المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 329 - بتاريخ: 23 - 10 - 1939 - مجلة الرسالة - جـ ٣٢٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 329

- بتاريخ: 23 - 10 - 1939

ص: -1

‌وزارة الشؤون الاجتماعية

ما أظن أحداً من آحاد المصلحين ثَلِجت نفسه لإنشاء هذه الوزارة مثلما ثلجت له نفس الرسالة. ذلك لأن سبيلها هي التي تجاهد فيها الرسالة، وخطتها هي التي تسير عليها الرسالة، وغايتها هي التي تقصد إليها الرسالة؛ فكأنها قامت لتحقيق آمالها بالتنفيذ، وتطبيق مبادئها بالعمل. ومن ذا الذي لا يبلج صدره إذا رأى قوله قد صار فعلاً، وخياله قد أصبح حقيقة؟

لقد عالجت الرسالة مشكلة الفقر على وجوهها الشتى في بضع عشرة

مقالة خرجت منها على أن الحرمان كان في الأكثر الأغلب علة ما

يكابد المجتمع من جرائم القتل والسرقة، ورذائل البغاء والتشرد؛ فلو

أن أولي الأمر عالجوه بما عالجه به الله من تنظيم الإحسان وجباية

الزكاة لما وجدوا في البيوت عائلاً ولا في الطرقات سائلاً ولا في

السجون قاتلاً ولا في المواخير ساقطة. ولكننا تركنا الموضوع قانطين

من رحمة القلوب، لأننا وجدنا غاية الأمر فيه لا تعدو البكاء

والاستبكاء ما دام الحكم في يد الأقوياء، والتشريع لألسنة الأغنياء،

والغلب والسبق للناب العضوض والجناح المحلق. فلما وفق الله

الحكومة القائمة لأن تجعل لآثام الجهل وآلام الفقر وأرزاء المرض

وزارة تعالج كل عرض لها، وتساعف كل منكوب بها، وتقطع كل علة

فيها، قربت منازع الإصلاح وسفرت وجوه المنى. ثم كان من مصاديق

الأمل ودواعي الثقة أن تولي الوزارة رجل من رجال الجد والعزيمة لم

يصبه الله بداء الكلام، ولم يشغله بحرفة السياسة، فاختار لمشورته

ومعونته وأمره طائفة من قادة الرأي ودعاة الإصلاح أمثال الأساتذة

عبد المنعم رياض وتوفيق الحكيم وابنة الشاطئ؛ ثم مضى بهم في

ص: 1

طريقته المرسومة إلى غايته المعلومة يقظ القلب نافذ الهمة لا يعمي

وجهه ضلال، ولا يقطع سبيله عقبة

أجل، إن اختيار الشاذلي باشا لوزارة الشئون الاجتماعية سبب من أسباب النجاح لها والثقة بها ما في ذلك شك، فإن عهد الناس بهذا الرجل قوي الارتجال عسكري الإرادة. وهم لا يفتئون يذكرون أنه أشعر المصريين عزة الوطن، وعود الأجانب احترام الدولة، بأمر يسير واحد حرص عليه وألح فيه، هو أن يعزف أصحاب المسارح والسينما السلام الملكي في ختام كل حفلة. ولكننا لاحظنا أن وزارة هذا الرجل السكوت الفعول قد أخذت في هذه الأيام تسرف في نسج الكلام وقطع الوعود ووضع المشروعات وتقديم المقترحات وتأليف اللجان، فذكرنا ذلك وزارة المعارف في عهد من العهود إذ كانت تؤلف كل ساعة لجنة، وتضع كل يوم مشروعاً، وتسن كل أسبوع نظاماً؛ ثم ينتهي الأمر بأكثر أولئك إلى ما تنتهي إليه الفقاقيع الغازية على وجه الماء الآسن!

لقد أكرهتنا حكوماتنا المتعاقبة على أن نفهم أن تأجيل الموضوع للبحث معناه إهماله، وتحويل المشروع إلى لجنة معناه إغفاله. فهل يجوز أن نخشى مثل ذلك من هذه الوزارة الوليدة وهي لم تبتل بعد بجمود الموظفين الآخرين وروتين الوزارات الأخريات؟

إن الدم الجديد في هذه الوزارة، والروح المتوثب في هذا الوزير، يذهبان الخيفة من جهة التفريط والنكول، ولكنهما يوجبان الحيطة من جهة الإفراط والتهور. وكفى بهذه الظنة باعثاً على كتابة هذه الكلمة

إن وزارة الشؤون الاجتماعية تجديد رسمي لدعوة النبوة؛ وهي بحكم وجودها وطبيعة عملها وزارة الجمهور؛ فلا مندوحة لها إذن عن نهج سبيل الدين في محاربة الفساد بالأناة والحكمة. فإن مصادمة الموجود بالطبيعة مدعاة إلى الفشل، ومقاومة المألوف بالعادة مجلبة للنفور، ووسيلة النجاح في هداية العامة الحيلة والتدرج. والله عزت حكمته لم يشأ أن يقيد الزواج ويحرم الخمر ويحظر الرق دفعة واحدة؛ وإنما استدرج الغرائز والأهواء إلى حدود المعروف شيئاً فشيئاً حتى اطمأنت إليه ورغبت فيه

ما للوزارة على حداثتها تبدأ منهاج الإصلاح من آخره، فتريد أن تعرض لما يتصل بالحرية أو بالعقيدة كأن تقيد الزواج وتحدد السهر وتحرم على بعض الناس اللهو؟ إن ذلك

ص: 2

وإن كان له أثره في صلاح المجتمع لا يحسن أن يكون أول ما تعمل. وربما كانت هذه الأمور التي تنكرها ظواهر لبعض الأدواء الاجتماعية تزول بزوالها. أما الرأي الذي تأمن عليه من المعارضة والفوضى والتشعث فهو أن تحرر دستورها الإصلاحي تحت ثلاثة عناوين هي الفقر والجهل والمرض، فإنها جماع العلل التي يصدر عنها كل فساد وينجم منها كل شر؟ ثم تحاول بجهادها المتصل في شتى الميادين أن تمحو الأمية وتقتل الجوع وتجتث أصول العلة، حتى إذا وجدت أمامها بعد ذلك شعباً صحيح الجسم نير الفهم مكفي الحاجة استطاعت أن تأخذه بوسائل الكمال كتوحيد الأزياء وترقية الغناء وتهذيب التقاليد وتنظيم الأسرة وتمدين الجماعة. على أن ذلك كله يكتسبه الشعب من ذات نفسه متى أدرك قسطه الضروري من ثقافة العقل والروح والبدن. وعسى ألا يقع في ظنك من هذا الإجمال أني أخلط بين اختصاص هذه الوزارة واختصاص وزارات المعارف والأوقاف والصحة؛ فإن وزارة الشؤون الاجتماعية بحكم اختصاصها الشامل لحياة الجماعة في المدينة والقرية لا بد أن تتصل بالثقافة والسلامة والإحسان من جهاتها العامة؛ ولكنها لا تعلم كالأستاذ، ولا تعالج كالطبيب، ولا تحسن كالواقف. وسترى في فصولنا التالية كيف يتميز عملها من عمل غيرها، حين نفصل الكلام في هذه العناوين الثلاثة: الجهل والفقر والمرض

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌كيف يعظون

للأستاذ عباس محمود العقاد

أيام الحوادث الفادحة هي أيام العظات البليغة لمن يحسن استخراجها من حوادثها ثم يحسن التعليل بين مقدماتها وعواقبها والحرب أبلغ العظات

لأنها تمتحن النفوس فتثير فيها الشكوك وتقلقل فيها دعائم الإيمان فهي في حاجة إلى اليقين والاستقرار

ولأنها ترين على القلوب بالغموم وتلعج فيها الأحزان فهي في حاجة إلى الترفيه والتأسية والعزاء

ولأنها تكتظ بالشواهد والمثل وأسباب الخبرة ومجامع العبرة فهي في حاجة إلى من يحسن التعبير والاعتبار

رأيت مثلين من أمثلة العظات العصرية هما اللذان بعثاني إلى كتابة هذا المقال: أحدهما مسيحي والآخر إسرائيلي، وكلاهما من مبتكرات الوعظ (العقل التاريخي) الحديث

جاء المثل الأول في مقال بصحيفة (المانشستر جارديان) الأسبوعية لواعظ يصف تجاربه في الحرب الماضية قال:

كثيراً ما وعظت في أثناء فترات الغداء بالمصانع فكانوا يلقونني برفق وإكرام

ولكني في بعض الأيام لقيت رجلاً غاضباً محنقاً وإن كان مؤدباً في مسلكه يقول لي: ما هذه الجرأة منك على الوعظ باسم إله المحبة والرحمة وهذه الحرب الخبيثة تطحن الناس؟

فقلت له: إنك يا أخانا لقاس على الأقدار. . . فهبك في مكان القدر فماذا عساك كنت صانعاً بالدنيا؟. . . لا أحسبك كنت تخليها من الخطيئة لأنك بهذا تهدم تكوين النفس الإنسانية باعتبارها نفساً مريدة مكلفة ذات حرية ومشيئة. . . فإن لم تصنع هذا فماذا أنت صانع؟

قال: على أية حال كنت لا أدع إنساناً يألم في حياته لجريرة غير جريرته وذنب غير ذنبه

فأجبته قائلاً: آه! يالها من حياة مخيفة تلك التي تريدها. فماذا تنوي أن تصنع بالأمهات مثلاً؟ أتريد من الأم إذا ذهبوا بابنها إلى الموت أو ذهبوا بابنتها إلى العار أن تمضي في طريقها ضاحكة راضية وهي تقول: لا يعنيني! فالذنب ذنب غيري؟

(إن الدنيا التي تريدها لتكونن دنيا خلواً من الآباء والأمهات والأصدقاء والقديسين والأبطال

ص: 4

والشهداء)

هذا هو المثل المسيحي وله شروحه ومعقباته عند من تناولوا مسألة الاختيار ومسألة الشر الدنيوي في الفلسفة الحديثة

ولكنه كلام يقال للرجل العصري فإذا هو أقرب إلى فهمه والإصغاء إليه من كلام لا يقوم على فكر ولا على حجة وإنما يقوم على إلزام كإلزام الآلات وتكرير كتكرير الببغاوات

أما المثل الإسرائيلي فقد قرأته في رسالة يقول كاتبها وقد عرض حوادث العالم أمامه فإذا هو يقول: إن الله يبتلي بالقصاص العاجل كل بلد يظلم أبناء إسرائيل، ويكتب النصر والقوة لكل بلد يعاملهم معاملة الرفق والمساواة. فلن ترى أمة شاعت فيها المذابح والمظالم للإسرائيليين إلا أصيبت بثورة أو سيقت إلى حرب أو منيت بهزيمة

هذه روسيا كانت أسبق الأمم إلى ظلم اليهود فابتلاها الله بالثورة البلشفية

وهذه أسبانيا تعاقبت فيها المظالم عليهم فابتلاها الله بالحرب الأهلية

وهذه بولونيا نفسها لم تخل في بعض عهودها من ظلمهم ومطاردتهم، فشاءت الأقدار أن تكفر عن سيئاتها

وهذه ألمانيا النازية تنساق إلى حرب زبون تهدمها من أركانها

(يهواه رب جبار لا ينسى الثأر ولا يصبر على الأشرار)

وهذا الكلام أيضاً قريب إلى عقل الرجل العصري الذي يفكر تفكير المشاهدة وينظر بعين التاريخ، وإن كان قائله ليخلف الأمر فيضع المقدمة موضع النتيجة ويضع النتيجة موضع المقدمة. إذ الحقيقة أن الاضطراب هو السبب المؤدي إلى ظلم (الأقليات) ومنها اليهود، وليس ظلم الأقليات عامة أو اليهود خاصة هو السبب المؤدي إلى وقوع الاضطراب. فالروسية وأسبانيا وبولونيا وألمانيا كانت فيها المساوئ الاجتماعية والقلاقل السياسية سابقة للخصومات والفتن التي تقع بين عناصر الكثرة وعناصر القلة فيها، وقد حدث أن بلاداً وقعت فيها الهزائم والفتن وليس فيها يهود مضطهدون كما حدث في بلاد الترك والصين. فالعلة الأولى هي الاضطراب والعلة الثانية هي الاضطهاد، وهذا هو موضع الخطأ في تفسير إرادة الله كما رآها واعظ إسرائيل

إلا أن الكلام كما أسلفنا كلام يقال في العظات العصرية لإقناع السامعين العصريين، وهو

ص: 5

خير من كل كلام لا ينظر قائله إلى الواقع ولا ينظر إلى التاريخ

قرأت هذين المثلين في شهر رمضان

وشهر رمضان عندنا هو شهر العظات وشهر السهرات في سماع القرآن والدروس

وقد سمعت بعضها وقرأت بعضها وذكرت بعضها مما كان يلقى في السنوات الماضية

فيطيب لي أن أقول إنها تتقدم من المحاكاة إلى الابتكار، وأنها تخرج من حفائر الموت إلى ميادين الحياة، وأنها تخاطب الناس خطاب الإقناع بعد أن خاطبتهم طويلاً خطاب الإلزام والإرهاب. . .

فإذا اطردت على هذه الوتيرة فسبيلها غداً (1) أن تشمل الآفاق الواسعة وتتعمق في أغوار النفس الإنسانية و (2) أن تربط بين موضوعاتها وكبريات الحوادث الحاضرة و (3) أن تعمم الإقناع في خطاب العقل البشري فلا تقصره على من يؤمن بالقرآن والسنة والمسلمين، بل تجعله مقنعاً خليقاً بالبحث والنظر في رأي كل صاحب عقل وتفكير

وهل أضيف أمنية أخرى؟

يقول أناس إن بائع الحرير لا يلزم أن يلبس من حريره، وإن واصف الدواء لا يلزم أن يتناول من دوائه، وإن الأب الذي يقدم لوليده الطعام لا يلزم أن يأكل من طعام الأطفال، ولكن الواعظ لا يكون واعظاً إلا إذا عمل بما يأمر به الناس

ويقول آخرون: بل حكم الواعظ في ذلك حكم بائع الحرير وواصف الدواء ومقدم الطعام لبنيه، فليس بالواجب عليه أن يعمل بكل ما يقول، وإنما الواجب عليه أن يهدي كلاً من سامعيه إلى ما يحسن به عمله وتصلح له هدايته

وأياً كان مقطع الرأي في اختلاف الواجبات أو اتفاقها بين الناس فهناك واجب مشترك متفق عليه بين جميع الواعظين والعاملين: وهو الإيمان بالواجب والإيمان بالأمانة والإخلاص في أدائه.

عباس محمود العقاد

ص: 6

‌جناية أحمد أمين على الأدب العربي

للدكتور زكي مبارك

- 19 -

رأينا في المقال السالف كيف أخطأ الأستاذ أحمد أمين حين زعم أن الأدب العربي على اختلاف عصوره ليس فيه إلا شاعر واحد يهتم بتحليل المعاني

فهل نجاه الله من الخطأ حين زعم أن الأدب العربي لم يعرف غير كاتب واحد يهتم باستقصاء الأغراض؟

إن الله لطف بابن خلدون فشغل به قلب الدكتور طه حسين لتعلو منزلته في نظر الأستاذ أحمد أمين، فأغلب الظن أن احمد أمين لم يكن عنده مانع من القول بأن الأدب العربي في جميع العصور وفي جميع الأقطار لم يخلق فيه كاتب يعرف كيف يشرح المعاني والأغراض على نحو ما يصنع الكتاب في هذه الأيام!

والحق أن بُعد الدكتور طه حسين عن مصر في أيام الصيف عرض الأستاذ أحمد أمين للمعاطب، فلو أن الدكتور طه بقي في مصر لكان من الجائز أن يعلن إعجابه بكاتب آخر غير ابن خلدون، وعندئذ كان يصح للأستاذ أحمد أمين أن (يتفصل) فيقول إنه لا يعرف في الأدب العربي غير كاتبين اثنين؛ وكان من الجائز أيضاً أن يعلن الدكتور طه حسين إعجابه بكاتب ثالث فيقول الأستاذ أحمد أمين إنه لا يعرف في الأدب العربي غير ثلاثة من الكتاب!

فهل نرجو أن يتلطف الدكتور طه حسين فيقول إنه لا يُعقَل ألا ينبغ في الأدب العربي غير كاتب واحد في ذلك الأمد الطويل الذي سيطر فيه على أقطار أسيوية وإفريقية وأوربية؟

إن الدكتور طه لو قال هذه الكلمة - وهي حق - لسرت عدواها إلى روح الأستاذ أحمد أمين فاندفع يثني على الأدب العربي بما هو أهله، ولكان من الممكن أن يصرح بأن الأدب العربي نبغ فيه من الكتاب عشرات أو مئات

ولكن الدكتور طه يترفق بأصدقائه أشد الترفق، ويحرص على ستر ما يقعون فيه من أوهام وأضاليل، وقد يقدمهم إلى الجمهور في جلبة وضوضاء، فكيف ننتظر أن يقول في الأدب العربي كلمة حق تشجع رجلاً مثلي على مهاجمة رجل يستبيح في الغض من أدب العرب

ص: 7

ما لا يباح؟

لقد قضيت أعواماً طوالاً في محاربة الدكتور طه حسين، واستطعت أن أعدل مسالكه الأدبية بعض التعديل، فهل أستطيع اليوم أن أخوفه من عواقب السكوت على أغلاط بعض زملائه الأعزاء؟

إن الدكتور طه هو المسئول عن احمد أمين، فهو الذي قال:(إن أحمد أمين لم يكن يعرف نفسه فهديناه إليها) ومعنى ذلك أن أحمد أمين لم يكن يعرف أنه أديب قبل أن يدله الدكتور طه على الكنز المدفون في صدره

كنت أعرف أن الدكتور طه على خطأ يوم ظن أنه استكشف (الأديب) المدفون في صدر احمد أمين، ولكني رأيت ألا أسارع إلى تخطئة الدكتور طه، علماً بأن الأيام سترد الدكتور طه إلى الصواب، فهل ردته إلى الصواب؟

لقد حدثتكم من قبل أن أحمد أمين لم يكن أديباً، وإنما كان موظفاً مخلصاً للوظيفة لا يرى ما عداها من الشؤون، ثم قال له طه حسين: كن أديباً، فكان

واليوم أحدثكم أني أخطأت، والصواب أن أحمد أمين لم يكن أديباً، وإنما قال له طه حسين: كن أديباً، فلم يكن!

