الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 327
- بتاريخ: 09 - 10 - 1939
جريرة النازية على الإنسانية
يا ضَلَّةَ العقل ويا حيرة المنطق!
إن أمام التاريخ اليوم رجفة من رجفات الهول والهلاك لم يبتلَ بمثلها الإنسان منذ دحا الله هذه الأرض. فهل يستطيع مهما سبر أغوار النفس، وكشف أسرار المجتمع، ورصد أطوار الحوادث، أن يقول فيها أكثر مما يقول في العواصف والزلازل والبراكين والأوبئة؟
هل يستطيع التاريخ بفلسفته وحذلقته أن يفسر لنا وللأجيال كيف تسنى لخمسة نفر من عباد الله الضعاف، لا هم آلهة ولا هم أبالسة، أن يسيطروا على الشعب الألماني الضخم وهو آية في النبوغ البشري في العلم والأدب والفلسفة والفن فيشلوا تفكيره، ويلغوا إرادته، ويمسخوه قطيعاً جراراً من أفيال جهنم ترمي العالم كله محاربيه ومسالميه بالبوار والدمار، أو بالفزع والمجاعة!
لو كانت هذه النازية الهتلرية قائمة في سلطانها وطغيانها على مبدأ من مبادئ الخير، أو مذهب من مذاهب الإصلاح، لالتمسنا لخضوع الشعب الألماني لها واضطراب العالم الإنساني بها مساغاً في العقل أو مثلاً من التاريخ؛ ولكنها ضلالة من ضلالات العصبية والعنصرية والأثرة والغرور استبدت بفكر ثائر وعقل حائر وهوى طموح، فظنها الفوهرر رسالة من رسالات الله أوحاها إليه في كتاب (كفاحه)، وأوجب أداءها عليه بقوة سلاحه؛ فهي شريعة تنسخ كل كتاب غير كتاب هتلر، وتمحو كل سيادة غير سيادة النازي، وتمحق كل عنصر غير عنصر الجرمان. وإذا كان في الساميين وهم في رأيه حثالة الناس رسالات ورسل، فكيف لا يكون على الأقل في الآريين وهم خلاصة الأجناس رسالة ورسول؟
ولكننا عرفنا إله الناس الذي أصطفى من الساميين موسى وعيسى ومحمداً ليبلغوا رسالات الهدى والحق والخير، فألفوا نوافر القلوب بالحب، وأقاموا قواعد المجتمع على العدل، وخففوا متاعب العيش بالإحسان، وضمنوا وفاء العهود بالذمة، وجعلوا الناس كلهم سواسية في حق الحياة لا يطغي جنس على جنس، ولا يبغي قوم على قوم. فمن هو يا تُرى إله الألمان الذي أصطفى من الآريين هتلر وجورنج وهيس وريبنتروب ليبيدوا أمم العالم، ويدمروا حضارة الدهر، ويحطموا روائع الإنسان، ويستبدلوا بشرائع الله وقوانين الضمير سياسة لا تعرف براً بوعد ولا وفاء بعهد ولا ثباتاً على مبدأ؟
يا ضلة العقل ويا حيرة المنطق!
أبعد أن تغلغل على طول القرون هدى الله في الغرائز والأخلاق والقوانين والنظم ففازت الحرية، وسادت الديمقراطية، وعلت الإنسانية، يمكن أن تقوم في العالم اليوم نِحلة مجرمة الوسيلة والغاية كنِحلة النازية تحتقر أجناس الناس، وتنكر حقوق الشعوب، وتزدري قواعد السلوك، وتستحل في سبيل السيطرة والغلب الغدر والمكر والكذب وغش السياسة ونقض العهود وإنكار المذهب!
ليت شعري ماذا يقول أحفاد لوِثَر وكَنْت وجوته وبيتهوفن وقد رأوا زعيمهم الأديب الفنان يقول بلسان دولته ولا يصدُق، ويعاهد بشرف أمته ولا يفي، ويجعل من شعبه الصبور العامل غولاً للسلام يقذف الرعب في كل قلب، والشقاء في كل منزل، ثم يدع صليبه النازِيَّ المعقوف يتحطم رويداً رويداً بين مطرقة الشيوعية ومنجلها بعد أن ناصبها العداء المر والهجاء الفاحش!
لقد قلنا في كلمة سابقة: (إن هذا الرجل العجيب استطاع في ست سنين ونصف أن يبني من الحديد والنار والسم والثأر والعزيمة والعصبية دولة كانت بعد صلح فرساي تتوارى من الخجل، وتتفانى من الجوع، وتتهالك من الدين، وتضع أيديها على هيكلها فلا تجد إلا شلواً لا صورة له ولا حس فيه، فأصبحت بما نفخ فيها من روح الكفاح، ووضع في أيديها من قوة السلاح، تملك على الدولة الحياة والموت، وتقضي على الأمم بالسلام أو بالحرب؛ كل ذلك فعله من غير ثورة ولا حرب فكان حريّاً أن يتبجح في آخر خطابه التاريخي المشهور بقوله: ألست حقيقاً بأن أطلب إلى التاريخ أن يعدّني في الذين حققوا أعظم ما يسمح الإنصاف بطلبه من رجل؟). نعم قلنا ذلك أيام كان هذا الرجل الشاذ قابضاً على عجلة القيادة بحزم الربان الماهر وحكمة القائد البصير. وما كنا نتوقع أن يبتليه الله بضعف الإنسان الفرد على هذا النحو المهلك والقضاء العاجل، فيدور برأسه الغرور، ويذهب بنفسه العناد، حتى لم يعد لشهواته حد تقف عنده، ولا لنزواته فرملة تحبس عليه.
هذا هو هتلر الذي أعجب به شباب الأمم بالأمس يأخذه اليوم جماح السلطان وعرام القوة، فيُلقى عامداً بقوته وبالعالم في سعير الحرب، ثم يقف في ضوء لظاها المشبوب في الأرزاق والأعلاق والأنفس وفي يديه قيثارة نيرون يعبث بأوتارها ويضحك!
ماذا عسى أن يكون مصير الشعوب الصغيرة التي ضمنت على ضعفها أن تعيش في حمى الشرف والعدل والسلام، إذا تغلب هذا الطغيان النازي الذي يريد أن يحكم العالم على أساس استعباد الضعيف، وتسخير قوى الناس والطبيعة لسيادة عنصر واحد وإرادة رجل واحد؟
إن ميراث الإنسانية المتدينة المتمدنة أخلاق وثقافة ونظم هو اليوم في حمى الدول الديمقراطية الحرة تدافع عنه وترعاه وتمسك به الأرض أن تميد وتبيد. وليس للأمم الصغيرة سبيل للحياة الحرة إلا أن تساهم في هذا الدفاع بإخلاص وقوة، فإن ضمان العيش للقلة بجانب الكثرة، وللعجز في كنف القدرة، هو هذه الفضائل الاجتماعية التي نبتت في أصول الدين ونمت في ظلال الديمقراطية. أما إذا شاء القدر - ومعاذ الله أن يشاء - أن يتحكم هوى الطغيان في حقوق الإنسان فيذهب بالإخاء أثرة جنس، وبالمساواة سيادة شعب، وبالحرية استبداد فرد، فقل إنها دنيا للشر جديدة نرجو أن لا يكون لنا فيها وجود!
أحمد حسن الزيات
أين الكلتور؟
للأستاذ عباس محمود العقاد
دخل الألمان الحرب الماضية وهم يحملون أمامهم كلمة (الكلتور) التي شاعت على ألسنة الناس من ذلك الحين كما شاعت ترجماتها في اللغات الأخرى، ومنها كلمة الثقافة في اللغة العربية.
وكانت دعواهم أنهم يحاربون بالكلتور الجرماني أو الثقافة الجرمانية كما يحاربون بقوة السلاح وقوة السياسة، لأنهم اعتقدوا أنهم أصحاب أشرف الثقافات وأحقها بالنصر والغلبة على عقول الأمم وأذواقها.
فأين (الكلتور) في الحرب الحاضرة؟
إن النازيين لا يذكرونه على ألسنتهم ولو على سبيل الإدعاء الذي يعوزه البرهان، لأنهم بعيدون عنه وهو بعيد عنهم. فليس في حركتهم ثقافة، وليس لها فن ولا ثمرات فنية؛ وكل ما عليها صبغة حرب كالطلاء الأحمر على الوجه الشاحب الهزيل، لا هو من الصحة ولا من الجمال.
وتعترف الصحف النازية - كما جاء في صحيفة أوربا الحديثة الفرنسية - بأن الروايات التي يؤلفها الكتاب النازيون لا تترجم إلى لغة من اللغات الأجنبية، وأن الأدب الألماني يمثله اليوم في العالم جماعة من الكتاب المهاجرين المطرودين من حظيرة هتلر؛ فكل ما يعرفه العالم من الأدب الألماني الحديث هو من ثمرات فراغ هؤلاء الكتاب المطرودين!
ورأيُ الإيطاليين - وهم أخوان المحور - لا يختلف عن رأي الأمم الأخرى في الأدب الشائع بين النازيين، فقد ترجم إلى اللغة الإيطالية في سنة 1937 خمسة وسبعون كتاباً معظمها من تأليف كتاب المنفى، ولم تبرز قط رواية نازية على مسارح العالم بعد سنة 1933 وهي السنة التي قبض فيها هتلر على زمام السلطان؛ وهي خسارة مالية فوق الخسارة الأدبية يقدرون ما ضاع من جرائها على خزانة الريخ بخمسة ملايين من الماركات.
وقد بلغت ثروة الصور المتحركة النازية خلال السنة الماضية خمسة ملايين مارك هبطت إلى ثلاثة ملايين في السنة الحاضرة، وبلغت الشُّرُط الكبرى في سنة 1932 وهي من
سنوات الأزمة والكساد مائة وأثنين وأربعين أخرجت كلها في العواصم الألمانية، فما زالت تهبط حتى انحدرت إلى ثمانية وتسعين في سنة 1938 على الرغم من ضم النمسا وبلاد السوديت.
أما ما باعته ألمانيا النازية من الشرط في الخارج فقد كان تسعة وسبعين في سنة 1937 فهبط في السنة التالية إلى أربعة وعشرين!
هذا كساد في الملكات والقرائح شعر به هتلر ونبه إليه في المؤتمر الأكبر فقال إن الحركة النازية لا تزال في انتظار العبقريات التي تتغنى لها بمعانيها وأناشيدها.
وشعر به القائمون على التربية الوطنية فعالجوه على دأبهم المشهور بالعلاجات العسكرية والأساليب البتراء فما ازدادوا في كساد ملكاتهم وقرائحهم إلا خموداً على خمود.
قال أستاذ رياضيات لزميل أمريكي: ما الحيلة في هذا الجيل العقيم الذي لا يحسن غير السير في المواكب وشق الحناجر بالهتاف والتفاخر بالبنود والشارات؟ لقد زيفوا لهم التاريخ فقبلوا وقائعه ومسخوا تفسيراته وجعلوه قصيدة من قصائد الإطراء للنازيين وأشباه النازيين، وقد علموهم الجغرافيا على النحو الذي طاب لهم ووافق دعواهم وأملى لهم في سياستهم، وقد جعلوا أبطال الدنيا بأسرها من سلالة شمالية أو آرية كما يقولون. فأما الرياضيات فمن لنا بتزييفها على هذا النمط المنكوس؟ ومن لنا بتعليم الشبان الجبر والفلك والرياضيات العليا والدقائق الفنية، وهم بين موكب يصخبون فيه أو نشيد أو مناورة في عرض الطريق؟ كل درس يحتمل التزييف والاصطباغ بالصبغة السياسية إلا العلوم والرياضيات!. . . فلم يبق أمامنا إلا إسقاط الدرجات كرة بعد كرة حتى هبط مقياس النجاح إلى ما دون مقياس الرسوب، ولولا هذا لاتهمنا الرؤساء بالتقصير وقالوا: إن الآفة من عجزنا عن التعليم لا من عجز هؤلاء الأولاد الفاشلين عن الإصغاء وإنعام النظر في دقائق العلوم.
وقد يستخف النازيون بهذه العاقبة الوخيمة لو كان خطبها كله مقصوراً على ندرة التأليف وقلة النبوغ في الأدب والفن وما إليهما من مجالي العبقرية ومعارض التعبير.
لكن المصيبة التي لا يستطيع النازيون تجاهلاً لها ولا استخفافاً بعقباها أن كساد العقول يتغلب عليهم في مجال (العسكريات) أو مجال التدريب للقتال، وهم لاشيء في سياسة الأمة
ولا في سياسة العالم إن لم يفلحوا في تدريب الجنود وتحضير السلاح.
فلا غنى للدراسة العسكرية العصرية عن الفنون وعن الرياضيات وعن البراعة في تركيب الآلات وتسيير المحركات. وقد أشار إلى هذا النقص في الجيل النازي الأخير كاتب مجري من أصحاب المراجع الموثوق بها في مسائل الحرب الماضية والعدد الضرورية لكل حرب حديثة، نعني به الدكتور إيفان لاجوس مؤلف كتاب (فرص ألمانيا في الحرب) ومسجل الآراء التي أفضى بها رجال ألمانيا المسؤولون في هذه الأمور، فإذا بهم يجمعون على الشكوى من تقهقر التعليم واستحالة الاعتماد على من يتدربون بالأساليب النازية المستعجلة، ويؤتمنون بعد ذلك على الطيارات والدبابات وتنفيذ الخطط ومراس المختلف من دقائق الأدوات.
فالثقافة المزيفة بلاء لا تنحصر أضراره في الأدب والفن والتأليف، ولا يزال يسري في كل شعبة من شعب الحياة حتى يعطل القوة العسكرية والقوة البدنية والقوة الحيوانية في النهاية، وهي القوى التي يُظّن أنها أغنى ما تكون عن الثقافة والمثقفين.
وإذا كان في الحرب ما يحمد الله عليه فلنحمد الله نحن المصريين بل نحن الشرقيين أجمعين أن كشف ستر النازية قبل أن تخدع الأسماع والأبصار بظاهر ما لها من الضجة والبريق والطلاء، فقد بلغ من خداعها أن سمعنا أناساً من ساستنا يدعوننا إلى اقتباسها والأخذ عنها ولو في تقييد الحرية الفردية وتغليب (النظام العسكري) عليها، فأشرنا يومئذ في مجلس النواب إلى وخامة التربية النازية وجنايتها على العقول وإفسادها لينابيع التفكير والتثقيف، وقلنا إنها جنت على ألمانيا وهي سابقة لنا في ميادين العلم والفن والتربية فماذا تصنع بنا نحن وإننا لدارجين حتى الساعة في بداية الطريق؟!
وسنحمد الله حمداً مضاعفاً متى تكشفت الحقائق كلها عن فضائل الحرية ورجحانها في جميع الموازين على أساليب الطغيان و (النظام) المزعوم، ولا يخامرنا الشك في مصير أناس يعارضون مجرى الحياة الإنسانية ويمسخون ما ازدانت به من شرف وجمال. فسيفشلون لا محالة كما فشل أسلاف لهم حملوا على الدنيا بسلاح الحديد وسلاح الكلتور، وإن هؤلاء اللاحقين لأضعف من سابقيهم في السلاحين!
عباس محمود العقاد
أسمار وأحاديث
في منزل الدكتور طه حسين
للدكتور زكي مبارك
في مطلع الصيف كنت على موعد مع الأستاذ الكبير الدكتور طه بك حسين لأقدم إليه نسخة من كتاب (ليلى المريضة في العراق) ولأقرأ معه صفحات من ذلك الكتاب، ولكني حين وصلت في الموعد المحدّد لم أجده في البيت، فسلمت الكتاب لجنديْ يرابط هناك وانصرفت.
ولم يعزّني عن إخلاف الدكتور طه حسين إلا لحظات عذاب قضيتُها في منزل الآنسة أم كلثوم، وبينه وبين منزل الدكتور طه بضع خطوات.
وفي اليوم التالي سألت عنه بالتليفون لأعرف كيف أخلف الموعد، فاعتذر بلطف وأكّد أنه نسي ذلك الموعد كل النسيان، ودعاني إلى تجديد الموعد، فقلت: إني أتأهب للسفر إلى بغداد للاشتراك في تأبين الملك غازي، وسأحرص على التشرف بمقابلتك حين أعود.
وكنت أحب أن آنس بلقائه بعد أن رجعتُ من بغداد، ولكني خشيت أن يكون أخلف الموعد الأول عن عمد، لأن أولاد الحلال لا يزالون (يصلحون) ما بيني وبينه من صلات.
ثم سافر الدكتور طه إلى باريس، وسارت الأخبار بأنه سيعتذر عن الحضور في العام المقبل ليستريح من عناء المشكلات الجامعية وليؤلف كتاباً عن تاريخ الشعر العربي.
وكنت في تلك المدة شرعت في الهجوم على الأستاذ أحمد أمين؛ وندْ القلم فوقعت منه غمزات تمسْ الدكتور طه حسين بدون موجب. وكذلك استوحشت من المضيّ للتسليم عليه حين عرفت أنه رجع من باريس.
ثم عدت فقررت أن أودي الواجب في تحية الدكتور طه، راجياً أن يكون في تأدية هذه التحية تبديد للظلمات التي يخلقها من يأكلون العيش بحياكة الأقاويل والأراجيف.
كان ذلك في مساء اليوم الثالث عشر من شعبان، والقمر يقدِّم إلى الوجود أفانين من الرفق والحنان، ويذكِّر القلوب الخوامد بماضيها الجميل في مقارعة الصبوة والفتون؛ فنزلت من السيارة عند جسر فؤاد لأمتع القلب والروح بمشاهدة النيل، وهو يواجه القمر في أيام الطغيان، ولأستقبل الزمالك بأدب وخشوع؛ فما كان ثراها الغالي إلا نثائر أكبادٍ وقلوب.
وأخذت أجتاز الزمالك من حَرَم إلى حَرَم إلى أن بلغت منزل الدكتور طه حسين. وكنت أرجو أن أجده وحده، لأني وصلت بعد الساعة التاسعة، وهو عنده وقت هدوء؛ ولكن يظهر أن قدومه من السفر رفع الحجاب فكان منزله في أنس بجماعة من أهل الفضل هم الأساتذة شفيق غربال، وعبد الواحد خلاف، ومنصور فهمي، وعلي عبد الرزاق، وسعيد لطفي، وأمين الخولي، وتوفيق الحكيم، وعبد الوهاب عزام، وإبراهيم مصطفى، وعبد الحميد العبادي.
سلّمتُ على الدكتور طه تسليم المحب المشتاق، وسألته عن باريس وعن السوربون، فأجاب إجابات موجزة دلتْ على أنه يريد أن يكتم عني أشياء. فهل آذت الحرب بعض أصدقائي هناك؟ لا قدر الله ولا سمح!
وبعد لحظة حضر الأستاذ أحمد أمين فنهضت واقفاً لمصافحته، ولكنه زوى وجهه وتجاهل وجودي، ورأيت المقام لا يتسع لمحاسبته على ما صنع، فتكلفتُ الابتسام وأنا مَغِيظ.
وخطر في البال أن حضوري قد يعَكر المجلس، وأن من الخير أن أنصرف؛ ثم تذكرت أنني أحق الناس بمودة الدكتور طه حسين، وإن حالت بيننا الدسائس حيناً من الزمان، فقد كنت صديقه الحق قبل أن يعرف أصدقاء اليوم. كنت صديقه الحميم في ظروف لا يسأل فيها الشقيق عن الشقيق، فكيف أخرج من منزله ليخلو الجوْ لصديق مثل أحمد أمين؟
يجب أن أقضي السهرة كاملة، وعلى من يؤذيه حضوري أن يتفضل بالانصراف!
