الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 328
- بتاريخ: 16 - 10 - 1939
من مشكلات الأسرة الحديثة
بين الدين والحب
لقيته بعد تسع سنين على (تريانون) رائق الشباب رائع الصورة لطيف
الشارة كما عهدته. وكان هذا اللقاء الجميل مفاجأة سارة من مفاجآت
الغيب بان أثرها عليّ وعليه فلم ندرك كيف نسلم ولا ماذا نقول
هذا الشاب الطرير من أسرة لبنانية مسلمة، تلمذ لي حيناً من الدهر في أحد المعاهد الكبرى بالقاهرة، واتصل بيني وبينه الود بعد أن تخرج فيه، ثم رحل إلى العراق يزاول التعليم به، وانحصر وجوده بين بغداد وبيروت فلم أعد أراه. فلما رأيته بالإسكندرية في هذه الساعة على هذه الحالة مثل أمام عيني جزء مشرق من الماضي القريب كاد يغرقه في لجة النسيان حدثان الزمن
- متى قدمت مصر يا عبد الحميد وكيف أخفيت عني هذا القدوم؟
- قدمتها منذ ثلاثة أسابيع. وقد علمت أنك هنا فبحثت عنك في كل مقهى وفي كل شاطئ فلم أجدك. ومنذ يومين لم يعد لي في الإسكندرية عمل ولا أمل إلا أن ألقاك؛ فإني فوق أن أراك أريد أن أسألك أن عن أمر شغل بالي وشق علي
- خير أن شاء الله؟
فقال الصديق الشاب وهو يحاول أن يكظم شيئاً في نفسه بدت إماراته في نظرته القلقة وصوته المأخوذ ولهجته المترددة:
- أريد أن تدلني على كتاب في الإنجليزية يبين رزح الإسلام وحقيقة مبادئه وأصول أحكامه بطريقة يقبلها الرجل العصري المثقف
- هل وقعت - معاذ الله - في أزمة من أزمات الشك؟
- كلا وأحمد الله على قوة الإيمان وثبات العقيدة. إنما يتعلق الأمر بإنسان أحب إلى من نفسي، فتنته عن دينه فتون التعليم الأجنبي وفسوق البيئة. ولقد وقع في يدي اليوم كتاب في العربية عنوانه:(لماذا أنا مسلم) فراقني أسلوبه وأرضاني منهجه، ولكن صاحبي على مصريته لا يعرف العربية ولا يثق بما كتب فيها
- ألا تستطيع أن تقدمه إلي فأعينك على إقناعه وإرجاعه؟ فارتبك الفتى وكسر من طرفه. ثم ما لبث أن خفض جأشه وأرسل نفسه وترك تحفظه وقال:
- ما لي أخفي الأمر عنك وقد كنت لي في مشكلات الشباب والعيش المشير الصادق والناصح المخلص؟ إن الأمر يتصل بفتاة مصرية هويتها منذ سبع سنين، أبوها طبيب من الأطباء الموظفين النابهين تعرفه كما أعرفه، وأمها إنجليزية دخلت في الإسلام لئلا تحرم الإرث كما يقال، والفتاة بارعة الجمال رضية الأخلاق رقيقة القلب عفيفة الدخلة، تلقت دروسها الابتدائية في مدرسة أمريكية بالقاهرة، والثانوية في مدرسة إنجليزية بلندن، فهي في ثقافة الجسم والعقل والروح مثال المرأة الحديثة الصالحة. لقيت أسرتها أول مرة في إحدى مدن لبنان فألف بيننا تجاوب الشعور وتقارب للثقافة، وتمكنت الألفة بيني وبين الفتاة بحكم الطبيعة والسن، وتأثير اللهو والرياضة، فما كنا نفترق في اليوم والليل إلا ساعات النوم القليلة. وكان أبواها يساعدان هذا الهوى الوليد بإطلاق الحرية وإرصاد الفرص واعتقاد الثقة، فلم نعد إلى القاهرة معاً حتى كان هذا الحب عاتيا جباراً يذهب بقلبي وقلبها كل مذهب.
ثم دأبت على زيارتها في بيتها كل يوم في النهار أو في الليل فنقضي أوقات الفراغ في القراءة أو في النزهة أو في التنس أو في السينما! وفي كل لحظة تمر أو لفظة تقال يكشف كلانا في الآخر دليلاً جديداً على أنه عروس أحلامه وموعود غده
كانت تسافر أوائل الخريف إلى لندن فيكون بيننا بريد دائم بالفكر المستمر والطيف المثابر والكتابة المتصلة. فلا ندع فكرة يبعثها الخيال أو الشوق، ولا كلمة يوحيها العقل أو القلب، إلا تبادلناها بالتفكر أو التذكر أو الحنين أو الكتابة في النوم أو في اليقظة. ثم تعود أواخر الربيع إلى القاهرة فيعود أنسنا باللقاء، وسرورنا بالحديث، ومرحنا بالرياضة، فلا نترك متنزهاً ولا ملهى في العاصمة والضاحية إلا أشهدناه على آية من آيات الحب، أو ساعة من ساعات السعادة
ثم رحلت إلى بغداد فنشأت في نفسي رغبة شديدة في بناء بيت وتكوين أسرة، فخطبتها إلى أبويها في شتاء هذا العام واستقر رأينا على إعلان الخطبة في الصيف متى عدت من بغداد وعادت هي من لندن
جاء الصيف يا سيدي فعدت وعادت، ونزلت على عطف أبويها في مصيفهما بالرمل نزول الابن الموموق على حنان أبويه بعد غيبة طويلة. ولكني رأيت الوجوه غير الوجوه! فلا البشر باد في عين الأم كما شهدت، ولا السرور جار على ثغر الفتاة كما عهدت. فلما سألت السيدة عن سر هذا السهوم قالت لي أدخل على ميمي الغرفة فلعلك تجد عندها الجواب
دخلت على ميمي فوجدتها جاثية بجانب السرير تضرع وتبكي. فلم أتمالك أن جثوت بجانبها مغرورق العين مستطار الفؤاد، وأخذت أنفس من كربها وأسالها عما بها، فقالت وهي تنشج بالبكاء:
- مستحيل! مستحيل! لقد أحببتك حتى لم يعد لي هوى إلا إليك ولا فكر إلا فيك؛ ولكنني لا أستطيع الزواج منك لأني مسيحية متعصبة وأنت مسلم محافظ. ولا سبيل إلى أن نتزوج كما تزوج أبي وأمي، فإني وأنت صريحان، وأنا أحتقر دينك بقدر ما أحترمك، وأبغض نبيك بقدر ما أحبك
- ومتى دنت بالنصرانية يا ميمي وأنا وأبواك لا نعرفك إلا مسلمة؟
- دنت بها منذ رحلت إلى لندن، وجعلت الأمر بيني وبين الله حتى أخبرتني أمي بخطبتك فلم أجد بداً من إعلانه
- وهل درست الإسلام يا ميمي قبل أن ترتدي عنه؟
- درسته على الراهبات في مصر وفي إنجلترا وعلمت عنه ما أشفق على وجدانك من سماعه
- لقد درسته على خصومه ومنكريه، فكيف يسوغ في عقلك أن يكون كلام الخصم على الخصم حجة؟
- وعلى من كنت تريد أن أدرسه؟ أعلى أبي وما سمعته مرة يذكر الله، ولا رأيته يوماً يدخل المسجد؟ أم على أمي وقد كانت مسيحية لا تؤمن فأصبحت مسلمة لا تعتقد؟ وهل كان في مقدوري أن أغالب الفطرة وفي نفسي إلى الله شوق نازع لا أملك الصبر عليه متى رأيت السبيل إليه؟
- أنا كفيل بأن أعلمك ما تجهلين من حقيقة الإسلام، فإن أقنعتك تزوجتك، وإلا رجع الأمر بيني وبينك إلى الصداقة، فإنك لا تتزوجينني مسلماً ولا أتزوجك مسيحية
وأخذت منذ ذلك اليوم أشرح لها مبادئ الإسلام على قدر ما يستطيع مسلم تخرج في الجامعة الأمريكية؛ فكانت تصغي لما أقول وتعجب به. ولكنها كانت تتهمني بتلفيق ذلك مما أعلم من فضائل الأديان وأصول الأخلاق ثم أنسبه زوراً إلى الإسلام. فاتفقنا على أن أقدم إليها كتاباً عن الدين الإسلامي في الإنجليزية، وأن نؤجل البت في أمر الخطبة إلى مثل هذا الشهر من قابل. فهل تستطيع يا أستاذي أن تدلني على كتاب في هذا الموضوع يجعل زواجي منها حقاً لا ريب فيه؟ فقلت له والأسى يكاد يعقل لساني: إن كتاب روح الإسلام للأستاذ الهندي مير علي هو طلبتك. فلعلك تصيبه في مكاتب الإسكندرية. وعسى أن نعيش يا قارئي العزيز حتى أكتب لك الفصل الأخير من هذه الرواية!
أحمد حسن الزيات
بين الوحدة الإسلامية والوحدة العربية
للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك
قرأت وسمعت - إلى الآن - آراء وملاحظات كثيرة حول المفاضلة بين الوحدة الإسلامية والوحدة العربية، وأخذت أتلقى - منذ مدة - أسئلة متنوعة عول هذه القضية منها:
لماذا تهتم بالوحدة العربية وتهمل الوحدة الإسلامية؟
ألا ترى أن هدف الوحدة الإسلامية أسمى من هدف الوحدة العربية؟
وأن القوة التي تحصل من اتحاد المسلمين تكون أعظم من التي تحصل من اتحاد العرب؟
ألا تسلم بأن الشعور الديني في الشرق أقوى بكثير من الشعور القومي؟ فلماذا تريدنا أن نهمل استغلال ذلك الشعور القوي، ونصرف قوانا في سبيل تقوية هذا الشعور الضعيف؟
هل تعتقد أن اختلاف اللغات يحول دون اتحاد المسلمين؟
ألا تلاحظ أن (مبادئ الشيوعية والاشتراكية والماسونية وغيرها تجمع بين أناس اختلفت لغاتهم وأجناسهم وبلادهم وأقاليمهم ولم يمنعهم هذا الاختلاف كله من أن يتفاهموا أو يتقاربوا ويجتمعوا على خطة واحدة ومبدأ واحد؟) ألا تعرف أن كل مسلم في سورية أو مصر أو العراق يعتقد أن المسلم الهندي أو الياباني أو الأوربي أخ له كأخيه المسلم الذي يعيش معه جنباً إلى جنب؟ ففيم استحالة تحقيق الوحدة الإسلامية؟
يقول البعض: (إن الوحدة الإسلامية أقوى من كل وحدة سواها، وإن تحقيقها أسهل من تحقيق أية وحدة أخرى) فما رأيك في هذا القول؟
ويدعي البعض (أن فكرة الوحدة العربية دسيسة إنكليزية يقصد من ورائها الحيلولة دون توسع فكرة الوحدة الإسلامية، وذلك لفصل الهند عن سائر أقطار العالم الإسلامي لتسهيل إدامة السيطرة عليها) فماذا تقول في هذا الادعاء؟
لقد سمعت وقرأت - ولا أزال أسمع وأقرأ - أسئلة كثيرة من هذا القبيل خلال محادثات شفهية، وفي رسائل خصوصية، أو في كتب مفتوحة
فرأيت أن أخصص هذا المقال لمعالجة المسائل المبحوث عنها معالجة وافية، لأشرح رأيي فيها بصراحة كافية
1 -
أعتقد أن القضايا الأساسية التي يجب درسها وحلها عند التفكير في (المفاضلة بين
الوحدة الإسلامية والوحدة العربية) تتلخص فيما يلي:
هل (الوحدة الإسلامية) من الآمال المعقولة التي يمكن تحقيقها أم هي من الأحلام الطوباوية التي لا إمكان لتحقيقها؟
وعلى فرض الشق الأول: هل تحقيقها أسهل أم أصعب من تحقيق الوحدة العربية؟
وهل يوجد شيء من المنافاة بين هاتين الوحدتين
وهل من سبيل إلى تحقيق الوحدة الإسلامية، دون تحقيق الوحدة العربية؟
عندما نقدم على إعمال الذهن وإنعام النظر في مثل هذه المسائل يجب علينا - قبل كل شيء - أن نحدد ما نعنيه من الوحدة الإسلامية والوحدة العربية بوضوح تام، ونعين مدى شمول كل واحد من هذين التعبيرين بصراحة كاملة
من الأمور التي لا تحتاج إلى شرح أن الوحدة العربية ترمي إلى إيجاد وحدة سياسية من الأقطار العربية المختلفة التي يتكلم أهلوها باللغة العربية. وأما الوحدة الإسلامية فترمي - بطبيعة الحال - إلى إيجاد وحدة سياسية من البلاد الإسلامية المختلفة التي يدين أهلوها بالديانة الإسلامية بالرغم من لغاتهم وأجناسهم. . .
ومن المعلوم أن العالم الإسلامي يشمل الأقطار العربية وتركية وإيران، والأفغان وتركستان، مع قسم من الهند وجزر الهند الشرقية وبلاد القفقاس، وأفريقيا الشمالية مع قسم في أفريقية الوسطى. . بقطع النظر عن بعض الكتل المتفرقة في أوربا وآسيا في ألبانيا ويوغسلافيا وبولندة والصين واليابان
ولا حاجة لبيان أن الأقطار العربية تشغل القسم المركزي من هذا العالم الفسيح
إن كل من يضع هذه الحقائق الراهنة نصب عينيه، ويتصور خريطة العالم الإسلامي، ويلاحظ موقع العالم العربي منها، يضطر إلى التسليم بأن الوحدة العربية أسهل بكثير من الوحدة الإسلامية وبأن هذه الوحدة لا يمكن أن تتحقق على فرض إمكان تحققها إلا بالوحدة العربية
إذ لا يمكن لأي عقل كان أن يتصور حصول اتحاد بين القاهرة وبغداد وأنقرة وطهران وكابل وحيدر أباد ونجارا وكشغر وفارس وتمبكتو. . . دون أن يحصل اتحاد بين القاهرة وبغداد ودمشق ومكة وتونس. لا يمكن لأي عاقل كان أن يقول بإمكان اتحاد الترك والعرب
والفرس والملايو والزنوج دون اتحاد العرب أنفسهم
لو كان العالم العربي أوسع وأشمل من العالم الإسلامي - بعكس ما هو واقع الآن - لأمكننا أن نتصور وحدة إسلامية دون وحدة عربية، ولجاز أن يقال إن تحقيق الوحدة الإسلامية أسهل من تحقيق الوحدة العربية. غير أنه لما كان الأمر بعكس ذلك تماماً فإنه لا مجال لمثل هذه الأقوال والتصورات في المنطق بوجه من الوجوه
إن هذه الحقيقة يجب أن لا تغرب عن بالنا عندما نفكر ونتكلم في أمر الوحدة الإسلامية والوحدة العربية
إن فكرة الوحدة الإسلامية أوسع وأشمل من مفهوم الوحدة العربية، ففي الإمكان أن نقول بالوحدة العربية دون أن نقول بالوحدة الإسلامية؛ وليس من الممكن أن نقول بالوحدة الإسلامية دون أن نقول بالوحدة العربية
ولهذا السبب يحق لنا أن ندعي أن كل من يعارض الوحدة العربية يكون عارض الوحدة الإسلامية أيضاً، وأما من عارض الوحدة العربية باسم الوحدة الإسلامية، أو بحجة الوحدة الإسلامية، فيكون قد خالف أبسط مقتضيات العقل والمنطق مخالفة صريحة
2 -
بعد تثبيت هذه الحقيقة - التي لا يجوز منطقياً الاختلاف فيها - يجدر بنا أن نلتفت إلى حقيقة ثانية لا تقل أهمية عنها
يجب علينا أن لا ننسى أن المقصود من كلمة الوحدة في هذا المقام هو الوحدة السياسية، كما يجب علينا أن نلاحظ على الدوام أن مفهوم (الوحدة الإسلامية) يختلف عن مفهوم (الأخوة الإسلامية) اختلافاً كبيراً
فإن الاتحاد شيء والتعاطف شيء آخر، والاتحاد السياسي شيء والاتفاق على مبدأ من المبادئ أو على مجموعة من المبادئ شيء آخر
فالدعوة إلى الوحدة الإسلامية تختلف بهذا الاعتبار عن الدعوة إلى إصلاح أحوال الإسلام كما تختلف عن الدعوة إلى زيادة التفاهم والتقارب والتضامن بين المسلمين
ولذلك نستطيع أن نقول: إن من يتكلم عن مبدأ الأخوة الإسلامية، ومن يبحث عن فوائد التفاهم بين المسلمين، لا يكون قد برهن على إمكان تحقيق الوحدة الإسلامية
وبعكس ذلك، من لا يسلم بإمكان تحقيق الوحدة الإسلامية لا يكون قد أنكر مبدأ الأخوة
الإسلامية، ولا عارض مساعي النهوض والتفاهم بين المسلمين
فكل ما يقال عن مبدأ الأخوة الإسلامية لا يكون دليلاً كافياً على إمكان تحقيق الوحدة الإسلامية
وأما الاستشهاد على إمكان الوحدة الإسلامية بالماسونية أو الاشتراكية أو الشيوعية فليس موافقاً للعقل والمنطق بوجه من الوجوه، لأن الماسون لم يؤلفوا وحدة سياسية، والأحزاب الاشتراكية في الممالك الأوربية المختلفة لم تتحد لتكوين دولة واحدة؛ حتى الشيوعية نفسها لم تكون دولة جديدة، بل قامت مقام الدولة الروسية القيصرية
فيجب علينا أن نميز بين مسألة الأخوة الإسلامية ومسألة الوحدة الإسلامية تمييزاً صريحاً، وأن نفكر في إمكان أو عدم إمكان تحقيق الوحدة الإسلامية - بمعناها السياسي - تفكيراً مباشراً
3 -
إذا ألقينا نظرة عامة على التاريخ، واستعرضنا تأثيرات الأديان في تكوين الوحدات السياسية، نجد أن الأديان العالمية لم تتمكن من توحيد الشعوب التي تتكلم بلغات مختلفة إلا في القرون الوسطى، وذلك في ساعات محدودة ولمدة قصيرة من الزمن
فإن الوحدة السياسية التي حاولت تكوينها الكنيسة المسيحية لم تستطع أن تجمع العالم الأرثوذكسي بالعالم الكاثوليكي في وقت من الأوقات. . كما أن الوحدة السياسية التي سعت لتكوينها البابوية في العالم الكاثوليكي نفسه لم تعمر مدة طويلة
وكذلك كان الأمر في العالم الإسلامي، فإن الوحدة السياسية التي وجدت في صدر الإسلام لم تقو على تقلبات الأيام مدة طويلة، والخلافة (العباسية) نفسها لم تستطع أن تجمع كل المسلمين تحت رايتها السياسية، حتى عند بلوغها أوج قوتها وقمة عظمتها؛ كما أن البلاد التي كانت تخضع لسلطان هذه الخلافة نفسها لم تحافظ على وحدتها السياسية بصورة فعلية مدة طويلة، ولم يمض وقت طويل على تأسيس الخلافة المذكورة حتى أصبحت سلطتها على الأقطار معنوية أكثر منها مادية، فلم تقو على الحياة دون انفراط عقد الأقطار المذكورة، وتحولها إلى وحدات سياسية عديدة مستقل بعضها عن بعض بصورة فعلية
ومما يجدر بالانتباه في هذا الصدد أن انتشار الدين الإسلامي في بعض الأقطار تم بعد أن فقدت الخلافة الإسلامية وحدتها الفعلية وقوتها الحقيقية، حتى أن هذا الانتشار جرى في
بعض الأقطار بصورة مستقلة عن تأثير السلطات السياسية، وذلك على أيدي دعاة من التجار والشيوخ والدراويش، فالعالم الإسلامي بحدوده الواسعة الحالية، لم يكون وحدة سياسية، في وقت من الأوقات
فالوحدة السياسية التي لم تحقق في القرون الماضية - في عهود بساطة الحياة الاجتماعية وسذاجة العلائق السياسية، وفي أدوار سيطرة التقاليد الدينية على كل ناحية من نواحي الأعمال والأفكار ليس من الممكن أن تحقق في هذا القرن بعد أن تعقدت الحياة الاجتماعية وأعضلت المشاكل السياسية وخرجت العلوم والصناعات عن سيطرة التقاليد والمعتقدات
4 -
إنني أعرف أن ما قررته هنا لا يروق الكثيرين من علماء الإسلام. أعرف أن الدلائل التاريخية التي ذكرتها آنفاً لا تستطيع أن تؤثر على معتقد الكثيرين من رجال الدين. وذلك لأنهم قد تعودوا التكلم في هذه المسائل دون تذكر الحقائق التاريخية وملاحظة الخرائط الجغرافية، كما أنهم لم يألفوا التمييز بين مدلول (الأخوة الدينية) ومدلول (الرابطة السياسية) بل إنهم نشأوا على المزج بين مبدأ الأخوة الإسلامية بمعناها الأخلاقي، وبين فكرة الوحدة الإسلامية بمعناها السياسي
أنا لا أرى حاجة للسعي وراء إقناع هؤلاء بخطأ اعتقادهم في هذا الأمر، غير أني أرى من الضروري أن أطلب إليهم ألا ينسوا مقتضيات العقل والمنطق في هذا السبيل. لهم أن يحافظوا على اعتقادهم في إمكان تحقيق الوحدة الإسلامية، ولو في مستقبل بعيد، غير أنهم عليهم كذلك أن يسلموا في الوقت نفسه بضرورة السعي إلى الوحدة العربية على الأقل، كمرحلة من مراحل تحقيق الوحدة الإسلامية التي يعتقدون بها. عليهم - في كل حال - ألا يعارضوا المساعي التي تبذل في سبيل تحقيق الوحدة العربية، بحجة خدمة الوحدة الإسلامية التي يدعون إليها
فإني أكرر هنا ما كتبته آنفاً (أن من يعارض الوحدة العربية بحجة الوحدة الإسلامية يكون قد خالف أبسط مقتضيات العقل والمنطق مخالفة صريحة) وأقول بلا تردد إن مخالفة المنطق إلى هذا الحد، لا يمكن أن تتأتى إلا من الخداع أو الانخداع:
خداع بعض الشعوبيين الذين لا يرتاحون إلى نهوض الأمة العربية فيسعون إلى تهييج الشعور الديني ضد فكرة الوحدة العربية
وانخداع بعض السذج الذين يميلون إلى تصديق كل ما يقال لهم مقروناً باسم الدين دون أن ينتبهوا إلى ما قد يكون وراء هذه الأقوال من المقاصد الخفية
فأرى من واجبي أن أوجه أنظار جميع المسلمين العرب إلى هذا الأمر الهام، واطلب إليهم ألا ينخدعوا بتدليس الشعوبيين في هذا الباب
5 -
لعل أغرب وأخدع الآراء التي أبديت حول قضية الوحدة العربية والوحدة الإسلامية هو الرأي القائل بأن فكرة الوحدة العربية من المصنوعات الإنكليزية التي خلقت لمحاربة (الوحدة الإسلامية) وذلك لفصل الهند عن سائر الأقطار الإسلامية، تسهيلاً لدوام السيطرة عليها
أنا لا أستطيع أن أتصور رأياً اكثر بعداً من حقائق التاريخ والسياسة وأشد مخالفة لأحكام العقل والمنطق من هذا الادعاء الغريب
فإن التفاصيل التي ذكرتها آنفاً عن علاقة الوحدة الإسلامية بالوحدة العربية تكفي لإظهار خطر هذه المدعيات من حيث الأساس
مع هذا أرى أن أضيف إلى تلك التفاصيل بعض الملاحظات لزيادة البرهنة والإيضاح
إن كل من ينعم النظر في مكاتبات الملك حسين للإنكليز، وكل من يلاحظ اتجاهات السياسة البريطانية في عدن والعقبة وفي فلسطين وفي جزيرة العرب، يفهم بداهة أن القول بأن الإنكليز يشجعون فكرة الوحدة العربية تشجيعاً حقيقياً يكون افتئاتاً على الواقع صريحاً
لا ينكر أن الإنكليز سايروا الحركة العربية وصانعوها أكثر من سائر الدول، وما ذلك إلا لأنهم أكثر مرونة في السياسة وأسرع فهماً لنفسيات الأمم وحقائق الاجتماع. . .