يا دكتور طه:

هل تصدق القول بأن اللغة العربية لم يكن فيها كاتب يحلل المعاني غير ابن خلدون؟

أحب أن أساجلك الحديث، فقد ضجرت من مساجلة أحمد أمين

ما رأيك في الرعيل الأول من الكتاب بعد عصر النبوة؟

ما رأيك في الخطاب الذي وجهه عبد الحميد بن يحيى إلى الكتاب؟

ألا تراه غاية في تحليل المعاني وتشريح الأغراض؟

وما رأيك في طريقة عبد الله بن المقفع وهو ينثر الحكم أو يكتب العهود؟

إن كتاب كليلة ودمنة هندي الأصل، فليس لابن المقفع غير الترجمة والتهذيب، ولست من القائلين بأن كتاب كليلة ودمنة من إنشاء ابن المقفع، ولكن ما رأيك في مقدمة ذلك الكتاب، وهي بالتأكيد من إنشاء ابن المقفع؟

أليست تلك المقدمة شاهداً على أن ابن المقفع يجيد الاستيعاب والاستقصاء؟

ص: 8

وما رأيك في الكتاب الذين عرفتهم اللغة العربية بعد ذلك؟

هل يستطيع إنسان أن يقدم ابن خلدون على الجاحظ إلا وهو محروم من نعمة الفهم والذوق؟

إن الجاحظ كاد يستوعب جميع المعارف في عصره، وكاد ينطق جميع الأحياء والأموات بما عرفوا وأحسوا من دقائق الأشياء. والذي يقرأ رسائل الجاحظ ومؤلفاته يشهد المعارك والمصاولات بين أصحاب المذاهب والآراء، ويرى كيف تصطرع الطبائع والنحائز والخصال

فهل يحوز القول بأن اللغة التي عرفت أدب الجاحظ ليس فيها كاتب غير ابن خلدون؟

وما رأيك في ابن قتيبة؟

هل تذكر مقدمة كتابه (أدب الكاتب)؟

إن (أدب الكاتب) هو في الأغلب دراسات لغوية وصرفية ولكن ما رأيك في مقدمة ذلك الكتاب؟

أليست غاية في التحليل والتشريح؟

وقبل الجاحظ وابن قتيبة عرف الأدب العربي (مشاورات المهدي لأهل بيته) وأذكر أنك حاورتني في صحة هذه المشاورات وصح عندك أنها من الأدب المنحول، وكانت حجتك أنها لم تذكر في غير كتاب العقد الفريد. وقد ضاق وقتي عن تعقب المصادر التي وردت فيها إشارة إلى تلك المحاورات، فهل تظن أنها من بعض ما اخترع كتاب الأندلس؟

المهم، يا سيدي الدكتور، أن نتفق على أنها سبقت القرن الرابع، ولا يهمنا بعد ذلك أن تكون مشرقية أو مغربية، كما لا يهمنا أن تكون من نتاج القرن الثاني أو الثالث، فما يعنينا في هذا المقام إلا أن نتخذها شاهداً على أن من كتاب العرب من أجادوا التحليل والتشريح قبل ابن خلدون بأجيال طوال

ومن المؤكد أن مشاورات المهدي لأهل بيته ليست أول وآخر ما عرف العرب من هذا الطراز، فلها أشباه كثيرة منها (حديث السقيفة) الذي قصه علينا التوحيدي والذي نقده ابن أبي الحديد

ولولا خوف الفتنة لأشرت إلى قصة دينية كثر فيها الحوار والتمثيل، وهي من الشواهد

ص: 9

على أن العرب تنبهوا من وقت مبكر إلى تحليل المعاني وتشريح الأغراض

وما رأيك في أبي حيان التوحيدي؟

ألا ترى أن أعماله في القرن الرابع تذكر بأعمال الجاحظ في القرن الثالث؟

كان الجاحظ ينطق العلماء والفقهاء والأدباء، وكذلك كان التوحيدي ينطق من عاصروه بألوان كثيرة من صور الفكر والبيان

ومن المؤكد أن التوحيدي أكتب من ابن خلدون وأسبق إلى تشريح الآراء والأهواء

ومن المؤكد أيضاً أن التوحيدي لا يقل عن أعظم كاتب عرفته اللغات الأجنبية، وشمائله في الأسمار تذكر بشمائل أناطول فرانس

وهل يذكر الدكتور رسالة الطير والحيوان بين رسائل إخوان الصفاء؟

لقد دلنا ابن أبي الحديد على واضع (حديث السقيفة) فمتى نعرف الكاتب المجهول الذي وضع (مشاورات المهدي لأهل بيته)؟ ومتى نعرف الكاتب المجهول الذي وضع (رسالة الطير والحيوان)؟

قد نتعزى حين نيأس من معرفة المهندس الذي وضع تصميم الأهرام، والمهندس الذي وضع تصميم إيوان كسرى والمهندس الذي وضع تصميم قصر الحمراء، ولكنا لن نتعزى أبداً عن اليأس من معرفة الكاتب الذي وضع (رسالة الطير والحيوان) لأنه عندنا أعظم كاتب عرفته الآداب العالمية بعد أفلاطون

هل يذكر الدكتور ما قال يوم لقيته في جريدة كوكب الشرق؟

لقد صارحني الدكتور طه حسين بأن الفصل الذي حللت به رسالة الطير والحيوان في كتاب النثر الفني غير كاف، وقد أجبت بأنه فصل من كتاب، وتحليل هذه الرسالة يحتاج إلى كتاب خاص

فكيف يقال إن اللغة العربية لم ينبغ فيها كاتب غير ابن خلدون وفيها (إخوان الصفاء) الذين سجلوا معارف زمانهم أعظم تسجيل؟

لقد أشرت من قبل إلى الميزة الخلقية التي امتاز بها أولئك القوم، وهي نكران الذات، وإلا فمن الذي يصدق من أهل عصرنا أن جماعة من أهل البصرة أو غير أهل البصرة يخفون هوياتهم عن أعين التاريخ مع تلك القدرة الباهرة على تشريح الحقائق والأباطيل؟

ص: 10

وما رأي الدكتور في ابن شُهيد صاحب (التوابع والزوابع)؟

ألا يسمح لهذا الكاتب المبدع بأن يضاف إلى من يجيدون تحليل المعاني واستقصاء الأغراض؟

إن ابن شهيد في تلك الرسالة قارع المعاني الصعبة مقارعة الفحول، ودخل في شعاب لا يهتدي إلى مسالكها غير المزودين بأضواء البصائر والقلوب، فكيف يُجهل ويُعرف ابن خلدون؟!

وما رأيك في التنوخي صاحب (نشوار المحاضرة)؟

ألا يذكرك هذا الكاتب بكتاب (الصور) من أقطاب الفرنسيس والإنجليز والألمان؟

لو كان التنوخي في أمة غير الأمة التي طبع فيها ديوان ابن خفاجة مرة واحدة في مدى أربعين سنة لجاز أن يخطر في بال الذي قال إن اللغة العربية لم تعرف كاتباً غير ابن خلدون!

وما رأيك في ابن مسكويه صاحب (تجارب الأمم)؟

ألم يهتد ابن مسكويه إلى فلسفة التاريخ قبل ابن خلدون بأزمان؟

وما رأيك في الجرجاني صاحب (دلائل الإعجاز)؟

هل ترضى أن توازن بين الجرجاني وبين لانسون؟

إن الجرجاني في كتابه دلائل الإعجاز أبرع وأعظم من لانسون في كتابه ' ' ولكن لانسون وجد رجالاً يعرفون قيمته الأدبية، أما الجرجاني فله أخلاف ينسونه ويذكرون ابن خلدون!

وهل يمكن لرجل فيه بقية من الفهم والعقل أن يتناسى العظمة الفكرية عند أمثال عبد القاهر الجرجاني؟ ومن قبل الجرجاني عبد القاهر كان أستاذه أبو الحسن الجرجاني الذي فصل ما بين المتنبي وخصومه أعظم تفصيل، والذي أدخل في الأحكام الأدبية روحاً من عدل القضاء.

ومن قبل هؤلاء نشأ احمد بن يوسف المصري الذي برع في تسجيل ما عرف عن معاصريه من محاسن وعيوب، والذي وصل إلى الغاية في شرح أهواء النفوس

وهل ترى أن يقف الأدب عند الرسائل والمؤلفات التي غلبت عليها الصفة الاصطلاحية؟

ص: 11

إن ميدان الأدب أوسع من ذلك، فإليه تضاف أعمال المؤلفين في التصوف والأخلاق

إن صح هذا - وهو صحيح - فهل أستطيع أن أعرف رأيك في الغزالي؟

أنا أعتقد أن الغزالي من فحول الكتاب في اللغة العربية، وأومن بأنه من المبتكرين في تحليل النوازع النفسية والقلبية، وفي كتاب (الإحياء) فصول تشهد بأنه من أئمة الفكر والبيان

اقرأ - إن شئت - بعض ما كتب في الرياء تجده أتى بالأعاجيب في التنبيه على المجهول من سرائر النفوس، وتعرف - وأنت تعرف - أنه في بابه أعمق من ابن خلدون وأقدر على التحليل والتشريح

قلت في محادثة قريبة بأنه لا يسرك أن تراني أعتدي على الناس.

لقد ذهب الناس، يا سيدي الدكتور!

أليس من المحزن أن يحتاج الأدب العربي إلى من يحميه من غطرسة بعض الأساتذة بكلية الآداب؟

إن الأستاذ الذي لم يعرف في اللغة العربية كاتباً غير ابن خلدون لم يطلع أبداً على كتاب الفتوحات المكية، فلو أنه كان اطلع على ذلك الكتاب لعرف أن عندنا كاتباً فحلاً هو ابن عربي الذي طوف بآفاق يجهلها أكثر الأدباء في هذا الجيل

وهو أيضاً لم يطلع على مؤلفات الشعراني الذي صور المجتمع المصري في القرن العاشر تصويراً نعجز عن مثله اليوم، وأكاد أجزم بأن الصحف المصرية على اختلاف ألوانها ونزعاتها لا تعطي من صور مصر في العصر الحاضر ما أعطته مؤلفات الشعراني من صور مصر في القرن العاشر

وما كان الغزالي ولا ابن عربي ولا الشعراني إلا تلاميذ لأساتذة مجهولين وضعوا الأساس لحياة الفكر والتأليف في مختلف الأقطار العربية والإسلامية

هل تذكر المقريزي، يا دكتور؟

أنظر خطط المقريزي، وتذكر العصر الذي عاش فيه المؤلف ثم وازن بينه وبين أي باحث من نوعه عاش في الأقطار الأوربية، فإن فعلت فسترى أن أسلافنا كانوا من أئمة الابتكار والابتداع

ص: 12

فبأي حق يقال إن اللغة العربية لم ينبغ فيها كاتب غير ابن خلدون؟

إن ابن خلدون ممتاز في الترتيب والتبويب، وتلك هي الصفة التي يعنيها أحمد أمين، فأين هو من القلقشندي الذي بوب (صبح الأعشى) تبويباً معدوم النظير؟

وأين هو من السخاوي الذي صور القرن التاسع كأنك تراه؟

وأين هو من الحركات العقلية الممثلة في ذخائر التفكير العربي والإسلامي؟

الأدب، يا دكتور، له فنون تتجاوز ما أسلفنا من الفنون، فأين صاحبك من الكتاب الذين شغلوا أنفسهم بتشريح الدقائق النحوية والصرفية؟

إن سيبويه ألف (الكتاب) في القرن الثامن للميلاد، فهل تعرف أن الأقطار الأوربية كان فيها مؤلف يشرح أصول النحو والصرف كما صنع سيبويه في ذلك العهد؟

وهل يمكن أن يقال إن ابن خلدون كان في التشريحات السياسية والاجتماعية أعمق من سيبويه في التشريحات النحوية والصرفية؟

وهل يمكن القول بأن جوهر العقل عند سيبويه أقل قيمة من جوهر العقل عند ابن خلدون؟

إن الأستاذ أحمد أمين لا يرى غير ظواهر الأشياء، ولو كان عميق الفكر لعرف أن رجلاً مثل ابن هشام الأنصاري خليق بأن يوضع في أول صف من صفوف الباحثين الذين يجيدون تشريح المعاني، فهذا الرجل عرض مسائل النحو في صور مختلفات، وبذل في ذلك جهداً يشهد بأنه في غاية من سمو الفهم والعقل، وقد استطاع أن يجعل القاهرة في صف البصرة والكوفة وبغداد، ومجموعة المحاولات التي بذلها في تكييف المعضلات النحوية والصرفية أقوى من مجموعة المحاولات التي بذلها ابن خلدون في تكييف السياسة والاجتماع

إن فقهاء الشرع الإسلامي كان فيهم فحول من الوجهة الأدبية، ولكن أين من يدرك أن البويطي صاحب كتاب الأم كان من أقطاب البيان؟

أين من يصدق أن البويطي عرض الخلاف بين الشافعية والحنفية عرضاً هو الغاية في حسن التعبير، ودقة الوصف، وسداد الأداء؟

ومع ذلك نجد من يقول بأن اللغة العربية لا تعرف كاتباً غير ابن خلدون!

أما بعد فما الذي بقي لأحمد أمين وقد مزقنا أوهامه كل ممزق!

ص: 13

بقي أن نبين أن أغلاطه ليست أغلاط الرجل المجتهد - وللمجتهد أجر حين يخطئ وأجران حين يصيب - وإنما أغلاطه مسروقة سرقة حرفية من بعض أدباء هذا الجيل

فكيف سرق أحمد أمين تلك الأغلاط؟ وكيف خفيت سرقاته على الناس؟

سنكشف تلك السرقات في مقال أو مقالين، ثم نتركه في سلام ليتذوق البقية من أطايب رمضان، إن لم يجد ما يوجب أن يفطر يوم العيد على حديث ذي شجون

زكي مبارك

ص: 14

‌على ذكر الحرب الراهنة

موقف العلم من الكمال الإنساني

للأستاذ توفيق الطويل

1 -

العلم وتطور غاياته في شتى العصور:

نشأ العلم جنيناً في أحشاء المعرفة البشرية عند قدماء المصريين والهنود ومن إليهم من شعوب الشرق القديم، وكان أداة لخدمة الحياة العملية، وتحقيق الملح من مطالبها، ووسيلة لتنمية العقيدة الدينية وتوكيد سلطانها في قلوب الناس، ثم أقبل عصر الفلسفة اليونانية فجاهد أهلها لإنقاذه من عبء الحياة العملية وضغط العقيدة الدينية معاً، ورفعوه إلى البحث البريء الذي لا يعرف غاية يرمي إليها إلا اللذة العقلية وحدها. ثم أقبلت العصور الوسطى وقد تمكن الدين المسيحي من قلوب الناس، وهيمن على عقولهم، فهبط العلم من سمائه وأدركته العبودية من جديد. إذ سخره أهله لخدمة الدين وتمكين نفوذه، وأقام العلم على احتماله لهذا الاستعباد حين تمرد أساطين النهضة على سلطان الكنيسة، وتولوه بالتحطيم والتدمير. وأقبل القرن السادس عشر، وأوربا في غليان فكري أثار لوناً من الشك الهدام. أفقد الناس اليقين في مجال العلم، والاطمئنان في ميدان العمل، وحطم وحدة أوربا وتركها ركاماً وأنقاضاً، واطمأن لهذا الانتصار الفاشل دعاة الشك اليائس: أجريبا وسانشيه ومونتاني. بيد أن الناس قد ضاقوا بدعوتهم وتطلعوا إلى اليقين والاطمئنان واستخفهم الرضا عن دعوة جديدة ظهرت في أواخر القرن السادس عشر لمقاومة هذا الشك الهدام، تولاها ثلاثة من أعلام الفكر هم: شارون وديكارت وبيكون، فدعا الأول إلى الاطمئنان عن طريق الإيمان الديني - وكان روح العصر لا يلائم دعوته - وبشر الثاني باحترام العقل واعتباره أصدق معين تستقى منه المعرفة الصحيحة فكان أبا الفلسفة الحديثة؛ ونادى بيكون بالإيمان العلمي عن طريق التجربة، وحدد للباحث طريقته ورسم له منهجه، وأعلن ميدان العلم وغايته في وضوح لا يحتمل الالتماس فكان أبا العلوم الطبيعية الحديثة، وعلى يديه خرج العلم من أحشاء المعرفة البشرية، واستقل عن الدين والفلسفة والأدب، وتميزت شخصيته وتحدد ميدانه وعرفت غايته. ذلك أن بيكون أعلن احتقار العلم الذي يدرس للذة

ص: 15

العقل أو خدمة الدين، وأكد الدعوة إلى ربط الأبحاث العلمية بالحياة العملية وقصرها على صالح الإنسان ومنفعته. فكان ميلاد العلم الحديث شبيهاً من بعض الوجوه بميلاده القديم. واستبسل بيكون في الدفاع عن العلم حتى كفل له الاستقلال عن سائر ألوان المعرفة، وحط عن كاهله عبء الأغراض الدينية ولكنه لم يكفل له حريته كاملة موفورة، فأذله مرة أخرى وسخره لخدمة الحياة العملية وتوفير السعادة للناس. وهكذا بدأ العلم في عصوره الحديثة مستقل الشخصية صاحب منهج محدود وغاية مرسومة، يتهكم بالفلسفة ويسخر من أهلها، ويبتعد عن العقيدة الدينية ويقيم الحدود الفاصلة بينه وبينها، ولكنه مع هذا الاعتزاز الذي لازمه الغرور قد شعر بعد بأنه ليس سيد نفسه. إنه مسخر لخدمة الإنسان، ونجاحه رهن بتحقيق هذه الغاية. فلما شب العلم بعد هذا ونضج عقله، ثاب إلى رشده، فكف عن الطعن في الفلسفة، وتقبل منها النصح بعد أن أرشدته إلى الكثير من أخطائه، وأخذ يجاهد لتحرير نفسه من ذل الأغراض التي رسمها له أبوه، وأصاب النجاح في مسعاه، وحقق حريته كاملة غير منقوصة، وأصبح يدرس لذاته بقطع النظر عن كل غاية - بالغاً ما بلغ سموها - إلا إذا اعتبرت اللذة العقلية نفسها غايته. إنه قد تحرر من ذل الحياة العملية واستعباد العقائد الدينية وامتهان الأغراض القومية - أو هكذا يزعم أصدقاؤه وحواريوه - وأصبح يفاخر الأدب والفن والفلسفة بأنه سيد نفسه، لا يخضع للعاطفة، ولا يحترم الهوى، ومنهجه موضوعي قائم على تعرف الشيء من حيث هو شيء، دون نظر إلى علاقته بخير المجتمع وصالح الإنسان. وقد أدى هذا بقواعده إلى أن تكون بمنجاة عن التأثر بالزمان والمكان وما يلابسهما من ظروف. أما الفلسفة والأدب فإن أحكامها تقديرية بالإضافة إلى ذات شاعرة مدركة تتأثر بمزاجها وتتفاعل مع بيئتها وظروفها. ووجه الخلاف بين هذا المنهج العلمي الحديث، والمنهج الذي رسمه بيكون قائم في الغاية وحدها. كان بيكون لا يحترم العلم إلا بمقدار ما يحققه للإنسان من خير، وما يوفره للمجتمع من نفع وهناء، فاسترد العلم حريته التي كانت له أيام اليونان، وأصبح يجاهر على لسان المجمع البريطاني لتقدم العلوم سنة 1915 بأن العلم يطلب لذاته أولاً. قال رئيس المجمع ما خلاصته: إني أقدر العلم حق قدره، وأكبر خدماته للمجتمع الإنساني، ولكني أعلن أن العلماء إذا اغتبطوا للظفر بما تضم الأرض من ثراء، وما تنطوي عليه كواكب السماء وجواهر المادة من قوة،

ص: 16

فليس مرد اغتباطهم إلى أنهم يرفعون الثروة المادية فوق اللذة العقلية؛ وإنهم ليستشعرون اللذة مضاعفة عندما يستعملون قوى العقل للوصول إلى منفعة الأمة، ولكن هذا كله لا ينبغي أن يمنعنا من تخطئة الحط من شأن المبادئ الأدبية، فإن هذا الامتهان قد ولد الرأي الفاسد القائل بأن القوة تخول صاحبها امتلاك ما يشاء (لعله يقصد ألمانيا التي أشعلت الحرب الكبرى قبل خطابه ببضعة شهور). ثم قال المجمع في اجتماعه الذي عقده بعد ذلك بعشر سنوات: إن القائلين بأن غاية العلم هي التسلط على قوى الطبيعة لخدمة الإنسان - وهي دعوة بيكون - يبالغون في الاعتقاد بصحة ما يزعمون، فما كانت المنفعة أكبر الأسباب التي حملت العلماء على مواصلة أبحاثهم، ولكن أول غرض يرمي إليه العلم، إنما هو الكشف عن قوى الطبيعة ومعرفة ما بينها من صلات، وتصنيفها حتى يأتلف من مجموعها نظام معقول. ذلك أول أغراض العلم؛ أما المنفعة المادية فيجنيها الناس بعد من وراء ذلك، وبهذا يصبح الاشتغال بالعلم لذة عقلية تكاد تلحقه بالفنون الجميلة!. . . والعلماء الذين يبلغون مناهج العلم العليا يشعرون بالرابطة التي تصل بين العلم والفن، وتجعل الطبيعة موضوع بحثهما معاً لغير ما غاية إلا التملي بجمالها. إن التحليل الجبري المنظم لشبيه بالنغمة الموسيقية ذات التوقيع المتسق، وهذا تشبيه يثير دهشة الذين لا يرون في الجبر إلا أرقاماً وعلامات، ولكنه مقبول عند الذين يعرفون نسبة هذه الأرقام والعلامات إلى المعنى الذي تخفيه وراءها، فهي كنسبة العلامات الموسيقية إلى الأنغام المطربة، والأثر الذي تخلفه في نفوس سامعيها. ثم يعزو رئيس المجمع اهتمام العلماء بالعلوم الطبيعية إلى ما تنطوي عليه مباحثها من بهجة وجدة، لا إلى ما ينتظر من ورائها من نفع مادي، وإن كان تحقيق هذا النفع أمراً أكيداً!