وبعد أن دارت السجائر على الزائرين شرع الأستاذ أمين الخولي في الحديث
أمين الخولي - يا زكي، ما تترك أبداً أخلاق المنوفية؟
طه حسين - وما أخلاق المنوفية؟
أمين الخولي - هي المشاغبة واللجاجة والعناد
طه حسين - وزكي مبارك مشاغب؟ قل كلاماً غير هذا يا أمين، فما عرف الناس زكياً إلا مثال اللطف والأدب والذوق. الدكتور زكي حقيقة رجل لطيف؛ ومن آيات لطفه أنه ينظر فيرى الناس قد ضجروا من الهدوء والسكون فيسلط عليهم القذائف القلمية ليتذوقوا نعمة الحركة والجدَل والنضال.
علي عبد الرزاق - يظهر أنك راض عن الدكتور زكي مبارك
طه حسين - وهل أملك غير ذلك؟
زكي مبارك - تملك كلمة النصح يا سيدي الدكتور، إن رأيت ما يوجب كلمة النصح
طه حسين - لا، يا عم، يفتح الله!
زكي مبارك - يظهر يا سيدي الدكتور أنك غضبان
طه حسين - لست بغضبان، ولكن يحق لي أن أنزعج من بعض ما أقرأ لك
عبد الواحد خلاف - لعل الدكتور يشير إلى مقالاته في مهاجمة الأستاذ أحمد أمين
أحمد أمين - أنا أحتج على إثارة هذا الموضوع في هذا المجلس
خلاف - الخطب سهل، ونحن نحاول تصفية القلوب
أحمد أمين - أنا أحتمل كل شيء إلا التعرض لنبالتي
طه حسين - وهل تعرض زكي مبارك لنبالتك بشيء؟ إن هذا لو صحّ لكان خروجاً على شِرعة العقل!
أحمد أمين - لقد تعرض لنبالتي بأشياء
إبراهيم مصطفى - إن الدكتور زكي لم يتعرض لنبالتك، يا حضرة الأستاذ
زكي مبارك - أنتم تخوضون في شجون من الأحاديث لا عهد لي بها قبل اليوم، فما كنت أعرف أن الأستاذ أحمد أمين فوق النقد، ولا كنت أظن أن التعرض لتفنيد آرائه يعد هجوماً على قدسيته الذاتية! فهل تعتقد يا أستاذ أني تجنيت عليك؟
أحمد أمين - ليس لي معك كلام، ولا أقبل الدخول معك في نقاش، وأنت حرٌّ فيما تنشر من زور وبهتان
زكي مبارك - زور وبهتان؟ وهل النبالة أن تنطق بهذه الكلمات في هذا المجلس؟
منصور فهمي - لاحظ يا زكي أنك جرّحت الأستاذ أحمد أمين وأن من حقه أن يعلن غضبه عليك، والنفس الإنسانية معرضة للرضا والغضب، والفرح والترح، والرجاء والقنوط. فالأستاذ أحمد أمين يعبر تعبيراً طبيعياً عن السريرة الإنسانية
زكي مبارك - وكيف يكون الحال لو استبحتُ من التعبير ما استباح؟
أحمد أمين - وهل تورعت عن شيء؟ إن مقالاتك عني هي الشاهد الحيُّ على مبلغ أدبك!
زكي مبارك - وأنا راض عما قلت فيك، وما قلت إلا الحق والصدق، وأنا أنتظر أن
يغضب الله عليك فيجازيك على سوء ما صنعت في تحقير ماضي الأدب العربي
طه حسين - إيه الحكاية؟
أحمد أمين - الحكاية أن زكي مبارك يقول إن طه حسين جاهل، وإن أحمد أمين جهول!
طه حسين - خبر أسود!
سعيد لطفي - أنا كنت أظن أن المسألة مزاح في مزاح. وأين نشر الدكتور زكي هذا الكلام المزعج؟!
أحمد أمين - نشره في مجلة الرسالة وعند الزيات. الرسالة التي خلقتها بقلمي
زكي مبارك - والزيات الذي سويته بيديك!
طه حسين - لقد قرأت المقالة الأولى قبل السفر، وأوصيت الأستاذ عبده عزام بحفظ المجموعة لأقرأها يوم أعود، وسأقرأها في هذه الأيام، فإن رأيت فيها أني جاهل وأن أحمد أمين جهول فستكون وقعتك يا زكي زيْ الزفت!
أحمد أمين - وما ذنب لطفي باشا حتى يتعرض له زكي مبارك بسوء؟
إبراهيم مصطفى - لقد قرأت تلك المقالات مرات. . .
طه حسين - قرأتها بالقراءات السَّبع؟
إبراهيم مصطفى - أريد أن أقول إني قرأتها بعناية ولم أجد فيها أية إشارة لسعادة لطفي باشا
علي عبد الرزاق - لطفي باشا لا يُغضبه أن يكون في بال الناقدين والباحثين
زكي مبارك - ومن أجل هذا أهجم عليه من وقت إلى وقت
سعيد لطفي - هذا أسلوب طريف في البر والوفاء!
طه حسين - طبعا. طبعاً، فصاحبنا زكي مبارك يتوهم أن الخلود لن يكون إلا من نصيب من يتعرض لهم في مقالاته ومؤلفاته بالقبيح أو الجميل. وأشهد أنه سلْ سخائم صدري يوم قال إنه لا يهجم علي إلا وهو يعتقد أن الهجوم معناه (بونجور)
أحمد أمين - وأنا لا أريد منه بونجور ولا بونسوار!
زكي مبارك - ولكني لن أتركك بعافية أو تكف شرك عن الأدب العربي
أحمد أمين - وما شأنك بالأدب العربي؟ وما هي خدماتك لهذا الأدب الذي تقول إنك تغار
عليه كما تغار على عِرضك؟
زكي مبارك - يكفي أني من تلامذة طه حسين
طه حسين - العفو! العفو! إني والله راض بأن تكون من أساتذة طه حسين!
زكي مبارك - يا سيدي الدكتور. . .
طه حسين - تقتلني حين تقول (سيدي الدكتور) وأنت ترى أني جاهل وأن أحمد أمين جهول
علي عبد الرزاق - لم أشهد في حياتي أروع من هذا الحوار، وهو يستحق التسجيل
إبراهيم مصطفى - بشرط ألا يذكر فيه أسمي
علي عبد الرزاق - وما المانع من أن يذكر أسمك في هذا الحوار؟
إبراهيم مصطفى - لا تعرف ما المانع. إن هذا الحديث يوم يسجَّل لن يسجله غير زكي مبارك الذي ابتدع فن الأسمار والأحاديث
علي عبد الرزاق - وهل تخشى أن يتزيد عليك؟
إبراهيم مصطفى - أنا لا أخاف التزيد ولا أهاب الافتراء، لأني أملك تكذيب المفتريات، وأستطيع دحض الأباطيل؛ ولو كان زكي مبارك يفتري على الناس لكان أمره أخفْ وأسهل، ولكنه مع الأسف يبرع في تصوير الصدق
منصور فهمي - وما الخطر من تصوير الصدق؟
إبراهيم مصطفى - الخطر عظيم جداً. وإليك توضيح هذه المعضلة: زكي مبارك يحرص على أن يصورك في أحسن أحوالك، وأحسن أحوال المؤمن حال الصلاة. فهل تعرف كيف يصورك وأنت في صلاتك؟ يصورك وأنت راكع أو ساجد! فهل يرضيك أن تصوّر في حال الركوع أو السجود؟
توفيق الحكيم - هذه أخيلة باريسية، وهي تشهد بروعة ذكائك يا أستاذ إبراهيم
إبراهيم مصطفى - العفو، يا أستاذ توفيق، فتلك وثبة من الخيال ساقها هذا الحوار الطريف
أحمد أمين - أرجو أن تعفوني من هذه المطايبات، فلولا مراعاة المقام لانصرفت
طه حسين - أؤكد لك أن الدكتور زكي لم يقصد إيذاءك فيما كتب عنك. ألم تر كيف احتملته سنين وهو يلحْ في اتهامي بالجهل؟
زكي مبارك - لم أتهم سيدي الدكتور بالجهل المطلق، معاذ الله، وإنما اتهمته بالجهل بالقياس إلى المسيو برونو والمسيو دي لاكروا، وقد توليا عمادة كلية الآداب في باريس
أمين الخولي - كلام طيب، يا فتوة المنوفية، فلا مانع عند الدكتور طه من أن يكون في باريس من هو أعلم منه، فقد تخرَّج في مدينة النور وهو يثني على أساتذتها في كل حين، ولكنك اتهمت الأستاذ أحمد أمين بالعاميّة الفكرية، فما هو المخرج من هذا الاتهام الفظيع؟
زكي مبارك - لم أتهم الأستاذ أحمد أمين بالعامية المطلقة، ولكن بالقياس إلى الشيخ خربوش
طه حسين - ومن الشيخ خربوش؟
زكي مبارك - الشيخ خربوش عالم علامّة لا يقاس إليه الأستاذ أحمد أمين
علي عبد الرزاق - ألم أقل لكم إن هذا الحوار يستحق التدوين؟
عبد الواحد خلاف - هذا الحوار ينفع في تهدئة أعصاب الأستاذ أحمد أمين، وقد بدأ يبتسم، ولكن المهم هو الاستفادة من هذا المجلس في تغيير المذهب الأدبي للدكتور زكي مبارك، فهو أقدر أدبائنا جميعاً على إحداث الضجات الأدبية، ولا أدري كيف رجع سليماً من العراق. . .
توفيق الحكيم - كنت تنتظر أن يلقى حتفه هناك؟
طه حسين - كان يستريح ويريح، كما قال أحد الكتّاب
زكي مبارك:
لن تزالوا كذلكم ثم لا زل
…
ت لكم خالداً خلود الجبال
أحمد أمين - أي جبال وأي خلود؟ أليست لنا أقلام تفل قلمك بأيسر جهد؟
عبد الواحد خلاف - أرجو أن تسمعوا بقية كلامي. إن زكي مبارك أقدر أدبائنا جميعاً على إحداث الضجات الأدبية، ولكنه لا يوجِّه نشاطه إلى ما يفيد.
زكي مبارك - وبماذا تشير أيها السيد؟
عبد الواحد خلاف - أشير بأن تعود سيرتك يوم كنت تؤلف في النثر الفني والتصوف الإسلامي، فتوجه مجادلاتك ومصاولاتك إلى القدماء
طه حسين - الأمل بعيد في توجيه الدكتور زكي مبارك إلى ما يفيد وينفع
زكي مبارك - يا سيدي الدكتور. . .
طه حسين - فلقتني يا أخي بعبارة (سيدي الدكتور) وقد تحيرت في أمرك، فأنت في المجلس رجل لطيف، ولكنك حين تخلو إلى قلمك تنقلب إلى شيطان مَريد
أمين الخولي - دافع عن نفسك يا زكي فإني أخشى أن ينهزم فتوة المنوفية
زكي مبارك - لي كلمة يا سيدي الدكتور، ولا تؤاخذني بالحرص على هذه العبارة، فقد حضرت دروسك بضع سنين ولا أستبيح الهجوم عليك
طه حسين - ألم أقل لكم إن زكي مبارك رجل
زكي مبارك - أشكر لك هذا اللطف يا سيدي الدكتور، ثم أقول إني تلقيت عنك مبادئ الظلم والاعتساف.
عبد الوهاب عزام - إيوه، يا عم زكي، هات ما عندك هات
زكي مبارك - تذكرون المناوشة التي قامت بين الدكتور طه والدكتور منصور على صفحات الأهرام في سنة 1921؟
منصور فهمي - أية مناوشة؟ ذَكِّرني فقد نسيت
زكي مبارك - كنت يا سيدي الدكتور أثنيت على أسلوب المنفلوطي، فهاج أستاذنا الدكتور طه وماج، ودعاك إلى أن تسمي الجمل جَملاً والأرنب أرنباً، أو كما قال، ومعنى ذلك أن المنفلوطي ليس بكاتب ولا أديب
طه حسين - ثم؟
زكي مبارك - ثم جاء الأستاذ الكبير الدكتور طه حسين الذي أنكر أن يكون المنفلوطي كاتباً أو أديباً فاعترف بأن الأستاذ أحمد أمين كاتب وأديب وسمح بأن يدرس أسلوبه على طلبة السنة الأولى بكلية الآداب
طه حسين - ما هذا الحشيش؟
زكي مبارك - أنا لم أذق الحشيش أبداً، ولكني أؤكد أن أسلوب أحمد أمين يدرس في كلية الآداب
طه حسين - هذا مستحيل
أحمد أمين - الكلية تدرس أساليب المعاصرين جميعاً.
زكي مبارك - وأنت كاتب ولك أسلوب؟
منصور فهمي - احترس يا زكي من الخروج على أدب الخطاب
أحمد أمين - ليتكم صدقتموني حين قلت إن زكي مبارك لا ينقد الباحث نقد العالم للعالم وإنما ينقده نقد المصارع للعالم
زكي مبارك - وأنت عالم يا أستاذ؟ وهل يكال العلم أيضاً بمكيال؟
أحمد أمين - العلم كله عندك، ونحن تلاميذ مبتدئون!
علي عبد الرزاق - هذا الحوار لا يستحق التسجيل!
عبد الحميد العبادي - هو على كل حال صورة من صور التاريخ!
توفيق الحكيم - أنا والله شديد الحسرة على ما وصلنا إليه؛ فقد كنت أحب أن تكون بين الأدباء صداقات عظيمة كالذي يعرفه الأدباء العظماء في باريس ولندن وبرلين
عبد الوهاب عزام - وكالذي شهدناه بين زكي مبارك وأحمد أمين!
طه حسين - إن ذهني لا يسيغ القول بأن النقد يفسد ما بين الأصدقاء
شفيق غربال - أعتقد أن الدكتور زكي رجل طيب القلب. وقد قرأت مقالاته عن الأستاذ أحمد أمين بارتياح، وجنيت منها كثيراً من الفوائد الأدبية. ولو أنه نزه قلمه عن بعض العبارات التي جرت مجرى السخرية من الأستاذ أحمد أمين لما استطاع أحد أن يوجه إليه أي ملام
توفيق الحكيم - ولهذه المقالات مزية أخرى غير الفوائد الأدبية، فقد بغَّضتني في الجو الأدبي عندنا وحببّت إليّ قضاء الصيف في أوربا، ولم أرجع إلا بعد أن ظننت أنها انتهت؛ ثم كانت حسرتي شديدة حين رأيت أن زكي مبارك لا يزال يبدي ويعيد في شرح جنايات أحمد أمين. ولولا الحرب لرجعت من حيث أتيت، فمن أين يجد زكي مبارك كل هذا الكلام الطويل العريض؟
شفيق غربال - المسئول عن هذه المتاعب هو الأستاذ أحمد أمين
أحمد أمين - أنا المسئول؟
شفيق غربال - بالتأكيد، أنت المسئول، لأنك مضيت في بحثك طول الصيف، وهيأت المجال للدكتور زكي مبارك. والذي يقدِّم الوقود للنار لا ينكر عليها الاشتعال
طه حسين - هل أفهم من هذا أن الجوْ الأدبي عرف الحياة في هذا الصيف؟
زكي مبارك - يكفي يا سيدي الدكتور أن تعرف أن الأستاذ أحمد أمين نقل مكتبته إلى الإسكندرية في هذا الصيف ليجد الشواهد تحت يديه وهو يردّ عليّ
أحمد أمين - أنا رددت عليك؟ وهل قلتَ كلاماً يُرَدّ عليه؟
زكي مبارك - الله يعلم كيف شغلت قلبك وعقلك، وكيف قهرتك على مراجعة المؤلفات الأدبية، والمصنفات الفقهية. وهل تستطيع يا أستاذ أن تقول إنك تجهل منزلتي الأدبية؟
أحمد أمين - إن مقالاتك في الهجوم عليّ زهدت القراء في علمك وأدبك
شفيق غربال - سمعت غير هذا. سمعت أن مقالات الدكتور زكي مبارك في الهجوم على الأستاذ أحمد أمين دلتْ على اطلاع فائق وتفكير عميق، وسمعت من يقول إنه لم يعرف قيمة زكي مبارك إلا بفضل هذه المقالات
منصور فهمي - وهذا يشرح جانباً من عقلية المجتمع، فالجمهور يعرف زكي مبارك الناقد ولا يعرف زكي مبارك المؤلف، لأنه ينقد وهو ثائر ويؤلف وهو هادئ
طه حسين - زكي مبارك يصطنع الثورة في كل شيء حتى التأليف، ولكن ثورته في مؤلفاته لا تلفت نظر الجمهور لأنها في الأغلب متصلة بالقدماء، والهجوم على القدماء لا يثير تطلْع الناس إلا حين يمس العقائد من قرب أو من بعد، كالذي وقع يوم ظهر كتاب الشعر الجاهلي
زكي مبارك - ومن أجل هذا حرص سيدي الدكتور على تغليظ بعض الألفاظ ليوجه الأنظار إلى كتابه النفيس!
طه حسين - وبعدين لك، يا دكتور زكي؟
زكي مبارك - لا بَعْدين ولا قَبْلين، ولكني أحب أن أعرف كيف تكون الصراحة حلالاً في وقت وحراماً في وقت؟ وكيف يحلْ لسيدي الدكتور ما يحرُم على سائر الناس؟
طه حسين - يظهر أنك تحب أن تتمتع بالحرية الكاملة في حياتك العقلية، ويظهر مع الأسف أنك لم تعتبر بما عاناه أحرار الفكر في هذه البلاد، فما تحسدني عليه حلال لك حين تشاء. وإني أرجو أن يبعد اليوم الذي ترجع فيه عن شططك وجموحك، اليوم الذي تيئس فيه من إنصاف الناس كما يئستُ من إنصاف الناس
منصور فهمي - ولكن ما الموجب للتعرض لما يمس العقائد؟
طه حسين - اسأل نفسك يا منصور فلك مع العقائد تاريخ
منصور فهمي - كان ذلك في عهد الشباب
طه حسين - وكان مني ما كان في عهد الشباب، وإن لم يمض عليه غير عشر سنين، والحسرة تلذع قلبي كلما تذكرت أني لا أملك مكايدة الجماهير من جديد. وهل نكايد الجماهير إلا بفضل ما يثور في دمائنا من ثورة وطغيان؟
عبد الواحد خلاف - ومعنى ذلك أن الدكتور زكي مبارك يكايد جماهير الأدباء لأنه لا يزال في عنفوان الشباب؟
طه حسين - الذي أعرفه أن زكي مبارك صار من طبقة الكهول، بحكم السن على الأقل، فقد شهدت مشاغبته بدروس الأستاذ علي عبد الرزاق في الأزهر سنة 1912
زكي مبارك - وأنا شهدت مشاغبتك يا سيدي الدكتور بدروس الشيخ محمد المهدي في الجامعة المصرية سنة 1913
أحمد أمين - ومع هذه السن العالية لا يزال زكي مباركك يمعن في الغزل والتشبيب كأنه في سن العشرين
شفيق غربال - هذه الدعابة تدل على أن الأستاذ أحمد أمين صفت نفسه وطابت
طه حسين - فهل نرجو أن يكف زكي مبارك عن العدوان بعد هذا الصفاء؟
زكي مبارك - هل تصافينا حقيقة؟
أحمد أمين - لن نتصافى أبداً بعد الذي كان
زكي مبارك - يظهر انك تستروح بالهجوم عليك، وسأخيِّب ظنك فأسكت عنك بعد ثلاث أو أربع مقالات. . . مساء الخير، يا سيدي الدكتور، والحمد لله الذي أرجعك إلينا بخير وعافية.
(مصر الجديدة)
زكي مبارك
من تاريخنا العلمي
طالب علم. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
قال (محمد بن سعيد):
- ويْك أتق الله يا أبا فلان. إنك لتوشك أن تقتل هذا الرجل الصالح وتبوء والله بدمه. ويك اتق الله، لا تطرده من (فندقك) فإنه غريب نائي الديار، قطع سباسب وبحاراً، وجاب ما بين المشرقين. . .