إنهم عرفوا القوة الكامنة في الفكرة العربية قبل غيرهم، فرأوا أن يسايروها بعض المسايرة ويصانعوها بعض المصانعة - عوضاً عن محاربتها مباشرة - ليدفعوا ضررها عنهم ويجعلوها أكثر ملاءمة لمصالحهم.
وأما قضية (حكم الهند) فيجب أولاً ألا يغرب عن البال أنها ليست مسألة إسلامية بحتة - فأن المسلمين في الهند لا يؤلفون أكثرية السكان، كما أن في الخلاف القائم بين المسلمين والهندوس مجالاً واسعاً لتسهيل سيطرة الإنكليز على تلك البلاد. ومما لا شك فيه أن حكم الإنكليز لا يتم في الهند نفسها، بل يتطلب السيطرة على طرق المواصلات الجوية
والبحرية التي تربطها ببريطانيا أيضاً؛ ومن المعلوم أن قنال السويس وبحيرة الحبانية وثكنات مصر ومطارات العراق، من جملة وسائل هذه السيطرة، فهل يعقل أن يخشى الإنكليز - بالرغم من مرونتهم السياسية - من قيام دولة إسلامية كبيرة تستطيع أن تستولي على الهند، أكثر مما يخشون من قيام دولة عربية قوية تستطيع أن تسد طرق المواصلات المذكورة؟
يجب أن نعرف جيداً أن السياسة الإنكليزية سياسة عملية تتكيف مع الظروف وتنتهز الفرص على الدوام. ويجب ألا ننسى أن بريطانيا العظمى هي التي أنقذت الدولة العثمانية صاحبة الخلافة الإسلامية من استيلاء الروس عدة مرات. وهي التي كانت أوقفت الجيوش المصرية في قلب الأناضول، لتخليص مقر الخلافة الإسلامية من استيلاء تلك الجيوش الظافرة. وهي التي حالت دون اتحاد مصر مع سورية في عهد محمد علي الكبير
فكل من يتهم فكرة الوحدة العربية بكونها دسيسة إنكليزية يكون قد قام بخدعة ما وراءها خدعة، ووقع في انخداع ما بعده انخداع
يجب أن نعلم حق العلم أن فكرة الوحدة العربية فكرة طبيعية لم يوجدها موجد. إنها نتيجة طبيعية لوجود الأمة العربية نفسها. هي قوة اجتماعية تستمد نشاطها من حياة اللغة العربية وتاريخ الأمة العربية واتصال البلاد العربية. فلا يستطيع أحد أن يدعي - بصورة منطقية - أن الإنكليز هم الذين خلقوا فكرة الوحدة العربية إلا إذا استطاع أن يبرهن على أن الإنكليز هم الذين خلقوا اللغة العربية، أو أوجدوا تاريخ الأمة العربية، وكونوا جغرافية البلاد العربية
إن فكرة الوحدة العربية من التيارات الطبيعية التي تنبع من أغوار الطبيعة الاجتماعية لا من الآراء الاصطناعية التي يستطيع أن يبتدعها الأفراد أو تستطيع أن تخلقها الدول. . .
إنها ظلت كامنة - شأن الكثير من القوى الطبيعية والاجتماعية - منذ عدة قرون لأسباب وعوامل تاريخية كثيرة لا مجال لشرحها هنا؛ غير أن كل شيء يدل على أن دور كمونها قد انتهى، وأن تيارها أخذ يظهر للعيان وصار يتدفق شيئاً فشيئاً. ولاشك في أن تيار هذه الفكرة سيزداد تدفقاً من جميع النفوس العربية بسرعة متزايدة تزايداً هائلاً. وسوف لا يلبث أن يغمر جميع البلاد العربية ويعيدها إلى مجدها السالف ونضرتها الأولى، بل إلى ما هو
أخصب وأقوى وأسمى منها
هذا يجب أن يكون إيمان كل مستنير من الناطقين بالضاد.
(برمانا)
أبو خلدون
جناية احمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
- 18 -
ترفق الأستاذ احمد أمين بالأدب العربي فقال: إنه يرى من الإنصاف أن يستثني أديبين أثنين (كان أدبهما أدباً تحليلياً واضحاً) وهما ابن الرومي وابن خلدون
وكذلك انتهت دنيا الأدب العربي، الأدب الذي لم ينجب غير شاعر واحد وكاتب واحد في أمد طويل دام نحو خمسة عشر قرناً، وتعاونت في تكوينه أمم أسيوية وأفريقية وأوربية، واستطاع أن يؤثر في الآداب اللاتينية والعبرية والفارسية والتركية والهندية، وصار له في أكثر الجامعات الأوربية كرسي خاص
احمد أمين يستثني ابن الرومي من بين الشعراء، ويستثني ابن خلدون من بين الكتاب لسبب آخر غير الإنصاف، فقد سمع أن العقاد وضع كتاباً عن ابن الرومي، وسمع أن طه حسين وضع كتاباً عن ابن خلدون، ومن الواجب عليه أن يعجب بالشاعر الذي أعجب به العقاد، والكاتب الذي أعجب به طه حسين
وكيف أقفر الأدب العربي في تلك الآماد الطوال فلم ينبغ فيه غير أديبين أولهما شاعر، وثانيهما كاتب؟
إن احمد أمين لو حكم بأن مدينة واحدة مثل القاهرة أو دمشق أو بغداد لم تنجب في جيل واحد غير أديبين أثنين لكان من المسرفين، فكيف وهو يكيل الأحكام الأدبية بأوسع المكاييل فيحكم بأن الأدب العربي في جميع عصوره، وفيما انتظم من أمم شرقية وغربية لم ينجب غير أديبين أثنين؟
قد يقول أنه يقصد الأدب الذي يقوم على التحليل والاستقصاء إن قال ذلك فنحن ندعوه إلى دراسة الأدب العربي من جديد. فالطريقة التحليلية عرفها شعراء العرب منذ أقدم العهود وعليه أن يرجع إلى معلقة طرفة، ومعلقة لبيد، وعينية أبي سويد وتائية كُثيّر، ولامية الكميت، وتائية دعبل، ودالية مسلم
الواقع أن الشعر العربي تغلب عليه النزعة التحليلية في أكثر ما تعرض له من مقاصد وأغراض، وانظروا كيف يحلل سعيد ابن حميد فكرة النهي عن العتاب:
أقلل عتابك فالبقاء قليلُ
…
والدهر يعدِل تارة ويميلُ
لم أبك من زمنٍ ذممتُ صروفهُ
…
إلا بكيتُ عليه حين يزولُ
ولكل نائبةٍ ألمَّتْ مدةٌ
…
ولكل حال أقبلت تحويلُ
والمنتمون إلى الأخاء جماعةٌ
…
إن حُصِّلوا أفناهم التحصيل
فلئن سبقتُ لتبكينَّ بحسرة
…
وليكثرنَّ عليَّ منك عويل
ولتُفجعنّ بمخلص لك وامق
…
حبل الوفاء بحبله موصول
ولئن - سبقتَ ولا سبقتَ - ليمضينْ
…
من لا يشاكله لديّ خليل
وليذهبنّ بهاءُ كل مروءة
…
وليفقدنّ جمالها المأهول
وأراك تكلَف بالعتاب وودُّنا
…
باقٍ عليه من الوفاء دليل
ولعل أيام الحياة قصيرةٌ
…
فعلام يكثر عتبنا ويطول
فالشاعر في هذه القصيدة يحلل ويعلل ويتناول موضوعه تناول من يدرك ما فيه من كليات وجزئيات، ومازال ينتقل من العموم إلى الخصوص حتى وصل في تصوير معناه إلى ما يريد
ولننظر كيف يقول الشريف الرضي في استبقاء الصديق:
وكم صاحبٍ كالرمح زاغت كعوبه
…
أبى بعد طول الفخر أن يتقوما
تقبلتُ منه ظاهراً متبلِّجاً
…
وأدمج دوني باطناً متجهِّماً
فأبدى كروض الحَزن رفَّت فروعه
…
وأضمر كالليل الحذاريّ مظلما
ولو أنني كشَّفته عن ضميره
…
أقمت على ما بيننا اليوم مأتما
فلا باسطاً بالسوء إن نالني يداً
…
ولا فاغراً بالذم إن رابني فما
كعضو رمت فيه الليالي بقادح
…
ومن حمل العضو الأليم تألما
إذا أمر الطب اللبيب بقطعه
…
أقول عسى ضنَّاً به ولعلما
صبرتُ على إيلامه خوف نقصه
…
ومن لام من لا يرعوي كان ألوما
هي الكفّ مضًّ تركُها بعد دائها
…
وإن قُطِعت شانت ذراعاً ومعصما
أراك على قلبي وإن كنت عاصياً
…
أعزّ من القلب المطيع وأكرما
حملتك حمل العين لجّ بها القذى
…
فلا تنجلي يوماً ولا تبلغ العمى
دع المرَء مطوياً على ما ذممته
…
ولا تنشر الداء العضال فتندما
إذا العضو لم يؤْلمك إلا قطَعته
…
على مضض لم تبق لحماً ولا دما
ومن لم يوطّن للصغير من الأذى
…
تعرض أن يلقى أجلّ وأعظما
فما رأيكم في هذا القصيد الجميل؟
ألا ترون الشاعر ينقل الفكرة من وضع إلى وضع، ويصنع بها ما يصنع المصور الذي يراعي دقائق المعاني. . . وهو يضع اللوحة الفنية؟. . .
إن الشاعر في هذه القصيدة أمامه غرض واضح الرسوم، فهو يحلل ويعلل ليصل إلى أبعد ما يريد من الاستقصاء!
أليس هذا هو التحليل الذي يقصد إليه احمد أمين؟
وما رأيكم في قول الطغرائي وهو يحاور الحمامة الباكية:
أيكيةٌ صدحتْ شجواً على فنَن
…
فأشعلت ما خبا من نار أجفاني
ناحتْ وما فقدت إلفاً ولا فُجعت
…
فذكّرتنيَ أوطاري وأوطاني
طليقةٌ من إسار الهمّ ناعمةٌ
…
أضحت تجدد وجد الموثَق العاني
تشبهت بيَ في وجدي وفي طربي
…
هيهات ما نحن في الحالين سيّان
ما في حشاها ولا في جفنها أثرٌ
…
من نار قلبي ولا من ماء أجفانِي
يا ربة البانة الغنّاء تحضنها
…
خضراءُ تلتف أغصاناً بأغصان
إن كان نوحك إسعاداً لمغترب
…
ناءٍ عن الأهل ممنُوٍّ بهجران
فقارضِيني إذا ما اعتادني طربٌ
…
وجداً بوجد وسلواناً بسلوان
أو لا فقصرَك حتى أستعين بمن
…
يعنيه شأني ويأسو كلْم أحزاني
ما أنت مني ولا يَعنيك ما أخذتْ
…
مني الهموم ولا تدرين ما شاني
كِلي إلى الغيم إسعادي فإن لهُ
…
دمعاً كدمعي وإرناناً كإرناني
فهل ترون هذه القصيدة من (الأدب التركيبي)، وهو لفظ ثقيل اخترعه أحمد أمين؟
أم ترونها قصيدة تقوم على تحليل المعاني ليخلق منها الشاعر صورة شعرية؟
وانظروا قول ديك الجن وقد قتل معشوقته بيديه:
يا طلعةً طلع الحِمام عليها
…
فجَنى لها ثمر الردى بيديها
حكَّمت سيفي في مجال خناقها
…
ومدامعي تجري على خديها
روّيتُ من دمها الثرى ولطالما
…
روّى الهوى شفتيَّ من شفتيها
فَوحقِّ نعليْها وما وطئ الثرى
…
شيءٌ أعزُّ عليّ من نعليها
ما كان قتليها لأني لم أكن
…
أبكي إذا سقط الذباب عليها
لكن بخلتُ على الوجود بحسنها
…
وأنِفتُ من نظر العيون إليها
فقد شرح الشاعر فكرته أتم الشرح، وصورها أكمل التصوير. . .
وهل وصلت إلى احمد أمين أخبار تلك الوصية الرائعة التي بعث بها العباس بن الأحنف إلى حجاج البيت الحرام، وقد توقع أن يمروا بدار هواه
انظروا إلى ذلك العليل، وقد تمرد الداء، وتعذر الشفاء، وكلما عصر الماء في فيه مجه، كما يصنع الطفل الوليد. . . وقد ذهبت العلة بجمال نظراته، وبريق بسماته، وإن نودي لم يجب بغير الأنين. . . انظروا إليه! وقد تمنى جرعة مزجت بريق حبيبته يحملها الحجاج في زجاجة، ولو أمكن أن تنقل النظرة لرجاهم أن يحملوا إليه نظرة، ولو خلق (الحاكي) في ذلك الحين لرجاهم أن ينقلوا إليه نغمة من نغماتها العذاب، ولو مهر المصورون حينذاك لكلفهم أن يصوروا مشيتها في الضحى والأصيل. . . انظروا إليه وهو يرجوهم أن يتعللوا عند أهله، فيذكروا أن تلك الجرعة العذبة إنما هي من ماء زمزم. . . انظروا إليه وقد أوصاهم أن يرشوا ريق من يهوى على وجهه، فإن صادفوه ميتاً فليرشوه على قبره. . .
انظروا كيف يقول:
أزوَّار بيت الله مُرُّوا بيثربٍ
…
لحاجة مبتول الفؤاد كئيب
وقولوا لهم يا أهل يثرب أسعدوا
…
على جَلَب للحادثات جليب
فإنا تركنا بالعراق أخاً هوىً
…
تنشّب رهناً في حبال شعوب
به سقَمٌ أعيا المداوين علمه
…
سوى ظنهم من مخطئ ومصيب
إذا ما عصرنا الماء في فيه مجهٌ
…
وإن نحن نادينا فغير مجيب
خذوا لي منها جرعة في زجاجة
…
ألا إنها لو تعلمون طبيبي
وسيروا فإن أدركتُم بي حُشاشةً
…
لها في نواحي الصدر وَجْس دبيب
فرشوا على وجهي أفق من بليتي
…
يثيبكُم ذو العرش خير مثيب
فإن قال أهلي ما الذي جئتم به
…
وقد يحسن التعليل كل أريب
فقولوا لهم جئناه من ماء زمزم
…
لنشفيه من دائه بذَنوب
وإن أنتُم جئتم وقد حيل بينكم
…
وبيني بيوم للمنون عصيب
وصرت من الدنيا إلى قعر حفرة
…
حليف صفيح مطبق وكثيب
فرشوا على قبري من الماء واندبوا
…
قتيل كَعابٍ لا قتيل حروب
فهذا الشاعر قد قص قصة بلواه بأسلوب تحليلي رائع لا أدري كيف ينكره احمد أمين
وما رأيكم فيما قال كثير في السخرية من عهود النساء:
ألا إنما ليلى عصى خيزرانة
…
إذا غمزوها بالأكفّ تلين
تمتع بها ما ساعفتك ولا يكن
…
عليك شجاً في الحلق حين تبين
وإن هي أعطتك الليان فإنها
…
لآخر من خلاتها ستلين
وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها
…
فليس لمخضوب البنان يمين
وما حاجتنا إلى تحليل هذا المعنى وقد وفاه في بيت واحد من يقول:
فلا تحسبن هنداً لها الغدر وحدها
…
سجية نفْس، كل غانية هندُ
إن احمد أمين ينتظر شعراء يحللون، فهل أتاه حديث أبي العتاهية في الزهديات، وحديث أبي نؤاس في الخمريات، وحديث الشريف الرضي في الحجازيات، وحديث الكميت في الهاشميات، وحديث الأبيوردي في النجديات، وحديث البحتري في طيف الخيال، وحديث العباس بن الأحنف في الكتمان؟
وهل عنده علم بوصف الربيع في شعر أبي تمام؟ وهل سمع بأشعار ابن زيدون في الحنين؟ وقل قرأ قصائد ابن خفاجة وا بن حمديس؟ وهل فتح الله عليه فنظر بكاء الرندي يوم سقوط الأندلس؟ وهل قرأ فائية ابن الفارض؟ وهل اهتدى إلى حائية ابن النحاس الذي يقول:
كم أداوي القلب! قلتْ حيلتي
…
كلما داويت جرحاً سال جرح
وهل عرف مصير أشعار بديع الزمان الذي يقول:
رأيت الناس خدَّاعاً
…
إلى جانب خدَّاعِ
يعيثون مع الذئب
…
ويبكون مع الراعي
وهل قرأ قصيدة أبي تمام يوم فتح عمورية؟ وهل عرف روميات أبي فراس؟ وهل شهد موكب المعاني في مقصورة ابن دريد؟ وهل درس رائية أبي صخر وعينية أبي ذؤيب؟
احب أن أعرف أين مكانك بين أدباء اللغة العربية، يا صديقي؟
أحب أن أعرف أتجدّ في دعواك أم تكون من الهازلين؟
اقسم بالله وبالشرف أني لفي عجب من غفلة الأستاذ احمد أمين عن ذخائر الأدب العربي، مع أنه أستاذ مسئول يتصدر لتدريس الأدب في أكبر معهد من معاهدنا الأدبية
ويزيد في الأسف أنه لم يكن كذلك فيما كنا نعرف من شمائله الذاتية، فقد استطاع أن يظفر بثقة ناس من كبار الأدباء منهم لطفي السيد وهيكل وطه حسين والمازني والعقاد والزيات والبشري، وسمعنا ثناء عليه في بيئات تزن أقدار الرجال، فمن أين وصل إليه مرض الحذلقة الذي كاد يضيفه إلى أدعياء الأدب والبيان؟
أتريدون الحق؟
الحق أن احمد أمين لم يوفق إلى الإجادة إلا في الموضوعات التي سار فيها على سنن مسلوك مهده العلماء من قبل
فكتاب (الأخلاق) له مصدر معروف، فهو في جملته وتفصيله وأصوله وفروعه تلخيص لأي كتاب أوربي في الأخلاق، ولو شئت لسقت الأدلة والبراهين
وفجر الإسلام وضحى الإسلام لهما أصول من أبحاث المستشرقين عن المدنية الإسلامية، وفيهما توجيهات للدكتور طه حسين سأكشف أسرارها حين أشاء، وفيهما سرقات في شئون اجتماعية ونحوية، ولو شئت لقلت إنه نهب بعض آراء الأستاذ فلان، وهو يعرف من أعني، وسيعرف كيف نجازيه بعد حين
بقي أحمد أمين (الأديب) الذي ينقل عن العقل والروح فهل قرأتم له مقالة واحدة تشهد بأن له مواهب فيها أصالة وعمق.