بهذه الروح (الفنية) يتحدث العلماء المحدثون عن العلم وغاياته. كان بيكون في مستهل العصور الحديثة يتهكم بالعلماء الذين ينفقون الوقت الطويل في الدراسات النظرية التي لا ترمي إلى خدمة الإنسان، فأصبح العلماء في آخر القرن الماضي يتحدثون عن علاقة العلوم الطبيعية بالعلوم الأدبية، ومشاركتها لها في تهذيب النفوس، ويقولون أنا نلوم العلوم الأدبية إذا اقتصرت على دراسة الإنسان وأعماله، وأهملت ظواهر الطبيعة وقواها؛ ثم نلوم أنفسنا إذا اقتصرت - علومنا الطبيعية - على النظر إلى الطبيعة ولم تتجاوزها إلى الإنسان

ص: 17

وأعماله. ثم تطورت هذه الروح في القرن العشرين حتى أصبح العلماء يفكرون في العلاقة بين العلوم الطبيعية والفنون الجميلة، ويتحدثون عن الجمال الذي تكشفه الدراسات إذا انصبت على ظواهر الطبيعة، ويتكلمون عن أثر هذا (الجمال) في نفس العالم وتشجيعه على مواصلة البحث، وإن لم ينكر هؤلاء العلماء ما يترتب على دراساتهم من نفع إنساني لم يقصدوا إليه، ولم يتجهوا إلى تحقيقه. تلك أحدث وجهات النظر في فهم العلم الطبيعي وتجديد غاياته فيما نعلم

2 -

تبعات العلم في الحرب والسلم

تحرر العلم من تبعة الويلات التي قد تترتب على بعض مبتكراته ومخترعاته، وإن لم ينج من النقد الحر الذي ترتفع به صيحات الناس إبان الحروب وبعد أن تخمد نارها، فإن الحرب إذا اندلع لهيبها قصر العلم غايته على تقديم الوقود لها، وخص بلاده بكل جهوده، وتحول العلماء بين جدران معاملهم إلى جنود بواسل، يبذلون الجهد صادقين في إنقاذ الوطن، أو يفرغون الوسع جاهدين لتحطيم أعدائه، ولهذا انصبت اللعنات على العلم دون حساب، وأحس أهله - في فترة مضت - بحرج مركزهم؛ فأخذوا يلتمسون لأنفسهم الأعذار. وتذرع المجمع البريطاني بحجة أعلنها سنة 1899، ثم كرر إعلانها سنة 1925 فقال: إن الجندي يسعى لحفظ حياة الأفراد، أما العالم فإنه يجاهد لحفظ حياة النوع بالعمل على إيقاف الحرب بما يخترع من آلات التخريب وأدوات التدمير، والظفر في الحرب يكسب السلم الذي يصون الحرية الفكرية ويستأصل الشر الذي يجور على محبة الأمم ويبشر بالحق والمحبة في بقاع الأرض طراً. . .! وهذا العذر يكاد لا يفترق عن الحجة التي تذرع بها نابليون يوم طمع في إخضاع العالم وتوحيد حكمه. وقد ردد الحلفاء صداها في الحرب الماضية، وتثار اليوم في الحرب الراهنة التي ترمي إلى القضاء على الهتلرية التي أنهكت أعصاب العالم وهدت قواه، بما تظهره من امتهان الوعود والحنث بالعهود. فكأن رجال العلم حين التمسوا لأنفسهم الأعذار عن تسخير علمهم لغرض قومي عملي، قد تحولوا إلى رجال سياسة! وقد كان في وسعهم أن يقولوا إن الحروب إذا اندلع لهيبها، انقلبت الأوضاع واضطربت الغايات، وأصبح من واجب العلم أن يلبي نداء الأوطان. إن المواطن في أعرق البلاد نزوعاً للحرية والديمقراطية، يكاد أن يستحيل آلة في يد الوطن

ص: 18

إذا حاق به خطر، فلماذا ننكر على العلم خروجه عن حريته، ومرضاته بخدمة غرض قومي متى دعا الداعي ونادى الوطن؟

ورغم أن العلم قد تحرر من ذل الأغراض فما زال مثاراً لاتهامات تنصب عليه في أيام السلم كذلك، وحجة المتهمين أن مخترعاته قد ترتب على بعضها ما يراه البعض شراً وأذى، وقد يطالبونه بتحقيق ألوان من السعادة الموهومة ويحاسبونه على عجزه عن تحقيقها! قال الرئيس ولسون: إن العلم قد أخفق في تحقيق الإصلاح العاجل وتوفير الفردوس الأرضي للناس. إنه أفادنا في عالم المادة وحررنا من خوف الخرافة والمرض، ولكنه فشل في تغيير الطبيعة البشرية وتخليصها من أدران الأحقاد والضغائن، وبذلك ظل الناس عبيداً لأنفسهم. فرد عليه المجمع البريطاني قائلاً: لماذا نلقي على عاتق العلم تبعة الفشل الذي انتهت إليه آمال لم يعد العلم بتحقيقها؟ إن العلم لا يدعي إصلاح الطبيعة البشرية، وقد يكون في مقدوره أن يغير البيئة ويزيد في منفعة الإنسان، ويوسع من رحاب مداركه، ولكنه غير مسئول إذا أساء المرء استعمال آثاره. فعلم الطب قد يطيل حياة الناس، ويكفل لهم الصحة والعافية، ولكنه غير مسئول عن تُقْضى الحياة التي نجح في إطالتها. وقد يكفل للأشرار القوة كما يكفلها للأخيار ولكن ذلك لا يبرر المطالبة بإغلاق المستشفيات حتى لا يفيد منها دعاة الشر والإجرام

ترى مما أسلفنا أن العلم وإن كان قد بدأ في العصور الحديثة موصول الرابطة بصالح الإنسان، إلا أنه مضى في تطوره حتى أزاح عن كاهله خدمة المجتمع واسترد حريته وسيادته، وأضحى عند أهله بحثاً موضوعياً يعينهم على التملي بجمال الطبيعة واستشعار اللذة العقلية عند فهم ظواهرها. أما المنفعة المادية فتجيء عرضاً من تطبيق نتائج العلم لصالح المجتمع، واعتبر المحدثون توجيه العلم للنفع المادي استعباداً للعقل وامتهاناً لقداسته، بالإضافة إلى ما ينشأ عن تقييد حريته من انحطاط فكري شهد به تاريخ الفكر منذ أقدم العصور. وما دام العلم في عهده الأخير لا يتصل بالكمال الإنساني اتصالاً مباشراً، وهو زاهد في ثناء الناس على ما قدم من خدمات، غير مستعد لاحتمال التبعات التي يلقيها على عاتقه خصومه، فليس من حقنا أن نتولاه باللوم كلما تطايرت إلينا أنباء الحروب وفظائعها. وإن كان لابد من الحديث عن موقف العلم من الكمال الإنساني لمعرفة ما حققه

ص: 19

من خير وما جره من ويلات - وجب أن نتحدث عن العلم في أول مراحله كما صوره فرنسيس بيكون أداة لخدمة الإنسان. والكلام على بيكون وتبشيره برسالة العلم والمدنية، يذكرنا بجان جاك روسو ورسالته القائمة على الدعوة إلى الطبيعة والعيش على مقتضى الإلهام والفطرة البسيطة؛ وذلك ما نخصص لمناقشته مقالنا القادم

ت. الطويل

ص: 20

‌الحد الفاصل بين أدب الروح وأدب المعدة

للأستاذ محمود علي قراعة

قرأت لأستاذنا الدكتور زكي مبارك في العدد 325 كلمة ذكر في آخرها آية كريمة وسألنا هل نعدها أدب معدة أم أدب روح. وهو بذلك يحاول أن يدخلنا في الميدان الذي دخل فيه متحدياً كل فكرة روحية، متهكماً على كل نزعة سماوية، مستنداً بذلك إلى مكانته الأدبية ولباقته وما أوتي من قوة غريبة على الدفاع عن القضايا الخاسرة. وهو لذلك يقف دائماً نصيراً لكل فكرة حسية ويقف نفسه موقف العداء لكثير من المعنويات وإن كان قلمه السيال كثيراً ما يجرفه ويخرجه عن الحسيات إلى المعنويات والروحيات من غير أن يشعر. والحقيقة أن الدكتور زكي مبارك مشكلة لأنه خليط لم يمتزج بنسب معينة من القوى النفسية المختلفة، فتارة تراه الخير كله والإخلاص كله والوفاء كله، وآونة تجده يميل كل الميل إلى الخروج عما يتصل بالروح إلى النزول إلى ما يوثقه بكل أرضي وبكل نازع لحسي. وفي تاريخه أمثلة متضاربة لكل ما يمكن تصويره من الميل إلى أحد هذين الجانبين؛ فتارة تراه صوفياً مدروشاً، وأخرى تلفيه ساخراً بالحياة وعابثاً فيها. ولكن إذا كان أستاذنا الدكتور يرى لنفسه الحق في أن يتشكل كما يشاء وأن ينضم إلى الجانب الذي يريد، فلا أدري لماذا نراه متهكماً على كل فكرة روحية ومحارباً لكل النازعين إليها؟! كثيراً ما ردد في الرسالة كلمة أدب الروح وأدب المعدة، لا لأن الاصطلاح في ذاته غير موفق بل لأن أستاذنا أحمد أمين قد وضعه لتقويم الأدب وصحة تقديره. ولأستاذنا الدكتور الخيرة في أن يواصل حملاته على صديقه أو أن يقفها لأنه حر إذ لم يرد أن يسمع رجاء تلاميذه وإخوانه في أن النقد ممكن من غير خصومة كما فعل أستاذنا الدكتور عبد الوهاب عزام؛ ولكن الذي لا نقره ولا نستطيع السكوت عليه أن نغفل مناقشة ما يرد في حملاته مما عسى أن يمس الأدب في ذاته من قريب أو بعيد. فأستاذنا أحمد أمين يعني بأدب الروح الأدب الذي يتصل بالعواطف السامية عند الإنسان فيهذبها ويرقيها ويغذيها؛ ولذلك رأى أن القرآن أدب روح لأنه يسمو بالإنسان عن عالم المادة ويأخذ بيده إلى السماء لينظر إلى الأرض وما فيها نظرة تريه الحق حقاً والباطل باطلاً. ولكن أستاذنا الدكتور زكي مبارك تأبى عليه نزعته الحسية إلا أن يعارض هذا. ورأى أن أقرب مثل يؤيد وجهة نظره أن يذكر ما في

ص: 21

القرآن من آيات تذكر وجود أشياء حسية في الجنة، مع أنه كان يجب على أستاذنا الدكتور أن يرى أن أقل ما يمكن تصوره في عالم سيخلو من البؤس والفقر والهرم، ولن تهيئ طبيعته المجال لظهور الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة وما يدخل تحت كل منها من فضائل إنسانية، أن ينعم الناس فيه بالاتحاد والمحبة فتتاح لهم أنواع المحبة من إلهية وصداقة أخوية، وفهم نزوع الأشياء المادية التي ستوجد هناك إلى التمتع بفكرتها الروحية، فما وجد من جميل صور من حور وولدان، نزع به إلى فكرة تقديس خالق هذه الصور، وما وجد من قصور وأنهار وفاكهة نزع به إلى النشوة الروحية من وجود هذه الأشياء، وأن ليس معنى هذا خلو الجنة من استلذاذ بالحور العين الاستلذاذ الحسي أو بما هنالك من مأكول ومشروب وحلي وحلل، وبذا نضع الفكرة الروحية في درجتها العلوية ونجعل الحسيات في درجتها الثانوية، بل ونسمو بها إلى فهمها الفهم القريب من الروح. ونحن بذلك نسمو باللذة الممكن تصورها في الجنة من غير نكران لحسيتها بجعلنا الحسي تابعاً للروحي إذ أكثر جزئياته روحية. ولو تدبر الدكتور قوله تعالى في سورة السجدة:(فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون) وقول النبي (ص) في حديث قدسي عن ربه تعالى: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) لوصل إلى أن المذكور في القرآن في سورتي الرحمن والواقعة وغيرهما وفي الأحاديث الصحيحة لا يفيد أن المذكور مذكور على سبيل الحصر بل على سبيل التمثيل لما سيوجد، ولعرف أنا وقد استبعدنا الأخذ بالنظرية التصويرية لمخالفتها لكثير من النصوص وما تحتمله قرائنها مثل الطمث للحور، لا نجد أمامنا إلا أحد أمرين: إما أن نأخذ بالنظرية الحسية أي بتغليب اللذات الحسية على الروحية، أو أن نأخذ بالنظرية الروحية التي تغلب اللذة الروحية على الحسية فلو أخذنا بحسيتها تغليباً، لنزلنا بها ولشبهناها بلذة الدنيا المتواضعة فأخرجناها من سموها الذي يجب أن تكون فيه لتتلاءم مع نفوس أصحابها، ولذا لم يكن بد من أن نأخذ بروحية اللذة تغليباً. وعلى ذلك فذكر القرآن الكريم الأشياء المادية حتى على فرض الأخذ بالنظرية الحسية إطلاقاً لا يفيد أن القرآن أدب معدة وهو مملوء بما يفيد أن الجنة جزاء من عمل صالحاً وجزاء من اتقى. وليتل دكتورنا إذا شاء قول الله تعالى (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في

ص: 22

سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة، وكلاً وعد الله الحسنى، وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيما، درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفوراً رحيما) وقوله تعالى (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) وقوله (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً، حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين) وقوله (كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين، وما أدراك ما عليون؟ كتاب مرقوم يشهده المقربون) وقوله (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون، وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم) وقوله حكاية عن أولي الألباب من عباده قولهم (ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار، ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد) وقوله: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً خالدين فيها) وقوله: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم) وقوله: (إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق) وقوله: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين، والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون. أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين)

فهذه الآيات الكريمة وأمثالها التي كثر ذكرها في القرآن الكريم أكبر دليل على أن القرآن روحي لأنه جعل الجنة (حتى لو أخذنا بحسية اللذات إطلاقاً) جزاء المجاهدين والصالحين والمتقين والمؤمنين والمستغفرين؛ أي جزاء من سمت روحه بالإيمان وزكى نفسه بالتقوى وكان روحانياً بالجهاد والعفو والصلاح

ويرى أستاذنا أحمد أمين أن باب الحماسة في ديوان الحماسة مثلاً أدب روح لأنه صادر عن نفوس قوية، وباعث لمشاعر قوية، وداع لمواجهة هذا العالم وما فيه من نفوس أبية،

ص: 23

في غير خضوع ولا استخذاء، فلم يعترض أستاذنا الدكتور زكي مبارك على هذا لأنه لا يستطيع مهما كان نصيراً للحسية أن يقول بغير هذا، لذلك نجده بلباقة زكيه مباركة قد أغفل ذكر الحماسة وتخطاها إلى ذكر الغزل والحب. فأستاذنا أحمد أمين يرى أن غزل جميل وكُثير والعباس بن الأحنف، أدب روح، لأنه يصهر النفس ويطهرها ويجعل من آلامها وآمالها مبعثاً لفيض الحنان والرحمة والعطف على العالم وعلى الإنسانية كلها. وقال إن الغزل الفاجر أدب معدة وإن تعليل ذلك واضح بقليل من إعمال الفكر، فأتى أستاذنا الدكتور زكي مبارك في العدد 322 من الرسالة يعارض هذه الفكرة بقوله:(. . . لا يمكن للمرأة أن تكون مصدر وحي وإلهام للرجل إلا إذا اشتهاها شهوة حسية، ومن قال بغير ذلك فهو رجل ضعيف لا يدرك جوهر الصلات بين الرجال والنساء) ويقرر أن رجال الأخلاق لم يستنكروا الشهوات إلا بسبب الإسراف؛ أما الشهوات في حد ذاتها فهي من دلائل العافية، وأن فضيلة العفاف لا يقام لها وزن إلا حين تصدر من رجال مزودين بحيوية الشهوات، وأن للشهوة الحسية صلة بتفوق الرجال في الميادين العقلية، وهذا ليس مستبعداً من أستاذنا الدكتور الذي يعبر في كل كتاباته عن ميله للحسيات وهو بهذا ينصر أدب المعدة؛ لأنه ينصر الحب الفاسد ويخذل أدب الروح، لأنه يخذل الحب الروحي الذي يجمع بين قلبين، ولكن الغريب مع هذا أن نجد لأستاذنا الدكتور بعض كتابات تجعله من أنصار أدب الروح فمثلاً وقد فتحت الآن كتابه (ذكريات باريس) قد صادفتني ص13 وفيها يقول وصفاً لحسناء (هي فتاة ناهد حسناء رشيقة القد، مشرقة الجبين، في عينيها النجلاوين بقايا خطيرة من سحر هاروت وماروت. . . وفي صوتها غنة موسيقية. . . ولأناملها رقة جذابة تفيض بالكهرباء. . . وفي خطراتها تكسر وتثن. . . ولها رفق بارع في إذكاء نار الحب والوجد فيمن تختار من أصحاب القلوب. . .) فهذا الوصف من أدب الروح لأنه يعطي القارئ فكرة روحية عن حسناء زكي مبارك الجميلة. وكذلك أعد من أدب الروح مقالة الحب الأثيم في باريس ص15 وما بعدها، لأنه وإن حدث عما في حدائق باريس من عشاق متعانقين ومتعانقات فوق المقاعد مظللين بالأشجار المورقة، فقد كتب مقاله ليقرر (أن الشاب الذي يحمله جنون الشباب على غشيان المواخير القذرة ثم يحمل مرضاً يعيا في برئه الأطباء) إنما يخدع نفسه بقوله إنها تجربة، وإن كان قد أبى عليه حبه للحسيات إلا أن