قال: أبقى بن مخلد جاب ما بين المشرقين؟
قال: نعم، وهل تراني عنيت غيره؟ إنه حاجتي إليك، وما سألتك حاجة قبلها، أفلا تقضيها لي؟ إنه شيخ جليل القدر يحمل الحديث ويروي السنن، أفندعه يموت على قارعة الطريق؟
قال: وما أصنع به أنا؟ لقد آويته في فندقي عامين أثنين، لا آخذ منه مالاً ولا أرزؤه شيئاً ولا أعصي له أمراً، أفيكون جزائي أن أعجف عليه نفسي حتى يموت، فيخرج من فندقي محمولاً إلى القبر فيتشاءم الناس بالفندق فيتحامونه فأفلس؟
إنه مريض أنهكته الأوجاع وأدنفته الحمى، ولقد أعجز تقاريس الأطباء، وما أراه إلا ميتاً العشية أو غداة الغد. . . فارحموني، أنقذوني منه، ليس لي به حاجة. . . قبحها الله ساعة أكريته فيها هذا البيت، لقد كانت ساعة ما حضرها مَلَك. . .
قال: أربع عليك أيها الرجل فإنك في نعمة لو عرفت قدرها لقطّعت الليل بحمد الله عليها. إنك لا تدري أيّ خير ساقه الله إليك، وأي أجر كتبه لك، فأقم نفسك في خدمته، وارجُ وجه الله، أطمعْ لك بالجنة
قال: إني والله لو عرفت مداها لما لمتني على الجزع منها. إنك لا تعرف هذا الشيخ أي رجل هو؟ أأقول لك: إنه لم يبت عندي ليلة واحدة حتى خرج بخلقان بالية ومزق مخرقة وركوة وعصا ليسأل الناس. . . ما لك تضحك من كلامي؟. . . أتهزأ بي يا أبن سعيد؟
قال: لا. ولكنك لا تدري ما شأن هذا الرجل
قال: وإنّ له بعدُ لشأناً؟
قال: وأي شأن؟ هذا رجل هجر جنَّات الأندلس ورياضها، وعيونها وأنهارها، ومكانة له
فيها سامية، وجاهاً له عريضاً. . . وفارق أهلاً فيها وصحباً، وعشيرة كبيرة، وأموالاً كثيرة، وذهب يخوض اللجج والبحار، ويجوب السباسب والقفار، ليقْدَمَ بغداد، لا طمعاً بجاه يناله، أو مال يحصله، أو صديق يزوره، أو امرأة يخطبها، أو لذة يطلبها، ولكن رغبة في العلم وحباً للحديث، وشوقاً إلى لقاء أبي عبد الله!
فلما سمع الفندقي اسم أبي عبد الله انتبه وتبدلت حاله، وطفت على وجهه خيالات من الحب العظيم، والإجلال الكبير، الذي يحتفظ عليه قلبه لهذا الإمام، وقال بلهجة أرق، ونغمة أعذب، قد ذاب فيها حقده على بقى بن مخلد في محبته لأبي عبد الله - أتقول إن الرجل قدم من الأندلس ليلقى أحمد بن حنبل؟
- نعم.
- ياله من شرف في الدنيا والآخرة! وهل لقيه؟ ألا تخبرني كيف لقيه؟
قال: إنه نزل عليك في هذا الفندق فألقى فيه متاعه، وذهب يطلب أبا عبد الله؛ وكان ذلك أيام المحنة والناس لا يجرئون على ذكر أسمه، وأبو عبد الله منفرد لا يلقاه أحد إلا أخذته عيون السلطان فناله أذى شديد. . . فلما علم الرجل بذلك ناله من الغمْ ما الله عالم به، فأمّ المسجد الجامع في الرصافة يسمع من المحدثين فما زال يمرّ بالحلق حتى انتهى إلى حلقة نبيلة، فوقف عليها، وكنت أول من رأى زيّه الغريب، فسلمت عليه أونس غربته؛ فسألني: من هذا الشيخ؟
قلت: يحيى بن معين، وكان يعرفه، ومن لا يعرف يحيى أبن معين؟ فوقف ساعة، ثم لمح فرجة قد انفرجت فقام فيها، وكان الشيخ يكشف عن الرجال فيقوي ويضعف، ويزكي ويجرح، فقال:
- يا أبا زكريا - رحمك الله - رجل غريب نائي الديار، أردت السؤال، فلا تستخفني
فقال الشيخ: قُلْ
فجعل يسأل عن بعض من لقي من أهل الحديث - وكان قد لقي منهم خلقاً كثيراً - فبعضاً زكى وبعضاً جرح، فسأله عن هشام بن عمّار وكان قد أكثر الأخذ عنه، فقال الشيخ:
- أبو الوليد هشام بن عمار صاحب صلاة دمشق، ثقة وفوق الثقة، لو كان تحت ردائه كبر ما ضرّه شيئاً لخيره وفضله
فتصايح أهل الحلقة:
- حسبك يرحمك الله حسبك، غيرك له سؤال
فقام وهو واقف على قدم:
- أكشفك عن رجل واحد: أحمد بن حنبل؟
فما قالها حتى جمد الناس وعلت الشيخ كآبة، ونظر إليه متعجباً كأنه يقول له: أعن أحمد يسأل أحد؟ وهل تجرؤ على ذكره؟ وكأن الشيخ قد خالطه شيء من الجزع، ثم غلب عليه إيمانه فلم يعد يبالي السلطان وغضبه، وقال للسائل:
- من أين أنت أيها الرجل؟ نحن نكشف عن أحمد أبن حنبل؟
وسكت الشيخ لحظة ثم قال بجرأة عجب لها الناس ولبثوا شاخصين، ينظرون إلى الشيخ يخافون أن تتخطفه جلاوزة السلطان. . .
قال الشيخ:
- ذاك إمام المسلمين وخيرهم وفاضلهم
ثم إن الرجل ذهب يستهدي الناس إلى دار أبي عبد الله فمنهم من يعرض عنه خشية أن يكون عيناً للسلطان، ومنهم من يجرؤ فيمشي معه خطوات. . . حتى انتهى إلى الدار
فنال الإعجاب من نفس الفندقي كل منال، وسأله:
- أتقول إنه زاره في منزله أيام محنته؟
قال محمد بن سعيد: نعم. قرع عليه الباب فلما فتح له قال: إني رجل غريب أتيتك من مكان سحيق
قال أبو عبد الله: مرحباً بك، أين بلدك؟
قال: الأندلس
قال: أفريقية؟
قال: لا، أبعد من ذاك، أركب البحر من أفريقية إلى بلدي
قال: لا جرم إنه بعيد، فما حاجتك؟
قال: أسمع منك، وأروي عنك
قال: ولكني كما رأيت وعلمت، لا ألقى أحداً، ولا يدعون أحداً يلقاني، ولست آمن عليك
الأذى إذا أنت أتيتني
قال: ما كنت لأبالي في سبيل الأخذ عنك أذى ولا عذابا
قال: فإن هم منعوك؟
قال: أحتال بحيلة، آتيك بزي السؤال فأصيح: الأجر يرحمك الله، فتفتح لي وتحدثني
قال: على ألاّ تظهر في الحلَق فيعرفوك
قال: على ألا أظهر
فكان يفعل ذلك، وكنت تظنه يخرج فيسأل الناس
فعاد الفندقي يسأل متثبتاً، وقد كبر الرجل في عينيه حتى كأن الذي تحتويه غرفته ملك أو وزير، عاد يسأل متثبتاً:
- إذن فهو من (أصحاب) أحمد بن حنبل
قال: نعم، ولبث على ذلك حتى رفع الله المحنة وولى الأمر (المتوكل) فأحيا المذهب الحق، مذهب أهل السنة، وأمات البدعة، وجزى الله أحمد بما صبر، فكان كما تعرف وأعرف إمام الأمة، وأيد الله به الدين كما أيده بأبي بكر يوم الردة فصار يعرف لهذا الرجل حقه ويقول لأصحابه:(هذا يقع عليه أسم طالب العلم)
قال الفندقي:
- جزاك الله يا ابن سعيد خيراً، فقد عرفتني حقه، فهلم بنا إليه. . .
كان بقى بن مخلد الأندلسي وحيداً في غرفته، يتقلب من الألم، ويتلوى من الحمى، قد طحطحه المرض، وهدته الأوجاع فما أبقت منه إلا هيكلاً كالقناة الجوفاء يتردد فيها الهواء، ولَما يشكو من الحنين إلى بلده، والتشوق إلى أهله - أشد عليه من كل ذاك
ولم يكن في البيت إلا لبد اضطجع عليه ووسادة ألقى عليها رأسه، وكتبه مبثوثة من حوله ما يدعها، إذا أدركه انتباه نظر فيها، فإذا غاب عنه من الوجع عقله تركها في مكانها، فلما دخلا عليه ألفياه يقرأ في صحيفة في يده. فجلسا ساعة يؤنسانه فما شعرا إلا ضجة تدنو حتى حسباها قد استقرت في الفندق، فنظرا من الشباك فإذا الرحبة والطرق التي تؤدي إليها ما فيها موطئ قدم خلا من إنسان. فاضطرب الرجل ونزل يسأل أن ماذا جرى؟
فما أحس إلا الناس يقولون: لقد أتى. . . هو في الطريق. . . فأيقن أنه الخليفة، ولكنه
رأى موكب الخليفة غير مرة فما رأى مثل اليوم. . . ودنا من شيخ واقف في أطراف الناس فسأله من القادم، وأين يذهب؟
فقال: إنه أبو عبد الله الذي لا يمشي إلى الخليفة، قادم ليعود مريضاً في هذا الفندق، فصاح الفندقي:
- أبو عبد الله قادم إلى فندقي، أبو عبد الله؟ وطفق يصيح ويثب لا يدري ماذا يصنع وماذا يقول، وما يحفله أحد لأن الناس يتشوفون إلى الطريق ينظرون، وقد احتشدوا فيها فما بقي بزاز في دكانه، ولا تاجر في سوقه، ولا طالب علم في حلقته، ولهم دويّ وجلبة. . .
وصحا الفندق على نفسه، فإذا هذا البحر ينشق بقدرة الله، وإذا الخلق يسكتون حتى كأن رؤوسهم الطير، ويبدو الإمام ومن حوله طلبة العلم قد احتشدوا من جهات بغداد كلها. بغداد العظيمة التي يسكنها مليونان وبأيديهم قراطيسهم وأقلامهم يكتبون كل كلمة يقولها فانتهى الإمام إلى الغرفة، فوقف على المريض فقال له:
- يا أبا عبد الرحمن! أبشر بثواب الله، أعلاك الله إلى العافية، ومسح عنك بيمينه الشافية
فتناقل القوم ما قال فكتبوه
ومرّت أعوام بعد ذلك وأعوام، والناس يذكرون هذا اليوم المشهود. أما الفندق فغدا منذ ذلك الزيارة محط رجال العلماء والكبراء، ودرت على صاحبه إخلاف الرزق، وأما بقىّ فقد شفاه الله وعاد إلى الأندلس فملأها علماً. . .
علي الطنطاوي
ساراكينوس
للأستاذ محمد عبد الله العمودي
جاء في العدد 324 من هذه الرسالة العالية، كلمة بعنوان (يا رسول الله)، (لأستاذ جليل) ينم عليه قلمه!
استهلها بآية من آياته، وبينة من بيناته، وتلك قوله:
(إن الدهر قد جار على قوم عرب!!)
ثم نقل من (التنبيه والإشراف) للمسعودي هذه النبذة:
(كانت ملوك الروم تكتب على كتبها من فلان ملك النصرانية، فغير ذلك نقفور، وكتب (ملك الروم) وقال هذا كذب، ليس (أنا) ملك النصرانية، أنا ملك الروم، والملوك لا تكذب، وأنكر على الروم تسميتهم العرب (ساراقينوس) تفسير ذلك: عبيد سارة، طعناً منهم على هاجر وابنها إسماعيل، وقال: تسميتهم عبيد سارة كذب، والروم إلى هذا الوقت (يعني سنة 345) تسمي العرب (سارقينوس. . .) أهـ
وأستاذنا الجليل، وهو (سباق غايات، وصاحب بينات) كان حقاً عليه أن يقف لحظة أمام هذه (الكلمة) فيعالجها معالجة يردها إلى أصلها، أو يقول قولاً في فصلها؛ إذ هذا هجِّيراه وديدنه في كل ما يرقمه قلمه البارع في شتى (بحاثاته). . .! ولكنه لم يفعل بل تركها تجري في عبارات المسعودي غامضة الوضع، عسيرة الفهم، ملحقةً بذلك التفسير الذي يغلب على الظن أن المسعودي فسره تفسيراً خياليّاً بقوله:(عبيد سارة) أخذاً من الهجاء الأول (سارا) من كلمة: (ساراقينوس)، والدليل على بطلان هذا الكلام عن المسعودي، وإن كنا لا نستبعد أن لوجود (سارا) أو (سارَّة) في بنية هذه (الكلمة) من أمر، قوله:(وقال (أي نقفور) تسميتهم عبيد ساره كذب) لأن ملكاً من ملوك هذه المصفَّرة لا يمكن بحال من الأحوال أن يجعل من نفسه مدافعاً عن العرب، أو يعنى بمثل هذا التحليل وغاية ما في الأمر أن لخيال المسعودي أثراً في هذا، فمن وجود (سارة) في هذه الكلمة يتبادر إلى ذهن (المؤرخ) الأسطورة الخرافية الداهية التي (تحطّ) من قدر الإسماعليين أبناء هاجر بالنسبة (لساره) الزوجة الشرعية لإبراهيم الخليل. . . وهذا ما وقع فيه المسعودي، فلا يُسلَّم له
بهذا، إلا إذا جاء نصْ من اللاتينية أو الإغريقية يقول أن (كينوس) بمعنى (عبد) حينئذ يمكننا أن نركن البنادق مسلّمين!
وسيرى الأستاذ الجليل، من الأقوال الآتية في أصل هذه الكلمة وما قاله المؤرخون، قدامى ومحدثون، ما يجعله يقلّل من أهمية رواية المسعودي الذي إذا صح أنه لم يبتدعها من خياله، فقد أمكن حينئذ أنه استقاها عن طريق. . . (إسرائيليات!) والنكتة في هذا معلومة!
هذه الكلمة قد سجلها التاريخ في مطاويه منذ عهد عريق جداً، فالعرب لا تعرفها مطلقاً، إذ لم تشتهر في تاريخهم، وما وردت في نظمهم ولا نثرهم، فإذا كان المسعودي هو المؤرخ الوحيد الذي ذكرها، فلا شك أنها هبطت عليه عرضاً، وأقتنصها اقتناصاً من أحاديث الروم. ومعنى هذا أنها غير مشهورة بين العرب، ولا جارية على ألسنتهم فهم يجهلونها كل الجهل جهلهم بأصلها!
وهي سارية في كل اللغات الأوربية بهذا المفهوم ألهم إلا في الهجاء الثاني منها فإنه يختلف اختلافاً بسيطاً بحسب اختلاف اللُّغى واللهجات. . .
أما التوصل إلى حقيقتها والتعرف على كُنه تحدرها في مجرى التاريخ فهذا لا يكون إلا بالوقوف على ما كتبه مؤرخو أمتي البحر المتوسط: الإغريق والرومان، فلِهاتين الأمتين صلات وثيقة وتجارة جارية. أجل، عند هاتين الأمتين نشأت كلمة (ساراكينوس) ووردت في تاريخهما معزّزة بهجماتهم المتوالية على حدود الممالك الإغريقية والرومية في مصر وفلسطين وما وراء بلاد الأنباط. وكانت قوافل السبأيين من أقصى الجنوب تفيض موقرة بالأحمال، معطّرة الأعطاف بالبهار والأطياب فتتسلمها عن طريق أيدي هؤلاء (السراكينوس) لتتوزع في قصور أوربا ومعابدها عن طريق الأغارقة والرومان. . .
وإذا كانت هذه الكلمة أصبحت اليوم علماً خاصاً يطلق على العرب، فإن مفهومها قديماً كان على عكس ذلك؛ فقد كانت تدور في دائرة ضيقة من التعريف، لا تطلق على الشعب العربي كله وإنما كانت خاصة بقبيل معيّن يسكن على شواطئ خليج العقبة في الجزء الجنوبي لجزيرة سيناء يعرفه الإغريق بـ (ساراكِيني)
وأقدم ذكر جاء لهذه الكلمة في كتاب المؤرخ الإغريقي ديوسكوريدس في منتصف القرن الأول من ميلاد المسيح عندما وصف صمغ (المقل) فقال: إنه ينبت من (شجرة ساركينية).
وذكر المؤرخ الروماني بلينوس الأكبر في كتابه (التاريخ الطبيعي)، وقد كان معاصراً للإغريقي السابق الذكر، هؤلاء (السراكين)، فقال:(إنهم من جملة القبائل العربية الثاوية في صميم الصحراء، والتي تتاخم بلادهم بلاد الأنباط).
وجاء على أثر هؤلاء المؤرخ بطليموس، في منتصف القرن الثاني للميلاد، فذكر بلاد (السراكين فقال:(إنها تقع في بلاد العرب الحجرية وعين مكانها بقوله إنها تقع في غرب الجبال السوداء التي تمتد - بناء على قوله - من خليج فاران إلى أرض اليهودية. . .)
ولم يكتف المؤلف بكلامه هذا، بل عاد ونقض قوله، فقال في موضع آخر من مؤلفه: إن (السراكين) شعب يقيم في داخلية بلاد العرب السعيدة يقصد بذلك بلاد اليمن. وزاد على ذلك فقال: إن (السكينتس) وقوم عاد يسكنون الهضاب المرتفعة، وبالقرب منهم نحو الشمال والجنوب يوجد (السراكينوس) والثموديون!
وهذه الفقرة الأخيرة من بطليموس بعيدة عن إفهامنا كل البعد إذ لا يصدق مطلقاً أن توجد قرابة في المسكن بين (السراكينوس) و (العاديين) مثلاً؛ فأولئك - كما علمنا - مساكنهم حوالي جزيرة سيناء، وهؤلاء مثاويهم في جبال حضرموت والمسافة بين البلدين طويلة لا تقاس!
ولعل بطليموس قاس هذا قياس استيطان لا قياس مساحة بالنسبة لجهله بأبعاد الجزيرة. وأما قوله إن (السراكينوس) على مقربة من (قوم عاد) كما ذكرنا، في بلاد العرب السعيدة، بعد أن أقرهم في بلاد العرب الحجرية، فلا يبعد أنهم كانوا يفهمون كل ما هو خلف بلاد الأنباط من بلاد، هو من بلاد العرب السعيدة، إذ هم يتصورون أجواءها وراء هذه الحدود، والسراكينوس كانوا عندما يهاجمون هذه الممالك سرعان ما يختفون في أجواف هذه الصحراء صوّب اليمن. . .
