الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 324
- بتاريخ: 18 - 09 - 1939
حربان عظميان
تثيرهما ألمانيا على نمط واحد
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
شهدت الحرب العظمى - أو التي كنا نظنها العظمى - وهي التي قامت في سنة 1914، وهأنذا أشهد حرباً عظمى أخرى بعد خمس وعشرين سنة؛ فأنا في هذا من المخضرمين. ويبدو لي أن ألمانيا الهتلرية هي ألمانيا القيصرية، لم تتغير روحها ولا نزعاتها ولا وسائلها ولا أساليبها. فليس البوربون - ملوك فرنسا الذين عصفت بهم ثورتها هم وحدهم الذين لم يتعلموا شيئاً ولم ينسوا شيئاً. وعجيب أن يكون هذا هو طراز الحكام في بلد من أرقى بلاد العالم وشعب من خير الشعوب ثقافة وأدباً وفناً وعلماً وفلسفة. ولا بد - كما يذهب إلى ذلك الأستاذ العقاد - أن يكون في هذا الشعب عيب يسمح بأن يكون هذا طراز حكامه الذي لا يكاد يختلف
وقد عانت ألمانيا أقسى ما يمكن أن تعانيه أمة من جراء ما حملت من تبعة الحرب العالمية السابقة وبقيت عشرين سنة تنوء تحت هذا العبء وتجاهد أن تطرحه، فكان المنتظر أن تتقي أن تحمل عبئاً آخر مثله، فإن العائد إلى الجريمة لا يحق له أن يتوقع العطف أو يعول على ما في قلوب الناس من الرحمة، ولكن حكام ألمانيا في هذا الزمان لا يجعلون بالهم إلى بل يقدمون على إثارة حرب عالمية بعد أن أعدوا عدتهم لها غير عابئين برأي العالم أو مبالين بما يجره عليهم من السخط والنقمة. وما من شك في أن الهر هتلر نهج نهجه هذا عن (عمد وسبق اصرر) كما يقولون رجال القانون. ومراميه كلها معروفة من كتابه (كفاحي). وخطته هي أن يعد لبلاده أقصى ما يستطيع من قوة، ثم يتجه إلى الشرق فيبسط سلطانه عليه، حتى إذا تم له ذلك ارتد إلى الغرب فرمى عليه ظله وأذله. ومع أن هذا معروف ولا خفاء به، نراه يتعجب لبريطانيا وفرنسا ماذا يعنيهما من شرق أوربا ولماذا تحاولان صده عن غايته فيه كأنهما لا تعلمان أنه منقلب عليهما بعد أن يفرغ من هذا الشرق.
وكما تجنت النمسا بتشجيع ألمانيا على الصرب في سنة 1914 تجنى هتلر في هذه الأيام على بولندة. فقد ادعت النمسا أن ولي عهدها إنما قتل في سراجيفو بتدبير الصربيين وإن
كان قد قتل في أرض نمسوية وبأيدي رعايا نمسويين. ولم يظهر أي دليل على وجود أية صلة بين الصرب وهذه الجريمة؛ ولكن الكونت برختلود رئيس وزارة النمسا كان غبياً قصير النظر، وكان همه أن يسحق الصرب، وقد حذره تيزا رئيس وزارة المجر وحذر الإمبراطور أيضاً ولكن الإمبراطور كان متهدماً وكان زمامه في يد وزيره الأعمى، فكانت الحرب التي ألوت بالنمسا وأذلت ألمانيا
واليوم يقلد هتلر هذا السلف الصالح فيتجنى على بولندة ويزعمها تهدده لأنها لا تذعن لمشيئته ولا تهدي إليه دانتزيج والممر البولندي والأرض التي فيها من الألمان نفر قليل أو كثير. والفرنسيون يقولون في بعض أمثالهم: (إن هذا الحيوان خطر لأنه يدافع عن نفسه حين يهاجم) وكذلك يقول هتلر عن بولندة فذنبها أنها لا تريد أن تخنق
وقد رسم هتلر خطته ببراعة فأعد في الغرب خط سيجفريد ليحول دون زحف فرنسا على ألمانيا من الغرب وليتسنى له أن يضع في هذا الخط أقل عدد يكفي للدفاع عنه، ثم يرمي بمعظم قوته على الشرق فيكتسحه في أوجز وقت، ويروع العالم بسرعة القضاء على الأمم في أيام معدودات، وبعد أن يفعل ذلك ويترك دول البلقان مرتعدة الفرائص ويفتح لنفسه الطريق إلى كل سوق ويكفل لبلاده كل ما عسى أن تحتاج إليه من أقوات وبترول وخامات وغير ذلك، وبهذا يحبط الحصر الذي عسى أن تضربه بريطانيا بحراً عليه - يرتد إلى الخط سيجفريد بقواته الأخرى ويقول لفرنسا وبريطانيا: الآن نستطيع أن نظل نقتتل نصف قرن إذا شئتما، أفلا ترون أن الصلح خير وأن التسليم بالأمر الواقع أجدى من هذه الحرب العقيمة. . .
وكذلك كان القيصر غليوم يعتمد على النصر (البرقي) أو (الخاطف) وكان همه يوم شن الغارة أن يحمل جيشه على جناحي نعامة ويطير به إلى باريس ويستولي عليها فإذا الحرب قد انتهت. . . واليوم يقلد هتلر سلفه ويزيد عليه الهجوم بغير إنذار وعلى يحن غرة وفي مأموله أن يقضي على بولندة ويمحو وجودها قبل أن تستطيع أن تجمع جيشها كله وتقذف به إلى ميادين القتال. فالنصر (البرقي) هو الذي عليه معول هتلر الآن كما كان عليه معول القيصر غليوم، وكما أخطأ حساب القيصر يخطئ الآن حساب خلفه هتلر، فإن بولندة تأبى أن تزول فيما (بين غمضة عين وانتباهتها) ولا عبرة بالاستيلاء على بلد هنا وبلد هناك
فما دام الجيش المدافع سليماً فالحرب دائرة والمهاجم لم ينتصر، وإنما يكون النصر بالقضاء على القوة المدافعة لا بأخذ المدن. وخط سيجفريد قوي متين ولكنه أنشئ على عجل - في أقل من سنتين - وقد ظهرت فيه مواطن ضعف غير مأمونة، والجيش الفرنسي يختبره الآن ويلتمس هذه المواطن الضعيفة فيه ويحمل عليها، ويضطر ألمانيا إلى إرسال النجدات إليه (على جناحي نعامة) وبتوالي ورود هذه النجدات يخف الضغط الواقع على بولندة فتطول مقاومتها على خلاف ما حسب هتلر. ويجب أن يدخل في حساب الحاسب أن الجيش الألماني ليس كما يهولون به فقد كان جيش القيصر خيراً منه. ذلك أنه هو أيضاً أنشئ على عجل بعد أن ظلت ألمانيا عشرين سنة محرومة من جيش بالمعنى الصحيح بمقتضى معاهدة فرساي. ومن السهل أن تجند الملايين الرجال كما فعل هتلر ولكنه ليس من السهل أن تخرج العدد الكافي من الضباط الأكفاء في هذا العصر لهؤلاء الملايين من الجنود في أربع سنوات. فالجيش الألماني لا تنقصه الضخامة في العدد ولا في العدة ولكن ينقصه الضباط الأكفاء من الطراز الحديث بسبب هذه السرعة (البرقية) في تكوينهم
وقد كنا نظن من الواضح أن من العسير في هذا الزمان أن تسيطر أمة على العالم على نحو ما كان يحدث في العصور الماضية؛ فليس من الممكن في هذا الزمن أن تكون في العالم أمة واحدة لها شأن كما كان الحال في أيام الرومان والعرب وغيرهم. فما بين أكثر الأمم تفاوت يذكر إلا فيما يحدثه اختلاف الخصائص القومية؛ أما في العلوم والمعارف والمقدرة على الابتكار والاختراع وما إلى ذلك فالطبقة واحدة أو متقاربة. وقد رأينا الألمان في الحرب العظمى الماضية يفاجئون الحلفاء بالغازات السامة أو الخانقة أو الكاوية وما أشبه ذلك، ورأينا الحلفاء يسرعون إلى اختراع الكمامات الواقية ثم يصنعون هذه الغازات ويطلقونها على الألمان، وبذلك يضيعون عليهم هذه المزية. وأمثلة ذلك كثيرة وكلها شواهد على أن ألمانيا تكرر خطأها القديم ولا تعتبر بما كان في الحرب الماضية التي كان الظن أن عبرها ستظل ماثلة
ولعل هذه أول حرب تقدم أمة على إثارتها وهي جائعة، أو على الأقل وهي تعاني نقصاً شديداً في الأقوات والمواد الأخرى التي لا غنى عنها لا في سلم ولا في حرب. فلا عجب
إذا كانت بريطانيا وفرنسا تشنان على ألمانيا حرباً اقتصادية فإنهما تعلمان ما تصنعان وتعرفان ما تكابده ألمانيا وما تظن أن في وسعها أن تعالجه وتتقي شره بسرعة القضاء على بولندة وهو حساب بدأ يظهر انه يخطئ. فالعجب لألمانيا التي تجعل حياتها كلها ومصيرها رهناً بحساب قد يخطئ أو يصيب. الحق أن هذه مقامرة فذة في تاريخ الأمم
إبراهيم عبد القادر المازني
جناية أحمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
- 15 -
كنت حدثت القراء فيما سلف أني لم أهجم على الأستاذ أحمد أمين إلا بعد أن صح عندي أنه يسئ إلى نفسه وإلى الأدب العربي إساءة خطرة تستوجب المسارعة إلى تعريفه بخطر ما يصنع عساه يثوب إلى رشده فيرجع إلى الصواب
وفي مطلع حديث اليوم أثير مشكلة تحدث بها إلى تلاميذه في كلية الآداب وكان لها صدىًّ، هو حيرة بعض الشبان الذين كانوا يثقون برجاحة العقل عند ذلك الأستاذ المفضال
وما الذي حدَّث به تلاميذه في تلك الكلية؟
حدثهم أن من رأيه ألا يدرس الأدب العربي في المدارس الثانوية ولا المدارس العالية، وأن الواجب أن يُقصَر درس الأدب العربي على المختصين في دراسة تلك اللغات (؟!)
هذا كلام نقله إلينا كثير من طلبة كلية الآداب، فهل هو صحيح؟
يجب على الأستاذ أحمد أمين أن يسارع إلى تكذيب هذا الكلام، إن كان من المفتريات، ويجب عليه أن يحدد الغرض منه إن كانت نسبته إليه صحيحة، لأنا نحب ألا يعرض مركزه لأخطار الإشاعات والأقاويل
والواقع أن الكلام المنسوب إلى الأستاذ أحمد أمين يتفق في روحه مع الآراء التي أذاعها في الأسابيع الأخيرة، فهو يقول صراحة بأن الأدب العربي في اغلب أحواله أدب له معدات لا أدب أرواح، وأنه لم يصور البلاد العربية والإسلامية، ولم يصف ما وقع فيها من أحداث اجتماعية، ولم يشهد بأن أهله أحسوا الطبيعة وتأثروا بألوان الوجود
ومن الواضح أن الرجل يحترس في مقالاته أكثر مما يحترس في محاضراته، فما قال أحمد أمين في مجلة الثقافة ليس إلا صورة مهذبة لما أذاعه في كلية الآداب
نحن إذن أمام فتنة جديدة، هي فتنة القول بأن الأدب العربي لا يصلح لتربية الأذواق في الجيل الجديد. وهذه الفتنة ليست من مخترعات أحمد أمين، فقد نجمت قرونها منذ أكثر من خمسين سنة حين أراد المستعمرون والمبشرون أن يوهموا أبناء الأمم العربية بأن الصلة بين ماضيهم وحاضرهم لم يبق لها مكان، وأن المصلحة تقضي بأن يوضع الأدب القديم في
المتاحف، وألا يدرسه غير المتخصصين على نحو ما يصنع الأوربيون في الآداب اليونانية واللاتينية، ثم تُقبِل كل أمة على لهجتها المحلية فتجعلها لغة التخاطب والتأليف، وبذلك تكون اللغة الفصيحة أُماً أو جدة للغات الشعوب العربية، كما صارت اللاتينية أُماً أو جدة للغات الشعوب اللاتينية. وقد صرح بذلك المسيو ماسينيون في خطبة ألقاها في بيروت سنة 1913 ونقدتها يومذاك بمقال أرسلته إلى جريدة (البلاغ) من باريس
والحق أن الفتنة التي أذاعها المستعمرون والمبشرون كانت فتنة براقة خدّاعة تُزيغ البصائر والعقول، وقد انخدع بها من انخدع في الأعوام الماضية، فكانت المفاضلة بين الفصيحة والعامية من المشكلات التي تقام لها المناظرات في بعض المعاهد والأندية الأدبية. وقد وصل صدى هذه الفتنة إلى المجمع اللغوي بالقاهرة فانقسم الأعضاء إلى فريقين: فريق يقول بدراسة اللهجات المحلية وفريق يقول بأن الأفضل إنفاق المال في إحياء الأدب القديم، وقامت بسبب هذه المشكلة مساجلات فوق صفحات الجرائد بين الدكتور منصور فهمي والدكتور طه حسين
والظاهر أن لأستاذ أحمد أمين من أنصار القول بإحياء اللهجات المحلية، فهو يدرس على صفحات مجلة الراديو المصري ألفاظ اللهجة المصرية باهتمام يدل على تأصل تلك الفتنة في نفسه الواعية!
فهل تكون مقالاته في مجلة الراديو المصري نواة لمحاضراته عن الأدب العربي المصري بكلية الآداب في الأعوام المقبلات؟
نحن فهمنا أن الغرض من إنشاء كرسي للأدب المصري بكلية الآداب هو درس الآثار الأدبية العظيمة التي أبدعها المصريون باللغة الفصيحة منذ فتح العرب مصر إلى اليوم لأن مصر تفردت بمزايا كثيرة بين الأمم العربية، فاعظم مكتبة عربية في العالم هي دار الكتب المصرية، وأعظم جامعة عربية في العالم هي الجامعة المصرية، وأعظم معهد إسلامي في العالم هو الأزهر الشريف، وأعظم صحافة عربية في العالم هي الصحافة المصرية، وأعظم معجم عربي وهو لسان العرب ألف في القاهرة، وأعظم كتاب في أسيرة النبوية وهو سيرة ابن هشام أُلِفَّ في مصر، وأعظم كتاب في تاريخ الإنشاء وهو صبح الأعشى ألفه أديب مصري هو القلقشندي، وأعظم موسوعة عربية وهي نهاية الأرب ألفها أديب
مصري هو النويري، وأعظم شارح لمذاهب التصوف، وهو الشعراني، مصري من أبناء المنوفية. . . ومصر كانت الملاذ لعلماء العرب بعد أن اعتدى التتار الهمجيون على بغداد؛ ومصر كانت الملجأ لأحرار التفكير من العرب حين اضطهدهم الأتراك في سورية ولبنان؛ ومصر كانت ولا تزال صلة الوصل بين الحضارة الشرقية والحضارة الغربية، وبفضل سواعد المصريين اندحر الصليبيون؛ وبفضل مصر حبطت دسائس المبشرين في الشرق وهم أعوان المستعمرين في تقويض دعائم الحضارة العربية
فما الذي سيصنع أحمد أمين حين يدرس الأدب المصري بكلية الآداب؟
أترونه يفهم الغرض الأصيل من الأدب المصري فيرفع آصار الخمول عن مآثر المصريين في خدمة الأدب واللغة والتاريخ والتشريع؟ أم ترونه يتخذ مادة الدرس من الكلام عن أحاديث الحاجة خدُّوجة والمعلِّم مشحوت؟
إن كلية الآداب لن تعيش بمنجاة من رقابة النقد الأدبي، ولن يهمس أحمد أمين بكلمة أو فكرة بدون أن تصل إلى من يهمهم معرفة جوهر الرسالة الأدبية التي تذيعها كلية الآداب، ولن يرن في أبهاء تلك الكلية صوت ينطق بالحق أو بالباطل إلا وحوله أرصاد من عقول الشبان الأذكياء الذين توِّجههم عزائمهم وقلوبهم إلى أن يكونوا أبطال الفكر العربي الصحيح في العصر الحديث!
وإني لموقن بأن أصدقائنا من أساتذة كلية الآداب يعرفون جيداً أن الأمة تنتظر أن يكون ذلك المعهد العظم أهلاً في كل وقت للأمانة العظيمة التي عهدتْ بها إليه، فلا يكون مسرحاً للآراء الفطيرة التي يذيعها بعض الناس في إحدى المجلات
لقد رجونا ألف مرة أن تكون كلية الآداب بالقاهرة هي النبراس الذي تستضئ بها العقول في الشرق، وقد استطاعت تلك الكلية بفضل المتفوقين من أساتذتها وخريجيها أن ترفع لواء الدراسات الأدبية والفلسفية، فمن المجازفة بسمعتها العلمية أن تصفح عمن يقفون عند الحدود السطحية في فهم الأدب والتاريخ
أقول هذا وقد كتب إليَّ أحد المتخرجين في تلك الكلية خطاباً يقول فيه: إن اللغة العربية ليست لغة المصريين. ولو شئت لصرحت باسم صاحب ذلك الخطاب، ولكنه صديق عزيز لا أحب أن أعرضه للاتسام بسمة الخطأ الذي وقع فيه أساتذة أحمد أمين
وإنما يهمني نقض هذا الرأي لأنه على ضعفه يرفع رأسه من وقت إلى وقت، ويخيل للناس أنه قادر على الحياة وأنه يستطيع أن يمشي على رجلين أو على أربع، وأنه خليق بأن تُنصَبْ له الموازين!
وهذه الشبهة لها صورة من صور الحق:
فاللغة العربية ليست لغة مصرية، وإنما هي في الأصل لغة أجنبية حملتها العقيدة الإسلامية
هذه الشبهة تحمل وجهاً جميلاً من وجوه الحق، ولكنها تذكر بحكاية اللص الذي رأى صاحب الدار يجول في أرجاء داره فصاح: من الذي هناك!
أيها القراء
أسمعوا الحجج الآتية، ثم كذبوني إن استطعتم، ولن تستطيعوا أبداً. أنتم تعرفون أن أهل مصر تكلموا اللغة العربية نحو ثلاثة عشر قرناً، فهل تعرفون أن المصريين تكلموا لغة واحدة ثلاثة عشر قرناً قبل أن يتكلموا اللغة العربية؟
هل يستطيع رجل من علماء الآثار المصرية أن يثبت أن أهل مصر كانت لهم لغة واحدة في أي عهد من العهود قبل أن يعرفوا اللغة العربية؟
إن التاريخ يؤكد أن المصريين قبل الإسلام كانت لهم لغة في الشمال ولغة في الجنوب، ويؤكد أنهم عرفوا لغة ثالثة هي اللغة اليونانية، وكانت لغة رسمية في بعض العهود، وربما استطاع التاريخ أن يقول إن مصر كان فيها ثلاث لغات: لغة لأهل مصر الوسطى ولغة لأهل الجنوب ولغة لأهل الشمال
وقد يستطيع التاريخ أن يؤكد أن بعض الأقاليم المصرية عرفت اللغة العربية قبل الإسلام. والتشابه بين اللغة المصرية واللغة العربية أثبته كثير من الباحثين منهم المرحوم أحمد باشا كمال وأحدِّد الغرض فأقول:
إن اللغة التي تسود سيادة تامة في قطر من الأقطار ثلاثة عشر قرناً لا تكون لغة أجنبية وإنما تكون لغة قومية. وسيأتي يوم تسمى فيه اللغة العربية باسم آخر هو اللغة المصرية، لأن العرب الأصليين في حوا ضرهم وبواديهم لا يتذوقون اللغة الفصيحة كما يتذوقها المصريون، ولولا مصر لانقرضت لغة العرب منذ أجيال طوال
يا بني آدم من أهل مصر، أسمعوا وعوا
إن مصر - لحكمة أرادها الله بالعرب والمسلمين - هي البلد الوحيد الذي انقرضت لغاته القديمة لتحل محل اللغة العربية، وهذا حظ لم تظفر بمثله أمة عربية: فالأقطار الشامية تحيا فيها اللغة السريانية واللغة العبرانية؛ والبلاد العراقية تحيا فيها اللغة البابلية واللغة الكردية، ولغات أُخر يعرفها أهل تلك البلاد؛ والجزيرة العربية تحيا فيها لهجات مختلفات؛ والبلاد المغربية فيها ما تعرفون من لغات متنافرة بعضها قديم وبعضها حديث، والرجل العربي قد يحتاج في تلك البلاد إلى ترجمان
وقد عصفت عصور الظلمات بلغة القرآن في كثير من الممالك العربية، فاضطرت بغداد وكانت عروس العروبة إلى أن تتكلم اللغة الفارسية بضعة قرون، ثم قهرها الظلم بعد ذلك على أن تتكلم اللغة التركية زمناً غير قليل؛ والشام في مختلف أقطاره تعرض كارهاً لأمثال تلك الخطوب. ومع هذا لطف الله بمصر فظلت موئل اللغة العربية، وكانت المساجد في القاهرة وفي سائر الحواضر المصرية مدارس جامعة لنشر علوم اللغة والدين، وما يزال الناس يذكرون كيف حفظ الأزهر الشريف مخلفات الفُرس والهنود والعراقيين والشوام والمغاربة والأندلسيين في ميادين المعقول والمنقول
فالذين يهمسون بأن اللغة العربية في مصر لغة أجنبية هم قوم مجرمون يستأهلون التأديب وكيف تكون لغة أجنبية وقد تغلغلت في دمائنا وأرواحنا نحو ثلاثة عشر قرناً، وكنا الدرَّع التي تصد ما يوجه إليها من سهام ونبال؟
إن اللغة العربية في مصر أرسخ من اللغة الفرنسية في فرنسا ومن اللغة الإنجليزية في إنجلترا ومن اللغة الألمانية في ألمانيا، لأن تلك اللغات بصورتها الراهنة لم تعش في بلادها ربع المدة التي عاشتها اللغة العربية في بلادنا، والفرق بيننا وبينهم أنهم سلموا من الدسائس وابتلينا نحن بالدسائس
وهل يستطيع شاعر مثل فيكتور هوجو أن يجد في أجداده من تكلم اللغة الفرنسية كما يجد حافظ إبراهيم من أجداده من تكلم اللغة العربية؟
وأين كانت اللغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية في الوقت الذي ظهرت فيه أشعار أبي تمام والبحتري، وأبن الرومي، والشريف الرضي باللغة العربية؟
وهل في الدنيا لغة عاصرت القرآن وبقيت مفهومة لأهلها على نحو ما يفهم القرآن في
جميع البيئات العربية؟
إن مصر هي التي حفظت لغة القرآن بلا جدال ولا نزاع، فمن العار أن يوجد في أبنائها من يقول إنها لغة أجنبية
ومن أعجب العجب أن تحفظ لنا الأمم العربية هذا الفضل، ثم نتنكر نحن لهذا الفضل!
