الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 326
- بتاريخ: 02 - 10 - 1939
قالوا استقال طلعت حرب!
قلنا وكيف يستقيل طلعت حرب من عمل هو فكرته وكلمته وطريقته وغايته ورمزه؟ إن في الاستقالة معنى التفريق بين العامل والعمل، ينتسب إليه ما دامت يده فيه، فإذا خلاه لسبب من الأسباب أصبح غريباً عنه؛ ولكن طلعت حرب معناه بنك مصر وشركات مصر واقتصاديات مصر، فلا تجد بين اسمه وبين هذه الأسماء تفاوتاً في الدلالة لا في الذهن ولا في الخارج. فالتعبير بالاستقالة عن راحته الضرورية بعد الجهاد الطويل والجهد الثقيل والحركة الدائبة تعبير مباين لوجه الصواب في اللغة وفي الواقع
إن طلعت حرب موجود في مؤسساته وجود الروح في الجسم العامل، لا ينفك عنها ما دامت قائمة؛ وقيامها الثابت بعمائرها ومظاهرها وإنتاجها تماثيل خالدة لهذا الزعيم الوطني العبقري الموفق. وإذا حق للتاريخ أن يجادل في أقدار العظماء وآثار الزعماء الذين برزوا في ميادين النهضة المصرية الحديثة، فإن قدر طلعت حرب، وأثر طلعت حرب، لا يمكن أن يكونا في يوم من الأيام مثار جدل ولا موضع شك. وإذا جاز للتاريخ أن يعزو نجاحنا السياسي إلى أسباب خارجية أهمها اضطراب العالم واصطراع الدول، فإنه لا يستطيع أن يعزو نجاحنا الاقتصادي إلا إلى عوامل داخلية أولها وأهمها كفاية طلعت حرب، وجهاد طلعت حرب!
ولقد كان هذا النجاح الاقتصادي الماثل في بنك مصر وشركات مصر هو وحده الحجة الناهضة على رشد هذه الأمة الكريمة: رحض عن سمعتها الأذى، ودحض عن كفايتها التهم، وجلا عن نهضتها الشكوك، وبدد عن مستقبلها السحب؛ لأنه نسقٌ من الضرورة والقدرة والنظام والثقة لا يقوم على الهوى، ولا ينتظم على الطيش، ولا يدوم على الفساد، ولا يتقدم على العجز، ولا يبلغ شيئاً وراء الزعامة المترددة. ثم انتشر هذا الفوز الاقتصادي وانبسط أفقه واتسع مداه حتى أصبح نهضة اجتماعية شملت مرافق البلد من كل نوع، وتناولت أمور الناس من كل جهة: أجْدت على العلم ففتحت له أبواب العمل، وعلى التعليم فمهدت له سبل التطبيق؛ وعلى الأدب فاستعملت اللغة في أعمال المال، ونشرت الثقافة بالطباعة والإذاعة والتمثيل؛ وعلى الأخلاق فأحيت في الرجال الثقة وقوّت في الشباب الرجولة؛ وعلى الاجتماع فوقت الأمة شر العطلة المجرمة والأزمة المستحكمة باستخدامها الألوف من الموظفين والصناع والعمال في شركات البنك وفروعه؛ وعلى القومية فخلقت
الروح الجماعية بإنشائها الأعمال التي تقوم على رءوس المال وتَوَزُّع العمل وتساند القوى وتضامن الجماعة؛ وعلى السياسة فكفكفت عنها شِرَّة النفوذ المالي الأجنبي بمنازلتها الجريئة له في ميادينه القوية الحصينة؛ وعلى الإسلام فساعدت على إقامة ركن من أركانه، وكشف الضر عن منزل وحيه وقرآنه؛ وعلى وحدة العرب فوصلتها بأسباب التعاون ووثَّقتها بسلاسل الذهب. والاقتصاد اليوم وقبل اليوم كان دستور الحياة وعلة السعي لها وغاية الجهاد فيها، فلا بدع إذا أثر في كل شيء، وعمل في كل حركة، وهاج في كل ثورة، وصاح في كل نهضة
ذلك هو مدى الاستقلال الاقتصادي الذي يتبوأ عرشه اليوم طلعت باشا حرب، والشعب كله على عُدوتي واديه يعتقد له الحب، ويعرف له الجميل، ويخلص له الشكر، ويختلف في كل شيء إلا في فضله. وتلك منزلة من تكريم الله وتقدير الوطن لا يبلغها إلا الأفذاذ المخلصون الذين شغلهم حب الخير ففكروا وأمِلوا، ثم آمنوا وعملوا، ثم استمسكوا بروح الله وقوة الأمة على عصف الخطوب وإلحاح المكايد، حتى استقر بهم الإيمان على الفوز، واستقام بهم الإخلاص على الطريقة؛ فكانوا مثلاً للجهاد الصابر المثابر الذي يتلمس القوة من جوانب الضعف، ويتطلب الكثرة من أشتات القلة، ويخلق النجاح اليقين من أحاديث المنى، ويرفع في معترك الشبه والظنون هذا الصرح الباذخ فيكون قاعدة للمصلح ومنارة للمتخلف ومثابة للشريد
فليت شعري هل تملك الأحوال الحاضرة عن أن تعوقنا عن أداء الواجب الوطني لهذا الرجل العظيم؟ إنا لا نريد أن نقدم إليه ثروة ولا عمارة ولا شارة؛ إنما نقترح أن تجعل له الأمة يوماً من أيامها الغر الحوافل، تفد عليه فيه طوائفها المختلفة من زراع وصناع وتجار وموظفين وطلبة، فيقدمون إليه شكران الوطن منظوماً في عقود الزهر، وقصائد الشعر، وهزج الأناشيد، وحماسة الهتاف، ليشعر هذا المجاهد البطل، وهو ينفض غبار المعارك الغالبة عن جبينه المتوج، ويمسح أذى السنين الناصبة عن جسده المهدود؛ أن الأمة التي شغل بنهضتها فكره، وقضى في خدمتها عمره، وأنفق فى سبيلها قواه، لم تفرط في جانبه، ولم تقصر في واجبه، ولم تعدُها عن شكر أياديه عوادي الخطوب الراصدة
ذلك الشكر الوطني العلني الحاشد هو في رأينا خير ما يقدم اليوم إلى رجل مثل طلعت
حرب غمره خير الله حتى شرق به، ولزمه مجد الحياة حتى غرِض منه، وخدمه سلطان الجاه حتى زهد فيه؛ فلم يعد يطمع إلا في خفقة الحب من فؤاد شاعر الإخلاص من لسان شاكر
أما قيام حافظ عفيفي على ما أسس وشاد طلعت حرب، فذلك هو ضمان الله وأمان القدر. لأنه بإجماع الرأي أجدر من في مصر لخلافة الزعيم العظيم، وما رأينا الناس يخلدون بثقتهم بعد طلعت حرب إلا إليه، لاعتقادهم أنه كذلك رجل إنشاء وعمل، وصاحب رأي وعزيمة، ورسول إصلاح وخطة، ولم يتول عملاً من الأعمال إلا وضع فيه النظام والدقة والثقة والنزاهة. وكذلك عوّد الله الكنانة أن يلطف بها في القضاء ويُخلف عليها في القدر!
احمد حسين الزيات
جناية أحمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
- 17 -
أراد صاحبنا أن يقسم الأدب إلى قسمين: أدب تركيبي وأدب تحليلي، ثم بنى على هذا التقسيم أحكاماً خواطئ، كعادته في كل ما يتناول من الشؤون الأدبية وإلا فمن الذي يصدق أن التشبيهات تُعاب بحجة أنها صور تركيبية، وبحجة أن الأمم لا تهتم بالتشبيهات إلا في حالتها الفطرية؟
إن أحمد أمين أفرط في تحقير التشبيه اقبح إفراط، ونسى أنه عمليةٌ ذهنية تشهد بقوة الذكاء، ودقة الملاحظة، والقدرة على ضم الصور بعضها إلى بعض
ولو جارينا أحمد أمين في أحكامه الجائرة لأغضينا عن جمال التصوير في قول ابن المعتز:
لا مثلَ منزلة الدويرة منزلٌ
…
يا دار جادكِ وابلٌ وسقاكِ
بؤساً لدهر غيرتك صروفهُ
…
لم يمح من قلبي الهوى ومحاك
لم يحلُ للعينين بعدك منظرٌ
…
ذُمّ المنازلُ كلُّهن سواك
أي المعاهد منك أندبِ طيبهُ
…
ممساك بالآصال أم مغداك
أم بَرد ظلك ذي الغصون وذي الجَنَي
…
أم أرضك الميثاء أم ريّاك
فكأنما سُعِطتْ مجامر عنبر
…
أوفُتَّ فار المسك فوق ثراك
وكأنما حصباءُ أرضك جوهَرٌ
…
وكأن ماَء الورد دمع نداك
وكأنما أيدي الربيع ضحيةً
…
نشرت ثياب الوْشي فوقُ رُباك
وكأن درعاً مُفْرغاً من فضة
…
ماءُ الغديرِ جَرَتْ عليه صباك
وقد أشرنا من قبل إلى أن أحمد أمين يرى التشابيه ضرباً من الألاعيب، وليس من الكثير عليه أن يرى ذلك فقد رأيتم فيما سلف وسترون فيما بعد أن للرجل طريقة في الفهم تخالف طريقة أهل الأدب
وأُدعم هذا الهجوم بالشاهد الآتي لتسقط حجة من يدّعون أننا نظلمه ونتناسى مكانته الأدبية
قال أحمد أمين إن الأدب العربي جنح إلى التركيب وغفل عن التحليل، وكان دليل ذلك
عنده (أن علماء البلاغة العربية عُنُوا بالإيجاز أكثر من عنايتهم بالإطناب، وأُعجبوا بجوامع الكلم أكثر من إعجابهم بالكلام الطويل المنبسط، بل إن بعضهم كأبي هلال العسكري فهم أن الإطناب تكرار المعاني وطول الألفاظ، وقال: (إن كتب الفتوح وما يجري مجراها مما يقرأ على عوامّ الناس ينبغي أن تكون مطوّلة مطنباً فيها) فكأنه يريد أن يجعل الإطناب أدب العامة، والإيجاز أدب الخاصة)
ذلك كلام أحمد أمين، وهو يدل على أنه لم بفهم كلام أبي هلال وإليكم البيان:
إن كلام أبي هلال معناه أن الكلام له مقامات، فإن خاطبت رجلاً ذكياً فأوجز: لأن الإطناب في مخاطبة الأذكياء يعدّ من التطويل وهو فضول، وأن خاطبت الجمهور فأطنب: لأن الجمهور مكوّن من عناصر كثيرة تتفاوت في الفهم والتمييز والإدراك، والحزم يوجب أن نطنب حين نخاطب الجماهير لنصل إلى إفهامهم ما نقصد إليه من المعاني والأغراض
ذلك معنى كلام أبي هلال، فهو لا يريد أن يقول بأن الأدب يكون أدب خاصة عند الإيجاز وأدب عامة عند الإطناب، وإنما يريد أن يحدد واجب الشاعر والكاتب والخطيب، ودليل ذلك أن علماء البلاغة مجمعون على أن الإيجاز في مخاطبة العامة خطأ، والإطناب في مخاطبة الخاصة ضياع
وعلى ذلك يكون شرف البيان موقوفاً على فهم مقتضيات الأحوال، فالأديب الذي يوجز حين يخاطب الخاصة ليس أعلى منزلة من الأديب الذي يطنب حين يخاطب العامة، كما يتوهم أحمد أمين الذي يكيل الحقائق الأدبية بأوسع المكاييل، مع أنها لا توزن إلا بأدق الموازين
فمن أين فهم أحمد أمين أن الإطناب يراه العرب من المبتذلات حتى يحكم بزهدهم في الأدب التحليليّ الذي يستوفي عناصر الموضوعات؟
وعاب أحمد أمين على العرب أن يهتموا بجمع الحكم والأمثال وعدّ ذلك نتيجة حتمية للأدب التركيبيّ، ولو كان أحمد أمين من المطلعين على الآداب الأجنبية لعرف أن الاهتمام بجمع الحكم والأمثال هو من الأغراض التي يهتم بها أكثر الشعوب. ويقول أحمد أمين إن (الخطب والكتب في كثير من الأحيان عبارة عن جمل قصيرة مركزة محكمة، كالذي نلاحظه في كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري في القضاء وكخطبة زياد
وخطبة الحجاج، ولو تناول الأدب التحليلي كل جملة من هذه الجمل لصاغ منها صفحات)
فهل يدرك الأستاذ أحمد أمين وجوه الخطأ في كلامه هذا؟
إن خطاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري من أنفس الخطابات في تحديد أصول القضاء، فهل كنت تنتظر أن يؤلف عمر بن الخطاب كتاباً في مجلد أو مجلدين يشرح فيهما لأبي موسى فروع القضاء؟
وما الذي تعيب على خطبة زياد وخطبة الحجاج؟
أتعيب عليهما الإيجاز؟ وما الموجب للإطناب وقد وقعت الخطبتان على رؤس من سمعوها وقوع الصواعق، وظلتا حديث الناس من جيل إلى جيل؟
ما رأيك في المستر تشمبرلن وقد ألقى خطبتين وجه إحداهما إلى مواطنيه الإنجليز، ووجه الثانية إلى أعدائه الألمان؟
ألا ترى أن هاتين الخطبتين أوجز من خطبتي زياد والحجاج؟
هما أوجز بلا جدال
فهل سمعت أن ناقداً أدبياً في فرنسا أو إنجلترا عاب على المستر تشمبرلن أنه أوجز ولم يطنب؟ هل سمعت؟ هل سمعت؟
وا أسفاه!!
إن المستر تشمبرلن حوله أمة تفهم أقدار الرجال، فقد أعلن الإنجليز عطفهم عليه حين رأوه يبكي جهوده الضائعة في الدعوة إلى السلام
وكان العرب أمة تفهم أقدار الرجال إلى عهد الحجاج: فقد كان مالك بن دينار يظهر عطفه على الحجاج كما أعلن الإنجليز عطفهم على تشمبرلن. كان مالك بن دينار يقول: ما سمعت الحجاج يشكو أهل العراق إلا رحمته منهم!
إن أحمد أمين يقول إن كل جملة من كتاب عمر بن الخطاب وخطبة زياد وخطبة الحجاج يصاغ منها عند التحليل صفحات، ويعد ذلك شاهداً على ميل العرب إلى الأدب التحليلي، فما الذي يقوله أحمد أمين في خطاب تشمبرلن إلى الألمان؟
إن خطاب تشمبرلن قد يصاغ منه عند التحليل مجلدات لا صفحات، ومع ذلك لم يقل أحد بأن هذا الخطاب شاهد على أن الإنجليز لا يحسنون تحليل المعاني والأغراض
إن المستر تشمبرلن يفهم ما كان يفهمه زياد والحجاج
هو يفهم أن الجمل القصيرة المركزة المحكمة هي التي تبقى في الأذهان والقلوب، ويدرك أن التهديد الذي يصبه الخطيب في جملة أو جملتين، والسخرية التي يصوغها في كلمة أو كلمتين، أبقى أثراً من الكلام المطول المبسوط الذي يصاغ في صفحات
أيعرف أحمد أمين ما الذي سطره الفرنسيون على مدخل البانثيون؟
سطروا هذه العبارة الموجزة:
وهي عبارة تُشرح في مجلدات لا صفحات
أيعرف أحمد أمين الجملة المسطورة على باب قصر التين؟
هي الجملة القليلة الألفاظ الكثيرة المعاني الجملة التي تقول:
(العدل أساس الملك)
وهي أنفع من ألف كتاب في شرح مزايا العدل وأثره في حياطة الملك
أيذكر أحمد أمين الآية المكتوبة في جميع المحاكم المصرية فوق منصة القضاء؟
هي كلمة القرآن المجيد:
(وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)
فهل يعدّ ذلك الإيجاز من الخطأ؟ أم يراه غاية في تذكير الناس بأصول الحقائق؟
يجب أن يعرف الأستاذ أحمد أمين أن العرب لم يستهينوا بالإطناب ولم يعدوه من المبتذلات حتى يحكم بأنهم يرونه من أدب العوامّ لا أدب الخواصّ. فالإطناب أسلوب من البيان يقصد إليه الشاعر والكاتب والخطيب حين يدعو المقام إليه، وهو أسلوب شريف لم يحتقره أحد من أهل البلاغة كما توهم أحمد أمين
وهل كانت سائر الكتب على نمط كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري؟
أين هو من الكتب المطولة التي كان يبعث بها علي بن أبي طالب إلى عماله في الأقاليم البعيدة والأقطار القصية؟ وأين هو من كتب العهود التي صارت بعد ذلك من تقاليد الحكومة الإسلامية؟
وهل كانت سائر الخطب كخطبة زياد وخطبة الحجاج؟
أين هو من الخطباء المطنبين الذي تحدث عنهم الجاحظ في البيان والتبيين؟
أين خطب سحبان الذي كان يهدر بها من الظهر إلى الأصيل؟
أين أحاديث صعصعة بن صوحان؟
أين مشاورة المهدي لأهل بيته، وهي من أنفس الذخائر الأدبية؟
وتحدث أحمد أمين عن الإيجاز الذي التزمه مؤرخو العرب في كتب التراجم وعده من عيوب السليقة العربية، فهل كان ينتظر أن تصاغ تلك التراجم على نحو ما نصنع اليوم، وعلى نحو ما يصنع الأوربيون؟
كان هذا ممكناً لو أن المؤرخ العربي كان يقصر جهده على الترجمة لرجلين أو عشرة رجال، ولكن هذا كان من المستحيل على من يترجمون لعشرات أو مئات أو ألوف
وما الذي قرأ أحمد أمين من كتب التراجم؟
هل عرف كتب الطبقات: طبقات النحويين واللغويين والفقهاء والصوفية؟
إن كان عرف تلك الكتب فليحدثني كيف كان يمكن لرجل مثل السبكي أن يصنع أكثر مما صنع في طبقات الشافعية؟
وليحدثني كيف كان يمكن لأبي الفرج أن يصنع أكثر مما صنع في كتاب الأغاني؟ وليحدثني كيف كان يمكن لياقوت أن يصنع أكثر مما صنع في كتاب إرشاد الأريب؟ وليحدثني كيف كان يمكن للمقري أن يصنع أكثر مما صنع في نفح الطيب؟
لو أن هؤلاء الرجال ترجموا للشعراء والكتاب والخطباء والمؤلفين على نحو ما نصنع اليوم لأضاعوا علينا فرصاً لا تعود أبد الدهر، لأنه كان يستحيل عليهم أن يحدثونا عن جميع تلك الطوائف، وكانت هممهم ستقف عند الترجمة لعدد قليل من أصحاب المواهب في الأقطار العربية والإسلامية
فما الذي يستفيد أحمد أمين حين يغض من أقدار أولئك الرجال، وهو من فضلاتهم يعيش؟
هل يعرف كم ألوفاً من الأدباء والمؤرخين انتفعوا بجهود مؤلف الأغاني؟
هل يعرف أن ابن خلكان الذي احتقره وازدراه أدى مهمة يعجز عنها الأكثرون؟
إن أحمد أمين يعيش في عصر المطبعة، والسبل أمامه ممهدة لنشر ما يشاء، فما الذي صنع، وما الذي صنع زملاؤه في الترجمة لأعلام العصر الحديث؟
ليت دنيانا الحاضرة تعرف رجلاً مثل ياقوت يترجم لأقطاب الفكر والبيان في مصر
والمغرب واليمن والحجاز والشام والعراق!
ليت ثم ليت! فأحمد أمين نفسه لا يعرف شيئاً من التيارات الفكرية في البلاد العربية والإسلامية لهذا العهد، وهو محتاج إلى ثعالبي جديد يعّرف الناس بفضلاء عصره كما صنع أبو منصور حين ترجم لأقطاب القرن الرابع
فما هذه الغطرسة على أسلافكم يا أدباء آخر الزمان؟
وبأي حق تتجنون على رجال أدّوا واجبهم أحسن أداء وهم في قلة من أسباب الرزق؟
إن أحمد أمين لم ير بلداً غير مصر إلا وهو مكفيّ المؤونة بأموال الحكومة المصرية. . . فهل يعرف كيف كان يصنع رجل مثل ياقوت وهو يطوّف بالمغرب والمشرق وعلى ظهره حقيبة يحمل فيها ما يتّجر به ليعيش؟
وأبو هلال الذي يستشهد أحمد أمين بكلامه في الإيجاز والإطناب؟
أبو هلال هذا لم يعرف سهولة العيش التي عرفها أحمد أمين، فقد قست عليه الأقدار حتى اضطرته، وهو من نوابغ الأدباء والمؤلفين إلى كسب قُوته من مزاولة التجارة بالأسواق، وهو الذي يقول:
جلوسي في سوق أبيع وأشتري
…
دليلٌ على أن الأنام قُرودُ
ولو اضطُر أحمد أمين - لا قدر الله ولا سمح - إلى كسب رزقه من مزاولة التجارة في الأسواق لنضب معين فكره وشُغل عن مضغ الكلام في أدب المعدة وأدب الروح. . .!
أُحب أن أعرف ما هي الغاية من تحقير ماضي الأمة العربية؟
أحب أن أعرف لأي غرض شغل أحمد أمين نفسه بالنص على أن عبد الحميد الكاتب فارسيّ الأصل؟
هل يريد القول بأن الأدب التحليليّ وصل إلى العرب من أدباء ليسوا من الأرومة العربية؟
وهو كذلك!
ولكن ما رأيك إذا حدثتك بأن الحضارة العربية هي صاحبة الفضل على عبد الحميد وابن المقفع وسائر من نبغوا في الممالك الإسلامية وهم من أصول أجنبية؟
إنك تعرف أن أعظم ما بقى من آثار ابن المقفع هو الحِكم المبثوثة في الأدب الصغير والأدب الكبير، وهي حِكم يغلب عليها الإيجاز، فهل تعدُ الإيجاز من عيوب تلك الحكم
الخوالد بحجة أن الإيجاز من خصائص البلاغة العربية؟
اتق الله في نفسك، أيها الصديق، فللناس أذواق وعقول وتقول إنك لا تعرف في العربية غير شاعر واحد هو ابن الرومي وكاتب واحد هو ابن خلدون. . . وسترى في الأسبوع المقبل كيف نلتقي في تحرير هذا الموضوع الدقيق.