مع كل ما سبق، إذا جئنا نتلمس هذه الكلمة في الأسفار اليهودية والسريانية لم نعثر فيها على ما يشفي غلة الباحث الصادي. نعم! إن الكنائس السريانية قد برّزت في هذا المجال فحفظت لنا أسفاراً قديمة جداً تتعلق بأخبار الساميّين - وخاصة ما يتعلق بهم من ناحية العقيدة، كما يتضح لنا هذا في (كتاب الحميريين) الذي نقله من نص سرياني الأستاذ (إكسل
موبرج) المدرس بجامعة لند من أعمال السويد. أما (السراكينوس) فلم يروا لهم ذكر يذكر في هذه الأسفار السريانية، ما خلا رسالة وضعها برداسانيس السرياني في بداية القرن الثالث للميلاد بعنوان ' ذكر فيها الطائيين و (السراكينوس) بقوله:(إنهما قبيلتان تمثلان أهم القبائل العربية الرحالة)
وأستمر الحال على هذا في تلك الأعصار الماضية والسراكينوس لا يعرفون إلا في تلك الطوائف الصغيرة التي تظهر أحياناً مغيرةً من وراء الحدود النبطية، حتى نهض العرب نهضتهم المشهورة، حاملين الرسالة الإنسانية، فبدت طلائع خيلهم من وراء التخوم الفلسطينية تتواكب شمالاً ويساراً على حفافي البحر المتوسط؛ فاهتزت لها أرجاء المملكة الرومانية، وارتعدت لها فرائص القياصرة، وسرى أمر (السراكينوس) بين أمم البحر المتوسط مسير الشمس، فأصبحت هذه الكلمة من هذا الحدث التاريخي العظيم قد أخذت لها معنى واسعاً عن ذي قبل، فكانت سِمة الشعب العربي كله
من هذا نرى أن الكلمة قد تقمصت شكلاً آخر أو مشت متطورة إلى دور ثان، وسنراها كذلك قد دخلت في طور ثالث؛ وذلك أن العرب عندما اشتدت هجماتهم على ممالك الروم في مصر والشام، وذاع من أمرهم أنهم يحملون ديناً جديداً إلى العالم، أقضَّ هذا مضجع الكنيسة الشرقية في عاصمة بيزنطية. فأرسلت رسلها إلى الكنائس الغربية تنبئها بأمر المسلمين، وأن شيئاً جديداً قد صار يهدد الكنائس!!
ولما ودع هرقلُ سوريةَ وداعه الأخير المشهور، واكتسحت جحافل أبن العاصي فلول الرومان في مصر، كان أمر (السرازينس) قد ملأ النفوس رعباً وممالك الفرنجة إضطراباً، حتى أصبحت هذه الكلمة من مرادفات الهول والموت؛ ومن ذلك الوقت عُرف المسلمون بـ (السرازين) وإن كانوا هم العرب في حقيقة الأمر والواقع!
وبقى البيزنطيون على وجه أخص يطلقون هذا الاسم على المسلمين إلى أواخر القرون الوسطى حتى سقوط الخلافة في بغداد. يؤكد لنا هذا خبرُ أبن بطوطة عندما دخل القسطنطينية فحياه إمبراطورها باسم (سراكينو) أي مسلم
ولما أستقر العرب في أسبانيا كانت كل الأمم الأوربية قد سمعت بـ (السرازين) وراحت هذه اللفظة متغلغلة في آداب هذه الأمم؛ فاستعملها الفرنسيون في شعرهم الحماسي باسم
(السرازين) أي الذرة السمراء (كما يقولون!) يعنون بذلك عرب أسبانيا نظراً للونهم الصحراوي الأسمر!
ثم أخذت طريقها بعد ذلك إلى إيطاليا، فتسللت إلى شعر الفروسية الإيطالية باسم (ساراشيني) وفي أثناء الحروب الصليبية كان المسيحيون يطلقونها أيضاً على المسلمين أجمعين، وقد ذكرها الشاعر الإيطالي (دانتي) في (جحيمه) بقوله:
ومعلوم من التاريخ أن غزوات العرب قد وصلت إلى معابر جبال الألب ومنافذ سويسرة بعد أن استولوا على جزء عظيم من جنوب وشمال إيطاليا. وفي استطاعتنا أن نقول أنه لا يوجد اليوم جزء من أجزاء العالم يردد أهله ذكر (السرازين) في حكايات أقرب إلى أن تكون من عمل خيالات القصصيين المولعين بأخبار الحماسة، كبلاد سويسرة. فعلى جبال هذه البلاد بنى (السرازين) آطامهم وقلاعهم وحصونهم، وما زالت حتى هذه الساعة محتفظة باسمهم، وفي مهاوي هذه الشعاب البعيدة عن العالم تقوم كنائس وأديرة ما فتئ رهبانها يذكرون أخبار (السرازين) في عبارات مزيجة بالخرافة والتاريخ!
هذه قصة (السراكينوس) تتبعناها من منبعها إلى موقعها بحسب ما توفر لنا من البحث والزمن، ويرى القارئ من هذا التفصيل السابق أن هذه الكلمة قد أصبح أمرها معروفاً من حين خروج العرب من جزيرتهم، وأنها لا تطلق إلا عليهم، ولكن المشكل المحيّر هو:
من هم هؤلاء (السراكينوس) قديماً؟
ومن أين اشتق هذا الاسم؟
سؤالان لم يجزم بحقيقتهما حتى الآن؛ فقد ذهب المؤرخون في مأخذ هذا اللفظ مذاهب شتى، كلها من قبيل الظنون والرجوم، فمظانها غامضة، وأثرها مطموس، وللمؤرخين أقوال في هذه (اللفظة) نجملها فيما يلي:
1 -
في العصور القديمة كانت تطلق على قبيل بعينه كما بينا فيما مر، ولكن في العصور المتأخرة ذهب المؤرخون فيها مذاهب شتى، فيرى بعضهم أنها:
2 -
تصحيف (شرقيين) العربية، ويدللون على رأيهم هذا أن حرف (الشين) العربي لا يوجد في الإغريقية، ولا الرومانية.
3 -
(سرّاقين) أي (اللصوص)، ويقصد بهم سكان الصحراء!
4 -
(ساراكين) أصلها (صحراء ساكن) أي سكان الصحراء!
وبعد فهذه أقوال المؤرخين في هذه اللفظة المحيرة، ففيها ضعف، وفيها قوة، وكلها - في رأينا - لا تغني من الحق شيئاً!
على أنه إذا صح لنا الاختيار من هذه الأقوال، فأقوى الآراء منها القول بأنها تصحيف (شرقيين) فالكلمة إذن عربية أصيلة، أطلقها الأنباط، وهم عرب على القبائل التي تناوحهم من جهة الشرق. فسمع منهم الإغريق والرومان هذا اللفظ فأدخلوه إلى لغتهم بتلك النبرة، وقد كانت لهم مستعمرات بهذه الأرجاء كما هو معروف. وكلمة (الشرق) و (الشرقيين) لها أصل في لغتنا اليوم؛ فالمصريون يطلقون على كل من يفد من جهة الشرق (شرقيين) وأهل الحجاز يسمون أهل نجد (شروقاً) فليس بعجيب إذن أن يعيد التاريخ نفسه في القرن العشرين!
ولكن مع كل هذا التعليل، ففي النفس شيء من (ساره) في (سارا. . . كينوس) وأن هذا التركيب لابد وأن يحمل توجيهاً آخر في تحليل هذه اللفظة، وخاصة إذا أخذنا بأقوال مؤرخي الكنيسة في القرن الرابع أن (السارازين) انضموا إلى الإسماعيليين الذين كانوا يقيمون في صحراء قادش في مقاطعة فاران حيث ينهض جبل (حوريب) في شرق البحر الأحمر. وفي النفس شيء - أيضاً - من هذا إذا علمنا أن (الهاجريين) أبناء هاجر، قد اشتهروا في الأدب اللاتيني في القرون الوسطى كمرادف (للسرازين) فهل لعلماء اللغات السامية، والمبرزين في الإغريقية واللاتينية، كشيخنا العلامة الكرملي، أن يقولوا كلمتهم في هذا الشأن، فيعيدوا الحق إلى نصابه، والسيف إلى قِرابِه!
أما بعد هذا كله فإني أختتم هذا البحث بمِخرقَة قالها أحد المؤرخين الأوربيين، وذلك أن (السراكينوس) القدامى لا تزال سلائلهم موجودة لليوم ممثلة في قبيلة (السواركه) القبيلة البدوية الصغيرة التي تعيش إلى هذا اليوم على شواطئ البحر بين العريش وغزَّة
وحسبنا أن نقول إزاء هذا التحقيق أن هذه بلية من بلايا البحث توقعها المجانسة في اللفظ؛ وكم خدعت المجانسة مستشرقين في الغرب وأئمة في الإسلام. فالسواركه هؤلاء وجدوا في عصر متأخر، يرجعون في نسبهم إلى سيدنا عكاشة الصحابي المشهور وفوق كل ذي علم عليم.
(القاهرة)
محمد عبد الله العمودي
بين سيد الشعراء وسيد رجال المال
للأستاذ صالح جودت
في ليلة مشهودة في التاريخ، عشية الجمعة المباركة من اليوم السابع من شهر مايو سنة 1920، ائتمر نفر من سراة القوم في دار الأوبرا (السلطانية)، ليحتفل بتأسيس أول دعامة من دعائم النهضة الاستقلالية المصرية، هي (بنك مصر).
وفي تلك الليلة المزدهرة، وقف مؤسس هذه النهضة، محمد طلعت حرب، يقول بصوت يختلجه الإيمان:
سادتي:
ما كاد يظهر نبأ تأسيس البنك حتى وجهت إلينا الاعتراضات الآتية:
أولاً: إننا أردنا لبنك مصر ورأس ماله صبغة مصرية، فأثبتنا تعصبنا وتأخرنا في المدنية.
ثانياً: إنه ليس في مصر من يصلح لأعمال البنوك.
ثالثاً: إن الأمة، مع كل الطبل والزمر اللذين أحاطا بالمشروع، لم يمكن أن يجمع منها سوى ثمانين ألفاً من الجنيهات، من أسماء كثيرين، اكتتب كل منهم بمبلغ زهيد، مما يدل على أن الأمة غير مستعدة للأعمال الاقتصادية. . .
وماذا يراد أن يُعمل بمثل هذا المبلغ الزهيد الذي لا يفي ربحه لدفع أجرة المحل ومرتبات بعض الموظفين. . .
دعونا نبتعد عن هذا الحديث قليلاً، لنتدرج فنعود إليه.
نشأ طلعت حرب - أول ما نشأ - أديباً يحمل القلم، ويصدر عنه المقال تلو المقال، والكتاب إثر الكتاب، ينافح بها في إيمان الكاتب المخلص، والمسلم المؤمن، والأديب الموهوب، عن كيان المجتمع وحرمة التقاليد، والمحافظة على تراثنا الإسلامي من الفضيلة والعفاف. . .
وكانت جهوده الاقتصادية آنذاك تقوم في ركن هادئ من حياته القلمية البارزة.
وهناك. . . في أفق الأدب المتسع، والفن الوضاء، ارتبطت روح طلعت الأديب، بروح شوقي الشاعر، وأدرك كل منهما نواحي العظمة في صاحبه، ثم مرت الأيام تجلو أقدار الرجال، وإذا بالروحين الحبيبين، روح الأديب وروح الشاعر، لا يزيدهما مر الأيام إلا
تسانداً، فكلما بنت يد طلعت حرب، عزفت قيثارة شوقي. وكلما تحدث طلعت حرب، تغنى بشاعرية شوقي. فترى طلعت حرب يحتفظ بآثار صاحبه الشاعر في أعز ركن من بيته، ثم تراه في الحفلة التي أقامها التجار لتكريم الزعيم الطيب الذكر سعد زغلول في فندق سميراميس يوم 13 أبريل سنة 1921، ينتهي في خطابه الكريم بقوله:
واختتم متمثلاً بقول شاعرنا شوقي:
صح بالصباح وبَشِّر
…
أبناء بالمستقبل
واسأل لمصر عناية
…
تأتي وتهبط من عل
قل ربنا أفتح رحمةً
…
والخير منك فأرسل
أدرك كنانتك العز
…
يزة ربنا وتَقَبَّلِ
أما تراه يقول (شاعرنا شوقي)؟ أو لم يكن شوقي شاعر بنك مصر الذي صحبه في شعره من يوم تأسيسه، وسجل حركاته وبركاته وشركاته؟
أليس هو القائل للامية المشهورة في تأسيس بنك مصر، والتي مطلعها:
قف بالممالك وأنظر دولة المال
…
واذكر رجالاً أدالوها بإجمال
وانقل ركاب القوافي في جوانبها
…
لا في جوانب رسم المنزل البالي
ما هيكل الهرم الجيزي من ذهب
…
في العين أزين من بنيانها الحالي
أو ليس هو قائل الدالية العصماء في الاحتفال بوضع الحجر الأول في أساس بنك مصر، التي مطلعها:
نراوَحُ بالحوادث أو نُغَادَى
…
وننكرها ونعطيها القيادا
ونحمدها وما رعت الضحايا
…
ولا جَزَتْ المواقف والجهادا
لحاها الله! باعتنا خيالاً
…
من الأحلام واشترت اتحادا
أو ليس هو صاحب الميمية الخالدة في حفلة افتتاح الدار الجديدة لبنك مصر، التي مطلعها:
نبذ الهوى وصحا من الأحلام
…
شرقٌ تنَّبه بعد طول منام
ثابت سلامته وأقبل صحوه
…
إلا بقايا فترة وسقام
والآن، آن أن نستجمع آثار هذه الصلة بين سيد الشعراء وسيد رجال المال، لنرى كيف عكست صورتها الجلية على روحيهما في تلك الليلة المشهودة، ليلة تأسيس بنك مصر في
اليوم السابع من مايو سنة 1920، حين وقف طلعت يردد ما يثيرون تجاهه من اعتراضات، فراعنا كل الروعة أن نجد هذه الاعتراضات مردودة كلها في قصيدة شوقي التي قالها في نفس الليلة، ويدهشك أن يحدث هذا الاتفاق بغير سابق اتفاق إلا صلة الروحين الساميتين.
الاعتراض الأول، أننا أردنا لبنك مصر ورأس ماله صبغة مصرية، فأثبتنا تعصبنا وتأخرنا في المدنية. وفي ذلك يقول شوقي إن الدنيا للمال، ولا حياة لأمة بغير المال:
والمال، مذ كان تمثال يطاف به
…
والناس مذ خلقوا عُبَّاد تمثال
إذا جفا الدور فانع النازلين بها
…
أو الممالك فاندبها كأطلال
والاعتراض الثاني، أنه ليس في مصر من يصلح لأعمال البنوك، وفي ذلك يقول شوقي إننا قد خطبنا المعالي، وأردنا جلائل الأعمال، فعلينا أن نعد العدة لها، فيومئذ لن يصعب على المصري شيء، ويومئذ يصلح المصري لكل جليل، وهذه العدة هي العلم والمال
يا طالباً لمعالي المُلك مجتهداً
…
خذها من العلم أو خذها من المال
بالعلم والمال يبني الناس ملكهم
…
لم يُبْنَ مُلْكٌ على جهل وإقلال
والاعتراض الثالث، أن الأمة مع كل الطبل والزمر اللذين أحاطا المشروع، لم يمكن أن يجمع منها سوى ثمانين ألفاً من الجنيهات وعندئذ يهيب شوقي بسراة مصر أن يهبوا لدفع هذه الدعوى، ونصرة الوطن، إذ يقول:
سراة مصر، عهدناكم إذا بسطت
…
يد الدعاء، سراة غير بَخَّال
تبين الصدق من مَيْن الأمور لكم
…
فامضوا إلى المال لا تلووا على الآل
ويحدثهم عن الخير المنتظر من وراء هذه الدار فيقول:
دار إذا نزلت فيها ودائعكم
…
أودعتم الحبَّ أرضاً ذات إغلال
آمال مصر إليها طالما طمحت
…
هل تبخلون على مصر بآمال؟
فابنوا على بركات الله واغتنموا
…
ما هيأ الله من حظ وإقبال
يقول الأديب الكبير (تورناد) إن الرجال يذهبون، ولا يبقى من مجدهم إلا ورقات تتعب رؤوس التلاميذ في المدارس
ولكن مجد طلعت حرب، شيء أسمى من مجد الرجال، وهو باقٍ ما بقى بنك مصر
ومؤسساته على أثبت الدعائم، ودعائمه هي القلوب، إلى ما شاء الله.
صالح جودت
من وحي الحرب
وَدَاعْ!. . .
للأستاذ محمود الخفيف
أفاقَتْ عَلى صَيْحةٍ رَوَّعتْ
…
لَدَى سَكرةِ الوصلِ أحلامَها
وَطافتْ بِها النُّذُرُ الغاشياتُ
…
تُجَدِّدُ فِي العَيْشِ آلَامَها
وَكانَ صَفا دَهرُها واغتدَى
…
وَضِيَء الملَامِحِ بَسَّامَها
تهاوَتْ طُيوفٌ تَدَلْت لَها
…
مِنَ الخُلدِ في أمْسِها الناعِمِ
تَألُفُ مِنْ لَمحَاتِ الخْلودِ
…
ومِنْ رَوْعةِ الأمَلِ الباسِمِ
وَتَنْسِمُ بِالْحُبِّ أنفاسُها
…
عَلى عُشِّها الهْانئِ الحالِمِ
أفي وَمْضةٍ تَتلظَّى الجَحيمُ
…
وفي خطرة ترجُفُ الراجِفةْ؟
وتمضِي رَحَى الموتِ في ضجَّةٍ
…
تَبيتُ القلوبُ لها واجِفَة؟
إذا أوحَشَ البيتُ مِن بَعدهِ
…
فمنْ يُؤنِسُ الزوجةَ الخائفة؟
أفاقَتْ عَلى الهَولِ ملْهوفةً
…
وَما كَانَ في العيْشِ بِالمنتظرْ
ألَا شَدَّ ما تَفجعُ النَّائباتُ
…
عَلى غِرَّةٍ ساقَهُنَّ القَدَرْ
وَيا قُبحَ مَوقعهُ في النُّفوس
…
إذا جَاَء بَعدَ الصَّفاءِ الكَدرْ
وأكدرُ ما كانَ لونُ السحابِ
…
إذَا مَرَّ عَارضُهُ بالْقَمرْ
ترَدَّى لِباسَ الوَغى مُعْجلاً
…
وَهَمَّتْ لِتثْنِيَهُ ضارِعَهْ
فلا قولَ إلاَّ الدُّموعُ السِّجالُ
…
تَفيضُ بِها المُقَلُ الهامِعهْ
وَمَا حِيلةُ الَّلفظِ في موْقفٍ
…
تذوبُ بِهِ الأنفُسُ الجازَعه؟
إذا هَمَّ لا يَستجيبُ اللَّسانُ
…
وَمَا عَيَّ في مَوْقفٍ قَبلَهُ
وَماذا عَسَى أنْ يقولَ
…
وهَلْ تَتأسَّى فَتُصغي لَهُ؟
هُنا الصْمتُ أبلغُ في لحْظةٍ
…
توَزّعَ فِيها الأسَى قَوْلَهُ
تَلَاصَقَ قَلباهُما في عِناقٍ
…
يَزيدُ الأَسى فيهما والضّنى!
تُلِحُّ وَتَسْأَلُهُ المُستحيلَ
…
فَيا لَيْتَها طَلَبتْ مُمْكنا
أهَابَ الحِمى بالشُّبولِ الحُماة
…
فَما يَمْلِكُ اليومَ أن يُذْعِنا
إذا هَان دَاعِيهِ في قلبهِ
…
غَدا كلُّ شَيءٍ بِهِ أهْونا
أكانَ يُعجِّل لولا الفِداءُ
…
فيُفلتُ من سحرِ هذا الجمالْ؟
ويمضي إلى حيث شبَّ اللَّظَى
…
وجُنَّ الردى واستحرَّ القتال؟
إلى حيثُ لا يهدَأ الجاهدون
…
سوى غفوةٍ في الليالي الطوال؟
وَيُنْذِرُ بالويْلِ وجهُ النهارِ
…
وتَّمشي إليه جمُوعُ الرِّجال؟
يُؤرِّقُني طيْفُ هذا الودَاعِ
…
وتَبعثُ ذِكْراهُ أشجانِيَهْ
أُغَنِّي لِمرآهُ لحْنَ الأسَى
…
وكم ألْهَمَ الوَجدُ ألحَانِيَه
وإني لذو كِبْرةٍ في الخُطوبِ
…
وإن أغرَقَ الرِّفقُ أجفانِيَه
أرَى منظراً حارَ فيه القرِيضُ
…
وأوْشك زَاخِرُهُ يَنضُبُ
قُصاراىَ فيهِ هُتافِي بهِ
…
فليسَ إلى وصْفِهِ مَذْهب
لئن كان يوحي البُكَا وَجْدُهُ
…
فَكَم خاطِرٍ فيه يُسْتعْذَب
إذا لَم تَرِفَّ قُلوبٌ له
…
فهنَّ من الصخْرِ أو أصْلب
ألَا كَم أراعُ لهذا القَوَامِ
…
تَمَشَّى من الهمِّ فيه الوَهَنْ
ويوجِعُ نفسِيَ بَرْحُ العذابِ
…
يُلِحُّ على مثل هذا البَدَن
لَها اللهُ يُذْهِبُ عنها الأسَى
…
ويَدْرَأُ عنها غَوَاشِي المِحَن
تَفجُّعها - يا غَلِيلي لها -
…
لَدَى البَينِ عن غيرها شاغِلي
يُعذِّبُنِي أنهُ رَاحِلٌ
…
وأنَّ بُكاها بِلَا طائِلِ
ودِدْتُ لَو أنّي لبستُ الحديدَ
…
وكنتُ فِدى الراحِلِ الباسل!
