمل على المعنى الذي ذكره الأستاذ أحمد عيسى، لأن نظام التصوف الذي يشير إليه لم يكن حدث في ذلك العصر، وقد بنيت وضع القصة على هذا، كما بنيته على أنه لم يكن في ذلك العصر كتب تصوف، وكل منهما كاف في الدلالة على وضعها، وكذلك سخافة البيت وتفاهته، وما كان للأستاذ أحمد عيسى أن يهتم بعد هذا به.
عبد المتعال الصعيدي
المسرح والسينما
من التاريخ
النهضة المسرحية في مصر
ونصيب الفرقة القومية منها وواجبها حيالها
النقاد وفرقة رمسيس
أحسن يوسف وهبي صنعاً بما ادعى لنفسه من صفة المؤلف فوق ما حظي به في الواقع من صفة الممثل. وقد كان من جميل حظه أن ظلت حقيقة رواية (المجنون) - التي افتتح بها مسرحه - خافية على الجميع من جمهور ونقاد أعواماً طويلة حتى عرضت رواية (وثيقة الطلاق) التي ظهر فيها جون باريمور في دور المجنون، وكاثرين هيبورن لأول مرة في دور ابنته، وحينئذ فقط عرف أن (مجنون) يوسف ليس إلا مجنون (وثيقة الطلاق)!
على أن يوسف كان قد ربح الكثير من هذه الصفة التي ادعاها لنفسه، والتي جعلته في نظر قومه مؤلفاً وممثلاً في عصر عز فيه المؤلف، ومع أن (المجنون) لم تكن الرواية القوية بالمعنى المفهوم إلا أنها كانت شيئاً جديداً وغريباً، وكما استرعى يوسف الأنظار في منولوج الجندي الجبان (متشكو) كذلك كان شأنه في دور المجنون، وهو ينجح في هذه الأدوار الشاذة التي تتطلب غرابة في الأطوار وشذوذاً في الطباع.
وليس من غرضنا أن نتحدث عن رواية المجنون أو عن غيرها من الروايات حديثاً مستفيضاً، وإنما أردنا بالحديث عنها أن نطلع القارئ على جانب من جوانب شخصية يوسف، وعلى سبب من الأسباب التي جعلت النقاد يهاجمونه بشدة ويعملون للقضاء عليه، ذلك أنهم استبعدوا أن يكون يوسف مؤلفاً، ولروايات أجنبية على الخصوص! ومع أنهم لم يستطيعوا في الوقت المناسب استكشاف حقيقة (المجنون)، إلا أن غريزتهم السليمة حملتهم على إنكار ما ادعاه يوسف لنفسه، وعلى إساءة الظن بزعيم النهضة المسرحية منذ البداية.
ومن بعد المجنون أخرجت (الشياطين السود)، وعلى ما أذكر حضر هذه الرواية بعض الوزراء والعظماء، ولما كانت النهاية فيها محزنة، فقد خطر ليوسف أن يقوم بتعديلها
وجعلها نهاية أمريكية، حتى لا يدخل الحزن على قلوب ضيوفه العظماء. وأما في الليلة التالية، وفيما تلاها من ليال، فقد عاد يوسف إلى النهاية المحزنة!
وهذه الحادثة أيضاً ترفع الستر عن جانب من جوانب هذه الشخصية العجيبة، وتلقي ضوءاً على سبب آخر من الأسباب التي ألبت النقاد على يوسف، وأعطتهم سلاحاً لحربه. وفي الواقع مضى يوسف في السخرية بالناس، ومهما يكن من شأن النجاح الذي ناله وحظيت به فرقة رمسيس، فقد كانت هذه المعاول الهدامة شديدة الوطأة على ذلك البنيان الحديث، ولم يقدر يوسف برغم ذكائه أثرها فيه، وتعالى على النقاد، وشمخ بأنفه، وصعر خده للصحافة، واعتبر نفسه قوة هائلة لا تتأثر بحملات كان يراها طائشة يقوم بها جماعة من الجهلاء في زعمه. ولم يرد الإفادة من هذه الأغلاط التي ارتكبها، أو العدول عن الخطة العرجاء التي سار عليها؛ وقد كان دوام النجاح، وإقبال الجماهير على مسرحه دليلاً عنده على أن حملات النقاد لا أثر لها حتى لو كانت على حق، فالحق عنده هو الواقع. ولعل الفرقة القومية لم تأخذ بنصيبها من الموعظة بعد ذلك، ولعلها إن غلقت أبوابها يوماً تذكر أنا نبهناها إليه وحذرناها منه.