(للحديث شجون)
زكي مبارك
هل آن للأزهر أن يبعث؟
للأستاذ محمد يوسف موسى
تصفحت بعض أعداد الرسالة الغراء التي صدرت وأنا بفرنسا صيف هذا العام، فرأيت في أحدها كلمة عن إهابه الأستاذ الكاتب علي الطنطاوي بعلماء الأزهر لمساعدته في تأليف كتاب عن الدين الإسلامي، يفيد منه العامة والخاصة والعرب والعجم والمسلم وغير المسلم، وأن هذا الاستنجاد لم يجد له سميعاً فضاع صرخة في وادي كما يقولون
ليطمئن الأستاذ نفسه فليس إلى بلوغ ما يريد من سبيل إلا إذا اعتمد على نفسه وأمثاله من الكتاب الذين يلذ لهم أن يقفوا بعض جهودهم على الدين ونشره، ويجدون التعب في ذلك عذباً جميلاً. أقول ذلك وأنا واثق مما أقول؛ فقد دعوت في أوائل هذا العام المنصرم إلى مثل ما يدعو إليه الآن فما وجدت غير التثبيط وأمثال هذه الكلمات: خَلّ عنك، الله قد وعد بأنه سيظهر الإسلام على الدين كله، وهو ليس في حاجة إلى مثل جهودك وجهودنا! وإلى القراء الأمر على جليته:
نزلت في صيف العام الماضي بفرنسا بعائلة محترمة بمدينة (ليون)، وتأصلت بيني وبينها الروابط لتقارب في العاطفة وتشابه في الميول. ولأنها عائلة محافظة، أعجبها مني قيامي ببعض ما يجب عليّ لله من الصلاة وتلاوة القرآن؛ فكانت أحاديثنا في أوقات الفراغ تدور كثيراً على الإسلام وما فيه من آداب عامة، وشرائع في مختلف مناحي الحياة تصلح للناس جميعاً. وبلغ بهم الأمر أن كانوا يطلبون مني تفسير بعض الآيات التي تشتمل على تلك الآداب والتشريعات، والآيات التي تضمنت أخبار عيسى عليه السلام وأمه العذراء.
وبديهي أن ذلك كان يسرني، وكنت أعمل على تحقيقه جهدي. ثم بدا لي فأعطيتهم القرآن مترجماً للفرنسية ترجمة مناسبة تقريباً.
ولما حان موعد سفري إلى مصر رجوني أن أرسل إليهم كتاباً بالفرنسية جامعاً لأصول الدين التي قام عليها، ومبادئه التي يدعو إليها. . . هنا وقف حمار الشيخ! إذ اعتذرت وأنا خجل بأن مثل هذا الكتاب لم يوضع بعد في اللغة العربية، بل إن أحداً لم يفكر في مثل هذا العمل.
وأخيراً رجعت للوطن بعد أن وعدتهم ببذل الجهد في تحقيق ما يرجون - من وضع كتاب
كهذا يترجم للغات الحية ويوزع في مشارق الأرض ومغاربها بالمجان - لما في ذلك من خدمة عامة وتعريف بالإسلام لدى أقوام لا يعرفون عنه شيئاً، أو لا يعرفون إلا ما ينقله لهم جماعة ساءت نياتهم، فحرفوا واختلفوا وشوهوا الإسلام بما كتبوا.
إلا أني بكل أسف، كما أشرت أولاً، لم أجد هنا مساعداً أو مشجعاً؛ فقد تحدثت في ذلك إلى كثير من إخواني النابهين المدرسين بالكليات - الذين كان لي ملء الثقة في غيرتهم على الدين ونشاطهم في العلم - فكان الإعراض والتثبيط مما جعلني أسوف في الأمر من يوم لآخر حتى انقضى العام الدراسي أو كاد. ويعلم الله أن من بين هؤلاء الإخوان من إذا كلفه أحد الناشرين بمثل هذا العمل أو أشق منه نظير دراهم معدودة لشكر الله على هذا الرزق الذي سيق إليه، ولأعطى من نفسه فوق طاقته حتى ينجز له ما طلب فينقده أجره!
أخيراً جاء أوان السفر هذا العام فسافرت ونزلت بين العائلة نفسها فكان من أول ما سئلت عنه أمر الكتاب الموعود.
لي الله، فما كان أشد خجلي وأعظم حيرتي! وبعد لأي وجمجمة اعتذرت بأن مثل هذا العمل، لخطره ومسئوليته، يتطلب الأناة وطول الوقت حتى يخرج كاملاً بالقدر المستطاع. فهل يرضى السادة شيوخي وإخواني هذا التقصير في أداء واجب ديني يقوم بأكبر منه وأشق مرات ومرات رجال الأديان الأخرى، بينما نقضي أوقاتنا في قال وقيل وأخبار العلاوات والدرجات والسعي لها بمختلف الوسائل!
يميناً بالله أنه لا يخطر لي بالبال تنقص أحد يشرف بالانتساب للأزهر - فلست إلا واحداً منهم ينوبني ما ينوبهم - وإنما هو أمر أحرجني وأخجلني وآلمني فوجدت فرجة للتنفيس عني، وإنما هو إحساس عميق ببعض ما فينا من عيوب؛ والإحساس بالنقص أول الخطوات للسعي نحو الكمال. على أنه لولا حرصي على أن يظل (الطابق مستوراً) لأشرت إلى بعض المقارنات بين كثير من علمائنا ورجال الدين في أوربا، الذين لقيت منهم الكثير من ناحية الثقافة الواسعة الكاملة، وقضاء العمر في طلب العلم وخدمة الدين بدافع من أنفسهم وتربيتهم التي نشأوا عليها، حتى ليصح بحق الكثير منهم ما كنا استأثرنا به طويلاً من أوصاف مشرفة: حبر، بحر، علامة!
وبعد، فهاأنذا - رغم عملي بالأزهر والدراسة الخاصة التي ندبت نفسي لها بفرنسا والتي
تأخذ كل وقتي حتى أيام العطلة - أمد يدي للأستاذ الطنطاوي شاكراً له غيرته التي دعته للتفكير فيما دعا إليه، واعداً حضرته بمساعدته بجهدي القليل وبجهود من أستطيع إقناعهم وضمهم لنا من زملائي، والله يهدي السبيل
محمد يوسف موسى
المدرس بكلية أصول الدين
بحث قانوني مقارن
القتل الخطأ
في الشريعة الإسلامية وفي القانون المصري الحديث
للأستاذ أحمد مختار قطب
من أمد غير طويل ارتفعت صيحات متفرقة تنادي بوجوب بسط القوانين الشرعية على البلاد. . . ولقد وجدت هذه الدعوة مرتعاً خصباً في نفوس عامة الناس. ولما كان من الثابت قطعاً أن السواد الأعظم من الجمهور لا يعرف عن القوانين الشرعية إلا فكرة ضئيلة مشوهة رأيت من ألزم واجبات الرجل القانوني أن يتيح لتلك النفوس فرصة تذوق ما في القوانين الشرعية من صلاح وعدالة وقوة مع مقارنة هذه القوانين بالقانون المصري الحديث
ولقد اخترت القوانين الجنائية لأنها هي التي يظهر فيها الفرق جليّاً بين الشريعة الإسلامية والقوانين الحديثة، ولأنها من جهة أخرى ألصق القوانين بالحياة البشرية. وسأبدأ أبحاثي بجريمة القتل بنوعيها سواء الجريمة العمدية أو غير العمدية
فنبدأ الآن بجريمة القتل الخطأ في الشريعة الإسلامية ثم في القانون الحديث حتى يتسنى لنا أن نحصر أوجه الشبه وأوجه الخلاف بين التشريعين
في الشريعة الإسلامية
أحكام هذه الجريمة مستمدة من الآية الكريمة: (وما كان لمؤمنٍ أن يقتلَ مؤمناً إلا خطأ؛ ومن قتل مؤمناً خطأ فتحريرُ رقبة مؤمنة ودية مسلّمة إلى أهله إلا أن يصدقوا. فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمنٌ فتحريرُ رقبة مؤمنة، وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهَرَينِ متتابعينِ توبةً من اللِّه وكانَ اللُّهُ عليماً حكيماً)
أجملت هذه الآية الكريمة أحكام القتل الخطأ، وبالاستعانة بالسنة النبوية وبأقوال الشراح نستطيع تفصيل هذا الإجمال
(وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ) والخطأ الوارد هنا هو بمعنى عدم القصد. وعدم
القصد هو مناط الإباحة. . .
فالأصل أن الخطأ لا يعاقب الإنسان عليه (ولا جناح عليكم فيما أخطأتم به) ولكن لما نتج عن هذا الخطأ إزهاق روح بشرية صار إثماً ووجب عقاب فاعله على رعونته وإهماله
ولقد عدّد الفقهاء صور الخطأ وأوجهه فقالوا: إن وجوه الخطأ لا تحصى ويربطها جميعاً عدم القصد مثل أن يرمي صفوف المشركين فيصيب مسلماً، أو يسعى بين يديه من يستحق القتل من زان أو محارب أو مرتد فطلبه ليقتله فلقي غيره فظنه هو فقتله فذلك خطأ
وعقوبة هذه الجريمة تختلف باختلاف الشخص الذي وقعت عليه، فإن كان المجني عليه مؤمناً من قوم مؤمنين فله حكم خاص؛ وإن كان مؤمناً منتمياً إلى الأعداء ومقيماً معهم فله حكم آخر؛ وإن كان من قوم معاهدين فله حكم مخالف لما سبق
فإن كان المقتول خطأ مؤمناً من قوم مؤمنين فقد قالت في حكمه الآية الكريمة: (ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلّمة إلى أهله)
فبناءً على ذلك يلتزم القاتل بتحرير رقبة مؤمنة وتسليم دية إلى أهل القتيل، وعلّة إلزام القاتل بتحرير رقبة مؤمنة هو أنه قد تسبب بإهماله ورعونته في قتل نفس مؤمنة كانت تعبد الله فتعين عليه إقامة نفس أخرى محلها، ولا يمكنه ذلك بالإحياء فلا مناص إذن من العتق. ولا تنس ما في هذا العمل من حض ظاهر على إزالة الرق
وهذا العتق من قبيل الكفارة التي ترفع عن المذنب عقوبة الآخرة.
ولقد اشترط العلماء في هذه الرقبة المؤمنة أن تكون رقبة قد عقلت الإيمان، لأن الغرض هو تنصيب إنسان للعبادة بدل الإنسان المقتول، فلا يصلح إذن إعتاق المجنون جنوناً مطبقاً، ومن كان في حكمه.
والعقوبة الثانية هي دفع دية إلى أهل القتيل عوضاً عن دمه، ولقد ذكر القرآن الدية إجمالاً، ولكن السنة وضحت هذا الإجمال إذ ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الدية مائة من الإبل
ولقد توسع العلماء بعد ذلك فقالوا: إن الدية قد لا تدفع من الإبل، بل قد تستبدل ذهباً، فهي عند أهل الذهب ألف دينار، وعند أهل الفضة اثنا عشر ألف درهم، وعند أهل الشاء ألف شاة، وعند أهل الحلل مائتا حلة. . .
على أن دفع هذه الدية حق خالص لورثة القتيل إن شاءوا تنازلوا عنه، وإن شاءوا احتفظوا به؛ أما الكفارة، وهي إعتاق الرقبة المؤمنة، فلا تسقط بإبراء الورثة لأنها حق لله تعالى.
أما إن كان المقتول مؤمناً منتمياً إلى الأعداء، وكان القاتل يعتقد أنه كافر، فقد جاء حكمه في الآية:(فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة) أي أن العقوبة هنا قاصرة على الكفارة، وهي تحرير الرقبة المؤمنة، فلا يلتزم القاتل بدفع دية إلى أهل القتيل، وسقطت الدية لوجهين أحدهما أن أولياء القتيل أعداء للمسلمين، فلا يصح أن تدفع إليهم فينتفعوا بها، والثاني أن حرمة هذا الذي آمن ولم يهاجر قليلة فلا دية له لقوله تعالى: والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا.
والحالة الثالثة تتحقق عندما يكون المقتول خطأ من قوم معاهدين أو ذميين، ففي هذه الحال يجب تحرير الرقبة المؤمنة وتسليم الدية إلى أهله. ونلاحظ أن هذه الحالة لا تفترق عن الحالة الأولى، وسبب الإلزام بدفع الدية هو أنه ما دام المقتول من قوم معاهدين فهم إذن أولى بديته
ثم قالت الآية في آخر الأمر: (ومن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) أي من لم يجد الرقبة، ولا اتسع ماله لشرائها، فصيام شهرين متتابعين يعفيه من هذا الواجب
هذه هي أحكام القتل الخطأ في الشريعة الإسلامية وقد أوردتها بإيجاز يعفي القارئ من التفصيلات المسهبة
في القانون المصري
أما أحكام القانون المصري بالنسبة لهذه الجريمة، فقد وردت في المادة 238 من قانون العقوبات الجديد ونصها (من قتل نفساً خطأ أو تسبب في قتلها بغير قصد ولا تعمد بأن كان ذلك ناشئاً عن رعونة، أو عدم احتياط وتحرز، أو عن إهمال وتفريط، أو عن عدم انتباه وتوق، أو عن عدم مراعاة واتباع للوائح، يعاقب بالحبس أو بغرامة لا تتجاوز مائتي جنيه)
هذه المادة تنص على أن هذه الجريمة نحتاج لنكوّنها إلى الأركان الثلاثة الآتية:
الركن الأول يتلخص في ضرورة صدور خطأ من الجاني، والخطأ هو سبب العقاب، إذ بدونه لا يكون هناك محل لتوقيع العقوبة. . . ويعتبر الخطأ موجوداً كلما ترتب على فعل إرادي نتائج لم يردها الفاعل مباشرة، ولا بطريق غير مباشر، ولكنه كان في وسعه تجنبها
ولقد حدّدت المادة أنواع الخطأ وحصرت هذه الأنواع في الصور الخمس الآتية: وهي الرعونة وعدم الاحتياط والتحرز والإهمال أو التفريط وعدم الانتباه أو التوقي وعدم مراعاة اللوائح
ومما هو جدير بالملاحظة أن عبارات القانون واسعة يندرج تحتها كل أنواع الخطأ
والركن الثاني ضرورة وجود رابطة سببية بين الخطأ والنتيجة؛ وبتعبير آخر ألا يكون من الممكن تصوّر وقوع الجريمة بدون وجود الخطأ. فإن كان الموت مستقلاً عن الخطأ فلا محل للعقاب.
وبتعبير أكثر دقة يجب أن يكون الخطأ من أسباب وقوع الجريمة
وقد يحدث في الحياة العملية أن يساهم المجني عليه بخطأه في إحداث الجريمة؛ ففي هذه الحالة لا ترتفع مسئولية الجاني بل يظل مسئولاً، وإنما تخف مسئوليته بقدر خطأ المجني عليه وأثره في إحداث النتيجة
أما الركن الثالث فهو ضرورة وقوع الموت، وإلا فلا عقاب مهما كان الخطأ في ذاته. وهذا الشرط بديهي لأن الجريمة لا تتم بدونه، إلا أن الخطأ قد يكون في ذاته جريمة يعاقب عليها القانون
هذه هي الأركان التي تتكون منها الجريمة، وبمجرد استيفائها يجب عقاب فاعلها بإحدى العقوبتين الواردتين بالمادة إما الحبس لمدة لا تزيد على ثلاث سنوات، وإما غرامة لا تزيد على مائتي جنيه
ولقد كانت هذه العقوبة في القانون القديم أخف وطأة منها في القانون الحالي، لأن العمل أظهر أن العقوبة المنصوص عليها في القانون القديم وهي الحبس لمدة لا تزيد على سنتين أو غرامة لا تتجاوز خمسين جنيهاً مصرياً لا تكفي في الأحوال التي يكون فيها الخطأ جسيماً أو التي يتعدد فيها المجني عليهم
هذه هي جريمة القتل الخطأ في الشريعة الإسلامية، وفي القانون المصري الذي هو صورة للقانون الفرنسي، ويبدو لنا أن الشريعة الإسلامية تقارب القانون الحديث في بعض الأحوال وتفترق عنه في غيرها. فهي تشبهه في الوجهة العامة من حيث اشتراط الخطأ وصوره وأوجهه، ولكنها تختلف عنه اختلافاً بيناً في العقوبة. وعندي أن أساس هذا الاختلاف
هوتغير الأوضاع الاجتماعية، فعقوبة إعتاق الرقبة أساسها نظام اجتماعي يسود فيه الرق
ولكني أعتقد أنه بقليل من الاجتهاد نستطيع التوفيق بين القانون والشريعة فنطور القانون إلى أن يوافق الأسس الشرعية التي لا تقبل التغيير، ونطور بعض الأحكام الشرعية التي روعي في وضعها تغيرها بالزمان والمكان
أحمد مختار قطب المحامي
صفحة من التاريخ المغربي المجهول
تاريخ سلطنة الطلبة
للأستاذ إدريس الكتاني
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
وعلى ضوء ما تقدم من حياة السلطان الرشيد نستطيع الآن أن نقول: إن الرشيد كان والده ملكاً على الصحراء بعد أن ولد هو بعام فقط، ثم تولى أخوه محمد الملك يوم أن كان هو لا يتجاوز من العمر عشر سنين، فقد نشأ الرشيد بين أحضان الملكين والده وأخيه؛ ثم إن السن التي يمكن أن يكون الرشيد فيها طالباً بجامعة تبعد عن بلده بعشرات الأيام، لا تقل مطلقاً عن خمسة عشر عاماً إن لم تكن فوقها بكثير. . . والرشيد في مثل هذه السن كانت دولة أخيه وقتئذ آخذة في القوة والانتشار، لكنها لم تبلغ فاسا. . . فلو أن الرشيد سار إلى جامعة القرويين طالباً، لسار إليها على أنه ابن ملك وأخو ملك، لا على أنه طالب عادي كما في القصة الآنفة الذكر. فإذا ذكرنا أيضاً أن الخصومة السياسية بين السلطان محمد ملك الصحراء وولاة فاس قد تكون حجر عثرة في ذهاب الرشيد إلى فاس تأكد لدينا بطلان تلك القصة. . . أضف إلى هذا أن كل من أرخوا للرشيد لم يذكروا أنه دخل فاسا إلا يوم أن دخلها فاتحاً
وهذه أسطورة أخرى لا تقل في التنسيق وبراعة الحبك عن سابقتها. تتحدث الأقوام التي رام على قلوبها الجهل فتبدع قصة من الخيال لتكون تاريخاً لسلطنة الطلبة. ولماذا نعيب على هؤلاء الأقوام جهالتهم وقد سكت حضرات المؤرخين عموماً عن صفحة ناصعة من التاريخ المغربي المشرق، ولم يستفز شعورهم مغزى تلك السلطنة التي تحمل في جوانبها نبل الغرض وشرف الغاية، وكان خليقاً بهم أن يكتبوا تاريخ (سلطنة الطلبة) بإسهاب ويبدعوا في وصف تلك المظاهر والمناظر أبدع الوصف، وحتى الشعراء - وهذا هو الغريب - كان لهم وجوم غامض أمام هذه السلطنة لست أدري أكان ناشئاً عن عدم تقديرهم لمغزاها السامي أم أن شعورهم كان قد انحط في هذين القرنين المتأخرين فلم يعد منهم من يذكرنا بمثل أبي تمام وأبي العلاء والمتنبي من شعراء القديم، أو بمثل شوقي وحافظ وإقبال
من متأخري الشعراء، وإنما كان هناك شعراء حافظوا بكل أمانة على أوزان الشعر وقوافيه، ولم يخرجوا قيد شبر عن بحور الخليل وأنهار تابعيه، وأحسب من هنا جاءت العلة الأولى أيضاً، فكان مفهوماً ألا يهتم شعراؤنا - سامحهم الشعر - بسلطنة الطلبة وما تحويه من معاني الشعر والخيال. وأنى لهم ذلك الحس المرهف، والفكر المصقول، والقلب الشاعر، وهم إنما دخلوا إلى الشعر من باب الأوزان والقوافي؟!
قال رواة الأسطورة التاريخية: عندما أخذت الدولة السعدية في الانحلال والانخذال بعد وفاة المنصور السعدي، نشأ في كل مقاطعة من أرض المغرب رؤساء وزعماء يتولون حكم مقاطعتهم مستقلين تمام الاستقلال عن باقي المقاطعات الأخرى، فكان من سوء حظ مدينة تازة أن جار على مقاطعتها يهودي يدعى ابن مشعل، وامتد نفوذه إلى فاس فأرغم أهلها على تقديم هدية رسمية إليه عند رأس كل سنة. وليس هذا هو الغريب إنما الغريب أن تكون هذه الهدية عبارة عن أجمل فتاة في أكبر أسرة بفاس تقدم إلى ابن مشعل لتكون واحدة من جواريه وخدمه في قصر إمارته، كدليل على إخلاص الفاسيين له، وخضوعهم لحكمه
يالها من خرافة ما أشد سخافتها وبلاهتها عند من يعرفون المغاربة عموماً وأهل فاس على الخصوص! أتبلغ الجرأة بيهودي حقير إلى أن يصير حاكماً على بلد إسلامي، ثم يتجاوز هذا فيرغم بحكم سلطته بلداً عريقاً في الأسلام على أن يقود له أجمل وأشرف فتياته إلى دار الفسق والهوان؟
عندما تسيل آخر نقطة من الدم العربي الطاهر الذي يعيش على وجه البسيطة في المشارق والمغارب، عند ذلك يصح أن يكون لليهود حكم على العرب، أعني على أرض العرب
إيه يا فلسطين، عشت للعرب وعاش العرب لفلسطين
وعادت الأسطورة فقالت: ثم ما لبث أمر اليهودي أن سمع به شاب عربي صميم يدعى الرشيد بن الشريف فأخذته النخوة العربية ونفخت في أعصابه روحاً من الشهامة والإباء وكان طالباً من طلبة الجامعة القروية
فماذا فعل الرشيد يا ترى؟ لقد جمع حوله أربعين شاباً من صناديد الطلاب، ثم تم الاتفاق بينه وبين القائمين بأمر الهدية التي تقدم لليهودي على أن يكون هو هذه الفتاة العذراء التي
ستهدى هذه المرة، وأن يكون أصحابه الأربعون في مكان (شورة) العروس، والمراد أن يندس هؤلاء الشبان داخل القبب التي تكون في صحبة العروس، وأن يكونوا عوناً لزعيمهم على ما يريد.
وتم كل شيء، فتسلح زعيم الطلبة الرشيد بن الشريف كما تسلح أبطاله الأربعون واتخذوا مطاياهم من الجمال فوقها الأخبية والقبب، وسار موكب الفتاة من فاس إلى ضواحي تازة من غير أن يكون فيه ما يبعث على الارتياب والظنون.
ولو كان لابن مشعل قليل من دهاء الزباء لأنشد مثل ما أنشدت هي في قصتها الشهيرة إذ قالت:
ما للجمال مشيها وئيداً
أجندلا يحملن أم حديداً
أم صَرفَانا تارزا شديداً
ولو أن ابن مشعل قال هذا لأجابه الرشيد في نفسه:
بل الرجال قبضاً قعودا
ثم قالت الأسطورة: ووصل الركب إلى دار ابن مشعل من غير أن تحوم حوله ريبة أو شكوك، فاستقبله اليهودي بسرور الظافر، وغبطة المنتصر، وأمر في الحال بإغلاق أبواب الدار، إذ كان قد استعجل لقاء الفتاة التي لن يجد شبيهتها في بنات إسرائيل، ولكنه ما استعجل إلا لقاء حتفه؛ فلقد حدث ما لم يكن في الحسبان من قبل. لم يشعر المسكين أن رأى جيشاً من الأبطال الغائصين في سلاحهم قد أحاطوا به إحاطة الجزارين بالذبيح؛ ثم سالت الدماء في بطاح دار ابن مشعل، حتى لم يبق بها دم حي
وفي صباح اليوم التالي أجمعت كلمة الطلبة الأربعين على مبايعة زعيمهم الرشيد فبايعوه على سنة الله ورسوله ملكاً على المملكة المغربية.