أمِيلُ بلَحظِي إلى وَجْهِهِ
…
فيا حَيْرَةَ اللَّحظِ في أمْرِهِ!
معاني الفجيعَةِ في ناظِرَيْهِ
…
وعَزْمُ الكَماةِ على ثَغرِه
يُريها التجَلُّدَ في صَمْتِهِ
…
فَتَكشفُ عيناهُ عن سرِّه
وأنّى لهُ الصبرُ في مَوْقفٍ
…
سَقاهُ النوَى فيه من مُرِّه
تَجلَّدَ لا من حِفاظٍ فحسْبُ
…
ولكن ليَبدُو جَدِيراً بها
فللموْتُ أهَوُن من أن تُحِسَّ
…
مَعانِي تَوَقِّيهِ في قَلبِها
وليسَ يَهَابُ الرَّدى قَلبُهُ
…
إذا عَوّذَتهُ بإعجَابها
هو الحُبُّ حتى لدى الموت يحيي
…
نفوسَ الرِّجالِ ويسمو بها
تسائِلُ عيناهُ هلْ تَرْتَجي
…
لَهُ أوْبةٌ بعدَ هذا النَّوى؟
ولكنَّهُ لنْ يُطيعَ الخيالَ
…
فَكمْ فيهِ قادِحةٌ للجوَى
وهلْ يعصمُ المرَء مِنْ حتفهِ
…
جحيمُ الوَغى أو نَعيمُ الهوى؟
تحيرْتُ ماذا أثارَ الجوَادَ
…
ولاحَ لِيَ الهوْلُ في وثبِهِ
أذلِكَ دأبُ كِرَامِ الجِيادِ
…
إذا الرَّوْعُ أُعلنَ عن قربِه؟
أمِ اهتاجَ مِمْا يَرى حَوْلهُ
…
فَجُنّ بما لَجَّ في جَنبِهِ؟
معانٍ يَصِفنَ لِقلبِي العذابَ
…
ويمْلأَنَ نَفْسيَ مِن رُعبِه
عرَفتُك يا ساعةَ البيْنِ قَبلُ
…
وقَرَّ عذابُكِ في خاطري
غداةَ ذَرفتُ عَصيَّ الدُّموعِ
…
فَأرخصتُ دمعي لدى آسِري
وضاقتْ عليَّ الرِّحابُ الفِساحُ
…
وأظلَمتِ الأرضُ في ناظري
وَأوْحشَ كلُّ مكانٍ عرَفتُ
…
وغاضتْ رُؤى صُبحهِ الزاهرِ
عرَفتُكِ قبلُ وأيُّ امرِئ
…
دَهيْتِ فلمْ يكُ بالجازعِ
عرَفتُك حين يرجَّى الإيابُ
…
فما كانَ ذِكرُ غَدٍ نافِعي
فَكيف بهذا الذي لا يَرى
…
سوى الموتِ في هوْلِه الفاجعِ؟
سيمضي إلى الرّوع ثبْت الجنان
…
وإن كان يشقَى بأوهامهِ
تَفيضُ على رغمهِ مُقلتاهُ
…
ويذْكرُ ماضيَ أيّامهِ
فيمسحُ عينيهِ خوفَ الرقيبِ
…
وينْفي الهمومَ بإقدامه
ويكتئبُ البيتُ منْ بَعدهِ
…
فما منْ جليسٍ ولا آنسِ
تطوفُ بأرجائِهِ وحشةٌ
…
كما طافَ بالطللِ الدارسِ
وليسَ إذا جنَّهُ لَيلُهُ
…
سوى خفقِ مصباحهِ الناعس
تطلُّ إذا الصُّبحُ لاحَ لها
…
على شَجَنٍ في جميع النّواحْ
فليسَ الندَى في مآقي الوُرود
…
سوَى أدُمعٍ من بُكاء الصباح
وهذى الهواتفُ نوْاحهٌ
…
بِأغصانِها لا تَملُّ النُّواح
تعلِّلُ أطفالها تارةً
…
وطوْراً تصيحُ بهمْ زاجرَه
فَتصْفرُّ منهمْ وجُوهٌ صِغارٌ
…
تظَلُّ إلى وجهها ناظرَه
وتجهشُ حيناً إذا أبصَرت
…
دموعاً بآماقِهم حائِرَه
يلوحُ لها اليُتمُ في دَمعهمْ
…
فَتسقطُ من وهنٍ خائِره
وتَمضي الليالي ثقالَ الخُطَى
…
ولا قوْل عن زوْجها الغائبِ
بَرَاها السَّقامُ فليسَ يُرَى
…
سوَى اليأس في وجهها الشاحب
إذا الهَمُّ صُوِّرَ تِمثَالُهُ
…
فليس سوَى جسمها اللاَّغِب
وما علمت كيف خاض الحُتوف
…
سِجالاً وكيف تصدَّى لها
وكيف أحاطَ الرَّدى بالرِّجالِ
…
وزلزِلَتِ الأرضُ زِلزَالَها
وكيف تصبُّ السماء الدّخانَ
…
تَزيدُ على الأرضِ أهوالها
وكيف يُلاقي الكميُّ الكمِيَّ
…
وتمتحن الحرب أبطالَها
إذا الليل أسْدَل أستارَه
…
تراءى على الأفْقِ لونُ الدّمِ
ولاحت مخضَّبة بالنجيع
…
جحافلُ من خافِقِ الأنجم
يرى كلّ ما حوله قانياً
…
إلى الدّمِ في لونه ينتمي
تَناوحُ في مِسمعيه الرِّياح
…
فيسمع فيما تقولُ الأنِينَا
وَيَسمع ثَمّ الذين طَوت
…
يَدُ الموت أعمارهمْ هامِسينا
يقولون متنا وصرنا عظاماً
…
فمن للبنات غداً والبنينا؟
وَتَأخذُ أجفانَهُ غَفْوةٌ
…
فيأوي إلى بيته ثانِيَهْ
وتَطْفُر مِن فرح زوجه
…
كأن لم تَبِتْ لَيلة عانِيَهْ
تُكَفكفُ أدمعهُ الساخناتِ
…
وَيَمسحُ أجْفانَها الهامِيَهْ
ولكنهُ حُلمٌ تنطوي
…
على نفخة الصور أفراحُهُ
وينهض كلُّ فتىً للسلاح
…
ويوحي له الدَّمَ إصباحُه
فيهزأ بالموت في كرِّهِ
…
فليس بِمُثنيه مجتاحه
الخفيف
رسالة الفن
دراسات في الفن
الفن بين (الآميبات) و (الاميبين)
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
لي صديقة صغيرة غاية ما تريده مني هو أن تسخر بي وأن تحطم كل رأي أبديه ولو كان إعجاباً بها وتقريظاً لها حتى آمنت بأنها دسيسة مسلطة عليّ فلم أعد أحمل كلامها محمل الجد ولو كان تعزيزاً لرأي كنت قد أراه وأصدق عليه. فنحن ما نكاد نلتقي حتى نختلف منذ نتبادل التحية. فإذا قلت لها: (نهارك سعيد) قالت: (وكيف عرفت؟). فإذا قلت لها إن هذا دعاء وليس خبراً، سألتني:(ومتى كنت من أولياء الله الصالحين حتى تدعوه إلى إسعاد غيرك. . .؟ أفلا جربت دعائك لنفسك أولاً؟ فمن يدريك أن يستقبل الله رجاءك، من غضبه عليك، بسخطه ولعنته؟)
هذه هي صديقتي المفكرة التي قابلتني أمس وفي يدها العدد الأخير من الرسالة فما رأتني حتى نادتني:
- تعال، الله يخيبك!
- أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقية! ماذا حدث يا هذه؟
- حدث الحدث، ونزلت الكارثة. أهذا كلام تقوله عن استراوس وصاحبته؟
- وماذا كنت تريدين أن أقول؟ اكتبيه في ورقة حتى إذا اتفقنا عليه لا تعودين فتنقضينه. . .
- ناصح جداً. من ذا الذي قال لك إن البارونة فشلت مع استراوس؟
- هي التي قالته، وأرجو ألا تسأليني متى قابلتها ولا أين لقيتها، فهي لم تقل لي أنا بالذات، وإنما عبرت بهجرانها لاستراوس عن هذا الفشل الذي تنكرينه
- ولم لا يكون في هذا الهجر تعبير عن فشل استراوس نفسه؟ ألم يوافق هو عليه؟
- ربما يكون قد وافق عليه، ولكنه لم يسع إليه. ثم إنها هي التي بدأت مناوشته؛ فكان هذا دليلاً على أنها تريده، فهجرها إياه لا يدل بعد ذلك على شيء إلا أنها عجزت عما كانت
تريد. . . فهي التي فشلت، وليس هو الذي فشل
- بل إنه هو الذي فشل منذ سمح لها بأن تريده ولم تأخذه عزة الرجولة، ولم يبدأ هو بالإرادة وإعلانها
- وما عزة الرجولة هذه؟
- بِه! أأنت أيضاً (ستراوس)؟
- فال الله ولا فالك! ولكني أريد أن أتفق معك على تحديد معناها حتى لا نختلف بعد في المناقشة
- عزة الرجولة هي قوة الأمر التي خص الله بها الرجل ليتسلط بها على المرأة
- وما المرأة؟
- والمرأة أيضاً تريد أن نتفق على تحديد معناها؟
- إذا كان لها معنى؟
- داهيتك أسود من الليل! المرأة هي شريكة الرجل في حياته
- بأي حق. . . إلا حق الضعف؟
- بحق القدرة على النسل. وليس رجل قادراً عليه بغير امرأة
- كان استراوس قادراً عليه بغير امرأة. وليس استراوس وحده الذي استطاعه، وإنما استطاعه مثله كثيرون غيره.
- هذا هراء. وإذا كان هناك من أعقب من غير شريك، فإنها مريم العذراء. . . ولم تكن رجلاً. . .
- وكانت آيتها: أنه كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً. لم يجد كتاباً، ولم يجد وحياً، ولم يجد آية أخرى
- ماذا تعني؟
- أعني أنها رضي الله عنها كانت هبة آل عمران للخبير الرحمن، وأنها اتقته وتبتلت له، فأغناها عما تطلبه كل امرأة من هذه الدنيا وهو الرزق، فيسره لها من حكمته وكرمه، ثم نفخ فيها من روحه، فكانت هذه هي معجزة المرأة الكبرى: أن ينفخ فيها من روح الله. . . ومع هذا الجلال، فإنها بمشيئة الله لم تعقب من روحه فكرة، وإنما أعقبت المسيح الإنسان
(ص)
- وهو كلمة الله!
- المتجسدة! الجسد! ولا تنس أنه رجل، وانه أعقب ديناً جل من دين.
- وهو ابنها؟
- وهل أنكرت أنا هذا؟ ولكن دينه ليس منها!
- الدين من الله.
- وكل حق من الله، سواء أكان ديناً أم كان علماً، أم كان فناً. . .
- تريد أن تنسب الفنون أيضاً لله؟ حرام عليك!
- حرمت عليك عيشتك! أليست الفنون هبات من الله ومنحاً؟ هل يستطيع كل إنسان أن يكون فناناً إلا من وهبه الله القدرة على ذلك، ومن أخذ نفسه بطلبه. . . إن الله وعد عبده التقي أن يعطيه حتى يرضى. . .
وقد اتقته مريم (رضى الله عنها) فأعطاها رزقاً، واتقاه المسيح فأعطاه ديناً، ويتقيه ناس فيعطيهم فنوناً. . . ألم تسمعي بالإلهام؟
- ما أكثر الذي نسمعه، وما أقل المعقول فيه. . .
- ليست مسألة الفنون يا مولاتي شيئاً يفهم بالعقل. . . إنها كالحب تماماً شيء يحس. . . هل تعرفين ما معنى (يحس)؟ كما تخزك الإبرة، وكما تلسعك النار. . . وكل ما في الأمر أنهما وخز ولسع روحيان. . . فهل تعرفين ما هي الروح؟
- من أمر ربي.
- ولا شيء غير هذا؟
- القرآن عرفها بهذا، فهل عندك أنت تعريف أوضح منه؟ توقح وقل ما شئت وعليّ وعلى الأزهر الشريف ما بعد ذلك
- هو ذنبي أن أناقش امرأة إذا قهرتني جمعت علي الناس شماتةً وغلا. فإذا هممت أن أصرعها استنجدت وولولت وبكت واستعدت على كل من تأخذ نفسه الرحمة والشفقة بحواء الضعيفة التي سيقتلها الوحش الذي هو أنا. . . أليس كذلك؟ أني ألقي السلاح يا آنسة
- إذن فقد فشلت
- كما فشلت البارونة مع استراوس
- لكنها لم تفشل. وإنما كانت في أنوثتها أنصع من استراوس في رجولته. وقد كان عليه أن يتطهر وأن ينقي نفسه ليدركها وليطاول حسنها. . .
- أما كان استراوس متطهراً؟ هذا الذي لم تخلبه الأبدان مثلما كانت تستهويه الأرواح من ورائها؟
- ما هذا الكلام الفارغ الذي لا معنى له. أنا لا أعرف إلا أن الله خلق الناس ذكراً وأنثى. وكل منهما في حاجة إلى صاحبه. وعلى الرجل أن يطلب الأنثى وليس عليها أن تطلبه، بل إن عليها أن تتريث وأن تتمنع، وأن تنتظر حتى تتأكد أنه يريدها حقاً، كما قلت لك أن للرجولة عزة، فإن للأنوثة كرامة، وكرامة الأنوثة تقتضي هذا التريث وهذا التمنع حتى لا يجيء يوم يعير فيه الرجل المرأة بأنها هي التي طلبته، أو أنها هي التي ألقت بنفسها بين ذراعيه. . .
- ليس هذا كرامة كما تقولين، وإنما هو نفاق
- بل إنه كرامة
- كان يمكن أن يكون كرامة لو أنه كان ممكناً أن تعيش المرأة من غير رجل، ولكن ما دامت هي تحتاج إليه حقاً فالتريث والتمنع واللف والدوران، وغير ذلك مما تتقنه بنات حواء ليس شيئاً غير الإثارة الجنسية، فإذا خفتت النزعة الجنسية في الرجل لم تعد هذه الصناعة تجدي شيئاً.
- ليست هذه صناعة، وإنما هي طبيعة
- فليكن
- فليكوننّ! والآن قل لي كيف تخفت النزعة الجنسية في الرجل
- كلما كف عن حياة الحيوان، وكلما استخلص من الحياة الفضائل، ومن هذه الفضائل تلك الكرامة التي تتحدثين عنها، والتي تريدين أن تقفيها على الأنوثة
- ولكن هذه الكرامة التي أتحدث عنها خاصة بالأنوثة وحدها ولا يمكن أن تجتمع في الرجل هي وقوة الطلب التي تلتهب فيه الرغبة، والتي تدفعه وتحدوه إلى التسلط على المرأة. . . لا يمكن أن يحدث هذا الذي تقوله إلا إذا كان الرجل (كالأميبة) ينشق جسده
شقين، ثم ينشق كل شق منهما شقين، فلا ذكر، ولا أنثى، ولا زواج، ولا تناسل. . . فهل في الرجال (أميبون) يا هذا؟
- فيهم يا آنستي فيهم. . . كما أن في النساء (أميبات)!
- وما هؤلاء؟
- هن اللواتي بلغن للعالم رسالات. هن اللواتي خلفن لهذه الدنيا آثاراً. هن اللواتي أعرضن عن الرجال كثيراً أو قليلاً، وتداخلن في أنفسهم، ثم انشققن على أنفسهن فأنجبن أحياء غير البنين والبنات. صحيح أنني لا اذكر منهم ولا واحدة لأني قليل الإطلاع على التاريخ، ولكنك تستطيعين أن تسألي عنهن واحدة من بنات جنسك المثقفات. اسألي الآنسة سهير القلماوي. اسألي الآنسة. . . لا. . .
- من هي الآنسة (لا) هذه؟ يابانية هي؟
- عجائب! ألا تعرفينها؟ أستاذتك التي لم يمنعها من دراسة هذا الموضوع معك، إلا أنكما أنثيان تعودتما ألا تمسا الحقائق إلا من بعيد.
- وما لك تحمل عليها هكذا؟
- لأنها (أميبة) ولكنها متكتمة. . . وأنت (أميبة) مثلها ولكنك مترددة!
- لا تقل هذا. . . إني أموت إذا خلته حقاً.
- وهل في الحق ما يفزع؟ الحق جميل، وهو من عند الله فأحبيه يا مكروبتي الصغيرة. . . ولا تكوني مثل بارونة استراوس!
- آه منك! لقد طوحت بنا إلى موضوع لم يكن يخطر لي مطلقاً أن أندفع إليه. وما دمنا قد مسسناه، فأظنك لا تمتنع عن المضي فيه إلى آخره. . . هل تصلح الحياة بين (الأميبة) و (الأميب)، كما تصلح بين والمرأة والرجل؟
- إما أن تصلح صلاحاً ما بعده صلاح. . . وإما أن تستحيل استحالة ما بعدها استحالة. . . ولا وسط بين الحالتين. . . والدرس الواحد في هذا الموضوع بعشرة جنيهات، فهو موضوع لم يطرقه إلى اليوم أحد.
- يا لك من مادي مظلم! عشرة جنيهات مرة واحدة!
- وعلى أي حال فإني أرضى منك الآن (بسيجارة). . . أشعليها ولكن بعد أن تمسحي عن
شفتيك هذا (الأحمر) الذي تكذبين به على الناس وعلى نفسك. . .
- يا لطيف! هل أكلت اليوم مسامير تنفخها في كلامك فتخرق بها الآذان والأفئدة؟
- يا ما أكلت المسامير والزجاج والنار. . . وتجيئين أنت في آخر الزمن لتهزئي بالسحار الذي علمته الأفاعي الصدق والرحمة، لنا الله معاً.
- هل هذا الكلام موجه لي أنا؟
- لك أنت، لكما أنتما، لكن أنتن، لي أنا، لنا نحن. . . ألا تحفظين بقية الضمائر؟
- لا ريب أنك مجنون؟
- ولم لا؟ ربما كانت البارونة تقول هذا عن استراوس! أما هو فلا ريب أنه قال هذا عنها
- فأيهما كان المجنون؟
- الاثنان معاً!