وكيف يصح ذلك، وهو يرى أن الأدب العربي لم ينبغ فيه غير شاعر واحد؟
ومن هو الشاعر؟
هو ابن الرومي، وإنما نص عليه بالذات، ليصح له اتهام الأرومة العربية بالفقر والإجداب، فقد كان المازني كتب منذ أعوام أبحاثاً عن ابن الرومي، وقرر في تلك الأبحاث أن ابن
الرومي ورث طريقة التحليل عن أجداده الأبعدين من اليونان
ولست بصدد الرد على المازني، الأديب العظيم، حتى ابحث من أين أخذ هذا الرأي، وإنما يحق لي أن أسأل: هل كان ابن الرومي أول شاعر عربي له أسلاف من اليونان؟
ومن هو الجد اليوناني لطرفة بن العبد، وقد وصف ناقته في المعلقة وصفاً هو النهاية في التحليل والاستقصاء؟
ومن هو الجد اليوناني لعمر بن أبي ربيعة وأشعاره تقوم على أساس من الحوار والتحليل والتمثيل؟
ومن هو الجد اليوناني للشاعر لبيد وفي معلقته تحليل دقيق؟
ومن هو الجد اليوناني للشريف الرضي وفي حجازياته أوصاف وتحليلات لم يهتد إلى مثلها سدنة الهياكل اليونانية؟
وما رأي الأستاذ أحمد أمين في أبي العلاء صاحب اللزوميات وصاحب رسالة الغفران؟
ألا يرى أن أبا العلاء كان من الشعراء الذين يجيدون تحليل المعاني؟
إن أبا العلاء قضى الشطر المثمر من عمره، وهو يحاور نفسه ودنياه، وقد وصل في التحليل والاستقصاء إلى أبعد الحدود، برغم المآخذ النفسية التي قيدناها عليه في كتاب (وحي بغداد) فهو عندنا لا يقل عظمة في تحليلاته ومحاوراته عن أكبر شاعر يبرع في الحوار والتحليل.
أفلا يتفضل الأستاذ أحمد أمين بالاعتراف بمكانة أبي العلاء بين أقطاب الشعراء والمفكرين، فيضيفه إلى ابن الرومي وابن خلدون؟!
يظهر أن الأستاذ أحمد أمين نسى أن أبا العلاء شغل الأستاذ العقاد والدكتور طه حسين، فنشر الأول كتاباً عن أبي العلاء ونشر الثاني كتابين!
يظهر أنه نسي ذلك، وما أنساه إلا الشيطان، ولولا ذلك لاعترف بمكانة أبي العلاء رعاية للعقاد وطه حسين، إن عزت عليه رعاية الحق!
وأرجع فأقول: إن من التجني على شعراء العرب أن نقول بحرمانهم من النزعة التحليلية، فهم في أغلب الأحوال يهتمون بتصوير المعاني، ويشعرون السامع والقارئ بأنهم يحاورون العواطف والقلوب والعقول، وإليكم قول تميم بن جميل وهو يرعد من خوف الموت
بحضرة المعتصم:
أرى الموت بين السيف والنطع كامناً
…
يلاحظني من حيثما أتلفتُ
وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي
…
وأي امرئ مما قضى الله يفلت
وأيُّ أمريء يدلي بعذر وحجة
…
وسيف المنايا بين عينيه مصلت
يعز على الأوس بن تغلب موقف
…
يُسلُّ عليّ السيف فيه وأسكت
وما حَزِني أني أموت، وإنني
…
لأعلم أن الموت شيءٌ مؤقت
ولكن خلفي صبيةً قد تركتهم
…
وأكبادهم من حسرة تتفتت
كأني أراهم حين أُنعى إليهم
…
وقد خمّشوا تلك الوجوه وصوتوا
فإن عشت عاشوا خافضين بنعمة
…
أذود الردى عنهم، وإن متُّ مُوِّتوا
فكم قائل لا أبعد الله داره
…
وآخر جذلان يُسرُّ ويشمت
أليس هذا الشعر قائماً على الحوار والتحليل؟؟
وما رأيكم في قول ابن الزيات، وقد ماتت زوجته وتركت له طفلاً يؤرقه بكاؤه في هجعات الليل:
أَلَا من رأى الطفل المفارق أمه
…
بُعَيْد الكرى عيناه تبتدرانِ
رأى كل أُمّ وابنها غير أمه
…
يبيتان تحت الليل ينتجيان
وبات وحيداً في الفراش تحثهُ
…
بلابل قلب دائم الخفقان
ألا إنَ سجْلاً واحداً قد أرَقتهُ
…
من الدمع أو سجلين قد شفياني
فلا تَلْحيانِي إن بكيتُ فإنما
…
أداوي بهذا الدمع ما تريان
وإن مكاناً في الثرى خُطَّ لحدهُ
…
لمن كان في قلبي بكل مكان
أحقُّ مكان بالزيارة والهوى
…
فهل أنتما إن عُجْتُ منتظران
فهبني عزمتُ الصبر منها لأنني
…
جليدٌ فمن بالصبر لابن ثمان
ضعيف القُوَى لا يعرف الأجر حسبةً
…
ولا يأتسي بالناس في الحدثان
ألَا من أمنِّيه المنى وأَعدّهُ
…
لعثرة أيامي وصرف زمانِي
ألَا من إذا ما جئت أكرم مجلسي
…
وإن غبتُ عنه حاطني ورعاني
فلم أر كالأقدار كيف يصبنني
…
ولا مثل هذا الدهر كيف رماني
فهذه قطعة تحليلية رائعة، وقد يلاحظ بعض القراء أن الصورة الشعرية في هذه القصيدة متنافرة الأجزاء، ولكن لا بأس فهذه القصيدة قد ضاعت أصولها مع الأسف، ولم يبقى منها غير هذه الأبيات وهي مما تخيره ابن رشيق. وقد تعبت في البحث عن أصل هذه القصيدة واستعنت بالأستاذ الشيخ محمد الخضري بك مهذب الأغاني فلم أصل إلى ما أريد، ولكن هذه البقية الباقية من تلك القصيدة تشهد بقدرة ابن الزيات على تحليل المعاني والأغراض
أما بعد فأنتم تعرفون أن توضيح الواضحات من المشكلات؛ فالعرب في أكثر أشعارهم قد تفوقوا في عرض المعاني والمناظر والمشاهد، ولهم في تصوير الطبائع والشمائل قدرة لا ينكرها إلا جاهل أو مكابر أو حقود
وليس من الحتم أن يسلكوا جميعاً مسالك ابن الرومي أو أبي العلاء، فلكل شاعر مذهب في الأوصاف والتعابير، واختلافهم في مذاهبهم ومناحيهم ومراميهم هو الشاهد على ما يملكون من الأصالة والذاتية
وما كان ابن الرومي أكبر شاعر عرفه العرب، كما توهم احمد أمين، وقد صارحت الأستاذ العقاد بأني أرى الشريف الرضي أشعر من ابن الرومي فلم ينكر ذلك، واكتفي بأن يقول إن مزية ابن الرومي عنده هي التفوق في وصف
وهذا حق، فمزية ابن الرومي هي الحرص على درس أهواء الناس، وهي مزية شاركه فيها أبو العلاء
وإذا كان ابن الرومي قد أفلح في تصوير نحائز الخلق فهو مع ذلك لم يصل في شعره إلى الرنة الموسيقية التي كان يتفرد بها البحتري، ولم يصل في الصنعة إلى منزلة أبي تمام أو مسلم بن الوليد، ولم يحس الأنس بالحياة على نحو ما أحس ابن خفاجة أو ابن زيدون أو أبو نؤاس
ومن هنا نفهم أن للشعراء رسالات مختلفات، فعمر بن أبي ربيعه في بابه أشعر من ابن الرومي في بابه، وابن الرومي في بابه أشعر من ابن أبي ربيعه في بابه. والناقد الضيق الذهن هو الذي يضع للشعر غاية واحدة يحاكم غليها الشعراء
ومحاسن الأدب العربي ترجع إلى هذا التنوع الطريف، فليس عندنا شاعر يغني عن شاعر، وإنما هم اخوة مختلفون في المذاهب والأغراض، ومن اختلاف الألوان التي قدموها
تتم الصورة الكاملة للعبقرية العربية
ثم ماذا؟ ثم يقول أحمد أمين: إن الأدب العربي ليس فيه إلا كاتب واحد يجيد التحليل هو ابن خلدون
وسنرى في المقال المقبل خطأ ما ادعاه هذا الزميل مع الدعاء له ولنا بالهداية والتوفيق، وإنا أو إياه لعلى هدى أو في ضلال مبين، والله المستعان على حيرة الفكر في أهل هذا الزمان
(للحديث شجون)
زكي مبارك
التعليم والإنتاج
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
ها قد انتهت العطلة الصيفية بخمولها أو آذنت بالانتهاء. ودب في المعاهد التعليمية نشاطها وعادت إليها حركتها السنوية العادية، حركة القبول والرفض وتوفير المحال للطلاب. وهي حركة تشمل عدداً كبيراً من أبناء هذه البلاد وتشغل بال أولياء الأمور كما هو الحال في مثل هذه الأيام من كل عام. وهي حركة إن نمت عن شيء فهي تنم عن إقبال شباب الأمة فتيانها وفتياتها على معاهدنا سعياً وراء العلم والتعلم. وهي لا شك بشير الخير والبركة لو سار التعليم عندنا سيرته عند غيرنا، ولو اتجهت معاهدنا في توجيه أبنائها الاتجاه الصحيح الذي يدفع بالشباب إلى السبيل المستقيم سبيل الإنتاج، لأن حياة الأمم وعزها وقوتها في الإنتاج، والفرد غير المنتج، تكون حياته عديمة القيمة. فإلى أي حد يا ترى أصبح تعليمنا منتجاً؟ وإلى أي مدى يا ترى تعد مدارسنا أبناءها ليكونوا مواطنين منتجين؟ وكم في المائة منهم يلجون أبواب الإنتاج الفعلي بعد تخرجهم في معاهدهم؟ وهل تستطيع معاهد التعليم عندنا أن توافينا بعدد خريجيها في كل عام، وعدد من انخرطوا منهم في سلك الإنتاج والمنتجين، وعدد من أصبحوا منهم في عداد الموظفين، وعدد من بقوا عالة على أهلهم وصاروا في عداد المتعطلين؟
هذه أسئلة قد اعترضتني أثناء البحث الذي أجريته خاصاً بمؤلفي (التعليم والمتعطلون في مصر) ولم أستطع أن أجد لها حلاً وافياً لأني سألت كثيراً من المعاهد في ذلك، فلم يرد علي البعض ورد البعض الآخر رداً مقتضباً عديم القيمة، ولكن مدرسة واحدة هي مدرسة التجارة المتوسطة بالإسكندرية ردت علي رداً وافياً بإحصائية كاملة عن حالة خريجيها من سنة 1930 إلى سنة 1937 أوردتها بصفحة 250 من مؤلفي السابق الذكر. ويتبين منها أن عدد خريجي هذه المدرسة بين العامين السابقي الذكر هو 531 منهم 201 موظفون في الحكومة أي بنسبة 37. 7 في المائة ومنهم 98 موظفون في الشركات والمصارف أي بنسبة 18. 5 في المائة ومنهم 165 متعطلون لا عمل لهم أي بنسبة 31. 1 في المائة ومنهم 37 حالتهم مجهولة أي بنسبة 7. 2 في المائة ومنهم 23 يزاولون أعمالاً حرة أي بنسبة 4. 3 في المائة، وقد ارتفعت نسبة المتعطلين في العام الأخير عام 1937 ارتفاعاً
كبيراً؛ فكان عددهم 76 من 98 متخرجاً أي بنسبة 77 ، 5 في المائة مما يدعو إلى الأسف الكثير. ومما يدعو إلى الأسف الأكثر أن 4. 3 في المائة فقط من المتخرجين جميعهم هم الذين ولجوا أبواب الإنتاج الحقيقي بمزاولة الأعمال الحرة
ولقد كان من السهل علينا الحصول على نتيجة حاسمة في هذا الموضوع لو أن كل معهد من معاهدنا احتفظ بسجل خاص بخريجيه يمكنه من عمل مثل الإحصائية السابقة وتقديمها لكل باحث في هذا الموضوع الهام الذي له شأن كبير في توجيه التعليم ورسم سياسته. وأعتقد أن وزارة المعارف لا بد أن تعنى به عناية جدية في عهدها الجديد المبشر بالخير. على أنه قد استجدت في مصر الآن حركة قوية غمرت معظم معاهدها، وأخذت بلب شبانها، ووجهت الكثيرين منهم وجهة جديدة، هي الانخراط في سلك ضباط الجيش العامل والمرابط، أو في زمرة عمالة، وهي حركة تبشر بالخير، وتنبئ عن صدق الوطنية وحرارتها، وتقابل من جميع المصريين بالتقدير والإعجاب، ولكنها حركة مؤقتة أوجدتها ظروف المعاهدة وظروف الحرب الحاضرة. وليس من الممكن أن تستنفد الكلية الحربية كل خريجي مدارسنا الثانوية، ولا أن تستنفد ملحقاتها من مدارس صناع الجيش ومصانعه كل خريجي مدارسنا الصناعية. وإذا كانت الكلية الحربية قد أخذت عدداً كبيراً من هؤلاء، وإذا كانت المدارس الحربية الملحقة بها قد أخذت عدداً آخر كبيراً من أولئك، فإنها في الوقت نفسه قد رفضت منهم العدد الأكبر وردتهم عنها رداً خيب آمالهم وآمال أهليهم في توفير عمل يضمن لهم العيش في المستقبل. . . ولا شك أنها سترد عنها في السنين المقبلة جموعاً غفيرة من هؤلاء الطلاب أكثر بكثير ممن ردتهم هذا العام، لأن استيعابها للعدد الكبير منهم الآن راجع كما أسلفنا لظروف الحرب وظروف تنشئة الجيش العامل والمرابط وتكوينهما وتسليحهما، وهي ظروف طارئة لا تلبث أن تزول، وبزوالها يعود الآلاف من شباننا من خريجي المدارس والمعاهد يتراكمون، كما قال المسيو كلاباريد في تقريره، كأنقاض الهدم لا يرجى منهم للإنتاج خير. ولذا أصبح لزاماً علينا أن نفكر جدياً في ربط معاهدنا بالحياة العامة حياة العمل والإنتاج ربطاً حقيقياً، كما فعلت قبلنا أمم وكما تفعل الآن الأمم الحية. على أننا نستقبل هذا العام الدراسي الجديد بخطوة طيبة خطتها وزارة المعارف نحو الإصلاح المنشود، وهي خطوة نادينا في تقاريرنا المتكررة إلى الوزارة بضرورة
تنفيذها منذ أكثر من عشر سنوات كما نادى بتنفيذها الخبيران الفنيان المستر مان والمسيو كلاباريد في تقريريهما قديماً إليها
تلك هي إنشاء المناطق التعليمية الجديدة، وهي خطوة حسنة تخلصنا من أعباء المركزية الثقيلة وقيودها ولكنها في نظرنا لن يكون لها أثر فعال في إصلاح معاهد التعليم وربطها بالحياة العامة حياة الإنتاج إلا إذا تخلصنا من أمر أشد ثقلاً على المعاهد من المركزية نفسها، لأنه يقيدها بأثقل القيود، وينهك قواها في مجهودات غير منتجة ويضطرها إلى التزام طريق خاصة تبعدها كل البعد عن الاتصال الفعلي بمصادر الإنتاج في الحياة العامة: تلك هي الامتحانات وأعباؤها. وإذا كان الثقات من علماء التربية الحديثة أمثال دكرولي ومنتسوري وديوي الخ يقررون أن المعاهد يجب عليها ألا تتصل فقط بمصادر الإنتاج المحيطة بها، بل عليها فوق ذلك أن تكون هي نفسها مصادر للإنتاج على نمط مصغر أو مكبر حسب ظروفها - فكيف يمكن لمعهد من المعاهد يضع نصب عينيه إعداد تلاميذه للامتحان في مسائل خاصة امتحاناً يعد هو الحد الفاصل في مستقبل تلميذه؟ كيف يمكن لمثل هذا المعهد أن يحيد قيد أنملة عن المنهج الخاص بذلك الامتحان أو أن يفكر لحظة في غير مسائل الامتحان الذي يرفع الناجح ويقضي على الراسب، لأنه يعد الحد الفاصل بين العلم والجهل وبين الذكاء والغباء كما يقرر أنصار القديم؟ وكيف يمكن لناظر أو مدرس أن يفكر في غير الامتحان أو أن يعمل لغير الامتحان وهو المسئول عن نتيجته ومن ورائه المفتش يعمل وينقب للوم كل من يخرج عن المنهج المقرر في أمر ما مهما كان الأمر هاما ومهما كان متعلقاً بحياة الطالب ومستقبله؟!
لهذا كله لا أشك في أن الامتحانات بعد تنفيذ اللامركزية أصبحت بصورتها الحاضرة هي العقبة الكأداء التي تعوق المدارس عن القيام بواجبها الحقيقي نحو أبنائها، إذ هي علاوة على ابتلاعها لوقت المدارس والمدرسين والنظار والطلاب وحرمانها إياهم من الاتصال المباشر بالإنتاج المحلي وتعرف دقائقه وأسراره ليست مقياساً مضبوطاً للكفاية كما نمت عن ذلك التجارب والإحصاءات وكما قرر ذلك أكابر الثقات، ثم هي فوق ذلك تحرم المدارس من العناية بشخصية التلميذ كفرد مستقل له ميوله الخاصة واتجاهاته الخاصة التي يعني بها الآن أكبر عناية في جميع المدارس الحديثة في البلاد الأخرى، كما أنها تعمل
على تنمية بعض قواه العقلية وإهمال البعض الآخر مما له أهمية كبرى في حياته، وتفقده لذة العمل للعلم ذاته علاوة على ما فيها من مرتع خصيب للغش وإفساد الأخلاق وقد كتبت عن مضارها فصلاً مطولاً في مؤلفي (التعليم والمتعطلون في مصر) من صفحة 198 إلى صفحة 213 بدأته بما يأتي:(إذا كان أظهر عيوب السلطة التعليمية المحركة للأعمال الفنية والإدارية عندنا هو المركزية فإن أظهر عيوب الأعمال المدرسية هو الامتحانات) وقد جاء فيه (وإذا كان علماء التربية في البلاد ذات التعليم الحي التي تربط تعليمها ومدارسها بالحياة العامة قد أجمعوا على أن الامتحانات ليست مقياساً حقيقياً للكفاية فإن مدارسنا لا زالت إلى اليوم تعتبر النجاح فيها هو الغاية الوحيدة التي ترمي إليها، وأصبحت الشهادة في نظر الجميع هي الدجاجة ذات البيض الذهبي التي تدر على صاحبها الذهب والفضة والخير والحياة السعيدة فهي الغاية التي ليس من ورائها غاية الخ)
وإذن؛ فقد وضح الآن أنه لا سبيل إلى جعل اللامركزية مجدية ومفيدة في سبيل إصلاح معاهد التعليم وربطها بحياة الإنتاج ربطاً يدفع بأبنائها إلى حياة العمل إلا بالتخلص من شر الامتحانات إما بإلغائها أو بتعديلها تعديلاً كبيراً يخفف من شرها ويفسح المجال للعمل بدونها. وإن مصر كلها لتضع آمالها في إصلاح حال التعليم وجعله منتجاً، في ذلكم المعلم الفذ الذي دانت لهمته الكبير ألوية الثورة المصرية قديماً كما دانت لشخصية القوية ونزاهته ألوية النهضة حديثاً، ذلكم المعلم الفذ القابض على زمام وزارة التربية والتعليم الآن الذي يجعلنا بماضيه المجيد نضع في جرأته وقوة شكيمته ومضاء عزيمته آمالنا في الإصلاح المنشود، سائلين الله تعالى أن يوفقه لخير العلم والتعليم، ولخير مصر والمصريين.
عبد الحميد فهمي مطر
في الأدب الإنجليزي الحديث
د. هـ. لورنس
للأستاذ عبد الحميد حمدي
4 -
الإباحية في الأدب
ينتمي الإنسان الحديث إلى إحدى طوائف ثلاث: فهو إما رجعي يخشى جسمه ولا يعرف بوجوده بحجة أن تفكيره كله مركز في الحياة الروحية دون غيرها، وهو لذلك يحارب كل ما يمت إلى الجنس بصلة وينكر على نفسه كل رغبة جنسية مهما كان مصدرها أو موضوعها. وقلما ينجو أمثال هذا الشخص من غضب جسمه عليه في آخر الأمر ومن ضربته القاضية التي يكيلها له دون ما هوادة أو رحمة. وليس أدل على هذا من الأخبار التي كثيراً ما نسمعها عن أساتذة كبار أو قساوسة نيَّفوا على الستين مع فتيات قاصرات ممن يتعلمن في مدارسهم أو يقصدن كنائسهم. وليس أمر هؤلاء بالمحير ولا تعليل ما فعلوا بالمعجز، فهم تنكروا لأجسامهم وكبتوا رغباتها، فكانت نتيجة ذلك أن اعتل تفكيرهم واختل ميزان عقلهم، فأتوا من الأعمال مالا ينطق على العقل في شيء
وهناك رجل آخر هو على النقيض من الرجل الأول، أرخى لجسمه العنان وعاش من أجل متعة جسده لا غير. فهو يرى في جسمه وسيلة إلى اللذة فأسرف في الانغماس فيها، لا فرق عنده بينها وبين أن يتناول كأساً من الكوكتيل أو غيره مما يشتهيه الجسد ويتلذذ به
وأخيراً يأتي النوع الثالث من الرجال وهم للأسف كثيرو العدد. ويمتاز هذا الرجل بعقل قذر لا يغذيه إلا كل قذر. فهو رجل يغرم بقراءة الكتب التي تبحث في العلاقة الجنسية، ولكن رائده في ذلك ليس تفهم فلسفتها أو الإفادة مما جاء بها، وإنما رائده التفتيش عن كل بذئ خارج، لأنه يجد في قراءته لذة لا تعدلها لذة أخرى. ونجد هذا الشخص ميالاً إلى الاستماع إلى القصص التي تعالج هذا الموضوع وكذا النكات والفكاهات فكأنهم يجعلون من أساس حياتهم وعمادها موضوعاً للهزل واللعب. وهؤلاء وأمثالهم يربأ لورنس أن يكونوا من قراء كتبه
ومن غريب الأمر أن يتكلم هؤلاء الطوائف عن لورنس ككاتب إباحي مفحش في القول، لا
فرق عندهم بين من قرأ منهم كتبه ومن لم يقرأ. ولا يضع لورنس كل اللوم على هؤلاء الناس، بل هو يوجه بعض لومه على القرن السابق الذي لا زالت تعاليمه مسيطرة على عقول الناس في العصر الحالي، تلك التعاليم التي أكل عليها الدهر وشرب، والتي ظهر خطأها وكان يجب أن يبطل العمل بها. وليس أدل على تأخر جيل من خضوعه لقيود الجيل السالف واستسلامه لتعاليمه، وإن ينطبق هذا على شيء فهو ينطبق على القرن العشرين الذي ما زال يرسف في أغلال القرن التاسع عشر على الأقل من الوجهة الاجتماعية. ففي مجتمعاتنا لا زلنا نحرص على التمسك بقيود أسلافنا، وحتى في الأفلام التي نشاهدها، وفي الكتب التي نقرأها، وفي الأحاديث التي نستمع إليها، مازال لهذه التقاليد أكبر سلطان علينا! فمثلاً لا زلنا نعتقد أن الجنس والعلاقة الجنسية هي من الموضوعات المحرمة التي لا يجب الخوض في بحثها، أو الإشارة إليها إلا متسترين، أو من طرف خفي. فالوالدان إذ يتحدثان إلى فتاتهما لا يزالان يقنعانها أنها يجب أن تكون في نقاوة الزهرة وطهر الملائكة، وهم إذ يشبهونها بالزهرة فإنما يقصدون أنها يجب أن تتخذ الزهرة مثلها الأعلى! ووجه الشبه الذي بينهما هو - في اعتقادهم - خلو كل منهما من الرغبة الجنسية. وأمثال هؤلاء القوم مخطئون في تشبيههم، فلا الزهرة خالية من الرغبة الجنسية، ولا الفتاة بمستطيعة أن تكون في غنى عن هذه الرغبة! والحقيقة أن للزهرة جنساً، وأن لها رغبة جنسية، وليس من العدل في شيء أن نحرم الفتاة مما لم تحرم منه الزهرة، بعد أن شبهنا الواحدة بالأخرى. ومع ذلك لا يفتأ الوالدان يكرران على مسمع الفتاة أمثال هذه الترهات حتى يأتي الوقت الذي تبغض فيه الجنس الآخر، وتنظر إليه نظرتها إلى عدو لدود، ولكنها بعد أن تنمو وتكبر وتصل إلى الدور الذي تبحث فيه عمن سيكون شريك حياتها، تصطدم بالفكرة الخاطئة التي غرسها في نفسها والداها، فيحدث عندها انقسام وصراع ينغص عليها عيشها ويفسد حياتها!