وأراد الرشيد أن يكافئ رجاله الأشداء على ما قاموا به من أعمال جسام، فأقام لهم سلطنة هزلية مؤقتة، وجعلها إرثاً مشاعاً بين جميع طلاب الجامعة القروية - عدا الفاسيين - يتبوأن عرشها أسبوعاً واحداً في العام كله
تلك هي الأسطورة التي تسير على أفواه رواة التاريخ المجهول؛ ولعلنا لا نحتاج إلى
تضعيفها من الوجهة التاريخية بعد ما ذكرناه عن حياة السلطان الرشيد وكيفية جلوسه على عرش الملك المغربي العتيد
وبرغم ما في هذه الأسطورة من التزيد والتلفيق فإنها تستند في أصل وضعها إلى شيء من الحقائق التاريخية التي أشار إليها بعض الثقات من المؤرخين، فإنه قال ما معناه: وفد السلطان الرشيد يوم كان يتهيأ للجلوس على عرش المغرب ويعمل على إفهام الشعب أنه خليق بهذا العرش على رئيس يدعى الشيخ اللواتي، وبينا هو في ضيافته إذ رأى رجلاً يصطاد في هيئة الملوك وحوله حاشية من المماليك والفرسان فسأل عنه فقيل هو ابن مشعل من يهود تازة وقد عتا فيها وتجبر. فتنحى الرشيد سريعاً وجعل السكين في فمه (وذلك علامة تأكيد الاستعطاف والاستنجاد في أخذ الثأر ونحوه) واستقبل الشيخ اللواتي، فلما رآه هذا بادر إليه قائلاً: لبيك يا سيدي! نفسي ومالي طوع يديك. فأخبره الرشيد بما رأى ورجاه أن يؤلف له كتيبة من إخوانه الأشداء ليفتك بهذا اليهودي الذي يستطيل بنفسه على المسلمين وهو تحت حكمهم وفي أرضهم. فجرد له الشيخ اللواتي جيشاً من العرب البواسل تبلغ عدته نحو الخمسمائة وتواعد الرشيد مع جيشه الصغير على أن يلحقوا به متفرقين مختفين تحت أستار الظلام
وسار الرشيد إلى دار ابن مشعل التي تبعُد عن تازة ببضعة أميال، واستضاف اليهودي فأضافه. وعندما جن الليل، وهجع الناس كان رجال الرشيد قد أحاطوا بالدار وهم تحت السلاح، وعندئذ تسلل الرشيد من مضجعه، واحتال في دخول بيت ابن مشعل فبطش به في صمت ثم أشار لأصحابه فتسلقوا الأسوار وهجموا من كل جانب، ولم يشعر ساكنو القصر حتى وجدوا أنفسهم مغلولين في الأصفاد لا يستطيعون خلاصاً مما وقعوا فيه
وهكذا نجح الرشيد في هذه المؤامرة وأضاف إلى نفسه ما وجده من الأموال والذخائر فاشتد بها ساعده وقوى نفوذه
ويقف بنا المؤرخ عند هذا الحد فلا يذكر شيئاً عن سلطنة الطلبة. غير أنا نستطيع نحن أن نتم القصة بما رواه أحد العلماء استطراداً إذ قال: إن مولاي الرشيد هو الذي سن نزهة الطلبة التي جرى بها العمل كل سنة بفاس ومراكش أيام الربيع وذلك أنه لما فتك بابن مشعل واحتوى على ما كان لديه من الذخائر جعل لمن كان في معييته من الطلبة نزهة
فاخرة، وقد كانوا نحو الخمسمائة ومن يومئذ اتخذت عادة سنوية مدة حياته وبعد موته
هذا هو التاريخ المفصل (لسلطنة الطلبة)، وهو تاريخ طويت صحائفه وجهلت أطواره منذ نشأته الأولى حتى الآن، ومن عجيب الصدف أن يقرأه الشرقيون - والمغاربة منهم - في آن واحد لأول مرة. ولعل من المؤلم أن أذكر هنا أن كثيراً من سلاطين الطلبة الذين سبق لهم أن جلسوا على عروش مملكة الطلاب كانوا يجهلون تمام الجهل تاريخ مملكتهم وعروشهم. ولو سألت آخر سلاطينهم - كما سألت أنا - عن سبب زيارتهم لضريح أبي الحسن علي بن حرزهم، لأجابك بما لا يرضي الحقيقة والتاريخ. ويجهل أن ذهابه لذلك الضريح إنما كان للترحم على الروح الشريف الذي كان السبب في جلوسه على عرش تلك السلطنة.
ولكن هل كان يضره هذا الجهل المعيب؟
حسبي أن أسكت الآن. وهل كان يهمني من كل هذا إلا أن ألفت نظر أبناء عمومتنا وخئولتنا في أقطار العروبة والإسلام إلى هذه القطعة الواسعة من دنياهم الإسلامية ليطلعوا على صفحة من تاريخ مجدها ألتالد والطريف؟
فيا شباب العرب سددوا سواعدكم لتحيوا مجد العرب
واذكروا دائماً أن لكم قطراً عربياً طالما صدفتم عنه وفيه أمة تريد أن تعيش لتحي مجد الإسلام والعرب
عاش العرب، وعاش الإسلام
(فاس)
إدريس الكتاني
من الأدب الفرنسي
امرأة نوح. . .
للأستاذ ناجي الطنطاوي
تناول الكاتب الكبير (جان نوروا) في هدأة من الليل، في غرفة عمله المنعزلة، الكتاب الذي وقع تحت يده وفتحه، فالتقت نظراته بهذه الجملة:
(. . . عندئذ أمطر الله من السموات على سدوم وعمورة الكبريت والنيران. . .
ولكن امرأة نوح نظرت خلفها، فانقلبت في الحال تمثالاً من الحجر. . .)
فقرأها، ثم أغلق الكتاب المقدس
لقد كان هذا مع خياله الواسع، نقطة ابتداء كافية جداً. . . لقد وجد قصته. لم يبق إلا أن يسكبها في قالب جديد. ولفت نظره، في جريدة بجانبه، هذا العنوان الضخم:
(انتحار شاب في مطعم ليلي)
فقرأه وابتسم. . . لقد تم له ما يريد، وتألفت القصة. ليس هناك حاجة إلى النظر في أعمدة الجريدة. لقد كان بطله ماثلاً أمامه، يراه بوضوح: فتى ممشوق القد، في العشرين من سنه، أحرقته حمى حب ملتهب، ولم تكن لديه الشجاعة الكافية للفرار فهلك. وما الفائدة من الاطلاع على التفاصيل التي توصل إليها مخبر الصحيفة؟ لقد كانت عناصر الموضوع وتفاصيله التي تبعث فيه الحياة، كانت تتجمع لديه شيئاً فشيئاً: المرأة الأفاقة، والفتى الضحية. . . وأخيراً الحكيم الذي تجده في كل قصة (صورة المؤلف ذاته)
كان جان نوروا يحس لذة فائقة في هذا التلاعب. ولكن كان يخيل إليه أن الكلمات والحوادث تأتيه هذه المرة بأسرع وأحسن من كل يوم.
وانقبض صدره فجاءة. لماذا تسيل الكلمات بهذه السهولة على ريشته هذا المساء؟
وتذكر أن هذه الكلمات ذاتها خرجت من بين شفتيه قبل الآن. . . ومنذ وقت قريب. . . على أثر مأساة كادت تزعزع كيانه
وأخذ يفتش، كالمحموم، بين أوراقه المبعثرة على المكتب. . .
وكان يتمتم: (مستحيل! ليس من الممكن أن يكون (هو) قد وصل)
و (هو) كان ولده الذي تبناه، موريس لا ندري، ابن أعز أصدقائه عليه. شاب حدث، قاد
خطواته في الحياة. يتيم، أخلص له، هو، جان نوروا، الأعزب الأناني.
لقد كان يذكر كيف تقبله عنده، وكيف أخذ يملأ قلبه وعقله من عقله وقلبه.
أجل، لم تكن جائزة جونكور التي نالها موريس في السنة الماضية إلا له هو، جان نوروا، ولولاه ما نالها. . .
ولكن ما كان أشد المأساة التي تبعت هذا النصر!
لقد علقت بموريس امرأة خطرة، فتأثر بها بشكل مزعج، بحيث أصبح من الضروري أن يتدخل جان نوروا، بقسوة في الأمر.
أين كانت ستقوده هذه المخلوقة بعد تبديد دراهمه القليلة؟ إلى الجنون؟ إلى السرقة؟ إلى الجريمة؟ ربما
لقد قال له وهو يعظه: (انتقل من هذا البلد. غيّر هذه الحياة. سافر دون أن تلتفت وراءك، وإلا فأنت هالك)
هه!. . . جملة التوراة بذاتها
وكانت تضطرب في يده إشارة تلغرافية من سَيْفون (الهند الصينية):
(ضجرت جداً. . . سأعود. . . أصدق عواطفي. . . موريس)
لقد غاظته هذه الإشارة حين تلقاها. النذل! وأخيراً، لا مناص من الحزم. لشدّ ما ساءه هذا
وهاهي ذي إشارة أخرى بين يديه:
(سَفْرة هانئة. . . سأكون في فرنسا قريباً. . . أعانقك)
وإذن ماذا؟
وكان جان نوروا يلتهم خبر الجريدة بنظراته. ما كان أروع هذه التفاصيل:
(بعد أن تعشى في المكان المذكور مع امرأة ذات هيئة غريبة، وبعد أن ذهبت صاحبته في الصباح الباكر، طلب الفتى غرفة خاصة وأخذ يحتسي فيها وحيداً أكواب الشمبانيا. وبعد نصف ساعة كانوا يخرجون به منها وقد اخترقت صدغه رصاصة. والبحوث الأولى تحمل على الظن بأن الفتى عائد من المستعمرات. ومع ذلك لم يتمكن من معرفة هويته)
وكان صوت خفي يصيح بجان نوروا: (ليس هناك أي شك، هذا الشاب المجنون هو موريس. . . موريس العزيز! وليس عليّ إلا أن أعدوا، لا أدري أين، للتعرف على جثته!)
وكان جان قد وقف
وطُرق الباب في تلك اللحظة. . . فعرته رعشة وتمايل أليس هذا هو الخبر المشؤوم يحملونه إليه؟ وقفز. . .
ومع ذلك كان يتردد ويده على الباب
ولكن القرع عاود. . .
- أبي العزيز، أبي العزيز! هذا أنا! هذا ما كان يصيح به صوت عزيز عليه. . .
وفتح الباب سريعاً. . .
وبدا موريس جميلاً كالشبح
- أنت؟ أنت؟ أهذا أنت؟
- ولم الدهشة؟ ألم أخبرك بقدومي؟
- و. . . قدمت. . . من المحطة؟
- ومن أين تراني إذن أقدم؟
ومد له (جان) ذراعيه، فاندفع فيهما
ثم قال موريس:
- ما أشد سروري برؤيتك! كم ضجرت، باريز. باريز العزيزة! لم أكد أخترقها، حتى أحياني جوها!
وكان سكون. . . كان (جان نوروا) يفترس ابنه بنظراته كما لو كان يحاول الوصول إلى أعماق فكره. ثم صاح به وقد اصطكت أسنانه:
- لماذا عدت؟
فأجابه موريس مازحاً:
- لأني عاشق
- أتجرؤ؟
- ولم لا، يا أبي العزيز؟ فكرت فيها فوجدتها ساحرة ولا أدري في الحقيقة ما الذي يمنعني من زواجها. . .
- هم؟!
وكان جان نوروا قد رفع قبضته. وصاح به:
- أنت مجنون
- أوه، ما هذا الذي تقول؟
- ما أقول؟ ستعود إلى السفر حالاً دون أن ترى (كريستيان) امرأة السوء هذه
فانفجر موريس ضاحكاً:
- ولكنني لا أتكلم عن كريستيان! هه، لقد نسيتها منذ زمن. . . أريد أن أتزوج فتاة - فتاة حقاً - لاقيتها هناك مع أسرتها، وقد عادت إلى باريس
ولم يعد جان يصغي إلى ما يقول، بل كان يضمه إليه
وقال موريس:
- ما أحسنك الآن! لقد قطعت عليك عملك فيما أظن، فأنت فيما أعرف لا تنقطع عن العمل، أليس كذلك؟ لقد قرأت هناك مؤلفك الأخير. بماذا تشتغل الآن؟
فرمى جان نوروا قطعة من الورق على ما كان يكتب، ولكنه لم يصب الهدف، وصاح موريس:
- امرأة نوح! هه، هذه القصة القديمة! مسخت تمثالاً من الحجر جزاء التفاتة! أعجب دائماً برموز الكتاب المقدس!
أما هذه النقطة فلن نتفاهم عليها قط.
فأجاب جان بحرارة:
- كلا، لا تستطيع أن تفهم، ولن تتخيل يا صغيري كم يسرني هذه المرة ألاّ تفهم!. . .
(دمشق)
ترجمة
ناجي الطنطاوي
في الأدب الإنجليزي الحديث
د. هـ. لورنس
للأستاذ عبد الحميد حمدي
3 -
السبيل إلى فهم فلسفته
يعجز الكثيرون - ومن بينهم كبار النقاد ومشهورو الكتاب - عن فهم لورنس وفلسفته، وما ذلك إلا لأن سلاحهم هو العقل وحده، وعمادهم هو المنطق والقوانين المنطقية.
فأول ما يجب أن يراعيه دارس لورنس هو أن هذا الكاتب ليس مما يسهل فهمه بالعقل، وإنما إلى جانب ذلك يجب أن يستعين القارئ بخياله وتجاربه وشعوره الجسماني. فلورنس قبل أن يصل إلى آرائه وقبل أن يستخلص فلسفته لم يلجأ إلى العقل أو التفكير بل كان عماده الغرائز الطبيعية ووحيه الرغبات الجسمية. والحقيقة أن لورنس رجل نحسه في دمنا، وفلسفته تختلف عن فلسفة كل من سبقه من الكتاب والشعراء، فهي ليست بناء شامخاً من العقل والتفكير، وإنما هي تجربة أو سلسلة من التجارب أحسها صاحبها في دمه ثم نقلها إلينا في صورة كلمات. وواجبنا نحن عند دراستها أن نرد هذه الكلمات إلى أصلها فنحسها كتجربة تجري في دمنا، كما كان الحال مع صاحبها في أول الأمر، فنحن إذ نقرأ لورنس فإنما نصحبه في رحلة طويلة في عالم جديد علينا.
ولما كانت كتب لورنس هي عبارة عن قصة روح تجول في العالم الإنساني تبرز ما في المجتمع من عيوب، وتحذر الناس من تيار المدنية الحديثة الذي قد يجرفهم إلى هاوية لا يعرف لها قرار، فواجبنا عند دراسة لورنس أن ندرس تجاربه التي على ضوئها وصل هو إلى آرائه وأفكاره التي ضمنها كتبه. ويجب أن نذكر دواماً أن لورنس كان فناناً قبل أن يكون كاتباً، حتى نفهم أن تجاربه وحدها ما كانت لتكفيه، فعمد إلى توسيعها والتعمق فيها، بل والتفاني في وصفها أحياناً. ومن ثم كانت شخصيات رواياته حقيقية وغير حقيقية. فهي حقيقية لأنها منقولة من الحياة وأصلها في الحياة، وغير حقيقية لأنها تأتي من الأعمال ما قد يختلف عما تأتيه مثيلاتها في الحياة. وقد كانت هذه الظاهرة أو هذا التناقض سبباً في فشل كثير ممن حاولوا دراسة لورنس، لأنهم لم يحسبوا لهذه النقطة حساباً
ويختلف لورنس عن غيره من كتاب عصره في توجيه اهتمامه إلى اللاشعور أكثر منه إلى الشعور. ومن ثم كان الاختلاف البيَّن بين شخصيات رواياته وبين شخصيات الروايات الأخرى. فالأولى تعمل مدفوعة بقوانين أعمق من قوانين شخصيات الروايات الثانية، فهي أكثر حساسية وطواعية لقانون اللاشعور من الأخرى، وكان هذا الاختلاف مصدر صعوبة كبيرة في فهم ما يرمي إليه لورنس في بعض كتبه.
ولم يغب عن الكاتب مبلغ ما سوف يلاقيه قراؤه من العناء في فهم هذه الكتب فعمد إلى بسط آرائه وشرحها بطريقة مباشرة لا رموز فيها ولا أحاجي في بعض كتبه التي من أهمها كتاباه عن تحليل اللاشعور وكتابه الذي يحتوي على مقالات متنوعة؛ وأخيراً كتابه الذي طبع بعد وفاته واسمه (فينكس)
ومن أكبر الصعاب التي صادفت لورنس أنه قام يبشر بدين الجسم ويبث الدعاية له بين قوم عبدوا العقل ونصبوه إلهاً عليهم، وكان لزاماً عليه أن يأتي بالمعجزات قبل أن يستطيع تحويل الناس عما يعتقدون إلى ما يعتقده هو.
رأى لورنس هذه الصعوبة، ولكنه كان لا يعرف لليأس معنى، ولا كان الفشل يعرف له طريقاً رغم أنه كان يصدم المرة بعد المرة، وما ذلك إلا لأنه كان واثقاً من صدق رسالته، ومن الفوز في النهاية. لقد شعر في داخلية نفسه بالصراع العنيف بين الجسم والعقل، كل يريد أن يبسط سلطانه ويسيطر على الآخر. وهذا هو السبب في أن القارئ المدقق يجد دائماً في كل شخصية من شخصيات روايات لورنس تيارين من الحياة: تيار الحياة العادية وتيار الحياة الرمزية، بمعنى أن لورنس كان يرى في كل شخصية قوتين: قوة العقل التي تحاول أن تجعل كل شيء يبدو صحيحاً، حتى ولو عاد على صاحبها بالضر، والقوة الثانية هي قوة الجسم الغريزية، وهذه لا تخدع ولا تُخدع، فما يعود على صاحبها بالضرر تجنبته، وبالعكس تقبل على ما فيه مصلحة صاحبها لا يؤثر فيها مؤثر ولا يثنيها عن طريقها مغر من المغريات الصناعية. ولقد لاحظ لورنس على حياتنا الحديثة أننا بدأنا نضرب بقوة الجسم ورغباته عرض الحائط، وبذلك نمهد السبيل لسيادة العقل ويسطرته علينا. ومن ثم كان الصراع العنيف الذي يجري في داخل شخصيات لورنس التي ترمي إلى كسر قيود العقل والتحرر من ربقة استعباده، حتى توفق إلى الاستماع إلى رغبات الجسم ثم العمل
على تحقيقها، وبهذه الطريقة تستكمل الحياة الصحيحة الحقة. ويرى لورنس أن رغبات الجسم لا تكذب قط، فالجسم هو الذي يشعر بالجوع والعطش، وهو الذي يشعر بالفرح والحزن، وهو الذي يشعر بالحب والكره، وهو الذي يشعر بالعطف والنفور، وهو الذي يشعر بالحنو والصد وما إلى ذلك من العواطف التي مرجعها الجسم وحده، وأما العقل فلا تتعدى وظيفته تسجيل هذه العواطف والاعتراف بها
وإن حياة الجسم لتظل طبيعية حتى يتدخل فيها العقل، فيحدث الانقسام ويبدأ التفريق بين الخير والشر، وهذا أساس شقاء البشر، وهذا الانقسام هو نتيجة لرغبة العقل في تقييد الجسم والحد من حريته، فهو لا يريد أن يتركه يشعر كما يشاء أو يطلب ما يريد، ثم لا يقتصر الأمر على ذلك، بل يحاول العقل أن يملي على الجسم طائفة من العواطف ينعتها له بأنها الخير، ويحرم عليه طائفة أخرى على اعتبار أنها الشر، وبمعنى آخر يحاول العقل أن يبسط علينا سيطرته ثم يتحكم فينا بعد ذلك فيفرض علينا ما يجب أن نشعر به وما لا يجب أن نشعر به؛ ثم بعد ذلك يفرض علينا كيف نشعر بهذه العواطف التي اختارها لنا، ويستمر العقل على مسلكه هذا كلما أنس من الجسم خضوعاً وخنوعاً، حتى يأتي الوقت الذي تموت فيه كل مشاعر الجسم وعواطفه، ولا يبقى سوى هذه العواطف المصطنعة المتكلفة التي صاغها لنا العقل وخدع بها الجسم. وقد مثل لورنس شخصية الرجل الحديث في روايته المصادرة (عشيق لادي تشاترلي) تحت أسم كليفورد الذي يدعو إلى العواطف المنظمة التي يرسمها لنا العقل، ويدعو كذلك إلى استئصال العواطف الجائشة الطبيعية التي لم يتناولها العقل بالتهذيب والتشذيب
ويرمي لورنس من كتاباته سواء في ذلك رواياته الطويلة أو قصصه القصيرة، أو مسرحياته الأربع، أو كتب أسفاره، أو مجموعة أشعاره، إلى فك قيود الجسم وتخليصه من الأغلال التي أصبح يرسف فيها منذ أمد طويل. ويرى لورنس أن الوسيلة الوحيدة للوصول إلى هذه الغاية لا تكون إلا بترك الجسم يستمع إلى أحلامه، وينفذ رغباته دون أن يكون عليه من العقل رقيب أو محاسب، وبمعنى آخر يريد لورنس أن يوقظ الجسم من سباته العميق، أو يبعثه من رمسه بعد أن دفنته المدنية الحديثة ووارته التراب. ففي القصة القصيرة المسماة:(شمس)، ترى المرأة وقد استلقت عارية، لتهب نفسها للشمس، لأنه
شعرت برغبة جسمها في ذلك، وبذلك تتغلغل الشمس في جسمها وتشعر المرأة بالحياة قد دبت فيه، وتسير، وقد امتلأت حيوية وجمالاً. لم تسأل المرأة نفسها: لِمَ يطلب جسمها الشمس، ولِمَ رغب فيها، لأن هذه الأسئلة هي من صنع العقل وابتكاره. لم تفكر المرأة في العقل ولا في أسئلته أو منطقه، وإنما حصرت كل تفكيرها في جسمها، فعمدت إلى إعطائه ما يطلب، حتى إذا فعلت شعرت كأن ينبوع الحياة قد تفجر من جسمها من جديد، بعد أن جف ماؤه أو كاد. . . ولقد اختار لنا لورنس هذه المرأة مثالاً نحتذيه ونقلده، بعد أن رأى الناس قد أعطوا العقل أهمية لا يستحقها، ورفعوه إلى مكانة ما كان له أن يرتفع إليها. لقد أولوا أسئلته أذناً صاغية، وكان من أثر ذلك أن تحكم فيهم العقل وتسيطر عليهم، وكل ذلك على حساب الجسم، وكانت النتيجة الحتمية أن بات الناس يعيشون، وما هم بأحياء. خلق لهم العقل حالة وأجبرهم على الاستقرار فيها دون تغيير أو تبديل، وهذا أبعد ما يكون عن الحياة الصحيحة. ونحن نشاهد أثر ذلك في فشل كثير من الزيجات في عصرنا هذا، لأن حبنا في الحقيقة إنما هو وليد العقل لا دخل للجسم فيه، وأما الزواج الحقيقي فأساسه الجسم وعماده الرغبات الجنسية، ولذلك نجد أن زواج العقل الحديث مآله إلى فشل ثم إلى طلاق.