- لماذا؟
- لأنهما افترقا، ولم يكن يصلح لها غيره، ولم يكن يصلح له غيرها. وما كانت لتهجره لو أنها قرأت مقال الأسبوع الماضي الذي أسخطك، فقد كانت (أميبة) لا يعجبها كل رجل، وكانت فيها قوة الإبداع الفني والانشقاق على نفسها، وإن كانت لم تمارسها لظنها أنها امرأة
- بدأ الغرور يركبك
- أعتذر. وأستغفر الله. وأمسح الأرض بوجهي ورأسي بين يدي جلاله وعزته، وأعود فأقول إنهما كانا يتفقان لو أنهما رأيا نفسيهما كما أراني الله إياهما. . . ألم نقل إنهما كانا (آميبين) كل منهما ينشق على نفسه فنوناً، أو لم أقل لك إن من (الأميبين) من يصلح (للأميبات) كل الصلاح. لقد كان هذان من هؤلاء
- كيف؟
- الرجل يا آنستي ابن رجل وامرأة ففيه من الرجولة والأنوثة، وهو لم يكن رجلاً إلا لأنه ورث من أبيه أكثر مما ورث من أمه. فلو تعادل الذي ورثه منهما كان خنثى، وكذلك المرأة، وفي الرجال من تبلغ رجولتهم تسعين في المائة من حيويتهم وهؤلاء (حيوانون) أكثر منهم أناسا، ولعل راسبوتين كان من هؤلاء، فالتاريخ يروي أنه كان يعصف بالنساء عصفاً، ورجل مثل هذا لا تشبعه المرأة إلا إذا بلغت أنوثتها تسعين في المائة من حيويتها
هي أيضاً، وهذا الصنف من الرجال والنساء هم الذين يصفهم أهل هذه الأيام بأنهم أصحاب السكس أبيل. أما الرجل الذي لا تزيد رجولته على ستين في المائة مثلاً فلا بد له من امرأة ليس فيها ما يزيد على ذلك من الأنوثة وهذان يتحابان ويتقاربان. . .
- وكيف تعرف هؤلاء الرجال. . . هل يظهرون للأعين؟
- نعم. فيهم من ملامح النساء. . . استدارة الأطراف، طراوة الصوت، دلال المشية، واستدارة الأعناق أيضاً. . . وبروز الأثداء. . . والنساء الأميبات فيهن من ملامح الرجال غزارة شعر الشاربين، وضئولة الأثداء، وعنف المشية. . . وهناك علامات غير هذه. . .
- ومتى لا يتحاب (الأميبان) ولا يتقاربان. . .
- عندما تشتط الأنوثة في الرجل، أو الرجولة في الأنثى. أو الاثنتان معاً. . . عندئذ يتنافران
- وماذا أيضاً؟
- فكري برأسك هذا قليلاً. . . ولا تقولي (ماذا وكيف) أفأن لم تسألي لا تتفهمين؟
- لقد دخت. . . دوخك الله أنت واستراوس
- أما أنا فقد دوخني الزمن. . . وأما استراوس فقد دوخه الفن. . . إلى اللقاء
عزيز أحمد فهمي
رسالة العلم
لحظات الإلهام في تاريخ العلم
تأليف مريون فلورنس لانسنغ
4 -
الاستكشافات الخمسة
من الطين إلى الصيني
الطعام من حاجات الإنسان اليومية. وقد كان على إنسان الكهف كما علينا الآن، أن نستبقي الحياة بالاستمرار على تناول الطعام
وكثير من القصص الممتع في حياة الإنسان يدور حول هذه المسألة الكبرى: مسألة الطعام وهي التي تشغل الجنس الإنساني كله إلى اليوم. فبعض القصص يتعلق بالتجارة وبعضها بالاستكشافات والبعض بتاريخ الشعوب المنعزلة
وكان الإنسان في البداية هائم الحركة بحثاً عن الطعام فهو يأكل القوت والفواكه والحشائش والحبوب وجذور النبات؛ فإذا ما غال ذلك من حقل ذهب إلى حقل آخر يلتمس فيه طعاماً جديداً، ويمكث كذلك حيناً في مكان من أماكن الصيد ثم يتركه إلى مكان آخر
ثم جاء اليوم العجيب الذي تعلم فيه الإنسان أنه متى غرس بذرة فإنه سيجني حصاداً. وقد كان ولا ريب بالعالم في هذا العهد القديم بعض رجال لكل شعب من الشعوب مهمتهم أن يرقبوا مرور الشهور بظهور القمر واختفائه لغرس الحبوب وملاحظة ما سيكون من أمرها: هل ينشأ أم لا ينشأ منها نبات؟
وحدّث أحد زعماء الملايو عن كيفية اعتماد قبيلة في الحياة على فواكه الغابة فقال إنهم في البداية كانوا يأكلون الفواكه في أماكن صغيرة بالقرب من المكان الذي تجمع فيه. ولكن لوحظ أن عدداً كبيراً من أشجار الفاكهة كان ينبت حول هذه الأماكن التي يأكلونها فيها فقرروا أن يحملوا الفواكه إلى أماكن أبعد من الأولى ليأكلوها بها. وكانوا في كل عام بعد ذلك يرون أن أشجار الفاكهة تنبت حيث يسقط النوى أو البذور فحملوا البذور والنوى إلى مسافة أبعد ورموها في أماكن مختلفة إلى أن صار لهم في النهاية بساتين في أنحاء الإقليم الذي يقيمون به
ولما استكشف سر زمن الغراس وزمن الحصاد استطاع الإنسان أن يكف عن التجوال صعوداً وهبوطاً على سطح الأرض وأن يقر في مكان يستثمر به الأرض طلباً للقوت. وقد عرفت كل القبائل ذلك في أوقات طالت أو قصرت فاستقرت بأماكن اختارتها
وحاجات الطعام الإنساني هي السبب في صناعة الأواني فمنها أوعية للماء وأخرى للطبخ وأوعية لحفظ الطعام بين وجبة ووجبة. وأخيراً أوعية ليتناول فيها الطعام
وباهتمامه بالحالة التي يقدم بها له الطعام نشأ التبديل من الأوعية الغليظة المصنوعة من طين الأرض إلى الأواني الصينية التي تكاد تكون شفافة لرقتها
وكانت كل أسرة تأكل على مائدة واحدة وكان طبقها واحداً في البداية، ثم صار لكل فرد طبقه الخاص. وفي نفس الوقت كان التقدم مستمراً في ناحية أخرى متصلة بحاجة العالم إلى الطعام فإن الإنسان كان يجوب الأرض براً وبحراً فاستطاع نقل الطعام من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب حول الكرة الأرضية. ولكن الطعام الذي ينقل كل هذه المسافات البعيدة أو الذي يحفظ مدداً طويلة يجب أن لا يكون في درجة من النضوج لا تسمح بالنقل إلا من اليد إلى الفم. ويجب أن تستبقي فيه حلاوته وسلامته وجدّته. فجاءت علبة الصفيح المختومة مُلائِمةً لهذه الحاجة. وبواسطتها أصبح عهد استكشاف الطعام تاماً
كان على الإنسان في البداية أن يكثر من التنقل طلباً للقوت ومن ثم نشأت المهاجرات العظيمة ثم تعلم صنع الطعام في موطنه، وبذلك نشأت المدنيات المنفصلة، والآن يستطيع أن ينقل الطعام إلى حيث شاء؛ فأصبحت له الحرية العصرية في الانتقال، وقد نقلتنا هذه الأساطير في كل الدورة. ففي البدء كان عليه أن يتحرك ثم كان له أن يستقر. والآن له أن يتحرك وأن يأخذ معه مختلف الأطعمة أو يستقر ويستدني إلى مائدته الطعام من أنحاء العالم
وفي قصة الزعيم الملايي وبذوره، وفي فن صنع الأواني وتأثيره على الطبخ، وفي تقدم فن الكيمياء وتأثيرها على اختيار أنواع الطعام وطرائق تناوله، وفي قصة العالم الفرنسي الذي سنتحدث عنه وحصوله على الجائزة، في هذه القصص سنرى تطور هذه الأشياء
الأقاصيص كثيرة في كل قبيلة على سطح الأرض عن الأيام الأولى من عهد تعلم الإنسان ما على هذه الدنيا العجيبة من الغرائب وما في بطنها من الكنوز التي تنتظر المستكشف.
ومجموعة من مثل هذه الأقاصيص توضح لنا كنه ما تحت أقدامنا من الأرض
لا بد أن يكون أقدم الناس في عهد سكنى الكهوف قد لاحظوا أن بعض أماكن من الأرض سوداء مخصبة وأن بعضها صخري والبعض رملي. وفي جهة ما من كل إقليم لا بد أن تكون قبيلة وربما كانت إقامتها عند شاطئ نهر أو مهدٍ جاف لغدير أو في وهد على مقربة من المساكن. وقد لاحظ الناس ذلك النوع الخاص من الأرض الذي تنطبع عليه آثار الأقدام ولكنها تجف عندما تظهر الشمس
لسنا ندري من البادئ بهذا الاستكشاف فقد يكون رجلاً أو امرأة أو طفلاً ممن يلعبون بعجينه من الطين كما هي عادة الأطفال من عهد لا تعيه الذاكرة ولكنه صادف أن وضع هذا المستكشف طينه المبتل على قطعة مسطحة من الخشب أو كتلة ذات تجويف ثم أدرك لما جفت عجينة الطين أنها ليست لينة كما كانت بل أصبحت صلبة متماسكة وأنها تجمدت على الشكل الذي وضعت عليه وهي عجينه
ومهما يكن السبيل الذي أمكن الوصول منه إلى هذا الاستكشاف فإن كل قبيلة مما يعيه علمنا قد صنعت في بداية عهدها أواني بسيطة الشكل من فخار مصنوع من الطين، ففن صنع الأواني وهو تكييف الطين بأشكال يمكن بها استعماله، أو صنع أشياء جميلة منه، هو أقدم الفنون وأوسعها انتشارا
إن قصة ازدياد المرء معرفة بهذه الأرض العجيبة التي يطأها بقدميه، وقصة ازدياد حذقه أساليب استعمالها - إن هذه القصة تتكون من قصص خمس لاستكشافات موفقة وصل إليها العالم في عهود مختلفة من التاريخ على أيدي أعضاء في كل قبيلة
ولقد كان إنجاز هذه الكشوف الخمسة أسرع في بعض القبائل من بعضها، ففترات الاستكشاف استغرقت في بعض القبائل مائة عام أو خمسمائة بل قد تبلغ الفترة ألفاً من الأعوام
لكن كلاً من هذه الاستكشافات قد وصلت إليه قبيلة بنفسها على يد حاذق منتج من رجالها قبل أن تصبح صناعة الخزف من الأعمال العامة
أما الاستكشاف الأول فهو أن بعض تراب الأرض صلصال حقيقي تحدث به عند البلل نعومة عظيمة وعند الجفاف صلابة شديدة وأنه إذا وضعت عليه علامة عند نعومته فإنها
تبقى بعد جفافه
وأما الاستكشاف الثاني، فهو أنه من الممكن صنع طبق بوضع طبقات من هذا الصلصال بعضها فوق بعض، وتركها في الشمس حتى تتجمد.
وقد كان صنع الأطباق في لحظة عظيمة حقاً من حياة الناس ولو أنهم لم يدركوا ذلك في البداية، فإن الإناء الذي توضع فيه المياه فيحتفظ بشكله عند وضعه فوق النار، أو عند دفنه في حفرة ساخنة هو الوسيلة الوحيدة لجعل الطبخ الحقيقي في حيز الإمكان. ولم يبق بعد اختراعه من ضرورة لإنضاج اللحم بتعليقه على عصا فوق النار، ولا تجفيفه بإحراقه في فرن، ولم تبق من ضرورة كذلك لطحن الحبوب، وصنع حبات (بلابيع) منها ليسهل ابتلاعها. إن سحر النار قد أمكن الانتفاع به في تهيئة الطعام، لما أصبح من الممكن صنع طبق أو وعاء يوضع الطعام فيه على النار فلا يحترق.
وأما الاستكشاف الثالث، فالأرجح أنه معرفة المرء إمكان استخراج مادة أصلب وأمتن من الصلصال بإضافة الرمل أو مادة أخرى إليه، فبينا يصلح الصلصال وحده لصنع الأطباق، فهو يصلح مخلوطاً لما هو أهم من ذلك، يصلح لصنع الطوب الذي تبنى به المنازل. . . وهل تذكر أنك قرأت في قصة موسى شكوى الشعب اليهودي من أنه لا يستطيع صنع الطوب خالياً من القش؟
إن القش يؤدي في توثيق الطوب ما تؤديه الرمال، ففي مصر وفي المكسيك وفي الأجزاء الجنوبية من الولايات المتحدة وفي كل المناطق الحارة التي يكثر فيها الصلصال تبنى الأكواخ من الطوب النيئ أي الذي تجففه الشمس
وقد كان أول ما صنع الطوب جديراً بالملاحظة والاهتمام في حياة الإنسان. وذلك لأنه جعل في حيز الإمكان بناء بيوت يسكنها
وبعد أن شاع استعمال النار حدث بطريق المصادفة أن طبقاً سيئ الصنع أو قطعة من الطوب قد ترك أو تركت بالقرب من النار، فوجد في اليوم التالي أصلب وأمتن من الصلصال الذي يجفف في الشمس
وجد قوياً صلباً كأنه قطعة من الصخر فلا يمتص الماء ولا الضغط يستلينه، فكان صنع الصلصال على النار هو الاستكشاف الرابع في تاريخ الفخار. وقد مضى زمن طويل قبل
أن يتعلم الناس تعلماً تاماً صنع أطباقهم بواسطة النار
صنعوا (القمائن) وهي أفران تصنع في العادة على شكل خليات النحل وهم يضعون فيها ناراً تحترق في بطئ، وفي استمرار عدة ساعات أو عدة أيام. ثم عرفوا بالتجربة مقدار الحرارة الكافية لصنع كل نوع من أنواع المزيج والمدد المختلفة التي يجب أن يقضيها بتلك القمائن كل جنس من الصلصال
ولكن سر إحراق الصلصال هو الأساس لصنع كل ما يتعلق بالفخار والطوب بما في ذلك ما يصنع اليوم من أواني الصيني ومن الأوعية الجميلة السكسونية ومن الأحجار التي تشاد بها مباني العصر، وألف شيء آخر مما أنشئت عليه مدينتنا الحاضرة
أما الاستكشاف الخامس فقد جاء في عهد تأخر موعده: جاء في العهد الذي تاق فيه الإنسان إلى الجمال وإلى النفع معاً فيما يصنعه
وقد كان صانعوا الصلصال في أقدم العصور يحاولون على أساليبهم الخشنة أن يزينوا الأواني حتى ولو لم يكن ذلك إلا بآثار الإبهام على حافة الأواني
وكان المصريون والبابليون والليديون يحلون أوانيهم والطوب الذي يصنعونه والتماثيل بألوان لامعة مستخرجة من أكسيد الأثمد والنحاس الأحمر والصفيح
وكان اليونان يستعملونه دهاناً صلباً يغطون به الأواني الجميلة ذات اللونين الأسود والأحمر، ولكن الفخار الرقيق اللامع الذي يكاد يكون شفافاً لم يكن من صنع شعب من هذه الشعوب؛ فإن صناع الأواني في الصين قد بدءوا تجاريبهم بإحراق الصلصال في (القمائن) حين كان معاصروهم المجهولون بين الشعوب الأخرى لا يزالون يصنعون الأواني من الطين المجفف في الشمس، وكان الصقل بالخزف أمراً معروفاً في الصين قبل مائتي عام من بدء التاريخ المسيحي، وفي القرن السابع للمسيح تعلم الصينيون أن يضيفوا إلى نوع خاص من الصلصال أسمه (كاولين) نوعا آخر من الحجر الرملي أسمه السليكي فيستخرج من مزجهما مادة أدق. واسم (كاولين) مأخوذ من أسم جبل في الصين (كاو - لين) أي القمة العالية. وقد استخرجوا لأول مرة من ذلك الجبل ذلك الصلصال العجيب، وهو غير قابل للذوبان مهما اشتدت حرارة النار، والغاية منه كما جاء في التعبير الصيني (لصنع عظام الأواني) وأما السليكي فإنه يشبه الجرانيت أي أنه قابل للذوبان على درجة عالية من
الحرارة. ومتى ذاب تكون منه زجاج شفاف جداً.
وبالحذق في مزج هاتين المادتين أمكن صنع الأواني الصينية التي لا تزال تعرف بهذا الاسم إلى اليوم. وقد بقى سرها نحو ألف عام غير معروف في الغرب حتى تحراه المحققون في هذه الصناعة. وسنذكر الآن قصة الكيميائي الغضوب والشعر المستعار والمسحوق (البودرة)
وقبل أن نسرد هذه القصة الأخيرة عن الصيني نرى أن نعير نظرة إلى فن آخر يقرب من هذا الفن وهو صناعة الزجاج. وهي كما يرويها (بلايني) أحد الكتاب الرومانيين الذين عاشوا في القرن الأول بعد المسيح. وهذه القصة عن استكشاف استكشفه بحار
كانت سفينة تجارية رومانية تعبر البحر الأبيض المتوسط وعليها حمولة من النطرون وهو نوع من الصودا خاص بتلك المناطق. وكان الأقدمون يستعملونه في الاستحمام وغسل الأقمشة
وفي أثناء سير السفينة هبت ريح ضد اتجاهها فأقصتهم إلى شاطئ رماله بيضاء دقيقة عند مصب نهر في سوريا، فأوقد البحارة ناراً على الرمال لينضجوا طعامهم
ولما لم يجدوا صخوراً استعملوا قطعاً من النطرون لحمل الأواني فأدهشهم أن يروا سائلاً من الزجاج الذائب يجري في معسكرهم بين النار والماء. وكان هؤلاء البحارة قد عسكروا على مرتفع من الرمال كسته الرياح بمادة معدنية مما يستعمل في صنع الزجاج، فجعلت حرارة النار هذا المزيج من تلك المادة ومن النطرون يذوب. وكانت النتيجة مدهشة، ولنا أن نعتقد بحق أن الملاحين قد أخذوا إلى وطنهم بعض تلك الرمال مع ما كانت تحمله السفينة من البضائع
هذه قصة واحدة عن صنع الزجاج من بين قصص كثيرة يمكن أن تروى. وهي تريك أن طرق الانتفاع بالمواد في مكانين مختلفين من الأرض كان يستكشفها فريق من الناس وفريق منهم هناك، ولو أنهم كانوا على اتصال بعضهم ببعض كما هي حالة الشعوب اليوم، ولو أن أحدهم كان يأتمن الغير على سره لكانت المدنية أوسع انتشاراً ولبكزت عن موعدها بضع مئات السنين
ولكن لم تكن في تلك الأيام قد اخترعت آلة الطباعة فكان تناول المعرفة ليس بالأمر
السهل، وكانت الشعوب المتفرقة يفصل بعضها عن بعض محيطات لا تعبرها إلا السفن ذات الشراع، وكانت الصحارى والجبال لما تخترقها السكة الحديد، وكانت تلك الأيام أياماً تخاف فيها بعض الشعوب بعضها وكان من المحتمل حدوث استكشاف علمي عظيم في أحد البلدان وبقاؤه سراً مكتوماً عن البلدان الأخرى جميعاً
وكذلك كان الأمر في صنع الصيني
(يتبع)
ع. ا
من هنا ومن هناك
ألمانيا وإيطاليا عند مفترق الطريق
(عن مجلة (باريد))
قد يخطر على بال الكثيرين ممن يتتبعون الحركة الفاشية في أوربا، أن الشعب الإيطالي والشعب الألماني مرتبطان برباط وثيق العرى، في الميول والعواطف، وأن مظاهر الحياة العامة متفقة في الدولتين المتحدتين
والحقيقة أن الصلة بين جماعة النازي في ألمانيا، وجماعة الفاشستي في إيطاليا، صلة بين الحكومتين فحسب من حيث وجهة النظر الخارجية، أو ما يسمى محور برلين رومه
وقد كتبت لادي درا موندهاي في مجلة (كانديان هوم) مقالاً في هذا الموضوع قالت فيه إنها زارت البلدين في الأيام الأخيرة، وخبرت أحوالهما عن كثب، وتستطيع أن تقرر أن الشعب الإيطالي ليست له ميول خاصة نحو ألمانيا، وقد سمعت كثيراً من النقد اللاذع ضد ألمانيا على ألسنة بعض الإيطاليين الذين لم يرتاحوا إلى تقليد إيطاليا لها
وقد راعها ما رأته من الفرق الشاسع بين مظاهر الحياة في كل من البلدين الدكتاتوريين. فقد دب الفساد إلى كل شيء في ألمانيا، فالطعام لا يخلو من الغش، والنقص يعتور كافة السلع المعروضة في الأسواق. أما في إيطاليا فالأمر على خلاف ذلك، إذ تستطيع أن تجد فيها ما تريد بغير مشقة. وفي ألمانيا تنتشر الجاسوسية في كل مكان فلا تمشي خطوة أو تتكلم كلمة إلا وعليك رقيب يعد عليك كل خطوة ويحصي كل كلمة فلا يمكنك أن تعيش ساعة بعيداً عن الشكوك التي تحيطك من كل جانب. أما في إيطاليا فحرية الكلام مكفولة ومباحة بصفة نسبية. وقد تمر في بعض شوارع ألمانيا فلا تجد غير بريق الملابس الحربية ومناظر الجنود تملأ الرحب. ولكنك في إيطاليا لا تبرح ترى أسراب السيدات المتأنقات يدلفن إليك من كل فج، والأهالي ينصرفون إلى أعمالهم بغير رقيب أو حسيب
وتقول ليدي درا موندهاي: لقد وجدت الحالة في ألمانيا على وجه العموم ثقيلة لا تطاق، ولقد اعتدت زيارة ألمانيا منذ خمس عشرة سنة وكنت أزورها أكثر من مرة في العام الواحد، ولي فيها أصدقاء كثيرون، فإذا حكمت عليها الآن فإنني لا أحكم عن جهل. لقد غابت مظاهر الحياة عن الوجوه، وغربت الابتسامة التي كانت تشرق على أفواه بعض
العابرين في الطريق، ووصلت ملابس المرأة الألمانية إلى درجة بعيدة من البساطة، كما أن أدوات الزينة والطلاء قد أدركها العجز الشديد. وتقول ليدي درا موندهاي: إنها سمعت من الحلاق الذي تتردد عليه أن صناعة إصلاح الشعر وفن التجميل على وجه العموم قد أدركهما الفناء في ألمانيا. وقد أصبحت مظاهر الابتهاج في برلين أقل منها في المدن الصغيرة، إذ أن طرد اليهود والضغط على حرياتهم قد حرم هذه المدينة وغيرها من المدن الكبيرة مظاهر الأبهة والعظمة وعناصر التسلية المحبوبة، فمما لا شك فيه أن عنصر اليهود كان له أثر عظيم في حياة ألمانيا التجارية والاجتماعية والثقافية
أما في إيطاليا فإن القوانين التي شرعت لاضطهاد اليهود ليس لها أثر في الحياة العامة. وقد تجد كثيراً من الإيطاليين يتوددون إلى أصدقائهم اليهود ليثبتوا لهم الوفاء والإخلاص ولو كرهت الحكومة ما يفعلون.