وليس في استطاعة أحد تعريف الإباحية أو تحديدها، بل هي في الحقيقة أمر نسبي كغيره من الأشياء النسبية، فما يعده شخص إباحياً، قد يعده شخص آخر غير ذلك، وما كان إباحياً في عصر من العصور قد لا يكون كذلك في عصر آخر وهكذا. فمثلاً كان الإنجليز في عصر كرمويل يعدون رواية (هاملت) إباحية لا يستسيغها ذوقهم ولا تتفق وتعاليمهم
الأخلاقية. . . وهانحن أولاء في العصر الحالي نعدها من بين أهم روايات شكسبير وأقواها، بل ومن أهم روائع الأدب العالمي. وعلى العكس من ذلك، يعد بعض الناس في عصرنا هذا روايات أريستوفانيس إباحية تخدش قوانيننا الخلقية وتنتهكها، ولكن هذا لم يمنع الإغريق من أن ينظروا إلى أريستوفانيس نظرة التجلة والاحترام ويضعونه في مصاف كتاب الدرجة الأولى
وإذا سألنا أنفسنا عن السر في اختلاف حكم شخص عن حكم شخص آخر أو حكم جيل عن حكم جيل آخر لما أعيانا السؤال أو استعصى علينا الجواب. وتفسير ذلك أنه ما من كلمة إلا ولها معنيان: المعنى الإجماعي، أو المعنى الشعبي وهو ما اتفق الناس عليه؛ والمعنى الخاص، أو المعنى الفردي وهو المعنى الذي يفهمه كل قارئ على حدة حسب تفكيره وخياله وتجاريبه. وليس في مقدور كل شخص أن يكوَّن هذا المعنى الفردي لأنه يتطلب من صاحبه أن يكون تفكيره من النوع العميق، وأن يكون خياله خصباً، وأن تكون تجاربه واسعة. وإن كتب لورنس لهي من النوع الذي يجب أن يعتمد القارئ فيها على المعنى الفردي، وإلا فهي أعمق من أن يسبر غورها أو يتفهم فلسفتها أو يحيط علماً بما بها. وإن أمثال هذا القارئ قليلون، ولهذا السبب كان عدد من يفهمون لورنس على حقيقته قليلاً؛ ولكن الغالبية من القراء يستسهلون قراءة لورنس عن طريق المعنى الشعبي الذي هو ابعد ما يكون عما قصده الكاتب. وهم لهذا السبب ينعتونه بأنه كاتب إباحي أو مفحش في القول. ولو أن أحدهم كلف نفسه مشقة سؤال عقله (هل ما أقرأ يصطدم وتعاليم عقلي الخلقية الصحيحة) لكان الجواب بالنفي. ولكن قليل هم من يفعلون ذلك، بينما يلجأ الكثير منهم إلى تلك القواعد والقوانين الخلقية التي ورثها عن أسلافه جيلاً بعد جيل ويطبقها على ما يقرأ وإذ ذاك يرمي صاحب الكتاب بالفحش والخروج على القوانين الأخلاقية. والحقيقة الواقعة هي أن ما يقرأ قد يجرح العينين لأنهما لم تألفا رؤية أمثال هذه الكلمات من قبل، أما العقل فهو يعرفها تماماً وطالما فكر فيها، فهي معروفة لديه مألوفة له، فهي إذن لا تجرحه ولا تتعارض وتعاليمه الأخلاقية
ويعتبر الناس أن كل ما يثير الرغبة الجنسية إباحي، وهم ولا شك مراءون مضللون يقصدون خداع الغير بعد أن نجحوا في خداع أنفسهم. ومن غريب الأمر أنهم مجمعون على
أن الكون لا تقوم له قائمة من غير الجنس والعلاقة الجنسية، وهم يعرفون تماماً أن هذه العلاقة كانت وما زالت وسوف تكون أساس الحياة في هذا العالم، وأننا لا نستغني قط عما يثير فينا الرغبة الجنسية، وإلا أنهار الكون وتقوض بناؤه. وفوق ذلك فهم يعتبرون بعض القصائد الشعرية واللوحات الفنية والقطع الموسيقية والروايات والقصص من روائع الفن أو الأدب، وهي كلها تعتمد على الجنس وقوامها إثارة الرغبة الجنسية. ومع كل هذا فما زال الاعتقاد سائداً بينهم أن الكلام في هذا الموضوع هو من المحرمات التي لا يجوز الخوض فيها. وهم يقصدون بالكلام في هذا الموضوع الكلام الجهري فقط، إذ أنهم لا يأنفون من خوض غمار هذا الموضوع ما دام التستر رائدهم وما داموا بعيدين عن أعين النقاد
والحقيقة التي لا شك فيها أنه ليس هناك أي ضرر من معالجة الكتب لموضوع العلاقة الجنسية، ما دامت لا تقصد من ذلك سوى منفعة الفرد وخدمته، عن طريق تنوير ذهنه وإرشاده إلى طريق الحياة السوي الصحيح. وأما ما يجب محاربته بشدة فهو تلك الكتب التي تنشر سراً بين الناس انتشار الأمراض الخبيثة، والتي تدلس العلاقة الجنسية وتسيء إليها كل الإساءة، والتي لا يبغي أصحابها من ورائها سوى منفعتهم المادية الشخصية. وإن سبب انتشار أمثال هذه الكتب انتشاراً ذريعاً وإقبال الناس على اقتنائها وتلهفهم على قراءتها هو ذلك الجو الغامض الذي أحاطه الناس جيلاً بعد جيل بالعلاقة الجنسية. فحب الاستطلاع الذي لا يخلو منه فرد هو الذي يدفع الولد والشاب والكهل إلى أن يختلي بكتاب من هذا النوع علَّه يقف منه على ما حرم من سماعه طيلة حياته. وإن انتشار هذه الكتب لهو أشد ضرراً وأسوأ عاقبة من قراءة الكتب الصريحة، وشتان بين الأثر الذي تتركه أمثال هذه الكتب، وبين الأثر الذي تتركه قصص بوكاتشيو مثلاً، مع أن الناس اعتادوا وضعها في مرتبة واحدة.
ولكن الغريزة الجنسية التي لا غنى للناس عنها تتطلب من الفرد تنفيساً عن رغباتها. فإذا ما جلب له هذا التنفيس الخزي والعار بين قوم لا يميزون بين الغث والسمين، عمد إلى وسيلة أخرى ينفس بها عن رغباته دون أن يعرف الناس عنه شيئاً. وليس لديه ما هو أقرب منالاً من العادة السرية يرتكبها ويسرف في ارتكابها، لأنها طريقه الآمن الوحيد الذي
لا يتعرض فيه لنقد ناقد أو تهكم متهكم. وقد هاجم لورنس العادة السرية بكل ما فيه من قوة لأنها في نظره سرطان المدنية الحديثة وداؤها العضال، فهي التي قتلت في الإنسان الحديث حيويته وتركته رجلاً وما هو برجل؛ فضلاً عن أننا نلمس في مرتكبها ثوب العار والمذلة الذي لا يخلعه عنه قط. وإنا لنلمس أثر العادة السرية في كتابات العصر الحديث، فكما أنه في العادة السرية ليس هناك شخص وموضوع بل هما واحد، كذلك في كتابات هذا العصر نرى أن موضوع الكتابة والكاتب هما شيء واحد، بمعنى أن الكاتب يعمد إلى شخصيته أو نفسه فيحللها تحليلاً دقيقاً ويبني على هذا التحليل كتابه. ومن أمثال هذه الكتب كتاب (يوليسيس) لجيمس جويس
وقد تنبه الناس في العصر الحالي إلى الضرر البليغ الذي ينجم عن إحاطة العلاقة الجنسية بجو من الغموض والإبهام، وأدركوا عظم الهاوية التي قد يجرفهم إليها تيار هذا الغموض، ولكنهم للأسف نجحوا في تشخيص المرض ثم عجزوا عن وصف الدواء. ففي محاولاتهم لقتل هذا الغموض قتلوا الجنس نفسه وأعدموا الرغبة الجنسية. فظهرت كتب عديدة تحاول أن توضح كل شيء في العلاقة الجنسية فكان من جراء ذلك أن زالت عنها كل قدسية، ومن أمثال هذه كتب ماري ستوبس وذهب فريق ثان إلى التغلب على هذا الغموض بأن انغمس في هذه العلاقة وأسرف فيها، وهؤلاء هم البوهيميون الذين كان من جراء تغاليهم في هذه العلاقة أن عرفوا كل شيء عنها، غير مدركين أن العلاقة الجنسية هي ينبوع مقدس يتفجر منه الماء بقوة إلهية، حتى إذا ما حاول الإنسان أن يكشف السر عن هذه القوة توقف تفجر ماء الينبوع ثم جف
فغرض لورنس الذي يرمي إليه هو أن يعالج الكتَّاب هذا الموضوع في شيء من الصراحة التي لا تحلل كل شيء بطريقة علمية حتى لا تفقد هذه العلاقة قدسيتها. وكذلك يريد لورنس أن يعلم الناس أن هذه العلاقة شيء مقدس لا خزي فيها ولا عار؛ فهو يريد أن يرفع من شأنها ويهيب بالناس أن يقدسوها التقديس اللائق بها، وفوق ذلك يريد لورنس أن يقول الإنسان ما يعتقد دون خفاء أو مواربة
ولورنس يكتب الآن لأقلية من القراء المفكرين واسعي العقول إلا أن الوقت سوف يأتي عندما يؤمن الناس به جميعاً ويدافعون عن آرائه ومبادئه ويعملون بما يبشر به، وهم إن
فعلوا ذلك فسوف يحيون حياة جديدة كلها هناء وكلها سعادة وكلها رفاهية.
(يتبع)
عبد الحميد حمدي
خريج جامعة أكستر بإنجلترا
على هامش الحرب
ثغر لا يتبسم
للأستاذ محمود غنيم
وقف الشاعر على شاطئ البحر فراعه ظلام شارع الكورنيش كما يقضي أمر الحاكم العسكري فأنشد هذه الأبيات:
الشطُّ داجٍ والسكون مخيِّمُ
…
ما بال ثغر الثغر لا يتبسَّمُ
عهدي به طلقاً بشوشَ الوجه إذ
…
وجهُ الطبيعة عابسٌ متجهم
ساد الظلام البحرَ حتى أوشكت
…
في الليل تخشى أن تُطلَّ الأنجم
فكأن أرواحاً (بوارسو) أُزهقت
…
فأقيم في مصرٍ عليها مأتم
البحر يغمره الظلامُ. فيا له
…
من عَيْلَمٍ يطغى عليه عيلم
لا نور في الآفاق إلا أن ترى
…
طيارةً قد طاردتها أسهم
أو حمرة الشفق التقت بعجاجةٍ
…
فكأن ماء البحر خالطه دم
أو طيفَ مصباح بدا وكأنه
…
يخشى من الغارات فهو ملثَّم
نور كنور النجم خلف الغيم أو
…
كهلال يوم الشك خافٍ مبهمُ
ولقد نظرت إلى المنار فما انثنى
…
طرفي. وهل يَثنيه جسم معتِم؟
قد عُطِّل المصطافُ من سُمَّارهِ
…
وانفضَّ من قبل الأوان الموسم
أقوت مسارحه وأغطش ليلُه
…
لا راقصٌ فيه ولا مترنِّم
قد كان يحيى الليلَ فيه معشرٌ
…
فتثاءبوا عند الغروب وهوَّموا
أين الملاح على ملاعبَ سيفِهِ
…
وكأنهنَّ به طيورٌ حُوَّم؟
جيش من الآرام كان مرابطاً
…
ما باله من غير حرب يُهزم؟
هذي عروس البحر أم أنا حالمٌ
…
ما بالها ليست كما أتوهم؟
ما ساهمتْ في الحرب إلا أنها
…
بالصمت عن هول الحروب تترجم
لكأن هذا الصمت بين مسامعي
…
طلقاتُ أفواهِ المدافع تهْزِم
كم كنت أغشاها فأنسى عندها
…
نفسي ويسبح بي الخيال وأحلُم
دنيا يفيض بها السرورُ وعالمٌ
…
مَرِحٌ وجو بالسعادة مفعَم
البحر كم أغرقتُ فيه لواعجي
…
واليوم ما بالي به أتبرَّم؟
يا بنت ذي القرنين عذراً إن نبا
…
بي مِقْوَليِ. قلبي بغيرك مغرَم
اللهُ يعلمُ قد نزلتك كارهاً
…
صدر يفيض أسى وفَكٌّ ملجَم
(الإسكندرية)
محمود غنيم
مدرس بالمعلمين
الخير والشر
للأستاذ ميخائيل نعيمة
سمعت في حلمي، ويا للعجب!
…
سمعت شيطاناً يناجي ملاكْ
يقول: (أي، بل ألف أي يا أخي
…
لولا جحيمي أين كانت سماك؟
ألَيسَ أنّا توأمين استوى
…
سرّ البقا فينا وسرّ الهلاك؟
أَلمْ نُصَغْ من جوهر واحد؟
…
إن ينسني الناس أتنسى أخاك؟)
فأطرق ابن النور مسترجعاً
…
في نفسه ذكرى زمان قديمْ
واغرورقت عيناه لما انحنى
…
مستغفراً وعانَق ابن الجحيم
وقال: (أي، بل ألف أي يا أخي
…
من نارك الحرَّى أتاني النعيم)
وحلَّق الإثنان جنباً إلى
…
جنبٍ وضاعا بين وشيِ السديم
ميخائيل نعيمه
في الهيكل
للأستاذ إبراهيم العريض
أنا منْ يُنكرُ النعيمَ إذا لمْ
…
أتمثَّلهُ في حياةِ أنفردِ
فإذا رُمتَ في الحياةِ كفافاً
…
فاجعلِ المستقرَّ في بطنِ واد
كلُّ رُكنٍ من جانبيْهُ مُصلَّى
…
قائمٌ فيهِ للطبيعةِ حاد
حيثُ ينصبُّ جدْولٌ في ائتلاقٍ
…
كالمَرايا تحتَ الشُّعاع الهادي
سالَ للشمس في الوِهادِ لعاباً
…
فاطمأنَّتْ بِهِ بطونُ الوِهاد
ساِحباً ذَيْلَهُ على كلِّ خافٍ
…
ناِفضاً بُرْدهُ عَلى كلِّ بادِ
كلمَّا هبَّتِ الرياحُ أصِيلاً
…
ماجَ كالطفلِ ناعساً في المهاد
وعلى ضفَّتَيْهِ باسقُ كرمٍ
…
لاحَ في مَعْزلٍ عن الوُرَّاد
بَكَّرَتْ طَيْرُهُ تُردِّدُ لحْناً
…
كِقيانٍ يَعْزفْنَ بِالأِعوادِ
فإذا ماجَ كالغَدائر ظِلُّ الش
…
مسِ قامت على الغصون تُنادي
وإذا زالَ زَاِئلُ الظِّلِّ. . غابت
…
بِينَ أوْراقِ وكْرِها الميَّاد
خَلْوةٌ ما خلَتْ بها النفسُ إلاَّ
…
تَتمنَّى لوْ لمْ تِعش في البلاد
عشت - يا قلبُ - في الليالي وَدوداً
…
والليالي لا تحتفي بالودادِ
فأخلُ بالنفسِ إن أردْت خلاصاً
…
منْ حياةٍ تموجُ بالُحسَّاد
تحتَ ظلِّ الكروم. . فوق بساطٍ
…
أخضر العشب، أحمر الأوراد
وبِعُنْقودِها الَجنِيِّ إذا عُتِّ
…
قَ عِشْ سالماً مِن الأحقاد
(البحرين)
إبراهيم العريض
حياتي
للأستاذ العوضي الوكيل
كأنَّ حياتي كوكبٌ أنتِ نورُه
…
وزهرٌ ومرآكِ السنيُّ عبيرُه
حييتُ ليحيا فيَّ رُوحٌ من الهوى
…
فَيهدِرُ في الدُّنيا ويحلو هديرُه
وتنسابُ في المِزمارِ منْ فيَّ نغمةٌ
…
هي القلبُ أوقد بُثَّ فيها شُعورُه
تجوزُ شعاب الأرضِ في رَوْنق الضُّحى
…
وتسرى بها والليلُ مرخىً سُتورُه
حياِتيَ بُستانٌ تطاولَ صمُته
…
وأقبَلتِ في نفسي فغنَّتْ طيورُه
ورقْرقَتِ الأنغامَ بيضاَء نَضْرةً
…
وفي اللحنِ ذوُ يُبسٍ وفيه نضيرُه
فكم ظاهرٍ عَبْر العيونِ تُكِنُّه
…
وكم مستكِنٍّ في الضلوع تثيرُه
(السنطة)
العوضي الوكيل
تعالي.
. .!
للأستاذ صالح الحامد العلوي
تعالي يا ابنة الفجِر
…
أشَعِّى النور في صدري
وبثِّي نشوة اللذا
…
ت والأفراح في نفسي!
فإنك عنديَ الدنيا
…
وكلّ جمالها المغري
وما في الكون من سحرٍ
…
ومن طهرٍ ومن قدسِ!
معاذ الله! ما ضاها
…
ك من شمسٍ ولا بدر
تمثل في جمالك حس
…
نُ أجيالٍ من الإنسِ!
تعالي زهرة الحبِّ!
…
أذيعي العطر في قلبي
وأحيي ميت الأحلا
…
م والآمال في جَدْبي!
هلمي نحي باللهو
…
ونغنم زاهر العمر
ونعمر غالي الأوقا
…
ت باللذات والأنسِ!
ففي خدي وفي خدي
…
كِ ماء للصِّبا يجري
وفي الكفين كأسٌ لل
…
هوى عذرية الغرس!
وقد ينضب ذاك الما
…
ء من نهرك أو نهري
وقد تنفد تلك الخم
…
ر من كأسكِ أو كأسي!
هلمي! بهجة القلب!
…
لندرك صفوة الحبِّ
وكلي مهجةٌ تصبو
…
وكلكِ فتنةٌ تصبى!
(حضرموت: سيوون)
صالح الحامد العلوي
هذيان.
. .
للأديب عبد العليم عيسى
مذهبي، لا مذهب الن
…
اس شُعاعي وحياتي
وسواء سَارَ بي للنُّ
…
ور أم للظلمات
أنا وَحدي في سبيلي
…
مشعلي الهادي حصاتي
لا أبالي ضجة الأح
…
باب حولي والعداة
تاركاً نَسل التراب يتلهى
…
بالسراب وأمانيه الكذابِ
فلُيلم من شاء إني
…
راسخ كالطودعات
ساخر من كل ماض
…
فوق دنياي وآت
نَقَروا الأعواد للعر
…
س وضجوا بالنشيد
وأنا وحدي نقرْت ال
…
عودَ للنعش السعيد
لست بالباكي على الس
…
ارب للقبر المبيد
لَا. . ولا بالهاتف الشَّا
…
دي إلى الطفل الوليد
نحن دنيا من حبابِ نَتَبدَّي
…
للذهابِ بعدهمّ واكتئاب
فلماذا أرقص الأن
…
غام للعرس الرغيد
وهو في عيْنيَ وهم
…
من ضَلَالاتِ العبيد
أتركوني. . أنشد الأل
…
حان سكران طروبا
أتركوني. . أوقظ الأط
…
يار والزهر الحبيبا
لا تضجوا حول روحي
…
وكفى روحي لغوبا
فَأنا هيمان في الدن
…
يا وإن كنت كئيباً
أتسلَّي عن عذابي بنشيدي
…
المستطاب مثل عصفور الروابي
وسواء كنت للنا
…
س عدواً أو حبيباً
فَأنا لا أعرف النا
…
س وإن كنت قريباً
(دمياط)
عبد العليم عيسى
رسالة الفن
دراسات في الفن
شيء ليس في الكتب. . .