ونحن لا ننكر أن كثيراً من علماء علم النفس أمثال ولجوا باب اللاشعور قبل لورنس وحاولوا تحليله، ولكنهم اتبعوا في ذلك الطريقة العلمية التي تعتمد قبل كل شيء على العقل، وحذا حذوهم بعض الكتاب العصريين أمثال أندريه هكسلي فلم يتركوا باباً دون أن يلجوه، فكتبوا في اللاشعور، ولكن كان رائدهم في ذلك العقل والتفكير، حتى تجاربهم العلمية أعطوها صبغة عقلية محضة، ولذلك فشلوا حيث نجح لورنس لأنه لم يعتمد على غير تجاربه الخاصة التي ترجمها إلى لغة جسمانية صريحة أثارت المجتمع وأقامته ضده
حتى في خلق شخصيات رواياته، لم يستلهم سوى غرائزه وحواسه. وكان هذا سبباً في عجز كثير من الكتاب العقليين عن فهم لورنس وإدراك فلسفته، ولكنهم لم يترددوا في الاعتراف له بقصب السبق وتفوقه عليهم في مضمار العبقرية والنبوغ. فنرى لورنس الحميم أثناء حياته وعدوه اللدود بعد مماته يقول في كتابه المسمى (ذكريات عن لورنس): (إن للورنس من التجارب ما لا طاقة لنا على فهمه أو إدراكه. ولم يكن أصدقاؤه ليستطيعوا أن يجاروه أو يسيروا معه جنباً إلى جنب نظراً لأن ما يراه هو سهلاً بسيطاً يدق على إفهام
الكثيرين ويصعب فهمه). ثم يقول هكسلي في أحد كتبه عن لورنس: (إن صحبة الإنسان للورنس عبارة عن اشتراكه وإياه في مغامرة استكشافية يرى فيها الإنسان كل ما هو جديد عليه. وذلك لأن لورنس يعيش في عالم غير عالمنا، ويرى ما لا نرى، ويستخلص مما يرى ما نعجز نحن عن استخلاصه. والحياة في نظر لورنس ما هي إلا دور نقاهة طويل يشعر فيه الإنسان وكأنه قد خلق من جديد في كل يوم وفي كل لحظة. . . ولورنس يعرف كل شيء عن كل شيء، فهو يعرف الشجرة وكنهها، والزهرة وأصلها، والقمر وما يحيط به من إبهام وغموض، وفي مقدوره أن يتقمص جسم أي حيوان ثم يحدثنا بإسهاب وتطويل كيف يشعر هذا الحيوان وكيف يحس وكيف يفكر)
وهناك نقطة أخرى يحار كثير من القراء في فهمها، لأنها غير مألوفة لديهم، وهي أن شخصيات روايات لورنس سهلة الانتقال من النقيض إلى النقيض في أقصر وقت، فمن اليأس إلى الأمل، ومن الحزن إلى السرور، أو من الغضب إلى الرضا، ومن الانفعال إلى الهدوء. وهذه الظاهرة وإن كنا لا نلحظها في حياتنا العادية إلا أنها موجودة حقاً بين الشعراء والفنانين. ولما كان لورنس نفسه شاعراً فناناً فقد عمد إلى خلع بعض مواهبه على شخصيات رواياته بأن خلق فيهم هذه الحساسية المرهفة. ولورنس ليس من أولئك الذين يرون حداً فاصلاً بين الحقيقة والخيال، بل يراهما متداخلين تداخلاً تاماً، وهذا ما عنى بتصويره في رواياته نقلاً عن الحياة. ففي رواياته (سانت مور) و (قوس قزح) و (غرام النساء) لا يكاد القارئ يتبين الخط الذي يفصل بين الحلم والحقيقة ولا يسهل عليه أن يتعرف من أين تبدأ الحقيقة ومن أين يبدأ الحلم وأين ينتهي كل منهما. وهذا الرأي وإن يكن غير مألوف في روايات كتاب العصر الحالي إلا أنه موجود حقاً في الحياة، ولورنس إذ يكتب يصور لنا الحياة كما يراها هو لا كما اتفق الناس على أن تكون.
وثمة صعوبة أخرى تعترض بعض قراء لورنس وتقعدهم عن فهمه أحياناً، ألا وهي اللغة التي يستعملها في نقل فلسفته غير المألوفة لنا. فلورنس وهو يترجم تجاربه في صورة كلمات يحاول جهد طاقته أن يشرك القارئ في نفس التجربة التي مر بها هو ويشعره بها كأنها تجربته الخاصة، وطريقة إلى ذلك هو صوغها في لغة تتفق والتجربة تماماً. فهو يبذل المستحيل كي ينتقي من الكلمات ما يناسب كل إحساس جسماني، كما يحاول في
الوقت نفسه أن يتخير التعبيرات التي توافق كل فعل منعكس يصحب هذه الاحساسات الجسمانية. وقد وفق لورنس في محاولاته هذه كل التوفيق مما وضعه في مصاف كبار اللغويين وقادتهم. ولم تكن مهمة لورنس بالسهلة اليسيرة، ولكنه ما كان لييأس أو يستسلم، ولم تقف مجهوداته الجبارة عند حد إيجاد الكلمات التي تعبر أصدق التعبير عن الاحساسات الجسمانية والعواطف العميقة التي تصحبها بل عمد أيضاً إلى خلق لغة خاصة للاشعور. وهذه وإن بدت غريبة غير مألوفة لدى القارئ عند أول وهلة إلا أنه لو درست ووفيت حقها من الدراسة لوجد أنه بغيرها لا يمكن التعبير عما أراد لورنس التعبير عنه. ونقطة أخرى يجب أن نلفت نظر دارس لورنس إليها وهي تمت إلى موضوع لغته بصلة، هي أن هناك بعض كلمات يجب أن تفهم كما فهمها لورنس نفسه لا كما أجمع الناس على فهمها، ومن أمثال هذه الكلمات:(الظلام) و (الكهرباء) و (الرجل) و (المثل الأعلى) و (الغيرية) فهذه الكلمات وأمثالها استعملها لورنس وقصد منها غير ما أتفق الناس عليه ويبوء بالفشل كل من يحاول أن يستخلص من كتابات لورنس وفلسفته طريقة ثابتة للحياة على اعتبار أنها المثل الأعلى، وذلك لأن لورنس كان عدو الاستقرار اللدود، وكان يعتقد أن كل محاولة لخلق طريقة يعيش الإنسان على منوالها طول حياته هي الخطأ كل الخطأ، بل هي الموت بعينه وإنما في صيغة أخرى. فلزام على الإنسان أن يتغّير ويتلوّن حسب مقتضيات الأحوال لا أن يعيش على وتيرة واحدة. ويقول لورنس في أحد كتبه:(لا يجب أن تبقى الوصايا الدينية ثابتة دون تغيير. بل يجب أن تذبل وتذوي وتموت كما تفعل الزهور تماماً، فهي ليست أفضل منها في شيء؛ وإن مقاومة ناموس الحياة لهو الشر بعينه. فإذا أحب الإنسان الحياة حقاً وإذا كان يشعر بقدسيتها يجب أن يعترف دائماً أنها تتطلب منه اليوم غير ما تطلبت بالأمس، وأنها في الغد ستكون مختلفة عما كانت عليه اليوم، فعليه إذن أن يلبس لكل حال لبوسها وألا يقاوم رغباتها ومقتضياتها، وإلا فهو ميت حي، لأن سر الحياة هو الطاعة، طاعة الدوافع التي يشعر بها الجسم ثم العمل على تحقيقها) ويعتقد لورنس أنه ليس بين الحياة والموت وسط وما على الإنسان إلا أن يختار بينهما، وهو بكتاباته يرمي إلى إرشاد الناس كيف يعيشون عيشة هي الحياة نفسها
وبرغم أن المعجبين بلورنس وأتباع مدرسته يتزايدون يوماً بعد يوم إلا أنه لا بد أن يمضي
قرن من الزمان قبل أن يتبوأ لورنس مكانته التي تليق به بين كتّاب العصر الحديث كما حدث للشاعر الإنجليزي وليم بليك من قبل.
(يتبع)
عبد الحميد حمدي
خريج جامعة اكسترا بإنجلترا
من ذكريات الحرب الماضية
أخي. . .
للأستاذ ميخائيل نعيمة
أخي، إن ضجّ بعد الحر
…
ب غربيٌّ بأعمالهْ
وقدّس ذكرَ من ماتوا
…
وعَّظم بطشَ أبطاله
فلا تهزج لمن سادوا
…
ولا تشمت بمن دانَا
بل اركع صامتاً مثلي
…
بقلبٍ خاشعٍ دامٍ
لنبكي حظَّ موتانَا
أخي، إن عاد بعد الحر
…
ب جنديٌّ لأوطانه
وألقى جسمه المنهو
…
ك في أحضان خلانه
فلا تطلب إذا ما عد
…
ت للأوطان خلانا
لأن الجوعَ لم يتركْ
…
لنا صحباً نناجيهِمْ
سوى أشباحِ موتْانا
أخي، إن عاد يحرث أر
…
ضه الفلاح أو يزرَعْ
ويبني بعد طولِ الهج
…
ر كوخاً هدّه المدفع
فقد جفت سواقينا
…
وهد الذُّل مأوانا
ولم يترك لنا الأعدا
…
ء غرسا في أراضينا
سوى أجياف موتانا
أخي، قد تمَّ ما لو لم
…
نشَأْهُ نحن ما تمَّا
وقد عمَّ البلاءُ ولو
…
أردنا نحن ما عمَّا
فلا تندبْ فأذن الغي
…
ر لا تصغي لشكوانا
بل اتبعني لنحفر خن
…
دقاً بالرفش والمعولْ
نواري فيه موتانا
أخي، من نحن؟ لا وطنٌ
…
ولا أهلٌ ولا جارُ
إذا نمنا إذا قمنا
…
ردانا الخزيُ والعارُ
لقد خمّت بنا الدنيا
…
كما خمت بموتانا
فهات الرفش واتبعني
…
لنحفر خندقاً آخر
نواري فيه أحيانا
وحدة العمر
للأستاذ حسن كامل الصيرفي
تعال فقد عرفتُ حدود نفسي
…
وأدركتُ السعادة ملَْء كأسي
تعالَ إليَّ واملأْ رَحْب حسِّي
…
فإني اليومَ لست خيال أمس!
تعال فقد تحطَّمتْ الكؤوسُ
…
ومالت من تَفاعُلِها الرؤوسُ
وشاهتْ في ضلالتها النفوسُ
…
تعال إليَّ تتبعُك الشموسُ!
تعالَ إليَّ يتبعُكَ الشُّروقُ
…
وتلمعُ في خواطرك البروقُ
فقد سَكِرَ الظلامُ فما يفيق
…
وطال على مُناجيكَ الطريق!
تعال، تعال أْسمِعِني غناَءكْ
…
تعال، تعال صوِّرْ لي سماءكْ
تعال، تعال أْشرِْبني ضياَءك
…
فإني اليوم ظمآنٌ إزاَءك!
تعال فحيرتي أخذت تولِّي!
…
تعال فرغبتي بدأت تصلِّي
وتنزع عن تساميها التدّلي
…
تعال فأنت أسرَارُ التجلِّي!
تعالَ، تعال طهِّرْني بنارك!
…
وأهِّلْني لأمزَجَ في سوارك
تعالَ إليَّ طهِّرْني وبارك
…
فؤاداً ظلّ يفنى في جوارك!
تعالَ فأنقذِ الإيمان مّما
…
يحاول أن يحيلَ الطُّهْرَ إثما
ويمعن في اجتذاب النفس رغما
…
فما أقسى الحياةَ، تفيض لؤما!
تعالَ فهذه كأسُ الليالي
…
يحوم على حفافيها خيالي
وتلمسها يَدٌ تدري مآلي
…
فتقصيني، وأيَّ يدٍ أبالي!
تعال فهذه اليد كم أشارتْ
…
وحامت في الظلام وما توارت
وأزهجت النفوس وما استثارت
…
يداً أقوى تحطمها. . . فجارتْ
يد الأقدار تزعجني دواماً
…
وتشهر في سكينتي السهاما
وتملأ رحب إحساسي زحاماً
…
تعال فحوِّل الدنيا سلاماً!
سألزم كُوّتي وأظلُّ أرنو
…
إلى الأُفق البعيدِ وأنت تدنو
ونور الفجر يغمرني ويحنو
…
عليَّ صباحُهُ، وسَناكَ يدنو
ستختلف الحياةُ أمام عيني
…
تمرُّ طيوفها وتغيب عني
وتفنى في محيطٍ من تَمَنِّ
…
وأحلام تلوحُ بكل لونِ
وما أنا غيرُ طيف من رؤاها
…
تأخَّر حَيْنُه حتى يراها
ويعرفَ ضعفها ومدى قواها
…
وتفرحَهُ وتبكيه مُناها
تعالَ فربما جاوزتُ داري
…
فتجذبني الحياةُ إلى قراري
فأمشي بين أضواءِ النهارِ
…
إلى ليلي، ويهزأُ بي انتظاري
تعال وفيّ أحلامٌ وروح
…
تعال وفيّ أطيافٌ تروحُ!
تعال وفيّ أضواءٌ تلوح
…
تعال وفيّ أعطارٌ تفوحُ!
تعال فقد بلغتُ حدودَ نفسي
…
وأطمع أن أحقِّق طيف حدْسي
فهل لك أن تُذيبَ ثلوجَ يأسي
…
وتمزج حاضري بغدي وأمسي. .
حسن كامل الصيرفي
النائح الشادي
للأستاذ فؤاد بليبل
كُفَّ النُواحَ فقد أثرْتَ توجُّعي
…
إنَّ الذي أشْجاكَ مزَّق أضلُعي
يا نائحاً في الدوْح يندبُ حظه
…
دع عنك لحنَ اليأس واهجرهُ معي
قلبي كقلبِكَ موجَعٌ متألم
…
أعجِبْ بقلبي الضاحك المتوجِّع
لك يا هزارُ بما أكتِّمُ أُسوة
…
فاصدح على فنن الأراكة واسجع
كفَّ البكاَء ودع أناشيد الأسى
…
لا أنتَ في قفصٍ ولا في بلقع
وارقُصْ على الغصنِ النَّضيرِ مرجِّعاً
…
في كلِّ مؤْنقَةٍ وَرَوْضٍ مُمْرعِ
فعلامَ تبكي فوْق أشواكِ الرُّبى
…
بين الطول ودراساتِ الأربُع
وأمامَكَ الَمرْجُ الخصيبُ ودونَكَ ال
…
روضُ القشيبُ وصافياتُ الأنبع
وَحيالكَ الآمال ملأَي بالمُنى
…
وتجاهكَ الأُفقُ الرحيبُ المرتع
لكَ منزلٌ في الدُّوْح لَو أُنزلتُه
…
لأُديلَ من حُزني وزالَ تفجُّعي
ناءٍ عن الظلم المضيمِ مكانةً
…
مخضوضَر الشرفاتِ حلو الموقع
بَسَمتْ لكَ الدنيا فمالكَ عابسا
…
وتجهَّمتْ لي فابتسمتُ لمصرعي
أشجاكَ أنك قد شُغفتَ بِوردة
…
غذَّيتَها بفؤادِكَ المتقَطِّع
وسقيْتها ماَء الشئونِ فأينعتْ
…
بَين الوُرودِ وليَتها لم تيْنع
وتفتحتْ أكمامُها وتَرَعرَعت
…
في الروضةِ الغنّاءِ أيّ ترَعرُع
وكأنما اغترَّت بِفاتِنِ حُسْنِها
…
فمضتْ تَتِيْه بهِ بِغيرِ تورُّع
والحسنُ كان ولا يزالُ وسيمه
…
شركَ القلوب وقبلةَ المتطلع
وتلاعبتْ فيها الأكفُّ ودُنّست
…
بأصابعٍ شتى وأيدٍ قطّعٍ
واستنفرَت لمّا رأتْكَ وقد أتى
…
زَمَنُ الحصادِ وآذنتْ بتمَنع
فاقلبْ لها ظهرَ المجنِّ فليس في
…
أكمامِها للحرِّ أدنى مطمع
وأربأ بنفسِك أن تكون ذَليلةً
…
فالمورد ملء الروض فاختر واقطع
واملأ سماَء الشعر ألحاناً ولا
…
تكُ في وجومكَ كالغراب الأسنع
يكفيكَ أنك كنتَ أوّل ناشق
…
دون الطيور لعَرفها المتضوّع
يكفيكَ أنكَ قد رشفتَ رضابها
…
فاترك بقاياها لغيرك واقنع
دَعها لسافلةِ الطيور غنيمةً
…
وانشدْ سواها في مكانٍ أرفع
في موضعٍ أقوى الفساد عراصَه
…
وا روعتاهُ لطهر ذاك الموضع!
وإذا ظمئت ولم تجدْ لك منهلا=عذْب المياه كصافياتِ الأدمع
فاطوِ الضلوعَ على الصدى أو مُتْ به
…
حرّاً أبيّ النفسِ غير مروّع
لَلموتُ خيرٌ من ورودكَ موردا
…
ولغَ الكلابُ بمائِه المتجمِّع
من كان لا يرضى المجرة مشرباً
…
هيهات يغشى كدرة المستنقع
ومغيظةٍ أنحتْ عليَّ بلومِها
…
راحتْ تصبُّ عتابها في مسمعي
قالت (وما كذبت) أراك سلوتنا
…
ودنت تعانقني فقلت لها ارجعي
فاستَغربت مَّما رأته وهالَها
…
ألاّ أطاوعَها على ما تدَّعي
قالت أتذكر حينَ كنتَ مُتَيّماً
…
تشكو لهيب فؤادِكَ المتصدّع
وتروح تُقسم أن تصون عهودنا
…
فعلام خنت إذن أجب أفلا تعي؟
فأجبتها قَدْ كان ذلك والهوى
…
عَفٌّ وثوبُ الطهر غير مرقع
أغراك أني شاعرٌ متعِّبدٌ
…
للحسنِ أرعاهُ بقلبٍ موَجع
أهوى، نَعمْ أهوى الجمال مبرقعاً
…
بالطهر لا أهواهُ غيرَ مبرقع
أهوى الجمال عفيفَهُ وبعيدَه
…
عن كل شائنةٍ وفحش مُقْذع
ولقد أعافُ الشيء مع أني به
…
كلف شديد الوجد صعب المنزع
وأعودُ عنه وملء نفسي شهوة
…
وكما علمتِ تعفّفي وترفعي
كم منهلٍ يمَّمْتُهُ متجرِّعاً
…
سقطَ الذبابُ به فلم أتجرع
قد كان حسنكِ قبل ذلك ملهمي
…
واليومَ بات وقد تدَّنس مُفزعي
عودي إلى ما كَنِتهِ من عفةٍ
…
أو فاتركيني لا تقضي مضجعي
ودعي التصُّنعَ بالغرام فما أنا
…
ممن يبالي بالهوى المتصنَّع
إن تبتغي وصلاً فلستُ بمْبَتغ
…
أو تزمعي صلحاً فلست بمزمع
أو كنتِ مولعةً وأنت كما أرى
…
تبغينَ تَضليلي فلستُ بمولع
(دار الأهرام)
فؤاد بليبل
رسالة الفن
دراسات في الفن
كنت أحسبك رجلاً!
بهذا ودعت استراوس عشيقة
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
كان لاستراوس عاشقتان، وكان لكل واحدة منهما اتجاه في الحب، وكان هو يحبهما معاً، وعلم الله أنه كان يود بكامل صدقه وإخلاصه، لو أنهما كانتا عاشقة واحدة، فقد كانت كل واحدة منهما تكمل أختها، ولم يكن يعيب إحداهما إلا أنها استقلت عن الأخرى بجسد وحدها. . .
ولكنها حكمة الله التي شاءت أن تتبعثرا اثنتين!
تزوجته منهما واحدة، وشالت عنه واحدة بعدما ظلت تحوم حوله زمناً لم تهمل فيه حيلة من حيل الإغراء التي تستولي بها النساء على الرجال، ولم تستر فيه حسنة من حسناتها، وقد كانت كلها حسنات مما يخلب الألباب، ولم تحجب فيه بريقاً تألقت به روحها، بل كانت تحرق فيه روحها لتتألق أمامه متفانية، لعلها تستهويه إذا احترقت ونورت، ولم تدع فيه قوة من قوى الأنوثة التي حبتها الطبيعة بأقواها وأشدها وأحكمها، إلا سلطتها عليه لتخذله بها. . . فما استطاعت أن تصل منه إلى شيء أكثر من أنه أحبها كما كان يحبها، وما كان هذا الذي تقصده، وإنما كانت تريد أن تأخذه أخذ النساء اللواتي تعرفهن للرجال الذين تعرفهم. فلما عجزت وسائلها عن تمكينها من غرضها يئست وأعلنت إفلاسها وهجرته، وقالت له وهي تودعه متعشقة في حنقها:(كنت أحسبك رجلاً). . . قالتها وهي تظن أنها سممته بها، وتركته ومضت. . . لو عرفت أن أشد النساء عداوة لها أوشكت أن تحب استراوس وأن تهيم به، لحذرتها منه رحمة وبراً بالأنوثة أن يذلها هذا الذي كانت تحسبه رجلاً. . . فتبينته غير رجل!
ولو علمت هذه الصغيرة أنها حين رأت استراوس في صورة غير صورة الرجل، رأت منه جوهر نفسه. . . إذن لما تركته ولا هجرته ما دامت تحبه، ولبدأت تعالج الحب على
أساس جديد غير ذلك الأساس الذي يقوم عليه الحب بين المرأة والرجل. فقد كان استراوس غير رجل حقاً، ولكنه في كونه التائه كان لا يزال يحب المرأة، ويستسلم لها، ويفزع كلما خيل إليه أنه قد يقضي الحياة من غير امرأة.