الألمان يحشدون في مصانع الحكومة
(ملخصة عن (لاريفي هيدومادير))
لعل أهم مظاهر التغير في ألمانيا اليوم، هي تحويل عدد كبير من الأهالي، إلى مجرد عمال في مصانع الحكومة، ومما يستفاد من تقرير حديث عن لجنة العمال الألمانية، أن عدد المشتغلين بالمصنوعات اليدوية ممن تزيد سنهم على الستين، قد تزايد في الأيام الأخيرة؛ فأصبح 283000 بعد أن كان لا يزيد على 187000 في السنين الماضية وقد وجد بين هؤلاء العمال نحو ستين ألف عامل تزيد سنهم على السبعين، وتدل هذه الأرقام على أن الرجل في ألمانيا مطالب بأن يشتغل ويكدح، ولو تقدمت به السن وأنهكته السنون
وقد أخذت الحكومة في الأيام الأخيرة تستدرج أصحاب الحوانيت الصغيرة من العمال إلى مصانعها حيث تسخرهم في شتى الأعمال التي تطلبها حكومة النازي، وصدر مرسوم بإباحة إغلاق الحوانيت الصغيرة، إذا كان أصحابها قادرين على العمل في مصانع الحكومة، ويطبق هذا القانون على أصحاب الحوانيت الذين يعجزون عن دفع الضرائب
وقد تبين أن عدد المطاعم الصغيرة في ألمانيا قد نقص من 22800 سنة 1934 إلى 20000 في سنة 1938 وفي مايو سنة 1939 أعلنت الحكومة أنه من المحتمل إغلاق
عدد يتراوح من 8000 إلى 10000 من المتاجر والحوانيت الأخرى على التدريج
ومما لاحظه البنك الأهلي الألماني في أحد تقاريره المالية أن 670000 نفس حشدوا فعلاً للعمل بالمصانع
وجاء في تقرير للدكتور ك. هابفور، وهو من كبار موظفي الحكومة، أن المليوني عامل الذين تحتاجهم ألمانيا لمصانعها تستطيع أن تجمعهم بشتى الطرق، ولو أدى الأمر إلى حشد العجزة والمقعدين إلى المصانع، ووضعهم في الأعمال التي يليقون لها
ويقول هذا الموظف: لا حرج على الحكومة في إرسال الموظفين والسعاة والخدم إلى المصانع وإصدار قانون السخرة إذا احتاج الأمر
وتقول صحيفة ألمانية: إن النساء في مصانع الحكومة يشعرن بشيء من الرهبة والخوف وهن يشتغلن تحت الرقابة الشديدة فتضطرب أعمالهن في كثير من الأحيان، وإن كن يرغبن في أدائها على أكمل الوجوه
فما هو السبب الذي يؤدي إلى اضطراب المرأة هذا الاضطراب وهي مقبلة على عملها برغبة حقه؟ إن مظاهر الخوف التي تحيط بها تدعوها إلى ذلك الارتباك، فهي معرضة لأشد التهم وأنكى العقوبات على الدوام وإن كانت تبذل ما في وسعها للقيام بعملها خير قيام؛ وتلاقي السلطات الألمانية صعوبة لا يستهان بها مع العمال وإن كانوا من خيرة الرجال الأخصائيين، فهم يتعمدون الإبطاء في إنجاز أعمالهم التي تتطلب السرعة والإنجاز وقل أن يولوها العناية الكافية، إذ أنهم مساقون إلى العمل في تلك المصانع تحت حكم الإرهاب
الطعام والخرافة
(عن
لم يخل عصر من الخرافات العجيبة حول الطعام الذي يأكله الناس. فقد كانوا في القرون الوسطى مثلاً، يتوجسون من تعاطي الفاكهة الطازجة، وكان أكثر الناس في ذلك العهد يعتقدون أنها تسبب الحميات ومما يروى أن جالينوس كان يعتقد أن أباه لم يعمر طويلاً لأنه كان يتحامى تناول الفاكهة، ولعل هذا كان أول باعث على انتشار هذه الفكرة. ومما جعل هذا الرأي يزداد رسوخاً في أذهان الناس على مر الأجيال ازدياد عدد من يموتون بالزحار
والتيفوس في أشهر الصيف. وقد مضت قرون عديدة قبل أن يستطيع الناس أن يعرفوا أن هذه الأمراض تنتقل إلى الإنسان مع الماء الذي يشربه. وكانوا يحرمون على الطبقة الدنيا تناول الخضروات، فكان طعامهم مقصوراً على الكراث والبصل والجرجير والحمص ومنتجات الألبان. ومن ثم كان الأغنياء يترفعون عن تناول الزبد، ويعدونه من طعام الفقراء
وكانوا في تلك العصور يستقبلون الفاكهة الجديدة بتحفظ شديد، فلما ظهرت الطماطم في القرن التاسع عشر، كانوا يضعونها على المائدة لأجل الزينة فحسب، فلما بدأت تظهر في الأسواق العامة، وأخذ البعض يقبلون على شرائها، شاع بين الناس أنها تسبب مرض السرطان فكفوا عن أكلها، وما زالت هذه الفكرة المضحكة متسلطة على أذهان العامة والخاصة إلى عهد قريب
أما الخرافات حول الطعام في العصر الحديث، فأكثرها يدور حول الرشاقة، ومحاولة تخفيض الوزن. ومما لا شك فيه أن زيادة السمن تأتي من تناول كمية من الطعام تزيد على حاجة الجسم؛ فالرجل الذي يتعاطى مقداراً كبيراً من الطعام يزيد على المقدار الذي يستهلكه الجسم لابد أن يزيد وزنه. ولا شيء يمنع جسمه من التضخم، إلا التمرينات الرياضية التي تعادل هذه الزيادة في الطعام. ومن الجهل الفاضح ما يتحدثون به عن صلاحية بعض الأطعمة لإزالة السمن أو المساعدة على الرشاقة، فلا يوجد طعام قابل للهضم والتغذية يؤدي إلى تخفيف الوزن. وإن كان بعض الأطعمة أقل من البعض في التغذية
ومن العقائد الخاطئة التي أعتقدها الكثيرون، أن الخبز القديد أقل من الخبز المعتاد في زيادة السمن. وهذا مخالف للواقع كل المخالفة. إذ أن تقديد الخبز لا ينقص منه شيئاً غير الماء ويبقى الخبز كما هو.
البريد الأدبي
على هامش خطاب رئيس الوزراء
إدارة الدعاية في وزارة الشؤون الاجتماعية
جاء في الصحف أن إدارةً للدعاية أنشئت في وزارة الشؤون الاجتماعية، وأنها تشرف على الفرقة القومية والمسارح المختلفة، وعلى دور السينما وقاعات الغناء، وعلى برامج الإذاعة، وعلى قيام المهرجانات الشعبية، وأن مدير هذه الإدارة هو الأستاذ توفيق الحكيم.
هذه إدارة جديدة تنشأ، ومهمتها معينة، ومديرها معروف. أما مهمتها فصيانة الدولة مما يضّر بها، والأمة مما يفسدها. وأما مديرها فمن الشباب الذين عرفوا الاجتهاد والروّية، فنالوا قسطاً وافراً من الثقافة العامة بما شهدوا في إقامتهم بأوربة، وما علموا من طريق القراءة المفيدة. وعلى هذا، فإنشاء هذه الإدارة يوافق ما جاء في خطاب رئيس الوزراء من السعي في تقويم معوجّات الأمة، والاعتماد على أهل الدراية والخبرة ممن سلِموا من (الخدر والنعاس). . .
في رأيي أن إدارة الدعاية، يحق بها أن تُعنى بأمورٍ أربعة: الأول: تنشيط الهمم وبث الهزّة القومية في الأنفس. والثاني: تهذيب الشعب من باب التسلية. والثالث: بسط الرقابة الشديدة على أعمال إدارات المسارح والإذاعة وغيرها. والرابع: خدمة الفن الخالص. . .
أما الأمر الأول فيتطلب، أول ما يتطلب، مناوئة طرائق الغناء المستبد بآذاننا، فقد أجمع الكتاب أن التلاحين السيارة رخوة أي رخاوة حتى إنها تفتك بالعزم؛ فيتسرب الثقل في همة النفس والبطء في نهضة الأعضاء فضلاً عن انتشار الملالة، وبالشعب حاجة إلى ما ينعشه ويمضيه، فإنه أصبح مسئولاً عن حرمة الأرض التي يضرب فيها بعد أن كان على غيره متكلاً كل الاتكال. فلتضرب إدارة الدعاية على أنامل العازفين ولهوات المغنّين، وتأمر بالحماسيّات، وتخطو الطيّ والليّ والنواح، و (الشخلعة). وإذ اللحن مرتبط باللفظ الملحن فلتفتش الإدارة عن الناظم الذي لم يأكل نَفَسه وجد مصنوع أو فتور مقيم.
والهوْة القومية تبث في الأنفس من طريق المسرحيات، و (الأفلام) التاريخية خاصة، إذ تجري حوادثها في عهد السلطان الواسع والدولة المتمكنة، ومن طريق المحاضرات الموَّجهة، ثم من طريق المهرجانات، حيث تنتشر الأعلام وتعزف الأناشيد، ويصطف الجند
وتلقى الخطب الحماسية؛ وقد شهدت نوعاً من هذا في محافل نورمبرج النازية.
وأما تهذيب الشعب من باب التسلية فبتنظيم المحاضرات السهلة الجذابة، ومدارها مبادئ علم الصحة والأخلاقيات، والوطنية، وبتمثيل مسرحيات مؤدبة باللغة العامية على أن تكون غير مرذولة.
وأما بسط الرقابة الشديدة على أعمال إدارات المسارح والإذاعة وغيرها فالمقصد منه وضع الشيء موضعه: فلا يهضم حق مؤلف أو ممثل أو مغن، ولا يفضل هذا على ذاك بغير حق، ولا يُبعَد مخرج قدير لسبب لا يتصل بمجرى عمله، ولا ينفق مال استهواء للصحافة التي لا وزن لها، ولا تشترى مسرحية ثم لا تمثل، ولا يتسلط مغن أو عازف لأنه ذائع الصيت إذ من حق الكفايات كلها أن تعجم فتستثمر. . . هذا قليل من كثير.
بقيت خدمة الفن الخالص. فإذا قلتَ إن الفن الخالص خاص (أرستقراطي) فلا خير فيه للأمة، قلتُ إن في الأمة جماعة من أهل الثقافة اللطيفة فلابد لهم من غذاء، بل بالأمة حاجة أن يقال إن فيها من الكتاب من هو منجذب إلى الإنشاء الرفيع ومن الموسيقيين من يكره الأنغام المطروقة والحيل الموروثة الموقوفة، ومن الراقصين أو الراقصات من يأنف هز الكتف ورفع البطن وخفض الردف، فإنما صيت الأمم يعلو ويستطير بفضل أهل الفن الخالص السامي، على وجه العموم؛ وهل يضر مصر أن يعلو صيتها؟
هذا ويلحق بالفن التصوير والنحت فلِمَ أسقطتهما إدارة الدعاية من الخطة التي رسمتها؟ وفي مصر فئة من المصورين والنحاتين لهم أن يظفروا بالتقدير والرعاية، فهذه معارضهم لا يلتفت الناس إليها كثيراً، وعلى مثل الصديق توفيق الحكيم أن يرشد الناس إلى قدر الصور والتماثيل.
وفي مأمولي أن يفلت هذا الفن الخالص (وكذلك العلم الصِّرف) من القيود المختلفة وينجو من سطوة الأوضاع التقليدية أو المذاهب السياسية حتى لا يهزل هزلته على يد ألمانية الهتلرية حيث النازية حكمت على كثير من ألوان الفنون المستحدثة بأنها شر وفساد.
(الإسكندرية)
بشر فارس
حول رواية محمد علي الكبير
عزيزي الأستاذ الزيات
قرأت في العدد الأخير من (الرسالة) كلمة بإمضاء الأستاذ يوسف تادرس خاصة برواية (محمد علي الكبير) يرد بها على ناقد الرسالة الفني.
وليس يعنيني من هذه المناقشة إلا أمر واحد، وهو أن الأستاذ يوسف تادرس يتحدث عن الرواية كأنها من وضعه وهو يقول عن نفسه:
(وحاشا أن أصور محمد علي باشا في صورة السفاح الخ. . .) ثم قال:
(وأني أعقل من أن أصور منشئ مصر الحديثة في هذه الصورة) الخ. . .
والذي يفهم من هذا أن الأستاذ له يد في تصوير أشخاص الرواية.
وتقريراً للحقيقة، واحتفاظاً بحقي الأدبي في هذه الرواية لمجرد الذكرى أرجو أن تعلنوا أن حضرة الأستاذ يوسف تادرس ليس له من هذه الرواية إلا أنه أشترك في وضعها في القالب التمثيلي على أساس الرواية التمثيلية التي سبق لي أن اقتبستها بنفسي من روايتي (ابنة المملوك)، ولست أسخو بأن ينسب ما فيها من تصوير لشخص آخر، سواء أكان ذلك التصوير حسناً أم سيئاً.
وأما من حيث المكافأة المالية، فإني أرجو أن تعلنوا أنني لم أنل منها شيئاً. فلعل هذا يعدل رأي حضرة (ناقد الرسالة الفني) الذي يظهر أنه هنأنا بالاستيلاء على هذه المكافأة. وإذا كان الأستاذ يوسف أفندي تادرس قد حصل على تلك المكافأة، فليس لي علم بذلك. . .
ولعل في ذلك الأمر موضعاً للتأمل في تصرف الأدباء في مصر.
ولك تحياتي الخالصة
محمد فريد أبو حديد
بين الدكتورين بشر وأدهم
أقحم اسمي في الجدل القائم بين الصديقين الدكتورين بشر فارس وإسماعيل أدهم، وهو جدل طال عهده بين أخذ ورد، وهجوم ودفاع، وتشعبت بواعثه ونتائجه. وكانت مناوشته الأخيرة أن كتب بشر فارس أن أدهم أقتبس منه بعض نقده لكتاب (فرعون الصغير)
للأستاذ محمود تيمور بك
وقد رد إسماعيل أدهم أنه كتب مقاله وأرسله إلى (الرسالة) بعد منتصف شهر يونيو أي قبل أن يظهر نقد بشر فارس في (مقتطف) أول يولية، وأنه أطلعني على هذا النقد في حينه، وأن صاحب (الرسالة) أخر نشره
والحق أني أذكر أن إسماعيل أدهم تلا علي وقتئذ مقاله في كتاب (فرعون الصغير) وقال لي: إنه سيرسله في الغد إلى (الرسالة) ولكني لا أذكر اليوم شيئاً من هذا الرد وهل كان يتضمن ما يقول إسماعيل أدهم أنه لم يقتبسه من بشر فارس أو لا
ولعل القول الفصل في هذا الخلاف عند صاحب (الرسالة) فإن الأستاذ الكبير لا بد ذاكر متى وصلته مقالة إسماعيل أدهم وكيف تأخر نشرها
وبعد فإني لم أكتب كلمتي هذه لأنتصر لهذا أو لذاك من المتناظرين، فلكل واحد منهما عندي الصداقة التي يعرفها، ولكني أقصد إلى أن هذا الجدل قد طال أمره وتشعبت نواحيه وتعددت أساليب الهجوم فيه حتى لم يبق فيها زيادة لمستزيد، وحتى وقف جمهرة القراء على آراء الفريقين ومراميهما، ولعل الأستاذ الجليل صاحب (الرسالة) لا يعدم أسلوباً من أساليبه اللبقة لإقفال بابه بعد أن يحفظ لكل من المتناظرين حقه في إجمال آرائه في أسطر معدودة، وللجمهور بعد ذلك أن يحكم لهذا أو ذاك أو لكليهما معاً
وأنا واثق أني حين أعرض هذا الاقتراح أعبر عن رأي أصدقاء الأديبين الفاضلين الدكتورين بشر فارس وإسماعيل أدهم والمعجبين بأبحاثهما القيمة وهم كثيرون
(الإسكندرية)
صديق شيبوب
و (الرسالة) تقول لصديقها شيبوب إنها كانت شديدة الإعجاب بموقف الأستاذ أمين عثمان من الخصمين العظيمين أحمد ماهر ومكرم عبيد
حكومة قاسية؟!
نعم، ثم نعم، حكومة قاسية، قاسية، قاسية. . .
ولكن من الذي يقول بذلك؟ إليكم البيان:
لما أعلنت الحرب، تسابق التجار في مصر إلى رفع الأسعار، أسعار الأشياء المعاشية. . . فلم يؤذني ذلك، لأني قضيت دهري في الحدود التي صرح بها الشاعر إذ يقول:
لستُ أرتاع لخطبٍ نازلٍ
…
إنما الخوف لقلبٍ مطمئنّ
فأنا أحتقر الضرورات المادية للعيش، وأكتفي بالقليل حين لا أجد غير القليل، وأتأسَّى بالتعبير الذي كنت أعتصم به يوم كانت تكرثني الفاقة في باريس، التعبير الذي يقول: '
فقد وطنتُ نفسي على الأزمة التي تقضي بها جوائح الحرب، وقلت: لعل في ذلك خيراً وأنا لا عرف!