ص: 24

يجعل جزءاً منه أدب معدة بتقريره بوجود حب شريف غير الهوى العذري المعروف عند العرب (وهو الذي يجري بين فتى وفتاة أو رجل وامرأة لغرض غير مادي وتقع حوادثه في الأوساط المعروفة بالاستقامة وحسن السمعة. . . ويستبيح أشنع الذنوب والآثام ولكنه مع ذلك يجري فيه الأرق وتسيل من أجله المدامع، وتعرف فيه نكايات الوشاة والعذال، وتتخذ من أجله الرسل، وتدون له المكاتبات. . .) ولعل الحد الفاصل بين الحب الروحي والحب الفاسد هو أن الصلة في الحب الروحي تصل بين روحين وقلبين، كما رأينا في رفائيل لامارتين وتعريب أستاذنا أحمد حسن الزيات؛ ففي ص82 تستنكر جوليا أن يتدلى الحب إلى اللذة الحسية الوضيعة، أو يتدنى إلى الشهوة الدنسة الحقيرة لأنه إذ ذاك يفقد كبرياءه ونماءه وبقاءه. فيجيبها رافائيل في ص202: بأن نار الحب القدسية قد أتت على هذه الشهوات الباطلة والنزعات السافلة فحولتها إلى لهب صاف كقلبها نقي كحبها. ولذلك لا أدري كيف يستنكر أستاذنا الدكتور أن يسمي ما يتصل بالروح كرواية رفائيل أدب روح، وما يتصل بالجسد أدب معدة لأنه يتصل بالمعدة؟ وكيف أجاز لنفسه أن يدعي أن القائلين بروحانية الأدب قد خلوا من الفتوة، أو أن المرأة لا تلهم الرجل إلا باشتهائها حسياً، أو بمعنى آخر إلا إذا كانت الصلة بينه وبينها بهيمية، يعني أنها إذا كانت روحية بريئة لا تلهم على رأي الدكتور وفي هذا ما فيه من النزول بالصلات وما فيه من الإلغاء للشعور القلبي والقرب من البهيمة التي لا يهمها من الفحل إلا عملية التلقيح

ويقول أستاذنا أحمد أمين إن أدب الطبيعة أدب روح، لأنه شعور بالجمال مجرداً عن الرغبة وتقدير للحسن منزهاً عن الأثرة، ومزيج من شعور بجمال وجلال يحد من كبرياء الإنسان، ونبل هذا الأدب إنما يرجع لنبل غرضه. وظاهر أن غرض المتغزل في الطبيعة التي خلقها الله، هو التفكير في خلق الله، وفي تقديس ما أوجده الله لنا من أشياء حسية تدل في خلقها، وسمو صنعها على جليل قدرته وعظيم قوته، أي أن أستاذنا أحمد أمين يرى أدب الروح هو كل أدب انبعث عن عواطف نبيلة ويدفع إلى أعمال نبيلة، ولا أظن أستاذنا الدكتور زكي مبارك يعترض اعتراضاً جدياً على هذه التسمية

أما أدب المعدة فيرى أستاذنا أحمد أمين أنه ذلك الأدب الذي يدور حول ملء المعدة واستدرار المال وتحصيل القوت، ومثل لذلك بالغزل الفاجر ومقالات الكاتب التي باعثها

ص: 25

الأول ملء الأعمدة والاستيلاء على الأجرة، وأدب المديح؛ وظاهر أن سبب هذه التسمية ضعة الأدب الذي يكون باعثه استدرار عطف من يغدق على المادح المال أو يفيده من الجاه، وتفاهة الأدب الذي يكون باعثه الأول لا حب الأدب في ذاته أو الرغبة في البحث في ذاتها أو الاقتناع بفكرة بعينها، بل لأنه مسوق إلى أن يكتب موضوعاً معيناً وإلى أن يصوغ فكرة معينة على أسلوب معين على قدر كذا من الأعمدة ليتقاضى كذا من الجنيهات، وكذلك الغزل الوقح أو الوصف المكشوف لما ينزو بالرؤوس ويحرك الشهوات، فلا ريب في أنه وضيع لاتصاله بالضعة، وعلى ذلك يمكن أن نجعل الغزل من أدب الروح إذا أخرجناه عن تحريك الشهوات وكان القصد منه الحديث عن صلة قلبية روحية أو تصوير صورة حسية تسمو بالقلب أو ترقى بالروح، ويمكننا أن نرى من الكتاب من يكتب كل يوم مقالاً ويتقاضى عليه أجراً، ولكنه يأبى أن توضع لي الفكرة أو تملى عليه إرادة ويأبى إلا أن يوحي إليه ضميره ويفتيه قلبه وعقله، فلا يمكننا إلا أن نعجب بأدبه وأن نقر بأن أدبه أدب روح لأنه من الروح وإلى الروح، وكذلك يمكن أن يكون المدح لعظيم يستحقه من مادح لا يبغي بمدحه إلا تقرير الحقيقة، أدب روح لأنه يضع لنا صورة حقيقية تسمو بالروح. وبعد فهذا هو ما نراه حداً فاصلاً بين أدب الروح وأدب المعدة، أرجو أن يقره أستاذنا الدكتور زكي مبارك وأن يكون به من أنصار أدب الروح، والسلام.

محمود علي قراعة

ص: 26

‌استطلاع صحفي

50 قرناً في المتحف الحربي

جولة بين آثار الماضي والحاضر

(لمندوب الرسالة)

حمى الحرب تهز أطراف كل إنسان. ولئن اختلف الناس في ضرر الحرب وضرورتها فأنهم يتفقون في وجوب الاطلاع على تاريخها وحالة جندها ونتائجها. ومصر أمة قديمة لها تاريخها الرائع الذي صحب المدنية من مهدها إلى الآن والمطلع على تاريخها يجد فيها تطور الأسلحة وأدوات القتال من المقطع الصخري إلى المدفع المدمر. فإذا جاز للأمم أن تشيد لها متاحف حربية فأن مصر أولاها بهذا الحق

وقد شرعت وزارة الدفاع الوطني في تكوين نواة هذا المتحف ووصلت إلى نتائج طيبة. وأتيح لي أن أجول في هذا المتحف وهو في فترة تكوينه. وهاأنذا أقدم للقارئ بعض ما رأيت راجياً أن يتاح له في القريب العاجل أن يرى هذا المتحف بعد أن يتم أمينه النقيب عبد الرحمن زكي أفندي جزءاً من برنامجه، ولست أقول كله لأني أعرف أحجامه ومراميه

خمسون قرناً من الزمان

إذا خلوت إلى نفسك وطاب لك الاستجمام فاستعرض في مخيلتك تاريخ مصر الحربي منذ فجر التاريخ إلى الآن. فتصور كيف كان المصريون يكافح بعضهم بعضاً في عصور ما قبل التاريخ. ثم كيف كانوا يغزون القرى والبلاد ويفتحون الممالك في عصر الأسر الفرعونية وفي عصور الفرس والرومان والبطالسة وفي العهود الإسلامية. واستمر في وصل حلقات التاريخ من عصر المماليك إلى الآن؛ ولا يفوتن مخيلتك أن تستعرض الأسلحة التي استعملوها والملابس التي ارتدوها والأسلاب التي غنموها والقلاع التي حصنوها والمواقع الحربية التي اشتركوا فيها بما في ذلك صور أبطال تلك المعارك

وقدر بعد هذا كم تكون هذه الصورة واضحة، وماذا تعرف من تاريخ مصر ومن سير أبطال مصر. ولقد جلست من قبلك فوجدت أن حقباً كاملة تمر غامضة؛ بل إن أكثر الفترات وضوحاً لدي كان ينقصها كثير من التفاصيل. حتى الفترة الحالية مع أني أعيش

ص: 27

فيها وأخالط رجالها العسكريين وأزور معاهدهم كل يوم مازالت مبهمة، ومازلت في كل يوم أرى جديداً لم أشاهده من قبل. فإذا استعرضت هذا الماضي الطويل وعرفت أثره في تربية النشء وبث الروح القومية أدركت حاجتنا الماسة إلى متحف يضم تلك الذكريات العظيمة فيشاهد الصبي تحتمس أو رمسيس أو صلاح الدين أو إبراهيم وقد تقلدوا أسلحتهم ودافعوا عن كرامة بلادهم. فهل تظن أن من يشاهد عز أولئك يرضى بالذلة لنفسه؟ محال! فالذكرى تنفع المؤمنين

مشروع ضخم

وإذا كانت مصر قد عاشت تلك السنين الطويلة بدون متحف حربي عام فقد أنشئت عدة متاحف ضمت عدة مجموعات من الأسلحة أهمها ما هو محفوظ الآن في المتحف الحربي في قصر عابدين. وقد تنبهت وزارة الدفاع الوطني منذ سنوات إلى أهمية هذا المشروع فقدرت إنشاء متحف حربي عام عينت لإدارته لجنة من كبار ضباط الجيش المصري واختارت حضرة النقيب عبد الرحمن زكي أفندي أميناً له.

وشرع أمين المتحف من اللحظة الأولى في وضع برنامج الإنشاء فزار الأماكن التي توجد فيها آثار حربية مصرية سواء كانت هذه الأماكن معاهد عامة أو منازل خاصة. فكثير من ضباطنا الذين اشتركوا في حروب السودان وأغلب أمراء العائلة المالكة يحتفظون بمجموعة ثمينة من الأسلحة وخصوصاً من عهد محمد علي إلى الآن. وليكون تنظيم المتحف على أحدث طراز سافر أمينه إلى أوربا فشاهد هناك أحدث الطرق لحفظ الآثار وأبرع الوسائل لعرضها على أنظار الجمهور حتى تؤدي الغاية المقصودة منها سواء كانت قومية أو تعليمية

وقد يكون من الصعب على الإنسان أن يتخيل صور مصر الحربية خلال خمسين قرناً فإذا قارنا بين إنسان يتخيل صورة وبين آخر يحاول أن يخلق صورة واضحة استطعنا أن ندرك ضخامة العمل وما يحتاج إليه من جهود. فإنشاء النموذج الواحد يستلزم الرجوع إلى عشرات المؤلفات والصور. فهاهو مثلاً نموذج لقلعة بنيت في عصر رمسيس الثالث يتطلب بناؤه زيارة القلعة الحقيقية ومعرفة تخطيطها ثم الطريقة التي تبعها المصريون الأقدمون في حروبهم والأسلحة التي استعملوها لمغالبة مهاجميهم حتى تتكون لدينا صورة

ص: 28

صحيحة عن استعداد القلعة وشكلها وهذا يستلزم منا أن ندرس عشرات المراجع لنتأكد من صحة ما نصنع

فالآثار التي تركها الأقدمون قد عصفت بكثير من معالمها تقلبات الزمن وتوالي الحروب بين غزو وفتح. هذه القلعة التي نراها في لمحة بصر احتاجت من منشئها إلى عدة سنين استعان فيها بدراسة غيره وخبرة نفسه. فالعبرة في المتاحف أن تكون معروضاتها صورة تاريخية صحيحة وليست بناء يسهل على الناقدين نقضه وإثبات خطئه

نواة صالحة

ويتكون المتحف الحربي الحالي من ثلاثة طوابق. يشغل الطابق السفلي منه وهو (البدروم) مصنع أعد لصب التماثيل، وأعمال النجارة لعمل الخزائن الزجاجية التي تحفظ المعروضات. ويشغل في هذا المصنع فنانون مصريون درسوا الحياة العسكرية فعرفوا دقائق تقاطيع وجه الجندي المصري إذا اشتبك في ساحة القتال أو جلس في ثكنته ينشد التدريب العسكري، ويستعد لطوارئ الزمان

وهم يوجهون اهتمامهم الآن لتسجيل نماذج الجندي المصري الحديث فصبوا أجساماً من (المصيص) دهنوها بالأصباغ، وألبسوها حلل الميدان أو التشريفات. فلا تكاد تراها حتى تشعر بأنك أمام جندي أو ضابط مصري في وقفة عسكرية لا أثر فيها للكلفة. وإني لأضحك من نفسي كلما تذكرت المرة الأولى التي شاهدت فيها هذه التماثيل إذ ما كاد باب الحجرة ينفتح وأرى من فيها حتى رفعت يدي بالتحية ولاسيما عندما وجدت ضابطين واقفين قبالة بعضهما كأنهما يتحادثان

وتعجب أشد العجب إذا عرفت أن هذه النماذج لا تصنع واحداً واحداً بل تصنع بالعشرات؛ فهاهي أجزاء نماذج جديدة لن تلبث حتى ترسل إليك نفس الشعور بالحياة. وتتكون هذه العملية من عدة مراحل، فتصب أولاً أجزاء التماثيل على انفراد فترى الساق وحدها والصدر منفصلاً عن الظهر، ثم الرأس موضوعاً في مكان آخر. ويتناولها الفنان فيكون من هذه الأجزاء المتناثرة المتماثلة وحدة مختلفة بما يسبغه عليها من ألوان، وعلى تقاطيع وجوهها من معجون، يرفع الأنف أو يوسع العينين ويشرف على هذه الحركة الدقيقة الأستاذ محمد نجيب المثال

ص: 29

صنع في مصر

وأول ما يواجهك عند دخولك المتحف مجموعة من (المسدسات) صفت على الحائط وكتب عليها (صنع في مصر) فهي دليل حي على ارتقاء صناعة الأسلحة في بلادنا في عهد محمد علي. فإذا دخلت إلى القاعة التالية شاهدت نماذج جنود مصر في ذلك الوقت وعرفت الأناقة والنعمة التي كانوا يعيشون فيها. وأما الجدران فقد غطيت بالصور المختلفة التي تبين ملابس الجنود وأزياءهم

ويحرص المتحف على أن يقدم لزائريه صورة واضحة عن المعارك التي اشتبكت فيها جيوش مصر، ولهذا ترى لوحات كثيرة رسمت عليها خرط تلك المعارك، فترى مواقف الجنود ونظامهم وكيف سارت المعركة. وأكثر هذه الرسوم هدايا قدمها أمراء العائلة المالكة وغيرهم من رجال مصر تعضيداً للمتحف حتى يحقق برنامجه

قارع الطبل

وقسم الطابق الأعلى على فترات التاريخ المختلفة ابتداء من عصر ما قبل التاريخ إلى الآن كما يضم مجموعة من الأسلحة والطبول التي استولت عليها الجيوش المصرية أثناء حروب السودان، ومنها طبل استولت عليه البطارية الرابعة في الداورية رقم 27 أثناء تجوالها في دار فور سنة 1916 ولتكون الصورة أكثر وضوحاً صنع المثال لهذا الطبل قارعاً وقف يضربه فلا تكاد تراه حتى تشعر بأنك أمام محارب سوداني

ويحتفظ المتحف بمجموعة كبيرة من الصور بعضها رسم باليد ليمثل العصور التي لا سبيل إلى إثبات صورها بالفوتوغرافيا كالعصر الإسلامي وعصر محمد علي وعصر إسماعيل وبعضها الآخر - وتقدر صوره بالألوف - عن العصر الحديث وقد التقط بآلة التصوير لمعاهد الجيش في عهدها الحالي، ومن يشاهدها يأخذ فكرة كاملة عن الجيش المصري في الوقت الحاضر. ويضاف إلى ذلك مجموعة أخرى أعدت لإلقاء المحاضرات بواسطة الفانوس السحري، وتنظم هذه الصور بطريقة علمية دقيقة تيسر للناظر الحصول على معلومات طريفة

الزمن خير كفيل

ص: 30

وفي فناء المتحف الداخلي صفت المدافع التي أمكن للمتحف الحصول عليها من عصر محمد علي، وهي مجموعة ثمينة تبين تقدم فن القتال الحربي في ذلك الوقت وأكثرها صنع في مصر ومازالت حتى الآن في حالة جيدة يسهل معها استعمالها. ويوجد في أنحاء القطر المصري كثير من هذه المدافع وخصوصاً في الإسكندرية في القلاع القديمة، ولكن نقلها وتنظيفها يحتاج إلى زمن طويل ونفقات كثيرة ولهذا ينقلها المتحف شيئاً فشيئاً

ويعتمد المتحف في تنظيمه وتوفير معروضاته على الهدايا التي يقدمها الناس أياً كانت جنسياتهم ومهنهم وعلى المنشآت التي يصنعها عماله، ولكن ضخامة العمل وقلة الأيدي العاملة تقف حجر عثرة في سبيل افتتاح المتحف للجمهور. فرغم النشاط المبذول ورغم كثرة المعروضات لا نستطيع أن نقول إن ما تم إنشاؤه يمثل خمسين قرناً من الزمان، فمثل هذه المشروعات الضخمة تحتاج إلى عشرات السنين لتظهر أمام الجمهور في ثوب لائق

(الشتوي)

ص: 31

‌حوّاء

للأستاذ علي أحمد باكثير

قلبي يحن إلى عهودك

وإلى رضائك أو صدودك

وإلى محيّاً ساهمٍ

فيه الفضاء على عميدك

فيه شكاياتي وأح

زاني وآلامي وياسي

وضناي فيه ووحدتي

من غير آسٍ أو مُوَاسِ

يرثِى له قلبي فلا

يرثِى لغير مُصَابه. . .

فكأنه المرآة يُبْ

صر فيه قلبيَ ما به!

حتَّى إذا ما افترّ ثغ

رُكِ عن ثناياك العِذاب

وهفا الضياء على لَمَا

ك كأنه العسل المُذَاب

وتلألأت عيناك وان

بثق الشُعاع الحالمُ

خطرَتْ لِي الدنيا بِفي

كِ فكل شيء باسم!

خطرت كوجه الأُمِّ يب

سم للوليد الراضعِ

يسري بعَيْنَيها على

نَهَر النعيم الواسع!

عَقَلَ ابتسامتَها لأوَّل

مرّةٍ في عُمره

فرنا بِطَرْفٍ فيه أوَّلُ

خفقةٍ مِنْ فكره!

عقل الحقيقة كالخيال

هناك في تلك الدقيقة

ولطالما مِنْ قَبْلُ كا

ن له الحيال هو الحقيقة

أو كالوجود بدَتْ لِعَيْ

نَيْ شاعرٍ أسرارُه

في لحظةٍ مِنْ وحيِهِ إنْ

هتكتْ له أستاره

فكأنه لم يَدْرِ أوْ

يَرَ قَبْلها في الكون شيا

أو كان صخراً مسَّه

سرُّ الإله فقام حيَّا

يا نظرةً كُنْتُ الولي

د بها وكنتُ الشاعرا!