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
. . . وقابلتني مرة أخرى صديقتي التي قدمتها إليك في الأسبوع الماضي وكانت كعادتها غاضبة، ولكنها في هذه المرة كان غضبها بالغاً نهايته من قبل أن تراني، وقد رأتني قبل أن أراها فلم أنتبه إليها إلا بعد أن وكزتني وهي تقول:
- أهكذا يكتب الناس في الصحف السيارة ما يدور بينهم وبين صديقاتهم من أحاديث، حتى إذا قرأها من يعرفونهم ويعرفونهن وقفوا على ناحية من تفكير فتاة تحب أن يعرف الناس عنها أنها مقطوعة الصلة بالرجال وأحوال الرجال ونفوس الرجال؟. . . أم أنت آليت على نفسك تخويف العرسان؟ حقاً إنك قليل الذوق!
- عفوك يا آنستي عفوك، فما أقصد إلى شيء من هذا، وإنما أدعو الله لك بالتيسير كما أسأله لك الصون. ثم أنتهزها فرصة لأسألك ما هو الذوق؟ هذا الذي تقولين إن نصيبي منه قليل. . .
- هو فضيحة جديدة تزفها بأجراسها للرسالة. سأشكوك للأستاذ الزيات!
- ليس للأستاذ الزيات شأن في هذا. فأجيبي وقولي: ما هو الذوق؟ أم أنت تقولين مالا تعرفين؟
- لا أعرف هه! فما هو الذوق يا ذواق؟. . .
- وأنا أيضاً لا أعرف
- إذن ففيم كانت هذه الأستاذية المنفوخة في سؤالك؟
- كانت في السؤال يا آنستي. . . أما تعرفين أني أستاذ في الجهل، والسؤال سألته بحثاً عن المعرفة؟ وهلا تحبين أن نتعرف الذوق معاً؟
- أتعرَّف الذوق معك أنت؟ وهل أنت تريد أن تعرف الذوق. . .؟
- بنعمة الله أردت. وإني أراك لا تعرفينه فقد وقفت عن تعريفه، فلم لا نتعرفه معاً. . . إنه
شيء ليس في الكتب!
- لولا أنك مر!
- يا توفيق الله! من هنا نبدأ. أنت تصفين إنساناً بأنه مُر، بينما الإنسان شيء لا يؤكل ولا يشرب حتى يعرف له طعم فكيف سولت لك نفسك هذا الخلط؟
- وأنا مالي! أتريد أن تحاسبني على اللغة أيضاً؟ هم الناس يقولون هذا عندما يريدون أن يصفوا إنساناً بأنه. . . بأنه مر!
- إذن فأنت مقلدة في هذا. . . وسنفرض أيضاً أن كل من يصف الإنسان بالمرارة مقلد في وصفه. . . ولنمض إلى أن نلتقي بأول من وصف إنساناً بهذا الوصف. . . ولنسأله: كيف سولت له نفسه هذا الخلط؟
- سيقول إنه تشبيه
- ونحن أيضاً نقول إنه تشبيه. . . ولكن كيف نشأ هذا التشبيه في ذهنه، وكيف قامت عنده هذه العلاقة بين الإنسان وبين المرارة وهي طعم من الطعوم لا يمكن أن يصل إلى الذهن إلا في أعصاب الجهاز الهضمي؟
- ما للجهاز الهضمي وما نحن فيه؟
- ليس للمرارة مدخل إلى الإنسان إلا من هذا الطريق. . . من الجهاز الهضمي وحده فلن نعدل في تفهم الذوق عن هذا. . وسنبدأ بتقدير حقيقتنا الأولى، وهي أن أول من وصف إنساناً بأنه مر لابد أن تكون أعصاب جهازه الهضمي قد أحست المرارة منه فعلاً. . . وعلى هذا القياس يكون أول من وصف إنساناً بأنه حلو قد أحست أعصاب جهازه الهضمي فيه بطعم السكر فعلاً. . وهكذا. .
- إذا وجدت إنساناً معك يوافقك على هذا الكلام، فإني أعاهدك أن أقوم لك مدى الحياة خادمة، وعلىَّ دخانك! إن هذا الذي تقول لا يصح إلا عند نيام نيام حيث يأكل الناس بعضهم بعضاً فيتذوق بعضهم مرارة ذبيحته أو حلاوتها!
- وأنت لا يصح الذي تقولين، إلا إذا كان عقل الإنسان آلة مضطربة لا نظام لها ولا قانون، ولكن للعقل نظاماً وقانوناً، أفإذا قال هذا علماء النفس آمنت، فإذا قلته أنا تستهزئين؟
- لأنك تريد أن تخرج منه إلى نتيجة مضحكة!
- ليس ذنبي، ولا ذنب ما أقوله أنك تضحكين، اسكتي، ولنمضي. . . والله المعين.
- أنا معك. . . فماذا تريد أن تقول؟
- أريد أن أعود فأصلح ما قلت لأنه كلام سخيف
- ليتك تريد أن تعرض نفسك على طبيب حكيم. أما قلت لك إن الذي تقوله ليس شيئاً غير كلام المجانين. . .
- لا يا آنستي، إنه كلام معقول معقول، وكل ما في الأمر أنه سخيف، فلو أننا برأناه من السخف لصلح. ومن يدري فربما أصبح حقيقة علمية فيما بعد. اسمعي
- هاأنا ذي سامعة. وإني لا أسألك يا رب رد القضاء وإنما أسألك اللطف فيه
- المعروف أن الجهاز الهضمي لا يرسل إلى المخ إشاراته إلا بعد أن تؤثر فيه مؤثرات كيميائية. . . أليس كذلك؟
- إنه كذلك
- ونحن نريد الآن أن نعرف: ألا يمكن أن يرسل الجهاز الهضمي إلى المخ إشاراته هذه بغير وجود هذه المؤثرات الكيميائية؟
- يمكن هذا. . . عندما يتذكر الإنسان طعماً من الطعوم
- ليس هذا التذكر إلا استعادة داخلية تلقائية تحدث في المخ وتسترجع بها صورة لحالة فاتت. . . فهو من نوعها. . . ولكنه على أي حال يفيدنا دليلاً أو قرينة على أنه من الممكن أن يتصور الذهن أو أن يدرك طعماً من الطعوم بدون حاجة إلى المؤثر الكيميائي
- حسن. وهل تحسب أن هناك مؤثراً غير هذا المؤثر الكيميائي؟
- ولم لا؟ ألا يمكن أن يكون هناك مؤثر كهربائي مثلاً؟
- تريد أن تقول إننا عندما نرى إنساناً ممن نصفهم بالحلاوة مثلاً، يجري منه تيار كهربائي فيدخل هذا التيار إلى أفواهنا أولاً، ثم تمضغه أسناننا، وتلوكه ألسنتنا، ثم ينزلق في المريء إلى المعدة، وفي أثناء هذا ترسل أعصاب الجهاز الهضمي إشارات إلى المخ تدل على أن هذا الإنسان حلو؟!. .
- لست أريد أن أقول هذا بالضبط، وإنما أريد أن أقول شيئاً يشبهه. على أني لا أرى ما يمنع من إقرار هذا الذي تقولين، وتعززه عندي مشاهدات فطرية ليس من الحكمة أن
ننكرها أو أن نغفلها
- وما هي مشاهداتك هذه؟
- سأذكرها لك، ولكني أرجوك ألا تشمئزي منها فالحق لا يعرف الاشمئزاز ولا التقزز. . . لا تؤاخذيني. . . ألم تبصقي يوماً على إنسان رذل؟ أو في موقف رذل؟ ثم. . . ألم يسل لعابك يوماً استجابة لحلاوة. . . طفل أو طفلة. . . أو موقف حلو؟!. . أجيبي. . .
- ما هذا (القرف)؟
- عدنا إلى تردد النساء ووجومهن عن الحق؟ أجيبي. . . ألم يحدث لك شيء من هذا؟ أما أنا فقد حدث لي كثيراً، كما أني أعرف أناساً كثيرين حدث لهم مثل هذا، وإني أعفيك من الإجابة عن هذا السؤال وأفرض أنك مخلوقة عجيبة لا تخضعين للقوانين التي تسري على غيرك من الأبشار. . . وأسألك لماذا يحدث للناس ما عداك طبعاً. . . هذا الذي ذكرناه؟. . هل هو تأثير كيميائي أيضاً؟
- لا أظن!
- إذن فهو غير التأثير الكيميائي، وأنا أقول إنه تأثير كهربائي. صحيح أنني لا أستطيع أن اثبت هذا إثباتاً علمياً يقوم على أساس من التجربة الدقيقة. . . ولكن. . .
- ولكن هذا الكلام لا يمكن أن تقوم له قائمة إلا إذا أثبته
- وأنا لا يعنيني كثيراً ولا قليلاً أن تقوم له قائمة، فلا أنا متعلق به ولا أنا حريص عليه. . . بل إني أحب أن أمحوه لأثبت مكانه شيئاً آخر أحبه أكثر مما أحب الكهرباء، وهو الروح
- ولماذا لا تقصد إلى ذلك رأساً ما دام هذا هو غرضك؟
- لأن الحديث عن الكهرباء في هذا الزمن أيسر قبولاً عند الناس من الحديث عن الروح، وقد يجد من يقتنع به في سهولة بل إنه قد يجد من يحاول إثباته. . . وربما وجد من يثبته
- فأنت تخادع محادثك وتتملقه
- بل إني أستدرجه. . . دعيني من هذا، وعودي بنا إلى ما كنا فيه. . .
- وفي أي شيء كنا؟
- كنا نتحدث في (كهربات) الناس
- ياله من موضوع!
- إنه لا يزال أشتات موضوع ولما يتجمع. . . والآن نريد أن نعرف. . . ألا تختلف الكهرباء في المعادن والعناصر؟
- إنها تختلف. . . فنحن إذا دلكنا الكهرمان بالصوف أو الحرير انبعثت منه الكهرباء، ولكنها لا تنبعث منه إذا دلكناه بالقطن مثلاً. . .
- حسن. إن في هذا ما يشبه ذلك السر الذي يوفق بين ناس وناس، وينفر ناساً من ناس. وقد يكون في هذا أيضاً سر الإذن الذي أباح به الإسلام للرجل أن يتزوج من أربع نساء
- إن هذه قفزة عجيبة أريد لها توضيحاً. . .
- ألا تستطيعين أنت أن تذهبي وحدك إلى هذا التوضيح؟ الرجل كالكهرمان، والنساء كالصوف والقطن، ولكنهن أربع والصوف والقطن اثنان
- ولكن النبي محمداً تزوج أكثر من أربع. . .
- إنه النبي محمد الذي كانت كل كلمة من كلماته درساً، والذي كان كل عمل من أعماله حكمة. . . وهو قد أحب خديجة حباً، وأحب عائشة حباً، وأحب زينب بنت جحش حباً، وهكذا. . .
- ألا ترى أننا ابتعدنا عما كنا فيه. . . عد بنا إلى الكهرباء
- لا أريد أن أقول شيئاً بعد هذا. . . إلا أنه قد أصبح من السهل على هذا الأساس الذي وضعناه أن ندرك السبب في اتفاق مشارب الناس وفي اختلافها. والاتفاق هو الذي يحشد بعض الجماهير وراء بعض الفنانين إذ تجد الجماهير في الفنان قائداً يقودها إلى ما تحبه وترتاح إلى الإحساس به، وينأى بها عما تكرهه وتتقزز من الإحساس به. وهذا هو ما يسمونه الذوق؟
- ولكن علماء النفس أدركوا هذا السر قبل أن تدركه أنت، وقالوا أن الناس أمزجة، وقسموا أمزجة الناس إلى أربعة: اللمفاوي، والسوداوي، والدموي، والصفراوي. وأرجعوا نشأة هذه الأمزجة إلى إفرازات تفرزها غدد خاصة في الأجسام. ولقد أعانهم علماء الطب والتشريح على مذهبهم هذا فأثبتوه لهم، وأنت تلقي كلاماً على عواهنه وتريد مني أن أصدقك وأن أعرض عن كلامهم من غير برهان تسوقه؟
- لا يا آنستي. . . أنا لم أطالبك بشيء من هذا. ولكني أذكرك بما يكون قد غاب عن
ذاكرتك، وهو أن الفلاسفة الأقدمين قد قسموا أمزجة الناس إلى طبائع أربع أيضاً فقالوا إن من الناس من هو ترابي، وإن منهم الهوائي، وإن منهم المائي، وإن منهم الناري. . . وقد أندثر تقسيم الفلاسفة القدماء ولم يعد أحد يأخذ به وحل محله كلام أطبائك وعلماء نفسك!
- ولعلك تريد أن تقول إن مذهب حضرتك هذا هو الذي سيحل محل مذهب الأطباء وعلماء النفس؟
- العفو! ولكني أعود إلى السؤال الأول الذي بدأنا به هذا الحديث والذي جرنا إلى هذه النهاية المربكة. . . كيف وصف الواصف الأول إنساناً بأنه حلو أو أنه مر بينما هو لم يذق له طعماً؟
- إنه تشبيه
- بهذا أجبت في بادئ الأمر. فهل تريدين أن ندور؟. . .
عزيز أحمد فهمي
رسالة العلم
لحظات الإلهام في تاريخ العلم
تأليف مريون فلورنس لانسنغ
5 -
الشعر المستعار والمسحوق
في صباح يوم من عام 1708 حدثت متاعب في بلاط سكسونيا الملكي؛ فإن الأمير أغسطس الملقب بالقوى قد غضب
وكان أغسطس متى غضب لا يكتم غضبه بل يترك كل من يتصل بهم يحسون سوء مزاجه سواء في ذلك الخادم الذي يحمل إليه الطعام، والسائس الذي يمسك بزمام جواده. ولم يكن يعد أحداً من أهل منزله أصغر من أن يعنيه اهتمامه؛ فلا شيء أقل من إشراكه في غضبه ما دام في هذه الحالة
قال (أوتو) خادم المائدة همساً (لأولرتش) الوصيف: (متى بدأت هذه الحالة؟)، وقد ألقى عليه هذا السؤال عندما رمى أغسطس بالمائدة التي أمامه ومشى مغضباً من غرفة الطعام، وهو يصرح بأن اللحم الذي أكل منه والذي كان سروره منه بادياً لا يصلح للرمي للخنازير في الإسطبل، وقال إن كل شيء كان جميلاً عندما جاء من بولونيا في مساء الأمس
قال أولرتش: (ربما كان ذلك لأمر من أمور الدولة؛ فقد قيل إنه سيكون ملكاً على بولونيا إذا سارت الأمور بين النبلاء على ما هي عليه الآن)
فتطوع الحاجب الذي كان مصغياً إليه بقوله: (لقد ذهب في هذا الصباح إلى المصنع)
قال أولرتش: (هذا إذن هو السر. ففي هذا المكان سحر وزيارته لا تؤدي إلى خير)
فقال الحاجب مستغرباً: (ما الذي يصنعونه هناك؟ إنني أراهم ينقلون إليه زجاجات عجيبة الشكل وقناني ثقيلة، ولكن أحداً لم يسأل متى يكون إخراج هذه الأشياء. ولم يحاول أحد الدنو من الأبواب المخفورة ليرى ماذا يحدث بداخلها
قال أولرتش محتداً: (لا ترفع صوتك يا بنيَّ، وكف عن الطواف حول السلم المؤدي إلى الحصن، هذا إن كنت تحرص على مركزك هنا، والأفضل أن تبقي عيناك مغمضين، وأذنك كذلك ما دامت قوات الظلام تعمل).
فقال أوتو وهو يبتسم للحاجب المنزعج: (كلا، لا تقل ذلك، فلا وسيلة لإرسال شاب قوي الروح إلى الشيطان لمطالبته بأن يدنو منه وهو مغلق العينين خوفاً من أن يراه. إن الهر (بوتجر) ليس من أمراء الظلام، فيلقي عليك سحره يا بنيّ، ولكن عمله يتعلق به وبالدوق أغسطس، وهما لا يحبان الفضول ولا يحبان تدخل الفضوليين)
قال الصبي وقد بدا عليه الاهتياج الشديد: (ولكنهم يقولون إن الهر بوتجر ساحر، وإنه لما كان يتمرن على فن الصيدلة في برلين لم يكن أستاذه أقل من الراهب اليوناني لاسكا بريس نفسه). . .
فقال أولرتش: (أرأيت نتائج تصرفك يا أوتو؟ لقد امتلأ رأس الصبي بالأقاصيص منذ الآن، وهو يعرف أن الفنون الملعونة فنون الكيمياء تمارس في الحصن. تكلم عنها إذا شئت، وإذا وجدت من نفسك الجرأة على الكلام. أما أنا فأني أعتقد أن الحوائط لها آذان مادام الحديث يسفر عن شر)
ومشى أولرتش غاضباً. فقال الصبي: (ولكن يا أوتو. . .
يا أوتو الرقيق. . . أخبرني. . . فأنت تعلم أني حديث العهد بخدمة القصر، وأنت على حكمتك بعيد العهد بهذه الخدمة!
قال أوتو: (نعم يا بنيّ، لقد كنت هنا لما جاء بوتجر، وكان عمري إذ ذاك ستة عشر عاماً، وكان بوتجر نفسه قاصراً تحت وصاية النبيل أغسطس)!
فقال الصبي: (ولكن لماذا كان فراره ومتى جاء؟).
قال: (لقد فر من برلين، وكان بها في الواقع تلميذ كيمياء ولكنه وأستاذه لاسكاريس عثرا على أثناء الدراسة على شيء جعل حياتهما في خطر، ويقولون إنهما تمكنا من الوصول إلى حجر الفلاسفة نفسه، وإن الدوق الطامع الذي تحت حمايته أراد أن يسجنهما خشية أن يفشيا سر استكشافهما إلى سواه!
قال الحاجب وقد حملق في دهشة أمام أوتو: (حجر الفلاسفة! أهذا هو الذي يحول كل مادة تلمسه إلى ذهب؟).
فقال أوتو: (نعم هو هذا الحجر، وقد سر مولانا أغسطس من إيواء كميميائي ذكي قد يكشف عن هذا السر في يوم من الأيام
قال: (وهل عرفه؟). فقال: (لا. وأظن أن هذا هو السبب في مجيء مولانا أغسطس مغضباً من المصنع. لقد فعل أغسطس كل ما في وسعه أن يفعله، ولخوفه من ألا يستطيع غلام في عامه السادس عشر أن يصل وحده إلى هذا السر استقدم الهر والتر فون تشر ناهوس الحكيم - وهو أستاذ في الكيمياء وفي كافة العلوم - واشتغل الرجلان معاً عدة أيام ولكنهما لم يخرجا من المعمل إلا بعض أوان من الخزف الأحمر؛ فإن لم يكن هذا هو كل ما فعلاه فإنه على الأقل كل ما رأيته. وكان شكل هذه الأواني جميلاً لو أن الذي يعني المرء هو لون أطباقه. وكان السيد معجباً بهذه الأطباق حتى لقد أرسلها إلى ليبزج حيث أحدث وصولها حركة غير عادية كما علمت. ولكن الذي يبحث عن السحر الذي يمكن بواسطته تحويل كل المعادن الدنيا إلى ذهب، لكن هذا الذي يبحث عن السحر فلا يجد إلا أطباقاً حمراء والناس كلهم يعلمون أن الطعام طعام سواء أكل في أطباق من الخشب، أو أطباق من الخزف العادي، أو في تلك الأطباق الجميلة الحمراء، فله العذر إذا غضب
قال الصبي: (ولكن أين هو الهر والتر؟ إنني لم أره)
فأجابه: (لقد مات منذ شهرين ومن أجل ذلك كان من نذر السوء على الهر بوتجر ألا يقع على السر سريعاً كما يدل على ذلك ما يبدو من نظرات الشر على عيني مولانا، ولكن تعال أيها الصبي، فيجب أن نؤدي أعمالنا الآن لا أن نقف فنتحدث كأننا بعض النساء العجائز، لكنني لا أحب أن يزعجك الصديق أولرتش الذي يظن كما يظن الكثيرون في هذا القصر أن أمير الشياطين مقيم في الحصن، وأنه يأتي متى استدعاه جارنا بوتجر).
ذهب أرتو ولكن متاعب ذلك اليوم لم تنته؛ ثم فتح الباب على الأثر، ودخل أستاذ الكيمياء الهر بوتجر الذي قلما يخرج من الحصن، وكان في هذه الساعة مهتاجاً كما كان أغسطس منذ ساعة مضت!
مشى بخطوات طويلة وهو يحرك شعره المستعار الذي نُثر فوقه مسحوق، وكان قد اعتاد أن يضعه فوق رأسه المستطيل الضيق فيكسبه هيبة، ونادى بصوت مرتفع ذلك الوصيف الذي يذر المساحيق فعرف هذا الشعر.
فقال الحاجب في إحجام: (هل لي أيها السيد أن آخذها إليه إذا كان المسحوق الذي وضعه ليس جيداً)
صاح الكيميائي: (ليس جيداً! أين هو الذي وضع هذا المسحوق؟ أين هو المسحوق؟ من أين أتى به؟ يجب أن أحصل على مقدار منه في الحال؟)
ثم خرج من الردهة وفي يده شعره المستعار وشعر رأسه مشوش. فقال الصبي وهو يشير إلى نفسه بإشارة الصليب أثناء تحدثه: لست أعرف أيهما المحق أولرتش أو أوتو؟ لقد بدا لي الهر بوتجر في هذه اللحظة كأنه مجنون، وكأن قوات الظلام تطارده.