وكانت زوجه تعرف فيه هذا، وإن لم تكن ترى شيئاً وراءه فكانت تظله بالذي يطيب لها من ظلال أنوثتها وحبها فاشتد سلطانها عليه، وتحكمها فيه حتى كانت النظرة اللائمة منها تهطل على أشد ثوراته اندلاعاً فتطفئها وتخمد أنفاسها
فماذا كان استراوس؟
كان إنساناً كبقية الناس، ولكنه كان إلى جانب هذا قليل الصلة بالدنيا لأنه كان شديد الصلة بما في أعماقها، وكان قليل الحيلة في اصطناع حركات الناس وسكناتهم لأنه كان شديد الخبرة بدخائل نفوسهم، شديد المراقبة لخلجات هذى النفوس ونبضاتها، شديد الموازنة بين ما يراه وبين ما ينزع إليه من الكمال، شديد النقد لما يبدو له من النقص والعيب. والذي ينفذ هذا النفاذ إلى ما تستره مادة الدنيا لا يمكن أن يشبه الرجال الذين يعيشون على سطحها، والذين يسعون على وجهها سعي الهوام والماشية. وإنما له كيان آخر، دلائله وآياته فنونه. وقد كان استراوس فناناً، وكان فنه يستدعيه إلى الأعماق، وكانت عاشقته التي نفرت منه تغوص معه إلى الأعماق أحياناً فيتزاوجان ولكنها كانت تنسى إذ ذاك أنه رجل وأنها أنثى، فإذا ذكرت هذا طفرت إلى السطح وأرادته أن يسعى إليها طفراً هو أيضاً، ولكنه كان يظل حيث هو ويناديها إليه فلم تكن تستطيع أن تعود إليه إلا إذا نسيت أنها الأنثى التي تريدها هي
فهل لم يكن ميسوراً أن تدرج إلى مغاوره وكهوفه في ثوب من الأنوثة يخلبه؟ قد كانت تستطيع لو أنها تطلعت إلى أزياء الأنوثة في المغاور والكهوف كما كانت تتطلع إلى أزيائها في (فيينا)
في المغاور والكهوف لا يتعلق الناس إلا بالحق، ولا يفتنهم إلا الصدق، ولا يمكن أن يتبادلوا العواطف إلا بوحي من الطبيعة لا بوحي من الحاجة، وبنداء من الروح لا بنداء من المادة: ذلك أن العواطف لهفات الروح لا البدن. وهم أقرب الناس إلى الأطفال. بل إنهم الأطفال ينمون في طفولتهم، ويكبرون في صغرهم. ولولا هذا لخرجوا من هذه المغاور
والكهوف إلى حيث يستطيعون أن يصارعوا الرجال في الحياة القائمة على وجه الأرض، والتي يتراشق الناس فيها بقنابل من الأباطيل والأكاذيب والحيل والمخادعات
إنهم عاجزون، والله مع العاجزين هذا العجز، وهو يعوضهم عنه قوة أخرى هي هذه الحاسة النادرة التي لا يجاهد في سبيل اكتسابها إلا أقل الناس، والتي تقتصد الطبيعة كل الاقتصاد في تهيئة عناصرها في النفوس، والتي يدرك بها هؤلاء الأطفال الكبار العاجزون من حقائق الوجود ما يغيب عن إدراك الكبار الرجال الذين ليسوا أطفالاً
ولم تكن البارونة الصغيرة تلمح هذا ولا كانت تعرفه، وإنما كانت تسحرها أغاني استراوس وألحانه، وكانت تؤديها كأطيب ما تصبو إليه نفسه هو فتشعر حينئذ بأن روحه من روحها، وأن روحها من روحه، فإذا ادلهمت عليه بأنوثتها رأته كالمسحور أو المعمول له عمل، فلما طال هذا وتكرر أدركت أنه غير رجل، ولكنها زعمت أن هذا الإدراك يجب أن يكون نهاية الصلة بينهما، فقطعت صلتها به وما فكرت في هذه الحالة الشاذة ولا في طريق علاجها، ولم تذكر أنها أنشدت له لحناً صاغه هو لتتبرج به هي في حفلة من حفلاتها، ولم يكن هذا اللحن إلا آهات كل آهة منها حكم تصدره على رجل بعينه من النظرة الأولى التي تلقيها عليه، فللمغرور المعجب بنفسه آهة فيها السخرية بغروره وتيهه، وللحالم المتغائب عن الوجود آهة مرسلة شاردة كأنما تصاحبه إلى الملكوت الأعلى، وللسمين القاعد على روحه آهة دسمة كأنما هي الرغيف المحشو برغيف آخر فيه خروف صغير، وللمهندم المؤدب الأنيق المتزجج آهة مرتعشة مخنوقة كأنها محرجة وجلة. . . ولم تذكر أن هذه الآهات تعددت في اللحن وتكاثرت بألوانها ودلائلها حتى لم يعد من المعقول أن يقال بعدها إن استراوس بعيد عن نفس المرأة وعقلها، جاهل طريقة تفكيرها، غافل عن أحكامها و (حيثيات) هذه الأحكام
وقد كان هذا اللحن وحده يكفي لكي تعلم البارونة الصغيرة أن استراوس الذي يتسمع إلى الصمت في الطبيعة كما يسمع أصواتها وينظم من هذا وتلك ألحانه المعجزة. . . بصير أيضاً بالنفوس عامة سواء منها نفوس النساء ونفوس الرجال، والبصير بالشيء لا يعجز عن نيله، ما دامت فيه القوة التي تمكنه من نيله وقد كان استراوس في أزمته الغرامية هذه شاباً فتياً له جسد الإنسان الرجل النزاع إلى جسد الأنثى. . . فما الذي منعه عنها؟
أمانة الزوجية؟
قد يكون هذا، ولكنه بعيد لأن حياة استراوس مع البارونة الصغيرة لم يحدث فيها ما يدل على أنه استشعر الأنوثة التي ترضيه فيها - وهي أنوثة المغاور والكهوف - تحاول أن تغزوه فيصدها بهذه الأمانة. بل الذي حدث هو عكس هذا فقد قدم استراوس عاشقته هذه لشعب من اصحابه في ثورة من ثورات فيينا على أنها فنانة مغنية فقط، ولم يكن في هذا كاذباً ولا مجاملاً، بل كان صادقاً لأنه لم يشعر منها إلا بأنها كما قال. فلم تكن الأمانة الزوجية هي التي حالت دون استراوس وعشيقته، وإنما هذه العاشقة نفسها هي التي التوت على حبها، والتوت على نفسها، والتوت على حبيبها، وكان بيدها ألا تلتوي
وقد يسائلنا سائل عن هذا الذي نطلبه من المسكينة الصغيرة ما هو؟ أكنا نريدها أن تخرج على طبيعة المرأة أكثر مما خرجت فتدعو إليها استراوس بالذي دعت به امرأة فرعون إليها سيدنا يوسف الجميل؟!
ونحن نقول لا. ونقول إن الحب لا ينتج إلا من صراع في الغزل، والصراع في الغزل إذا انتهى إلى حب فهو واحد من حبين في نفس كل من العاشقين: إما حب الحنو، وإما حب الإعجاب، ولم تكن لاستراوس قوة يعتز بها غير قوة الفن، وكان فنه الموسيقى، فلو أن البارونة الصغيرة ناوشته بألحان فإنه لم يكن هناك بد من أن تقهره: إذا فاقت ألحانها ألحانه خلبته واستحوذت عليه عاشقاً وتلميذاً لها، وإذا فاقت ألحانه ألحانها حنا عليها، واحتضنها وراح يسقيها ما هي ظمأى إليه، ورباها كما تربى الدجاجة أفراخها، ولكن البارونة الصغيرة لم تصنع شيئاً من هذا، واكتفت بأن تغني له فكان يرى فيها نفسه هو، ولم يكن ير نفسها. . .
قد كان عليها أن تريه نفسها صريحة واضحة في الفن مهما خشيت أن تتضاءل إلى جانب صفائه وقوته
ربما كانت تنتظر أن يقول لها: (لحني!) بل ربما تكون قد استأذنته في التلحين بأسلوبها المعوج الملتوي فهل عرفت البارونة لماذا لم يأذن لها، ولماذا لم يطلب منها أن تصوغ الألحان. . . ذلك أنه حين أراد أن يلحن. . . لحن، وحين كان يريد أن يغني لم تكن قوة تستطيع أن تحبس صوته. . . فلعله لم يصدقها، أو لعله خشي أن يدعوها إلى شيء قد
تكون عنه عاجزة. . . أو لعله كان يرحمها فيحررها من طلب إذا أجابته فإنما تجيبه إرضاء له هو لا إرضاء لنفسها. . .
وأغلب الظن أنها كانت عاجزة لأنها كانت بارونة. وأغلب الظن أنها كانت تستطيع أن تطاوله، وأنها انطلقت في الحياة كما كان هو منطلقاً فيهما، فإنها ركبا يوماً عربة معاً، وسرحت بهما العربة في أحراش وغابات، وأثارت خطى الجواد الذي كان يجر العربة - وكانت خطى منتظمة على ضرب متسق - بواعث الشدو في نفوس الطير وفي نفسيهما وفي نفس الحوذي الذي كان معهما، فأنشد الطير، وأنشدهما، وأنشد الحوذي، وكان من نشيدهم جميعاً لحن الفالس الكبير الذي لا يمكن أن يقال إلا أن الطبيعة والجواد والطير والعاشقين والحوذي، اشتركوا جميعاً في توصيله من الغيب إلى هذا الكون.
وعلى هذا فقد كانت البارونة من معدن استراوس. كانت هي الأنثى غير الأنثى لهذا الرجل غير الرجل. ولكننا لا ندري كيف أنكرت منه شروده عن رجولة السطح، ولم تذكر أنها حين أفاقت من الفالس الكبير وهي في العربة ألفت نفسها مطوية بين ذراعيها المتشنجتين اللتين كادتا تهصرانها هصراً؟
كان عليها أن تدرك إذن أن له لوناً من الأنوثة خاصاً يخلبه، وهو هذا اللون الشائع في أعماق الطبيعة والذي فاض في نفسها هي عندما كانت تشدو مع الطير ومع الطبيعة ومعه
كان عليها أن تدرك هذا، ولكنها لم تدركه فأي شيء دهاها؟
دهاها هذا (الإتيكيت) الذي نشأت عليه في القصور، ودهتها هذه التقاليد التي علمتها أن تطلب الطعام إذا جاعت بالحديث عن لوحة زيتية تفنن مصورها في رسم تفاحها وكمثراها. . . فإذا سمع استراوس كلامها هذا نظر هو أيضاً إلى الصورة، وتفحص فيها التفاح والكمثرى ولم يفهم بعد ذلك شيئاً. . . فعيناها. . . عيناها تنظر في صدق عجيب إلى جمال التفاح والكمثرى كأنما هي معجبة به حقاً. . . فكيف لا يصدق استراوس إعجابها بالرسم وكيف يعرف أنها جائعة
لا بد أن يشعر وأن يحس؟ أليس هو الحساس الموهوب أكثر مما وهب البشر؟ أليس هو الناقد المتفرس إلى ما وراء المادة والحجب؟ نعم إنه كذلك حقاً. . . ولكنه يلقي هذا السلاح بين يدي محبوبته، فهو يصدق كل ما تقول. . . ويجول معها أينما شاءت، ويسلم لها قياده
فهي المسئولة عن عقله وهو بين يديها، وهي التي تقوده إلى هذه الوديان القاحلة. . .
ولم تكن زوجته هكذا على قلة ما كانت تدرك من جمال فنه وروعته. فهي لم تغازله بالفن، ولم تناوشه بالنغم، وإنما هجمت عليه بإخلاصها وعطفها ورعايتها، ولمست فيه طفولته وحيرته في الحياة خارج ميدان الفن، ولقد أرشدت هذه الزوجة البارة بارونة زوجها إلى هذا الطبع في نفسه يوم أرادت البارونة أن تأخذه منها فقالت لها:(لا تأخذيه على أنه رجل فهو لا يعرف من أموره أمراً، ولا يمكنه أن يدبر شأناً من شؤونه لأنه طفل!)
كان هذا تعبير زوجة استراوس، وكان هذا التعبير هو الصدق وكان هذا الصدق نتيجة ما كان بينها وبينه من صراع في الغزل والحب، فقد عجزت عن الفن كل العجز أمامه، وعجز هو عن إدراك ما كان في نفسها من قوة الرعاية والحدب كل العجز أيضاً فاندمجا وتشابكا
فلو كانت هاتان العاشقتان واحدة!
أما زوجة استراوس فما كانت تستطيع أن تستكمل نقصها بمثل ما كان في البارونة من فطرة الفن، فالفن موهبة. وأما البارونة فقد كانت تستطيع أن تتعلم من زوج استراوس طريقة ترويضه وصيانته، إذا احتاجت إلى شيء من هذا. . . ولم تكن لتحتاج لو أنها أعملت الفن. . .
ولكنها كانت بارونة. . .
عزيز احمد فهمي
رسالة العلم
أندروز مليكان والإلكترون
للدكتور محمد محمود غالي
الرياضي هلبرت بين نظرياته والطبيعي مليكان في معمله - كيف حصل مليكان على جسيمات صغيرة من الزيت، وجعلها تصعد وتهبط وتقف وفق إرادته - وصف جهاز مليكان - كيف شاهد مليكان هذه الجسيمات في غرفة يبلغ ارتفاعها 16 مليمترا - كيف تحقق من حمل هذه الجسيمات لعدد من الإلكترونات.
منذ أربعين سنة في سنة 1899 قاد الفكر أحد الذين يتابعون الدرس ويواصلون العمل، الرياضي هِلْبرت إلى فكرة جديدة وباب لم يطرقه أحد من قبل، ذلك أنه كوَّن نوعاً جديداً من التفكير الهندسي يخلق بنا أن نسميه هندسة هلبرت تختلف في طريقتها عن الهندسة التي تبعناها منذ عن هندستي
هذا العالم الألماني هلبرت الذي ما زال في اعتقادي حياً بين سكان الأرض في من أعمال ألمانيا لم تحصده قنابل المحاربين، ولم يعبث بجسده غرض الفاتكين، ويبلغ من العمر اليوم 78 سنة وجد أسلوباً جديداً لتأسيس الهندسة الأقليدية التي تلقاها كل منا في المدارس، وغير الهندسة الأقليدية التي لم يتلقها إلا نفر قليل بعد التخرج في الجامعات، كما أثبت عدم تعارض الفروض فيهما، ذلك أنه استعمل لبناء علمه الجديد ثلاثة النقطة والخط والمستوي، وخمسة كلمات هي: عنها اصطلاحياً بموجودة واستطاع باستعمال هذه المعاني الخمسة فقط أن يقيم هندسته الكاملة، وخرجت من هذه (العناصر) الثلاثة، (والمعاني) الخمسة هندسة منسجمة نستطيع تتبعها والاقتناع بوجودها، وقد تتبعها في مصر في العام الماضي كل الأعضاء الذين حضروا محادثات الرواق الرياضي الطبيعي، والذين قضى بعضهم نحبه خلال الحرب القائمة، وهم من أصدقائنا الحميمين، ونأسف لهذه الحوادث التي ترجع بالإنسان إلى الهمجية، عندما حاول صديقي الدكتور أن يتابع عرض هندسة هلبرت بين إخوانه من المصريين والأجانب الطبيعيين والرياضيين المقيمين في مصر، وهي رياضة صعبة نوعاً ما ويكفي لإدراك صعوبتها أن تعلم مثلاً أنك في حاجة بادئ هذه الرياضة أن تثبتَ إمكان وضع نقطة على خط مستقيم، وإنك لتستغرق بعض
الوقت لإثبات ذلك الذي تظنه بديهياً. ليست هندسة هلبرت الجديدة التي ما زالت تجد قليلاً من المطلعين هدفي في هذه الكلمة، وأعتقد أنها سوف لا تكون موضوع كلمة لي في (الرسالة) في الأعداد القادمة. فموضوعها صعب على القارئ، وغايتها أصعب عليه، إنما ذكرتها وأنا في طريق شرح أعمال مليكان - رجل التجارب والمعامل - لأضع أمام القارئ مثالاً للتباين بين النظريات يتبعها المنطق والخيال في أقصى درجاتهما، وبين العلوم التجريبية يتبعها التحقيق والمشاهدة في أقصى حدودهما، فبقدر ما في رياضة هلبرت غير المعروف لكثير من المطلعين من خيال وصعوبة بقدر ما في تجربة (مليكان) من تحقيق تجريبي وسهولة، تحقيق يبعد كل البعد عن التحايل اللفظي.
ليس إذن في قصة مليكان ما يدعو لإثبات مسائل تلتبس علينا مع البديهيات التي يقبلها الذهن، إنما هي في الواقع سلسلة لمشاهدات علمية وتجارب طبيعية، ولو صح لنا أن نتساءل عن تعريف ما نسميه تجارب طبيعية صحيحة (لقلنا إنها تلك التي تؤيد النتائج ذاتها بلغ تكرار هذه التجارب ما بلغ. . .)
ونوجز تجربة مليكان التي قام بها سنة 1909 في قياس شحنة الإلكترون أصغر ما نعرفه أو نعيه من الموجودات، وإثبات وجوده كجوهر فرد مستقل يلعب أكبر دور في الكون الذي نشعر بوجودنا فيه، ومن العدل أن نذكر أنه قد تقدمت تجارب مليكان أبحاث علماء عديدين كان لهم الفضل الأول في تهيئة السبيل للقيام بهذه التجربة التي تعد من أعظم مفاخر العلم التجريبي في القرن الذي نعيش فيه، وإذا لم نأت في هذا المقال على أسماء هؤلاء جميعاً، فإن رجال معامل هو في الواقع أول من قام بتجارب فريدة لقياس شحنة الإلكترون التي يرمز لها العلماء عادة
ونعود الآن لشرح عمل مليكان، ولتسهيل الموضوع على القارئ نعمد إلى تقسيم عمله إلى قسمين رئيسيين: القسم الأول هو الذي نذكره اليوم ونصف فيه الجهاز الذي استنبطه والتجربة التي قام بها هذا العالم لقياس شحنة الإلكترون بل لملاحظة جسيمات منعزلة لا تحمل أحياناً إلا إلكتروناً واحداً، ولا نعرض في هذا القسم لنتائج هذه التجربة ولا نذكر كيف استنبط مليكان من تجربته شحنة الإلكترون وحدة الكهرباء وأصغر الجسيمات التي نعرفها في الوجود، وفي القسم الثاني وهو برنامج الأسبوع القادم نذكر الطريقة التي حسب
بها مليكان شحنة الإلكترون ونبين كيف من عملية القاسم المشترك الأعظم البسيطة التي تعلمناها كلنا في التعليم الابتدائي بيّن مليكان من تجاربه وسيلة لإثبات وجود الإلكترون وحساب شحنته وإثبات تعلق إلكترون حر واحد ببعض هذه الجسيمات أثناء تجاربه العديدة
والآن نبدأ بشرح الوقائع الأولى وتفسير دخائل الجهاز الذي ابتدعه مليكان واستعان به للوصول لغايته
استعمل مليكان لمقارنة شحنة الجسيمات الصغيرة المختلفة الحاملة للكهرباء والذي يسميها العلماء (يونات) الإلكترون رشاشة أي (بخاخة) تبخّ غيوماً من الزيت في غرفة عليا نرمز لها بالحرف غ كما يرى القارئ في الشكل
وينقى الهواء قبل إطلاقه ووصوله للرشاشة بمروره في أنبوبة
تحتوي على قطن مندوف، وينشر هذا الرذاذ الرفيع من الزيت
الذي يبلغ قطر معظمه 1000 2 من المليمتر في الغرفة
المتقدمة ويبدأ تساقطه غيوماً كالضباب الذي نصادفه في
الشتاء صباحاً جوار النيل أو الأراضي الزراعية. ويحدث من
جراء هذه العملية الأولى أنه يتصادف من وقت إلى آخر
مرور واحدة من هذه الجسيمات الزّيتية الصغيرة من الثقب
الصغير الموجود في مركز قرص من النحاس قطره 22
سنتيمترا موجود في أسفل هذه الغرفة، وتكون إحدى كفتي
مكثف كهربائي يتكون من كفتين بينهما الهواء، كفة عليا (ق)
هي هذا القرص والثانية كفة سفلى (ك) وهذه الكفة الثانية
مثبتة بالكفة الأولى بواسطة ثلاثة أعمدة من الأبانوس (د)
وهو مادة عازلة كهربائيا، وهذه الكفة محمولة على بعد 16
مليمتراً من الأخرى وفي هذه الغرفة الثانية المحصورة بين
هاتين الكفتين والتي لا يرتفع سقفها عن أرضها إلا بمقدار 16
مليمتراً، شاهد مليكان هذه الجسيمات الصغيرة من الزيت التي
يتصادف مرورها من الثقب، والتي أثبت هذا العالم كما سيرى
القارئ في المقال القادم أن بعضها كان يحمل إلكترونا واحداً.