ولكن هناك أشياء لا أستغني عنها أبداً، وهذه الأشياء هي ورق الطباعة الذي يحتاج إليه المؤلفون في كل وقت. وقد صرت مؤلفاً من حيث لا أحتسب، وتلطف القراء فأوهموني أن لي في أنفسهم منزلة توجب أن أحسب لرضاهم ألف حساب!
وهل كنت أول مؤلف خدعه القراء؟
أليس في مصر نحو عشرين أو ثلاثين مؤلفاً ينفقون أرزاقهم وأرزاق أطفالهم فيما يشترون من الورق وما يقدمون إلى المطابع؟
أليس في مصر عدة مجلات أدبية يتنازل أصحابها عن أقواتهم ليفوا بالعهد للقراء؟. . .
قامت الحرب، ولي في المطابع ثلاثة مؤلفات، منها كتاب نفذت طبعته منذ أشهر طوال، وهو يطلب كل يوم. . . ولهذا الكتاب منزلة في قلبي، لأنه من محصول دار المعلمين العالية في بغداد، هو كتاب (عبقرية الشريف الرضي)، الذي أعلن عن طبعته الثانية بالمجان في مجلة (الرسالة) لأن صاحبها مؤلف وصحفي، وهو يعاني من عُنف تجار الورق أضعاف ما أعاِني. . .
وأعترف بالحق فأقول: شرعتُ في طبع تلك الكتب مطلعَ الصيف، ثم ضاق جيبي عما أريد، فاعتللتُ لأصحاب المطابع بأني أحب أن أقضي الصيف في شغل ألطف من الطبع والتصحيح: وهو مشاهدة اللؤلؤ المنثور فوق شواطئ الإسكندرية وشواطئ بور سعيد وشواطئ دمياط
وهل يكثُر على رجل في مثل حالي أن يعطّل مؤلفاته ليمتع عينيه بمشاهد الملاح؟ ولكن لا بدَّ مما ليس منه بدّ
الحرب أُعلنتْ، ويجب أن أفرغ من طبع تلك المؤلفات قبل أن يصير الورق من الممنوعات
الورق! الورق!
تلفتُّ فرأيت التجار زادوه إلى أضعاف وأضعاف، فرضيت بالخسارة العاجلة فيما شرعت في طبعه من تلك المؤلفات، وانتظرت حتى تنتهي الحرب. ولكن الحكومة - الحكومة الحازمة التي يرأسها الرجل الحازم علي ماهر باشا - سارعت ففرضت تسعيرة لأكثر الأشياء، ومنها الورق
وعندئذ أسرعت لابتياع ما أحتاج إليه لإنجاز تلك المؤلفات فماذا رأيت؟ رأيت التجار جميعاً خضعوا لحكم التسعيرة إلا تجار الورق
فهل يعرف القراء ما الذي قرأت في عيون تجار الورق؟
رأيت في عيونهم كلمة مرقومة بأحرف من الظلمات. رأيتهم جميعاً يقولون: هذه حكومة قاسية لأنها صدَّتنا عن إرهاق من يشتغلون بالصحافة والتأليف!
وأنا أشهد علانية بأن الرئيس علي ماهر باشا رجل قاس لأنه صدَّ عنا عادية المجرمين من تجار الورق وكفّهم عن الجشع البغيض
فيا أيها الرجل العظيم الذي اسمه علي ماهر، تذكَّر ثم تذكَّر، تذكَّر أنك أنقذتنا من ظلم تجار الورق، وتذكّر أنهم سيرجعون إلى غيّهم بعد قليل إن أمنوا سطوة الحزم والعدل
وستكون أول من أهدِي إليه تلك المؤلفات التي انتزعتُ ورقها من تجار الورق بفضل حزمك ورجولتك، وعند الشدائد تظهر عزائم الرجال
زكي مبارك
حثر اللسان
قرأت في (الرسالة الغراء) سؤال السيد الفاضل (ع. م. ح) وقد وجدت في اللسان والتاج هذا: (لسان حَثِر لا يجد طعم الطعام) وجاء في نجعة الرائد: (يقال رجل حثر اللسان كما يقال حثر الأذن أي لا يجد طعم الطعام) وفي (الإفصاح): (لسان حَبْر - لا يجد طعم الطعام) وابن سيدة لم يذكر في المخصص في فصل أدواء اللسان لا الحثر ولا الحبر. وقد
أضاف الأستاذان مؤلفا الإفصاح إلى المجموع من المخصص أشياء من غيره (مما تمس إليه الحاجة) فإن أرادا ذكرا متفضلين مظنة اللفظة التي نقلا عنها لأجل تحقيقها
(طنطا)
أزهري
كتاب (التعليم والمتعطلون في مصر) شكر وتقدير
أهدى الأستاذ المربي عبد الحميد فهمي كتابه النفيس (التعليم والمتعطلون في مصر) إلى حضرة صاحب المقام الرفيع علي باشا ماهر فتفضل رفعته بإرسال هذا الكتاب إليه:
حضرة الأستاذ الفاضل عبد الحميد فهمي مطر
تلقيت ممتناً مؤلفكم القيم (التعليم والمتعطلون في مصر) وإني ليسرني أن أبعث إليكم بعظيم الشكر على جميل هذا الإهداء، مقدراً أحسن التقدير ما أبديتم من عناية بهذا الموضوع الدقيق، وما بذلتم من جهد في تقديم هذه الدراسة النافعة
ولكم مع أزكى التحيات أطيب التمنيات
(علي ماهر)
معهد اللغات الشرقية في كلية الآداب
نشرت الوقائع المصرية مرسوماً بقانون هذا نصه بعد الديباجة:
مادة (1) ينشأ في كلية الآداب معهد يسمى (معهد اللغات الشرقية وآدابها) يكون الغرض منه التخصص في اللغات السامية ولغات الأمم الإسلامية واللهجات العربية القديمة والحديثة.
مادة (2) يشمل المعهد الفروع الثلاثة الآتية:
1 -
فرع اللغات السامية.
2 -
فرع لغات الأمم الإسلامية.
3 -
فرع اللهجات العربية.
مادة (3) يدرس في فرع اللغات السامية المواد الآتية:
الأكادي، الكنعاني، الآرامي، السامي الجنوبي، علم اللغات، النحو المقارن. . .
ويدرس في فرع لغات الأمم الإسلامية اللغات الآتية:
الإيرانية والتركية والأردية (الهندستانية). . . وما يضاف إليها من اللغات الشرقية القديمة والحية غير السامية. . .
ويدرس في فرع اللهجات العربية:
اللهجات العربية القديمة والحديثة في مختلف الأقطار والأقاليم
واشتمل المرسوم بعد ذلك على شروط القبول ورسم القيد وأمور أخرى خاصة بهذا المعهد.
جائزة طلعت حرب باشا السنوية
لما عاد سعادة طلعت حرب باشا من أوربا في السنة الماضية معافى رأى بعض إخوانه من مديري البنك وشركاته أن يظهروا سرورهم بشفائه وأن يغتنموا هذه الفرصة لتقديرهم لما قام به من خلق مصر الاقتصادية الصناعية، فاكتتب كل منهم بعشرين جنيهاً مصرياً، وقرروا أن يشترى بالمبلغ مائة سهم من أسهم بنك مصر يخصص ربحها سنوياً لجائزتين: إحداهما للمتفوق في التعليم التجاري، والثانية للمتفوق في التعليم الصناعي. وأنابوا عنهم في هذا حضرة صاحب السعادة توفيق دوس باشا. وقد أرسل سعادته منذ يومين إلى صاحب المعالي وزير المعارف العمومية الخطاب الآتي:
حضرة صاحب المعالي وزير المعارف العمومية
أتشرف أن أخبر معاليكم أنه بمناسبة إبلال حضرة صاحب السعادة طلعت حرب باشا السنة الماضية من المرض الخطير الذي كان قد ألم به إذ ذاك اجتمع بعض إخوانه من مديري البنك والشركات المتصلة به واكتتبوا فيما بينهم بمبلغ اشتروا به مائة سهم من أسهم بنك مصر وخصصوا ريعها ليصرف جائزتين سنويتين: إحداهما للمتفوق في التعليم التجاري والثانية للمتفوق في التعليم الصناعي ويطلق عليها جائزة محمد طلعت حرب باشا
وبناء على هذا قد أودعت في بنك مصر المائة سهم المذكورة تحت تصرف معاليكم ليصرف كوبونها لوزارة المعارف سنوياً.
حول مقال
سيدي الأستاذ الزيات
أشكركم كثيراً لنشركم مقال (ابن حوقل) في العدد 323 من الرسالة. وقد وقفت بعد إرسال المقال المذكور إليكم على كتاب (المكتبة العربية الصقلية)، الذي اعتنى بجمعه ونشره المستشرق الإيطالي أماري في ليبسك سنة 1875 بعنوان: - فوجدته قد نشر في الصفحة (4 - 11) من هذه المجموعة جانباً من كتاب (المسالك والممالك) لأبن حوقل يتناول وصف جزيرة صقلية
إن ما نُشِر في هذه المجموعة الصقليَّة يعتبر إحدى الطبعات الجزئية التي سردناها في مقالنا السابق لكتاب المسالك والممالك
(بغداد)
ميخائيل عواد
إلى رجال الأدب والتاريخ
في العدد 322 من الرسالة الزهراء وفي مقال نصير العروبة الدكتور زكي مبارك (جناية أمين على الأدب العربي) ورد ذكر الشيخ محمد صائم الدهر الذي طاف بمصر من الشمال إلى الجنوب ليحطم ما ترك المصريون القدماء من الأصنام والأوثان وجدع أنف أبي الهول الخ
وقد أثار هذا الاسم حواراً طريفاً وحديثاً تشعب وتفرع عند طائفة من الأدباء، هنا فهل لرجال الأدب والتاريخ من يذكر طرفاً موجزاً عن تاريخ هذا الشيخ وعصره فإن في ذلك الإيضاح فائدة وعملاً مشكوراً!
أم درمان (السودان)
حسن حامد البدوي
حول نقد كتاب
سيدي الأستاذ الجليل الزيات
قرأت في عددين مضيا من (الرسالة) الغراء، كلمة للأديب البغدادي خليل أحمد جلو ينقد بها كتاب (بعث الشعر الجاهلي) للدكتور مهدي البصير. وقد أهدى إلى أحد أصدقائي ببغداد نسخة من هذا الكتاب في أواسط يونية الماضي، وكتب إلي يقول: إن مؤلفه يسره أن أكتب عنه ما يعن لي من نقد وملاحظات، فكتبت عنه كلمة طويلة ضمنتها ما أخذته على الكتاب ثم بعثت بنسخة منها - أواخر يوليه الماضي - إلى مجلة (التفيض) البغدادية. ومن غريب المصادفات أن أجد مقالة الأديب جلو مشابهة لمقالتي في موضوعها وجوهرها، لا في أسلوبها ومظهرها
وتشاء الظروف أن تنقطع مجلة (التفيض) عن الظهور عقيب وصول المقال إليها؛ لأنها كانت تصدر نصف شهرية وأراد القائمون على أمرها أن تصدر أسبوعية من أول شهر (أيلول). وللآن لم يصلني العدد الأسبوعي الأول من (التفيض) حتى أعرف إن كان مقالي المذكور قد نشر أم لا. وخشية من أن يتهمني الأديب (جلو) أو سواه بأنني بنيت مقالي على مقاله أو حرفته ونسبته لنفسي، أسارع بنشر هذه الكلمة والوقت لا يزال فسيحاً؛ وسندي في ذلك كتاب بعث به إلي الأستاذ سليم التكريتي محرر (التفيض) يطلب مني أن أكون محرراً دائماً بها، ويخبرني بوصول مقالي عن كتاب البصير إليه. وهذا الكتاب بتاريخ 6 أغسطس سنة 1939م
ولعل صفحات (الرسالة) الغراء لا تضيق عن هذه الكلمة القصيرة، ولكم شكر وتحيات وسلام
(البجلات)
أحمد جمعه الشرباصي
رسالة النقد
نظرات في كتاب
(بعث الشعر الجاهلي)
تأليف الدكتور مهدي البصير
بقلم الأديب خليل أحمد جلو
- 3 -
لقد عقدت النية ووطدت العزم على محاسبة الدكتور مهدي البصير حساباً عسيراً بلا ترفق ولا استبقاء. ولكن الأستاذ الزيات شفيق رفيق فأشار إليّ إشارة خفية بأن يكون حسابي يسيراً ليناً. وسأفعل إن شاء الله
ولا يحسب القارئ أني سأحيد عن الحق والحقيقة أو ستأخذني فيهما رأفة أو هوادة. ولكني سأبذل قصارى جهدي وأحرص كل الحرص على أن يكون النقد شريفاً صادقاً كما تعودت وألفت وأبتعد عن غواية الأهواء وضلالة العواطف على قدر ما تسمح نفس إنسان شريف
لقد أجمع أصحابي على أن النقد الذي حدثتكم به من قبل نزيه معقول، ولكنه عبء ثقيل على الدكتور البصير لا يحتمله كاهله فكان علي أن أتجنبه وأسمح له أن يحيا حياة هادئة مطمئنة لا يعكرها نقد ولا تنغْصها مؤاخذة، وكان علي أن أزهق الحق وأظهر الباطل في سبيل ما يحب ويشتهي، وليس ذلك علي بعزيز ولا عليه بكثير وهو أستاذ في الدار التي تخرجت فيها
لقد أخطأ هؤلاء الأصحاب وشطوا عن الصواب. ولو علموا أن نقد التلميذ لأستاذه بر واعتراف بالجميل لما جازفوا في قولهم.
والدكتور مهما بلغت به سورة الغضب وشدة الحنق سيضطر عاجلاً أو آجلاً أن يعترف بفضل هذا النقد ووجاهته
أما بعد فإن للمؤلف ذوقاً خاصَّاً في تقدير قيمة الأشعار حرم السلامة والجمال. وأحسن ما يتجلى وذلك في تذوقه البيتين الأولين من معلقة امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
…
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها
…
لما نسجتها من جنوب وشمأل
فقد ملكت روعتها مشاعره واحساساته. وشهد لهما (بالضبط الذي لا يفطن إليه سوى كبار الشعراء)(ص25)
قولوا ما شئتم في قيمة هذين البيتين الأدبية، أما أنا فلا أعتقد أن لهما جمالاً يخلب اللب ولا سحراً يأخذ بالقلوب، ولا ضبطاً يجدر بصغار الشعراء أن ينتبهوا له بله كبارهم وأي روعة أدبية فيهما وهما يرسمان خارطة لمنزل حبيبة الشاعر؟ وهل من الأدب في شيء قولي: إن شارع أبي نواس يقع في نهاية (الباب الشرقي)، ويمتد على ضفة دجلة اليمنى، تكتنفه المقاهي والمتنزهات؟. كلا، إن هذا الضرب من الكلام أقرب إلى كلام العوام فلا يهم الأدب شيئاً. إنما يهمه ما في الشارع من قدود هيف، وعيون دعج، ومنظر للنهر وللفضاء ساحر أخاذ حين تجنح الشمس للغروب ويتحرك النسيم العليل
وهل فطن الدكتور للأخطاء التي ارتكبها الشاعر في تركيب هذين البيتين فأثرت على معناهما وقللت من قيمتهما؟
رحم الله الباقلاني فقد قال: إن امرأ القيس في مطلع قصيدته المعلقة كأنه دلال يبيع داراً ينادي إن الدار المرقمة كذا، والتي يحدها من الشمال كذا وكذا معروضة للبيع
وغفر الله للأستاذ إبراهيم شوكت قوله: إن امرأ القيس واضع أساس علم الجغرافية عند العرب، فهو يعرف الشمال والجنوب ويحسن التحديد
وبارك الله في الدكتور زكي مبارك فإنه يستخف هذا النوع من الكلام ويأبى حشره مع الأدب ونسبته له
وأحدثكم بعد هذا عن ادعاء للدكتور مضطرب مختلط إذ يقول (ص11): (إن شعر امرئ القيس لا ينفي شيئاً ولا يثبت شيئاً. . . وإن مؤرخي العرب لم يستدلوا بشعره يوماً ما على شيء) من حياة الشاعر أو تاريخه. وفي هذا القول من الخطأ والزلل ما يثير الدهش والاستغراب. إذ يُستخلص منه أن قصائد الشاعر لا تمثل شيئاً ولا تدل على شيء، فهي إما لغو وإسفاف لا يمكن أن يستنبط منها صورة حياة الشاعر، وإما انتحال واختلاق حملت عليه حملاً؛ وإن ما نسب له من شعر موضوع مفتعل من قبل أناس لم يحسنوا التقليد ولم
يمرنوا على الإيهام، وإن (قفا نبك) التي لا يشك المؤلف (ص13):(في أنها جاهلية بحتة ولا في أنها من شعر امرئ القيس ذاته) ليست له
تلاحظ هنا ارتباك المؤلف وخبطه ومناقضته لنفسه، فبينما يقرر حقيقة وجود امرئ القيس إذا هو ينفيه من حيث لا يشعر، وبينما يعترف بأن شعره المنسوب إليه لم ينظمه سواه إذا به ينكره غافلاً
والذي ساقه إلى هذا التورط المحاولة التي يدحض بها استخلاص الدكتور طه حسين من قصائد الشاعر ما يستدل به على إنكار تاريخه
ويزعم بهذه المحاولة أن ما أُثر عن امرئ القيس في شعر لا يصح الاعتماد عليه لمعرفة حياته، وأنه يجب أن نرجع إلى المصادر التي يروي عنها مؤرخو العرب ونستقي منها ما يمكن أن يقال عن الشاعر
لقد بينت سابقاً أن الدكتور البصير يثق كل الثقة بما يرويه المؤرخون ويتناقله القدماء بلا جدال ولا مناقشة. فهنا يسوق برهاناً آخر على حسن ظنه وعظيم تمسكه بهم، حتى إنه لينكر على الناس أن يركنوا في استطلاعهم على تاريخ امرئ القيس إلى شعره ويفرض عليهم أن يلتفتوا إلى ما قاله القدماء بلا شك ولا ارتياب
أنصح لك يا دكتور مرة أخرى ألا تثق في أقوال القدماء كل الثقة، وأن تستمع للقائل الأصيل فهو أصدق وأحق أن يرجع إليه، وألا تتهم مؤرخي العرب بأنهم لم يستدلوا يوماً ما على شيء من حياة الشاعر أو تاريخه، فليس من المنتظر أن يصدر منك هذا القول الجزاف
هل تنكر أن الشعر بصورة عامة يمثل حياة صاحبه وأنه مرآة عاداته وأخلاقه وتقاليده وميوله
إن الأستاذ العقاد استطاع أن يعطي صورة صادقة عن ابن الرومي رسمها في شعره، وإن الأدباء اليوم لا يكتبون عن شاعر أو كاتب حتى يشبعوا شعره أو أدبه دراسة وتمحيصاً
الله أكبر. إن شعر امرئ القيس لا يمكن الاعتماد عليه ولا يدل على شيء من تاريخ صاحبه وهو الذي يحدثنا أن (قفا نبك) لا تمثل سوى حياة قائلها
ولا أدري كيف جوز لنفسه أن يقول إن المؤرخين لم يستدلوا من شعره على حياته! ألا
والله لو سألت أقل الناس ثقافة أن يشرح لك هذين البيتين:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه
…
وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عينك إنما
…
نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا
لاستدل لك بهما على حياة عريضة لامرئ القيس ولأنبأك بقتل أبيه واغتصاب ملكه وفزعه إلى قيصر بيزنطة واستنجاده به على أعدائه، ولأفادك بأن الشاعر قال هذين البيتين وهو في الطريق حين هلع صاحبه وجزع
(يتبع)
خليل أحمد جلو