نحن الذين أتيح لنا أن نجتاز السلم، وقسم المعمل في الحصن الذي بدأت به هذه الأعمال الغامضة نعرف أن الهر بوتجر لم يخرج كالمجنون للبحث عن الوصيف الذي ذر المسحوق على شعره المستعار لأنه فعل ذلك على صورة لم يرضها بل لأنه سر من هذا المسحوق إلى درجة غير عادية، وكان يريد جزءاً من هذا المسحوق الثمين الذي وجده، وهو لا ينتظر ذلك، فوق شعره المستعار أكثر مما أراد أي شيء آخر منذ عهد طويل
وكان أوتو مصيباً في قصته في الحدود التي تناولها ولكنه يسلم بأنه لم يدخل المعمل ولا يعلم ماذا يحدث به إلا عن طريق الإشاعة. وقد كان بوتجر وزميله والتر فون تشر فاهوس كسائر الكيميائيين في عهدهما يبحثان عن حجر الفلسفة الذي يحول كل المعادن إلى ذهب. ولكن أغسطس كان يبحث عن أكثر من هذه الخرافة، وقد اتضح فيما بعد أنها خرافة، كان الرجل عملياً كما كان رجل ثقافة. وبما أن عصره كان عصر استكشاف وسياحة، فقد كان اهتمامه شديداً بمعرفة ما تفعله الشعوب الأخرى في تجاريبها العملية وفي فنونها، وقد جمع في العهد الأول من حياته أسلحة ودروعاً من كل الممالك الأوربية، ومن البلاد المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط. وكان تحمسه في العهد الأخير لجمع المصنوعات الفضية والمجوهرات، وكان لديه من ذلك مجموعة نفيسة، وكلتا مجموعتيه أو الباقي منهما لا يزال موجوداً في هذا اليوم في متاحف سكسونيا بين أفضل المعروض من كنوزها.
وحوالي الوقت الذي لجأ فيه إليه بوتجر ملتمساً حمايته، كان اهتمامه بالغاً نهايته بالأواني الصينية التي جاء بها تجار الألمان إلى أوربا من البلاد النائية في الصين واليابان!
كان في أوربا في سنة 1700 أوان من الحجر ملمعة بأملاح وكان استعمالها شائعاً، وكذلك كان فيها أوان ملمعة بالقصدير، وكان الأغنياء خاصة يستعملون نوعاً من الأواني مغطى بطبقة من الميناء، ولكن هذه الأنواع كانت من نوع الأواني ذات القشرة التي تستعمل
اليوم، فإذا ذهبت القشرة بمضي الزمن وكثرة الاستعمال، فإن الطينة تظهر من تحتها، وهي فضلاً عن شكلها العامي ذات مسام، وإذا وقعت نقطة من الماء محتوية على شيء من الدهن في الموضع الذي تقشرت فيه الميناء، فإن هذه النقطة تتسع حول الثقب، وتترك أثراً قبيح الشكل.
وكانت مجاميع الأطباق الواردة من الصين صافية جميلة يستطيع المرء أن يضع إحداها بين عينيه وبين النور، فيتبين أنها مصنوعة من معدن واحد، وهي فضلاً عن ذلك رقيقة خفيفة. . .
وكانت هذه المجاميع كنزاً في نظر رجل مثل أغسطس مشغوف بجمع التحف، فكان يشتريها بأي ثمن ويقدرها لجمالها ولحسن صناعتها. وقد بلغ من شغفه بها أنه تخلى لملك الفرس عن طائفة من جنوده طوال القامة مدربين كسائر رجال الحرس السكسوني في مقابل مائة قطعة من هذه الأواني الشرقية كان الملك الفارسي قد جمعها.
وكان أغسطس قانعاً في البداية بجمع الأواني من الخارج؛ ولكن في الوقت الذي أنشأ فيه (بوتجر) معمله في قصره طمع الناخب السكسوني في أن يضع تحت رعايته مثل الذي يقتنيه
وتساءل، عن السبب الذي من أجله يصنع الصينيون أواني جميلة، بينا المهرة من الصناع ومن الكيميائيين الأوربيين لا يصنعون الأواني إلا من الطين ملمعة أو مغطاة بالميناء
وعهد بعلاج هذه المشكلة إلى كيميائيه الصغير فكانت النتيجة ظهور الفخار الأحمر في أسواق ليبزيج سنة 1707؛ وكان هذا الفخار يصنع من الصلصال الذي وجده فون تشر تهاوس قرب مدينة درسدن
وكان هذا الفخار الذي يصنع في ألمانيا فخاراً جميلاً ولكنه لا يزال بعيداً عن الأواني البيضاء التي تكاد تكون شفافة والتي تصنع في الصين. وقد ملَّ بوتجر من مطالب سيدة الأمير بعد أن صنع الفخار الأحمر. وحاول الفرار من سكسونيا وإنشاء مصنع تحت رعاية سيد أقل سيطرة من أغسطس. ولكن هذا الأخير جاء به إلى القصر القديم الذي يقيم فيه وسجنه في حصنه وإن كان أوتو وأولرتش لا يعلمان ذلك. وقد فرض عليه أن يبقى سجيناً حتى يصنع مثل الأواني العجيبة التي تصنع في الصين
كانت هذه هي الحالة إلى اليوم الذي نتحدث عنه، ومع أن الكيميائيين قد أطالا البحث فإنهما لم يستطيعا أن يجدا أي صلصال يمكن صنع الفخار الأبيض منه
وفي الصباح الذي ذكرناه وضع الكيميائي على رأسه شعره المستعار وهو ذاهل الذهن واستمر على عمله، ولكنه شعر بثقل وباكتئاب، وأخيراً خطر بباله أن الشعر المستعار أثقل من العادة فنزعه ليرى سبب غنائه فوجد أن المعدن الأبيض الذي ذر على الشعر المستعار معدن لم ير مثله من قبل، وقد وضع خطأ بدل المسحوق العادي
ولما عثر بوتجر على الوصيف الذي وضع هذا المسحوق سأله عن سره وأخبره الخادم المذكور أنه لم يكن سيئ القصد في إحداث هذا التغيير وأخبره أن رجلاً أسمه شنور وجد محجراً يتخرج منه هذا المسحوق بالقرب من قرية (أو) وباع له جزءاً مما استخرجه منه، وقال هذا الخادم إنه وجده أصفى بياضاً وأليق بالشعر المستعار، لأنه سيبقى مدة أطول
وفحص بوتجر هذا المسحوق كما لا بد أن يكون قد تبادر إلى ذهنك واستنتج أنه على الأرجح هو الكاولين الذي طال البحث عنه والذي كان السياح الآتون من الصين يتحدثون عنه
وعلى أثر هذا الاستكشاف ذهب بوتجر إلى ذلك المحجر واشتراه باسم أمير سكسونيا، وتمكن من صنع عجينة من صلصال كالتي يصنعها الصينيون
وفي سنة 1710 لم يكن في سوق ليبزج تلك الأطباق التي تصنع من الفخار الأحمر فقط بل وجد إلى جانبها نماذج قليلة من فخار أبيض صنعه فون فردريك بوتجر تحت رعاية أغسطس الأول أمير سكسونيا
في العام التالي صار يصنع الفخار المعروف باسم (مسين) في حصن (مسين) بالقرب من درسدن، وبدأت صناعة الفخار السكسوني، وهو النوع المشهور الذي يصنع في درسدن.
ولم يستفد بوتجر المسكين إلا قليلاً من استكشافه هذا. فإن أغسطس الذي أصبح في الوقت نفسه ملكاً على بولونيا، كان حريصاً على سر صناعة الصيني مثل حرصه على أمواله ومثل حرص الصينيين على سر صناعة أوانيهم.
وكان العمال الذين يشتغلون في هذه الصناعة يسجنون في الحصن ويحملون على أن يقسموا على الاحتفاظ بسر صناعتهم إلى أن تطوى عليهم القبور، وكان بوتجر نفسه في
حكم السجين وكان مع إشرافه على مصنعة يتابع دراسته لسر استخراج الذهب مع متابعته صنع الفخار.
وفي عام 1716 حذق صنع الفخار فأصبحت الأطباق من الوجهة الفنية في درجة الكمال التي بلغها الصينيون في هذه الصناعة ومات في سنة 1719 وهو في الرابعة والثلاثين من العمر ولا يزال إلى اليوم في معارض درسدن قطع من ذهبه الكيميائي وهو ثمرة محاولته الجدية إلى جانب مصنوعاته الخزفية، ومن المشكوك فيه أنه تبين أهمية استكشافه للنوع الأخير بالنسبة للعالم الغربي بأسره.
لقد ترقى القرن الثامن عشر بواسطة هذا الاكتشاف وقد ذلل بوتجر صعوبة الحصول على خزف صلب أبيض شبيه بالشفاف فالنوع الذي أنتجه من الصيني نموذج لكل ما بين أيدينا اليوم من الخزف
ووجدت محاجر الكاولين (صلصال الخزف) في ليموجيس في فرن، فقد حدث بطريق المصادفة أن امرأة وجدت جذور بعض النباتات المنزرعة في حديقتها وقد علق بها مسحوق أبيض، وبدأت صناعة الصيني بعد ذلك في تلك الجهة ولا تزال موجودة بها إلى اليوم
ومنذ ظهور هذين المركزين يبدأ تاريخ التطور الذي حدث على نظام طعامنا لأن الأطباق الخشبية والأطباق المصنوعة من الصيني أو الحجر، كل تلك الأطباق الكبيرة التي كانوا يغمسون فيها أصابعهم قد زالت وحل محلها الأطباق الصغيرة التي يختص كل فرد بطبق منها
وكانت بداية ذلك كله أن كيميائياً غضب ذات صباح لأنه وجد شعره المستعار أثقل من العادة.
(يتبع)
ع. أ
من هنا ومن هناك
كيف نحارب ألمانيا
(عن مجلة (فورثنايتلي))
من الوسائل الفعالة في الحروب الحديثة إلقاء النيران الحامية على مصانع الأعداء. فبهذه الوسيلة نستطيع أن نحد من قوتهم ونضعف مقدرتهم على الاستمرار فيها. وقد حشدت ألمانيا في المصانع كل ما تبقى لديها من الرجال للعمل في صنع الذخائر، فإذا هوجمت تلك المصانع فقدت ألمانيا عدتها من الرجال. وقد أعلن مسيو بيير كوب في مجلس النواب الفرنسي في 20 من يناير سنة 1939 أن ألمانيا قد حشدت في مصانعها من الرجال ما يربو على الخمسة والستين. بينما تستعد فرنسا لوضع عشرة من العمال الأميركيين في مصانعها بازاء كل جندي فرنسي في خط القتال
إن الفوز في الحروب الحديثة قد يكون في المصانع كما يكون في ميادين القتال. فتعطيل حركة المصانع أو إيقاع الاضطراب في داخلها، وإيقاف الإمدادات التي تعول عليها الجيوش في ميدان القتال من أسلحة وأطعمة وملابس يعد من الطرق الفعالة في الحروب، وهو عند العارفين بمثابة الفوز في معركة من معارك القتال
والمؤونة التي يحتاجها الجندي والحيوان لها المرتبة الأولى في الحروب. فالأمة الجائعة لا تستطيع أن تحارب وقد يكون جيشها عرضة للانشقاق. وقد بدأت ألمانيا تضحي بالزبد من أجل البنادق، وأصبحت المواد التي يغذي بها الجيش من الزبد واللبن والدهن والخبز والدقيق مغشوشة جميعها. ومما لا شبك فيه أن ألمانيا الآن في حاجة ماسة إلى الدهن بكافة أنواعه. وقد كانت ألمانيا تعول على الولايات المتحدة في إمدادها بما تحتاجه من ذلك، إلا أن موقف أميركا بالنسبة لألمانيا اليوم سيحرمها مما كانت تستصدره من هذه المواد
فألمانيا والحالة هذه تدخل الحرب وهي في حالة اقتصادية لا تحسد عليها. ولعل أي طارئ جديد يهدد ما تختزنه من المؤونة الآن قد يعرضها لقحط شديد، وهنا يكون للطائرات الفضل الأكبر في كسب الحرب. فالغارات الجوية على المخازن والمزارع والمطاحن التي تعول عليها ألمانيا عليها كل التعويل ستجعلها في أحرج المواقف
إن اختيار مواقع الغارات خير من إلقاء مقذوفاتها بغير حساب؛ فهولا يعرضنا لعداوة الرأي
العام، أو يفقدنا شيئاً من عطف الأمم المحايدة. وليس في العالم قوة تستطيع أن تحلق في كل الأماكن دفعة واحدة، فلنوجه قوانا جميعها إلى الأماكن التي تستحق المهاجمة، ولنزودها بكل ما نستطيع من القذائف التي يمكن حملها على متن الطائرات
إحصاء المسلمين في العالم
(عن مجلة (العصبة))
كتب الأمير أمين أرسلان النبذة التالية في (الموندو) الأرجنتينية عربتها مجلة العصبة فيما يلي:
(قلما يتفق المؤرخون والكتَّاب على تحديد عدد المسلمين في العالم. وهذا التباين عائد إلى سبب جوهري وهو أن كثيراً من الأقطار المأهولة بأتباع محمد يتعذر فيها إجراء إحصاء دقيق؛ ولكن ذلك لا يمنع من تحديد عدد المسلمين بأرقام تقرب من الحقيقة
من المعلوم أن المسلمين ليسوا كلهم عرباً أقحافاً، وأنهم يختلفون جنساً ووطناً ولغةً، ففي الصين مثلاً ثلاثون مليون مسلم وهم لا يمتون إلى العرب بصلة غير صلة الدين.
بناءً على إحصاء الحكومة الإنكليزية بلغ عدد المسلمين في الهند بعد الحرب العالمية 78 مليوناً، واليوم، أي بعد عشرين سنة، يجب أن يكون قد ارتفع عددهم إلى 85 مليوناً
وحدد إحصاء رسمي عدد المسلمين في المستعمرات الهولندية بستة وخمسين مليوناً، وبمليون في جزيرة الفيليبين حيث يُدعون مغاربة. وليس يُعرف تماماً عدد المسلمين في الهند الصينية وفي كمبودج وأنَّام وسيام وغيرها.
وفي روسيا يبلغ المسلمون عشرين مليوناً وفي الأفغان عشرة ملايين.
ويبلغ عدد سكان إيران 14 مليوناً، وتركيا بناءً على الإحصاء الأخير 17 مليوناً، وسوريا ولبنان 3 ملايين، والعراق 4 ملايين ومملكة ابن السعود بين 4 و5 ملايين، وفلسطين وشرق الأردن 1. 200. 000، وعدن والممالك المحمية كحضرموت، ولحج مليوناً وجزيرة البحرين والكويت 300 ألف.
وفي يوغوسلافيا 1. 500. 000 من المسلمين، وفي ألبانيا مليون، وفي اليونان مائة ألف وقد كانوا قبل مبادلة السكان خمسمائة ألف، وفي بلغاريا 800 ألف، وفي رومانيا 200
ألف، وفي بولونيا 12 ألفاً، وفي المجر ألف. فمجموع المسلمين في أوربا نحو ثلاثة ملايين
أما عدد المسلمين في أفريقية، فيمكن تقديره بين ثمانين ومائة مليون منتشرين في كل أنحاء القارة السوداء، ففي مصر والسودان ويوغندا 27 مليوناً، وفي الحبشة والصومال 5 ملايين، وفي جزيرة زنجبار بين 5 و6 ملايين، وفي موزمبيك البرتغالية مليونان، وفي رأس الرجاء الصالح والترنسفال بين 400 و500 ألف، وفي مستعمرة كونغو البلجيكية 150 ألفاً، وفي أواسط أفريقية وشواطئها الغربية يبلغ عدد المسلمين بناء على تعديل الرسالات التبشيرية المسيحية 48 مليوناً. ومما يذكر في هذا الصدد أن تلك الرسالات من كاثوليكية وإنجيلية لم تستطع على رغم جهدها الكبير أن تدخل في المسيحية إلا 8. 500. 000 نفس في حين أن عدد الذين اعتنقوا الإسلام يتجاوز 36 مليوناً.
تعد مراكش 6 ملايين، والجزائر 6 ملايين و 500 ألف وتونس 2. 500. 000، وطرابلس وبرقة 800 ألف، فيكون إذن عدد المسلمين في هذه البلدان الثلاثة بين 16 و17 مليوناً
وفي أميركا يعيش نحو مائتي ألف مسلم وفي الأرجنتين وحدها ستون ألفاً. فيؤخذ مما تقدم أن عدد المسلمين في العالم، بناء على الإحصاءات الرسمية وعلى تعديل الجغرافيين والرُّحل والبعثات العلمية، يتراوح بين 350 و360 مليوناً، ولا 250 مليوناً كما يزعم البعض
الحب وعلم الحياة
(عن مقال للكاتب (جوليان هكسلي))
يستطيع علم الحياة أن يعرض علينا مئات من الأمثلة لتألف القردة، وشدو الطيور وتعاطفها؛ ولكن هذا جمعيه شيء آخر غير الحب. وكل ما نستطيع أن نقوله إن تلك الحيوانات الدنيا، تعطي الإنسان صورة بسيطة للمادة الأولية التي نشأ منها الحب. فالإنسان من هذه الناحية كغيرها من النواحي يمتاز عن سائر المخلوقات. وهذا الامتياز الظاهر في الإنسان يرجع إلى تركيبه الذهني بلا شك. فليس الإنسان مقيداً بغرائز معينة تلازمه على الدوام، أو قيود عنيفة تتسلط على فكره وشعوره وتتصرف في سائر أعماله. فالعواطف
على اختلافها، والإلهام والفكر والتجاريب تتكون جميعها لتخلق في الإنسان حالة فكرية أكثر تشعباً وأشد اختلافاً مما في الحيوانات الدنيا.
وليس للإنسان فضلاً عن ذلك فصول معينة ينقطع فيها إنتاجه كالحيوان ويعجز عن مواصلة الحب. والإنسان بطبعه معرض للاختلاجات النفسية على الدوام وله مقدرة على كبح هوى النفس. وأما الحيوان فله حياته الخاصة المحصورة بين غريزة وأخرى، ولن يكون عرضة للغرائز المتباينة والاحساسات المضطربة التي تشغل نفس الإنسان
وللعقل الإنساني فوائده ومزاياه في فهم التجارب وترتيبها في نفس الإنسان، إلا أن هذا قد يؤدي في بعض الأحيان إلى ارتطام العواطف واختلاف الأهواء والأغراض. فالذين لا يستطيعون أن يتغلبوا على أهوائهم يعيشون عيشة ليس فيها راحة ولا استقرار، والذين يقدرون على كبح جماح النفس وإبعادها عن العوامل المتباينة المتناقضة التي تضطرم فيها يحيون الحياة الإنسانية الصحيحة الهادئة. وللتعليم ولا شك شأنه في إخضاع تلك الأهواء للعقل والمنطق وإيقافها عند حدها. ومما لا ريب فيه أن العوامل الجنسية هي من أقوى ما يتسلط على نفس الإنسان، إلا أنها تقابل بالكبت الشديد في حياتنا الاجتماعية
لذلك كان الحب من الظواهر العجيبة عند الإنسان، فهو يجمع بين أسمى العواطف وأحط الغرائز؛ وهو يفك النفس من عقالها ويقيدها بأثقل الأغلال، وهو يجمع بين الثورة والهدوء
ولا يغيب عن البال أن للحب مراتب وأحوالا لا يدركها الحصر، وللحب ألوان متعددة بعدد المحبين، إلا أن تلك الألوان وإن اختلفت وتعددت يجمعها شيء من التشابه
وتظل النفس الإنسانية ناقصة ما لم يكملها الحب. فهو أقدر العواطف على تحويل الفكر من مرتبة الطفولة إلى مرتبة النضوج؛ فهو يمد الإنسان بشتى الوسائل التي تطلق الروح من قيود الطفولة. وقد يكون الحب فوق ذلك وسيلة عند كثير من الناس لاكتشاف خبايا النفس، ومعرفة أسرارها
إذا نظرنا إلى الحب من الناحية الحيوية أمكننا أن نقرر أن الحب فن، وأن النجاح في هذا الفن يحتاج إلى تفكير وتدبير كالموسيقى والشعر والرياضة وغيرها من الفنون
ولا نريد بالحب هنا ما تكون علاقته بالجسد فحسب، فنحن هنا نقصد الحب على سائر ألوانه. فإذا كان بعيداً عن حدود العقل فمن الواجب النظر إليه على ضوء العقل والتفكير.