والأمَّ كنت بها وكنْ

تِ بها الوجود السَّاحِرا

ما كان ثَمّةَ غيرُ عي

ن الله ترعانا حنانا

ص: 32

وكأنه مِنْ عَطْفِه

إذ ذاك لم يخلُقْ سوانا!

يا ليت شعري هَلْ أَحسَّ

بمثل ما أحسَسْتُ آدم

لما بدوتِ لعيِنِه

حَوَّاَء في عهد تقادم؟

فهفا إليك كما هفوتُ

وما له أمٌّ سواكِ

فرحمتِه وجرتْ على

أطراف جُمَّتِهِ يداك!

أخْرجتِ آدم مِنْ جنا

ن الخُلد لكن كُنِتها له!

أنقذته بهواك من

تلك السآمة والملالة

فأحسَّ في الدنيا الشقا

َء وكابَد الألم الكبيرا

فَازْدَادَ بِالسَّرّاء وال

نَّعماء في الدنيا شعورا

ما بالُ آدمك الجدي

د تركتِه في شِقوته؟

لم ترحمي بلواه إذْ

أخرجتِه من جنَّته

قد كان يأمل إذ عصى

مولاه فيك مزيد عطفك

ويح الشقيَّ. . . حَرَمْته

مِنْ لطف مولاه ولطفك!

أهبطتِه من جَنَّتَيْ

هِ فهام في الدنيا شريدا

يبكيك في المأوى ويب

كي عهدك العهد السعيدا!

كيف السبيل إلى الرجو

ع إلى نعيمي السَّالفِ؟

وشفاء حَرَّى مهجتي

وسكون قلبي الواجب

وبأيّ وجهٍ بعد عصْ

يانِيهِ ألقى وجه ربي؟

ولئن جَرُؤتُ فَمنْ لقلبي

في يمينكِ. . . مَنْ لقلبي؟

أأجيئه مِنْ غير قلبٍ؟

كيف كيف يكون ذاكِ؟

ردّيه لي أطلُبْ رضا

هُ حيْنَ لم أدرِك رضاك!

حوّاء ذات العدْلِ! فيْم

عَدَلْت إلاَّ فيَّ وحدي؟

وعلامَ يا حَوّاء حافظةَ ال

عهود نسيتِ عهدي؟

لم تُنْصفيني إذْ بَرَرْ

تِ بآدمٍ وقطعتِ حَبْلي

وهو الذي ما إنْ حَملْ

تِ به ولم تضعيه مِثلِي!

ص: 33

أنا منكِ يا حوَّاء. . . أج

در بالحنان. . . وليس منكِ

إن كنتِ منه فتلك بَع

دُ مزيّةٌ تُقصيه عنك. . .

إن الحياة تَعُقُّ بِنتاً

دأبَها وتَبِرُّ أُمَّا. . .

هلاّ سلكتِ سبيلها

فقسمتِ لي بالبؤس نعمي!

أم شئتِ أن تلغي الوجو

دِ لتبْدئي في الخلق طَوْرا؟

لم تُغفَرِ الأولى. . . أأجْنِئ

فيكِ يا حوَّاءُ أخرى؟!

علي أحمد باكثير

ص: 34

‌إلى نجمتي النائية

للأستاذ صالح الحامد العلوي

حنانكِ! يا نجمتي الزاهرة

ويا نزهةَ القلب والباصرهْ!

ومن لم تزل رغم طول النوى

على الصبِّ ناهيةً آمره!

ومن غرست في الحشا دوحةً

من الحبِّ مزهرةً ناضره

ومَن هي من حسنها تحفةٌ

بَرَتها يد القدرة الباهره!

بروح تكاد لها خفَّةً

تطير مع النَّسمة الخاطره

ومن ساقها الحظُّ لي نعمةً

من الله سابغةً وافرة!

عرفت بها كيف معنى الحنانِ

وما لذّة الخلدِ في الآخره!

رعى الله وجهاً كساهُ الجمالُ

غدوتِ به في الورى نادره!

وعيناً من السِّحر مكحولةً

عليها معاني الهوى زاخره

بها قد أرى فيك أمي الحنونَ

وحيناً أرى اللبوة الخادرة

معانٍ من السِّحرِ لا تهتدي

إليها سوى الأعين الشاعره!

ألا حبَّذا عهدك المشتهى

ولله أيامكِ الزاهرة!

وتَجْوالُنا بين تلك الرُّبي

وطوراً على الضّفّة الساحره

وذاك المراحُ، وحلو المزاح

وضحكاتنا العذبةُ الطاهرة!

نخبُّ ونطفر بين الحقول

ونضحكُ للموجةِ الساخرة

ونشدو ونرقصُ مِلَء الصِّبا

من اللهو في نشوةٍ غامره

كأنّا - وقد شبَّ فينا الشباب -

صبيان لم نبلغ العاشره!

شريطٌ لماضيَّ لا تَأتلي

تمدَّ الخيالَ به الذاكره

لعهد من اللهو قضَّيتُهُ

يفاضلُ أوَّلُه آخرَه

متى يا قضاء ترى عوده؟

على رغم أيامنا الغادره!

(حضرموت: سيوون)

صالح الحامد العلوي

ص: 35

‌إليها يوم تنساني.

. .!

للأديب محمود السيد شعبان

مِعْزَفٌ في يدِ السَّنا

يَتَغنَّى عَلى الحِقَبْ!

ألهبَتْ شَدْوَهُ المنَى

ما لهُ ضلَّ فانتحبْ؟!

أنتِ لقَّنْتِهِ الهوَى

قُبْلةً كنتِ طُهْرَهَا

فاسْكُبي في فؤادِهِ

من معانيكِ سحرَهَا

وَامْرحي فيهِ. . . طالما

مَسَّهُ الحبُّ فَالتَهَبْ!

أنتِ دنيا خيالهِ

ليتهُ كان سِرَّها

أنتِ في موكبِ الجما

لِ نعيمٌ هو التَّرَف. . .

أبدعته يَدُ الجُنُو

ن وزانتهُ بالسَّرَفْ!

أنتِ سِرُّ الحياةِ في

باطن الكونِ قَدْ خَفَق!

أنتِ فجرُ الوجودِ من

كل قلبٍ هوى اْنبَثق!

كذَبَ الشِّعرُ!. . . إنما

أنتِ فوق الذي وَصَفْ!

فخذيني إليكِ. . . لمْ

يَبْقَ مِني سوى رَمَق!

أنتِ معنىً منَ الخلو

دِ وعى صفحةَ الأزَلْ!

وشعاعٌ من الحيا

ةِ حوَى الحبَّ والأمل

يا ابنةَ النور!. . . بدِّدي

ما بقلبي من الرِّيبْ!

واسكبي في فمي الضيا

َء الذي ضلَّلَ الحِقَب!

واغمُري الروحَ باللهي

ب لِتحيا على وَجَلْ!

قَلَقُ الحُبِّ. . . ما ألذَّ (م)

وَأحلَى لمَنْ أحب. .!

إيه يا حُبَّها!. . . أفِقْ!

قد عرفنا بكَ الخَبَل!

ورشفنا الجُنونَ لما (م)

استبَدَّتْ بنا القُبَل!

همْ يُسمُّونكَ الهوى

أنتَ يا حُبَّها القدَر!

فترفَّقْ بنا. . . فما

نحن إلاّ من البَشَر!

إيه يا قَلبُ!. . . دعْ دَمِي

فيكَ يَنسابُ بالأمل. . .

ص: 37

واشرب الحُسنَ والسَّنا!

هكذا حُبُّها أَمَر!

يا جُنونَ الهوى! عَشِقْ

تُكَ جَهْدي. . فكن معي!

واطْوِ فيما طويْتَ قل

بِي وعقلي ومسْمَعِي!

أنت في هيكل الخلو

دِ صلاةٌ لمن عَبَدْ!

أَزَلُ الدَّهر يلتقي

فيكَ يا حُبُّ بالأبَد!!

فاْمَلأ النفسَ بالرَّجا

ءِ وعِشْ بين أضْلُعي

أنت روحي. . . وإنما

أنا يا فِتْنَتِي جَسَد!

يا خيالي! ادَّخِر معي

للمُنى كلَّ ما فَتن!

لا تسلْني: متى غدِي؟!

كيف يحيا هُنا الزَّمن؟!

يا خيالي. . . أفِقْ وخُذْ

من رُؤى الحبِّ ما سَحر!

لا تقل لي: صِف الهوى!

هاهنا لا يرى البَصرْ!

إيهِ يا مُلْهِمَ النُّهى

كلَّ ما يبعثُ الشَّجَن. . .

اكشفْ السِّتر عن غدي!

إنه في دمي استتر!!

أيها الشِّعر!. . . أحيِني!

أنتَ مِن وحيها مدَد!

شعَّ في الكونِ نورُها

من قديمٍ وما نفد!

أيها الشِّعر!. . . غنِّني!

واروِ رُوحي بسحرِها!

واسكُب الطُّهر في دَمي!

إنه بعضُ سِرِّها!

هاتِها فتنةَ النُّهي!

هاتِها نشوَةَ الأبد!

هي دنيا خواطري

وتسابيحُ طُهرِها!

أيها الشِّعرُ. . . هجْتَ في

باطِني كامِنَ الذِّكَر!

عادَني فيكَ حُبُّها

فَالْتَقَيْنا عَلى قَدَر!

فكأني بها مَعِي

تسمعُ الشِّعَر مِن فَمي!

وكأني بصوْتِها الطُّ (م)

هْرِ يَنْسَابُ في دمِي!

لَيْتَ هذا حقيقةً

يَجْتَلِيها هنا البصَر!

إنه الُحبُّ. . . بَيْنَ أحْ

ضانِهِ الكوْنُ يَرتمي!

ص: 38

أيها الشِّعْرُ:. . . هاتِها

مُتْعةً تبعثُ الطَّرَب!

وادَّخِرْنِي إلى غَدٍ

سوف آتيكَ بالعجَب!

أنتَ يا شِعر خالدٌ

لستَ يا شعرُ للعَدَم

لا تَكِلْنِي إلى الأسى!

نِلْتُ زادِي من الأَلمْ!

واسقِنِي النورَ جُرْعةً

هيَ أَُنشودَةُ الحِقب!

وَقَّعَتها على القلُو

بِ يَدُ الحُسن من قِدَم!

(القاهرة)

محمود السيد شعبان

ص: 39

‌رسالة الفن

دراسات في الفن

عن فن الصوم

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

ليس الصوم تجويع البطن وحرمانه من حشوها، وإنما الصوم زهد في حاجات البدن يقصد لذاته، ويقصد لأثره. فهو نفسه انتصار لذيذ على قانون الحاجة والضعف، وهو بعد ذلك يبعث في الصائم إيماناً بإمكان التدرج بالطبع في مدارج الرقي، وإغراء بالوثوب إلى حياة الإرادة والعقل. وفي ذلك ارتفاع بإنسانية الصائم إلى درجة من النقاء الروحي لا تتاح لغير البشر من المخلوقات التي تنساق لقوانين المادة وتخضع لمطالب الأجسام فلا تملك لها رداً إلا إذا أجبرت في ذلك إجباراً وقهرت عليه قهراً. فهي في كل من الحالين مسوقة مسيرة مشدودة، بأسباب الاتصال ودواعيه، إلى أحوال وأوضاع لا دخل لإرادتها في إعدادها ولا ترتيبها، ولا توجيهها. هذا إلى ما في الصوم من تيسير التفرد، وتقريب الوحدانية، واستشعار الغنى. فكلما لوَّن الصائم الزهدَ وقَلل من حاجاته البدنية أحس حدود كيانه تتميز وتفصله عما عداه، وأدرك أنه واحد، وإن كان صغيراً فإنه نزاع إلى أن يقوم بذاته، وأن تفيض نفسه بالحياة على نفسه فهو لا يطلبها - إلا قليلاً - في لقمة من الخبز أو جرعة من الماء

ومع الإحساس بهذا الاستقلال عن مادة الحياة فإن الصوم يبعث في نفس الصائم إحساساً آخر من الشيوع يشبه ذلك الإحساس الذي يشعر به النهم الأكول الجشع المستغرق في طلب الماديات، ولكن شعور الصائم لا يتجه به إلى الماديات، فهو منقطع عنها جهده، وإنما هو يتجه به إلى ما يتعاطاه ويلج فيه مما هو فوق المادة، فهذا هو ما يفطر عليه ما يغذي نفسه به، وكما أن النهم الأكول الجشع المستغرق في طلب الماديات يشعر بأنه مرتبط بالعجل لأن لحم العجل لذيذ، ولأن جلده مفيد، ولأن قرنيه نافعان، ولأن حوافره تصلح في شأن ما أو في عدة شئون، فإن الآخر الصائم يرى في العجل غير ما يراه ذلك الذي يفكر ببطنه وجلده وسائر جوارح بدنه، ويرتبط إليه برباط آخر معنوي، فهو عنده رمز لقوة

ص: 40

البدن مع طيبة القلب، واستسلام النفس مع تناوم العقل، فإذا آلفه فإنما يؤالفه ليتعلم منه هذه الطباع وليستخرج من تركيب بعضها إلى بعض عبرة تدله على عجز القوة ما لم يسندها الفكر، ومهانة الاستسلام ما لم تدركه اليقظة. وهكذا يصبح العجل الحيوان الواحد ذا طائفتين اثنتين مختلفتين من الدلائل والمعاني يدرك طائفة منها إنسان زهد في المادة وصام عنها، ويدرك الطائفة الأخرى إنسان زهد فيما فوق المادة وصام عنه

وليس العجل وحده هو ما يراه الإنسان ويتصل به في هذه الحياة، وإنما هو يرى كائنات كثيرة ومخلوقات عدة ويتصل بها جميعاً وفق نزعته، وإنما سقت العجل مثلاً لأن له قصة طويلة قديمة مع البشر، فكما أذله ناس وقره آخرون، وكما استضعفه ناس عبده آخرون

ولست أريد أن أنحاز إلى هؤلاء أو إلى هؤلاء، فقد كان لكل رأي وكان لكل رأي برهان، وإنما أريد أن يلتفت القارئ معي إلى صلاح العجل عند البشر للإهانة والعبادة معاً، لا لشيء إلا لأن فريقاً من الناس رأوه رأياً، وفريقاً آخر رأوه رأياً، وهؤلاء مضوا في رأيهم حتى نهايته، وهؤلاء أيضاً مضوا في رأيهم حتى نهايته، فكانت نهاية أصحاب الرأي الأول أن أكلوه، وكانت نهاية أصحاب الرأي الثاني أن قالوا إنه الله. . . وهكذا كل ما في الحياة يستطيع الإنسان أن يأكله، ويستطيع أن يرى فيه الله. . . أو أن يصل من سبيله إلى الله. . . لو هداه

ولندع العجل إلى غيره من الخلائق وآيات الله لنرى أن الناس دائماً ينقسمون أمام مظاهر الحياة إلى قسمين واضحين: قسم يزهد في كل شيء ماعدا الملموس المحسوس الذي له أثر ملموس محسوس، وقسم آخر يزهد في هذا الملموس المحسوس نفسه فلا يصيب منه إلا بمقدار ما يمسك عليه الرمق وما يحفظ عليه الحياة. وهناك - إلى جانب هذين الفريقين من الناس - قسم ثالث يتراوح بينهما فيجول مع كل فريق جولة، له فيما فوق المادة ساعات يقضيها مع نفسه ثم يعود إلى الناس فينقل إليهم ما رأى وما سمع وما أحس وما علم. وهؤلاء هم أهل الفن الذين نعرفهم من فنونهم، والذين يقول عنهم أهل الأرض إنهم أصحاب خيال وإنهم في خيالهم يعمهون بعيدين عن حقيقة الحياة، لا لشيء إلا أن أهل الأرض يعتبرون الحياة هي هذه الماديات وحدها، فما لم ينطبق عليها تمام الانطباق فهو خيال ووهم

ص: 41

ولست أريد أن أظل مع هؤلاء المتراوحين طويلاً الآن، وإنما أتركهم إلى أولئك الذين أعطوا الأغلب من أرواحهم لما حجبته المادة الكثيفة عن أغلب الأبصار والأسماع. . . أولئك يحيون، وإن لهم دنيا طويلة عريضة كهذه السموات والأرض، بل إنها أوسع من السموات والأرض، وهم يكشفون مجاهلها يوماً بعد يوم، ويغزون أطرافها ما صفت أرواحهم، وما اتجهت عقولهم بالتفكير في أسرار الوجود، فإذا هم في حياة أساسها في هذه الدنيا ولكن مهادها ووديانها عليون، وإذا هم يشعرون بعلاقات وثيقة تربطهم بكل ما في الكون من حقائق وموجودات، بل إنهم يحسون أن لهم منافع روحية وفوائد معنوية يصيبونها في الحقائق والمخلوقات كتلك المنافع التي يرجونها النهم الأكول في لحم العجل وجلده وقرنيه وحوافره، وهم ملحون وراء هذا الذي يستطيبون من الكسب كلما حصلوا منه ربحاً استزادوا الربح بالجهد والمران، فإذا هي أرباح فوق أرباح، وإذا بالفقير المعدم منهم له ثروة عجب من المعلومات والمدركات، فإذا أراد أن يستغل علمه وإدراكه وأن يخرج بهما من دائرة التحصيل والإفادة، إلى دائرة العمل والإنتاج كان الشيء الذي يصنعه خارقاً لا يستقيم مع طبائع الحياة التي تعارفها أهل المادة من الناس، وإن استقام مع طبيعة الوجود العامة التي لا يحلق إليها إلا أندر الناس الذين يشرأبون دون عشرائهم إلى ما أباحه الله للمقبلين عليه من خلقه السباقين في التقدم إليه والارتقاء إلى رضاه بإرضائه. وتقول الجماهير عندما ترى أعمال هؤلاء إنهم سحرة. . . أو أنهم أصحاب معجزات.

وهذه الأعمال الإيجابية التي يقوم بها هذا الفريق من الناس تختلف وتتعدد مظاهرها وألوانها باختلاف اتجاهاتهم وما يتخصصون فيه من العلم، وليس تخصصهم في العلم شيئاً غريباً، فعلماء المادة يتخصصون هم أيضاً في دراسة نواحيها. . . لكل منهم ناحية. . فمنهم مهندسون، ومنهم أطباء، ومنهم من ينفقون حياتهم في دراسة القوانين التي كتف الناس بها الحياة، كذلك أولئك منهم من يتجه إلى نفسه فيدخل فيها فيعلم من شؤونها ما يعلّمه الله إياه، ومنهم من يدخل في نفوس الناس، ومنهم من يدخل في نفوس الناس والحيوان. . . بل إن منهم من يتجه إلى المادة نفسها فيغزوها بالروح غزواً فيشق البحر ويقلب العصا إلى حية والحبل إلى ثعبان!. .

ويضطرب الناس ويرتبكون حيال هؤلاء الزهاد الأنبياء. . . فيقولون إن محمداً صلوات

ص: 42

الله عليه ورضاه كان شاعراً. . . لأنهم كانوا يسمعونه يقول كلاماً لا يشبه كلام الناس، وفيه ملامح من كلام الشعراء، هي هذا البعد عن مادة الأرض المعتمة العمياء، وهي هذا النور الذي أهداه الله إليه من نور السماء. . . وما كان محمد شاعراً، وما كان الشعر ليتسامى إلى درجة ما أفاض به على الناس، وما كان كلامه فناً من فنون الأرض، وإنما هو أرفع ما أتاحه الله لإنسان من علم حق ومن حكمة خالدة تنسحب إلى أبعد الأزل، وتنطلق إلى أبعد الأبد سبحان من أوحاه! وسبحان من جاد على البشر بفنه. . . هو الله!. . .