وتتصل هاتان الكفتان بمفتاح (م) يتصل ببطارية كهربائية
(ب) تبلغ القوة الدافعة الكهربائية بين طرفيها عشرة آلاف
فولت وذلك لإيجاد مجال كهربائي قوي، ومتغير بين الكفتين
ويُتممُ هذا الجهاز أجهزة ضوئية أخرى تكوّن خارجه حزمة من الضوء شديدة تمُّر من نوافذ أو بالأحرى من ثقوب موجودة الواحدة منها تجاه الأخرى ومحفورة في حلقات من الأبانوس (ح) موضوعة في اتجاه الشخص الراصد. وتضيء هذه الحزمة الضوئية الجسيمات أو رذاذ الزيت الذي يتصادف مروره من الثقب (ث)، هذا الرذاذ الذي يصبح بمروره من هذا الباب عرضة للمشاهدة والاختبار
وقد أمكن لمليكان أن يرى هذه العوالم من ثقب ثالث صغير بواسطة الميكروسكوب الذي يلعب في هذه التجربة دور الألتراميكروسكوب، وقد رتَّب جهازه بحيث يقع الضوء على هذه الجسيمات من جهة ويراها هو من جهة أخرى عمودية عليها، وهي الطريقة ذاتها التي نرى بها الكواكب السيارة في الليل، إذ يقع عليها ضوء الشمس من جهة تختلف عن التي نراها منها، بل هي الطريقة التي نرى بها جسيمات من التراب الرفيع العالق بهواء غرفنا والذي تستنشقه رئاتنا طوال النهار، عندما تدخل أشعة الشمس من جهة غير الجهة التي نشاهد بها هذه الذرات الترابية التي تبدو لنا في هذا الوضع مضيئة تحت أثر أشعة الشمس
الساقطة عليها، وهكذا كانت تظهر النقط الصغيرة التي يتصادف مرورها من الثقب (ث) كما يظهر نجم ساطع في ظلام الليل الحالك
ولا يفوتنا أن نذكر أن هذه الجسيمات التي تمر من الثقب مكهربة، وقد حدثت الكهرباء فيها من احتكاكها بعضها ببعض عند خروجها من الرشاشة التي حولت السائل بفعل الهواء إلى رذاذ أو ربما عند ظني أثناء احتكاكها بذرات الهواء المنتشر في الغرفة، وثمة طريقة أخرى لكهربة هذا الرذاذ عند اقتضاء الحال وذلك بتسليط أشعة راديومية عليه بتقريب عنصر الراديوم المعروف من الجهاز، بحيث تتصادم الجسيمات الراديومية المتناثرة من الراديوم المشع بهذا الرذاذ الرفيع فتعلق به جسيمات كهربائية سالبة كالإلكترونات أو جسيمات كهربائية موجبة كالبوزيتونات
وتتلخص التجربة في نشر رذاذ الزيت في الغرفة العليا، ثم انتظار مرور أفراد من هذا الرذاذ في الغرفة الثانية أي بين كفتي المكثف، ثم في كهربة القرصين باستعمال المفتاح م كهربة موجبة في إحدى الكفتين سالبة في الأخرى، وذلك باستعمال البطاريات السالفة الذكر، بحيث أنه بإدارة المفتاح إلى الجهة اليسرى مثلاً تتصل الكفتان وينعدم المجال الكهربائي، وبإدارته إلى الجهة اليمنى يتولد مجال كهربائي يختلف وفق المقاومات الكهربائية التي في طريقه تبع إرادة الراصد
وتتضح الكهرباء أو الشحنات الكهربائية الموجودة على هذا الرذاذ من أنه عندما نوصل المفتاح الكهربائي، ونجعل فارقاً في الضغط الكهربائي بين الكفتين، أي عندما نعمد على إيجاد مجال كهربائي قوي - في الاتجاه المناسب - تنجذب هذه الجسيمات بسرعة نحو القرص ن مظهرة بذلك شحنتها الكهربائية
على أنه إذا أعدمنا المجال الكهربائي بتوصيل الكفتين؛ فإن هذه الجسيمات من الرذاذ الزيتي تبدأ وقوعها رأسية تحت تأثير جاذبية الأرض حتى تقترب اقتراباً شديداً من الكفة ك، وهكذا كلما أعدنا المجال الكهربائي فإن هذه العوالم الصغيرة تغير اتجاهها من جديد وترتفع إلى سقف الغرفة ق. وبهذه الطريقة أمكن الحصول على حركة مستمرة صعوداً وهبوطاً لرذاذ الزيت بين الكفتين، وفي الغرفة الضيقة الثانية باستعمال المفتاح م
وقد أمكن لمليكان أكثر من ذلك، إذ تمكن من شل حركة هذه النقطة الحائرة من الزيت التي
يريد أن يرصدها في غرفة هذا الجهاز، هذه النقطة من الرذاذ الواقعة بين قوة مجالين: المجال الأرضي الذي يجذبها إلى أسفل كما يجذبنا معشر البشر والمجال الكهربائي الذي يجذبنا إلى أعلا، بأن ساوى بين قوة المجالين المتعارضين، وذلك بجعل قوة المجال الكهربائي معادلة لقوة المجال الأرضي. عند ذلك تقف النقطة الحائرة والجسم التعب بين الكفتين. وعند ذلك عين مليكان القوة الكهربائية اللازمة لإيقافها والتي لها علاقة كما سيرى القارئ بما يحمله هذا الجسيم من الإلكترونات.
وسيرى القارئ أن هذا كان كافياً لمليكان لحساب شحنة الإلكترون ولأن يُتيقن أن في كثير من تجاربه وجدت ذرات زيتية كانت تحمل إلكترونا واحدا
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة
من هنا ومن هناك
دانزج موطن النزاع
(ملخصة عن (باري ميدي))
لم يكن يخطر ببال أحد في السنين الأخيرة أن مدينة دانزج التي كانت
موضع نزاع الدول في غابر الأزمان، ستحتل المكان الأول في سياسة
أوربا المسلحة اليوم
وتعد دانزج من أقدم مدن العالم، فقد ظهرت في عالم الوجود منذ ألف سنة وكانت في العصور الوسطى تدعى (ملكة البلطيق) نظراً لمركزها الممتاز على شاطئ هذا البحر
وقد حاربت في سبيلها الأمم البروسية والدانمركية والبولونية، والبرانبرجرز، والتوتون منذ بدء القرن الثاني عشر إلى اليوم
فاحتلها الفرسان التوتون في بداية القرن الرابع عشر، ولكن سرعان ما انتهى أمد احتلالهم لها وصارت إلى أيدي البولونيين في سنة 1454، فتركوا لها الحرية في الاحتفاظ بقوانينها القديمة، وجعلوا لها الحق في سك العملة باسمها باعتبارها (مدينة حرة) تحت حماية بولندا. ولم تقع في أيدي بروسيا إلا سنة 1793، وبعد أربع سنوات من هذا التاريخ فتحها جيش فرنسي تحت قيادة (مارشال لففر). وظلت دانزج مدينة حرة في أيدي الفرنسيين إلى سنة 1813
ولكن الجيوش البروسية احتلت دانزج للمرة الثانية بعد موقعة (واترلو). لا لتكون تابعة لها إلى الأبد، فقد انتزعتها معاهدة فرساي من الريخ وعادت دانزج (مدينة حرة) للمرة الثالثة - تحت إشراف عصبة الأمم - وأعطيت بولندا الحق في استغلال مينائها، ومنحت كذلك الحق في تمثيلها من الناحية السياسية.
فدانزج لم تكن ملكاً للألمان إلا منذ سنة 1815 إلى سنة 1918 أي قرناً من الزمان. وقد ظل العلم البولوني يرفرف عليها منذ سنة 1454 إلى سنة 1793 أي ثلاثمائة سنة على التقريب. وقد أعطيت دانزج إلى بولونيا بحكوماتها الحرة ومساحتها التي تقدر بثمانمائة وخمسين ميلاً مربعاً، وسكانها الذين يقدر عددهم بمائة ألف نسمة، ليكون لها منفذ إلى
البحر. فكانت هذه المدينة المنفذ الوحيد لتلك المملكة العظيمة حتى سنة 1928، وقد ازدادت الحركة بمينائها على أيدي البولونيين فوصلت إلى ثمانية مليونات طن سنة 1930 بعد أن كانت لا تزيد على مليونين قبل الحرب. فقد أنفقت بولندا مائة مليون من الجنيهات لاحياء هذه الميناء. وأنشأت قاعدة هامة للملاحة والتجارة في (جيدنيا) على مقربة منها. ومن المعلوم أن ثلثي تجارة بولندا التي يقدر عدد سكانها بـ 35000000 نفس تمر من تين الميناءين، وأسطول بولندا ليس له قاعدة غيرهما وتقع دانزج على مصب نهر الفستيولا ولهذا النهر صفة ممتازة في بولندا، فإذا ضمت دانزج إلى الرايخ أصبحت المواصلات الحيوية لبولندا تحت رحمة ألمانيا
فالفوهرر كما يظهر لا يريد أن يضم بلداً ألمانياً إلى الريخ، ولكنه يريد أن يعزل بولندا عن البلطيق، ويطوقها من البحر والبر حتى تضطر سياسياً واقتصادياً إلى الانضمام إلى الريخ، وهذه كارثة تدفعها الآن بولندا بكل ما لديها من قوة. وتريق دماء الملايين من أبنائها لكي تتحامى وقوعها
الفاشية في الهند
(عن مقال بقلم خواجة عباس أحمد)
نظرة بسيطة إلى خريطة العالم تدل على مقدار اهتمام القوات النازية والفاشية واليابانية بالهند. فالهند هي أقوى دعائم الإمبراطورية البريطانية في الشرق، وهي بكثرة سكانها، وأهميتها التجارية والسياسية ومركزها الحربي وحدودها المتاخمة لأفغانستان وإيران والصين وروسيا السوفيتية. . . تعد عاملاً قوياً في السياسة الفاشية فالهند الحرة حليفة للديمقراطية، يحسب حسابها إذا سارت مؤيدة لصفوفها، وهي عدو يخشى بأسه، إذا سارت تحت النفوذ الفاشي سواء من الوجهة السياسية أو الفكرية.
ولقد دأبت الدعاية الفاشية على بث بذور العداء نحو بريطانيا واستغلت لذلك الحركة الوطنية وأملها أن تجتذب إليها القلوب، وتستهوي النفوس. ولهذه الحركة الجديدة قصة قديمة. فمن المعروف أن رجال السياسة الألمانية كانوا على اتصال دائم ببعض الهنود الثائرين في منفاهم في أوربا إبان الحرب العظمى. وكان حلم ألمانيا بإنشاء إمبراطورية
ألمانية تمتد من برلين إلى بغداد فدلهي، يشعل فيها ضياء الأمل؛ فلجأت إلى مد يد المساعدة إلى هؤلاء في منفاهم، وعادوا بدورهم ينشرون الدعوة إلى المطالبة بحرية الهند بمعاونة الألمان
ولكن وجهة نظر الزعماء الهنود اتجهت في السنين الأخيرة اتجاهاً مخالفاً لدول المحور.
ولم يغب عن البال الحماس الذي كان يقابل به زعماء تلك الدول منذ ثماني سنوات، حين كان الشباب يقرنون أسماءهم بأسماء مازيني وجاريبلدي ودان برين وغيرهم من الزعماء. وكان الهنود الذين يعودون من دراستهم بألمانيا يتغنون بالاشتراكية الوطنية، وكنا في الهند نمدح اليابان ونعطف عليهم، ونقابل بالزهو والإعجاب كل انتصار لهم على الروس: كأمة أسيوية تنتصر على أمة أوربية
فما كاد يظهر العهد الدكتاتوري على حقيقته، وتنكشف نيات أصحابه بظهور أعمالهم، حتى تغيرت الحال وأخذ الهنود ينفضون عنهم ويشعرون بالاستياء عند ذكرهم؛ فاضطهاد ألمانيا لليهود ذلك الاضطهاد الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ العالم، وقتل الاشتراكيين في إيطاليا وغزو الحبشة العزلاء كان لها أسوأ الأثر في نفوس الهنود الذين أعلنوا سخطهم على هذه الأعمال بواسطة المجلس الوطني
فالدعاية النازية والدعاية الفاشية قد أخفقتا كل الإخفاق في اجتذاب نفوس الهنود الذين أعلنوا رأيهم بلسان المجلس الوطني
إلا أن بعض النفوس المولعة بالأسرار والأعاجيب، من الهندوس والمسلمين، قد تأثرت إلى حد ما بتلك الدعاية التي تنسب فلسفة هتلر إلى الهند وسزم في معاملة المنبوذين، وتنظر إلى البابا من ناحية الديانة البوذية التي يدين بها سكانها، وتحرك عوامل الضغينة في نفوس المسلمين - الذين يميلون بطبيعتهم إلى العرب - بإثارة مشكلة فلسطين. ومهما تبلغ تلك الدعاية من المقدرة على التضليل، فلن تزيل من النفوس أثر تلك الأعمال التي تقضي على آمال المدنية في العصر الحديث
تجفيف مياه بحر الروم
(ملخصة عن (ذي أمريكان ويكلي))
وضع مهندس ألماني مشروعاً عجيباً لتخفيض مياه بحر الروم (البحر الأبيض المتوسط) ستمائة قدم بإقامة سد عظيم على بوغاز جبل طارق المتقارب الشاطئين.
ويقال إن إيطاليا التي تطلب مزيداً من الأرض، سوف يمنحها هذا المشروع ما تريد من الأرض الواسعة، لا من الدول الأخرى التي تمانع في ذلك كل الممانعة، ولكن من البحر. ومن المعلوم أن إيطاليا تريد أراضي متاخمة لمستعمراتها، وهذا من السهل أن تحصل عليه إذا نفذ هذا المشروع.
ولكن ماذا عسى أن تقول فرنسا واليونان ومصر عن هذا المشروع؟ إنها ولا شك ستستفيد أصقاعاً فسيحة من الأرض الخصبة؛ وستكون لديها فرصة عظيمة لاستغلال القوى المائية في مختلف الصناعات.
ولعل بريطانيا وغيرها من الدول التي تعول على الملاحة في هذا البحر هي وحدها التي تخشى الخسارة من تنفيذ هذا المشروع. ولكن هذه الدول قد لا تتأثر بتنفيذه إذا أنشئت الممرات والخلجان التي تسهل لسفنها السير وتجعل حركة الملاحة متيسرة على الدوام
ومما يجعل هذا المشروع محتمل التنفيذ أن مياه البحر الأبيض المتوسط بطبيعتها تسير نحو النقصان. فإن الأنهار العظيمة التي تصب فيه، وهي نهر إلبو الإيطالي ونهر الرون الفرنسي ونهر النيل المصري وبعض الأنهار الصغيرة - تعد قليلة لا تعوض المياه التي يفقدها هذا البحر بالتبخر. ولا بد من وصول فيض من المياه إليه عن طريق البحر الأسود وبوغاز جبل طارق الذي يمده بمياه المحيط الإطلنطيقي
فإذا وضع سد محكم على بوغاز جبل طارق، ووضع سد آخر على باب البحر الأسود بوغاز الدردنيل، فإن مستوي مياه البحر الأبيض يهبط بالتدريج، إذ أن مقدار المياه التي يفقدها بالتبخر ستزيد على المقدار الذي يصب فيه
وإذا كان المشروع يرمي إلى تخفيض مياه هذا البحر ستمائة قدم فحسب، فمن الميسور بعد أن يتم هذا التخفيض أن يسمح لمياه البحر الأسود، ومياه المحيط الأطلنطي أن تصب فيه بمقادير معينة تمنع الخطر المنتظر من حبس هذه المياه
فالمشروع كما هو ظاهر لا يستعصي على التنفيذ، وهو من المشروعات التي تدر الخير والنفع على كثير من الأمم الواقعة على هذا البحر.
أما الاعتراض الذي يوجه إليه فهو اختلال سطح الأرض بعد أخذ هذه المقادير العظيمة من المياه، وتعرضها للزلازل والبراكين التي تقتلع صخور هذا البحر بعد زوال ذلك الثقل العظيم عنها، وقد يعود بركان أذنة وبركان فيزوف إلى الانفجار من جديد
لذلك كان علماء طبقات الأرض وحدهم دون سائر العلماء هم الذين يعارضون في تنفيذ هذا المشروع، ويرفعون صوتهم بالتحذير من الإقدام عليه. ومما يقولونه بهذا الصدد أن الزلازل قد تكون من القوة بحيث تحطم السدود والحواجز المراد وضعها، بحيث لا يمكن إصلاحها وتعيد فيضان المياه إلى البحر
الجوائز الأدبية في فرنسا
(عن مجلة الآداب والفنون)
في فرنسا كثير من الجوائز الأدبية التي ما زالت أكبر مشجع للأدباء على الإنتاج. فهناك جوائز المجمع العلمي الفرنسي وجوائز المجامع الأدبية، وجائزة (النهضة) وجائزة النقد، وجائزة (الجزائر) الأدبية، وغيرها من الجوائز الفردية
وقد نال الجائزة الكبرى للآداب هذا العام الكاتب جاك بولانجير، تقديراً لإنتاجه الجيد. ونال جائزة الرواية الكاتب (أنطون دسانت اكسوبيري) من أجل كتابه المسمى (أرض الرجال) الذي يعد من الكتب الرائعة وإن كان لا يعد رواية حقا. ونال جائزة (لويس بارتو) الكاتب شوفاليير شيخ معهد غرونوبل
أما جائزة (النهضة) فلم تعط - كما علمنا - لأحد بعد، وقد قدم إلى جمعية هذه الجائزة التي تضم كبار الأدباء، ومنهم إدوارد هريو، كثير من الكتب والروايات. ويقولون إن الجائزة ستعطى للكاتب (ماريوس ريشارد) مؤلف رواية (جان التي ذهبت) لأن له كثيراً من الأنصار. وربما زاحمه (رايموندمّييه) مؤلف (مَلَك الثورة)، و (كريستيان ميغره) الذي سحر أناساً كثيرين بروايته المشهورة (ما يزالون رجالاً)
وفي الجزائر جائزة أدبية قيمتها 10 آلاف فرنك، وستعطى في نهاية هذا العام لأعظم كتاب يستهوي الجمهور سواء أكان موضوعه في الأدب أو التاريخ أو الاقتصاد السياسي أو علم الآثار أو علم الاجتماع. وتعطى هذه الجائزة للجزائريين وللفرنسيين فيها
أما جائزة النقد وقيمتها 6 آلاف فرنك، فقد نالها لهذا العام (جوهن شاربانتير) النقادة الكبير للروايات في (ميركورد فرانس) وقد لاقت هذه الجائزة الرضى التام. وجوهن شاربانتير هذا أيرلندي فرنسي الأب، وهو في إنتاجه الأدبي يعني بإنكلترا وفرنسا معاً فلقد أصدر فيما يتعلق بإنجلترا:(صديقتنا إنجلترا) و (التصوير الإنكليزي)، ثم أصدر (تطور الشعر الغنائي في فرنسا بين 1830 - 1930) ثم (الشعر الرمزي)، إلى جانب دراسات كثيرة نقدية كتبها عن (تيودور بانفيل) و (جان جاك روسو) و (الفرد دموسيه) و (بودلير) و (فولتير).
فمتى تنظم عندنا جوائز كهذه لتشجيع الأدباء. . .؟ الحقيقة أن هذا الشرق لا يعرف إلا قتل الأدباء والاستخفاف بهم. . .!
البريد الأدبي
على هامش خطاب رئيس الوزراء
صاحب هذه المجلة وكاتب هذا المقال لم ينفكا يناوئان عدوَّين لمصر، أحدهما تسلّط الموظف بغير حق، والآخر (الخدر والنعاس). وفي الخطاب الرصين الذي ألقاه رئيس الوزراء في التاسع عشر من هذا الشهر ما حرفه:
(وكم رأينا ببعض الموظفين من ضجيج كاذب وحركات لا خير من ورائها ولا بركة. وكم شاهدنا القادرين من أهل الفن والمعرفة يُقصون عن العمل فيما هم أهل له، في حين يشغل بعض المراكز الكبيرة ويتقاضى المرتبات الضخمة من يكتفي من الوظائف بمظهرها وجاهها دون أن يستطيع الاضطلاع بمسئولياتها حق الاضطلاع)
ثم (نعتمد على الشباب. . . وليعلم الشباب أن الباب مفتوح أمامه، وأن الحكومة تريد أن تنتفع بالكفايات والروح الفتية حيثما وجدت، وليس كل شاب فتياً، وعند بعض الكهول شباب متوقد)
هذا كلام يطرب له من يريد التقدّم الحق لهذا البلد: بلد الموظف المتعجرف والناعس المطمئن. أمران ثنتا عندنا بفضل عهدين كريهين: كلاهما نشَّأ الناس للقناعة بخدمة الحكومة القائمة مع حصر الفخر في ذلك، فانهدمت الروح الوثابة والهمة العالية. وعلى هذا جرت الأمور في خطٍّ لا يمتد طرفاه فجمدت حيث هي
الموظف خادم الأمة، منها يتلقى راتبه ولأجلها أنشئت وظيفته. وجاء الوظائف بالقياس إلى جلال الخدمة لا بالنسبة إلى مبلغ الراتب. وإذا شغل الوظيفة من لا يستحقها فذلك مسلَبَة لمال الأمة وعدوان على حقها. وعلى هذا فاستثمار الوظيفة لغير خدمة الأمة إثم، و (المحسوبية) إثم، والتهاون بالمصلحة العامة إثم. ففي وزارة المعارف مثلاً من يستعين بوظيفته على تقرير كتاب من كتبه، وفي كلية الآداب من يدرِّس مادةً زميله المصري أحقُّ بتدريسها، ومعهد الموسيقى يكلفنا مالاً كثيراً ولا يصنع شيئاً
هذا وفي حِسبان بعض الشرقيين أن المقدرة لا تؤاتيك إلا إذا تدلت لحيتك وتخدّد وجهك وارتعشت يدك وثقلت رجلك وأعانت العين صاحبتها على فتح باب وإغلاق نافذة
وأكبر الظن أن الشيوخ في هذا البلد يحذرون الشباب بعض الحذر أو كله. ذلك لأن الشبان
المثقفين ولا سيما الذين تخرجوا في جامعات أوربة ربما أصابوا من العلم والخبرة ما فات الشيوخ. دليل ذلك مثلاً أن البعثات الأولى كانت تقنع بنيل إجازة كذا. وأما البعثات الأخيرة فقد أدركت أن هذه الإجازات ليست كل شيء: ذلك أن في مصر من يحملها فليست هي بالعزيزة ولا بالنادرة؛ ثم الإجازة شهادة، والمقدرة فيما وراء الشهادة، المقدرة في الاطلاع الواسع والتأليف الرفيع والإنجاز. هذا في باب العلم وعليه قس أبواباً أخرى
تلك حقائق فطنت إليها الوزارة الجديدة وأعلنها رئيس الوزراء ونحن نرقب ما يكون. نرقب وضع الشيء موضعه، فتُسند الوظيفة إلى من هَمُّه خدمة الأمة وباعثه الإخلاص ومقصده التقدم؛ ويشغل المنصب، سواء رفع أو وضع، صاحب الكفاية، والكفاية دليلها العمل المُنجَز؛ وببُعْد من الأجانب مَن في المصريين غنىً عنهم؛ وتُغلق المعاهد والمصالح التي لا تثمر أو تصلح من الأساس بغير تلطف ولا ترحم
بقي أن رئيس الوزراء قال: (كذلك نود أن لا يفوتنا الاتصال بالكتاب والمفكرين، فإنه يسرنا أن نحصل على تحقيق رقابة الأمة في مختلف صورها)
وفي هذا دلالة على أن الحكم في مصر بعيد عن الاستبداد بالرأي وأن للفكر دولته وعزته. ومن العسْف أن يهمل الحاكم نظر المستنيرين، فهم هم الذين يؤدبون الأمة ويهذبون الأذهان من طريق الكتابة والتعليم العالي. وعسى أن تنفسح المجلات الراقية - وفي مقدمتها الرسالة - لإشارات أهل الدراية والخبرة من الكتاب، فهذى الصحف اليومية مشغولة عن الجانب الفكري بسرد الأخبار المحلية الخاصة بالقطن والدفاع وغيرهما ثم ببرقيات السياسة الخارجية ومسير الحرب القائمة في أوربة الضائع حظها لانصرافها إلى المادة المطلقة وهيامها بالسلطان فالبطش
وإشارات أهل الدراية والخبرة من الكتاب يحق لها أن تتعدى جانب الثقافة إلى جوانب نشاط الأمة كلها. حتى الدفاع الوطني يلفت نظر المفكر الذي شهد وسمع من قبل. وأما الشؤون الاجتماعية فهي محور نظره، ذلك أن الحياة الاجتماعية تحكم جميع ألوان نشاط الأمة. وفي العدد المقبل - إن شاء ربك - حديث يجري على قلم الدعاية في وزارة الشؤون الاجتماعية.