كان من أغلاط يوسف إذن أن ادعى لنفسه ما ليس له وأن قام عامداً بتعديل الروايات التي أخرجها في مسرحه لتوافق مزاجه وما يراه خضوعاً لأهواء الجماهير أو الخاصة حتى لو كان ذلك حرباً على الحقيقة وقتلاً للفن، ثم استهتاره من بعد ذلك بالنقد والنقاد. ورغم خطورة هذه الأخطاء وغيرها فقد كانت حملات النقاد في بدايتها كأنها إعلانات ضخمة عن فرقة رمسيس ودعاية بلا أجر عنها، وبينما أخطأ النقاد فهم قلة أثر النقد بسبب إقبال الجماهير على مسرح رمسيس فإن يوسف أخطأ الفهم كذلك فأكثر من أغلاطه وأصر عليها وزاد في استهتاره بالنقاد
وحينئذ شحذ هؤلاء أسلحة جديدة وتدخلوا في حياة الممثل والممثلة الخاصة وأعنفوا في حملاتهم حتى خرج الأمر عن حدوده والنفوس عن أطوارها. وسرعان ما انتفت الصلة الوثيقة التي كانت، والتي يجب أن تكون، بين المؤلف والمترجم والمخرج والممثل من جهة، والناقد من جهة أخرى، وأصبح بعض الصحف ميداناً للسباب وفحش القول على حين كان يوسف ماضياً في سخريته وازدرائه - غير حاسب للعواقب حساباً - حتى يصل
به الأمر أن يرى في حرمان الناقد من المقعد الذي يهديه إليه انتقاماً منه أي انتقام. ولم يكن غريباً إذن أن نسمع بألوان من الخصومات تدعوا إلى الأسى والأسف حتى انقطعت الصلة تماماً بين فرقة رمسيس والنقاد. أو قل أصبحت هي الصلة بين المتحاربين في ميدان القتال.
(للكلام بقية)
السينما والحرب
السينما كالصحافة تجد من واجبها أن تسجل الأحداث التي تقع على النحو الذي تراه كفيلاً بفائدتها، وأصحاب الشأن في عالم السينما يرقبون الحوادث الجارية ويأخذون منها ما ينفعهم، فإذا وقع حادث فذ في الأوساط الاجتماعية أو الفنية أو الاقتصادية أو غير ذلك فإنهم يسرعون بتسجيله ويسرع الجمهور بالإقبال عليه. والحروب بلا ريب أعظم الحوادث التي تقع وأوسعها مدى وأقواها أثراً، ولهذا فإن السينما تسجل أحداثها وتستغل وقائعها أعظم استغلال. ومن رأي (كل شيء هادئ في الميدان الغربي) يعرف إلى أي مدى تفيد السينما من الحروب. ولقد رأينا كيف كانت السينما إبان الحرب الكبرى وسيلة فعالة من وسائل الدعاية. وقد استغلها الحلفاء في تصوير أعدائهم أقبح تصوير وأفادوا من ذلك كثيراً، والى جانب هذا الاستغلال فإن السينما كانت وسيلة من وسائل التسرية عن الجنود في الميادين؛ وقام شارلي شابلن ملك المضحكين بنصيب وافر من هذا الواجب وقابل الجنود رصاص العدو وفي أفواههم بسمات استطاع شارلي أن يطبعها على شفاههم رغم الموت
وفي الأعوام الأخيرة شغلت الحرب أذهان الجماهير، ومن ثم بدأت مدينة السينما في إخراج روايات عن الحرب، وحينئذ واجهتها مصاعب كثيرة، فالوقت سلم وتصوير الحروب واصطراع المبادئ قد يرضي قوماً لكنه يغضب آخرين، ومعنى ذلك أن الرواية السينمائية التي ترضي الجبهة الديمقراطية تغضب حتماً الجبهة الفاشية أو النازية. والنتيجة أن الرواية السينمائية تخسر ميادين تباع فيها، وهذا ما حدث لرواية (كل شيء هادئ في الميدان الغربي) التي تناهض فكرة الحروب. فقد قوطعت ومنعت في البلاد التي تعيش
على فكرة الحرب وتنشئ أبناءها جنوداً منذ طفولتهم. وكانت ألمانيا أشد البلاد حرباً لها رغم أن مؤلفها ألماني!