لم يكن محمد شاعراً، فالشاعر كما رأيناه يتراوح بين حياة الأرض وحياة السماء، ويتذبذب بين طبيعة المادة وطبيعة الروح، ولا يقر له قرار إلا بين الناس، ولا يغيب عنهم إلا لمحات قصيرة عابرة لا يطيق استدامتها، لضعفه ولشعوره بالحاجة البدنية إلى ما في الأرض من راحة. . . أما محمد، وأمثال محمد من الأنبياء فإنهم قد اشتروا الآخرة بالدنيا، وليس لهم في الدنيا مطمع، فقد أحاطوا بما فيها علماً، وهم يتجهون بعد ذلك بأطماعهم إلى ما وراء هذه الحياة. . . وهم مؤمنون بأن هناك شيئاً بعد هذه الحياة، لأنه قد كان هناك شيء قبل هذه الحياة، وليس في هذا الطور ما يدل على أنه الحلقة الأخيرة من حلقات التطور والارتقاء. . .

وهنا قد يسائلنا سائل: كيف قال محمد إنه خاتم الأنبياء والمرسلين، ومادامت طبيعة الحياة قد استدعت بعث الرسل والأنبياء فيما مضى، ومادامت بريئة مما يدل على أنها قد كفَّت عن نهجها والتوت إلى نهج جديد؟

وجوابنا على هذا أن محمداً صلى الله عليه وسلم وضع أمام عيون الناس القواعد الخالدة لهذه الحياة. . . القواعد التي تتغير الدنيا ولا تتغير هي، والتي تتطور الحياة وترتقي وتمتنع هي على التطور والارتقاء لأنها نهاية النهايات، ولأنها الحقائق الثابتة التي يقوم عليها التغيير والتبديل، ولأنها المحاور التي يدور حولها التطور والارتقاء.

فلقد جاء في دين محمد أن الإسلام هو دين الفطرة، فإذا عرفنا علام نحن مفطورون فسايرنا فطرتنا فإننا مسلمون. وهذا مبدأ لا يمكن أن يزول وإنما يتحطم كل من يناوئه ويعصيه. . . وإن من فطرتنا أن نتطور وأن نرقى. وقد جاء في دين محمد بين آيات القرآن (أحلت لكم الطيبات وحرمت عليكم الخبائث) فإذا عرفنا ما هي الطيبات التي تنفعنا، وما هي

ص: 43

الخبائث التي تضرنا، وأخذنا ما ينفع وتركنا ما يضر فإننا مسلمون سالمون. وهذا مبدأ تتبعه الكائنات بطبيعتها فتسلم، وعلينا نحن ألا نقاومه بعقولنا وإرادتنا كي ننجو، وإلا فالهلاك لمن أحل لنفسه الخبائث، وحرم عليها الطيبات. . . وقد جاء أيضاً في دين محمد بين آيات القرآن كذلك:(وما أصابكم من خير فمن الله وما أصابكم من شر فمن أنفسكم) ومعنى هذا أننا إذا ألقينا أنفسنا بين يدي الله وأطعنا أمره، وهو يأمرنا بالتزام فطرتنا والخضوع للقوانين الطبيعية التي انتهت بنا اليوم إلى هذا الطور من أطوار الحياة والتي تسير بنا منذ اليوم إلى أطوار وأطوار فإننا إذن مسلمون سالمون، فإذا حدثتنا أنفسنا بغير ذلك فانتكسنا وخيلت لنا الأهواء أن في الرضا شراً أو ضعفاً أو عجزاً وحاولنا أن نكسب لأنفسنا ما يثقل علينا وما لا حق لنا فيه وما ننوء بحمله وما يربكنا تصريفه؛ فإننا عندئذ مضطربون قد وضعنا أنفسنا حيث لا يمكننا أن نظل طويلاً. . . فلا عجب إذا انهزمنا سريعاً

علينا أن نعرف ماذا كنا. . . وماذا نحن. . . وماذا سنكون. . . حتى لا نخطئ الطريق إلى ما نحن صائرون إليه. . . ولنعلم أن فينا اليوم من طبائع الماضي ما لا يصلح للمستقبل. . . وهذا ما علينا أن نقاومه وأن نتخلص منه. . . وقد قيل إننا كنا في الماضي قردة. . فعلينا أن نخلص إذن من أوجه الشبه بيننا وبين القرود. . . وإلا فنحن نعرقل فطرتنا. . .

هذه هي بعض مظاهر الخلود والصلاح الدائم في الإسلام، وهذه هي نهاية النهايات التي وصل إليها محمد تبارك من هداه، فله الحق - على هذا - أن يقول إنه خاتم الأنبياء والمرسلين، لأن أحداً لن يجيء بعده بتلخيص لسر الوجود أعمق من هذا التلخيص ولا أمكن إصابة منه. . وما أدناها حقيقة، وما أبعدها منالاً!. .

فهل يعرف أحد إلام نحن صائرون؟ إننا صائرون إلى حياة خالصة من هذه الأبدان التي يصيبها العطب. . . إننا صائرون إلى لقاء الله، وإن في نفوسنا ما يسير بنا إلى هذا، فعلينا أن نتعرفه وأن ننميه. . .

نفوسنا حشد من الغرائز، فما تشبث منها بالحال الراهنة وأعرض عما هو مقبل من حياة الخلوص كان كما يريد أن يعود بنا إلى حياة القرود. وكان تعطيلاً لإرادة الإنسان القادر -

ص: 44

بقوة الله - على تنقية نفسه وترقيتها. وما تحرر منها وانطلق إلى الله فهو عون الإنسان على توحده، وعلى شيوع نفسه في نفوس الخلائق، والاتجاه مع الكائنات في صلاة الجماعة لفاطر السموات والأرض المهيمن العلام الأول والآخر.

عزيز أحمد فهمي

ص: 45

‌رسالة العلم

لحظات الإلهام في تاريخ العلم

بقلم مريون فلونس لانسنغ

ثناء على علبة الصفيح

الصفيح خادم متواضع للإنسانية، فنحن نتلف العلبة بعد فتحها ونلقي بها دون أي احترام ودون أن يكون في أنفسنا لها موضع للشكر على الخدمة التي أدتها. ولكن نابليون لشدة شغفه بالحصول على مادة تؤدي إلى حد قليل مثل الخدمة التي تؤديها اليوم علبة الصفيح، قد عرض هو والحكومة الفرنسية في سنة 1800 أو ما حولها جائزة قدرها 12000 ألف فرنك لمن يخترع وعاء يمكن حفظ الطعام فيه من التلف في زمن الحرب

إن تعاقب مواعيد الغراس والحصاد التي عرفها آباؤنا الأولون كان نعمة عظيمة على الإنسان. ولكنه من جهة أخرى يفرض عليه واجبات معينة ويلزمه عناية خاصة، فالرجل الذي يعيش في المناطق المعتدلة لا يستطيع أن يجعل مائدته مبسوطة على الدوام على الرغم من كل جهوده الزراعية

يجب أن يكون لديه خبزه كل يوم ولكن الثمار والمحاصيل لا تخرجها الأرض يوميّاً بل في مواعيد معينة. وكما يختزن السنجاب البندق في ثقب بجذع الشجرة انتظاراً للوقت الذي تخلو فيه الفروع من ثمرها فكذلك يجب أن يختزن الإنسان من نتاج الموسم ما يكفي احتياجاته بقية فصول العام المجدبة

وكان تجفيف الطعام من أقدم الوسائل للاحتفاظ به. وقد وجد الفريق الأقدم من المستعمرين الأمريكيين جماعة الهنود يتبعون نظاماً لتجفيف القمح والسمك والفواكه واللحوم بحفظها من العطب مدة طويلة. وتوجد وسيلة أخرى لحفظ الطعام هي تثليجه، ولكن هذه الوسيلة لا تمكن مزاولتها إلا في الأجواء التي يمكن فيها ترك الطعام في الماء البارد والثلج أو في أنابيب في أعماق الأرض

وتوجد وسيلة أخرى لحفظ الطعام مناقضة للوسيلة الأخيرة وهي حفظه بواسطة الحرارة. ووجد الطباخون في العصور القديمة أن اللحم المطبوخ يبقى مدة أطول من اللحم النيئ

ص: 46

فوصلوا بهذا الاستكشاف إلى أول حلقة من سلسة الاستكشافات التي انتهت اليوم إلى حفظ المجففات في علب الصفيح

إن سر نجاح الحفظ في تلك العلب هو أن الطعام يمنع فيها عن التعرض للهواء منعاً محكماً. وفائدة منع الطعام عن الهواء ليست بالاستكشاف الحديث فقد وجدت في جزيرة كريت بالبحر الأبيض المتوسط آثار قصر قديم يرجع عهده إلى 1500 أو 2000 سنة قبل المسيح ووجد في حجرات باردة تحت أرضه أوان كبيرة من الطين يختزن فيها الطعام ويمنع عن الهواء

ولكن الذكاء والنجاح اللذين ظهرا في حفظ الطعام بعلب الصفيح لم يكونا قبل الحروب النابليونية في فرنسا حتى رأت الحكومة - والحكومات بطيئة دائماً في بذل الأموال للاختراعات المشكوك في نفعها للجماهير - أنه من المجدي بذل جائزة للوسيلة الناجحة في حفظ المأكولات بالتخزين

وكان مبلغ اثني عشر ألف فرنك مبلغاً عظيماً في ذلك العهد من القرن الثامن عشر. وقد تسابق صناع الحلوى وصناع الجعة وأصحاب معامل التقطير بنشاط وجِد علهم يحصلون على هذه الجائزة، وقد نالها بعد اثني عشر أو خمسة عشر عاماً رجل اسمه فرانسوا إيبرت وهو صانع حلوى وقد قضى كل حياته في حل هذه المسألة

وربما كان ما يشاع عن جهود إيبرت هو الذي حمل نابليون ومستشاريه على التفكير في قيمة المشروع الذي يمكن به النجاح في حفظ الطعام، وعلى كل حال فقد عرضت الجائزة واستمر إيبرت يزاول عمله في صبر حتى كان عام 1810 فتقدم بالدليل على نجاحه ونال الجائزة

وحتى مع حصوله عليها فقد أنفقها كلها على اختراعه مجرباً أساليب أحسن من التي عالجها من قبل، إلى أن مات في فاقة وهو يشكو قلة التشجيع بعد بضع سنين، وذلك على الرغم مما كان يبدو من أن مبلغ الاثنى عشر ألف فرنك مبلغ كبير

ومن حسن حظنا نحن الذين انتفعنا بنجاحه أن الحكومة الفرنسية نشرت له في الوقت الذي عرضت فيه الجائزة كتاباً يوضح على وجه التفصيل تجاريبه ونتائجها، فأمكن بذلك أن نعرف عن تجاريبه أكثر مما نعرف في العادة عن التجاريب السابقة

ص: 47

وتبين أنها تجاريب مماثلة تمام المماثلة للمشاريع العظيمة التي اتسعت في القرن العشرين لحفظ البضائع وإرسالها إلى أرجاء الأرض وحفظها إن دعت الحاجة عدة أشهر أو سنين

لم يكن لدى فرنسوا إيبرت علب ملائمة ليضع فيها بضائعه. فكان يضع كل أنواع مصنوعاته في علب من الزجاج أو الفخار ثم يحكم غطاءها ويضع العلب في ماء يكفي لتغطيتها ثم يضع الوعاء الكبير الذي به الماء وفيه العلب فوق نار حتى يسخن إلى أن يصل إلى درجة الغليان. ويتركها بعد ذلك في هذا الوعاء أوقاتاً تختلف قلة وكثرة ثم يسد الزجاجات ويختمها في أثناء حرارتها

وربما بدا لك أنه ليس في هذا ما هو جديد أو غريب يستحق أن ينال الرجل بسببه جائزة بل يصنع هذا في كل مطبخ أيام الخريف عند ظهور الفواكه الجديدة لحفظها في الشتاء. والواقع أنه ليس في هذا الأمر ما يعد اليوم جديداً ولا غريباً وإنما ذلك لأن الفكرة شاعت وأصبحت مقبولة. ولكننا الآن في القرن العشرين وهذا العالم الفرنسي كان يشتغل في معمله سنة 1800 وبسبب جهده وصبره في العمل أصبح استكشافه سهلاً وأصبح يؤدى في مطابخنا كأنه أمر طبيعي. وكانت التجاريب تتقاضاه وقتاً طويلاً لأنه كان لابد من تجريب درجات مختلفة للحرارة وأساليب متباينة للصنع. وكان لابد كذلك من بقاء الزجاجات مغلقة عدة أشهر أو عدة سنين ليتضح مبلغ النجاح في كل تجربة. وقد قضى إيبرت اثني عشر عاماً حتى عرف خير الوسائل لمعرفة المدد التي يقضيها كل طعام على الحرارة ليكون عند استخراجه من الوعاء في مثل عذوبته وصلاحيته عند وضعه فيه

وقد رأى إيبرت أن نجاح تجاريبه يتوقف على إخراج الهواء إخراجاً تاماً، وقد رأى كما كان يرى العلماء في عصره أن الهواء يحدث عطباً في الفواكه والخضر وكانت وسائله صحيحة، ولكن مضى خمسون عاماً أخرى قبل أن يستكشف العالم الفرنسي الشهير لويس باستور ذلك الاستكشاف المميز لعصره وهو أن الفساد لا يحدثه الهواء بل الميكروبات التي تعيش في الهواء

كان إيبرت يجري تجاريبه على الطريقة الصحيحة الوحيدة ولكنه كان يخطئ في تفسيرها وكانت النتيجة واحدة لأن التجربة نجحت وحفظ الطعام

ولكن العالم الكبير باستور بشرحه القانون المسيطر على نماء البكتريا والميكروبات قد

ص: 48

أحدث ثورة في علوم الطب وبدأ عهداً جديداً في حفظ الطعام بطريقة علمية مجدية، وهذه الطريقة كان إيبرت هو المبشر بها

ولعله ليس في تاريخ الإنسانية يوم أعظم من اليوم الذي بيَّن فيه باستور أن التغيرات التي تطرأ على المواد الغذائية عند تعريضها للهواء إنما هي نتيجة لعمل أحياء بكتيرية صغيرة، فإذا ما أزيلت هذه الأحياء بواسطة الحرارة وأزيل الهواء في الوقت نفسه فإن الطعام لا يفسد إلا عندما يتعرض للهواء مرة أخرى فيتعرض لهذه الأحياء. وقد نال باستور جائزة على استكشافه هذا في فرنسا سنة 1860 - على أننا لم نبدأ إلا الآن فقط في فهم ضخامة التغير الذي أحدثه استكشاف باستور في المعارف الإنسانية وفي أساليب الحياة بتطهير اللبن وبتعقيم الأدوات الجراحية. ومن الممتع أن نلاحظ أن الأرجح أن ينشأ في وقت واحد اختراعان يساعد أحدهما على نجاح الآخر، ففي الوقت الذي كان فيه إيبرت جاداً في صنع الأواني من الزجاج والفخار كان في إنكلترا ميكانيكي أسمه بطرس دوراند يصنع أول ما عرف من علب الصفيح، وقد عرض علبته الأولى في سنة 1807 وكانت عملاً غير متقن فهي ثقيلة الوزن مصنوعة باليد، وكان لها غطاء ضخم قبيح الشكل ولكنها كانت على كل حال علبة من الصفيح

واحتكر رجل إنكليزي طريقة إيبرت بعد عام من ظهورها في فرنسا. وأنشئ أول مصنع لتخزين الأطعمة في العلب بإنكلترا وكانت شركة أمريكية هي التي تقوم بهذا العمل، وربما كانت الحكمة في اختيار إنكلترا لهذه الصناعة هي نشوء صناعة الصفيح فيها، وسرعان ما انتقلت الصناعتان إلى الولايات المتحدة

وفي سنة 1891 أنشأ إزرا داجوت وتوماس كنست في نيويورك صناعة لحفظ سمك السلمون وبرغوث البحر والكابوريا في علب الصفيح، وكلا الرجلين متعلم في إنكلترا

وفي العام التالي أنشأ رجلان آخران هما أندر وود تيشل في بوستون صناعة حفظ الفواكه في العلب الصفيح وقد استعملا في إعلاناتهما كلمة هي التي اشتقت منها الكلمة الإنكليزية (علبة) وأصبحت صناعة العلب من الصناعات الكبرى في الولايات المتحدة

وليس ثناؤنا على اختراع العلب الصفيح من أجل أهمية هذه الصناعة من الوجهة التجارية وإن كانت العلبة ومحتوياتها جديرين بوضعهما في قائمة الاستكشافات الهامة، بل لأن

ص: 49

أثرهما في حياة الإنسان أثر بعيد مميز للعصر

كان الإنسان من عهد قديم يعتمد على الأطعمة المحلية والموسمية وكانت حركاته محدودة من أجل هذا السبب. كان لا يستطيع الإقامة إلا في المناطق التي توجد فيها بصفة مستمرة أنواع حاجاته المختلفة من الطعام الملائم لصحته. وكان لا يستطيع السفر والاستكشاف إلا إلى المدى الذي يؤهل له ما لديه من الطعام

وكان لا يمكن أن تتسع المدن إلا إلى الحد الذي تؤهل له طاقة الأراضي الزراعية المحيطة بها على إخراج نبات يكفي للطعام، وقد توافرت الآن كل هذه الشروط وكان لها أثر كبير في حياة الإنسان.