(الإسكندرية)
بشر فارس
وفاة الأستاذ سجموند فرويد
توفي الأستاذ سجموند فرويد في ليلة الأحد الرابع والعشرين من شهر سبتمبر في منزله بهامستيد عن ثلاثة وثمانين عاماً قضاها في خدمة الطب وعلم النفس وشؤون الاجتماع دارساً وباحثاً ومعلماً ومؤلفاً حتى ترك للعالم والعلم ثروة من نتاج الفكر العبقري الخالق كان لها الأثر العظيم في توجيه علم النفس إلى وجهة جديدة
ولد هذا العلامة الكبير بمدينة فريبرج الصغيرة في اليوم السادس من شهر أغسطس سنة 1856 ثم تلقى ثقافته العامة في فيينا ورحل بعد ذلك إلى باريس فدرس نظريات الدكتور شركون في الأعصاب وخواصها وأوضاعها. ثم عاد إلى فيينا فتولى التدريس في جامعتها وتقدمت به كفايته حتى عين فيها أستاذاً لأمراض الأعصاب وعلاجها سنة 1902، وفي خلال ذلك توفر على البحث والتأليف فلفت إليه أنظار العلماء بأصالة فكره وثقوب ذهنه وطراقة رأيه، ونال الدكتوراه الفخرية في سنة 1909 من جامعة كلارك ووستر بأمريكا. ثم عين في السنة التي بعدها عضواً أجنبياً في الجمعية الملكية ببريطانيا. وظل في وطنه يخدم العلم والتعليم وهو موفور العيش مرفوع المكانة حتى ضمت النمسا إلى ألمانيا فاضطهدته العصبة النازية لأنه يهودي فهاجر بزوجته وأولاده إلى لندن فعاش بها إلى أن توفاه الله
كان فرويد بطلاً من أبطال العلم جاهد فيه وصابر حتى انتصر وفتح. فهو صاحب مذهب جديد في علم النفس قوض أسسه القديمة، وقلب أوضاعه القائمة، ولقي في سبيل تأييده ونشره ما يلقاه المجددون من عنت الجدل وسفه الخصومة. ورماه الناس بالدجل والشعوذة حين قرر أن الأمراض العصبية تشفى بالتحليل النفسي؛ ولكنه يثبت لخصومه يقارعهم بالحجة ويأخذهم بالتجربة حتى انظم إليه طائفة من صفوة العلماء فاعتقدوا مذهبه وأعانوه على ضبطه وبسطه
وخلاصة مذهب فرويد في علم النفس أن الغريزة الجنسية هي علة الاضطرابات العصبية، وأن ما يختزنه العقل الباطن في جميع مراحل العمر هو الذي يؤثر فينا ويهيمن علينا؛
والعقل الباطن إنما يمثل رغبات النفس الحقيقية؛ أما العقل الواعي فيمثل رغباتها العرفية التي أقرتها البيئة وارتضتها التقاليد؛ وذلك الصراع الذي ينشأ بين رغبات العقل الباطن ورغبات العقل الظاهر هو الذي ينتهي أحياناً إلى الاضطرابات العصبية. فإذا نجحنا في إطلاق الغرائز المكبوتة نجحنا في توفير الهناء المعنوي للنفس. لذلك أخذ فرويد يعالج الأمراض العصبية بالكشف عن مخزون العقل الباطن وهو ما يسميه بالتحليل النفسي. ويقول فرويد إن الأحلام هي تعبير عن رغبات العقل الباطن فلا تنبئ عن المستقبل ولا تدل عليه.
وله في تفسير الأحلام كتاب ضخم يؤيد به هذه النظرية من طريق التحليل العلمي والمنهج القويم
وقد انبسط سلطان المذهب الفرويدي على الأدب والفن والفلسفة والتشريع، وأحدث موجة من التفكير في أحوال الإنسان الداخلية سيكون لها الأثر البالغ في توجيه حياته وتقدير عمله
خطبة منبرية من نوع جديد
ألقى الخطيب الكاتب الأستاذ محمد عبد الرحمن الجديلي مدير قسم المساجد بوزارة الأوقاف خطبة الجمعة الأولى من شعبان في مسجد يحيى باشا الذي صلى به صاحب الجلالة الفاروق المعظم، فكانت الخطبة في إنشائها وإلقائها ومغزاها نمطاً عالياً في فن سحبان الذي ضعضعه الزمن حتى انقلب بيانه لغواً على الألسنة، كما انقلب سيفه خشباً في الأيدي. وطرافة هذه الخطبة أنها تشعرك بجدة الدين ومسايرته لكل عصر ومطابقته لكل حالة؛ فقد عالج فيها الخطيب أعراض الحرب القائمة من الخوف والتخاذل والأثرة والادخار والاحتكار بطب من كلام الله وحديث الرسول كأنما نزل به الوحي أمس. ولقد كان أثر هذه الخطبة بليغاً في نفوس من سمعوها في المسجد أو في المذياع حتى كتب إلينا كثير منهم يطلب إلى وزارة الأوقاف أو وزارة الشؤون الاجتماعية أن تضع أمثال هذه الخطبة فيما يحزُب الناس كل يوم من أمور العيش ومشاكل الحياة ثم توزعها على الخطباء في المدن والأقاليم، فإن في ذلك توثيقاً لنظام الجماعة بقانون الله، وتحقيقاً لغرض الشارع من سن هذه الخطبة
ماذا تركة روما وماذا خلفة أثينا؟
أشار صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا في البيان الذي أذاعه إلى ما جناه الخلاف على المدنية الأثينية، وإلى ما جناه الترف على الحضارة الرومانية، وناشد أبناء مصر أن يتعظوا بأخبار الدول السالفة فيجعلوا القصد والاتحاد وسيلتهم إلى المجد المنشود.
ولقد ذكرت بمناسبة إشارته إلى روما وأثينا أن رفعته لما كان وزيراً للمعارف قد أعلن مباراة في ترجمة كتب مختارة من روائع الأدب الغربي منها كتابان: (تركة روما) و (تركة أثينا).
ومع أن المباراة ألغيت في عهد الوزارة التالية فإني أعتقد أن كثيرين من الأدباء قد أفادهم اختيار تلك الكتب، وأن محاولات بذلت لترجمة هذين الكتابين بالذات من بين الكتب المختارة. . .
فهلا أعادت وزارة المعارف النظر في قرار الإلغاء لهذه المباراة، أو هلا نشط من يمكنه وقته وظروفه إلى ترجمتها بغير حاجة إلى جوائز الوزارة؟!. . .
عبد اللطيف النشار
المنضدة في اللغة
في مقتطف يونيه أخذ العلامة الأب الكرملي على صاحب كتاب (مباحث عربية) استعماله لفظة الِمْنضَدَة بدلاً من النضَد إذ قال إنها لم ترد في كلام فصيح. وذكر كاتب جعل توقيعه نجماً - في الرسالة رقم 317 (البريد الأدبي) أن المنضدة وردت في (أساس البلاغة) هكذا: (المنضدة شيء كالسرير له أربع قوائم يضعون عليه نضدهم). وقد راجعت مادة ن ض د في (أساس البلاغة) ولم أعثر على هذا النص. فهل هو في مادة أخرى؟
عسى أن يرشدنا الكاتب الفاضل إلى مظنة النص فيفيد
قارئ
رد على (اقتباس الكتاب)
حضرة الفاضل الأستاذ محرر (الرسالة).
تحية وسلاماً. . . وبعد، قرأت في عدد (الرسالة) الأخير الكلمة التي تهجم فيها الدكتور
بشر فارس من جديد عليّ. والرد على تهجمه أن كتاب (فرعون الصغير) للأستاذ محمود بك تيمور وصلني صبيحة 15 يونية سنة 1939، والكتاب يحمل إهداء تيمور بك، والتاريخ 14 يونية مرقوم تحت التوقيع. وكتبت كلمتي في الأسبوع الثالث من شهر يونية، وقرأتها على الأستاذ صديق شيبوب في حينها، وبعثت بها إلى (الرسالة) بتاريخ 27 يونية - أعني قبل صدور مقتطف يولية بأيام -
على أن كلمتي وإن تأخر نشرها للعدد الصادر في 14 أغسطس سنة 1939، فذلك على ما يبدو لي راجع إلى تقديم بعض كلمات أرسلتها للرسالة، وكانت لمناسباتها تتطلب نشرها في وقتها، من ذلك كلمتي عن المرحوم فليكس فارس، وردودي على الدكتور بشر فارس، وردي على الدكتور غالي والأستاذ المنقبادي.
وأظن أن في هذا البيان ما يقطع كل مظنة للاقتباس
(الإسكندرية)
إسماعيل أحمد أدهم
مهرجان للأدب في السودان
عزم شباب السودان على أن يجعلوا من عيد الفطر المبارك عيداً قومياً آخر. فقرروا أن يقام في أيامه الثلاثة مهرجان للأدب في واد مدني عاصمة الجزيرة
وفي هذا المهرجان ستعرض جهود السودان المتعلم، وما ناله من حظ في العلم والأدب. وسيكون العرض شاملاً لمختلف نواحي العلوم والفنون والآداب من أبحاث فلكية وطبية واجتماعية وتاريخية.
وهذه فرصة طيبة لتقوية الصلات الثقافية بين مصر والسودان يجدر بأبناء الشقيق انتهازها حتى يكون لنا من العيد أعياد. فهلا يبادر الكتاب والأدباء لزيارة السودان في رحلة شتوية ممتعة ليروا أثار النهضة الأدبية؟ وعلى أرباب الصحف ومحرريها التي لا تخلو منها دار سودانية واجب كبير في هذا الصدد. وسيجد مندوبوها مادة غزيرة للكتابة عن ناحية مجهولة في السودان الذي لا يعرفه وا أسفاه إلا قلة من أبناء مصر. وما أسعد قلوب السودانيين جميعاً إذا ساهمت مصر بكتابها ومفكريها في ذلك المهرجان، فيروا بينهم توفيق
الحكيم والعقاد والزيات وزكي مبارك والمازني وفكري أباظة وفتحي رضوان وإبراهيم المصري
وللسودان على هؤلاء جميعاً دين يجب أن يؤدوه، فهو يدرس أدبهم، ويقرأ كتبهم، ويعيش معهم دائماً بروحه وعطفه، وهو لا يرجو إلا أن يزوروه بهذه المناسبة ليصفوه ويعرفوه وينصفوه وينعموا بجوه الشتوي الجميل.
هذا، ومن لم يستطع الحضور، فلا أقل من أن يرسل تحيته إلى السودان على عنوان سكرتير المهرجان أحمد محمد خير السوداني واد مدني.
سكرتير المهرجان
حول رواية محمد علي الكبير
سيدي الأستاذ الجليل صاحب الرسالة
قرأت لمحرر الرسالة الفني كلمة عن رواية (محمد علي الكبير) هنأنا فيها على قبض ثمنها من الفرقة القومية وعزا عدم إخراجها إلى أسباب غير صحيحة
والواقع أن الرواية مأخوذة عن قصة (ابنة الملوك) للأستاذ محمد فريد أبو حديد، وقد فازت بجائزة ممتازة في مباراة التأليف المسرحي عام 1929 بين ما يربي على مائة رواية لمؤلفي المسرح المصري.
وقد نشرت (الرسالة) منظراً تمثيلياً منها في العدد الخاص الذي صدر بمناسبة تولي صاحب الجلالة الملك سلطته الدستورية. وحاشا أن أصور محمد علي باشا في صورة السفاح كما توهم المحرر، فإني أعقل من أن أصور منشئ مصر الحديثة في هذه الصورة.
وستعرض الرواية في الوقت المناسب، وسيراها رواد المسرح والنقاد ويصدرون حكمهم على موضوعها وقيمتها
أما السبب الصحيح في تأجيل تمثيلها فهو اشتمالها على مواقف حربية بين محمد علي والإنجليز، وقد ورد فيها انتصاره عليهم في موقعة رشيد، فرأوا من المناسب ألا تمثل في الظروف الدولية الحاضرة
أما المكافأة عليها فلم تدفعها الفرقة وإنما فازت بحق تمثيلها من غير مقابل، لأن شرط
مباراة التأليف كما وضعته وزارة المعارف يعطي الفرقة هذا الحق. وقد صرفت الجائزة من هبة المرحوم عليوه بك التي رصدها تشجيعاً للتأليف المسرحي. . .
يوسف تادرس
حول الفن والحرية أيضاً
تتبعت الدوائر الفنية والأدبية في مصر باهتمام شديد كل ما كتب حول جماعة الفن والحرية في مجلة (الرسالة) الغراء. ولقد ضمت هذه الجماعة مجموعة من الشباب المصري المثقف تلمس فيهم كل إخلاص وحب للوطن العزيز. ولا شك في أن كل ما كتب في (الرسالة) ما هو إلا كتابات سطحية عن أغراض الجماعة لم توف حقها من البحث حتى نطمئن جميعاً إليها حتى إنني لم أكد أدرك ما يريده أعضاء الجماعة من حركتهم الجديدة.
بقي سؤال، وهو أليس للجماعة حساب على جماعة (الفن والحرية)، وهي تؤمن به كما علمت حتى تفصح عن أغراضها الحقيقية، وتوضح بكل جلاء ما ينتجه أعضاؤها من الفنانين أو الأدباء - من فنون حديثة سواء في الرسم أو في الأدب أو في الشعر. ومقال الأستاذ (كامل التلمساني) الذي نشر بالعدد (321) ودافع فيه عن فنه وفن زملائه (فتحي البكري) و (كمال وليم) والأستاذ (حسين يوسف أمين) و (أبو خليل لطفي) ثم الأستاذ (يوسف العفيفي) و (فؤاد كامل) لم يوضح فيه بشكل قاطع وغير قابل للشك ماهية فنونهم هذه؛ بل ترك مقاله خالياً من أي نتيجة حاسمة نطمئن لها. ثم جاء بعده مقال للأستاذ (رمسيس يونان) نشر بالعدد (322) عرض فيه عرضاً عاماً شاملاً سريعاً لحركة (السيرريالزم)، وبعض أساليبها في التعبير. وفي هذا المقال أيضاً لم يخرج القارئ منه بنتيجة حاسمة
وأذكر أيضاً كلمة جاءت في صفحة (البريد الأدبي) في أحد أعداد (الرسالة) الغراء كتبها الأستاذ (أنور كامل)، وهي لا تقل في غموضها وشمولها عما كتب من قبل
أليست الحكمة إذن أن تفصح جماعة (الفن والحرية) عن فنها وعن أدبها في صراحة تامة دون مواربة أو إبهام؟
وبعد، فإنني أرى أن أعضاء هذه الجماعة تغمرهم عواطف حارة جياشة في صدورهم
الرحبة لخلق فن جديد، وأدب جديد ينبت حقاً من تربة مصر رأساً
ولكن لا بد من إفصاح ولابد من بيان. فهل تتقدم جماعة (الفن والحرية) فتبين لنا ماهية هذه التحولات الجديدة في الفنون وتذكر لنا أثرها في مستقبل مصر الفني والأدبي والمعنوي، على أن يكون بيانها مبنياً على أسس متينة من البحث العلمي أو الفني، معترف بها لدى الجميع.
حسين عبد الله السيد
ليسانسيه في الآداب
الكتب
التربية النظامية
لصاحب العزة القائمقام علي حلمي بك
مدير شرطة مديرية البحيرة
بقلم الأستاذ عبد المنعم خلاف
تفضل سعادة المؤلف بإهداء هذا الكتاب القيم إليّ؛ وهو الكتاب الأول من نوعه باللغة العربية فيما أعلم، عولجت فيه أوضاع الحياة الشخصية والاجتماعية بوضوح وتفصيل وضبط وبيان رصين على الأسلوب المتكافئ
وقبل أن أتحدث عن الكتاب يسرني أن أتحدث قليلاً عن مؤلفه: فهو مثال للرجل العسكري الكامل الذي يعلن بشخصيته وخلقه عن الفضائل العسكرية التي تقوم لنا قائمة ما لم يعد إلينا الاعتزاز بها والعمل على إحيائها في نفوس الشباب بالقدوة والتعليم. فإنها فضائل تملأ الحس والنفس لأنها في الجسم والفكر والروح
وقد تقلب سعادته في كثير من المناصب في الجيش والشرطة منذ سنة 1911 إلى الآن، وكان معنيا دائماً بدرس شئون الحياة النظامية التي تستلزمها مهنته في القرى والمدن والبيت والشارع. وقد رحل إلى كثير من ممالك الشرق والغرب، فسافر إلى فرنسا وألمانيا وإيطاليا وسويسرا والنمسا وتشيكوسلوفاكيا والمجر ويوغوسلافيا وتركيا واليونان والحجاز وسوريا ولبنان وفلسطين.
قال في مقدمة الطبعة الأولى من كتابه: (وقد عنيت في أثناء هذه الرحلات بالبحث عن كل ما يتصل بالتربية النظامية وأنظمة البوليس والإدارة والنظم القضائية والاجتماعية وكل ما يتصل بالأمن وشئونه وكذا السجون والإصلاحيات ومصير المفرج عنهم والبلديات والمجالس المحلية
(وفي الدول التي زرتها بحثت أيضاً في الوسائل التي تتبعها حكوماتها وطوائفها لغرس روح النظام في أبنائها وإذكاء الروح الحربية والقومية فيهم، وما تقوم به الهيآت لترقية الحياة الاجتماعية وخاصة عامة الشعب
(كذلك حضرت المؤتمر الرياضي العسكري السنوي بمدينة (نورنبرج) بصفتي الشخصية بدعوة من المدير العام للبوليس الألماني مدة أسبوع في صيف 1937. . . وقد شاهدت ودرست معهم أنظمة المعسكرات والتشكيلات الرياضية والعسكرية لملايين الشباب والشابات. . .)
وكان يوالي الجمهور عقب عودته من كل رحلة بمحاضرات يلقيها في الأندية والمعاهد وقاعات الجمعيات المختلفة وفي محطة الإذاعة اللاسلكية. فهو من المؤمنين بنقل الجماهير من حياة الفوضى إلى حياة النظام عن طريق التمهيد بالدعوة والإرشاد والإذاعة قبل النقل بالقوانين. وهو الآن مستشار عتيد في الجيش (المرابط) الجديد، وقائم خبير من القائمين على تنظيمه. ونرجو الله أن ينفع به دائماً
أما الكتاب فلم يترك ناحية من النواحي التي فيها فوضى أو نقص أو قصور في حياتنا المصرية إلا عالجها واقترح لها وأرشد إلى خير الطرق لتنظيمها أو تكميلها مسترشداً بما في الممالك الغربية. فهو كتاب في (فن) الحياة و (إخراجها) في البيت والشارع والمدرسة والملعب والقرية والمدينة على خير أساليبها وأنماطها
تحدث عن النظام ونهضات الأمم، وتنظيم الاستعداد في السلم والحرب، ووسائل مكافحة الغارت الجوية وحماية الآهلين منها، والقرية المصرية والإصلاح الاجتماعي، وسلامة الدولة، والبوليس والجمهور، ومقاومة الجرائم، وبعض النظم الأوربية الملائمة لعاداتنا وتقاليدنا، والتربية البدنية، والتدريب العسكري، ومفاخر الجيش المصري، والروح القومية. ذلك عرض لأمهات مسائل الكتاب يضاف إليها مسائل عدة يطول بنا الحديث إذا ذكرنا عنواناتها
وهو يقع في 355 صفحة محلى بكثير من الصور الفوتوغرافية. ولو أن مثل هذا الكتاب وزع على طلاب المدارس الثانوية والمعاهد الدينية للمطالعة لكان أفضل بكثير من الكتب التي تتحدث في موضوعات لا تتصل بصميم التربية والسلوك في الحياة، وإنما تتحدث بمقالات كلها (ترف) أدبي أو علمي يحشو الأذهان بالحروف والأرقام وألوان التعبير الجميل والرشاقة البيانية. أما هيكل الحياة الفردية والاجتماعية وأساسها فذلك أمر لا ينظر إليه إلا عرضاً
لقد آن لوزارة المعارف أن تبني النفس المصرية من جديد وأن تجعل همها الأول التربية والإشراف على الناشئين في البيت والشارع والمائدة وطريقة الحديث والمرور والملعب والمجتمعات والملاهي والأفراح والمآتم، وأن تجعل وكدها في أن يخرج الطالب من المرحلة الثانوية وهو راشد التصرف مهذب السلوك قبل أن يكون عالماً علم الأولين والآخرين
نريد أن تبيد وزارة المعارف بكل طالب من طلابها خمائر الفوضى والخرافات الشائعة في بيوتهم، ولن تتمكن من ذلك إلا إذا استولت على أفئدتهم وملأنها بحب الانتصار لحياة النظام والتنسيق وأفهمتهم أنه من الواجب عليهم أن يجندوا أنفسهم دائماً لحرب الفوضى في بيوتهم ومجتمعاتهم وألا يخضعوا أمام جهل آبائهم وأمهاتهم. والكتب الموضوعة في هذا أولاً والتدريب الطويل ثانياً هما الوسيلة إلى ذلك
(الإسكندرية)
عبد المنعم خلاف
عبث الأقدار
تأليف الأستاذ نجيب محفوظ
للأديب محمد جمال الدين درويش
القاص نجيب محفوظ شاب حديث عهد بالقصة، ولكني أعده في الصف الأول ومن المبرزين فيها وخاصة في القصة القصيرة، وأقاصيصه في مجلة الرواية تؤيد ما ذكرت، وتجعلنا نشد على يده إعجاباً بفنه، وتهنئة بفوزه، واستبشاراً بمستقبله في عالم القصة
وهو يمتاز بذوقه الخاص، وطريقته التي اكتسبها من القاص الكبير محمود بك تيمور في كتابه الأقاصيص، ومقدرته الفنية على كتابتها. . . وهو يتخذ مما يشاهده، وما سطرته الأيام والحوادث في سجل المحيط المصري مادة لأقاصيصه، ولذا نرى قصته الجديدة عبث الأقدار مطبوعة بالطابع المحلي. . . تصفحها تجد أنه قد أظهر خوفو فرعون مصر وباني الأهرام كأنه بين ظهرانينا يتمتع بالحياة، والأهرام نلاحظ ونشاهد طريقة بنائها وضجيج العمال وغناءهم. وقصارى القول أن القصة ترينا ما وقع من الحوادث في عهد باني الهرم. كل هذا بأسلوب سهل خال من الكلفة يخطه قلمه على نهج نفسه التي تركها على سجيتها تسجل أفكاره بكل بساطة كأن الفن طوع أمره. وقد نفخ في كلماته من روحه فجعل العبارات كأنها قلوب تنبض وتجيش بالحياة والعواطف تشوق القارئ إلى قراءتها فتتسلسل فصولها تحت أعينه كشريط السينما حادثة في إثر أخرى وتجبره على ألا يلقيها من يده إلا بعد أن ينتهي من قراءتها. . . فيرى أن الأستاذ نجيب عرضها بأسلوب الوصاف أو خلقها بريشة الرسام أو كونها بعدسة المصور
وعلى رغم طول القصة تمكن الأستاذ نجيب من السيطرة على أعصابه ووجدانه حتى أخرج عبث الأقدار كما هي الآن محبوكة كما ينبغي فن القصة. . . وإذا عرفنا أن هذه أول قصة يكتبها طويلة نغتفر للقاص بعض هنات ومآخذ في القصة، ولكني أحاسبه على سوء طبعها وحشوها بالغلطات المطبعية وهي تقع في 160 صفحة من القطع الكبير
وآمل أن تلقى عبث الأقدار من الرواج ما هي أهل له وهي خليقة بالعناية والاعتبار
محمد جمال الدين درويش
رسالة النقد
فصل المقال
فيما دار من نقاش حول (مباحث عربية)
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
أخذنا في نقدنا لكتاب (مباحث عربية) أن مؤلفه في بحثه عن (المسلمين في فنلندة)، وقف عند مجرد الأقوال التي سمعها، ولم يتعدها إلى التحقيق. والحق أن هذا المبحث لا يتعدى كونه استطلاعاً صحفياً، ومن هنا جاء ما فيه من الضعف. فالدكتور بشر يرى أن المسلمين الذين اكتشف وجودهم في فنلندة أصلهم من (الترك - التتر)، الضاربين أصلاً فيما وراء جبال أورال، رحلوا إلى فنلندة عقب الثورة الاشتراكية الكبرى في روسيا. وقد لاحظت أنا أن المسلمين من (الترك - التتر) ينتشرون في شمال وشرق أوربا بكثرة. فمنهم جموع في لابلاند وفي فنلندة وفي استونيا وفي ليتونيا وفي بولندة. . . وقد تحدث عنهم المستشرقون الروس والبولنديون كثيراً - خصوصاً اليهود من الأخيرين - وكان من الروس المستشرق بارثولد، وهو من شيوخ الاستشراق في أوربا؛ فقد كتب بحثاً نفسياً عن (الأتراك في أوربا الشمالية) تجده في مجلة الشرق الجديدة الروسية م 8 ج 4 ص 311 - 336 كذلك كتب بحثاً قيماً الأستاذ فيسفولد كزمبرسكي، وهو من أعلام الاستشراق في روسيا الآن في نفس المرجع. م 10 ج 2 ص 101 - 140 وهو عن (بقايا جموع التتر القديمة في دويلات البلطيق) واعتماداً على هذه المعرفة نظرت في المراجع التركية التي تحت يدي، فوجدت أن جموعاً من الأتراك المسلمين، رحلوا إلى الشمال في القرن السادس عشر، واستمروا في بلاد الفنوا (فنلندة)، ومن هنا جاء تساؤلي: هل تأكد الدكتور بشر فارس من المعلومات التي ألقيت إليه من الأشخاص الذين قابلهم في فنلندة من جمهور (الترك - التتر) فيها عن أصلهم؟
وقد عمد الدكتور بشر إلى المغالطة في رده فقال: إنه اهتدى إلى هؤلاء المسلمين، وأنهم خبروه بما دوَّن. وأنا وإن كنت لا أحب أن أشجب رواية الدكتور بشر واتهمه في كلامه، إلا أن الذي أحب أن أقوله: إنهم قد يكونون خبروه أن أصولهم من وراء جبال أورال،
وأخطأ هو فهم كلامهم فظن أن هذا يعني أنهم حديثوا العهد بفنلندة أتوها بعد الانقلاب السوفيتي من وراء جبال أورال!. . .