بيد أن مدينة السينما وجدت حلاً للمشكلة، ومن رأى روايتي (حصار) و (آخر قطار من مدريد) عرف كيف وفقت إلى هذا الحل العجيب. وسبيل ذلك أن وقفت الرواية نفسها على الحياد لا هي مع هؤلاء ولا هي مع هؤلاء، إنما هي مجرد استغلال لحوادث الحروب، مثل (آخر قطار من مدريد) التي طبقت عليها هذه الفكرة أتم تطبيق فكانت سلسلة من الحوادث الغريبة والوقائع المثيرة التي لا تقع إلا في الحروب. وأما (حصار) فكانت مناهضة لفكرة الحرب من الوجهة الإنسانية المحضة في الميدان الأسباني حيث يقتل الأخ أخاه واحتاطت الشركة التي أخرجت الرواية فلم تدع الملابس تميز الفريقين بعضهما عن بعض إلا بقدر يسير وكل ما رمت إليه هو استصراخ الضمير الإنساني أن يقف هذه المجازر البشرية
واليوم، والعالم يخوض غمار حرب ضروس، فإن السينما لن تتوانى عن القيام بواجبها. ويقيننا أنها ستكون وسيلة فعالة من وسائل الدعاية، وكذلك من وسائل التسلية والترفيه عن المقاتلين وغير المقاتلين في هذه الأيام العصيبة التي يجتازها العالم
(فرعون الصغير)
أخبار سينمائية
(لوسيل بال)
وقد اشتركت في تمثيل رواية (باب المسرح) مع لويس رينروجنجر روجرز. وقد اهتمت بأمرها شركة ركو راديو واعتزمت أن تجعل منها واحدة ممن تعتمد عليهن
كلارك جابل
هل تعرف كيف أصبح كلارك جابل فلاحاً؟ إن لذلك قصة طريفة. . .
لقد أهدت إليه زوجته كارول لومبارد بغلاً فاشترى محراثاً. وأهدت إليه آندي ديفين خمسة فراريج فاشترى خمسمائة. وأهداه بوب كوب جردلاً لحلب اللبن فاشترى بقرة. وهكذا أصبح كلارك جابل فلاحاً يفلح الأرض ويحلب البقرة ويربي الفراريج.
كاي فرنسيس
وقد سطع نجمها في رواية (الممر الوحيد) مع وليم باول ثم في (ثورة في الجنة) مع هربرت مارشال، وقد ظلت منذ البداية نجمة شركة وارنر ولم تنتقل إلى غيرها من الشركات؛ وأخيراً أعلنت أنها آثرت الزواج واعتزال الأعمال الفنية، وحتى الآن لم تنفذ عزيمتها
جنجر روجرز
وكانت تعرف باسم زميلة فريد استير، أما اليوم فإنها أصبحت حرة تعمل مع من تشاء وكانت تجربتها الأولى في رواية (سأهذبها بنفسي) مع جورج برنت، وفي هذه الرواية لم ترقص سوى رقصة فردية
فريد ماك موراي
يحب فريد ماك موراي صيد السمك حتى أنه ينتهز فرصة الفراغ من العمل في رواية (هل من ضرورة للأزواج) التي يظهر فيها مع مادلين كارول ويقضي وقته في صيد السمك. وهو ماهر جداً في الصيد حتى أنه يعود دائماً خالي الوفاض! وإذا ما سأله أحد في ذلك قال: إنه يلقي بالسمك إلى البحر مرة أخرى رحمة به وشفقة عليه!
(آنا نيجل)
بمناسبة آخر رواية لها (مس كافل)
وقد أخرجت هذه الرواية في وقتها وسوف تكون دعاية سيئة ضد الخلق الألماني، ويذكر القراء أن الحلفاء استغلوا في الحرب العظمى حادث (مس كافل) أعظم استغلال واكتسبوا عطف العالم باسمها