من اعجب العجب أن تذكرنا الأمم العربية بماضينا في خدمة اللغة العربية، ثم يكون فينا من يقول بأن اللغة العربية في مصر لغة أجنبية
فما هي لغتنا إذن؟
إن اللغات المصرية القديمة لن تعود أبداً، ولو أنفقنا في سبيلها غاليات الأنفس والأموال، فهل ترون أن نتكلم بعض اللغات الأوربية، وهي أجنبية أجنبية أجنبية؟
وهل يدعو إلى هذا الرأي غير مخلوق جهول لا يعرف ما تعيش به الأمم من المقومات الذاتية؟
إن مصر ستحتفل بعد قليل بالعيد الألفي للقاهرة، فهل تستطيع مدينة في الشرق أن تقول إنها أدت للدراسات العربية والإسلامية ما أدت القاهرة؟
هل تستطيع مكة وهي مهد اللغة العربية أن تقول إنها تنافس القاهرة في ماضيها اللغوي والأدبي؟
وهل طبع المصحف في مكة بقدر ما طبع في القاهرة؟
وهل أذيعت تفاسير القران في أي بلد عربي بقدر ما أذيعت في القاهرة؟
وهل نشرت عيون المؤلفات العربة إلا بفضل مطابع القاهرة؟ وهل عرف التسامح في درس المذاهب الإسلامية كما عرف في القاهرة؟
احفظوا نعمة الله عليكم، يا أهل مصر، وكونوا عند ظن الأمم العربية بوطنكم المحبوب
ولنفرض أن العامية هي لغة المصريين وأنها ترجع إلى عهد سبق الإسلام هو عهد الهكسوس كما قال بعض المبشرين، فما عسى أن تكون تلك العامية المصرية؟ أليست لغة عربية فصيحة المفردات لا ينقصها غير الإعراب وهو ليس شرطاً أساسياً في الإفصاح؟
أنا لا أسمي هذه اللغة عامية، وإنما أسميها لغة التخاطب ولكل أمة في الدنيا لغتان: لغة تخاطب ولغة إنشاء
ومن حدثكم أن أمثال الإنجليز والفرنسي والطليان والألمان يتكلمون كما يكتبون فاعرفوا أنه غافل جهول
وكيف تصح تلك الدعوى العريضة وقد عرف كل من عاش في البلاد الأوربية أن العوام لهم لغة سهلة بسيطة لا تقاس إلى لغة من يحيون في البيئات العلمية والأدبية؟
فمن كان في ريب من ذلك فليشهد بعض الأفلام الفرنسية التي تمثل لهجات الصناع والعمال أو تصور مناحي التعبير عند أهل الشمال أو أهل الجنوب، فإن فعل فسيعرف أن لغة التخاطب تختلف قليلاً أو كثيراً عن لغة الخطابة ولغة الإنشاء
إننا نعرف أن العصر العباسي كان عصر ازدهار اللغة العربية في العصور الماضية، فهل تظنون أن عامة الناس في البصرة والكوفة وبغداد كانوا يتكلمون كما يتكلم المبرد والجاحظ ومسلم ابن الوليد؟
إن في أدباء فرنسا لهذا العهد من يشكك في قدرة جمهور الأدباء هناك على التعبير الأصيل باللغة الفرنسية، ولأحد مؤلفيهم كتاب أسماه:
فهل يكون معنى ذلك أن اللغة الفرنسية خفيت أصولها على أدباء باريس وليون؟
أم يكون معناه أن الغيرة على اللغة تثور في صدور الأدباء من حين إلى حين بسبب التسامح الذي يشهدونه في تعابير بعض الكتاب كما فعل عبد القاهر الجرجاني في مقدمة دلائل الإعجاز حين رأى ما يشبه ذلك عند كتاب القرن الخامس؟
إن الناس عندنا لا يفرقون بين الحالات التي يختلف فيها بعض الكتاب عن بعض، وهم يظنون أن كل إنشاء يخالف إنشاء الجاحظ أو ابن العميد هو من شواهد انحطاط اللغة العربية؛ وهم يتوهمون أننا تفردنا بين الأمم بالحيرة بين لغتين: إحداهما لغة التخاطب والثانية لغة الإنشاء
ولو كان ذلك المتخرج في كلية الآداب قد تخرج في قسم اللغة العربية لا في قسم التاريخ لعرف أن الجاحظ على فضله نص على أن هناك مواطن لا يجوز فيها التعبير بغير اللغة العامية، وهذا يشهد بأن حياة اللغة العامية ليست نذيراً للغة الفصيحة بالهلاك، فالذوق يوجب أن يكون لكل مقام مقال وألا نحدث العوام كما نحدث الخواص
وهل كان أهل مكة والمدينة يتكلمون فيما بينهم بنفس الأسلوب المعروف في القرآن
والحديث؟
إن القرآن نزل على العرب بلسان عربي مبين، ومع ذلك لا يمكن القول بأن العرب لذلك العهد كانوا يعبرون عن ذوات أنفسهم في شؤونهم اليومية والمعاشية بنفس الأسلوب الذي عبر به القرآن عن الشؤون الدينية والدنيوية
فكيف يطلب منا أن نتكلم كما يتكلم شعراؤنا وخطباؤنا في جميع الشؤون، وألا قيل إننا خوارج على اللغة العربية؟
وهل يطلب من تجار الغورية بالقاهرة أو تجار الشورجة في بغداد أو تجار الحميدية في دمشق أن يتكلموا كما يتكلم علماء مصر والشام والعراق؟
وهل يتكلم سكان محلة بِلْ فيل في باريس كما يتكلم أساتذة السوربون؟
أنا أعرف أن أستاذنا برونو كان يوصينا بأن نستمع إلى محاورات العوام في المترو، ولكن لهذه الوصية مدلول آخر، فهو كان يريد النص على أن لغة التخاطب فيها مرونة قد لا توجد في لغة الإنشاء، وأن من العقل أن ننتفع بتلك المرونة في بعض المقامات لأن انصراف العوام عن الزخرف والتنميق أعطى لغتهم خصائص من السهولة والوضوح، وهما من أهم عناصر البيان
وأؤكد للقراء أن الفرنسي الذي ينتقل من الشمال إلى الجنوب قد يجد من اختلاف الألفاظ والتعابير ما لا يجده العربي حين ينتقل من مصر إلى العراق
فكيف يجوز لبعض الناس أن يوهم القراء بأن العرب تبلبلت ألسنتهم وأن التفاهم بين خواصهم وعوامهم صار من المعضلات؟
إنه لا مفر من الاعتراف بأن اللغات العامية لها مكان في كل أرض، لأنها لغات بسيطة سهل تؤدي الأغراض اليومية في المعاملات. ولو فرضنا اللغة الفصيحة على جميع الناس لكان ذلك ضرباً من الإرهاق. . . ولا خطر على العرب من أن تكون لهم لهجات عامية تقترب أو تبتعد وفقاً للظروف الجغرافية، ولكن الخطر كل الخطر هو في جعل اللهجات المحلية أصولاً ثابتة يتدارسها العلماء ليعطوها من السلطة الأدبية ما يمكنها من الانفصال عن اللغة الفصيحة بعد جيل أو جيلين، كما يصنع الأستاذ فلان الذي يعد نفسه ليكون (أصمعي) اللهجة المصرية في هذا الزمان!
وماذا يقول فلان وفلان وفلان إذا حدثتهم بأن اللهجات المحلية في البلاد العربية أصبحت تقترب من اللغة الفصيحة بسرعة عجيبة لم تكن تخطر في البال بسبب انتشار الصحافة والتأليف؟
إن العوام في جميع البلاد العربية يقرءون الجرائد والمجلات ويفهمون مغازيها ومراميها بلا صعوبة، وشاهد ذلك يعرفه أصحاب المجلات المصرية الذين يشهدون بأن قراءهم في خارج مصر يعدون بالألوف
فهل يمر ذلك بلا تأثير في تطور اللهجات المحلية؟
شرقّوا قليلاً أيها المصريون لتدركوا فضل اللغة الفصيحة في نشر معارفكم بأقطار الشرق، ولتروا كيف يعتز الرجل المصري حين يرى له إخواناً يفهمون عنه في أقطار تفصلها عنه البحار والصحارى والجبال
أنتم لا تعرفون قيمة الحرص على وحدة اللغة العربية، ولا تدركون قيمة النعمة التي خصكم بها الله حين جعلكم حَفَظَة التراث العربي، ولو عرفتم ذلك لأفضيتم حلل الثناء على من ينشدون أخوتكم من أهل الشرق، ويذكَرونكم في كل يوم بأنهم إخوانكم الأقربون وإن بعدت الدار، وشطَّ المزار
إن الأديب الذي طويت اسمه حفظاً لسمعته ينسى أن المزية الصحيحة التي رفعته مكاناً عليَّاً بين زملائه هي قدرته على مخاطبة الجماهير بلغة مصونة من اللحن والتحريف، فإن أصر على معاداة اللغة الفصيحة فليجرب حظه بطريقة عملية، ثم لينظر كيف تميد الأرض تحت قدميه
أما بعد فهل ينتهي صديقنا الأستاذ أحمد أمين؟
هل يدرك أن شبان اليوم يعانون أزمة خطيرة بسبب الدسائس التي يصوبها المستمرون والمبشرون إلى صدر اللغة العربية، وإن واجب الأساتذة بكلية الآداب هو حماية أولئك الشبان من تلك السموم الفواتك؟ هل يعرف أن فرنسا على عظمة إيمانها بسيطرة لغتها الفصيحة سيطرة قاهرة تحسب ألف حساب بخطر اللهجات المحلية وتتخوف من انتقاض (البروفانس) وإنها لذلك أعلنت غضبتها الأدبية على الشاعر ميسترال؟
من حق السيد فلان أن يتحذلق كيف شاء فيدّعي أن الأدب العربي لا يستحق الدرس في
المدارس الثانوية والعالية، ومن حق السيد فلان أن يقول بأن اللغة العربية لغة أجنبية، ومن حق السيد فلان أن يقول بأن المصريين ليسوا من العرب؛ من حق هؤلاء أن يقولوا ما يشاءون ما دام القانون لا يحرم الاعتداء على اللغة كما يحرم الاعتداء على الدين. . . ولكنا سنريهم أن سيف القلم أمضى من سيف القانون
(للحديث شجون)
زكي مبارك
دمشقيات
ليلة على سفح قاسيون!
للأستاذ علي الطنطاوي
يا ليلة السفح هلا عدت ثانية
…
سقى زمانك هطال من الديم
لم أفض منك لبانات ظفرت بها
…
فهل لي اليوم إلا زفرة الندم؟
(الشريف)
يا ليلة ما كان أجملها وأقصرها. . . وذلك تكون ليالي الأنس فاتنات قصيرات العمار!
يا ليلة ستمر الليالي ولا تمحو من نفسي ذكراها ولا أستطيع أن أنساها. . .
يا ليلة. . . سكرت فيها بلا كأس ولا قدح. . . لقد علمتني السكر فسأسكر الليالي الآتيات بذكراك. . . ولكن ثمالة السرور لا يكون فيها إلا رحيق الألم. . .
صدق دانتي: إن ذكرى اللذائذ الماضية تؤلمنا!
تلك هي ليلتنا على سفح قاسيون، في قهوة (حسن آغا) نظم فيها قلادة الأصحاب والأحباب، شفاءُ الطفل المحبوب (إبراهيم الرواف) فأجتمع الشمل وتم الأنس وألفت الحلقة بين العلم والأدب والشعر والفن والنكتة والغناء، وجمعت القهوة بين العراق والشام، ودمشق وبيروت، فكان في المجلس كرام أهل كل بلد وكبار أهل كل فن. . . وشاركت الطبيعة الناس في فرحة الشفاء فتزينت بحلة الأصيل المنسوجة بخيوط الذهب، وماست أشجار الغوطة دلالاً، وهمست الأوراق بترتيلة المساء، وكان المشهد لا يفيد فيه الوصف، لأن مثله لا يرى إلا في دمشق أو في جنان الخلد، ودمشق جنة المستعجل. . .
وتحدث الأستاذ البيطار، وتطارح الأستاذان الأثري والتنوخي الأشعار، ثم تسلم المجلس الأستاذ سعدي ياسين خطيب بيروت فلم يبق لأحد مجال لمقال، وطفق يلقي النكتة إثر النكتة والنادرة تلو النادرة، ونحن نمسك بخواصرنا، ونضرب من الضحك بأرجلنا ونمسح دموعنا، وهو لا يكف ولا يقف، ففكرت كم يضيع بيننا من الآداب التي لو دوناها كما دون المتقدمون لكانت لنا ثروة هائلة. وحسبك من هولها أن ما رواه صاحبنا تلك الليلة وارتجله يملأ كتاباً كبيراً. . . حتى إذا انطفأ مصباح الكون، ولبثت عروس الطبيعة ثوبها الأسود، ووجب حق الله علينا، قمنا إلى الصلاة، فأذن مؤذن منا، فلم نفرغ من الصلاة حتى أذن
مؤذن آخر أن حي على الطعام. . .
ولما فرغنا وامتلأت بطوننا، حسبت المجلس سينفض، وأن القوم قد طعموا فلابد أن يتسروا، فإذا المجلس يبدأ، وإذا الشيخ سعدي يقدم المقدمات. . . ويتحدث عن الغناء والطرب، فما ظننت والله إلا أنه سيغني. ولقد سمعته حين أذن فسمعت صوتاً حلواً ورنة عذبة، ولكنى وجدته يشير إلى شاب ما فتح منذ الليلة فمه ولا تكلم بكلمة، فظننته يمزح وقلت إحدى هناته والله؛ غير أنه بالغ في إطراء الشاب وشاركه في ذلك من اعتمد ذوقه واطمأن إلى حكمه وارتضى فهمه، فشككت ولم أصدق أن يكون في دمشق مغن مجود لا اعرفه، على ولعي بأهل هذا الفن، وعلى صلتي بالأديب الموسيقي الأستاذ حسنى كنعاة لولب أهل الموسيقى. . . وكان أشد ما أخشى منه أن يردد علينا اسطوانات عبد الوهاب وأم كلثوم ويحسبها علينا ليلة طرب، وتمنيت لو ارتجل ارتجالاً ولم يجاوز أنغامنا العربية إلى أنغام لا نألفها ولا نحبها، ولا يدعى محبتها إلا قوم يراءون بالطرب منها حتى يقال إنهم متمدنون وأن لهم بموسيقى أوربة بصراً، ولست بحمد الله من هؤلاء. . .
وما لبث الشاب أن غنى، فإذا صوت تمنيت والله أن يكون لي علم الأستاذ محمد السيد المويلحي لأصفه لقراء الرسالة كما يصف هو، فأقيسه ب ـ (الكونترالتو) الذي لا أعرف اهو شيء مأكول أم ملموس، وب ـ (الميزو سبرانو) الذي لا أدري أهو حيوان أم نبات أم جماد أم هو شيطان من شياطين الموسيقى؟ ولكني وا حسرتا جاهل بهذا الفن، وليس عندنا في دمشق مويلحي آخر يخلد ذكر هؤلاء النابغين المغمورين المساكين في الرسالة!
أفيصح أن أصفه كما اعرف؟
بدأ بـ (يا ليل) بصوت ناعم حلو، فأطربني صوته، وأعجبني نغمته، ولم أعب عليه إلا خفوته ونعومته؛ وصحت وأنا رجل طروب، وصفقت، فقال لي القوم: انتظر إنك لم تسمع شيئاً. وانتظرت فإذا هو يدور بالنغمة دورة، فإذا له صوت قوي وضخم ولكنه واطئ كقرار عبد الوهاب؛ وإن كانت له قوة صوت صالح عبد الحي أو الشيخ صبحي الأمام في الشام، ثم يعلو به ويعلو، حتى يرتفع ارتفاعاً هائلاً، وهو لا يزال على قوت ورجولته، فبالغت في الإعجاب وهزني الطرب، فقالوا انتظر، أن بعد هذا لشيئاً، فسكت انتظر وما أظن أن بعد هذا شيئاً يكون، فإذا الشاب (عادل القربي) يقفز من هذا العلو إلى طبقة أعلى وأرفع، وإذا
له صوت صبيّ برقته وحدته وصفائه، فاستخفى والله الطرب، حتى هممت لولا الحياء أن أقوم له فالتزمه وأقبله، وتركنا في هذا الأفق السامي، وهبط بآهة من آهاته إلى القرار، ثم تهاوت آهته واختفت حتى لقد سمعت الهاء الساكنة ينطق بها قلبه. . . ثم سكت سكتة، فلا والله ما ظننا إلا أن الدنيا قد دارت بنا، وثارت في نفوسنا عواصف من العواطف الدفينة، والذكر الكامنة لا يعلمها إلا الله، وكانت لحظة صمت وخشوع، آمنت فيها بما تفعل الموسيقى. . . ثم انتبه القوم فزلزل المكان بالتصفيق والهتاف. . .
ثم عاد ينادي هذا الليل الأصم: (يا ليل - يا ليل) والليل يصغي ويطرب، ولكنه لا ينطق فيجيب. (يا ليل - يا ليل) كم ذا يهتفون باسمك وأنت صامت! (يا ليل - يا ليل) يا ملجأ البائسين، يا سمير العاشقين، يا حبيب المتعبد الناسك، يا عدو المريض المتألم الحزين! (يا ليل) كم يخفى ظلامك من مشاهد البؤس ومظاهر النعيم (يا ليل) كم تضم أحشاؤك من الآم وآمال! كم تشهد من أفراح وأتراح! (يا ليل) كم يتمنى بقاءك سعيد جذلان، وكم يرقب فجرك ضائق حزنان (يا ليل - يا ليل) كم بين جوانبك من ساهر يراقب النجم يرقب حبيباً لن يعود أبداً. أو يناجي ميتاً لا يسمع، أو يحنو على مريض لا يشفى، أو يشكو والحياة لا تسمع شكاة (يا ليل) يا رمز السرمدية، يا حليف المسرات، يا قرين الآلام!
امتلأت نفسي شجناً، وأحيت هذه (الليالي) ليالي الخاليات وملك نفسي شعور أعهده منها كلما سمعت الصبايا لسحر الصبا. . . ومضى الشاب يقلب الأنغام فيتلاعب بالقلوب والمشاعر. ثم كرّ كرة فجاء بنغمة متقطعة مرقصة. . . وأتى بدور يترع النفوس فرحاً، واضطر القوم كلهم أن يرددوا كلمات منه بصوت منخفض يخالطه صوته الدقيق العالي فيكون منه اتساق (آرموني) موسيقى عجيب، وعاد المرح إلى المجلس، وسقط الوقار عن أوقر أهله فعلمت أن موسيقانا ليست كلها بكاء وألماً ولكن فيها المرقص المطرب، وكان الشيخ سعدي لا يدخر سكتة بين نغمتين إلا أحكم المرمى وقذف بنكتة من نكته التي لا ينفد معينها. وزلزل المجلس بأهله من الضحك والغناء، حتى لقد حسبت الدنيا ترقص معنا. ثم حط الغناء على أنشودتنا الشعبية الخالدة (يا ميجنا - يا ميجنا) تلك التي تصور بمعانيها النفس الشامية، وتمثل بصورها طبيعة بلادنا وجمال ديارنا، وهي رمز عبقريتنا الشعبي ومجال الابتكار، ومحك القريحة؛ فهي ترتجل أبداً ارتجالاً وتعقد لها المجالس، ويقوم
الشاعران يتقارضان المدح أو الهجاء، وأهل المجلس يرددون اللازمة. . . (الميجنا) أنشودتنا الأزلية التي لا يعلم أحد من نظم أول مقطع منها ولا متى ينظم آخر مقطع. . . ثم أخذنا في الأغاني البلدية (هيهات يا بو زلف):
من هُون لَ أرض الدير
…
من هُون لَ أرض الدير
والسّر اللي بيننا
…
أيشْ وَصَّلُو للغير
وان كان ما في ورق
…
لَ أكتب عَ جناح الطير
وان كان ما في حبر
…
بدموع عينيّ. . . . . . . . . .
تلك الأغاني التي ولدت في أودية الشام المختبئة في سر الغيب لا يعلم بها إلا أهلوها والله العالم بكل شيء، وذراه التي لا يسكنها إلا أهلوها والنور
. . . فيا أيها المصطافون بالله عليكم، لا تقفوا عند صوفر وبحمدون وبلودان، بل تغلغلوا إذا أردتم أن تشاهدوا الجمال جمال الفطرة، واهبطوا أودية، وارتقوا ذرى، واركبوا الدواب، وسيروا على الأقدام، ولكن لا. . . لا أيها المصطافون بالله عليكم، انسوا ما قلت لكم، ودعوا الجبل على فطرته، اتركوه يعيش على جهله الفاضل، وفقره السعيد. لا تحملوا إليه الحضارة التي أفسدت بلودان وصوفر وبحمدون. . .
هذه الحضارة، ويل لنا من هذه الحضارة!
لقد سلبتنا كل شيء! فهل تسلبنا موسيقانا؟ إنا لا نجد ساعة الضيق إلا أغانينا وأنغامنا، نصب فيها آلامنا ونستوحيها الأمل ونمسح بها دموعنا. أفتريدون ألا يبقى لنا وزر نلجأ إليه ساعة الصبق؟
إن الموسيقى غذاء الروح، فشأنكم، قلدوا أوربة في كل شيء لكن دعوا لنا غذاء أرواحنا. أفتحبون ألا نجد لأرواحنا غذاء فنتركها تذوي وتموت؟
هذه صرخة قلوبنا، فهل يصغي إليها هؤلاء الذين وهبهم الله نعمة الفن ليحفظوا علينا فننا، فذهبوا يضيعون بهذه النعمة فننا؟ هل يصغي عبد الوهاب نابغة العصر؟
غني والله لأسمع في السينما أغاني القوم من أهل أوربة، فلا أحس طرباً ولا أرى فيها إلا اختلاطاً في الأنغام من باب. . .