2 -
قال الدكتور بشر: إن بعض هؤلاء الأتراك (التتر) يقيمون بمدينة أعمال فنلندة. وقد علقت على هذا الكلام في ردِّي فقلت: (ما صلة اسم هذه المدينة بلفظة ترك)، لأن المشابهة قوية بين اسم المدينة واسم الأتراك، مما يدل على أن المدينة اشتق اسمها من جموع الترك - التتر - التي نزلتها في زمن من الأزمان فجاء الدكتور بشر في ردّه يغالط ويقول: إن مدينة توركو كانت عاصمة فنلندة في المائة الرابعة عشرة للمسيح، وبذلك ينفي تأثير جماعة الترك الذين نزلوا ربوع بلاد الفنوا في القرن السادس عشر
والمغالطة واضحة، لأننا لم نقل في ردّنا إن هنالك صلة بين نزول الجموع التركية في القرن السادس عشر وبين تسمية المدينة باسم توركو، ذلك أننا نعرف أن المدينة أقدم عهداً من ذلك التاريخ، وإليك الدليل:
قلنا: (ومسألة أخرى في هذا البحث، فالباحث يذكر أن جموع هؤلاء المسلمين الأتراك تنزل العاصمة ثم بمدينتي تميري وتوركو. وهو لم يذكر لنا شيئاً عن المدينة الثانية، وهل هنالك صلة بين اسمها ولفظة (تورك)
فأين هذه الملاحظة من ردّ صاحبنا القائم على المغالطة والإيهام والتهويل؟
3 -
نعرف من كتب الأثنولوجيا أن الفنلنديين يردّون إلى أصلين: الشمال من فنلندة تنزل بعض الجموع الذين يردّون إلى قلة ضئيلة في فنلندة اليوم. ونزول النورديين في دويلات البلطيق من القرن الخامس عدل الصفات الاثنولوجية للفينوا الأول. ومجيء بعض الجموع من (الترك - التتر) إلى دويلات البلطيق واستقرارهم فيها، وكان من الموجتين المغوليتين العظيمتين اللتين جرفتا روسيا عام 1237 وعام 1239، إذ نزل شواطئ البلطيق جماعات من (الترك - التتر) الذين دفعتهم أمامها الموجة المغولية. ثم جاء من الشرق ومن الجنوب عبر بحر البلطيق عن طريق بولندة جموع من الأتراك العثمانيين، نزل بعضهم بولندة واستقر فيها والبعض الآخر ركب البحر إلى الشمال واستقر في استونيا ولتوانيا ولتفيا وفنلندة. وكان مجيء هذه الجموع على دفعات. ولا شك أن بعض هؤلاء كانوا من الأتراك العثمانيين الذين أسروا في الحروب التي شنها الأتراك على أواسط أوربا وعلى جنوب
بولندة (التوران في مجرى التاريخ - ج 3 المقدمة بعدها وكذا بارولد في مبحثه السابق الذكر)
ومن هنا يتبين قيمة رد الدكتور بشر من الحقيقة. هذا إلى أن أصل اشتقاق الفنلندية يعود إلى مادة ترك كما تحقق هذا معنا من مراجعة مادة (ترك) من أعمال معهد التاريخ التركي (السلسلة الأولى - المجلد 4 ج 3 ص 117 - 118)
4 -
قلنا إن الدكتور بشر فارس لم يتعمق في بحثه، وكان آية ذلك عندنا أنه يقول: إن لغة التعليم عندهم هي التركية وحروف هجائهم هي الحروف اللاتينية التركية التي وضعت وشاعت بأمر أتاتورك (ص 24) وهو يستدل بهذا على أنهم صرفوا هواهم عن روسية الجنوبية (ص 23) لأننا نعرف أن هناك ضربين من الهجاء اللاتيني للغة التركية، الأول يتخذه أتراك الاتحاد السوفيتي والثاني يتخذه أتراك الجمهورية التركية. وهنالك من الفروق بين الضربين ما يجب تفرقة بعضها عن بعض. وقلنا في ردنا عليه:(وفي إمكان الباحث بمراجعة هذه الفروق أن يدلي برأي نهائي في الموضوع) فحرف الدكتور بشر كلامنا فقال: (إنني أخذت عليه عدم التثبت في بحثه لأنه لم يقرر أن الحروف التي يستخدمها هؤلاء المسلمون في فنلندة، ليست هي تلك الحروف التي توافق عليها أتراك الاتحاد السوفيتي) وأين هذا الكلام من كلامي؟!
إن الكماليين استعملوا الهجاء اللاتيني في 3 نوفمبر عام 1929 288 سطر 24 الاتحاد السوفيتي اتخذوا الهجاء اللاتيني في مؤتمر باكو عام 1924، ثم حدث بعض الخلاف سوّه في مؤتمر تفليس عام 1925 ومصطفى كمال اعتمد على الهجاء اللاتيني الفرنسي في وضعه الهجاء اللاتيني التركي، وإن نظر لنظام أتراك الاتحاد السوفيتي
ولا زلت أنا عند رأيي الأول أنه كان في مستطاع الدكتور بشر أن يرجع لنظام الهجاء اللاتيني لهؤلاء المسلمين، ويقارنه بما يقابله عند أتراك الاتحاد السوفيتي ثم أتراك الجمهورية التركية وبذلك يدلي برأي نهائي في الموضوع. أما القول بأنهم أخبروه بذلك، فهو من اجتلاب القول، فضلاً عن أنه موضع نظر حتى يمكن الجزم في نظام أحرف الهجاء اللاتيني التي يستخدمونها في الكتابة
وإذا كان عند الدكتور بشر فارس نماذج من كتاباتهم فليبعث إلي بواحد منها، وأنا ضمين
بأن أقطع الشك في هذه المسألة بحكم درايتي بهذه الدقائق نتيجة تقلبي في بيئات تركيا والاتحاد السوفيتي ردحاً من الزمان
بقيت بعض ملاحظات على الجملة التي دار حولها النقاش من مبحث الدكتور بشر فارس، من ذلك أنه استدل من أن لغة التعليم عند هؤلاء المسلمين الفنلنديين هي التركية بأنهم صرفوا هواهم عن روسية الجنوبية (ص 23 من كتابه) ولست أعرف ما موضع روسية الجنوبية في هذا التعبير؛ لأن هؤلاء إن كانوا من الترك الضاربين فيما وراء جبال أورال فلا صلة لهم إذن بروسية الجنوبية (القرم وقازان وأكرانيا)، وإن كانوا من الجنوب من روسية فلا معنى للقول بأنهم من الترك الضاربين فيما وراء جبال أورال. . . والذي عندي أن هذا الخلط نتيجة تفسيرات شخصية من الدكتور بشر فلم يحدثوه بأنهم من وراء جبال أورال، وإنما الدكتور بشر قد استنتجه خطأ، لعلمه أن (الترك - التتر) أصلهم من هذه المناطق. وعلى هذا يتسق الأمر في استطلاع الدكتور بشر لشؤون هذه الجماعة المسلمة في أقصى الشمال. أما القول بصرف الهوى عن روسيا الجنوبية. . . فهو الأصل الذي يكشف عن فكرة الاستنتاج في قول بشر أنهم من (الأتراك - التتر) الضاربين فيما وراء جبال أورال. . .!
5 -
قلنا في نقدنا لكتاب مباحث عربية: (إن استعمال لفظ (السلوك) لأحد مشتقات المصدر الفرنسي تارة ولفظ (الأخلاقيات) لمشتق آخر لنفس المصدر (وهو تارة أخرى يوقع في اللبس والاختلاط). فكتب الدكتور بشر: (والردّ أن الناقد لم يدرك الفرق بين اللفظتين الفرنسيتين: فالأول يدل على أعمال المرء من الناحية الأخلاقية، والثاني يفيد علم الأخلاق). والمغالطة في ردّ صاحبنا الدكتور بشر واضحة، لأن الأصل في نقدنا أن استعمال لفظ السلوك والأخلاقيات لمشتقتين من مصدر واحد اللاتينية يوقع في اللبس. واللازم أن يشتق من المادة العربية التي ينظران إلى اللفظين الفرنسيين والأول يأتي عندي آداباً والآخر أدبيات، ففي الأول مفهوم حيث هو قاعدة (أو منهج) وفي الآخر مفهوم حيث هو مبدأ وبين الاثنين من الفارق ما لاحظه الدكتور بشر فارس
6 -
قلنا: (إن في تعبير الدكتور بشر أن للفظة الشرف مفادات متجاورة تارة، متباينة أخرى) قصوراً لا تستقيم معه الجملة إلا إذا أبدل فيها لفظة المتجاورة بالمتشابهة لأنها أدل
على المعنى وأكثر اتساقاً في الجملة من حيث أن التجاور في تعبيره يفيد إفرنجياً يعني:
1 -
الألفاظ المفردة الدالة على معنى واحد (مترادف)
2 -
الألفاظ المفردة الدالة على معنى متشابه (أو متقارب)
وإذن يكون في العربية الفصحى كل من لفظتي المترادف أو المتشابه (المتقارب) وذلك حسب استعماله. والتعبير الذي استعمل فيه الدكتور بشر لفظة متجاورة سياقها تفيد التقارب أو التشابه. والدكتور بشر يريد هذا، لأن المتباين يقابله المترادف من الجهة الأخرى ويقف بينهما المتشابه والمتقارب. وهذه مسألة لا تحتاج إلى ذلك العلم الدقيق بمفردات اللغة كما يهول صاحبنا في رده. وليس جعلنا المتشابهة بدليل قصور في العلم باللغة. لأن المتشابهة والمتباينة من الألفاظ التي تنظر وليست اللفظة الإفرنجية مفادها قاصراً على المترادفة عربياً. ونحن إن كنا وقفنا في ردنا عليه عند المشابهة (الوجه الثاني من مفاد اللفظة) فذلك لأنها هي المقصودة في العبارة، والسياقة تدل عليها، وما دام الأمر كذلك فأي ضرورة تلجئنا إلى الكلام عن المترادف أو المترادفة من الألفاظ؟
على أن محاولة بشر تخريج الموضوع بقوله: إنه يعني بالمفادات الإفرنجية فلا معنى لها ولا محل، لأن المفادات لا تتجاور ولكن تتشابه (أو تتقارب) وتتباين وتترادف لأن التجاور يغلبها الجانب الحسي والمفادات يغلب عليها الجانب المعنوي. أما أن المتجاورة من تعبيره تنظر فليس ذلك بدليل يلزم أن يكون التعبير فيه لفظ التجاور. لأن التعبير في العربية وليس في اللغة الفرنسية، ولكل لغة أحكامها وأصولها. وأظن أنني لست بذلك الشخص الذي يعطي للدكتور بشر درساً في هذا، فهو أدرى منا في هذا بحكم كونه ابن اللغة العربية، ولكن قل هي الشكلية أفسدت عليه النظر
(لها بقية)
إسماعيل أحمد أدهم
المسرح والسينما
من التاريخ
النهضة المسرحية في مصر
ونصيب الفرقة القومية منها وواجبها حيالها
أولاد الفقراء
قلنا إن رواية (الذبائح) التي وضعها المرحوم أنطون يزبك كانت ذات أثر سيئ في النهضة المسرحية. ولقد نسج على منوالها يوسف وهبي فوضع (الصحراء) ثم وضع (أولاد الذوات) ثم (أولاد الفقراء) وقد نجحت هذه الروايات لكنها استبدلت لمسرح رمسيس جمهوراً بجمهور فأصبح رواده من طبقة العامة الذين افتتنوا بيوسف وبرواياته التي كتبت باللغة العامية التي يفهمونها وباللهجة المبتذلة التي يتكلمون بها. ولقد عافت الآذان الشريفة أن تستمع إلى الألفاظ الكثيرة الساقطة التي ترد على لسان الممثلين والممثلات فهجر أصحابها مسرح رمسيس الذي انحدر انحداراً شنيعاً مع شدة الإقبال عليه من طبقة معينة من الجماهير كانت تأتي لتشاهد (أولاد الفقراء) وتعجب وتتأثر بالمآسي والفجائع التي حشدها يوسف وهبي فيها. ولم يكن يوسف ليعرف عظم الهوة التي ينحدر إليها، وقدر كبته أنانية المؤلف التي جعلته يعتقد ويجاهر بأن الكلمات التي يكتبها لا يجوز التبديل فيها كما لا يجوز التبديل في القرآن. ولهذا فقد استمر يوسف في نهجه حتى وصل به الحال إلى أسوأ ما يصل إليه فنان
نعود فنقول إن يوسف وقد أراد أن ينتقم من النقاد وأن يهدم إلى جانبهم بعض الشخصيات المسرحية البارزة، قد قبل تمثيل رواية (الوحوش) للأستاذ محمود كامل ورواية (تحت العلم) للأستاذ عبد الرحمن رشدي، وليس هذا أوان التحدث عن هاتين الروايتين، وإنما يكفي أن نقول إن الأستاذ محمود كامل وضع (الوحوش) في سن الشباب قبل أن ينال الخبرة والمران وأن الأستاذ عبد الرحمن رشدي وضع (تحت العلم) وهو ليس بالمؤلف وما هو إلا ممثل فقط. ولقد سقطت الروايتان سقوطاً شائناً. ومن العجيب أنهما لم تسيئا إلى اسمي مؤلفيهما بقدر ما أساءتا إلى مسرح رمسيس. وهكذا أراد يوسف أن يطعن الآخرين
فطعن نفسه
فلما وقعت الشحناء بين أفراد فرقة رمسيس وحلت البغضاء محل المودة وشاءت الظروف أن تنقسم الفرقة إلى شطرين شطر يذهب مع فاطمة رشدي وعزيز عيد وشطر يبقى، نقول لما شاءت الظروف أن يقع هذا انتعش المسرح انتعاشاً مؤقتاً بسبب التنافس الشديد، بيد أنه كان انتعاشا مؤقتاً وعلى غير أساس، ومن ثم فقد سقطت فرقة فاطمة رشدي مع الزمن وانهار بنيان فرقة رمسيس من بعدها خصوصاً وقد اختطت لنفسها خطة جديدة بهذه الروايات التي كتبت بلغة عامية
ولا نطيل فقد انهارت النهضة المسرحية على يد من شادوها وأقاموا بنيانها فارتفعت صيحات النقاد من كل جانب بطلب إنشاء فرقة حكومية، وأخيراً استجابت الحكومة للنداء وأنشأت أولاً فرقة (اتحاد الممثلين) التي منيت بفشل ذريع، فاضطرت أمام هذه الحالة إلى إنشاء (الفرقة القومية المصرية). ومن طريف ما يذكر أن الأستاذ يوسف وهبي وقد عرض عليه أن ينظم إلى الفرقة طلب أن يسمح له بتمثيل بضع روايات من أمثال أولاد الذوات وأولاد الفقراء حتى يمكن أن نأتي بإيراد يعوض الخسائر التي ستمنى بها من تمثيل الروايات المثالية التي ستعنى الفرقة بإخراجها لإنقاذ فن التمثيل مما وصل إليه بسبب يوسف وهبي ورواياته الشعبية!
ومع أن مدير الفرقة رفض أن يجيب يوسف وهبي إلى طلبه الغريب فإنه سمح بعدئذ أن تخرج الفرقة القومية روايات وإن تكن باللغة العربية إلا أنها أكثر ابتذالاً من رواية أولاد الفقراء.
(للكلام بقية)
ملاحظات
روايات قديمة
قلنا إن من أسباب نجاح فرقة رمسيس في عصرها الذهبي أنها أخرجت للناس روايات جديدة قوية ولم تعمد إلى إعادة إخراج بعض الروايات القديمة إلا بعد أن استتب لها الأمر ورأت أن في إخراج هذه الروايات ما يبرهن على كامل استعدادها وقوتها ثم إنها كانت تخرج في موسمها الواحد حوالي عشرين رواية لا يكون من بينها أكثر من رواية واحدة قديمة
أما الفرقة القومية فإنها لشدة فقرها الفني - فإنها بحمد الله واسعة الثراء من الوجهة المادية - لا تجد أمامها سوى الروايات القديمة التي سبق إخراجها ونالت النجاح، فهي تعيد إخراجها مطمئنة إلى أنها لن تسقط على الأقل!
وهاهي ذي ستفتتح موسمه برواية (مصرع كليوبطره) وهي رواية قديمة وستتبعها برواية (لويس الحادي عشر) وهي رواية قديمة أيضاً!
وسوف ترى الفرقة أنها بهذه الأعمال التي تصدر عن غير بصيرة ستفقد الثقة الباقية فيها.
أما ما يقال من أن بعض هذه الروايات القديمة، إنما يعاد إخراجها من أجل بعض الممثلين الذين لا يصلحون إلا لها، فإنه مع صحة هذا القول لا يجب أن يذهب الكل من أجل البعض. وعلى أي حال فإن رواية الافتتاح يجب أن تكون جديدة، وقد كان من الكياسة أن يؤخر إخراج هذه الروايات القديمة إلى ما بعد إخراج بضع روايات جديدة.
عدد أفراد الفرقة القومية
أتينا في العدد الماضي على الإشاعة القائلة بتوفير أكبر عدد ممكن من أفراد الفرقة الموسيقية التي تعمل مع الفرقة القومية؛ وذلك لتوفير بضع مئات من الجنيهات تصرف في وجوهها الحقة خصوصاً وأن الفرقة ليست في حاجة إلى هذا العدد الوفير من الموسيقيين فهي ليست فرقة أوبرا أو أوبريت
قلنا في الأسبوع الماضي فإذا بالإشاعة تتطور في هذا الأسبوع إلى أن التوفير سيشمل أيضاً بعض الممثلين!
وإذا كنا ننصح مع الناصحين بتوفير أكبر عدد ممكن من أفراد الفرقة الموسيقية، أو
الاستغناء عن هذه الفرقة جميعاً والاستعاضة عنها بحاك، وبضع اسطوانات؛ فإننا ننصح إلى جانب ذلك بزيادة عدد أفراد الفرقة القومية، وضم العناصر القوية الخارجة عنها، أما التوفير فمعناه إضعافها والقضاء عليها.
وليسأل مدير الفرقة الأستاذ أحمد عسكر عن عدد أفراد فرقة رمسيس أيام كان يعمل بها، وعن المجهودات التي كان يبذلها الأستاذ يوسف وهبي لضم العناصر القوية التي كانت تعمل خارج الفرقة، وعما حل بفرقة رمسيس منذ انقسمت شطرين وخرج منها بعض أبطالها وبطلاتها!
الأستاذ سليمان نجيب
يبذل الأستاذ سليمان نجيب مدير الأوبرا أقصى جهده في مساعدة الفرقة القومية مساعدة جدية يشكر عليها، وقد بلغنا أخيراً أنه استمع إلى رأي المخرجين فتوح نشاطي وعمر جميعي بشأن تغطية الفراغ الكبير المعد للفرقة الموسيقية ليتسنى بذلك وضع بضعة صفوف أخرى للمشاهدين، وكذلك سيسمح للممثلين بالتقدم إلى مقدمة المسرح ولم يكن يسمح لهم بذلك من قبل بسبب الاحتياط الخاص بالحرائق، وبهذا كله ينعدم الفراغ الكبير الذي كان يخلق جواً من البرود يؤثر تأثيراً سيئاً في المشاهد التمثيلية. وقد كان من أسباب نجاح الروايات في مسرح رمسيس (ريتس الآن) أن هذا الفاصل غير موجود.
مأساة الفرقة القومية
مأساة الفرقة القومية في سكرتيرها السابق ما تزال ماثلة في الأذهان، وقد خرج منها على أي حال فليس من سبب يدعوننا إلى التحدث عن هذه المأساة أو ذكر تفاصيلها من جديد. وإنما غايتنا من التذكير بها أن نوجه النظر إلى وجوب مراقبة الشئون المالية للفرقة مراقبة دقيقة وحصر المسئولية في شخص معين يكون مسئولاً عنها. وها نحن أولاء في بداية الموسم وستكثر المشتريات وصرف النقود فإذا سار الأمر فوضى فإنه يخشى أن تتكرر المآسي وهي كفيلة بالقضاء على الفرقة
(فرعون الصغير)