ولا يقلل من قيمة الحب أن ينظر إليه كظاهرة من ظواهر الحياة التي يمعن فيها العقل ويحللها الفكر، كما أن التحليل العلمي لا يقلل من الجمال الذي يسم قوس السماء. فمن الواجب إذن أن ننظر إلى الحب كناحية وضاءة من نواحي النفس الإنسانية المتشعبة الجوانب المتعددة الأنحاء
البريد الأدبي
مسألة
في العدد 31 من (الثقافة) مقال بارع المنحى، عذب الأسلوب، عنوانه (مسألة) بقلم الأستاذ عبد العزيز البشري. وقد جاء في خاتمة هذا المقال - عند الكلام على أخذنا العلوم والفنون عن الفرنجة - ما حرفه: (في العلوم والفنون والمستحدثات من مختلف الأشياء، وللنبات والأزهار مئات الآلاف من الأسماء والصيغ والمصطلحات. فإذا نحن عرَّبنا هذا كله طغى أشد الطغيان على سائر اللغة. وأنت خبير بأن ما يدور في صيغ العربية على ألسنة فصحاء الخطباء وأقلام بلغاء الكتاب وما يتحدث به الخاصة. . . ويجري في مقاولاتهم ومحاوراتهم وما تنتضح به رسائلهم - كل ذلك لا يزيد على بضعة آلاف. وكيف لهذا بأن يقوم بازاء ذاك؟ بل كيف له بأن يعيش بجانبه ويحقق ما تحقق الُّلغى لها من كيان؟
هذه هي المسألة كما يقول شكسبير، فليت شعري ماذا يكون المصير، فاللهم الطف بنا فيما جرت به المقادير). أهـ
وإذا أذن لي الأستاذ البشري في أن أرى رأياً فأحاول التعليق على مقاله، قلتُ: إننا ناقلون إلى لغتنا كثيراً من مصطلحات العلوم والفنون، وهذا الطارئ الضخم إنما يحي اللغة المتداولة ويغنيها ويهذبها؛ فلا نسأل إذن:(كيف لهذا بأن يقوم بازاء ذاك؟) بل نسأل: كيف لهذا بأن يقوم بغير ذاك؟
إن اللغة التي تعجز عن سدّ حاجات التعبير وتبقى على عجزها مصيرها الموت أو السقوط عند ألسنة العامّة. فها نحن أولاء مقبلون على تلقِّي العلوم والفنون عن الفرنجة بل التأليف فيها لنعلم أو لنُنشِئ، فكيف يكون التأليف بالعربية ومصطلحات مختلفة تعوزها؟ هذه حقيقة لا تحتاج إلى دليل ولا بسط. فإما أن نستحدث في التعبير والأداء جميعاً وإما أن نعدِل عن العربية إلى لغة إفرنجية، وفي الحال الأولى تعزُ اللغة وتنشط، وفي الثانية تذلّ وتخور: الحياة أو الموت. وليس من الحق أن ندع اللغة تموت، وذلك لأسباب عمرانية وسياسية وتاريخية لا أعرض لها هنا، وليس ثمة ما يسوّغ الإماتة فالعربية صالحة للتجديد قابلة بفضل أوضاعها وأسرارها ثم بفضل كنوزها التي نهملها أو نجهلها.
وإغناء اللغة يهذَّبها فضلاً عن أنه يحييها. بيان ذلك أن الصيغ والألفاظ الطارئة، سواء
استخرجناها من بطون كتبنا أو وضعناها وضعاً، لابدّ لها من أن تحلَّ في الحافظة محل صيغ وألفاظ مقيمة. وفي العربية التي تدور على (ألسنة فصحاء الخطباء وأقلام بلغاء الكتاب) ما لا خير فيه بل ما يرد الأداء تفهاً أو يجعله حشواً. ومما يرد الأداء تَفِهاً تلك التعبيرات المطروقة من زمان قديم حتى إنها أضاعت قوَّتها بل لونَها، وقد بين ذلك الأستاذ أحمد أمين في كلامه على جناية الأدب الجاهلي. وبما يجعل الأداء حشواً تلك المترادفات والمتواردات التي يظن بعضهم أنها هي اللغة. ولو علموا أن متن اللغة ينهض الألفاظ المفردة والصيغ المستقلة بنفسها! ولكنه كان جيل من الناس ضاق أفق تفكيرهم فانقبضت صفحة تعبيرهم فمطَّوا أطرافها بالثرثرة والتكرار. فأن تُترك المطروقات وتُهجر المترادفات ويشغل مكانها صيغ وألفاظ لا غنى عنها، ذلك خير للغة ومَدَد للمتكلمين بها
ومن هنا يتبين أن ذلك الطارئ لا يطغى (اشد الطغيان على سائر اللغة) مهما ضخم، بل قل إنه لِقاح له من جانب المبنى والمعنى. أما المبنى فقد تقدم القول فيه. وأما المعنى فبتلك الصور التي تجلبها معها الألفاظ والصيغ الداخلة على اللغة المتداولة، فُيحقَن المجاز بدم فتىِ فيهتزَّ. وإنك لتلمس ذلك في الشعر الحديث في أوربة ولا سيما في فرنسة وإنجلترة ثم في النثر الرفيع هنالك: فكثيراً ما يستعمل الشعراء (شعراء ما وراء الواقعية مثلاً) والكتاب في فرنسة مثلاً) صيغ العلوم والفنون، طلباً للافتنان في التصوير
هذا من جهة الأدب الصرف. بقي أن أقول إن اللغة لا تنحصر في الإنشاء الأدبي. فثمة الإنشاء العلمي، وله أن يجري إلى جانب الإنشاء الأدبي: هذا في شعب وذاك في شعب، فلا طغيان ولا عدوان. وفي تاريخ آدابنا ما يؤيد هذا؛ فقد كتب الفلاسفة والموسيقيون والحاسبون وغيرهم ما شاءوا أن يكتبوا، فهل طغى ما كتبوا على قرائح الشعراء وأنفاس الكتاب؟ وكان طالب العلم المجتهد يحصّل العلوم والفنون؛ فإذا تفلسف بعد ذلك عمد إلى أسلوب الفلاسفة، وإذا تأدَّب نحا نحو المترسِلين
تلك خطرات خطرت وأنا أقرأ مقال الأستاذ الفاضل عبد العزيز البشري، وقد سأل سؤالاً فلعله يتقبل محاولة تعليق، وله مني التحية الخالصة.
بشر فارس
المنضدة
المنضدة وتفسيرها هما في (أساس البلاغة) لأستاذ الدنيا جار الله في مادة (ف ج ج) في الجزء الثاني في الصفحة (104) في الطبعة سنة 1327 وفي الجزء الثاني من ذلك الكتاب في الصفحة (186) في الطبعة سنة 1341
وقد جاء جمع الكلمة في (المفضليات) الصفحة 142 من شرح الإمام الأنبا ري في بيت من قصيدة لمزرِّد أخي الشمَّاخ، قال:
وعهدي بكم تستنقعون مشافراً
…
من المحض بالأضياف فوق المناضد
ومنضدة الأعرابي في الخباء أو الخيمة غير منضدة العربي في القصر ذي الأبهاء، وهي البداوة المسكينة، وهي الحضارة ذات التفنن والترف. والاسم فيهما واحد وإن اختلف المسمى نجَّارُه ونجْرهُ وِنجارُه.
(ق)
حثر اللسان
حضرة المفضال الجليل صاحب الرسالة:
اطلعنا على ما جاء بالرسالة في العدد رقم 327 خاصاً بالنص الذي ورد في (الإفصاح) وهو لسان حَبْر: لا يجد طعم الطعام، وقد رجعنا إلى الأصول التي لدينا، فوجدنا النص منقولاً عن (اللسان) كما وجده حضرة الأخ (أزهري) (لسان حِثرٌ: لا يجد طعم الطعام) فما جاء في الإفصاح مطبعي ندَّ عنه النظر في أثناء الطبع، ويسرنا أن نعلن شكرنا لحضرة البحاثة (ازهري) على عنايته بالتمحيص الذي أدَّى إلى الكشف عن السهو، وهدى إلى الصواب، ونسأل الله أن يوفقه هو وأمثاله الأفاضل إلى خدمة العلم وإعلاء شأنه
صاحبا الإفصاح
حسين يوسف موسى وعبد الفتاح الصعيدي
هل على القاتل خطأ من إثم؟
جاء في مقال (القتل الخطأ) بقلم الأستاذ أحمد مختار قطب المنشورة في العدد 326 من الرسالة: (فالأصل أن الخطأ لا يعاقب الإنسان عليه (ولا جناح عليكم فيما أخطأتم به) ولكن
لما نتج عن هذا الخطأ إزهاق روح بشرية صار إثماً ووجب عقاب فاعله على رعونته وإهماله)
والذي يؤخذ على العبارة السابقة تحميل القاتل خطأ إثماً، وقد أتى الكاتب في هذا من قبل ما رتَّب على قتل الخطأ من الكفارة والدية فظن أن ذلك نتيجة أنه فعل إثماً وحراماً، والواقع أن ما يرتكبه الإنسان من خطأ وعدم قصد لا إثم عليه ولا يؤاخذ به: حكماً مطلقاً لا مثنوية فيه، أصفق عليه علماء الملة، واجتمعت عليه كلمتهم، وقد دل هذا الأصل من أصول الدين أدلة كثيرة ومنها قوله صلى الله عليه وسلم:(إن الله تعالى وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه ابن ماجة في كتاب الطلاق وغيره. قال المُناوي في شأن هذا الحديث: (حديث جليل ينبغي أن يعد نصف الإسلام؛ لأن الفعل إما أن يصدر عن قصد واختيار، أولاً. الثاني ما يقع عن خطأ أو إكراه أو نسيان وهذا القسم معفوَّ عنه اتفاقاً) فإن قال قائل: فما بل هذا القاتل ولا إثم عليه يكلَّف التكفير عن عمله ودفع الدية؟ فالجواب أن دفع الدية عن القتل من قبيل دفع قيم المتلفات أو من قبيل دفع بدل المحل أي محل الإتلاف وهو البدن وهذا لا يتوقف على الإثم. ألا ترى أن الصبيّ لو أتلف شيئاً غرم قيمته وهو لم يجر عليه القلم بعد. وأما الكفَّارة فللزجر وليحتاط المكلف حتى لا يقع في قتل الخطأ بتوقي ما قد يجر إليه. ويقول صاحب شرح مسلم الثبوت في ص165 ج1: (ولما كان - يريد قتل الخطأ - نوع جناية، والقتل من أعظم الكبائر لم يُهدر الخطأ فيه بل وجبت الكفارة)
بقي أن في آخر الآية الكريمة الخاصة بقتل الخطأ ما يشعر ظاهره بأنه إثم إذ فيها: (توبة من الله وكان الله عليماً حكيماً) والتوبة إنما تكون عن ذنب، وقد عرض لذلك المفسرون وقالوا فيما أجابوا به إن التعبير بهذا للتنبيه أن مثل هذا الفعل يصدر عن نوع من التقصير وإن لم يبلغ بصاحبه درجة المعصية، وقد شرعت الكفارة لمحو أثر هذا التقصير والتوبة منه، وللتلميح بأن من وقع منه هذا الفعل الشنيع ينبغي له أن يستشعر الندم والأسف ويملأ نفسه إعظاماً لما فعل، والسلام عليكم ورحمة الله
محمد علي النجار
مدرس بكلية اللغة
الأدب فوق الجميع
أستاذي وصديقي الدكتور زكي مبارك
ليست صلتي بك ولا شدة حبي لأدبك ولا رغبتي في تملقك هي التي تملي عليَّ كلمتي هذه؛ وإنما هو صوت القلب والحقيقة يدفعني إلى مصارحتك بأن فصولك الرائعة (جناية أحمد أمين على الأدب العربي) قد أوجدت بالجو الأدبي حياة جديدة، وبعثت فيه روحاً قوية بعد شهور خدر ونعاس مرت بالأدب المصري خاصة والعربي عامة، خلنا أثناءها أن أدبنا العزيز قد أخذ طريقه نحو الأجداث!
ولا تظن يا (سيدي الدكتور) - أو لا يظن أحد - أنني أعبر عن معاداتي لآراء الأستاذ أحمد أمين، أو أريد الحملة عليه أو النيل من مكانته المعروفة في العلم والأدب؛ فقد تذكر أنني في آخر رسالة مني إليك - ولم يمض عليها أسبوع - صرحت لك بأنني أخالفك في كثير من آرائك، وأنني أحب الأستاذ الأمين كما أحبك، وأنني كتبت إليه أستعديه عليك واستنفره إلى محاربتك بقلمه لا بسلاحه، وأطالبه بما يجب عليه نحو الأدب والقراء من الرد على ما وجهتَه إليه من انتقادات وملاحظات؛ وما أريد بذلك إلا أن تتسع دائرة النقاش والمباحثة فيستفيد الأدب خير الفوائد، وتجني العربية أشهى الثمار
ولقد طلعت علينا أخيراً - الرسالة 327 - بطرفة من أسمارك وأحاديثك وأدهشتنا إذ أخبرتنا أنك ستقطع سلسلة فصولك النقدية المحكمة بعد ثلاث أو أربع مقالات. .!
ولِمَ تقطعها يا سيدي وما كتبتَها إلا خالصة لوجه الأدب والعربية؟ ألأنك أردت أن تخيب ظن الأستاذ أحمد أمين تحرم آلاف القراء وأهل الأدب من هذه الثمرات الناضجات التي أنتظر لها أن تصير كتاباً ضخماً يكون فتحاً جديداً في الأدب العربي الذي لم يعرف النقد الصحيح إلا في فترات معدودات لا تسمن ولا تغني؟
لا تفعل، يا سيدي، فإني أخاف أن يفسر الناس انقطاعك بتفسيرات، وأن يؤولوه بتأويلات، وأن ينفض عنك بسببه أتباع وأنصار. إن لي بالأستاذ الأمين صلة، وقد اشترك في تسديد خطاي الأدبية يوماً، وإني لأحمل له كل تقرير وإجلال، ولكني على الرغم من ذلك لم أستطع إلا توجيه العتاب الشديد إليه ولومه اللوم القاسي على قوله لك: (لن نتصافى أبداً
بعد الذي كان)!. . .
إنها لكلمة كبيرة ما كنت أنتظرها ولا ينتظرها غيري من كاتب مشهور له قدره وخطره، وخلقه ونبالته!
أين نحن إذن من أدباء أوربا وكتابها؟ أين منا تلك الصداقة المتينة التي تضم الأدباء هناك تحت لوائها، لا يزعزعها اختلاف في رأي، أو تنازع على فكرة، أو نزول إلى ميدان نقد ومباحثة؟
إني لأقول كما قال الحكيم: (أنا والله شديد الحسرة على ما وصلنا إليه، فقد كنت أحب أن تكون بين الأدباء صداقات عظيمة، كالذي يعرفه الأدباء العظماء في باريس ولندن وبرلين)
أحد أمرين: إما أن تكون مقالات الدكتور مبارك على حق وإما أن تكون على باطل. والأستاذ (الأمين) في كلتا الحالتين معاتب ملوم؛ لأنه يجب عليه الرضى بها إن كانت الأولى، ويجب أن يهب للدفاع عن نفسه وآرائه إن كانت الثانية، وهو لم يفعل من ذلك شيئاً. وليس الدكتور مبارك بالشخصية الأدبية الهزيلة، حتى نقول إن الأستاذ الأمين تغافل عنها لقلة خطرها. ومن كالدكتور في جولاته وصولاته وتاريخه الأدبي المجيد؟
أي صديقي الدكتور. . . قد انتهى لغو الصيف وجاء جد الشتاء، فلا تكسل ولاتنم، وواصل بحوثك فإنها تهدينا إلى حقائق كثيرة كنا في غفلة عنها، وتطلعنا على آفاق جديدة من الأفكار والأبحاث لم نرها من قبل. على أنني أرجو أن تتحاشى ما يسبق إليه قلمك من عبارات تنال من شخصية الأستاذ الأمين وتجرح شعوره، كيلا يكون لأحد من الناس فيك وفي نقدك كلمة غير كلمة الإعجاب والتأييد. وما أصدق الأستاذ العميد شفيق غربال إذ يقول عنك:(ولو أنه نزه قلمه عن بعض العبارات التي جرت مجرى السخرية من الأستاذ أحمد أمين لما استطاع أحد أن يوجه إليه أي ملام) يجب أن تكون عند قول الدكتور طه حسين فيك إذ يقول: (فما عرف الناس زكياً إلا مثال اللطف والأدب والذوق)
نعم لو أن فصولك خلت من هذه العبارات الساخرة لما اعتبرها القارئ نقداً لكاتب، بل يدرسها على أنها فصول أدبيه بحتة، كلها الأدب الخصب، والتفكير الخالص، والإنتاج الممتع!
لنجعل الأدب يا دكتور فوق الأهواء وفوق الأشخاص وفوق الصداقات وفوق كل شيء،
لنجعله فوق الجميع!
وقد كنت عازماً أن أبثك كلمتي السابقة في إحدى رسائلنا، ولكني فضَّلت أن تأتيك عن طريق الرسالة كي يطالعها معك القراء فيشهدوا أنني أعبر عن شعورهم وأترجم عما يجول بخواطرهم. وإننا لفي شوق ملح إلى ما يسيل به قلمك الساحر من سلاف!
أما الأستاذ الأمين، فما هو بالمحتاج للنصيحة، ولا ريب أن له رأيه وخطته؛ وما أكثر ما تضمر الأيام!
أحمد جمعة الشرباصي
عند مدير الدعاية في وزارة الشؤون الاجتماعية
في الساعة السادسة من مساء الثلاثاء الماضي اجتمع عند الأستاذ توفيق الحكيم مدير الدعاية في وزارة الشؤون الاجتماعية لفيف من مندوبي الصحف العربية والإفرنجية تلبية لدعوته ليصف لهم مهمة هذه الوزارة ولم أنشئت وقد رحب بهم حضرته وأحسن استقبالهم ثم قال لهم:
كلفني الوزير معالي الشاذلي باشا أن أجتمع بكم لنتحدث معاً في شؤون وزارة هي أقرب الوزارات إليكم وأوثقها اتصالاً بكم وبالشعب الذي أنتم عيونه ولسنه. ذلك أن وزارة الشؤون الاجتماعية هي كما يدل عليه اسمها: وزارة شؤون الشعب، الشعب الذي لا ينبغي منذ اليوم أن يسقط من الحساب، فهو القوة الحقيقية للدولة. لقد رأينا دائماً أن الجيوش قد تحطم ولكن الشعوب لا تحطم.
وهنا قد تسألونني عن السبل التي تسلكها الوزارة للنهوض بالشعب وإنشائه نشأة جديدة فأجيبكم بأن الطرق التي سنتبعها كثيرة وهي تتلخص أول الأمر في إعانة كل فرد من أفراد الشعب على رفع مستوى حياته مادياً وتحسين حاله صحياً وروحياً وخلقياً. إن الفرد خلية حية في جسم المجتمع ومفتاح صغير من مفاتيح تلك الآلة الهائلة التي تتحرك وتدور. وإن في فساد بعض الخلايا وعطب بعض المفاتيح اعتلال الجسم واختلال الآلة. وهنا كان دائماً مصدر تفشي الداء في شعبنا منذ أمد طويل
لهذا توزعت أعمال وزارة شؤون الشعب على نواح شتى، فقامت فيها إدارات تعالج هذه
الخلايا من جهات متعددة. فإدارة التعاون والفلاح تعنى بالناحية الاقتصادية والمادية التي تكفل للفلاح وهو الجانب الأكبر من الشعب شيئاً من اليسر والرخاء؛ وإدارة الخدمة الاجتماعية تتجه إلى علاج الأمراض المعنوية والمادية المتفشية في الشعب بأسره مثل الطفولة المشردة ومشاكل الأسرة وضعف الأجسام لعدم انتشار الرياضة البدنية، والعمل على نشر النظافة ومبادئ الصحة في إنحاء البلاد؛ ومصلحة العمل تسعى إلى الأخذ بيد العامل ومؤازرته في مطالبه العادلة والارتقاء بمستوى معيشته، ومكافحة البطالة، وتدبير الرزق للمتعلمين المتعطلين؛ ثم إدارة الدعاية التي ينبغي أن تعد الأذهان وتمهد الأفكار وتستنهض همم القادرين على التضافر لتنفيذ كل ما تقدم ذكره من وجوه الإصلاح
ثم قال: لقد وضح معالي وزير الشؤون الاجتماعية في الكلمة التي افتتح بها قسم الإذاعة في إدارة الدعاية مهمة هذه الإدارة وأعلن وجهتها للناس، وذكر أن فيها دعاية للإصلاح الاجتماعي بأوسع معانيه، وأعيد عليكم هذا البيان في صورة أخرى فأقول: إن عمل تفتيش صحة القاهرة والأقاليم في مراقبته للمواد الغذائية الضارة بالأجسام، كان ينبغي أن يكمل منذ زمن بمراقبة أخرى وتفتيش آخر لنوع من الجراثيم أعظم ضرراً واشد فتكاً بكيان الشعب، وأعني بها الجراثيم الخلقية التي تتسرب إليه من خلال ما يعرض عليه من بذيء الأغاني ورقيع المشاهد وخليع المناظر في المسارح والصالات ودور السينما وإذاعات الراديو. إن إدارة الدعاية بما لها من سلطة الرقابة والتوجيه لكل ما يعرض على الشعب من مشاهد وما يلقى في أذنيه من محاضرات وغناء ستقف حائلاً قوياً دون انتشار كل ما يخدش الخلق ويضعف الهمم ويلقي بذور الانهيار الروحي والانحطاط المعنوي في قلب هذا الشعب العريق. ولسوف نستخدم ما نملك من وسائل في بث الفضائل وتدعيم الروح القوي النبيل، وفي تهذيب الذوق العام بتشجيع الفن الصحيح والدنو به من الكمال وتعويد الناس فهم الجمال.