ولكن العلم الذي أذاعه باستور والتجارب العلمية التي أجراها أيبرت والحذق الميكانيكي الشائع الآن - لكن كل ذلك مجتمعاً قد أدى إلى إنتاج مقادير عظيمة من علب الصفيح رخيصة الثمن تتسع لمقادير هائلة من الأطعمة فأصبحت حركة الإنسان سهلة بعيدة المدى

كان نابليون يرى أنه سوف يستطيع التغلب على العالم على صورة نهائية وأن يتولى إدارته لو وثق من أن جيشه يستطيع الحصول على الغذاء وهو في ميادين بعيدة عن وطنه

وكانت رحالات كولومب محدودة بمقدار الطعام الذي يستطيع حمله في سفينته وكان المستكشفون في رحلاتهم الأولى يخفقون لأن رجالهم كانوا يمرضون إن لم يحصلوا على طعام طازج

اقرأ سير الرحلات الأولى تر أن الرجال كانوا يموتون بداء الأسخربوط ولكن المستكشفين العصريين بيري وامندسون وسكوت قد استطاعوا تحقيق حلم الإنسانية منذ قرون في الوصول إلى القطبين لأنهم كانوا يحملون أطعمة مضغوطة في علب مختومة تكفيهم إلى نهاية الرحلة

وقد قيل إن حفظ الأطعمة في العلب هو أكبر الاختراعات أهمية بعد اختراع البخار من حيث تمكين الناس من إنشاء المدن الكبيرة وتسهيل المواصلات إلى أبعد مناطقها المختلفة بتزويد السفن بالطعام المحفوظ

فهل تشترك معنا في الثناء على خادم الإنسانية المتواضع: علبة الصفيح؟

(يتبع)

ص: 50

ع. أ

ص: 51

‌من هنا ومن هناك

البترول يكسب الحرب

(عن (ونتورث داي))

سوف يكون للبترول الشأن الأول في كسب الحرب. فبالبترول تدار الطائرات وتسير المدرعات وتعمل البنادق وتحرك السيارات وتسير الغواصات

ومن المعروف أن البواخر الحربية العظمى جميعها تتخذ وقودها من زيت البترول. وقد أصبح للإمبراطورية البريطانية مراكز ذات أهمية كبيرة للبترول تمتد إلى شواطئ الإمبراطورية وموانيها المختلفة في جميع أنحاء العالم، حتى أصبح عددها الآن يفوق عدد مراكز الفحم التي للإمبراطورية

وتسيطر بريطانيا الآن على أكبر مقدار من البترول الذي يستخرجه العالم. وقد بلغ ما تستهلكه من هذه المادة في الأغراض التجارية أيام السلم 12. 000 ، 000 طن، وهي لا تجد صعوبة في الحصول على هذا المقدار

ويبلغ ما تستهله ألمانيا وقت السلم 7. 000 ، 000 طن في العام، وهي تستطيع أن تستخرج ثلث هذا المقدار، فإذا أضفنا إليها ما يستخرج من أسبريا وما تستطيع أن تحضره بالطرق العلمية وجدنا أن هذا جميعه لا يكفي لتقديم ما تتطلبه في أوقات السلم بحال من الأحوال. فكل ما تستطيع ألمانيا الحصول عليه من هذه المادة الأساسية في حياة الأمم، لا يتجاوز 2. 400. 000 يدخل في ذلك البترول الصناعي والبنزول وغاز السيارات. وتستورد ألمانيا باقي حاجتها من أميركا وجزائر الهند الهولندية ورومانيا

ومن الواجب في هذا الصدد إلا نبالغ في تقدير البترول الذي تستخرجه رومانيا، فليس له في الحقيقة الأهمية التي يتصورها رجل الشارع. فكل ما تستخرجه رومانيا لا يزيد على 6. 000. 000 طن من البترول الخام، وهذا المقدار لا يكفي حاجات ألمانيا أيام الحرب، هذا إذا استطاعت الاستيلاء على منابع البترول في رومانيا، والإشراف عليها جميعها. وقد أخفقت في هذه المحاولة إبان الحرب العظمى. وعلينا أن نذكر هنا أن البترول الذي يصدر من رومانيا إلى ألمانيا، يجب أن يتخذ طريق الدانوب أو طريق البحر ماراً بمضيق جبل طارق، وكلا الطريقين تحت إشراف البنادق البريطانية. وإذا كانت بريطانيا تستورد

ص: 52

حاجتها من البترول عن طريق البحر، فليس في ذلك أي ضير مادامت تسيطر على البحار. فإذا أصبح طريق البحر الأبيض المتوسط معرضاً للأخطار أيام الحرب، فأمامها أكثر من طريق واحد لتوصيل البترول إليها. فعلى الرجل الذي يحلم بالانتصار على الإمبراطورية البريطانية أن يعلم حق العلم أن الحرب لا يمكن أن تستمر بغير بترول، ولكنها تنتهي لأجل البترول

الصحافة السرية في ألمانيا

(عن

تنتشر الصحافة السرية في ألمانيا بطريقة منظمة محكمة تيسر للملايين من الألمان الاطلاع على آراء كتابها الأحرار داخل بلادها وخارجها. وقد ذهبت سدى كل المجهودات التي بذلت لوقف تيار هذه الصحف التي تنتشر بين الجنود وفي المصانع والمساكن تحت أسماء وعناوين مختلفة. وقد حاول هتلر منذ ست سنوات أن يكتشف طريقة لوقف هذه الحملة الشديدة المحكمة النظام التي يقوم بها بعض أبناء ألمانيا لإنقاذ نفوس الملايين الذين لم تفسد بعد قلوبهم ورؤوسهم بتعاليم النازي السخيفة، فذهبت جهوده في مهب الرياح. وقد عملت التدابير المحكمة لنشر تلك الآراء المعادية لحزب النازي، واتخذت لها أعواناً وأستاراً ممن يلبسون اللباس النازي ويسيرون في صفوف المؤيدين. وتنتشر الصحافة السرية في المصانع والمصالح الحكومية وبين جنود الجيش، ويتلهف الكثيرون على تلاوتها على الرغم مما في ذلك من المخاطرة بالحياة.

وكثيراً ما توجد هذه الصحف في علب الشاي والبسكويت وغيرها من هذه الأنواع البعيدة عن المظنة والشبه، ويدبج مقالاتها الطريفة كتاب فحول من أمثال: توماس مان وجورج برنهارد وهنريك مان وغيرهم. وفيما يلي فذلكة مما ينشر بتلك الصحف:

في الأمم الديمقراطية تشتد الخلافات وتتضارب الآراء بين الأحزاب حتى يهتز لها كيان النظام السياسي القائم، إلا أنها عند مواجهة الأخطار تتحد جميعها وتتعاون للدفاع عن الحقوق والحريات. وقد تظن الحكومات الديمقراطية أن هذه الروح السائدة في بلادهم تجد ما يشابهها في بلاد تحكم بالعنف وبالقوة مثل بلادنا، ولكن الأمر على النقيض من ذلك،

ص: 53

فروح الكراهية والانتكاس والتطاحن لا تظهر عندنا في وقت السلم، فإذا دعا الداعي للحرب أظهرت الأكمة ما وراءها، وظهرت قوة الشعب

ومن المعلوم أن أركان حرب الجيش الألماني قد حذر النازي من الارتطام في حرب عامة إذ أن حرباً كهذه ستؤدي إلى هزيمة لا شك فيها. وقد أرسل إلينا ضابط عظيم يطلب الاستعانة بالصحافة السرية، على تحذير الشعب الألماني من الدخول في هذه الحرب. ويقول هذا الضابط في كتابه:(إن مركز ألمانيا الجغرافي في وسط أوربا وقرب مصانعها من الجهة الحربية، ومدنها الغاصة بالسكان تجعلها عرضة للغارات الجوية. ومن السهل على الطائرات الوصول إلى أقصى ناحية من الريخ في ساعة من الزمان). وعلى هذا النحو تسير الصحافة السرية في إرشاد الشعب الألماني وتحذيره بطريقة منظمة في كل أسبوع، بحيث تنير الطريق أمامه في ظلام المدلهمات.

هل تستطيع اليابان أن تحكم الصين

(عن (أميركان ميركيوري))

يلوح أن الضحايا العديدة التي فقدتها اليابان والأموال الطائلة التي بذلتها في الحرب الصينية سنتين كاملتين، قد ذهبت كلها أدراج الرياح. وقد تنقضي تلك الانتصارات المزعومة في هذه الحرب الطاحنة دون أن تفيء على الأمة اليابانية ما تأمله من الغنم. وذلك أن اليابانيين لم يرزقوا ذلك النوع من الدهاء السياسي الذي يمكنهم من حكم البلاد بغير العنف والإضرار، مما لابد منه لكل أمة تريد التوسع والاستعمار

وتدل الحالة في فورموسا وكوريا ومانشوكو على أن الاستعمار الياباني لم يكن إلا نوعاً من الحرب المتواصلة التي يشقى بها الحاكم والمحكوم، وليس فيها أي دليل على الاستقرار والهدوء والتمكن من الاستيلاء على ناصية الأمور

ولعل الميول العسكرية التي ساقت الجيش إلى الانتصار بحكم الرغبة في السيطرة والقوة، هي نفسها التي ذهبت بقيمة هذا الانتصار، فإن حكم الجيش لتلك البلاد المقهورة هو الذي جعل اليابان عاجزة عن توطيد مركزها بها

وقد أخذت اليابان تفكر تفكيراً جدياً في نبذ تلك الفكرة التي كانت ترمي إلى فتح الصين

ص: 54

والاستيلاء على جميع أراضيها، وتود لو أتيح لها أن تعقد اتفاقاً مع الصين على أن تحكم الأقاليم الساحلية وتترك لها داخلية البلاد. ولكن اتفاقاً كهذا ليس من شأنه أن يوطد دعائم السلام بين الأمتين. فهو في الحقيقة سيكون بمثابة هدنة مؤقتة، إذ أن المنطقة الحرة في الصين ستعبئ كل قواها لإشعال نار الحرب من أجل الانتقام. وسوف تظل المؤامرات السياسية والأعمال السرية الخطيرة تقلق بال اليابان

وكل ما ترجوه اليابان الآن أن تستطيع استغلال الأقاليم التي استولت عليها جيوشها من الناحيتين الصناعية والاقتصادية، فإذا استطاعت اليابان أن تصل إلى أغراضها، وأمكنها أن تمد جيشها الذي يحتل تلك البلاد بما يرجوه من ثمرة انتصاره عليها، لم يكن من الصعب عليها أن تنتهز الفرص للاستيلاء على مواطن أخرى، أما إذا أعياها ذلك الأمر فإن الناحية الاقتصادية ولاشك ستصبح كارثة على اليابان. وقد ظهر أن المقدرة على الاستقرار وتسوية الأمور هي الشيء الذي ينقص اليابان في جميع المحاولات التي قامت بها لبناء الإمبراطورية

مما لاشك أن اليابان قد كسبت الحرب من الناحية الحربية. فقد استولت جيوشها بصفة نهائية على الشواطئ الصينية وامتلكت كثيراً من المدن الصينية الكبرى

إلا أن السلطة اليابانية، ونفوذ حكومتها عليها يتعد المناطق التي تحميها بنادق الجيش. ومازالت اليابان تلاقي أشد الصعوبات في البلاد التي تتوغل فيها داخل بلاد الصين. فالصينيون يقطعون عليهم خطوط المواصلات كلما تقدموا خطوة إلى الأمام ويهدمون البلدان ويفسدون الأطعمة وكل ما ادخرته تلك البلاد من الخيرات

ويقول الصينيون إنهم يضحون بالسكان لأجل الزمان؛ ويحسبون الأيام ويعدون الزمن لإيقاع الهزيمة بهؤلاء المغيرين. فإذا فرضنا أن اليابان لم تهزم وقدرنا أن قوتها الحربية ستستمر على إخضاع تلك البلاد، فليست اليابان بالأمة المؤهلة للاستعمار بالمعنى المفهوم عند الأمم الأوربية فهو كما يظهر شيء بعيد عن أخلاق اليابانيين

ص: 55

‌البريد الأدبي

الجاو، الورق النقدي سنة 693

قال ابن الفوطي في كتابه (الحوادث الجامعة):

(في سنة (693) وضع صدر الدين صاحب ديوان الممالك بتبريز (الجاو) وهو كاغد عليه تمغة السلطان عوض السكة على الدنانير والدراهم. وأمر الناس أن يتعاملوا به. وكان من عشرة دنانير إلى دون ذلك حتى ينتهي إلى درهم ونصف وربع. فتعامل به أهل تبريز اضطراراً لا اختياراً بالقسر والقهر، فاضطربت أحوالهم اضطراباً أضر بهم وبغيرهم حتى تعذرت الأقوات وسائر الأشياء، وانقطعت المواد من كل نوع، فكان الرجل يضع الدرهم في يده تحت (الجاو) ويعطي الخباز والقصاب وغيرهما ويأخذ حاجته خوفاً من أعوان السلطان. ثم حمل منه عدة أحمال إلى بغداد صحبة الأمير (لكزي بن أرغون آقا) فلما بلغ ذلك أهلها استعدوا بالأقوات وغيرها حيث عرفوا ما جرى في تبريز. فلما أنهي ذلك إلى السلطان (كيخاو) أمر بإبطاله، فأبطل قبل وصول كيخاو إلى بغداد، وكفى الله العالم شره)

فالناس - إذن - في القديم والحديث لا تمشي عندهم في شأن السكة شيطنة دهاةٍ شياطين ولا حيل حكومات وسلاطين. فهم لا يعرفون إلا هذا الأصفر، الأحمر الوازن

أكرمْ به أصفر، راقت صفرتهْ!

وحُببت إلى الأنام غرته!

كأنما من القلوب نقرته!

وهم لا يؤمنون إلا إذا رأوه جهرة، أو استيقنت أنفسهم أيما استيقان بأنه يسبح لله في الحزائن من بنات الفولاذ في معقل قويّ منيع كالذي شاده العلامة الأستاذ (محمد طلعت حرب باشا)

من همة المحكوم وهو مكبّل

بالقيد لا من همة الحكام

الله سخر للكنانة خازناً

أخذ الأمان لها من الأعوام

وأن ليست تلك (الورقة) ذات الخطوط والسمة إلا آية، علامة لكبيرٍ، لإمامٍ لم يغب، لا، ولم يجهل مكانه. . .

(ن)

ص: 56

وفاة المستشرق فنسنك

يخزن الرسالة أن تنقل إلى قرائها خبر وفاة المستشرق أ. ي. فنسنك توفاه الله منذ أسابيع بعد رحلة ساقته إلى مصر، فأقام بها نحو شهر اجتمع فيه بكبار علمائنا وكتابنا، حتى إذا قفل إلى (ليدن) في هولندا تخوَّنته حمى خبيثة ثم واظبت فقلبت عليه حتى كان قضاء الله

المستشرق فنسنك علم من أعلام الاستشراق. وكان أستاذ اللغات السامية في جامعة ليدن، وتوفر على دراسة أصول الدين الإسلامي فألف كتاباً نفيساً عنوانه (العقيدة الإسلامية) وأردفه بمقال نشره سنة 1936 في مجلة تخرج في أمستردام، عنوانه:(الأدلة على وجود الله في أصول الدين الإسلامي) وتجد وصف هذا المقال في (مجلة الدراسات الإسلامية) باريس 1935 ج4 ص236. وكان فنسنك إلى جانب التعليم والتأليف، يدير دائرة المعارف الإسلامية الخارجة في ليدن: يوزع العمل ويراجع المقالات ويخرج الدائرة. وكان يعينه على هذا سعة اطلاعه على مسائل الإسلام وشؤون العرب ثم تضلعه من لغته الهولندية فالفرنسية والإنجليزية والألمانية فضلاً عن اللغات القديمة من ساميَّة وغير ساميَّة

بقي أن فضل فنسنك كان من وراء جمعه لأحاديث الرسول. كان فنسنك رحمه الله الجماع المجتهد للحديث الصحيح، وضع أول ما وضع (مفتاح كنوز السنة) الذي نقله الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي إلى العربية سنة 1933، ولم يكن ذاك الكتاب سوى مدخل إلى سِفر أغزر مادة وأعم نفعاً. وقد أخذ السفر يخرج للناس منذ سنة 1934، وهو معجم تفصيلي لمفردات الأحاديث المدونة في الكتب الستة ومسند الدارمي وموطأ مالك ومسند أحمد بن حنبل، واسمه في العربية (المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي). وظلَّ السفر الجليل يخرج للعلماء وهم به فرحون، حتى جاء يوم قلَّ فيه المال، فسعى فنسنك في تدارك الفشل. والذي نعلمه أن مسعاه في مصر خاب! والسَّفر لم يتم خروجه وإن كانت الجزازات كلها مهيأة للطبع (خرج 11 جزءاً)

إن فنسنك خدم الإسلام والعربية بكتابيه الخدمة التي لا يقدر قدرها، وحسبه شهادة السيد محمد رشيد رضا في الكتاب الأول قال: فلو كان بيدي هو (يعني الكتاب) أو مثله من أول عهدي بالاشتغال بكتب السنة لوفر عليَّ ثلاثة أرباع عمري الذي صرفته فيها. . .)

ص: 57

هذا ومما لا معدل عن ذكره أن ثائرة ثارت على المستشرق فنسنك يوم عُيّن عضواً من أعضاء مجمع اللغة العربية الملكي. والقصة مشهورة، والثائرون أحياء

في ذمّة الله من وقف حياته على العلم الحق وإمداد الباحثين وتقريب مصادر الإسلام إلى أهله. سيأتي يوم تهدأ فيه الأنفس فتراجع أعمال النافعين

(ب)

في منزل الدكتور طه حسين

تلقينا من صديقنا الأستاذ الكبير محمد عبد الواحد خلاف هذه الكلمة:

اطلعت على مقال للأستاذ زكي مبارك منشور في العدد الأخير من الرسالة عن اجتماع مزعوم بمنزل حضرة الدكتور طه حسين بك حضره طائفة من الأدباء والعلماء ووردت فيه عبارات زعم كاتب المقال أنها صدرت عني وعن بعض إخواني كالأستاذ أحمد أمين والأستاذ العبادي والأستاذ عزام والأستاذ إبراهيم مصطفى، وهذا الاجتماع من نسيج خيال الكاتب ولا حقيقة له. . .

محمد عبد الواحد خلاف

حول ابن بطوطة وابن تيمية

أورد الأستاذ المحقق الدكتور عبد الوهاب عزام في الرسالة الغراء (العدد 322) في مقالته (عودة إلى الشيخ الخالدي) قولاً لهذا الشيخ الجليل رأيته لا يتفق والحقيقة التاريخية وهو: (أن ابن بطوطه لم يدرك ابن تيمية)

قال الشيخ الخالدي ذلك في معرض دحض رواية ابن بطوطة عن ابن تيمية، وخلاصتها أن الرحالة المغربي حضر الإمام الحرَّاني يعظ الناس في المسجد بدمشق ويقول متكلماً في نزول الله تعالى إلى السماء:(نزل كنز ولي هذا) ونزل ابن تيمية درجة من المنبر

إنني لا أريد أن أبحث في مطابقة هذا القول المعزو إلى الشيخ الإمام لمذهبه واجتهاده وفلسفته الدينية كما يمكن استخلاصها من تآليفه، ففي العلماء والفقهاء من هو أجدر مني بهذا البحث. وفي دمشق عالم فقيه هو أحد البقية الباقية من السلف الصالح الأستاذ الشيخ بهجة البيطار، له باع طويل واختصاص في كل ما له صلة بمذهب الإمام ابن تيمية نتمنى

ص: 58

لو كتب في هذه المسألة

ولكني أود أن ألفت النظر إلى أمرين رئيسيين في هذا الموضوع: الأول أن ابن بطوطة أدرك ابن تيمية، والثاني: الشك في صحة رواية ابن بطوطة

أما إدراك ابن بطوطة لابن تيمية فأمر يكاد لا يحتاج إلى دليل، وحسبنا أن نعلم أن بطوطة ولد سنة (703هـ) وتوفي سنة (779هـ)، وأنه جاء إلى دمشق كما ذكر في رحلته (طبع المطبعة الأزهرية ج1 ص50 سنة 726هـ) وهي السنة التي سجن فيها ابن تيمية سجنه الأخير في القلعة إلى أن مات، وكانت وفاته رحمه الله عام (728) ثمان وعشرين وسبعمائة كما هو ثابت في جميع تراجم ابن تيمية نذكر منها (العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية للإمام أبي عبد الله محمد بن أحمد ابن عبد الهادي)(مطبعة حجازي بالقاهرة سنة 1938 ص369) وكما هو بارز حتى الآن منقوشاً على قبره خلف بناء الجامعة السورية في مقبرة الصوفية المندرسة التي لم يبق منها غير ضريحه

أما الشك في صحة رواية ابن بطوطة فمصدره ما يأتي:

ذكر ابن بطوطه في رحلته (المطبعة الأزهرية ج1 ص50) أنه وصل إلى دمشق (يوم الخميس التاسع من شهر رمضان سنة ست وعشرين وسبعمائة، ثم سرد بعد ذلك (ص58) روايته التي نحن بصددها، وأضاف: إن ملك الأمراء سيف الدين تنكيز كتب إلى السلطان الملك الناصر في أمر ابن تيمية (بأمور منكرة) فورد أمر السلطان من القاهرة (بسجنه بالقلعة فسجن حتى مات) في حين أن سائر المظان والمصادر ومنها (العقود الدرية)(ص 329) و (دائرة المعارف) التي تعتمد بحقيقتها على تراجم وكتب متعددة تعين يوم الاثنين السادس من شعبان عام ستة وعشرين وسبعمائة، تاريخاً لسجن الإمام تقي الدين للمرة الأخيرة التي مات فيها

ينتج مما تقدم أن ابن بطوطة، إذ حطَّ رحاله بالشرابشية (المدرسة المالكية) في دمشق، كان شيخ الإسلام رهن سجن القلعة يقضي أيامه ولياليه في التأليف والعبادة

فلابد لنا بعد هذا من الحكم بعدم صحة رواية الرحالة المغربي ما لم يثبت لدينا خطأ ابن عبد الهادي، وسائر المؤرخين والمؤلفين (كابن شاكر الكتبي في فوات الوفيات والصدقي في طبقاته، وابن الوردي في تاريخه) الذين استندت إلى أقوالهم دائرة المعارف الإسلامية،

ص: 59

وهذا بعيد عن المعقول

وخلاصة القول: أن ابن بطوطة قد أدرك ابن تيمية، وإن لم يره ويسمعه.