سقياً ورعياً وزيتوناً ومغفرة
…
قتلتم الشيخ عثمان بن عفانا
وليقل عني من شاء ما شاء، ثم أسمع عبد الوهاب فاعجب، ولكني لا اطرب، فإذا سمعت علياً الكردي في الشام أو القبانجي في بغداد عرفت ما هو الطرب.
هكذا أنا، وهكذا الناس، فدعوا لنا أغانينا. . .
وضرب الشاب في كل فن من الغناء، ثم غنّى في أبيات أبي صخر الهذلي:
عجبت لسعي الدهر بيني وبينها
…
فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر
فيا حبها زدني جوىً كل ليلة
…
ويا سلوة الأيام موعدك الحشر
ويا هجر ليلي قد بلغت بي المدى
…
وزدت على ما ليس يبلغه الهجر
وإني لتعروني لذكراك هزة
…
كما انتفض العصفور بلله القطر
هجرتك حتى قيل لا يعرف الهوى
…
وزرتك حتى قيل ليس له صبر
أما والذي أبكى وأضحك والذي
…
أمات وأحيا والذي أمره الأمر
لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى
…
أليفين منها لا يروعهما الذعر
فنقلني إلى مجالس الخلفاء التي صورها أبو الفرج، ونال مني الطرب؛ فعرفت أن لقد كان حقاً ما ذكر الأصبهاني وأن المرء قد يمزق ثوبه من الطرب، أو يحرق لحيته بالسراج وينادي النار يا أولاد ال ـ. . . ومن يضع الوسادة على رأسه ويصيح (زلابية بعسل). . .
ولكن ماذا ينفع الشاب إعجابي، وماذا تفيده هذه العبقرية وهو مضطر إلى العمل في سوق الحميدية ليعيش؟ أفليس حراماً أن يدفن هذا النبوغ في دكان؟ أليس حراماً أن صبحي الحموي يعيش متنقلاً بين القرى يراقب إصلاح لطرق المخربة وهو من أقدر من أمسك بمضراب العود؟ أليس حراماً أن يكون عليّ الكردي شيخ الفن القديم في الشام دلال بيوت؟ أليس حراماً أن يشتغل تحسين بك سيد أهل الناي في البلاد كلها بإصلاح أنابيب المياه في البيوت وهو في الثمانين من عمره؟
وفي بغداد، أليس الشيخ حيدر الجوادي عاملاً في دار لتجليد الكتب؟ وفي مصر، أما فيها كثير من أهل الفن لا يعبأ بهم أحد؟
ولكن لا بأس
لقد عهدتك بعد الموت تندبني
…
وفي حياتي ما زودتني زادي
لا بأس أن يموت الفنان جوعاً، فسينصب له بثمن خبزه تمثال، ورحمك الله يا سيد درويش. . .
(دمشق)
علي الطنطاوي
حديث في القرن التاسع عشر
للأستاذ خليل هنداوي
التفت إلي محدثي - وهو شيخ وقور - وقال لي:
إنني محدثك حديثاً عجباً!
قلت: هات!
قال:
كنت في نهاية القرن التاسع عشر في وظيفة إفتاء للأسطول العثماني. وألزمت أن أركب البحر من الدار العلية إلى شاطئ المغرب لمشاغل دينية، على باخرة يونانية صغيرة تميل كلما مال عليها الموج. كنت في عزلة موحشة، لأني غريب لا تميل سحنة إلى سحنتي، ولا ينحني زي على زيي. وصدفة جلس إزائي على المائدة رجل قد تجاوز الأربعين، ولكن ملامح الأسفار على وجهه، وقد استبد الشيب بأكثر مساحة رأسه. أما همته، فلا تزال في صعود: يمشي فلا ينحني، ويتكلم فلا يتتعتع. . .
بادرني قائلاً بالألمانية:
- هل تحسن الألمانية؟
- لا.
سكت ريثما فرغت جفنة من الطعام وعاد سائلاً:
- هل تحسن الفرنسية؟
- لا.
- هل تحس الإنجليزية؟
- لا.
ثم قال بلسان فصيح طلق كأنه أحد البداة:
- وهل تحسن اللغة العربية؟
- أنا أبنها!
- ما اسمك، وما وسمك، ومن أين، وإلى أين؟
أجبته على سؤاله، وعجبت من أمر هذا الرجل الذي كان ينبغي له لما صادفه من زيي أن
يسألني بالعربية. وقدم إلي نفسه بأنه مستشرق ألماني من هامبورج، قضى في الشرق زمناً طويلاً يبلو به الأخلاق، ويدرس العادات. وكانت صحبتنا خلال هذه الأيام المعدودة، صحبة متينة وثيقة، تجاذبنا فيها ما اختلف ألوانه من الأحاديث. وقبل أن يغادرني إلى بلده قال لي:
- والآن أريد أن أسألك عن مسألتين، ولكني رجل لا أُحب النقاش الممل، والجدل القائم على المكابرة. قال:
- إنني اطلب إلى الله أن يميتني على دين عمر بن الخطاب! قلت له:
- يا هذا! إن الدين دين محمد، فكيف تسنده إلى عمر؟!
أجاب:
- نعم. إن الدين دين محمد، ولكني أدعو الله أن يميتني على دين عمر. . . إن محمداً جاء بالدين ودعا إليه، وأبو بكر شد أًزره، وثبت أمره. وجاء عمر ينشره يؤيده وينفذه. . . ومات عمر والمسلمون من بعده لا يزالون يتخبطون في فتنة عمياء، عرفت أوائلها، ولا تعرف خواتمها! المسلمون اليوم على دين غير دين عمر. وماذا - لعمر الله - ير عون من هذا الدين إلا رسومه؟ دين عمر يأمر بالصلاح وهم فاسدون. دين عمر يأمر بالأمانة وهم خائنون، ويأمر بالصدق وهم كاذبون، ويأمر بالوفاء وهم غادرون. . .
سمعتُ هذا من محدثي، وبرقت لنفسي خاطرة أُحببت أن أوضحها، وأحببت أن الفت إليها أنظار المصلحين من رجال الدين: إن الأخلاق التي حث عليها الدين تنحصر في نوعين: الأخلاق الحسية، والأخلاق المعنوية. أما الأولى فهي تتناول الظاهر وتجعل من الرجل الذي يتمسك بها رجلاً فاضلاً محترماً. وإلى هذا النوع من الأخلاق يميل المصلحون، وعلى ممارسته يحثون. على أن المسلمين في الحقيقة لم يتردوا في هذا الدرك الأسفل من الذل، لأن بعضهم يشرب الخمر أو يفسق أو يقامر، وإنا لنرى اكثر الأمم المتسلطة علينا غارقة في خمرها وفسقها وقمارها. . . فلم يضرها ذلك شيئاً. أما الجانب الأكثر خطراً في الأخلاق، فهو الجانب المعنوي الذي تقاس به حيوية الأمم. ولعل هذا الجانب هو ما قصد إليه المستشرق، لأنه وجد أخلاقنا المعنوية، ومقاييسنا الروحية هزيلة جداً: فتاجرنا مثلاً يثرى بالخيانة والحيلة، وفقيهنا يرنع بالكذب، ومصلحنا يقصد جيبه قبل أن يقصد ربه. ومثل هذا الجانب هو ما ينبغي للمصلحين أن يعالجوه! وقد عرف رجال الدين كيف نعت
الرسول (ص) الكفر بالشرك الأكبر والرياء في الأخلاق بالشرك الأصغر. ومن ذا الذي لا يذكر ذلك الأعرابي الذي قدم على رسول والرذائل حشو ثيابه، فقال له: إنه لا يستطيع أن يقعد عن الخمر، وعن الفسق، وعن القمار. فما عالجه الرسول الحكيم إلا من الناحية المعنوية التي تقوي الشخصية وتنقي النفس قال له:
- لا تكذب، وافعل بعد هذا كل شيء!
لكن الأعرابي بعد يومين ترك كل رذيلة.
وهاهنا روعة الفهم وروعة الحكمة!
ولكن كيف يعمل مصلحون يتاجرون بالأخلاق الحسية على حساب الأخلاق المعنوية؟
ألتفت المستشرق إلى محدثي عن المسألة الثانية:
- وما هو الفارق بين الشرقيين والغربيين؟
- فاعتذر صاحبي بأنه لا يعرف الغرب معرفة صحيحة، كما اعتذر الشيخ محمد عبده حين سأله الفيلسوف سبنسر عن أخلاق الإنجليز فاجاب المستشرق:
- إن الشرق كفرد له قيمته وطيبة قلبه، بعكس الغربي الذي فسدت ذاتيته، وتعطلت محاسن نفسه. ولكن الشرقي حين يندمج ويتكتل مع غيره لا يلد إلا كتلة فاسدة متفسخة، يسوقها الطمع، وتقتلها الأنانية. بعكس الكتلة الغربية التي يسودها النظام، وتذوب فيها المصالح الفردية. ولهذا يرجع سر نجاح الجمعية الغربية، وفشل الجمعية الشرقية!
ولقد أصاب المستشرق الهدف إلى حد بعيد، لأن تربية الشرقي تربية ذاتية أنانية تدور حول نفسها، لا تعمل الخير ولا تطلب الإحسان في العمل إلا إذا عملت لنفسها. بينما تربية الغربي تكاد تصبح تربية جماعية اجتماعية، كأنما أدركت هذه التربية قول الرسول (ص): يد الله مع الجماعة.
ولكن ما عسى يقول هذا المستشرق لو عرف أن الشرقي الذي كان يعرفه قد مات، وان الشرقي اليوم قد أضاع طيبة القلب وأمانة النفس كفرد، وبهذا أصبح لا يصلح للحياة كفرد في نفسه ولا في مجتمعه!
وهنا افترقنا. . .
لكن القدر هيأ لهما اجتماعاً ثانياً بعد أربعة أعوام في مدينة المستشرق - هامبورج -
فاستقبل المستشرق صاحبنا وأحله في مثواه، لأنه عربي له عليه حق الضيافة. وفي اليوم الثاني عرَّج به إلى الجامعة، وقدمه إلى رئيسها، وهو شيخ مفكر، لكنه غير محلول اللسان
قال الرئيس لمحدثي بالعربية:
- كيف رأيت بلادنا؟
- البلاد جميلة!
- جميلة! الظواهر جميلة في انتظام، أما البواطن ففي انقلاب! ولكن إذا حكم الإنسان العقل أدرك الأمور بحقائقها
فالتفت محدثي إلى الرئيس وقال:
- على ذكر العقل وإدراكه للحقائق، أود أن أذكر هذه الفقرة من كتاب مخطوط قرأته في مكتبة - أيا صوفيا - وهو في التصوف، وأسمه (نور الأبصار) لمؤلفه الشيخ بهاء الدين اليانيلي من منطقة الألبان (صدر في سنة 1160هـ). قال عن الشيخ العارف الأكبر السيد محيي الدين بن عربي:(ما عرفت رجلاً عرف الله عن طريق العقل مثل أفلاطون. . . وأفلاطون فيلسوف يوناني تفتحت له الحكمة، وانزاحت عن عينيه الحجب. وقد أوصى بأن ينقش على قبره: (الحكمة سلم العالم الأعلى، من علمها فقد علم القرب إلى بارئه، من تدبر نظر، ومن نظر انفتح ذهنه وعقله صفت نفسه، ومن صفت نفسه وصل إلى خالقه بدون واسطة!)
وهنا طلب الرئيس إلى محدثي اسم الكتاب واسم مصنفه ومكانه. وطلب إلى أستاذ في الجامعة أن يسافر لغده إلى - الدار العلية - لاستنساخ الكتاب. ويضيف محدثي إلى ما قاله: وبعد شهرين علمت من قيم المكتبة أن أستاذاً ألمانياً نقل الكتاب، وأعطى القيم مكافأة حسنة. . .
خليل هنداوي
يا رسول الله!
لأستاذ جليل
إن الدهر قد جار على قوم عرب!!!
روى المسعودي في (التنبيه والإشراف) إخبار طائفة من الأفدية بين العرب والروم، منها خبر هذا الفداء:
(الفداء الأول فداء أبي سليم، كان أول فداء جرى في أيام ولد العباس في خلافة الرشيد باللامس من ساحل البحر الرومي على نحو من خمسة وثلاثين ميلاً من طرسوس سنة 189 - والملك على الروم نقفور - وذلك على يد القاسم بن الرشيد وباسمه، وهو معسكر بمرج دابق من بلاد قنسرين من أعمال الحلب. حضر هذا الفداء وقام به أبو سليم فرج خادم الرشيد المتولي له بناء طرسوس في سنة 171 للهجرة، وسالم البربري مولى بني العباس في ثلاثين ألفاً من المرتزقة، وحضره من أهل الثغور وغيرهم من أهل الأمصار نحو من خمس مائة ألف، (وقيل أكثر من ذلك) بأحسن ما يكون من العدد والخيل والسلاح والقوة. قد أخذوا السهل والجبل، وضاق بهم الفضاء. وحضرت مراكب الروم الحربية بأحسن ما يكون من الزي، ومعهم أسارى المسلمين وكان عدة من فودي به المسلمين في اثني عشر يوماً - ثلاثة آلاف وسبع مائة - (وقيل أكثر من ذلك). والمقام باللامس نحو أربعين يوماً قبل الأيام التي وقع الفداء فيها وبعدها).
وذكر المسعودي في ذلك الكتاب هذا الخبر:
(كانت ملوك الروم تكتب على كتبها من فلان ملك النصرانية فغير ذلك نقفور، وكتب (ملك الروم)، وقال هذا كذب، ليس (أنا) ملك النصرانية، أنا ملك الروم، والملوك لا تكذب وأنكر على الروم تسميتهم العرب:(ساراقينوس) تفسير ذلك عبيد سارة، طعناً منهم على هاجر وابنها اسمعيل. وقال: تسميتهم عبيد سارة كذب. والروم إلى هذا الوقت - يعني سنة 345 - تسمي العرب ساراقينوس).
قرأت ما روى المؤرخ المسعودي فرددت:
تذكرتُ والذكرى تهيج لذي الهوى
…
ومن حاجة المحزون أن يتذكرا
وخط القلم هذا المكتوب: أقمنا وجيراننا الروم - بضعة قرون - نتغاور ونتعارك ونتناحر:
تصبح أجنادنا وبعوثنا: (الصوائف، والشواتي، والربيعيات) دروبهم ومدائنهم وتمسيها
لما حللتَ الثغر أصبح عالياً
…
للروم من ذاك الجوار - جوار
أبقت بني الأصفر الممراض كاسمهم
…
صفر الوجوه، وجلت أوجه العرب
أنت طول الحياة للروم غاز
…
فمتى الوعد أن يكون القفول
وكيف ترّجى الروم والروس هدمها
…
وذا الطعن أساس لها ودعائم
وتطلع على ربوعنا والعواصم
…
بنودُ الروم يقاتلون مستبسلين
كنا نتحارب، وكنا نتهادن، ونفادي أسرانا عندهم، ويفادون أساراهم عندنا والحرب سجال
وكان تنابز بالألقاب، فكنا نقول لذوي القرون: يا أعلاج يا علوج!
ويقولون لنا ساخرين: سراقينوس!.
فلما وهنوا ووهنا وهلكوا وهلكنا أقبل قبيل كنا هديناه وعلمناه وهذبناه ومدناه - كما مدنا سواه - وقربناه، وإن شئت فقل: أنشأناه خلقاً آخر، وما كان يعد من الناس، وامتلك دار الروم و (رب ساع لقاعد). وقد كافأنا لئيم شر مكافأة:
جزتنا بنو (مُفل) بحسن فعالنا
…
جزاء سنمار، وما كان ذا ذنب!
خرب لنا حضارة في مصر، ونهب الناهب كنوزنا، وتمالأ هو والإفرنجي علينا في هذا الوقت، وابتّز المختلس الظالم حقاً هو لنا
فإن الماء ماء أبي وجدي
…
وبئري ذو حفرت وذو طويت!
وضام - غير راحم ولا كريم - في الربع المحروب كل عربي نصراني أو حنيف! وشرّد العرب البائسين في البلاد تشريداً! وحقر لو غادته لغة (الكتاب) المبين - الله أكبر، الله أكبر! - وهي التي كوَّنت لسانه؛ فنطق الأعجم مثل الناطقين
ألا إن العربيين لمستأهلون - بما شقوا ليسعد غيرهم - أن يقول لهم الروم: (ساراقينوس) مستهزئين وشامتين
يا محمد! يا محمد!
لقد ضامنا في هذا الزمان الإفرنجي والتركي حتى ذاك الذي ضربت عليه الذلة - حيهلاً بك يا منيَّة حيهلْ - وكان ضعفنا ولؤمنا وتعادينا وصَدَعاتنا وغضبك علينا، غضبك على الخلف الخالف من أجل ذلك - أقوى معين للضائمين!
فإن لم تمّن على المنتمين إلى عربية (قرآنك) العربي بشيء من عطفٍ ورضا هلك - يا سيدي أبا القاسم - أتباعك، خدام (كتابك) خدام (لسانك) خدامك - في الهالكين
يا سيد الوجود يا رسول الله! يا أبا بكر الصديق! يا عمر الفاروق! يا ذا النورين! يا أبا الحسنين! إن الدهر قد جار على قوم عرب!
(ن)
إلى صديقي.
. .
حول زيارة لضريح ابن عربي
للأستاذ صديق شيبوب
هنيئاً لك يا أخي تنقلك بين مصايف لبنان المرتفعة منها والمنخفضة، بين الجبال الشاهقة والأودية السحيقة، بعيداً عما نعانيه من حر مضن ورطوبة قاتلة ونزلة وافدة. ولعلك بعد أن تتم طوافك في لبنان لا تنسى أن تزور دمشق لأنه لا بد لكل من يصطاف بلبنان من أن ينتهي بزيارة الفيحاء، أو وكما قال شاعرنا العربي
تمام الحج أن تقف المطايا
…
على خرقاء واضعة اللثام
ولدمشق سحر خاص تتميز به عن غيرها من البلدان العربية الكبرى. ولا أصف لك الحدائق الغناء التي تحيط بها، وهى نفحة من نفحات الجنان، ولا الآثار البديعة القائمة فيها وبعضها من الروعة بمكان. فإنك ستزورها وستشهد هذا جميعه وتعجب به
وزائرو دمشق يكتفون عادة من آثارها بالجامع الأموي ودار المجمع العلمي والمكتبة وبعض القصور القديمة وبعض المصانع الوطنية؛ وقليل منهم من يفكر في زيارة ضريح الشيخ محيي الدين ابن عربي، أو يفطن إلى أن (بحر المعارف الإلهية، وترجمان العلوم الربانية، الشيخ الأكبر، والقطب الأفخر)، كما يلقبه الشيخ عبد الغني النابلسي، مدفون فيها
ولقد زرت دمشق أكثر من مرة، وكنت في كل مرة أتردد على الأماكن التي تعود الناس زيارتها. ولم أفطن مرة إلى ضريح (الشيخ الأكبر) كما يلقب علماء الصوفية ابن العربي بالرغم من أني ركبت أكثر من مرة (تراماً) يعرف خطه باسم (الشيخ محيي الدين) في غدوي ورواحي إلى حي الصالحية حيث كنت أقيم
ولم يخطر ببالي في زياراتي الأولى أن أسأل من هو محيي الدين هذا. ولا أخفي عنك أني لو سألت يومئذ عنه وقيل لي أنه ابن العربي لما نبه في ذهني خاطراً بعيداً، أو بعث في نفسي شوقاً مزيداً إلى زيارة ضريحه، لأني لم أكن أعرف عنه أكثر من أنه إمام من أئمة الصوفية وأنه صاحب هذه الأبيات الجميلة التي كنت أحفظها من غير أن ألتفت إلى معناها الصوفي وهي:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
…
إذا لم يكن ديني إلى دينه دان
وقد صار قلبي قابلاً كل صورة
…
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لنيران ومعبد طائف
…
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
…
ركائبه، فالحب ديني وإيماني
ولم أكن أعرف ابن العربي، كما وصفه الشيخ صفي الدين ابن أبي منصور في تعابير صوفية رائقة، فقال إنه (الشيخ الإمام المحقق، رأس أجلاء العارفين والمقربين، صاحب الإشارات الملكوتية، والنفحات القدسية، والأنفاس الروحانية، والفتح الموثق، والكشف المشرق، والبصائر الخارقة، والسرائر الصادقة، والمعارف الباهرة، والحقائق الزاهرة، والمحل الأرفع من مراتب القرب في منازل الأنس، والمورد العذب في مناهل الوصل، والطول الأعلى في معارج الدنو، والقدم الراسخ في التمكين من أحوال النهاية، والباع الطويل في التصريف في أحكام الولاية. وهو أحد أركان هذا الطريق)
أو كما وصفه الذهبي: (وله توسيع في الكلام، وذكاء وقوة خاطر وحافظة وتدقيق في التصوف، وتآليف جمة في العرفان. ولولا شطحه في الكلام لم يكن به بأس. ولعل ذلك وقع منه حال سكره وغيبته)
أو كما وصفه المسدي: (كان ابن العربي ظاهري المذهب في العبادات، باطني النظر في الاعتقادات، خاض بحار تلك العبادات، وتحقق بمحيا تلك الإشارات، وتصانيفه تشهد له عند أولي البصر بالتقدم والإقدام، ومواقف الغايات في مزالق الأقدام)
أو كما قال أيضاً: (وكان جميل الجملة والتفصيل، محصلاً لفنون العلم أخص تحصيل، وله في الأدب الشأو الذي لا يلحق)
أجل لم أكن أعرف هذا جميعه عن ابن العربي، بل لم اكن أعرف كثيراً أو قليلاً عن أئمة المتصوفين لأني وصلت إلى دراسة التصوف متأخراً. . . بل إني لم اكن أتذوق كما يجب أشعار ابن الفارض لأني لم أكن افطن إلى كل معانيها الصوفية.
وأذكر اليوم في شيء من الخزي أن كبيرة أديباتنا العربيات زارت منذ سنين ضريح ابن الفارض بالقاهرة بسفح المقطم، أو كما قال حفيده الشيخ علي في رثائه المعرف (بالقرافة تحت ذيل العارض) ثم كتبت عنه مقالاً كله إطراء وثناء؛ وكان أن لقيتها بعد ذلك بالإسكندرية حيث كانت تصطاف وقلت لها: إني لا أشاطرها إعجابها به. فأجابتني بأنه
يجب أن أحاول فهم شعر ابن الفارض من الناحية الصوفية قبل أن أتحدث عنه كشاعر
ولعل هذا كان أول حافز لي لدرس الصوفية على قدر اجتهادي.