وعند ذاك ترقى النفوس والعقول ويتم للشعب بلوغ ما نصبو إليه من مرتبة عالية بين الشعوب الراقية المجيدة
إن هذه الوزارة لا يمكن أن يقوم موظفوها وحدهم بكل العبء. هنالك دعامة قوية من الدعائم التي ترتكز عليها دائماً أعمال الإصلاح، هذه الدعامة القوية هي التطوع. بثوا
الدعوة معنا إلى الزملاء في شتى أوساط الشعب لإيجاد المتطوعين للإصلاح نحن في حاجة إلى تجنيد أكبر عدد من المتطوعين للإصلاح
أحمد عرابي
اضطررنا لقطع سلسلة البحث في تاريخ عرابي نظراً للظروف الحاضرة؛ وسنعود إلى وصلها في الوقت المناسب
وابتداء من العدد القادم سندرس شخصية مازبتي أحد أبطال الحرية في التاريخ الحديث
الخفيف
رسالة النقد
فصل المقال
فيما دار من نقاش حول (مباحث عربية)
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
- 2 -
أما عن التلبيس في سوق الروايات والواقعات في كتاب (مباحث عربية) فإليك بعض من ذلك:
1 -
أسند الدكتور بشر فارس ص60 من كتابه (مباحث عربية) ثماني روايات جملة إلى 16 مرجعاً منها أربعة مراجع مخطوطة؛ والغرض من ذلك الوصول إلى إثبات أن (التعريف) الحقيقي الناهض على التمييز للفظ المروءة غير ممكن، وليصل إلى هذا فقد ساق الدكتور بشر هذه الروايات جنباً إلى جنب، وأسندها جملة إلى مصادرها بالجملة للتعجيز، حتى لا ينظر القارئ مصادر كل رواية ويتدبر معانيها في مكانها ووجه مجيئها من الكلام. لأن في ذلك الخطر كل الخطر على البحث إذ يثبت أن الروايات تأتي في كلها لفظة (المروءة) من أصل واحد يحمل مدلول السيادة من جهة ويتضمن السجايا الرفيعة التي يتقوَّم بها شخص السيد. بيان ذلك:
(أ) يقول النوري: (المروءة بذل الهدى، وكف الأذى، وترك الهوى، والزهد في الدنيا، وطاعة المولى)، وهذه الرواية بهذا الإطلاق يتنافر فيها مفاد المروءة مع المدلول الحقيقي للفظة وهذا ما يريد أن يصل إليه الدكتور بشر، وهذا هو التلبيس لأن هذه الرواية لو أسندت إلى مصدرها، وهو مخطوط كتاب (الفتوة) للأردبيلي - أيا صوفيا 2049 - وهو مخطوط في التصوف كما وصف ذلك الأستاذ في مبحثه المعنون باسم والمنشورة بمجلة التي تصدر عن همبورج، م24 ص58، لظهر أن لفظة المروءة في هذه الرواية تأخذ مفادها من وجهة المتصوفة، وفي ذلك الوقت يتسق مفاد اللفظة في الرواية مع مدلول الكلمة الناهض على التمييز
هذا وقد نبهني أحد الزملاء إلى أن هذا المخطوط الذي وردت فيه الرواية، نشره الدكتور
بشر في مقتطف أبريل سنة 1939 والعجيب أن يقول في التقدمة. (تدخل الفتوة على قلم الأردبيلي في التصوف، وكذلك المروءة التي هي شعبة من شعبها في كتاب الأدربيلي!)
(ب) يقول معاوية: (المروءة احتمال الجريرة وإصلاح أمر العشيرة) فهذه الرواية رغم أنها تحمل في طياتها إشارة إلى سجايا السيد وإفادتها سياسة الملك، فقد أتى بها بشر فارس ليستدل على أن مدلول لفظة المروءة غير ناهض على التمييز. وهو في الوقت نفسه يذكر ص67 في الحاشية، في الهامش رقم 34 هذه الرواية، والمتن يحمل الإشارة إلى أن الرواية مفادها سياسة الملك!
(ج) يقول عمر بن الخطاب: (تعلموا العربية فإنها تزيد من المروءة). ويقول مسلمة بن عبد الملك: (مروءتان ظاهرتان: الرياسة والفصاحة). والدكتور بشر لا ينكر في الرواية الثانية أن لفظة المروءة تنزع إلى السيادة، مع أنها تجئ من الفصاحة وإذن فمفاد الرواية واضح في إشارتها إلى السيادة وسجايا السيد، من حيث أن العربي كان يرى معرفة العربية سبيل الفصاحة والفصاحة من أسباب الكمال والكمال من متطلبات سجايا السيد
(د) في عام 1932 أخرج الأستاذ بشر فارس كتاباً بالفرنسية اسمه (العرض عند عرب الجاهلية) وتقدم به لينال إجازة الدكتوراه من جامعة باريس. وموضوع هذه الأطروحة أن (أخلاق عرب الجاهلية تندرج تحت معنى العرض)(انظر ' ' باريس 1932 ص 32 وما بعدها). ولما كان جُولْد تسيهيرْ أحد شيوخ الاستشراق قد كتب في كتابه طبع سنة 1889 ج1 ص1 - 40 - فصلاً كاملاً عن المروءة ذهب فيه إلى أن (المروءة كانت تنزل منزلة الفضيلة عند عرب الجاهلية). وهو في هذا على نقيض من الرأي الذي ذهب إليه الدكتور بشر، فقد اضطر صاحبنا بشر أن يعود عام 1937 ليناقش رأي جولد تسيهير لأنه صاحب رأي خاص في الموضوع فكتب مادة (مروءة) في تكملة دائرة المعارف الإسلامية، ثم توسع بالمادة فكان منها موضوع مبحث المروءة من كتاب (مباحث عربية) وهو يشغل الصفحات من 57 - 74، وهو إلى هذا الحد لم يرتكب وزراً، ولكن موضوع المؤاخذة جاء من جهة محاولة إيهام القارئ أن بحثه في المروءة ليس عن فكرة سابقة وإنما هو نتيجة التدبر والتدرج من الواقعات للنظر (كما يقول ص73 من كتابه)، وهو لكي يصل للغرض يوهم القارئ - والإيهام ليس بالشيء القليل - ثم يعمد لطرق ملتوية لتعجيز
القارئ حتى لا يكشف كيف يميل بالواقعات ويديرها منحرفة عن حقيقتها بعض الشيء حتى يتحصل له من انحرافاتها النتيجة المقصودة. وقد سبقت الإشارة إلى بعض طرق الالتواء في بحثه، وإليك طرقاً أخرى:
(1)
لو كانت المروءة واضحة المعنى ما عثرنا على تعريفات لها لا يكاد يقع بعضها على بعض، ولا أصبنا أقوالاً فيها ربما تنافرت بل تدافعت. وبهذه الجملة يلج البحث الدكتور بشر فارس. والذي عندي أن اختلاف التعريف إن جاء من عبارات يقصد بها بيان كيفية المروءة، فذلك لا يقع على بعض مدلول لفظة المروءة. بيان ذلك أن لفظة الرجولة لعهدنا هذا واضحة المعنى، ومدلولها ناهض على التمييز، ولكن كل إنسان حسب طبيعته وأخلاقه وسجاياه ونظرته يعطي اللفظة لوناً يقع على كيفيتها من جهة الصفات لا على مدلولها الذي يدل على المعنى. ومن المهم في تدبر المعنى الحقيقي للفظ ملاحظة هذه الاعتبارات. والآن على ضوء هذا الكلام لننظر في مبحث الدكتور بشر فارس
أولاً - يأخذ الدكتور بشر قول أبي الحاتم البستي: (اختلف الناس في كيفية المروءة)(روضة العقلاء ص207) دليلاً على تضارب التعريفات والأقوال حول لفظة المروءة. والرواية تقصر عما يريد صاحبنا بشر أن يحملها، لأن كلام أبي الحاتم البستي يقع على الصفات لا على المعنى، والمعنى اختلاف الناس في كيفية المروءة لا في مدلولها
ثانياً: يستدل الدكتور بشر من سؤال معاوية: (ما تعدون المروءة؟) على أن معنى المروءة (أو مدلولها) أشكل على المسلمين. والاستدلال خطأ، لأن السؤال يقع على ما كان يعدونه، وعد الشيء مربوط بكيفيته (أو صفاته)، فالصوفي يعد المروءة مثلاً:(ترك الهوى والزهد في الدنيا وطاعة المولى)، ورجل الدنيا يعدها (كثرة المال والولد). فهذه الدلالات للفظة المروءة تقع على الكيفية منها لا المدلول
ثالثاً: نفى الدكتور بشر أن المروءة تفيد معنى السيادة قائلاً ما ملخصه: (إن الاستناد إلى مشتقات مادة (م رء) ولا سيما أسم الفاعل منها في الآرامية لإثبات إفادة المروءة للسيادة خطأ، لأن لفظة مرء عربياً وهي اللفظة الناظرة إلى اللفظ الآرامي إنما مفادها الإنسان. وهذا يدفع أن تكون المروءة أفادت السيادة أول الأمر) هذا وهو يدفع القول، بأن باب المروءة وقع كتاب السؤدد من عيون الأخبار لابن قتيبة، بأن المصدر المذكور لم يثبت
غير قول واحد تنزع فيه المروءة لمعنى السيادة
والرد عندنا أن الدكتور بشر ذكر في موضع آخر من كتابه أن المروءة تدرج مقرونة بالسؤدد من كتاب مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب. . . (رقم 409 مخطوط ليدن ص532 - 534 ع297 من الرسالة) والدكتور بشر يقول في تقدمة هذا المخطوط: (وفي المصدر الأول تعريفات وأقوال في المروءة على أنها لون من ألوان السيادة وشرط من أشراطها) الرسالة العدد 297 ص533. أما عن مجيء هذه الروايات من الجاهلية أو عدم مجيئها، فلا يؤثر على القضية في شيء، لأن جلها أتى من صدر الإسلام، والعربية لم تتغاير فلا معنى للاحتجاج بأنها ليست من الجاهلية. وإذن يبقى معنا لفظ المروءة نازعة منزع السيادة في الجاهلية وصدر الإسلام، بعكس ما حاول أن يوهم القارئ بطرق ملتوية الدكتور بشر في مباحثه العربية
رابعاً: ينكر الدكتور بشر فارس أن المروءة أفادت السيادة - وأكبر الظن عنده - أنها ضمت، أو ما ضمت محاسن خلق الإنسان، ثم - من طريق التجديد والمجاز - محاسن خلقه (وهو في رأيه هذا لا يذكر السبب الذي جعله يميل مع هذا الظن. فضلاً عن أنه لا يستند في ظنه هذا إلى أكثر من فصل مخطوط تحت رقم 2049 بأيا صوفيا، يشتق فيها المؤلف المجهول المروءة من مرء الطعام وامرأة، وإذا تخصص بالمريء لموافقته للطبع. فكأنها أسم الأخلاق والأفعال التي تقبلها النفوس السليمة، فعلى هذا يكون اسماً للأفعال المستحسنة كالإنسانية، وهذا الرأي من الكاتب أحد رأيين ثانيهما أنه يجعل المروءة من المرء فيجعلها اسماً للمحاسن التي يختص بها الرجل فيكون كالرجولية، ولست أدري ما الذي جعل الدكتور بشر يميل مع الرأي الأول؟! وليس في بحثه ما يرجع الرأي الذي أخذ به إلا قول بل أكبر الظن!)
خامساً: يرى الدكتور بشر أن الأقوال والروايات التي ورد فيها لفظة المروءة، فيها جانبان متضادان كلاهما معقود على الآخر: الأول حسي والآخر معنوي، وهذا غلاب على ذاك؛ وهو يذهب إلى:(أن الجانب الحسي ينحدر من زمن الجاهلية وأما الجانب المعنوي فمصدره الإسلام)(ص63 من مباحث عربية) غير أنه لا يثبت على هذا الرأي سريعاً فلا يلبث أن ينقضه ويقول: (وكأن الحسي والمعنوي أخذا يتجاذبان المروءة أيام الجاهلية)
(ص65 من مباحث عربية)، وهو بهذا يخلع الجانب المعنوي على الجاهلية. وفي هذا التضارب والتناقض ما فيه مما لا يحتاج إلى بيان. . .
سادساً: يعتمد الدكتور بشر على رواية الأغاني: (أن عينية ابن مرداس كان معوزاً فقصد إلى عبد الله بن عباس يسترفده ويرغب إليه أن يعينه على مروءة. فردَّه ابن عباس لاتهامه إياه في مروءته) ليصل إلى أن المروءة كانت تجيء معنوية من العصر الإسلامي وحسية من الجاهلية؛ وهو يعلق على هذه النتيجة بقوله: (إن ابن عباس نظر إلى المروءة بعين المسلم فنزهها عن المادة وأنزلها منزلة الخلق الحسن. وابن مرداس نظر إليها بعين الجاهلي فرأى فيها إعانة له حتى لا يشتهي طعام غيره)
والرد أن الرواية لا تسعف الدكتور بشر بالنتيجة التي أراد أن يحصلها، لأنه لا يتحصل منها أن ابن عباس نظر إلى المروءة بعيني المسلم، وإنما الصحيح أن يقال إنه نظر إليها من طبيعته، كذلك لم ينظر إليها ابن مرداس بعين الجاهلي، وإنما الصحيح أنه نظر إليها من طبيعته، والفرق بين النظرتين، كالفرق بين الطبيعتين، وهذا الاختلاف في النظر راجع إلى اختلاف النفوس لا إلى اختلاف الزمان، ومن أمثال الذين ينظرون نظرة ابن مرداس للمروءة كثيرون في كل زمان ومكان!
سابعاً - مضى الدكتور بشر في بحثه، وكأنه يتعقب روايات مختلفة من أزمان مختلفة، وأعطى المروءة مفادات مختلفة، كل مفاد خاص بعصر، وانتهى ببحثه إلى أنها لم تنزل منزلة الفضيلة على جهة المماثلة إلا في العصور المتأخرة. والرأي الصحيح في الموضوع أن الروايات التي أتى بها الدكتور بشر فارس متسقة وكل منها تقع على لون خاص من مدلول المروءة، وهذا اللون مرتبط بالناحية الكيفية (صور) للفظة. وهي من هنا لا تأخذ دليلاً على التطور التاريخي. والأصل في البحث اللغوي لتاريخ لفظه أن يكون الباحث صاحب نظرة فلسفية تتغلغل في صفحات الماضي وتستمد من طبيعة الحالات القائمة في العصر صورة تقيمها في ذهنها يمحص على أساسها الباحث الروايات التي تعرض له ويكشف، عن مقدار تأثرها بحالات العصر، وهل هي راجعة لاختلاف النفوس والطبائع، أم إلى اختلاف الزمان، ذلك لا يتأتى إلا عن طريق النفوذ من مادة الرواية وهو الجسم المنظور إلى روحها وهو ما وراء المنظور
ظهرت عقلية الدكتور بشر الشكلية في أجلى مظاهرها وتبين لنا كيف أن هذه الشكلية مساقة إلى أخطاء في البحث لا يقع فيها من له دراية بسيطة بالبحث اللغوي المستقيم. والواقع أن بحث الدكتور بشر في المروءة ضعيف لا يثبت على نقد، ولا يمكنه أن يواجه مراجعة علمية صحيحة. هذا فضلاً عما فيه من تحريف وتعديل للعناصر الأولى والواقعات حتى لا ينفصم معه النطاق، وسيجيء في مقتطف نوفمبر ما في المراجع من اضطراب وما في البحث من تقطع، وما في حلقاته من انفصام.
إسماعيل أحمد أدهم
المسرح والسينما
من التاريخ:
النهضة المسرحية في مصر
ونصيب الفرقة القومية منها وواجبها حيالها
الفصل الأخير:
كانت هزيمة المسرح على يد سادته وأبطاله هزيمة منكرة، هبطت بهم إلى الحضيض، ورجعت به إلى الوراء عشرات السنين، ولم يبق بد من أن يعهد بالمسرح إلى غير هؤلاء الأبطال الذين نصبوا أنفسهم سادة في مملكته. كان لابد من إنقاذ المسرح وأهله معه بأية وسيلة من الوسائل، ولقد وجدت الوسيلة واقتنعت الحكومة بها فأنشأت هذه الفرقة التي ما تزال قائمة بيننا، وعهدت بها إلى رجل لا ننكر فضله كأديب وشاعر، بيد أنا ننكر صلته بالمسرح، تلك الصلة التي تجعل منه خير من يضطلع بهذه المهمة العظيمة. هذا إلى أنه رجل مشغول بغير المسرح من الشئون؛ فلم يكن الاختيار موفقاً على أي حال. فالمسرح يريد واحداً من رجاله الذين بلوه أعظم البلاء، والذين امتحنتهم خشبة المسرح وعركت أعوادهم فوجدتها من اصلب الأعواد وأشدها قوة وعزماً وحزماً. أما الشعراء، وأما أصحاب الكفايات في الأدب والكتابة فلن تؤهلهم هذه الكفايات والمميزات لهذه المهمة، وقد تؤهلهم لخدمته بوسائل أخرى غير سيادته والتحكم في شؤونه.
على أن مدير الفرقة ليس وحده المسئول عن هذه الهزيمة الجديدة للمسرح، فإن إلى جانبه لجنة عهد إليها باختيار الروايات، فإذا اعتبرناها مسئولة عن عملها، وليس فيها إلا رجل واحد يصلح لهذه المهمة، فإننا نظلمها ظلماً مبيناً! إنها لجنة تتكون من أعضاء من ذوي الكفايات الأدبية والعلمية، لكنهم كما هو الحال مع المدير، ليست لهم صلة بالمسرح تجعلهم أحق الناس بهذه المهمة، بل لعل هذه الكفايات والمميزات التي لهم تجعلهم آخر من يصلح لها. ذلك لأن المسرح فن، وإن كان يعتمد على غيره من الفنون، إلا أن من يصلحون له يجب أن يكونوا من طراز خاص. فالمسرح يعتمد على الكتاب والأدباء والموسيقيين وغيرهم، بيد أن أحداً من هؤلاء قد لا يصلح لمهمة قيادته وسيادة شئونه، وقد يصلح لها
ممثل أو مخرج أو مؤلف مسرحي أو ناقد، وقد يكون هؤلاء أقل ثقافة وعلماً من أولئك الجهابذة العلماء، بيد أن روحهم الفنية الملهمة تحوطهم بسياج من القوة، وتمنحهم إحساساً فنياً مرهفاً وتجعلهم من اصلح الناس لتوجيه هذه الشئون!
قلنا إذن: إن مدير الفرقة لا يصلح لقيادتها، لأنه غريب عنها، ولو أنه أديب وشاعر. وقلنا: إن لجنة القراءة ليس فيها إلا رجل واحد صالح، على أنه مشغول هو أيضاً ولديه من المهام ما هو في نظره أجل وأسمى خطراً من المسرح، ومن ثم، فقد ساءت إدارة الفرقة، وساء اختيار الروايات؛ وفي نفس الوقت نرى جماعة الممثلين والمخرجين، وقد اطمأنوا إلى أرزاقهم، قد تركوا الحبل على الغارب، ولم يعد يشغلهم إلا قبض المرتب في أول الشهر، وإلا الإشاعات التي تدور حول الفرقة وتتناثر هنا وهناك، وإلا الزلفى إلى هذا والتقرب إلى ذاك. أما إجادة العمل فهي في المحل الأخير إن لم يكن لا محل لها من تفكيرهم!
هل نجد ما نقوله بعد ذلك إلا أن نكون مكررين لما قيل مئات المرات وكتب في الصحف وتحدث به الناس؟
يكفي أن نضرب مثلاً لشعور الفرقة بتفاهة مجهودها أنها وقد عرضت لها فرصة تقديم بعض بضاعتها أمام مليك البلاد لم تجد ما تقدمه سوى رواية (المتحذلقات) وهي فكاهة صغيرة من الأدب الغربي ذات فصل واحد!
وثمة مثل آخر، فقد دعت الفرقة أعضاء مجلس النواب لتشهدهم على أحقيتها في استمرار صرف الإعانة التي أوشكت أن تطير، دعتهم ليشاهدوا المهزلة الكبرى التي وقعت في إخراج (الجريمة والعقاب) فخرجوا ساخطين متبرمين، ولولا بقية من أمل لطارت الإعانة وطارت معها الفرقة!
ماذا نقول أيضاً، وهل نعتبر هذه الكلمة الفصل الأخير في مأساة الفرقة القومية أم أنه ما تزال هناك فصول كثيرة تستحق كثيراً من الضحك وكثيراً من الرثاء؟
(للكلام بقية)
ملاحظات
فن الصالات
ليس من شأن هذه الصحيفة أن تتحدث عن الصالات وما فيها، وإنه
لعهد أخذناه على أنفسنا أن نحرص على كرامة الفن الذي تدنسه
الصالات بسخفها وبالجو الذي تخلقه والفساد الذي تدعو إليه، وتاريخ
الصالات عندنا تنبعث منه روائح تزكم الأنوف تثيرها الفضائح التي لا
حصر لها ولا حد
ولكن في الأيام الأخيرة هبط الصالات بعض بطلات المسرح وأبطاله لظروف يعرفها الجميع في مقدمتها فشلهم على المسرح ويأسهم منه
ويقول عزيز عيد الذي يشتغل الآن بصالة ببا: إنه قد وجد سبيلاً آخر لخدمة المسرح في صالات المجون واللهو حيث يبحث الناس عن مشتهيات الجسد. وتقول فاطمة رشدي: إنها لم تفقد شخصيتها التي نالت بها مكانة في المسرح والتي ستنال بها مكانة في الصالات! أما عزيز عيد فقد رأيناه في دور صغير كان بارزاً فيه بلا جدال. ولكن ماذا يجدي عليه هذا وماذا يجدي على الفن في هذه الأوساط الموبوءة. إن من الواجب أن يكون كل شيء في الصالات من الوجهة التمثيلية صحيحاً إلى حد كبير، ولكن هذا لن يغير من جوهر الأمر شيئاً. ولنلق نظرة على فاطمة رشدي التي كانت نجمة المسرح يوماً وهي تبتذل نفسها بين طائفة من الراقصات وحثالة الصالات
الرؤوس اليانعة
جلس الأستاذ حلمي رفله يتحدث إلى مدير الفرقة عن الإصلاحات الكبيرة التي سيدخلها على فن المكياج هذا العام، وطلب فيما طلب أن تصنع رؤوس من خشب على قدر رؤوس الممثلات والممثلين كيما يضع لها الشعور المستعارة اللازمة دون حاجة إلى العودة للممثل في كل مرة
ونظر إليه المدير الجبار وقال:
- لنؤجل ذلك إلى السنة القادمة يا أستاذ رفله، فهنا رؤوس ستخرج وهناك رؤوس قادمة من بعيد!
ثم تحمس المدير الهمام ونطق بكلمة الحجاج المشهورة:
(إني لأرى رؤوساً قد أينعت)
ولو نظر المدير إلى المرآة لرأى فيها أحد الرؤوس اليانعة التي حان قطافها.
(فرعون الصغير)