ولا شك أن لابن الفارض مكانة خاصة في شعرنا العربي لأنه يكاد يكون الوحيد الذي عالج شعر الصوفية على النحو الذي نحاه شعراء الفرس والترك الصوفيون المبتدعون أمثال العطار وجلال الدين الرومي وسعدي حافظ. ولا يدانيه في هذا الباب غير ابن العربي، وإن يكن قد قصر عنه. فابن الفارض إذن فارس هذه الحلبة في لغتنا العربية وبطلها الفرد، وقد قال فيه نيكلسون:(إن أشعار ابن الفارض غاية في اللطف). ولا أذكر الآن من قال في وصف ديوانه إنه (معجزة في عالم الأدب)
والصوفية في شعر ابن الفارض مراتب من حيث الوضوح والغموض. ولعل (خمريته) تحسب وسطاً بين شعره الغنائي الغزلي وبين (التائية الكبرى) المعروفة بنظم السلوك
وهل أروي لك للدلالة على تشعب معاني هذه القصيدة الأخيرة ما ذكروا من أن أحدهم قصد ابن الفارض يستأذنه في شرحها، فسأله عن مقدار الشرح، فقال: إنه سيقع في مجلدين. فضح الشاعر الصوفي وقال: (لو أردت لكتبت مجلدين تفسيراً لكل بيت فيها)
على أن المقريزي ذكر في ترجمة عمر بن الفارض أن محيي الدين ابن العربي بعث إليه في شرح التائية الكبرى فرد عليه الشاعر: (كتابك المسمى بالفتوحات شرح لها) إشارة إلى كتاب ابن العربي (الفتوحات المكية) الذي جمع فيه شتات العلوم الصوفية في خمسمائة وستين باباً
وبين ابن العربي وابن الفارض بعض الشبه. كانا متعاصرين فكلاهما من رجال القرن السابع للهجرة، أي القرن الثالث عشر للمسيح، فقد توفي ابن الفارض سنة 632هـ ـ (1235م) وتوفي ابن العربي سنة 638هـ ـ (1240م). وكان ابن الفارض يصاب بدورة إغماء وغيبوبة فإذا أفاق منها أملى أشعاره؛ وكان ابن العربي يعتقد أن ما يكتبه يتحول إليه بطريق الوحي في حالة الغيبوبة والمجاهدة. وكلاهما من أئمة الصوفية، ولكن بينما هي غامضة بعض الغموض عند ابن الفارض لأنه يرمز إليها في صور شعرية، نجدها واضحة عند ابن العربي لأنه يبحثها نثراً. وكان ابن الفارض ينظم غزلاً يرمز به إلى الله في غير حبيب مجهول، ويكثر فيه من أنواع البديع بينما نجد ابن العربي ينظم شعره من
غير أن يتعمد أنواع البديع في فتاة مكية
أما من حيث المحسنات البديعية فلعل الفرق ناتج عن المحيط الذي نشأ فيه كل واحد من الشاعرين. فقد ولد ابن الفارض في القاهرة ونشأ في محيط شرقي فاكتسب شعره المميزات التي كانت بارزة في بيئته بين معاصريه. أما ابن العربي فقد ولد بمرسية (في 17 رمضان سنة 650هـ. أي 28 يوليو سنة 1165م.) ونشأ وتأدب في بلدان الأندلس بين أشبيلية وسبتة، وقد استقر في الأولى ما يقارب الثلاثين عاماً، ولم ينزح إلى المشرق إلا عندما شارف الأربعين سنة 598هـ (1201 - 1202) فأكتسب شعره مميزات مواطنيه، وكانوا أقل عناية بالمحسنات اللفظية من شعراء مصر والشام والعراق
أما معشوقته ففتاة مكية تسمى (نظاماً) وتعرف بلقب (عين الشمس). وكان والدها من علماء فارس الذين نزحوا من بلادهم وأقاموا في مكة. وكانت لما عرفها ابن العربي في الرابعة عشرة من عمرها على كثير من العلم والمعرفة، بليغة الخطابة، جيدة الكلام، بارعة الجمال. وقد لقيها أثناء إقامته بمكة عام 598 أي غب رحلته من بلاد الأندلس. ثم نأى عن مكة زمناً حتى إذا عاد إليها سنة 611 نظم فيها بعض القصائد فوصف جمالها الفتان وعلمها الواسع وذكر ما كان بينه وبينها من حب. ثم رأى بعد ذلك أن يتبع هذا الديوان الصغير بشرح صوفي
بعد بنا هذا جميعه عن ضريح ابن العربي وزيارته
وهنا يجب أن أذكر شيخنا التفتازاني رحمه الله. سألته مرة أين قبر ابن العربي؟ فقال بأسلوبه العذب الذي تذكره: كيف لا تعرف ضريح ابن العربي؟ وكيف تزور دمشق ولا تزوره؟ إنه فيها بعد (الجسر) وتصل إليه بخط ترام معروف باسمه (الشيخ محيي الدين). ألم تقرأ في الشعراني قوله: (وقبر ابن عربي في الشام، وقد بنيت عليه قبة عظيمة وتكية وفيها طعام وخيرات) قلت ولكني أعرف أنه توفي بدمشق ولكنه نقل إلى جبل قاسيون ودفن بسفحه. قال: وقاسيون هو الجبل المطل على دمشق والذي بنيت في سفحه في شكل مدرج المدينة الجديدة والحي الذي يعرفونه اليوم باسم المهاجرين
وكان أني زرت دمشق بعد ذلك ولآخر مرة في صيف سنة 1935، وأقمت فيها أياماً ضيفاً على أحد أقاربي، ولما كان يقيم بالصالحية، وهي في أول مرقى الجبل قبل المهاجرين، كنا
نركب الترام في الغدو والرواح. وهناك خطان أحدهما يعرف باسم (المهاجرين)، والآخر باسم (الشيخ محيي الدين). والحق أني كنت نسيت ابن العربي ووصية الشيخ التفتزاني. وساقني الفضول مرة فسألت قريبي من يكون الشيخ محيي الدين هذا. فقال: انه عالم صوفي يعرف بابن العربي، وأن له ضريحاً ومسجداً في آخر خط الترام فدعوه باسمه. وهنا تذكرت الماضي وقلت: أجل يجب أن نزوره
وبعد ظهر ذلك اليوم أقلتنا عربة أخذت ترقى بنا الجبل حتى وصلنا إلى حيث المسجد بعد أن اجتزنا حياً وسوقاً تختلف أبنيتهما جدة وقدماً، وأكثرها قديم. وكان جماعة من الفقراء يزدحمون بباب المسجد؛ فإذا تجاوزت الباب استقبلك بهو واسع تتوسطه بركة ماء كبيرة، وفي آخر البهو إلى الشمال الضريح، وهي غرفة حسنة الاتساع طفت بها فإذا على حائطها كثير من الشعر المنقوش على رخام قائم في الحائط. وحاولت أن أقرأ بعض الشعر فوجدته باللغة التركية. وقبل أن أستطيع الإلمام ببقيته تقدم إلينا الشيخ وقال: قد أزفت صلاة العصر فهلما نصلي ثم تتابعان زيارتكما بعد ذلك
ولا أذكر الآن كيف تخلصت من الشيخ ودعوته إلى الصلاة، ولكني وجدت وقتئذ أننا في موقف حرج لأني أجهل ماذا يكون شعوره لو عرف أننا مسيحيان. وأشرت إلى صاحبي أن من الخير أن نغادر المكان على أن نعو في فرصة أخرى أكثر ملائمة من هذه، فخرجنا. ولم تتح لي فرصة أخرى للعودة
كانت العربة تهبط من الجبل، ونحن نستشرف تارة الحقول المنبسطة، وأخرى دمشق بقبابها اللامعة ومآذنها العالية تتخللها الأشجار الباسقة وتكتنفها الرياض والبساتين، ونستجلي هذا المنتشر في الأفق الحاني والطبيعة الساهمة والمدينة المنبسطة. وكنت لا أزال تحت تأثير زيارة الضريح أفكر في الأندلسي الذي طاف البلاد العربية فكان في كل مكان يحله كأنه بين أهله وإخوانه يتقرب إليه الناس ويجري عليه الحكام الأرزاق فيوزعها على الفقراء والمعوزين. أليس دينه الحب كما قال في أبياته التي ذكرها.
وهذا الجمال الذي نشرف عليه ونستجليه في هذه المناظر الخلابة، أليس من صنع الله، وما دام من صنعه فهل هو قائم فيه حقاً. وهل صحيح ما قاله ابن العربي (سبحان من خلق الأشياء وهو عينها) أو ما نظمه شعراً:
يا خالق الأشياء في نفسه
…
أنت لما تخلقه جامع
تخلق ما لا ينتهي كونه
…
فيك فأنت الضيق الواسع
وذكرت هذه الفلسفة الشمولية التي نادى بها العربي والقائمة على مذهب وحدة الوجود. ولا عجب فقد كنت (مسافراً) على حد تعبير ابن العربي الذي قال إن (السفر) عبارة عن القلب إذا أخذ في التوجه إلى الحق تعالى. ولا شيء أدعى إلى هذا التوجه مثل التأمل بجمال الطبيعة.
وفهمت وقتئذ كيف شذ ابن العربي عن أشياع نظرية واحدة الوجود المادية فتوجه بها إلى عبادة الخالق والشعور بالافتقار إليه تعالى، وهي عبادة الضعيف للقوي والفقير للغني. وفهمت كيف انه بالرغم من شعوره الديني الإسلامي العميق قال بوحدة الأديان لأنها جميعاً تدعو إلى عبادة الواحد المتجلي في صورهم وصور جميع المعبودات
والحق أنني اليوم وأنا أكتب إليك بين جداران حجرتي أجد من الصعب أن أذكر كل هذه الخواطر التي مرت بذهني بينما كنت انحدر من جبل (قاسيون) إلى دمشق.
وبعد فإني أرجو ألا تجد في هذه الرسالة صورة كاملة لابن العربي، ولكنها خواطر جالت بفكري عندما أردت أن أنبهك إلى ضرورة زيارة ضريحه. وأنت تجد أني لم أحدثك عن حياته وآرائه ومؤلفاته وما قام حول مذهبه من جدل حمل بعضهم على رميه بالكفر وما كان من أثره بين أهل الشرق والغرب وخاصة ما وجده المستشرق الإسباني (ميجل اسين) من شبه بينه وبين (دانتي) فألف كتاباً قرر فيه أن الشاعر الإيطالي أخذ كثيراً عن المتصوف العربي وتأثر به في نظم قصيدته الخالدة (الكوميديا الإلهية) أو كما قال البحاثة الإنكليزي (ألفريد جيوم) إن ابن العربي كان من الذين (أخرجوا للناس النماذج المدهشة الأولى للكوميديا الإلهية)
على أنني لا أريد أن أختم رسالتي إليك قبل أن أروي لك قصة ذات دلالة كبيرة على طريقة هؤلاء الصوفيين ومنازعهم الفكرية والتأملية. فقد رووا أن ابن العربي اجتمع بالشهاب السهروردي فأطرق كل واحد منهما ساعة ثم افترقا من غير كلام. فقيل لابن العربي ما تقول في السهروردي؟ فقال: (مملوء سنة من قرنه إلى قدميه) وقيل للسهروردي ما تقول في الشيخ محيي الدين؟ فأجاب: (بحر حقائق)
ولعلك تكون يا أخي أكثر توفيقاً مني عند زيارة ضريح ابن العربي وأعمق شعوراً بما يطوف بك من جمال.
(الإسكندرية)
صديق شيبوب
بطاقة.
. .
للدكتور محمد ناجي
بطاقة تحمل على صدرها اسم صاحبها مجرداً من أي لقب، وخلوا من أي عنوان أو رقم تلفون؛ وكأني به لا يحمل لقباً ولا يعرف لنفسه عنواناً، ولا يملك رقم تلفون، ولم يمن الله عليه إلا ببضعة قروش ثمن بطاقته
مرت تلك البطاقة على ناظري، ثم جالت بخاطري، حتى شغلتني عن أمري، فعجبت لها أيما عجب!
بطاقة فريدة في نظمها، عجيبة في نثرها، قليلة في لفظها، فحرت في أمرها، وضاق بي تفسيرها، ولم أدر ما شأنها ومن يكون حاملها؟
إنها تخالف بطاقات العصر، هي في واد والعصر في واد. بطاقات العصر تحمل من الألقاب والعنوانات والأرقام ما ليس لها وما لها، كأن الشيطان أوحى لها، حتى لا تدع موضعاً للقب جديد، أو زيادة لمستزيد. . .
فمن يكون هذا الذي يخالف العصر في بطاقاته، ويبز أبا العجب في نزعته؟ انه محمد طلعت حرب. ذلك الرجل المتواضع حتى في بطاقته، ولو شاء أن يسطر اسمه والقابه وعنواناته وتلفوناته لكانت بطاقته كتاباً
إن بطاقته تحمل في نفسها أدب الإعلان عن النفس، إنها لحكمة بالغة، تسيطر على الحس والنظر والفؤاد، إذ لها في كل قلب مستقر وفي كل واد أثر. هذه هي البطاقة التي بزت الزمن وعلمت المصري ما لم يكن يعلم. إنها تذكرة القدر، وإنها لإحدى العبر، فطوبى لمن قرأ وادكر، وعرف قدر نفسه واعتبر. . .
محمد ناجي
عضو القومسيون الطبي العام
عقيدة الزعامة في النازية
للدكتور جواد علي
لا تفهم وجهة النظر الوطنية الاشتراكية للعالم إلا إذا اطلع المرء على عقيدة الزعامة التي هي الأصل الأول من أصول المذهب النازي والعمود الذي ترتكز عليه جميع تعاليم الحزب ونظرياته. فلا تتساهل المؤسسات الهتلرية أبداً أمام التساهل بهذه العقيدة أو الكافر بها. لذلك سخرت جميع ما تمتلكه من وسائل في سبيل تأييدها وحض الناس على الاعتقاد بها. وطهرت السياسة والعلم والفن والصناعة - على حد تعبير الوطنية الاشتراكية - من جميع الأدران التي تراها تصطدم مع هذا الإيمان المطلق. ولم تتساهل حتى مع أكبر الأساتذة الذين لم تجد منهم ميلاً أو تأييداً في القول أو الفعل
وعقيدة الزعامة هذه تنحصر في زعامتين: الزعامة الفردية، والزعامة العنصرية، أو الأممية. ومتى عرفت هاتين الزعامتين اتضح لك سبب تهجم هتلر على الماركسية والماسونية واليهودية، وكل فكرة أو نظرية علمية أممية. أما الزعامة الفردية فتستند إلى قاعدة أن الأفراد ليسوا في الاستعداد على حد سواء. وكذلك في المؤهلات العقلية والإنتاجية. فهنالك درجات كل درجة أرقى من التي تحتها؛ وهكذا ترتقي الدرجات حتى تصل إلى درجة زعيم فوهرر وهو زعيم الزعماء، إذ أن كل فرد بالنظر إلى من هو أدنى منه عقلاً أو جسماً أو أضعف إرادة زعيم مفترض الطاعة. وعلى حسب هذه الدرجات تتوزع كذلك المسؤولية والوظيفة والواجب. وهذه المواهب والقابليات موهوبة فطرية لا تكتسب بعلم ولا يحصل عليها بتهذيب أو درس والزعيم الأكبر الذي يتولى قيادة الشعب العامة هو الذي يكيف الشعب حسب إرادته وروحه ويضع الخطط العامة. ولا بد لهذا الزعيم من مؤهلات روحية تميزه عن أفراد شعبه، وقوى خارقة ممتازة من أهم صفاتها الإرادة والشجاعة والخيال والتفكير والخطابة والمقدرة السياسية والتضحية والإنتاج
هذه الصفات كما ذكرنا فطرية مجبولة في الشخص، فالزعيم يولد زعيماً وتظهر عليه المؤهلات، ولكي تنمو فيه هذه المؤهلات وتينع وتمنع من الانحطاط لابد من العناية بتربية الأفراد خصوصاً الطبقة الصالحة منها للقيادة التي تمتاز بميزات جسمية كطول القامة والاتزان وحدة النظر مع الهدوء وتحمل المشقات؛ ولا يسمح لذلك بالزواج إلا بعد الفحص
الطبي والتحقق من سلامة الزوج والزوجة من الأمراض الجسمية أو العقلية أو الاجتماعية كالإدمان على الشرب واللصوصية وغيرها. وهناك مدارس صارمة للزعامة يدخلها من يريد الانخراط في سلك الزعماء على اختلاف درجاته لها أنظمة شديدة، ومن هذه الطبقة تنشأ طبقة خاصة هي طبقة الأشراف، أشراف المستقبل الذين يقودون الجيل الجديد على طريقة فرسان الجرمان القدماء
أما الزعامة العنصرية أو الأممية فتتلخص في أن الأمم ليست متساوية كذلك في القابليات والأنتاج؛ وهي فطرية كذلك كما هي في الأفراد. والشعوب الآرية في نظر الوطنية الاشتراكية هي الشعوب المنتجة وحدها، وكل حضارة في العالم أو مدنية هي من صنعة هذا الجنس، وهذا ما يدعو طبعاً إلى قلب التأريخ ظهراً على عقب وإلى كتابة تاريخ عالمي جديد. لذلك حاربت النظرية المادية في التأريخ وهي نظرية كارل ماركس وزميله أنكل. وبيبل وهي النظرية المعروفة ب ? القائلة بأن التأريخ أو التطور البشري نتيجة من نتائج التطور الاقتصادي، وكذلك على وجود حضارات بشرية مختلفة، فهنالك حضارة بابلية وهناك حضارة مصرية، وهناك حضارة صينية، وهنالك حضارة عربية. كما أن هناك حضارة ألمانية أو حضارة إنكليزية، ولكل حضارة من هذه الحضارات نفسية خاصة (أنظر كتابه المشهور سقوط الغرب) وكذلك نظريات الكتاب الأحرار الذين يرون العالم ككتلة واحدة والمبادئ التي نشأت من الثورة الفرنسية
إن فكرة الزعامة العنصرية هذه ليست فكرة هتلر بمعنى أنه هو الذي ابتدعها وكوَّنها، بل هي فكرة عالمية قديمة كانت لدي اليونان إذ كانوا يحتقرون الشعوب الأخرى ولا يعترفون لها بالإنتاج؛ وكانت كذلك لدى الرومان والعرب، وظهرت في العصر الإسلامي باسم الشعوبية وهي حركة كانت ضد العرب؛ وكانت لدي الأمم الأخرى، والحركة المعادية للسامية قديمة أيضاً حتى أن لوثر المصلح الديني العظيم في ألمانيا كان من الذين يكرهون اليهود. ولكن تلك الفكرة لم تطبع بالطابع العلمي وتصبح عقيدة كما أصبحت في ألمانيا اليوم. وأشهر الذين نادوا بالزعامة العنصرية قبل هتلر هم الألماني (1802 - 1867) الذي بحث عن الشعوب الفعالة وانتشارها على الكرة الأرضية واعتقد بأن الشعوب الهندو آرية هي الشعوب المنتجة وحدها. وكذلك الفرنسي المشهور كراف كوبينو (1816 -
1882) فيكتابه ' وقد توصل إلى نتيجة تفوِّق العنصر الجرماني على جميع العناصر؛ ثم الكاتب الفيلسوف الشهير هوستن شامبرلن (1855 - 1928) في كتابه 19 وهو إنكليزي الأصل ألماني الثقافة صديق الموسيقي الشهير ريشارد واكنر المعروف بكرهه لليهود أيضاً. وكان شامبرلن هذا يكره اليهود وحاول في كتابه بعث ألمانيا من جديد إثبات أن العنصر السامي هو عنصر غير منتج. ولأفكاره أعظم أثر في شخصية هتلر وآرائه. وقد زاره مراراً، وتعتبر كتبه من أهم الكتب التي كونت الوطنية الاشتراكية بجنب كتاب كفاحي ويرى من خلال دراسته المصبوغة بطابعه الجرماني الخاص أن الشعب الجرماني وحده له حق القيادة والزعامة إذ هو الشعب المنتج على الإطلاق، وأن اليهودية والشعوب السامية لم تنتج شيئاً وما أنتجه هو نتيجة العقلية الآرية فقط
كانت فكرة العنصرية قد توسعت منذ عهد بسمارك إذ أطلقت لليهود، لأسباب سياسية، الحرية المدنية وسمح لهم بالتوظف في الدولة من دون قيد ولا شرط. فازداد بذلك العداء وتوسعت الفكرة العنصرية ولا سيما بعد الحرب العظمى، وظهر مختلف الكتاب الذين شنوا الغارة على اليهود كالأستاذ أدولف بارتلز المشهور بكتابه (تاريخ الأدب الألماني) على الطريقة العنصرية، والبروفسور لدويك شيمان والبروفسور كنتر. وغيرهم، وأخذوا في دراسة العنصرية من جميع أوجهها متخذين للموضوع قواعد وأسسا وأدوات، وقد ساعدتهم الوطنية الاشتراكية طبعاً بكل قواها، وأسست معاهد للعنصرية في الجامعات والمستشفيات وجميع المؤسسات الشعبية. وظهر في عالم الدروس الجامعية فرع خاص يسمى باسم مبحث الأجناس وقد كيفت النازية السياسة والعلم والفن والرأي العام على هذا الاتجاه، إذ يرى هتلر أن مصدر كل بلاء نزل على ألمانيا هو إهمالها العنصرية وتصاهرها مع اليهود الذين أضروا بالأخلاق والتقاليد الجرمانية الموروثة، وكذلك المسيحية اليهودية التي لا تمثل إلا أخلاق اليهود. وهذه كانت نظرية الفيلسوف نيتشة الذي كان يصف الأخلاق المسيحية بأخلاق العبيد، وكذلك شامبرلن وغيرهما. لذلك أكره هتلر جميع العلماء والمؤسسات العلمية على تطبيق هذه النظرية، وقاوم كل نظرية تدعو إلى الأممية وإلى المساواة بين الشعوب كالهرم أيضاً، قاعدته متسعة يضم في أسفله الشعوب الزنجية والأقوام الابتدائية، ثم يضيق شيئأ فشيئاً حتى يصل إلى القمة حيث هناك الشعوب
الجرمانية الألمان والسكاندناويين والدانمارك، وفي قمة هذا الهرم تماماً تكون ألمانيا. (أنظر كتاب ص 140) وهكذا طبق هتلر عقيدة الزعامة الفردية على الزعامة الأممية، فكما أن هتلر هو زعيم الألمان الذي يجب أن يطاع لما له من مواهب الزعامة الموهوبة الفطرية فكذلك يريد أن يجعل شعبه في قمة الزعامة الأممية التي لا يرتقي إلى مصافها شعب
كان من الطبيعي أن يعاني العلم والفن من جراء هذه النظرية مصاعب شتى ولا سيما العلوم العقلية منها كالفلسفة وعلم الاجتماع وعلم التربية والسياسة والاقتصاد وخصوصاً التأريخ الذي يعتني به هتلر عناية خاصة، وخصص له عدة صحائف في كتابه كفاحي لأنه يرى في التأريخ خير درس وعبرة للأفراد والشعوب على الطريقة التاريخية القديمة التي تنسب إلى المؤرخ اليوناني توكيديدس (460 - 400ق. م) والمعروفة في التاريخ باسم أو التأريخ التعليمي. وبما أن الطريقة العلمية في مثل هذه الموضوعات حرة وآراء الأساتذة مختلفة طليقة تكره التحيز والتعصب، لذلك كانت مهمة العلماء في مثل هذه الموضوعات صعبة جداً. والنتيجة المنطقية لذلك كانت إحجام الكثير منهم عن التأليف وتبيان آرائهم بصراحة، وإجهاد الفكر لإيجاد براهين جديدة لتحقيق نظرية الزعامة وقلب العلم رأساً على عقب. ولو تصور القارئ مثلاً أن علم التاريخ حسب هذه النظرية يجب أن يقلب رأساً على عقب تماماً عرف صعوبة المهمة الشاقة ونظر العلماء الأجانب إلى أمثال هذه الآراء. فالنظرية النازية الجديدة في التاريخ ترى أنه من الكفر الابتداء منذ اليوم بالتاريخ القديم بممالك الشرق الأدنى كالمصريين والبابليين والأشوريين، بل ترى في ذلك الخطأ الفادح لأن من عقيدتها أن الحضارة الجرمانية أساس الحضارات، ومن الجرمان أخذت الشعوب الشرقية حضارتها مستدلة يذلك على نظريات الهجرة، وتوسع السكان الذي جرى ولا يزال يجري إلى الآن، وعلى حفريات تقوم بها المؤسسات الألمانية ثم تحكم هي بنفسها على تقدير أعمار المكتشفات الأثرية وقدمها. ولا شك أن ذلك مما يسخر منه علماء الأقطار الأوربية الأخرى ولا يدينون به، وكذلك علماء ألمانيا أنفسهم، ولكن السياسة طبعاً هي التي تتغلب الآن على العلم
يقسم علماء التاريخ اليوم في ألمانيا العالم إلى قسمين: شعوب سياسية تنشئ التاريخ وتكونه
وهي الشعوب الجرمانية طبعاً، وشعوب غير سياسية وهي التي لا تلعب دوراً في التاريخ ولا في السياسة بل يلعب بها وهي الشعوب السامية والزنجية وغيرها. ويصرح هتلر بهذه الفكرة في كتابه كفاحي، ويرى فضلاً عن ذلك أن التاريخ هو محصول الأفراد لا الشعوب، أي أن الزعماء هم الذين يكونون التاريخ لا الجماعة، إذ الجماعة تساق فتنساق وتؤمر فتطيع ومن أجل ذلك أمر بكتابة تاريخ جديد، وأنشأ تاريخاً عاماً للعالم يستند إلى أساس العنصرية فيبدأ بالجرمان وبالشعوب الأوربية السياسية المكونة للتاريخ وينتهي بالشعوب التي لم تلعب دوراً في السياسة المكونة للتاريخ وينتهي بالشعوب التي لم تلعب دوراً في السياسة، فتفحص فحصاً من جديد، وكل ما وجد فيها من حضارة يسند إلى الآرية كما فعل الفريد دوزنبرك في كتابه (خرافة القرن العشرين) 20 في الفصل الذي كتبه عن الحضارة العربية الإسلامية
وكان من جراء هذه النظرية تعديل الكتب التاريخية ومناهج البحث ووضع قواعد ثابتة للتأريخ وفق القيم النازية، ولقد لخصها الوزير الألماني ديترش كلاكس في كتابه التأريخ بما يأتي:
إن الحياة كفاح، والشعوب ليست بشيء أبداً دون زعيم، والشعب هو مستقبل الفرد، والمواطنين يرتبط بعضهم ببعض في السراء والضراء على قاعدة العنصرية والدم، وكل خائن عقابه القتل. يموت الفرد ويبقى الشعب، ولكن الشعب يجب أن يكون خالصاً نقياً كما أن الدولة يجب أن يكون خالصاً نقياً كما أن الدولة يجب أن تكون نقية ذات عنصر واحد.
ولكي تعيش هذه الشعوب تحتاج إلى قوى وجهاد وأسلحة وعتاد إذ بدونها لا تعيش الأمم. وبين هذه الأمم اختلاف في العقل والجسم، وفي مقدمة هذه الأمم الأمة الألمانية؛ لذلك فإن كل من ينادي بالأممية وبالتطور البشري وبحقوق الشعوب يجب عقابه عقاب مفتر كذاب، إذ أن الطبيعة البشرية تناقض ذلك. والشعب السعيد هو الذي يخضع لزعيم مطاع. والعنصرية هي مفتاح تاريخ العالم. (أنظر ص 141 - 143).
هذه هي نظرية الوطنية الاشتراكية وعقيدتها التي تتمسك بها وكل ما يتعارض مع هذه العقيدة ينظر إليه نظر المسلم إلى الكفر والإلحاد، لذلك فالماسونية والشيوعية والديمقراطية والأديان العالمية التي تساوي بين الشعوب والأفكار الأممية كلها آراء فاسدة تتعارض
حسب نظرها مع الطبيعة البشرية والتأريخ. هذه هي فلسفة النازية، من أدرك شكل هذا الهرم الذي يمثل الزعامتين عرف المذهب تماماً وأدرك سبب كره هتلر للمبادئ المذكورة. ولعل في نفسية هتلر وقسوة العالم الخارجي بعد الحرب العظمى على ألمانيا هي الباعث على تطرف الألمانية الوطنية هذه
جواد علي
خريج جامعة هامبرج بألمانيا
من نار الفراق
أنا. . . وأنت!. . .
(لم يبق لي بعد اليوم في الدنيا أمل، فإذا لاحت في أفقك
شعاعة من رجاء فأتني بها قبل المصير!)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
جُرْحانِ ظَلاَّ في سَعيرِ الزَّمانْ
لا يَهدآنْ!
وغُنْوَتا حبٍ بنايِ الهَوَان
مَذْبوحَتانْ!
وقَطرَتا دَمْعٍ بِوادي الحَنانْ
عِرْبيدَتانْ!
أذْراهُما في تَوْبةٍ عابِدانْ
مُسْتَغفِرانْ!
يا ربِّ أني لَشرِيد الجَنانْ
طَيْفُ الأمانْ!
بَيْتانِ مِنْ شِعْرِ سَقَاهُ الحَنين
كأسَ العَذابْ!
مَلاَّ صَدَى الدُّنيْا ونَجْوَى السِّنينْ
فوق التُّرابْ!
وَحِينَ. لاحَ الشَّطُّ غابَ السَّفِينْ
خَلْفَ الضَّبابْ!
فَلَمْ تَزَلْ كَفُّ الأسَى والجُنُون
تَسْقِي الرَّباب!
ولَمْ نَزَلْ نَشْدَو. . . وَشَدْوُ الحَزِين
رؤيا خَرابْ!!
فَرْخانِ في أُفْقِ الهَوَى حَائِرَانْ
حَوْل الِّرياح!
مَاتَتْ أغَانيِنا بِظِلِّ الجِنانْ
قَبْلَ الصَّباح!
وَحَطَّم السَّاقِي بَقَايا الدِّنانْ
فوقَ الجِراحْ!
لَقَدْ سَقَيْنا حُبَّنا يَا زَمانْ
نارَ الْكِفاحْ!
فَخَلِّنا. . . إنَّا لِطوُلِ الهَوَانْ
عِفْنا النَّوَاح!!
(القاهرة)
محمود حسن إسماعيل
أنشودة وفاء النيل
للأستاذ محمد فتح الباب
البحْرُ زَادْ
…
عَمَّ البلادْ
والخَيْرُ جادْ
…
كلَّ العِبادْ
إلى الحَصادْ
…
البَحْرُ زادْ
مِصْرُ يا مِصرنَا افْرحي
…
فَرْحةَ الطَّيْر بالريّاضْ
أَنتِ يا كلَّ مطمحي
…
هِبَةُ النّيلِ يومَ فاضْ
اسرحي اليوم وامرحي
…
نيلنا يَمْلاُ الحِياضْ
البحر زاد. . .
مِصرُنا زينةُ الأْمَم
…
حَسْبُها النيل والهَرَمْ
أمَّةُ السيف والقَلَمْ
…
رَبَّةُ المجد مِنْ قِدَمْ
نِيلُها كلّهُ عَجَبْ
…
يَجمَعُ الأُنسَ والطرَبْ
ماؤه يَحْملُ الذَّهبْ
…
وشِفاءٌ لِمَنْ شَرِبْ
البحر زاد. . .
نِيلٌ وَفَي لَيْلةَ الصَّفاءْ
…
والنيل منْ دَأبهِ الوَفاءْ
والغِيدُ في خُضرةٍ وماءْ
…
كالحوُرِ في جنَّةِ السَّماء
فَيضٌ غَزيرْ
…
عذْبُ النمَّيرْ
لَهُ خَرِيرْ
…
مِثلُ الزَّئيرْ
نِيلٌ جميلْ
…
كالسلْسبيلْ
لَمَّا يَسيلْ
…
بينَ النخيلْ
البحر زاد. . .
يا نيلُ عن مجدنا الأثيلْ
…
خَبِّر وعن بَاعِنا الطويلْ
آثارُنا تعجِز العقولْ
…
شهود حَقٍ لنا عُدُولْ
زهرٌ من (اللوتَس) البليل
…
في حُسْنِهِ ما لهُ مثيلْ
يرْنو إلى الشمس كالخيلْ
…
يرنو إلى الخِلِّ في الرحيلْ
يطْفوا على سَطحكَ الجميلْ
…
تاجاً على مفْرقٍ نَبيلْ
البحر زاد. . .
يَا نِيلُ أسلوُبُكَ الحكيمْ
…
يَعلُو على القول والكلام
بِفَيضكَ المُصلح العميم
…
يا نِيلُ زُر مِصرَ كل عام
فإنها جَنَّةُ النَّعيم
…
لولاك لَمْ يَسقِها غَماَم
وَحيَّ فَاروُقَها العظيم
…
وأنشُر على أهلها السَّلام
البحر زاد. . .
آمنْتُ بِاللهِ والكتابْ
…
وأنَّ فِي خَلْقهِ عِبَرْ
الحَبُّ بالماء في الترَاب
…
أضحَى نَبَاتاً لَهُ ثَمَرْ
أحلى من الشهد والرّضاب
…
والحبُّ من قبل كان مُرُّ
الحَبّ بالماء في التراب
…
يصير من أكْرمِ الزَّهَر
أنَّى لَهُ ذلك الخِضابْ
…
ونفْحه الطيِّب العطِرْ
آمنتُ بالله والكتابْ
…
النيلُ مِن روح مُقْتَدِر
(القناطر الخيرية)
محمد فتح الباب
ظمئتُ.
. .
للأستاذ صالح الحامد العلوي
ظمئتُ إلى الجداول حيث تجري
…
مدردرةً كألواح اللُّجيْنِ!
عليها الطيَّر تمرح شادياتٍ
…
على إيقاعها في الشاطئين!
ظمِئتُ إلى الخمائل زاهرات
…
يراها الله بهجةَ كلِّ عيْن
بها الأزهارُ تضحك لاهياتٍ
…
تُهَدهِدُها النُّعامى باليدين!
ظمِئتُ إلى النسيم يهبُّ رَهواً
…
كوصل الخلَّ وافي بعد بَيْنِ
يُداعِبُني فيلثُمني دَلالاً
…
وينشرُ فوق وجهي خُصلتين!
ظمئتُ لمن أراهُ حياةَ روحي
…
وحبَّةَ مهجتي وسوادَ عَيني!
ومن رفَّت معاني الحسن فيه
…
فكاد يطيرُ من لُطف وزيْن!
ومن في كل لحظٍ منه سِرٌّ
…
أموت به وأحيا مرَّتين!
ومن هو من مزايا الحسن كونٌ
…
حوىَ من كل لونً جنتين!
ظمِئتُ إلى الجمال بكلَّ معنىً
…
عرى عن كل بهرجة ومَينْ!
ظمئت. . . وما عسى تُجِدي فتيلاً
…
(ظمِئتُ)؟ ولو لقيت بذاكَ حيني
أما من حاكمٍ أشكو إليه؟
…
فيُنصف بينَ أيامي وبيني
فكم زادتْ على ظمأٍ - فوادي
…
كأنَّ لديّ ثاراتٍ الحُسَين!
(حضرموت - سيوون)
صالح الحامد العلوي
وحي الحرمان
لا تقولي نسيت. . .
(إلى الحالمة في أحضان النعيم. . . إليها في رأس البر. . .)
للأديب عبد العليم عيسى
صرخَ النايّ في يدي. . . فتعاليْ
…
قبل أن تنهب الليالي لحونَهْ
ويحَ قلبي إذا غضَبتِ عليه
…
وتجاهلت صوته وأنينه
من له. . آه. . من لأنغامه الس
…
ودِ إذا شبَّت الليالي شجونه
أسْعديه على الحياة. . وردِّي
…
نغماته إلى حياتي الحزينة
لا تقولي نسيتُ يا أُخت روحي
…
أنت تدرين ما مضى وتَعينه
كيف تنسين يوم سرنا إلى الني
…
ل وهِمنا على الضفاف الأمينة؟!
والدجى مسبل علينا ستاراً
…
كشفته لحوننا المكنونة
رَقص البحر حين سرنا على الش
…
ط وغنت أمواجه المفتونة
وهفَتْ حولنا العصافيرُ نشوى
…
طِربات. . . سعيدة. . . مجنونة
فتملَّيتِ فتنة الحسن والنو
…
ر وهوَّمت كالطيور الجنونة
واحتضنت العود الحبيب إلى النف
…
س وأسكرتني بما تُنشدينه:
صلواتي أنتَ في الدنيا وأعراسي وفني
وسعادتي وصفوي، وتسابيحي ولحني
أنتَ في قلبيَ ينبوع من الخلد يغني
فجَّر الله على وجهك ما يمسح حزني
فتغنيتُ مع الأطيار ما يسعد كوني
ليتنا نحيا على الشط. . . تغني وأغني
وشجاك الهوى فنمت على صد
…
ري المدمّى في خشعة وسكينه
وعلى وجهك الجميل شعا
…
عات أثارت مستورة ودفينة
فبعثتُ الأنغام تسري مع اللي
…
ل فتروي أشباحه المسجونة
ثم لما أفاق من نومْه الفج
…
ر وأهوى عن راحتيه دجونه
قُلتِ: يا شاعري الحبيب ترَّفق
…
بفؤادٍ أهجت فيه حنينه
خذْ ذِراعي إلى ذراعك وانهض
…
قبل أن يفتح الصباح عيونه
لا تقولي نسيت يا أخت روحي
…
أنت تدرين ما مضى وتعينه
أسرعي قبل أن تموتَ ألا حي
…
ني وترَدي قيثارتي المحزونة
فتصيري حكاية الغدر في الدن
…
يا وأقصوصة الغرام الخؤونه
(دمياط)
عبد العليم عيسى
رسالة الفن
دراسات في الفن:
(ضيعت مستقبل حياتي!)
وفي 15 سبتمبر سنة 1923 مات
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
مات ولم يمكث في الأرض إلا واحداً وثلاثين عاماً. ولكنه قضاها كلها حياً، بل لقد كان يستعير مما له في الخلد ليالي وأياماً فأنهكته الحياة: أضنت منه الروح والبدن فانطفأ وهو في أشد اشتعاله وسطوعه
1 -
بين الربوة والبحر
طفل، والطفولة صفاء. وفقير، والفقر نقاء. وعزيز، والعزة وقاء
كان هكذا منذ عرفته الحياة، وظل هكذا إلى أن غادر الحياة: طفلاً، فقيراً، عزيزاً لم يذل إلا الله في الحب والغناء
ويا طول ما ذل! فقد غنى منذ أحب، وقد أحب منذ أحس، وقد أحس منذ أمنت أمه أن تطلقه في ربوة (كوم الدكة) يرتع ويلعب مع الصبيان والبنات. فكان يجمعهم ويقوم بينهم على حجر يقرأ القرآن ويرتل الألحان، فإذا أخلصوا له الإصغاء أخلص لهم الإنشاد. . . ولم يكن أحد من هذا الجمع الحالم يدري لمن كان يغني هذا النشوان الضاحك إلا هو وتلك الصغيرة الطاهرة التي كانت تهفو إليه بروحها متلمسة فيه ما لم تكن تجده عند غيره من آيات الصدق ومن آيات الذكاء
وكان إذا افتقدها استوحش ربوته وأهلها، وفر إلى شاطئ البحر يكمن عند صخرة من صخور (السلسلة) يأخذ عن اليم معنى اللين إذا هدأ، ومعنى الثورة إذا اهتاج، ومعنى الكفاح إذا تصارعت فيه الأمواج، ويسرح بالطرف في آفاقه التي من بعدها آفاق، كأنه يستدرج الغيب من ورائها أن يستشفه لعله يرى في إطار منه الصورتين اللتين كان يحب أن ترتبطا. . . فكان يرى ما يشاء، أو لم يكن يرى شيئاً. . . ولكنه كان يسمع، وكان إذا
عاد إلى ربوته تغنى بما سمع. . .
وكان يكره أن يعود من حجته إلى البحر خال اليد، فكان يجمل (إليها) من البحر محارة أو صدفة يرفعها إليها في صمت كأنما يؤكد لها أنه ما نسيها ولا غفل عنها إذ نأت وغابت. وكانت هي تقبل منه هديته الفقيرة الرخيصة والله وحده يعلم أكانت تقبلها حباً، أم كانت تقبلها إغراء
2 -
الطعنة الأولى
وفي يوم طار إليها بمحارة عجب، فإذا هي تصده، بل وتحمله إليه ما جمعته من محاره وصدفه وتمد إليه به يدها وهي تقول:(منعتني أمي من قبول هدايا الصبيان!. . .)
ولو لم يكن يرى أمها تستميل إليها من أبناء الجيران صبياً مات أبوه عن ثروة، ما أحزنه هذا الصد وما أشقاه. . . ولكن الذي أدمى قلبه هو أن أدرك للمرة الأولى أن هناك فرقاً بين الأغنياء والفقراء. وأن هذا الفرق ملحوظ مرئي دون غيره من الفروق.
فحمل محاره وصدفه، وغسل بدمعه آيات غروره وجهله، ودفن المحار والصدف تحت عتبة مسجد سيدي (حذيفة). . . ثم دخل المسجد وتوضأ وصلى صلاة الجنازة على أمله
3 -
الشيخ
وحسبوه من كثرة لزومه للمسجد ولياً من أولياء الله. وقد كان ولياً من أولياء الله. فوهبوه لكتاب الله. وألبسوه عمامة وجبة وقفطاناً، وأرسلوه إلى معهد الإسكندرية وعرفته (كوم الدكة) منذ ذلك الحين باسم الشيخ السيسي. . . لأنه كان صغيراً، وكان عجيباً في عمامته وجبته وقفطانه. . .
ولم يتأب هو على هذه (الشيخوخة) التي عاجلته، وإنما كان يجد فيها متعة ولهواً محببين، فقد يسرت له الحفظ والتجويد، والقراءة والغناء. . . وظل في (شيخوخته) هذه طفلاً كما كان يجمع حوله الفتيان والفتيات ويقوم بينهم على حجر أو كرسي. عريض من خشب يمدح النبي، ويرثي الحسين!
4 -
مبيض الجدران
وقد كان أهل الحي أن يطلبوه في أفراحهم ومآتمهم، ولكنهم كانوا يطلبون غيره كلما
اعتزموا أن يدفعوا أجراً؛ أما هو فكانوا يتزاحمون حوله كلما قرأ أو غنى في الطريق، أو في المقهى، أو في المسجد أو على الربوة. . . يسمعونه ويحيونه، ويتحدون به القراء والمغنين، ولكنهم لم يكونوا يملكون أن يستأجروه، لأنه لم يكن ينطلق إلا بإرادته، وبوحي من مزاجه، فإذا أكره على الشدو ثقل الشدو على نفسه وعلى نفوس مستمعيه. . .
ولهذا كان إذا أراد أن يرتزق بيَّض الجدران مع النقاشين والبناءين. . . وأعجب ما كان منه أنه كان ينطلق عندئذ بالغناء أنيناً وشكاية، أو بهجة واستبشاراً، وكان من زملائه من يحمل عنه عمله راضياً مسروراً
5 -
في الأوحال
ترعرع وترعرعت. وكانا يلتقيان. وقد كان يغنيها وكانت تستمع إليه. ولكنه كان قد طوى نفسه على عزمة ملكته: ألا يدنس الحب، وأن يسلم أمره لله. . .
وتزوجت هي. . . وانهار هو. . .
فهجر (كوم الدكة) إلى حي الرجس. وأدمن النساء، وانكب على الخمر والمخدرات يتعجل الموت فلم يعد له في الدنيا رجاء
وقيل إنه أحب، وما أحب وإنما كان يبحث عن حب، ولم يكن المحروق القلب ليحب ما أكلت قلبه النار
ومن أعماق هذه الأقذار كان يتعالى صوت السيسي بألحان من وحي الطهر والعفة. كان يرسلها مع الدمع ونفحات الجحيم المتأجج بين جنبيه فكان فيها تطهير نفسه ونفوس هؤلاء الذين كانوا يتردون الخطيئة حوله، ويترددون عليه كأنه التوبة أو الصلاة.
6 -
وهج الروح
وإلى جانب هذا الحب، وإلى جانب هذا اليأس، كانت حرب وكانت ثورة، واندلعت في هذا الأتون المستعر روح الشيخ السيسي
وكان قد عاد من الشام بعد رحلة بائسة اصطحب فيها ممثلاً سوريَّاً أراد أن يتحف به أهل وطنه ولكنهما أخفقا معاً.
وكان السيسي قد جرب نفسه مرة في القاهرة في مسرح الشيخ سلامة حجازي فثار عليه
الجمهور وأرغمه على أن يتوارى خلف الستار قبل أن يتم غناءه فواساه الشيخ سلامة بأن خرج للناس وقال لهم: أحسنوا الاستماع إليه فهو الذي سيخلفني
ولكن الناس لم يحسنوا الاستماع إليه لأن غناءه لم يكن يشبه ما أعتادوه، وإنما كانت روح طلقة هبت من الشمال
وكان كل فشل مما لاقاه يزيده أيمانا بنفسه ومقدرته حتى واتاه الفشل الأخير، إذ لحن (فيروز شاه) لجورج أبيض فاندك جورج أبيض وبرز سيد درويش
وعرفه عندئذ نجيب الريحاني، فأفسح له مسرحه منبراَ يلقى من فوقه ما شاء من آيات
فنه
وأخذ بعدئذ نجمة يصعد، ويصعد، ويصعد. . . حتى جاء
وقت لم يتغن فيه مصر بلحن إلا كان من غناء سيد درويش
كان ربحه يصل أحياناً إلى ألف جنيه في الشهر، وفي هذه الأحيان كان يقترض القروش والملاليم
قل إنه مجنون! قل إنه سخيف! قل ما شئت؛ أما هو فكان محروماً من شئ لا يمكن أن يشترى بالمال وكان هو يحاول أن يستعيض عنه بما يشترى ويباع.
7 -
شاعر
ولم يكن سيد مغنياً فقط، وإنما كان شاعراً أيضاً. . . وما كان في وسعه إلا أن يكون كذلك. فإن الذي بعثه على الغناء إحساس كان يخالجه ولم يكن يستطيع أن يعبر عنه إلا بالغناء، ولم يكن يستطيع أن ينتظر معه أن يبحث عن شاعر من الشعراء أو نظام من النظامين ليقول له إني أحسست الحب على وجه من الوجوه، أو أحسست اللوعة على نحو من الأنحاء، فصور لي هذا الإحساس بالكلام لأغنية. . . لم يكن يملك أن ينتظر كل هذا الانتظار وإنما كان يغني ما يريد عند ما يحس أية عاطفة أو أية نزعة
هو سكران مترنح. . . وقد حددت له صاحبته موعداً، وذهب إليها فتصدى له من يمنعه عنها، وهي معركة بينه وبين عذاله، فإذا حال بينه وبينهم أصدقاء له وأبعدوه عن الموقعة، ثم بدءوا يلومونه على سكره وعربدته غناهم:
وأنا مالي هي اللي قالت لي
…
روح اسكر وتعال ع البهلي
وهو جالس عند صديق له صائغ وتهبط عليهما غانيته مسرفة في التزين والتبرج، وتراه ممسكاً - بعوده فتعابثه وتطلب منه (غنوة) فما أسرعه إلى إنشاده. . .
الأستيك على صدركْ بِضوي
…
ون قلبي مِتْعلَّ ساعة
ويصطدم بذات المحار والصدف فيتقارآن السلام ويتعاتبان وأعصابه ترتج وأنفاسه تضطرب فما تبرحه وما تنقضي ليلة أو ليلتان حتى تسمع البلد كلها تغني من لحن سيد:
زروني كل سنة مرَّة - حرام تنسوني بالمرة
ويغاضب إحدى صويحباته فيكيدها بغنائه:
يومْ تركت الحب كانْ لي
…
في مجال الأنس جانب
والتقيت المجد عادْ لي
…
بعد ما كانْ عني غايب
ولم يكن سيد يعبأ بأن يكون كلامه موزوناً أو مستوفياً لشروط الشعر وشروط صحته، فما كان يعرف إلا أنه يغني، وكان غناؤه سليماً!
8 -
تلميذ
وعلى الرغم من المجد العظيم الذي أتيح له، فقد كان يرى نفسه جاهلاً بالفن وأصوله. ولعل ذلك راجع إلى أنه لم يتعلم الموسيقى على أحد، فقد خرج إلى الحياة ألفى نفسه يغني، ثم عرف أن للغناء قواعد وأصولاً، فراح يحصل منها ما يتاح له، ولكنه لم يتح له أن يروي غليله من علومها وفنونها، فكانت أمنيته الكبرى أن يتيسر له السفر إلى إيطاليا ليتعلم الموسيقى. . .
ولست أدري ما الذي كان يريد أن يتعلم سيد؟
ربما كان يريد أن يدرس أسلوب الغرب في صناعة الموسيقى. أما الفن، فأنا مؤمن بأن سيداً لم ينكب برزء أسود من نسبته إلى مصر، فلو قد كان إيطالياً، أو من شعب متقدم، لكنا نسمع اليوم ألحانه عن طريق السينما، وعلى اعتبار أنها معجزات من الغرب!
وهنا في مصر يحال بين ألحانه وبين المعهد الملكي للموسيقى الشرقية. . . لأن هذا المعهد لا يعترف بموسيقى المسرح، أو لأن حضرة صاحب العزة مصطفى بك رضا الموظف في وزارة الأوقاف ومدير معهد الموسيقى والمنصوب له تمثال على حياة عينيه في حوش المعهد، والذي لم يسمع له إنسان لحناً أو أغنية - قال له الأستاذ عزيز عثمان: إن ألحان
سيد درويش (هلس). . .
والحق أنه صراع بين ذوقين فنيين: ذوق القاهرة القديمة، وذوق الإسكندرية الحديثة. أما ذوق القاهرة فيمثله مصطفى بك رضا وأبناء محمد عثمان. وألحان القاهرة كما يعرف الجمهور هي هذه الألحان الصابرة الناعسة النائمة الخانعة، التي كان يقصد بها قصداً أن تغني في الأفراح والليالي الملاح التي يقيمها البيكوات والباشوات، وقد كان محمد عثمان أبرز المغنين في هذا النوع، وكانت موسيقاه المخمورة هي الرائجة في عصر النوم والسهر. . .
أما ذوق الإسكندرية فغير هذا. . . ذوقها هو الظاهر في موسيقى سيد، هو هذه الحياة المنغمة، وهذه العواطف الملحنة التي نفثها سيد درويش في مصر، والتي أخذها عنه من بعده زكريا أحمد فوفق، ومحمد عبد الوهاب فأنحرف بها إلى تقليد الموسيقى الغربية لأنه حسبها تقليداً واقتباساً كما قرأ في المجلات، وهي بعد ذلك أساس المذهب الحديث الذي يقلده ملحنو اليوم!
واليوم ووزير المعارف هو معالي النقراشي باشا الإسكندراني ووكيلها هو صاحب العزة السنهوري بك الإسكندراني. . .
ألا نستطيع أن نأمل في إحياء موسيقى سيد درويش على أيد يهما؟ إننا نز جو هذا ما دام لها ذوق فني ناضج حي، وإن لها هذا الذوق
عزيز أحمد فهمي
رسالة العلم
لحظات الإلهام في تاريخ العلم
تأليف مريون فلورنس لانسنغ
3 -
عصر النار
في الأيام الخالية وكانت الدنيا لا تزال في شبابها كان - كما علمنا - يقيم في واد شرقي عدن شاب اسمه (توبال قابيل) وهو حفيد ذلك الرجل الذي عاش على الأرض اكثر مما عمر أي رجل آخر وهو متوشالح
ذهب توبال قابيل إلى الجبال ليكون صياد قبيلته لأنه أوفر رجالها جسما وأوفاها قوة. وكان يستطيع لقوته أن يرمي الرمية فيصيب بسنانه المصنوع من الحجر المنحوت أي وحش يريد قتله. وكان كذلك حاد البصر سريع الحركة ففي وسعه أن يرى أي مخلوق يختبئ في الغابة ويتبعه في سرعة مطارداً إياه عند الهرب
وقد عرف توبال قابيل سر النار وصنع النار وكان ذلك السر مجهولاً من قبيلته منذ أجيال. وكان رجل من أهل الشمال لقنه سرها، وكان هذا الرجل وقبيلته قد قبسوا من نار البرق الذي مصدره السماء فاحتفظوا بذلك القبس حتى عرفوا في النهاية كيف يصنعونها بأنفسهم، وذلك باستدعاء روح النار الكامنة في أخشاب الغابة التي يقيمون بها. وكان توبال قابيل يصنع بالنار ما يصنع بالسحر فهو في الليلة الباردة يعيد الدفء باستخراج الألهوب الأحمر من الخشب وبتغذيته بالهشيم الذي يجمعه أثناء النهار، وقد وجد أن الوحوش المفترسة تخاف من روح النار فتهرب وأن الوحوش لا تزعج نومه ما دامت النار بالقرب منه ترعاه
وفي يوم شديد البرد جمع توبال قابيل مقداراً عظيماً من الغصون الجافة والخشب الجزل وسلط عليها الروح الحمراء لتأكلها لأنه كان شديد التألم من البرد فقد كان طول هذا اليوم في الجبال يطارد نمراً عظيماً، وكانت الريح شمالية عنيفة باردة فاستشعر البرد حتى كاد يسري في عظامه
حبس من أجل ذلك بجانب النار، ولما تأمل في قرارها رأى منظراً أعجب من كل ما رآه من قبل: رأى صخرة كانت في وسط الألهوب، قد تحول لونها إلى الاحمرار، وبدأت على
حين فجأة تذوب. وكانت كلما اشتدت حرارة النار خرج من الصخرة الذائبة سائل ذائب كالماء الملوث بالطين حين يهم بالتدفق، ثم التفت أثناء جريها، وتحولت إلى ما يشبه حية سوداء هاربة من النار التي أخرجت من الصخر هذه المادة الغريبة.
لم يعرف توبال قابيل ما هو هذا السائل، ولكن هذه أول مرة رأى فيها الحديد أي إنسان على الأرض، فإن هذا السائل الناري لما جرى واستبرد أصبح معدناً ثميناً كان من قبل مختبئاً في الخام الصخري.
وانقضت أسابيع وشهور بعد رؤية هذا السائل المتدفق من الصخرة، وقد قضى هذه المدة في جمع الصخور المماثلة لما رآه من جوانب الجبل، وكان يجلب لها ناره ليرى هل هذه الصخور ستذوب أيضاً؟ فوجد أن بعضها الآخر أخرج نقاطاً لامعة متوهجة تتحول فيما بعد إلى معدن أرق هو الذي نعرفه باسم النحاس
وكان يجري تجربته في كل قطعة من الحجر الذي جربه أولاً ويراقب ما يصير إليه أمرها حين تبترد ليعرف إلى أي شكل تتحول
وفي أحد الأيام، حاول أن يصوغ المعدن في أثناء حرارته وابتراده، فطاوعه المعدن وتمكن من طرقه وتحديد طرفه كالسنان الذي يصنعه من الحجر.
وعند خروجه للصيد للمرة التالية رأى وحشاً يقبل نحو كهف في الجبل الذي يقيم فيه فرماه بسنانه الحديدي الجديد وأصابه السنان في جبهته وقتله للحال
وكان هذا أول سلاح معدني صنع في العالم؛ ورأى توبال قابيل أن في وسعه صنع أسلحة أخرى من هذه المادة الجديدة التي يمكن طرقها عند الحد أكثر مما تطرق الأحجار والفلزات التي يقضي في نحتها ساعات متعبة
ولم يقل شيئاً عن هذا السر للصيادين الآخرين الذين كانوا يأتون أحياناً إلى موطنه في الجبال ولا لسكان الوادي؛ ولكن الجميع دهشوا من وفرة قوته ومن حذقه الصيد لأنه كان يأتي بصيد أكثر مما يأتي به أي اثنين مجتمعين في هذه الجبهة الجبلية.
وكان أجدى على سكان الوادي من اثنين كذلك لحمايته إياهم من غارة الوحوش الضارية؛ ولكنه أفضى إلى جده متوشالح باستكشافه الغريب وأراه كل أنواع الأسنة والأسلحة المحدودة والآلات الحادة التي صنعها وصاغها بإحمائها وسكبها في حفر وأخاديد في
الصخر أثناء خروجها حارة من النار وتركها حتى تبرد فتتجمد ويمكن عند ذلك طرقها
وكان متوشالح في النهاية حياته عندما أقبل عليه توبال؛ ولكن حكمته كانت تزداد على مدى الأيام. وكان ثاقب الفكر سريع الخاطر كحفيده الأصغر فأخذ القطع الغريبة من الحديد الأسود الذي جاء به توبال قابيل والقطع الساطعة من النحاس ووازن بين ثقليهما في يده وحاول اختبارهما بكل الأساليب، وأخبر توبال بأن هذا سر عجيب جداً مكتوم عن سائر العالم وأنه يجب أن يدرس هذه الصخور وأن يستمر في العمل بها وأن يتعلم ك الذي يستطيع تعلمه وأن يستعد لإشراك إخوانه الصيادين جميعاً وأهل قرابته هذه المعرفة ونشرها في أرجاء العالم
وعاد توبال قابيل إلى الجبال وأنشأ لنفسه مكاناً للنار أو فرناً ليحبس فيه روح النار ويستبقيها في خدمته، وأرسل كل الصيادين ليأتوا إليه بالأحجار من النوع الذي يذوب. وتعلم صنع قوالب من الطين يضع فيها المعادن الحارة. وليتمكن من إدخال الهواء تحت القدر صنع نوعاً من المنافيخ وصنع أسلحة لكل الصيادين والذين يتولون حراسة أهل الوادي
وكان الرجال يأتون من الأماكن البعيدة ومن الأماكن القريبة ليتعلموا فن توبال قابيل في صنع المعادن. وعلمهم وهو مسرور كل ما عرفه من الأسرار وكل الفنون التي كان يستفيدها من يوم إلى يوم
وكان الذي تعلمه خدمة لكل الناس لأنه كيف يمكن أن يعيش أهل الأرض وأن يغتنوا ما لم يتشاركوا - لمصلحة الجميع - فيما يستكشفه أي رجل أو فيما تصنعه أية قبيلة؟
تعلم كيف يحذق صنع الحديد ولم يكتف بأن يصنع الأسلحة للحرب بل صنع نصلاً ثقيلاً معقوفاً يستطيع الإنسان أن يحفر به الأرض اللينة قبل أن يلقي بها البذور، وأن يصنع نصلاً طويلاً وهو الذي نسميه الآن باسم المحراث. وبه استطاع أن يخط على الأرض خطوطاً طويلة يغرس فيها الحب
وصنع آلات أخرى كثيرة، واشتهر أمره في جهات بعيدة عن واديه، وعن الوديان المجاورة للجبال التي يقيم بينها، لا بل ذاع صيته عبر الأنهار وعلى حدود البحر الكبير، وذاع اسم توبال قابيل صانع كل سلاح قاطع أو منته بذبابة حادة، وأستاذ كل رجل يبغي العمل في
النحاس أو الحديد أو أية مادة تسيل من الصخور. وكذلك دون في الكتب القديمة كما يستطيع أن يتبين من يريد
وكذلك أصبح عصر النار عصراً للمعدن أيضاً. ولا نزال نعيش في هذا العصر إلى اليوم
ومهما تكن الطريقة التي عرف بها الناس سر النار للمرة الأولى، فإننا نعلم أنهم عرفوها قبل أن يكون للعالم تاريخ مكتوب وأنهم عرفوا أيضاً سر المعدن المخبوء في الأرض.
ولما عرف كيف يصنعه، وكيف يصوغه بواسطة النار فإنه بذلك قد بدأ يسير في طريق المدنية، وسنظل متتبعين رحلته في هذا الطريق على مدى القرون.
(يتبع)
ع. ا
من هنا ومن هناك
ألمانيا بعد سقوط هتلر
(عن (جوتبرج هاندل) السويدية)
لا يستطيع الباحث المدقق في حالة ألمانيا أن يحكم إذا كان ذلك النظام
الذي أقامه هتلر سينهار بقيام حرب عالمية، أو أن سيدركه الفناء تحت
تأثير عوامل وأزمات داخلية، يثيرها تدهور الحالة المالية والاقتصادية
بها ومهما تكن الأحوال.
فإن الدوائر السياسية العليمة في أوربا، أصبحت تعتقد أن سقوط النظام الهتلري سيكون في خلال سنة 1940. فإذا كان الأمر كذلك فيحق للإنسان أن يسأل كيف تكون ألمانيا بعد هتلر؟
لقد احتاطت الدعاية الألمانية لهذا السؤال، ونشرت ما شاء لها الهوى من الأقاويل بين العامة والخاصة معلنة أن سقوط هتلر يتبعه قيام البلشفية في ألمانيا. وهذا خطر تهون إلى جانبه كل الأخطار. وقد تمسك بعض الناس بالنظام القائم في ألمانيا الآن باعتباره أخف الضررين. على أن الدوائر الاقتصادية المطلعة والأوساط الدينية تقرر أن نظام ستالين ونظام هتلر لا يختلفان
والنازية لا تجد لها سنداً في خارج ألمانيا إلا في بعض الدوائر التي ترى أن البلشفية تعم ألمانيا بعد هتلر، ومن ثم يختل النظام وتنهار المدنية في غرب ألمانيا تحت تأثير هذه الكارثة الخطيرة. ولكن هل في الحق أن ألمانيا مهددة بخطر الاشتراكية؟
إننا نستطيع أن نقرر في تردد أن ألمانيا على وجه العموم أقل انخداعاً بالماركسية من أي دولة من دول أوربا. وإن كان بعض قصيري النظر يعتقدون أن الماركسية قد تنتشر في ألمانيا كرد فعل للنظام النازي
إن ألمانيا ولا شك ستكون عرضة لانقلاب قوي شديد كرد فعل للنظام الذي تحكم به الآن فتلك سنة الطبيعة، ولكن هذا الانقلاب سينحو ولا شك ناحية مناقضة لهذا النظام. ولكن الاشتراكية ليست الناحية المناقضة للنازية بحال من الأحوال. . . إن ألمانيا التي تتبرم
بالهتلرية السمراء، لا تشوقها دكتاتورية البلشفية الحمراء. فالألمان يعرفون ما هو الضغط على حرية الفكر والاعتقاد تحت ظل الحكومة الآرية، ويبغضون من أعماق قلوبهم ضياع الحرية ومصادرة العقائد والأفكار في ظل نظام محو الطبقات
فماذا تكون إذن بعد سقوط هتلر؟ ستكون هناك أمة ألمانية يستمتع شعبها بحريته وحقوقه الاجتماعية، وتندمج روحه والروح الأوربية. وسيكون قوامها العمال والفلاحون والأعيان والموظفون والضباط وأساتذة الجامعات
ستكون ألمانيا بعد هتلر أمة يسوسها خيرة من رجال الجيش والعمال والفلاحين والمدنيين وفي مقدمة هؤلاء جميعاً الشباب الناهض
ستكون إذن ألمانيا التي قهرت الفاشية والبلشفية
وستكون وتظل جزءاً مسئولاً في أوربا الحديثة
أين يسكن هتلر؟
(عن مجلة (تورنتو ستار))
منذ اثني عشر عاماً كتب هتلر مؤلفاً عن الأعمال التي يقوم بها وكيف تثنى له أن يقوم بها، وأسمى هذا الكتاب (كفاحي) بيع منه 11000000 نسخة بلغت أرباحها مليوناً من الجنيهات. وقد بنى هتلر من هذه الأموال مساكنه الجديدة، وإنها لمساكن على جانب من الأبهة والعظمة
ومن المأثور عن هتلر أنه قال في حديث له: (ليس من العار أن يقتات الألمان بالعشب مادامت ألمانيا تعاني ما تعاني من الشقاء) ولكن هتلر لم يأكل العشب ولم يسكن في بيوت من القصب، فبنى القصور الفاخرة على قمم الجبال، وشاد لنفسه الدور المؤثثة بأفخر الرياش
ومن غريب ما جاء على لسانه وهو يفتتح دار المستشارية الجديدة منذ أسابيع: (إنني ما زلت كما كنت فيما مضى ولا أريد أن أكون غير ذلك. إن منزلي يماثل بالضبط المنزل الذي كنت أسكنه من قبل وسيضل كذلك)
إنه في هذا يتكلم عن مسكنه الخاص في ميونخ، ولكنه لم يقل شيئاً عن القصور التي بناها
فوق قمم الجبال حيث يخلو إلى نفسه
فعلى ناحية من جبال الألب البافارية على بعد بضعة أميال مما كنا نسميه النمسا تقع قرية برخستجادن الجميلة، وعلى جانب من الجبل يرى قصر برجوف - مسكن هتلر - المحبوب. وقد كان هذا القصر مسكناً جبلياً بسيطاً فأعاد بناءه هتلر على طراز لا يحلم به أصحاب الملايين. وهو يقضي في هذا المنزل فسحة آخر الأسبوع في غالب الأحيان، فينتقل بالطيارة من برلين إلى ميونخ ومن ميونخ تقله سيارة سوداء سريعة السير إلى مسكنه الفاخر
ويقوم على حراسة هذا القصر قوة كبيرة وأسلحة واستعدادات عظيمة لا يقوم مثلها على حراسة بنك إنجلترا، وهو محاط في الليل والنهار بحصار شديد من الجند الأشداء.
وقد أقيم في الصخرة الصماء التي شيد عليها هذا القصر خندق حصين تحيط به قوة من المدفعية المضادة للطيارات تحميه وقت الهجوم. على أنه محاط بأبواب عظيمة من الفولاذ تجعله محجوباً عن الأنظار ولا يتثنى لأي زائر أن يقترب من هذه الأبواب دون إذن كتابي من البوليس السري
ولا يسمح لصحيفة ألمانية أن تذكر ما طرأ على هذا القصر من التجديد فهو لا زال في نظر الألمانيين ذلك الكوخ الجبلي الصغير.
ويقال إن حجرة الجلوس في هذا القصر من أفخر الحجر التي رأتها العيون. وهي تحتوي على نافذة واحدة ولهذه النافذة صفحة من الزجاج ارتفاعها عشرة أقدام وطولها 28 قدماً ولعلها أكبر نافذة في العالم. ومن هذه النافذة يطل هتلر ومن عسى أن يكون معه من الضيوف على مناظر جبال الألب الخلابة
ولعل أكبر متعة تصبو إليها نفس الفوهرر، هي أن يجلس إلى هذه النافذة ويمتع النظر فيما حوله من الوديان المخضلة النبات، بينما يعزف أحد أصدقائه بعض مقطوعات من موسيقى واجنر على البيانو على بضعة أمتار
البريد الأدبي
المجمع والدكتور أحمد بك عيسى
كتبت في العدد الأسبق من الرسالة كلمة عن المجمع اللغوي قلت فيها - اعتماداً على ما رواه لي الدكتور أحمد بك عيسى - أن المجمع أهمل كتابه (المحكم في أصول الألفاظ العامية) ولمته على هذا
وقد بين لي صديقي الأديب الكبير الأستاذ الشيخ عبد العزيز البشرى (مراقب المجمع) أن اللوم في غير محله، وأن لجنة اللهجات العامية راجعت الكتاب وفحصته، وأن الدكتور عيسى بك نفسه حضر بعض اجتماعاتها، ووافق على ما اقترحته من زيادة (في مصر) على اسم الكتاب
وقرأ لي الأستاذ البشري كتابين بعث بهما باسم المجمع إلى وزارة المعارف يطلب في أولهما من الوزارة طبع الكتاب لتعميم فائدته، ويطلب في الثاني توزيعه على مكتبات المدارس
ويتضح من هذا أن المجمع لم يقصر ولم يهمل، وإذا كان لم يطبع الكتاب فذاك لأن المجمع لا مال له لطبع الكتب، ومطبوعاته هو تتولاها وزارة المعارف
ومن الإنصاف للمجمع أن أعلن هذه الحقائق التي تفضل الأستاذ البشري بإطلاعي عليها. ومن واجبي أن أشكر الصديق وأن أعتذر للمجمع وإن كان الذنب لغيري
إبراهيم عبد القادر المازني
صححوا هذين البيتين
يكثر استشهاد الخطباء والكتاب بقول شوقي:
في العلم تطَّغن العقو
…
ل وليس تطَّغن الصدور
وكذلك ينطقون (تطغن) بالغين المعجمة في الصدر والعجز وهو صحيح في العجز ومحرف في الصدر. والصواب:
في الظلم تطْعِنُ العقو
…
ل وليس تطَّغن الصدور
فنقرأ (تطعن) في صدر البيت بالعين المهملة من الطعن، ونقرأ (تطغن) في عجز البيت
بالغين المعجمة من الضغن وهو الحقد
ومعنى البيت أن العلماء قد يتحاربون ولكنهم لا يتباغضون وشوقي لا يريد غير ذلك، وإنما نُشر البيت محرفاً ولم يفطن من يستشهدون به إلى ما وقع فيه من تحريف.
والقصيدة التي فيها (يا جارة الوادي) مطلعها هذا البيت:
شيعتُ أحلامي بطرف باك
…
ولمحت من طرق الملاح شباكي
والناس يقرءون (لمحت)، وهي كذلك في الجزء الثاني من الشوقيات، وقد نُشر في حياة شوقي، ونقلها بعض المؤلفين عن نسخة الديوان بدون تصحيح، وأنشدها بعض الأدباء في محطة الإذاعة بدون تصحيح!
و (لمحتُ) فيها تحريف، والصواب (لممتُ) بلام وميمين من اللّم وهو الطي، وما أحسب شوقي يريد غير ذلك.
فأرجو القراء أن يصححوا هذين البيتين إن راقهم هذا التصحيح.
زكي مبارك
سؤال عن الربا
ذكرني السؤال الذي وجهه الأستاذ علي الطنطاوي إلى (المفكرين) من علماء المسلمين بسؤال كنت بعثت به إلى فقيد الإسلام المرحوم الأستاذ الإمام رشيد رضا في موضوع الربا بتاريخ 4 شعبان سنة 1352هـ ـ، وقد أجابني بجواب مختصر أحالني فيه - كعادته - على مجلة المنار. فإذا كان في الرسالة الغراء متسع لنشر هذا السؤال، تعضيداً لسؤال الأستاذ علي الطنطاوي فها هو ذا:
حضرة الأستاذ العلامة. . . . . . . .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وهنا قدمت بمقدمة شرحت فيها سوء حالة فلسطين الاقتصادية التي أوقعت فيها قسراً ثم قلت) فرأى المخلصون من رجال الاقتصاد أن خير وسيلة لإنقاذ الفلاحين من هذا الشقاء، ولتخليص البلاد من شره اليهود، هي إنشاء بنك زراعي عربي بأموال العرب يعقد قروضاً زراعية للفلاحين برباً قليل إلى وقت طويل. ويقدم إليهم آلات زراعية حديثة، إلى غير ذلك من الوسائل التي تخلصهم من ظلم
المرابين، وتوسع عليهم، وتحفزهم للعمل والتثمير حسب الأصول الحديثة، فتجلب الخير والمنفعة، وتغنيهم عن بيع أراضيهم لليهود
والمسئول عنه الآن: هل يكن ديننا الحنيف في هذه المعضلة الاجتماعية كشأنه في سائر المعضلات سمحاً سهلاً يتمشى مع المصلحة، وينطبق على ما تقتضيه نظم العصر الحاظر، فيجد الناظر فيه رأياً لا يخالف القرآن الكريم، ولا يصادم السنّة الشريفة، يجيز أمثال هذه المعاملات (المصرفية) من عقد قروض بربا قليل لا يضر بمصلحة الآخذ ويفيد المعطي، لا سيما أنه يؤخذ من ظاهر بعض الآيات، ويؤخذ من حالة العرب قبل الإسلام في مداينهم بالربا، أن المقصود بالنهي الربا الفاحش الذي يؤدي إلى خراب بيت المدين كما حصل ويحصل مع كثير ممن لو تداينووا بربا قليل لوفوا ديونهم وعادوا سيرتهم الأولى من السعة والغنى. وهذا الربا الفاحش هو ربا الجاهلية (وربا الجاهلية موضوع) وهو (الأضعاف المضاعفة) وبه يحصل التقاطع والتباغض بين الناس. أما الربا الخفيف فلعله يكون من أسباب المودة بين المتداينين
ثم ألا يجد الناظر في الدين حرجاً بناء على هذا - إذا صح - أن يحمل الآيات الشريفة المحرمة للربا على الربا المعهود (أي ربا الجاهلية، وهو الربا الفاحش) ويحمل الأحاديث على هذا المحمل. وتبقى الحكمة في عدم التحديد حث الناس على التعامل بقروض المجانية تنزهها عن شبهة الربا، ليكون ذلك أدعى للتآلف والتعارف؟ وإذا أبى نص حديث - والنص من الراوي - هذا المحمل، أفلا نتركه؟ إذ لا يصح أن تقف أحاديث الآحاد في وجه المنفعة والعمران وتقدم المسلمين؛ والعمران وتقدم المسلمين وقوتهم يغلب على الظن أنها مقصد من مقاصد الدين حتى يكون الدين كله لله
أقول: هل يجد الناظر في الدين رأياً كذلك؟ فإن كان فالرجا أن تفصلوا علله وأسبابه وأدلته، وإن لم يكن هناك ما يساعد على هذا الرأي فأرجو بيان ذلك مع الحكمة أيضاً وهل هناك إجماع يكون خرقه كفراً على تحريم الربا مطلقاً قليلة وكثيره؟ أم لا يكفر المتأول، ومن يأخذ بالظاهر؟ أفتونا. . .
وهذا جواب الإمام رشيد رضا رحمه الله بحروفه:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: إن من الإرهاق لي أن أكلف أن أجيب عن الأسئلة التي
تأتيني من أنحاء العالم في مكتوبات خاصة مع أن ما ينشر منها في المنار لإفادة الجميع قد عجزنا عن الإجابة عنه كله. ومن المعلوم لكل مسلم أن البنوك كلها فيها ربا وأن الربا محرم ولكن في بعض أعمالها وشركاتها ما ليس كذلك. ونحن ننشر في المنار بحثاً طويلاً سيصدر بعد إتمامه في كتاب مستقل والسلام.
رشيد
ولم أطلع على ما نشر في المنار، كما لم أعلم أتم البحث وصدر في كتاب مستقل أم لا؟
فعلى من يستطيع الحصول على المنار أن يرشدنا إلى ذلك.
(سائل)
كلمة أخيرة في نعيم الآخرة
أطال الأستاذ محمود على قراعة في الاستشهاد بأقوال بعض العلماء والصوفية وفلاسفة الأخلاق، وملأ أربع صفحات من الرسالة الغراء (العدد 321) ليثبت أن لذة الروح أرقى من لذة الجسم حتى يتسنى أن يثبت أن نعيم الآخرة روحي. وأنا لا أنكر أن لذة الروح أرقى من لذة الجسم، ولا أحتاج عليه إلى دليل من كلام أحد، وأرى الأمر أهون من أن يحتفل به هذا الاحتفال مادام الله تعالى لم يكلفنا - بعد الإيمان بالآخرة والجزاء فيها - أن نعلم نوع هذا الجزاء أهو حسي أم روحي
على أن جميع ما أتى به الأستاذ - ومثله معه، وإن كان من نوعه طبعاً - لا يجدي شيئاً في تأييد دعواه. وأما دعوانا فهي واضحة جلية أعجب كيف يكابر فيها وهي تستند إلى هذه الأمور المسّلمات:
1 -
إن جميع النعم الحسية التي ذكرت في القرآن الكريم كالمأكولات والمشروبات والأزواج ورؤية الله تعالى، هي حسية حقيقية لا مجازاً، وإن كانت على غير ما نتصوره في الدنيا؛ فالتفاح والرمان مثلاً هو تفاح ورمان، وإن كان من الجودة بحيث لا نعلم.
2 -
أجسامنا في الآخرة - كيفما كان الرأي في إعادتها - هي أجسام، وإن كانت على نشأة أخرى كما تقتضي إرادة ربنا تعالى
3 -
مادامت النعم الحسية لا تتغير أسماؤها هناك، ومادامت الأجسام لا تصير أرواحاً
هناك، فإدراك الأجسام لتلك النعم إدراك حسي، وإن كانت حسيته بحسب قابلية الجسم في ذلك الوقت
فإذا سُلم هذا - وهو مسلم - يُبرهن على دعوانا بقياس منطقي اقتراني من الضرب الأول من الشكل الأول، تؤخذ مقدمتاه من هذه المسلمات، فيقال:
(النعم في الآخرة تدرك بالحواس الجسمية؛ وكل ما يدرك بالحواس الجسمية فهو حسي؛ فالنعم في الآخرة حسية). ونتيجة هذا القياس لا تنقضُ حتى تنقضَ المقدمات، وهيهات.
وبعد فلا أضن الأستاذ قراعة يفهم من هذا أننا ننكر أن النعيم الحسي لا يتصل بالروح، ولكن اتصاله بالروح، لا يمنع أنه نعيم حسي. والسلام على الأستاذ ورحمه الله.
فلسطين
داود حمدان
حول الوحدة الإسلامية والقومية العربية
كتب إلى فلسطيني فاضل يلومني في بعض فقرات من كلمتي المنشورة في الرسالة العزيزة عدد (320) فقال: (إن قولي: (يقف المسيحي في فلسطين في جانب المسلم يدفعان معاً شر المغتصب المستعمر) يخالفه الواقع) وقال الفاضل: (وإن كانت تركيا وهي المسلمة لم تتحرك من أجل فلسطين فما ذاك إلا لأننا لا نعرف وحدة إسلامية اليوم ولا ندعو بها). وقال أيضاً: (إن المستعمرين لا يخرجون من البلاد وإن أقرت الأقليات بأنها من صميم الأمة). ثم يختم كتابه إلى بقوله: (ولعل رسالتي تخفف من غلوائك في هذه الدعوة البريطانية)
فأود - قبل كل شيء - أن ألفت نظر الفاضل إلى أنني لم أزعم أن المسيحي السوري أو العراقي مثلاً هب يحمل السلاح للدفاع عن القضية العربية في فلسطين، وإنما قلت إن مسيحي فلسطين يدافعون مع المسلمين ويحاربون عدوهم القوي، وهو واجبهم في الذود عن أرضهم وفي حماية أهليهم. ولعل الفاضل يعلم أن كثيراً من المسيحين العرب وقفوا ألسنتهم وأقلامهم للدفاع عن فلسطين المجاهدة كالأساتذة الشعراء بشارة الخوري وحليم دموس والشاعر القروي: اللبنانيين؛ والكتّاب أمين الغريب وكرم ملحم كرم ولبيب الرياشي، وهم
لبنانيون أيضاً. كما أن في سورية وفي مصر وفي العراق مسيحين عرباً خلصا خدموا القضية الفلسطينية خدمات لا تنكرا لا تجحد
وأحب أن أناقش الفاضل في قوله: (إن تركيا لم تحجم عن مساعدة فلسطين إلا لأننا لا نعرف الوحدة الإسلامية) فهل يريد الفاضل بالوحدة أن تتفق تركيا وإيران الدولتان المسلمتان القويتان مع العرب المسلمين المشتتين في كل صقع والمحكوم أكثرهم من قبل الدول الأجنبية؟ وهل هذا ممكن؟ ثم لنفرض إمكان التحاق المسلمين العرب بهاتين الدولتين أو بإحداهما فهل يقبل العرب وهم كثيرو العدد ووافرو الثقافة أن ينضووا تحت لواء دولة صغيرة؟ ثم هل يقبل الأتراك هذه المحالفة وهم يعرفون قوة العرب ووفرة عددهم؟ وإذا قبلوا أفلا نعتقد أن العرب لا تكون كلمتهم هي العليا في جانب تلك الدول القوية التي تخشى سيادة العرب وحكمها؟ وهل من المنطق أو المعقول أن يكون العرب تبعاً لغيرهم وأين نذهب بقوله تعالى: (وأطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم) وقد قال بعض جهابذة المفسرين: المراد بقوله تعالى (منكم) تخصيص الأمة العربية. . .
أما قوله: (إن المستعمرين لا يخرجون من البلاد وإن أقرت الأقلية بأنها من صميم الأمة إلا إذا كانت قوية عزيزة الجانب) فيرده أن الأمة لا تستطيع أن تصل إلى درجة من القوة والمنعة إذا وقف مسلمها في جانب ومسيحيها في جانب آخر
وكنت أحب ألا يفهم الفاضل عكس ما أردته فقد قال: (ولعل رسالتي تخفف من غلوائك في هذه الدعوة البريطانية)
ولو كان الفاضل يعلم أنني كنت ولا أزال بحمد الله من مؤسسي القضايا الدفاعية عن فلسطين المقدسة وأنني نشرت عشرات المقالات وألقيت مئات الخطب في سبيل هذه القضية المشرفة وأنني كدت أسجن مراراً من أجل هذا الواجب، أقول لو علم الفاضل شيئاً من هذا لكتب بلسان العقل لا بوحي العاطفة
فليطمئن الفلسطيني الفاضل وليعلم أننا أشد منه غيرة على الإسلام ولكننا نحكم العقل فنجازي المحسن بما فعل ونقابل المسيء بما قدم.
طرابلس
محمد علي عكاري
جيرون وربوة في كتاب هبة الأيام
أورد البديعي في كتابه (هبة الأيام فيما يتعلق بأبي تمام) قصيدة للعماد الأصبهاني يجاوب بها أبا الفتح التعاويذي في الصفحة 277 وهي قصيدة طويلة مطلعها:
بأبي معتدل القا
…
مة في عطفيه نشوه
ومن أبياتها:
ما تسليني عن دجلة جيرون و (بروه)
هكذا أورده ناشر الكتاب الأستاذ الفاضل محمود مصطفى وعلق عليه بقوله: (لعل جيروناً وبروة اسما نهرين بدمشق). وهذا عدم تحقيق من الأستاذ الفاضل
فإن بروة تحريف ظاهر لا يخفى على أديب باحث في اللغة العربية، ولا يوجد نهر أو موضع بدمشق بهذا الاسم. وإنما هي ربوة وهو متنزه جميل وجنة غناء قرب دمشق. . . قال ياقوت في معجم البلدان: ربوة بضم أوله وفتحه وكسره. إلى أن قال: بدمشق في لحف جبل على فرسخ منها موضع ليس في الدنيا أنزه منه لأنه في لحف جبل تحته سواء نهر بردى وهو مبني على نهر توري وهو مسجد عال جداً وفي رأسه نهر يزيد الخ اهـ. وقيل: إنها دمشق نفسها، ولكن المعروف إلى اليوم هو المكان المنتزه الجميل. وقد تغنى به أمير الشعراء المرحوم شوقي بك في قصيدة:(قم ناد جلق. . .) فقال:
وربوة الواد في لجلباب راقصة
…
ألساق كاسية والنحر عريان
والطير تصدح من خلف العيون بها
…
وللعيون كما للطير ألحان
وأقبلت بالنبات الأرض مختلفاً
…
أفوافه فهو أصباغ وألوان
أما جيرون فقد قيل إنها دمشق نفسها، وقيل إنها حصن بدمشق أو بناء عظيم لبعض الكواكب الخ. قال في معجم البلدان هذا قولهم. والمعروف اليوم أن باباً من أبواب الجامع بدمشق وهو بابه الشرقي يقال له باب جيرون، وفيه فوارة ينزل عليها بدرج كثيرة في حوض من رخام وقبة خشب يعلو ماؤها نحو الرمح الخ
وجاء في الصفحة 280 من القصيدة نفسها
وهو في الشعر وفي العل
…
م كحسان وعروه
فعلق عليه الأستاذ بقوله: (حسان بن ثابت الأنصاري شاعر رسول الله وأمره مشهور، وعروة من شعراء العرب كثيرون، فمنهم عروة بن حزام ومن شعره قوله في عفراء:
متى تكشفا عني القميص تبينا
…
بي الضر من عفراء يا فتيان
إذا تريا لحماً قليلاً وأعظماً
…
بلين وقلباً دائم الخفقان
جعلت لعراف اليمامة حكمه
…
وعراف نجد إن هما شفياني. الخ
ومنهم عروة بن الورد الذي يسمى عروة الصعاليك لأنه كان كالرئيس عليهم ويجمعهم ويقوم بأمرهم إذا أخفقوا في غزواتهم. مع أن المراد هنا بعروة عروة بن الزبير بن العوام أحد فقهاء المدينة السبعة العالم المشهور، والمحدث الكبير تلميذ خالته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها المتخرج في مدرستها وهو مشهور غني عن التعريف.
وبيت العماد يقول: وهو في الشعر كحسان، وفي العلم كعروة، وهذا في البديع يا سيدي الأستاذ لف ونشر مرتب. وهذا الذي جعلنا نحمله هذا المحمل، والمعروف أن عروة بن حزام وعروة بن الورد وغيرهما من شعراء العرب لم يشتهر أحدهم بالعلم.
وإن الأستاذ محمود مصطفى ليشكر على مجهوده في هذا الكتاب وعلى إخراجه في هذا الثوب القشيب، وأرجو أن يتقبل مني هذا التعليق بقبول حسن.
إبراهيم يسن القطان
الشطر المسروق
سيدي صاحب الرسالة:
لقد قرأت في العدد (320) من الرسالة الغراء قصيدة الأستاذ (العوضي الوكيل) فأعجبت بما فيها من المعاني الدقيقة والخيالات الرائعة ولكنما استوقف نظري هذا الشطر:
(أواه لو تنفع المحزون أواه)
فرجعت بالذاكرة إلى الماضي فتذكرت أنه مرّ عليّ منذ أربع سنوات في قصيدة للأستاذ (محمود غنيم) في العدد الممتاز من الرسالة من السنة الثالثة ص (591) تحت عنوان (مجد الإسلام - وقفة على طلل) وهاهو ذا البيت بأكمله:
(لي فيك يا ليل آهات أردده
…
أواه لو أجدت المحزون أواه)
فرأيت الأستاذ (العوضي الوكيل) لم يغير في الشطر غير كلمة (أجدت) وأبدلها بكلمة (تنفع)
محمد إبراهيم شلتوت
رسالة النقد
نظرات في كتاب:
(بعث الشعر الجاهلي)
تأليف الدكتور مهدي البصير
للأديب خليل أحمد جلو
- 2 -
لا شك أن ما روى الدكتور عن حياة امرئ القيس منسجم مطرد، وهو حجة دامغة معقولة، لو أن ما كتبه (وهو عين ما يدرسه طلاب الصف الثالث الثانوي)، هو كل ما يروى في الكتب ويُستنتج بعد المحاكمة، ولو أنه صحيح ثابت، ولكنه ناقص سقيم حين سمع الناس أن امرئ القيس شخصية خيالية، وحين يعلم أن الرواة اختلفوا في اسمه وكنيته وذريته: فهو حندج وهو قيس، واسم أبيه عمرو واسم أبيه حجر، واسم أمه فاطمة واسم أمه تملك، وكنيته أبو لهب وكنيته أبو الحارث، وأنه لم يكن له ولد ذكر، وأنه يئد بناته جميعاً، وأن له بنتاً يقال لها هند، وأنها لم تكن بنته، وإنما كانت بنت أبيه، وأنه يعرف بالملك الضليل، وانه يعرف بذي القروح.
فكان عليك يا دكتور أن تستخلص من هذا الخليط المضطرب ما نستطيع أن تسميه (منسجم مطرد)، وما تستطيع أن تسميه حقاً أو شيئاً يشبه الحق ليجوز لك أن تسلم بوجود امرئ القيس وأن تقول:(إن ما يروى عنه (لم يكن أكذوبة) من أكاذيب القصاص).
أليس جديراً بكتاب يسمى (بعث الشعر الجاهلي) أن يستعرض ما ذكرت، وزيادة عليه مما يشم منه رائحة الأساطير والأكاذيب، ثم يعرض لها بالبحث والتحليل، والاستقراء ولاستنتاج، والتعقل والمحاكمة، لينسج منه المؤلف بحثاً يستطيع بعده أن يقول: قد بعثت امرئ القيس حقاً؟ ولكن الدكتور أغرق في تجنب الآراء المتضاربة والاختلافات المتناقضة، وما جرب أن يشطح وينطح، وابتعد عن كل أناة ونثبت فيما نقض وأبرم. فهو يجحد جحوداً مطلقاً، وينكر بغير حق شأنه في التصديق، ويروي ما يدعم مزاعمه، ويغفل
عما يدحضها، وهذه خصال يتبرأ منها الباحث العلمي.
إذا أردت أن أنتهي من نقد طريقته السقيمة في البحث فأسمح لي أن أحدثك يا قارئي عن برهانه على حقيقة نسبة (قفا نبك). وما هو برهانه؟ لا يتجاوز ما يذكره في ص 10 (أن القصيدة رويت في القرن الثاني، وأن كبار الرواة وثقاتهم كالمفضل الضبي وأبي عمرو بن العلاء والأصمعي أحياء لم يطعنوا فيها). . . يظهر من هذا أن الدكتور مطمئن إلى ما يرويه هؤلاء كل الاطمئنان، ولم ير حاجة في الإطالة، فقد جاء بالبرهان الناصع والدليل القاطع
هل يستطيع الدكتور أن يقول إن كل ما رواه هؤلاء صحيح سالم من التجريح؟
لا شك أن هؤلاء ممن لم تفسد مروءتهم ولم يعرفوا بفسق ولا مجون ولا شعوبية، والعجب أنهم قد كذبوا أيضاً وانتحلوا. فأبو عمرو بن العلاء يعترف بأنه وضع على الأعشى بيتاً هو:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت
…
من الحوادث إلا الشيب والصلعا
ويعترف الأصمعي بشيء من ذلك. ويقول اللاحقي إن سيبويه سأله عن إعمال العرب (فَعِلا) فوضع له هذا البيت:
حذرٌ أموراً لا تضير وآمن
…
ما ليس ينجيه من الأقدار
وهل من صفة البحاثة العلمي أن يقف جامد العقل إزاء ما يروى عمن عاشوا في القرن الثاني مهما ابتعدوا عن السذاجة وفساد الذمة؟
وإذا سلمنا جدلاً أن القصيدة من ناحية السند صحيحة، أليس يحسن به أن يمتحن صحة متنها؟ إنه لم يتكلف عناء ذلك في جميع ما روى من المعلقات
يا دكتور أن أكاذيب كثيرة حملت على الجاهليين ونسبت أحاديث خرافة لا تحصى إليهم في عهد الإسلام، وأضيفت مقادير وافرة من الأباطيل إلى تاريخ كل شعب وكل جيل، وحاشاك أن تجهل الافتعالات التي يمليها تضارب المصالح والأهواء ويقتضيها تطاحن الأفراد والجماعات، مما يجب ألا نتواطأ عليها بالسكوت والتسليم، فلا تحسب أنك حين نزهت بعض الرواة عن الاختلاق والكذب يحق لك أن تقول بكلام المنتصر الغالب:(إذن لنفرغ لدرس هذه القصيدة (ص 19)، فإن الباحث المنصف من شأنه أن يحتاط ويحترس
من كل ما يروي، وليس من الصحيح أن تقول إن فلاناً مشهور بالصدق فيجب أن نأخذ عنه كل شيء على علاته مطمئنين راضين
هل تعرف عن (مدرسة الرأي) التي انتشرت في القرن الأول والثاني للهجرة التي كانت تشترط فيما يؤخذ به حديث شروطاً لا يسلم معها إلا القليل، حتى غالى قوم فرأوا عدم الأخذ بالحديث بتاتاً؟
أليس جديراً بك يا دكتور أن تقف موقف (اللارأيين) الذين شكوا في صحة الأحاديث ولم يكن بينهم وبين قائلها صلى الله عليه وسلم أكثر من قرنين؟ تذكر أنك في القرن الرابع عشر للهجرة، وأن الذي نرويه شعر وليس حديثاً لا يختلقه إلا من عرض نفسه لغضب الله وناره
يقول الدكتور (ص 92)(إني أحاول في هذا الفصل أن أثبت جاهلية المعلقات أو - المطولات السبع - ومتى تم لنا القول بأن هذه القصائد السبع جاهلية حقاً، فإننا نكون قد أنقذنا أمجد صفحات الشعر الجاهلي من الجحود والإنكار. ذلك لأن هذه المطولات أقوى وأجمل وأمتع ما وصل لنا من الشعر الجاهلي على الإطلاق)
إن الدكتور يريد أن يثبت (بالجملة)
هل تعلم ما هو السلاح الذي دافع به عن المعلقات حتى خيل إليه (أن القصائد السبع جاهلية حقاً؟) إنك لا تعلم حتى أقول لك! إنه اقتصر على تبرئة حماد الرواية عن قولها لا غير!
ولكن كيف برّأه ودافع عنه دفاع المحامي المحرج البرهان والدامغ الحجة؟
إنه يقول (ص 93)(إن حماداً يستطيع أن يقول البيت أو الأبيات القليلة من الشعر المبتذل وأن يدسها في شعر أحد الجاهلين ليدل بذلك على أنه أغزر علماً وأصدق رواية من غيره من الرواة، ولكنه لا يستطيع أن يقول قصيدة واحدة ذات شخصية أدبية وقيمة فنية) ثم يقول إن شاعرية حماد لا تساعده (على وضع الشعر البليغ وإضافته إلى فحول الشعراء)
لا تطلب مني أن أضايق الرسالة بما يروى عن حماد وبما يؤثر عنه من شعر جيد رصين، وفن في النظم فريد، وشيطنة في الانتحال عجيبة، وتقليد للشعراء يعجز عنه أعظم شاعر فحل؛ ويكفي أن أذكر أهل الكوفة مجمعون على أن أستاذهم في الرواية حماد: عنه أخذوا
شعر العرب، وأنه شاعر مجيد يصل من التقليد والمهارة فيه إلى حيث لا يستطيع أحد أن يميز بين ما يروي وينتحل
ويقول المفضل الضبي - والدكتور يثق به كل الثقة - إن حماداً قد افسد الشعر إفساداً لا يصلح بعده أبداً. فلما سئل عن ذلك: ألحن أم أخطأ؟ قال: ليته كان كذلك فإن أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في شعره ويحمل ذلك عنه في الآفاق فتختلط أشعار القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد، وأين ذلك؟
ويحدثنا عنه محمد بن سلام - والدكتور لا يشك في روايته أيضاً - أنه دخل على بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري فقال له بلال: ما أطرفتني شيئاً؟ فعاد إليه حماد فأنشده القصيدة التي في شعر الحطيئة في مديح أبي موسى. قال بلال: ويحك! يمدح الحطيئة أبا موسى ولا أعلم به، وأنا أروي شعر الحطيئة! والرواة أنفسهم يختلفون في قائلها فمنهم من يزعم أن الحطيئة قالها حقاً
وكان يونس بن حبيب يقول: العجب لمن يروي لحماد، كان يكسر ويلحن ويكذب
وثبت كذب حماد الرواية للمهدي فأمر حاجبيه فأعلن في الناس أن يبطل رواية حماد
فهل صحيح يا دكتور ما تقوله من أنك قد (أحصيت ما عرف لحماد من الشعر، على أنه له، أو على أنه محمول على بعض الشعراء الجاهليين أو المخضرمين، فكان كله أربعة وعشرين بيتاً)، وأن حماداً لا يستطيع أن يقول قصيدة واحدة ذات شخصية أدبية وقيمة فنية، وأنه لم يدس في الشعر غير البيت أو الأبيات القلائل؟
وما لنا والإطالة؟ فهل يشك أحد - غير الدكتور مهدي البصير - في أن حماداً كان يسرف في الرواية والتكثر منها، وأن له في ذلك أخباراً لا يكاد يصدقها أحد؟ فلم يكن يسأل عن شيء إلا عرفه! وقد زعم للوليد بن يزيد أنه يستطيع أن يروي على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة لم يعرفهم من الشعراء. قالوا: وامتحنه الوليد حتى ضجر فوكل به من أتم امتحانه ثم أجازه
لا تظنوا مما حدثتكم به أني أريد أو أحاول أن أبدي رأياً في الشعر الجاهلي، وإنما كل ما طمعت فيه أن أبين لكم أن الكتاب الذي بعث الشعر الجاهلي، كما يخيل إلى صاحبه، برئ
مما يدعي أو يتخيل، وأنه خال من العمق، وهو سطحي كما يقولون. أو قولوا إنه شرح لمعاني المعلقات على أنها آيات منزلات أكثر منه محاولة لبعث الشعر الجاهلي، وهو قائم على الإبهام والتضليل لمن لم يؤت نصيباً من الأدب، وعلى الغفلة والانخداع. والباحث يخيل للقراء أو قل يخيل إليه أنه قد أحاط بالأدب والأدباء الجاهلين مع أنه لم يحط من ذلك بشيء. وإنما عرف صياغة بعض الجمل، وعلماً عامياً اقتطفه من الكتب اقتطافاً. . وآية ذلك أنه في بحثه الجديد الذي سماه (بعث الشعر الجاهلي) لم يكشف للناس عن شيء جديد في أمر هؤلاء الشعراء الجاهليين وشعرهم، وإنما ظل هؤلاء عند من يشك كما كانوا، بل زادوا شكاً وارتياباً.
هذا النحو من البحث السطحي شر، لأنه قاصر وعقيم، ولأنه لم يأت بالثمرة المطلوبة أو بما يشبهها، ولأنه لا يمت إلى العلم بصلة، ولأنه لا يصلح إلا للمتوسطات من المدارس.
لقد حدثتك عن الوجه الأول والثاني، وقد كدت أن أنسى الوجه الثالث وفيه اقترف المؤلف من الأحكام الخواطئ والتفسيرات السقيمة والآراء الفطيرة ما جعلنا نتذكره ونشعر بضرورة الهداية والإصلاح والجهاد في سبيل الأدب والأدباء.
يشرح الدكتور معنى البيت:
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله
…
ولكنني عن علم ما في غد عم
قائلاً: إن الشاعر (يعلن أنه يعرف ماضي الحياة وحاضرها لأنه رآهما، ولكنه يجهل مستقبلها)(ص 41) وهذا الشرح معقول مقبول لا يختلف فيه اثنان، ولكن مما يدعو إلى النظر والتروي ما يستنتجه الدكتور من قول الشاعر:(ولكنني عن علم ما في غد عم) إذ يزعم (أنه لا يؤمن بالبعث)(ص41). إن هذا الإدعاء باطل؛ فإن الرواة يتحدثون أنه تنبأ بظهور الإسلام وأوصى ابنيه كعباً وبجيراً أن يسلما. وهم يروون له أشعاراً كثيرة فيها أصول دينية. وذكر أبو عبيدة عن قتيبة ابن شبيب بن العوام بن زهير عن آبائه الذين أدركوا بجيراً وكعباً ابني زهير قال: كان أبي من مترهبة العرب وكان يقول: (لولا أن تفندوني لسجدت للذي يحي بعد الموت! قال: ثم إن زهيراً رأى قبل موته بسنة في نومه كأنه رفع إلى السماء حتى كاد يمس السماء بيده ثم انقطعت به الحبال، فدعا بنيه فقال: يا بني، رأيت كذا وكذا وإنه سيكون بعدي أمر يعلو من اتبعه ويفلح، فخذوا بحظكم منه، ثم لم
يعش إلا يسيراً حتى هلك فلم يحل الحول حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولنسلم أن هذه الروايات مُفتَعَلة محمولة على زهير ولندعها جانباً، ولنرجع إلى الشاعر نفسه نسأله عن رأيه في البعث فسيقول لنا دون تردد:
فلا تكتمن الله ما في صدوركم
…
ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر
…
ليوم الحساب أو يعجل فينقم
فاتق الله يا دكتور في دين الناس، ولا تضلك ظواهر الكلم، فإن الشاعر يريد أن يقول في بيته الذي آخذته عليه:
وما تدري نفس ماذا تكتسب غداً، وأنها لا تعلم الغيب
عفا الله يا دكتور! فلولا أنك كنت تلبس العمة وترتدي القباء وكنت شيخاً في الظاهر والباطن، كما هو معروف عنك قبل أن تقصد باريس، لاتهمناك بنكران الحساب وبرأنا زهيراً! ألست أنت الذي تقول في قصيدة وجدانية قلتها في نهر الليس (ص151)
لا تحسبن لماض
…
ولا لآت حسابا
من يدري! لعل الدكتور قد زاغ قلبه حين أحس بجلال طبيعة فرنسا وحين تضاءل جلال الله أمام جلال نهر الليس!؟ سبحانك يا رب!
(يتبع)
الاعظمية
خليل أحمد جلو
المسرح والسينما
من التاريخ
النهضة المسرحية في مصر
ونصيب الفرقة القومية منها وواجبها حيالها
غادة الكاميليا
لا يعدو الحقيقة من يقول إن رواية غادة الكاميليا قد أفاد منها المسرح المصري أضعاف ما أفاده من رواية بل من روايات عديدة غيرها، وإن النهضة المسرحية تدين لها بالشيء الكثير. ويمكن أن ينسب جزء كبير من النجاح الذي لاقته فرقة رمسيس إلى هذه الرواية التي فتنت الجماهير ولعبت بألبابهم. وكما كانت (أوديب) الرواية التي جعلت لجورج أبيض شأناً أي شأن؛ وكما كانت (الموت المدني) الرواية التي نال بها عبد الحمن رشدي تقدير الجماهير، كذلك كانت (غادة الكاميليا) الرواية التي بلغت بها فرقة رمسيس أوج المجد، ومهدت الطريق لانتصارات كثيرة بعدها، وإن كان من شأن يوسف وهبي فيها غير ذي خطر إلى جانب السيدة روز اليوسف التي قامت بدور الغادة الفاتنة فوفقت فيه أعظم توفيق ووضعت اسمها به في ثبت الخالدين. إلا أن يوسف استطاع أن يفيد منها كما يفيد الأذكياء من توافه الأمور. وهكذا جعل من دور (أرمان) شيئاً يذكر وبطلاً يشار إليه بالبنان. بيد أن النقاد كانوا له بالمرصاد، وكان لأنفه - أنف يوسف لا أنف أرمان - قصص وحكايات كانت موضع تندر النقاد وسخريتهم على غير طائل، فقد ارتفع شأن فرقة رمسيس أيما ارتفاع، وصار جمهور الخاصة ينظر إلى الفرقة بعين الاعتبار، ويقدر مجهودها ونشاطها، وبذلك أصبح مسرح رمسيس وصالة التدخين التي جعلها يوسف إلى خلف المقاصير منتدى الطبقة الراقية في مصر، ومكان لقياهم المفضل في الليالي الساهرة، وكانت الفرقة تخرج كل أسبوع رواية، وكان لكل يوم من أيام الأسبوع طبقة خاصة أو طائفة خاصة من الناس، كما هو الشأن في بعض دور السينما اليوم.
وهكذا في أسابيع معدودة احتلت فرقة رمسيس مكاناً سامياً وغدا اسمها وأسماء أبطالها على كل لسان.
وللتاريخ نضع ثبتاً بأسماء هؤلاء الممثلات والممثلين الذين ارتفع عنهم ستار رمسيس في عام 1923 وهم:
يوسف وهبي - عزيز عيد - حسين رياض - أحمد علام - مختار عثمان - إستفان روستي - أدمون تويما - حسن البارودي - علي هلال - أحمد عسكر - عبد العزيز محبوب - توفيق صادق - صادق عارف - محمد إبراهيم - حسن شلبي
ثم السيدات: روز اليوسف - زينب صدقي - فاطمة رشدي - سرينا إبراهيم - ماري حداد - نعمت كمال
وكان مخرج الفرقة هو عزيز عيد، وحسن شلبي ملقنها. وكان أحمد عسكر أحد الممثلين، بيد انه أصبح بعد قليل الداعي الأكبر للفرقة وصوتها المسموع في كل مكان إذ أحتل من الفرقة المكان الذي يحتله اليوم من الفرقة القومية، وهو جدير بالمكان الذي يشغله ما دام يلتزم حدوده فيه؛ وكان على هلال (ريجسير) الفرقة؛ أما أدمون تويما فلم يكن طوال عمره الممثل الذي يعتمد عليه، بيد أنه كان دائماً البطل الذي يعمل من وراء ستار كما هو شأنه اليوم في الفرقة القومية أيضاً، فلهذا الفنان خبرة تامة بشؤون المسرح وتستطيع أن تضعه في مصاف المخرجين وإن تكن ثقافته ومعارفه ودرايته تفوق بعضهم بكثير.
(للكلام بقية)
ملاحظات
البعثات الفنية
من المفارقات العجيبة التي لا تحدث في غير مصر أن اللوم يقع شديداً على الحكومة لأنها تعني أكثر العناية بمبعوثيها ما داموا في بعثاتها فإذا عادوا أهملتهم كل الإهمال ولم تستفد منهم وكأنما أرسلتهم لغير غرض وبلا أدنى تفكير في مصيرهم
بيد أن الفرقة القومية، وصلتها بالحكومة غير بعيدة، قد خالفت هذه القاعدة الذهبية وعنيت بمبعوثيها في الخارج وزادت عنايتها بهم عند عودتهم. على أن أغلبهم لم يذكر يدها عنده وأنكر فضلها وآثر التمرد والعصيان. فمنذ بضعة شهور عاد أحد المبعوثين رافعاً راية العصيان قبل أن يصعد ظهر الباخرة وظل رافعاً الراية الحمراء حتى وصل وحتى استقال أو أقيل ساخطاً متبرماً في غير داع للسخط أو التبرم إلا أنه شعر بضعفه وعدم قدرته على الاضطلاع بالمهمة التي بعث من أجلها. . .
ومنذ أسابيع عاد آخر بعد أن تسلم الراية الحمراء من زميله وأعلن في غير حياء أن مرتبه ضئيل طالباً رفعه ومساواته بكبار المخرجين!
أما الذي عاد آخرهم فقد تذرع بالصمت وراح يعمل أو ينتظر أن يعمل في هدوء راضياً قانعاً بنصيبه المتواضع. وإنها لمعجزة!
ترى هل يعرف المتمردون أنهم يجرمون في حق الفن وفي حق أنفسهم وأن عقابهم يجب أن يكون شديداً؟
إن الفرقة القومية لم تبذل في سبيلهم هذه الآلاف من أجل أن يعودوا فينتقضوا عليها! إنها سرقة علنية، فإما أن يكلف هؤلاء برد الآلاف التي صرفت عليهم، وأما أن يجلدوا أو يسجنوا وفاء لديونهم
اختيار الروايات في الفرقة القومية
تحدثنا في عدد مضى عن السياسة العجيبة التي تسير عليها الفرقة القومية في اختيار الروايات، وذكرنا قصة (جنون الشرف) التي رفضت و (الخطاب) التي قبلت
وقد ضاق المقام عن إيراد بعض الأمثلة التي وعدنا بها القراء الكرام، واليوم نعود إلى مواصلة الكلام
ويجرنا الحديث عن اختيار الروايات، إلى الحديث عن لجنة القراءة التي تختار هذه الروايات، أو التي يقولون إنها تختارها.
منذ عامين تقدم الأستاذ حسين عفيف بروايته: (وحيد) إلى الفرقة القومية، وعرضت الرواية على لجنة القراءة فقبلتها وهنأت صاحبها، وقدرت إدارة الفرقة ثمنها وصرفته له.
ثم تبين بعد ذلك أن الرواية لم تعرض على قلم المراقبة بوزارة الداخلية، فأرسلت إليه فرفض إجازة تمثيلها، لأن فيها أموراً تخدش الشرف والعرف العام
ومن العجيب أن يكون هذا رأي موظف في الدرجة الثامنة أو السابعة، على حين أن في لجنة القراءة شيوخاً معممين وعلماء جهابذة، وزعماء في الأدب والفن والأخلاق، ومن العجيب أيضاً أن ينتصر رأي هذا الموظف ولا تمثل الرواية.
ولنا أن نتساءل إذن عن وقع هذه اللطمة على لجنة القراء؟ على أن هذه اللجنة تستأهل ما جرى لها. فقد ترجم بعضهم رواية (البيت المهدم) لأميل فابر، وعرضت على اللجنة فرفضتها. وترجم آخر الرواية بعينها، بيد أنه كان ماكراً خبيثاً فأبدل اسم جورج بمحمد، وغير اسم ماري بزينب؛ أما أسم الرواية فقد جعله (الأفاعي) وزعم إنها من تأليفه
وعرضت الرواية في نفس الوقت على اللجنة الموقرة، فقبلتها ودفعت لصاحبها الثمن، ولم تفطن إلى أن هذه من تلك!
فلما قُرأت الرواية على الممثلين عرفوها وقرعوا أجراس الفضيحة غير نادمين؟
وبعد فقد أدى إهمال اللجنة إلى الخسارة أكثر من مائة جنيه أو يزيد، وفي نفس الوقت كان دليلاً رائعاً على أنها لا تصلح للمهمة التي وكلت إليها! وهل بعد ذلك من دليل؟
(فرعون الصغير)
أخبار سينمائية
(جوان بلوندل) زوجة ديك باول وإحدى فاتنات هوليود وبطلة عدة روايات موسيقية ناجحة ومن اظرف رواياتها (الملك والراقصة) التي عرضت منذ عامين في دار سينما ستوديو مصر. وكان يقوم بدور القيادة أمامها الممثل البارع (فرنان جرافيه) بطل (الفالس الكبير)
شارلز لافتون
يظهر أن هذا الممثل الإنجليزي البارع يحب البحر أو أن البحر هو الذي يميل إليه. كانت أول رواياته في هوليود (الشيطان في الأعماق) مع (تالولا بانكهيد) وكان يقوم فيها بدور ضابط بحري في غواصة. وهل يمكن أن ينسى القراء دوره العظيم (كابتن بلاي) في رواية (الثورة على السفينة بونتي) ثم دوره في رواية (سفينة الغضب) وأخيراً فإنه في رواية (خان جاميكا) يعود إلى البحر مرة أخرى!
(بيتي ديفيز) نجمة شركة وارنر وقد سطع نجمها في وقت كان يظن فيه أن حياتها الفنية قد انتهت، وذلك أنها قبلت القيام بالدور المكروه في رواية (الاستعباد) مع لسلي هوارد فنجحت فيه نجاحاً رفعها دفعة واحدة إلى مرتبة النجوم. ثم توالت انتصاراتها من بعد ذلك.
(السيدة عزيزة أمير) كما سنراها في الفلم المصري (بياعة التفاح) الذي سيظهر في الموسم السينمائي الجديد. ومما هو جدير بالذكر أنها أول من ظهرت على الشاشة من الممثلات المصريات، وكان لها فضل إدخال الفن السينمائي في مصر، وهي إلى جانب ذلك ممثلة مسرحية مجيدة
سيجريد كوري
يخرجون الآن شركة يونيفرسال رواية (النساء المنسيات) للنجمة البارعة (سيجريد كوري)
الطفل سابو
يتمرن الآن الطفل سابو على صناعة النشل ليقوم بدوره في رواية (لص بغداد). وقد أمكنه أثناء مدة التمرين أن ينشل بضعة أشياء ثمينة من رجال الأستديو مما دعاهم إلى الثناء عليه. وهذه أول مرة يثنى فيها على فرد لأنه قام بمهمة النشل خير قيام!
(باتريشا موريسون)
وقد سطع نجمها فجأة هذا العام ويتوقعون لها صعوداً سريعاً إلى مرتبة النجوم، وهي قريبة الشبه إلى ميرل أوبرن كثيرة التشبه بها. وقد بدءوا يحيكون حولها شبكة من الحكايات والأقاصيص ليملئوا الأفواه باسمها كيما تجري الألسنة بذكرها