(دمشق)

محمد محسن البرازي

إلى الدكتور زكي مبارك

1 -

وجهتم أنظار المولعين بالمباحث الأدبية والتاريخية إلى درس ما بقي في أذهان العرب من أساطير الأولين لعلهم يعرفون شيئاً من رسوم الوثنية العربية التي حاربها القرآن: طلبتم هذا في معرض تدليلكم على أن وثنية العرب لم تكن (أرضية وضعية). فأقول: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن اللات والعزى ومناة وسواها أسماء لرجال صالحين كانوا في زمن إبراهيم أو نوح عليهما السلام؛ وأن العرب قد أقاموا لهم هذه التماثيل بعد مماتهم تدليلاً على ما يكنونه نحوهم من صادق الولاء وخالص الوفاء (أنظر تفسير النسفي - سورة النجم). وفي رواية ثانية عن ابن عباس (أن اللات كان رجلاً يلت السويق للحاج. قيل فلما مات عكفوا على قبره يعبدونه. تفسير الخازن - سورة النجم) وتستطيعون إذا أردتم المزيد في هذا البحث أن ترجعوا إلى كتاب (التوسل والوسيلة) تأليف ابن تيمية طبعة المنار

2 -

أوردتم في تعليقكم على مادة (ابن الأحنف) من (دائرة المعارف الإسلامية) قصة ذكرتموها كذلك في كتابكم (مدامع العشاق) مفادها أن العباس بن الأحنف مات هو وإبراهيم الموصلي والكسائي في يوم واحد وأن الرشيد أوفد المأمون للصلاة عليهم، فصفوا بين يديه ثم سأل عنهم المأمون واحداً واحداً وأمر بتقديم العباس فصلى عليه، فلما فرغ وانصرف دنا منه هاشم بن عبد الله بن مالك الخزاعي فقال: يا سيدي كيف آثرت العباس بالتقدمة على من حضر؟ فأنشده المأمون هذين البيتين:

سماك لي ناس وقالوا إنها

لهي التي تشقى بها ونكابد

فجحدتهم ليكون غيرك ظنهم

إني ليعجبني المحب الجاحد

ثم قال المأمون: أتحفظهما؟ فقال: نعم. قال: أليس من قال هذا الشعر أولى بالتقدمة؟ فقال:

ص: 60

بلى يا سيدي) أهـ والقصة ظاهرة الوضع فإن العباس بن الأحنف قد مات سنة 192 للهجرة والكسائي توفي سنة 189 وإبراهيم الموصلي قضى سنة 188 فكيف يمكن أن يقال إنهم ماتوا في يوم واحد؟ قد يحتج الدكتور مبارك بأن هناك رواية تدعي أن الكسائي قد مات سنة 192 وهو العام الذي مات فيه العباس، ولكن ما قوله في إبراهيم الموصلي وقد أجمع الرواة على أن وفاته كانت سنة 188؟ وقد يحتج أيضاً بأنه قال عند إيراده القصة (ذكروا أن العباس والكسائي وإبراهيم الخ) وأنه عقب عليها بقوله:(فإذا صحت هذه الرواية الخ) وأن هذا وذاك يفيدان تشككه في صحة هذه الرواية، ولكنه - إن قيل ذلك - شكٌ في إسناد الرواية إلى المأمون، بيد أن الأسانيد التاريخية تدعونا لنبذ هذه القصة بكليتها على أنهم يروون أن محمد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة مات والكسائي في يوم واحد وأن الرشيد صلى عليهما وبكى قائلاً (اليوم دفنت الفقه والنحو)

ما أجدرنا بأن نمحص هذه الروايات التي تزخر بها كتب الأدب تمحيصاً جدياً لنقدم للأدب العربي بعض ما يجب له علينا من خدمات ما كنا لنعترض على هذه القصة لولا أن ناقلها هو الدكتور زكي مبارك.

(طرابلس)

محمد علي عكاري

لطيفة

بيَّنت في العدد 325 من الرسالة كيف عاد أدهم إلى الإغارة على ما يكتبه الكتاب في مصر. وقد وقفت القارئ على فرط إقدام المغير، إذ دوَّنت نص النقد الذي عملته لكتاب (فرعون الصغير) لصديقي محمود تيمور ونشرته في مقتطف أول يوليه ثم نص النقد الذي عمله أدهم للكتاب نفسه ونشره في 14 أغسطس في الرسالة. وهكذا مكنت القارئ من معارضة النصَّين. وقد شرحت فوق هذا كيف استبدل المغير كلمة ألمانية جاءت في نقده بكلمة فرنسية كانت قد وردت في نقدي، وذلك رغبةً في التضليل؛ فجاء الاستبدال خطأ من حيث مفاد الكلمتين، فدلّ ذلك مرة أخرى على أن أدهم لا يعرف كيف يغير بل لا يفقه ما يكتب؛ أو قل إن معرفته بالألمانية لا تزيد على معرفته بالفرنسية، وقد بينت من قبل

ص: 61

(الرسالة 314) رقة هذه. ولما طعن أدهم تلك الطعنة لم يرتجل في رده (الرسالة 326) ما يجعل ذلك الخطأ صواباً، وأدهم على كل ارتجال قدير

طُعِنَ أدهم ففرَّ يستغيث بشهادة صديقه الإسكندري صديق شيبوب - وهو الناقد الأدبي لصحيفة (البصير) - فقال إنه قرأ نقده عليه قبل أن يبعث به إلى الرسالة في 27 يونيه فتلقى الأستاذ شيبوب استغاثة صديقه باشمئزاز. ألا ترى كيف يفتتح شهادته (الرسالة 327): (أقحم اسمي في الجدل القائم بين فلان وفلان)، والفيروزابادي رحمه الله يخبرنا بأن (قحم في الأمر: رمى بنفسه فيه فجأة بلا رويّة وقحمه وأقّحمه. . .)، ولكن مثل أدهم يجهل التدَّبر والاستئذان. وقد زاد الأستاذ شيبوب أنه (لا يذكر شيئاً) من نقد أدهم في كتاب فرعون الصغير، وعلى هذا فشهادته لا تجدي على أدهم شيئاً، إذ هي ساقطة كما يقال في لغة القضاء. ثم إن شيبوباً خرج من عهدة الشهادة بأن سأل صاحب الرسالة أن يخبرنا كيف أخر النشر لنقد أدهم شهراً ونصف شهر، فاعتصم صاحب الرسالة بسر المهنة؛ وهذا حقه. وقد قال أدهم في رده تأخير نشر نقده حتى 14 أغسطس على أنه مرسل به في 27 يونية (راجع إلى تقديم بعض كلمات له أرسلها للرسالة (يريد أرسل بها إلى) وكانت لمناسباتها تتطلب نشرها في وقتها) والواقع أن الرسالة لم تنشر شيئاً لأدهم في عدد 10 يوليه (رقم 314) ولا في عدد 24 يوليه (رقم 316) وأما عدد 3 يوليه (رقم 313) فليس فيه لأدهم سوى كلمة في البريد الأدبي، والرسالة نشرت لأدهم في آن كلمة في البريد الأدبي ومقالاً في باب النقد (راجع عدد 326). أضف إلى كل هذا أن مكانة الأستاذ تيمور عند صاحب الرسالة لا تسوغ مثل ذلك التأخير

وكيفما كانت الحال فإن الحكم بالسوابق كما يقال في لغة القضاء. ولأدهم غارات غير هذه: أغار على مراد فرج وزكي مبارك وعليَّ (أطلب الرسالة 314 ص1380) وعلى من يعلم الله.

وإن قال قائل: لِمَ تعنى بالغارات الأدهمية ولا ترحم. قلت: إنه ينبغي لنا أن ننصب الحرب للمغيرين ولاسيما المكابرين منهم؛ وذلك أننا نريد أن نقيم للإنشاء بالعربية دولة. والإنشاء إذ رضي بالاستلهام فإنما يكره السطو والالتقاط ثم التهويل بهما وفي هذه (اللطيفة) الكفاية.

ب. ف

ص: 62

لعله هو. . .

في العدد (325) من الرسالة الغراء وجَّه الأستاذ (علي معمر الطرابلسي) كلمة تتحدث عن جماعة (الشراة) إلى (أستاذ جليل) وكاتب مبرز مبدع، سباق غايات وصاحب آيات بينات، ومدبج بحاثات رائعات، ينم قلمه العتيق الكريم عن رسوخ كعبه في الأدب، وعلو مقامه بين الكتاب، وكمال اتصاله بروح العربية، وفذ اطلاعه وإحاطته بفنونها وآدابها، ومع ذلك فهو لا يتباهى بعلمه، ولا يفاخر بأدبه، ويرغب عن شهرة اسمه، فتراه يخفي شخصيته وينتحل إمضاءه وما تخفى الشمس ولا يحجب ضوء النهار!

وقد قال الأستاذ الطرابلسي في نهاية كلمته يخاطب الأستاذ الجليل: (فهل تسمحون أن أطلب إليكم إظهار اسمكم، فلطالما رغبت في معرفتكم، وكيف لا أرغب وقد كشفتم لنا ببحوثكم القيمة أنواعاً من حقائق أخفاها الدهر، مما يدل على عظيم اطلاعكم وحسن تمحيصكم؟)

وقد كنت ظننت بادئ الأمر أن (أستاذنا الجليل) سيسارع (فيضع عمامته) ويعلن اسمه، كي يعرف أهل العربية قاطبة من هو (ابن جلا وطلاّع الثنايا)! ولكن الأيام مضت تترى والأستاذ الجليل لا يجيب وعهدنا به أنه المجيب لكل سائل؛ وكأنه في عالم سماوي حبيب إلى نفسه، لا يود أن يغادره إلى عالم المتبجحين المتوقحين المدعين العظمة والسبق بالباطل والزور والافتراء والادعاء! وإنها الشمس تستحي أن تقول للنجوم وما حولها من كواكب: أنا الشمس. . .!

وأنا أرجو - إذ أتقدم بمحاولة الإعلان عن هذه الشخصية الفذة - ألا أكون فضولياً على أحد الأستاذين السائل أو المسئول فإن بي رغبة جامحة إلى الإشادة بفضل تلك الذات العالية والشخصية النابغة: شخصية (الأستاذ الجليل)، وأقرر أنني أصدر قولي هنا اعتماداً على الترجيح لا على اليقين وعلى ما استطعت أن أجده من المشابهة والتماثل بين ما كتب (الأستاذ الجليل) مذيلاً باسمه الحقيقي، وما كتب مذيلاً بما انتحل من إمضاء

وسأكسب - مع الأستاذ الطرابلسي ومع القراء - معرفة الحقيقة سواء كنت موفقاً أم مخطئاً؛ لأنني إذا وفقت فبها، وإلا فسيسارع (الأستاذ الجليل) أو بعض صحابته بتصحيح

ص: 63

الخطأ - فذلك فريضة إسلامية، و (الأستاذ الجليل) من أصدق المجاهدين للإسلام، وعلى ذلك فحتماً سنعرف!

إنني أرجح اعتماداً على ما قدمت أن ما ينشر في الرسالة المحبوبة بإمضاء (* * *) أو (ن) أو (القارئ) هو لحضرة صاحب العزة (أديب العربية الأستاذ الجليل والعلامة المحقق محمد إسعاف النشاشيبي بك) صاحب (نقل الأديب) و (الإسلام الصحيح) وغيرهما من الكتب الخالدة والمقالات العبقرية الفريدة وكل خاف سيعلم!

وأذكر الأستاذ الطرابلسي بقول القائل: (ويأتيك بالأخبار من لم تزود!).

(البجلات)

أحمد جمعه الشرباصي

المصطلحات العسكرية ترجمتها إلى اللغة العربية

قررت وزارة الدفاع إجراء مسابقة في ترجمة المصطلحات العسكرية الخاصة بالأقسام الميكانيكية والسيارات وغيرها إلى اللغة العربية. ويبلغ عدد الكلمات التي يراد ترجمتها حوالي خمسة عشر ألف كلمة.

وسيمنح الفائز في ترجمة هذه المصطلحات مكافأة مالية

تثقيف الشعب عن طريق الإذاعة

أعدت وزارة الشؤون الاجتماعية مشروعاً يرمي إلى تثقيف الشعب عن طريق الإذاعة اللاسلكية وذلك بتنظيم محاضرات دينية واجتماعية وقصصية تتناول شؤون الأسرة وتعالج أمراض المجتمع وتقوم أخلاق الشعب على أن تذاع إلى جانبها أناشيد وأغاني وموسيقى تعاون على تقريب المعاني الإصلاحية التي ترمي إليها الوزارة - من أذهان الشعب وتساعد على رفع مستوى تفكيره

وقد استقر الرأي على افتتاح موسم هذه الإذاعة في شهر رمضان

ويقال أن الوزارة تقوم الآن باختيار المحاضرين والمحاضرات من بين المشتغلين بمسائل الإصلاح الاجتماعي

حول قصيدة

ص: 64

سيدي الأستاذ الكبير صاحب الرسالة:

بعد التحية قرأت بالعدد (327) من الرسالة الغراء الصادر في 9 أكتوبر سنة 1939 قصيدة رائعة للشاعر المعروف محمود الخفيف عنوانها (وداع) وقد أعجبت بتصويره أيما إعجاب ولكنني عندما قرأت

إذا هم لا يستجيب اللسان

وما عيَّ في موقف قبله

وماذا عسى أن يقول

وهل تتأسى فتصغي له

عندما قرأت هذين البيتين لاحظت أن الثاني مكسورة فقدرت أن كلمة قد سقطت في الطبع ولعل الأستاذ الشاعر كان يريد أن يقول:

وماذا عسى أن يقول وهل

تتأسى لقول فتصغي له

أرجو أن يتفضل سيدي الأستاذ فيدلي إليَّ برأيه وأكون له شاكراً

(بني مزار)

يوسف حنين

(الرسالة) صحة البيت هكذا:

وماذا عسى أن يقول لها

وهل تتأسى فتصغي له

وقد سقطت كلمة (لها) في الطبع

رجاء إلى الكتاب

لاحظت في أكثر المقالات المنشورة في الرسالة أن الكاتب عندما يريد أن يشير إلى كلمة أو جملة تحتاج إلى إيضاح أكثر يشير إليها بالرقم 1، 2، 3 إلى آخره كما هو متبع عادةً ويكتب لذلك مفسراً يقول:(اقرأ صفحة كذا من كتاب مختصرات طبقات الحنابلة) أو (راجع أخبارهم من كتابي سيناء القديم وتاريخ بئر السبع وفيائلها إلى غير ذلك. . .) وهذا مثل لما جاء بالعدد الأخير فقط. ومثل ذلك في الأعداد الماضية

وإني أرى أن يكلف الكاتب نفسه ولو بكتابة كلمة أو اثنتين أو سطر أو سطرين وإن اضطره الحال فليكتب جملة أو جملتين كما نرى في كثير من المقالات لأن من قراء الرسالة كثيرين من الطلبة والموظفين لا يجمعون من تلك الكتب التي يشير إليها كاتب

ص: 65

المقال كتاباً واحداً. . . والكاتب بطبيعته يطلع على ذلك الكتاب الذي يشير إليه وهذا ظاهر من تحديده صفحة الكتاب ورقم السطر فما كان يضيره لو كتب ما يريده من القارئ أن يطلع عليه ولو موجزاً؟. . .

أحمد حلمي العباسي

جريدة الشورى

سألنا بعض القراء عن جريدة الشورى التي كان يصدرها صديقنا الأستاذ محمد علي الطاهر باسم الشباب ثم باسم العلم ولماذا لا تصدر الآن؟ ونحن نجيب على ذلك بأن الزميلة توقفت عن الصدور بسبب الأحوال الحاضرة وسيعيد الأستاذ الطاهر إصدار جريدته بعد الحرب إن شاء الله

ص: 66

‌الكتب

تحت راية الإسلام

لفاضل مسيحي

بقلم الأستاذ عز الدين التنوخي

(تحت راية الإسلام): كتاب جديد يبحث عن سيرة النبي العربي وحقيقة الإسلام، ويدرأ عنهما شبهات المبشرين ومفتريات المستشرقين ألفه الأستاذ خليل جمعه الطوال العربي المسيحي الكاثوليكي، من أدباء شرقي الأردن أو مشارف الشام؛ ولو كان المؤلف عربياً وأرثوذكسياً لخف العجب، ولكنه يؤلف (تحت راية الإسلام) وهو كاثوليكي وبابوي صميم!

وكثيراً ما كنت أجادل بعض إخواني من دعاة الجامعتين العربية والإسلامية، وأكثر من الاحتجاج لرأيي القائل بأنه لا فرق بين العربي الأرثوذكسي وأخيه الكاثوليكي إذا ما بُثت فيهما روح العروبة منذ الصبى، لا فرق بهذا الشرط بينهما في الإخلاص لدين العروبة، وبالتالي للأمة العربية ودولها العربية

ولولا مدارس التبشير الأجنبية، وما تبثه في بلادنا الشامية من روح التعصب، وما تنشره في صفوف المدارس من الدعايات السياسية المصمومة، لولا ذلك لكانت لعمري روح شباب الشام واحدة، على الرغم من اختلاف الأديان، ولما كان للأقليات نواب في مجلسنا النيابي، ولما وجد المستعمرون مطايا لهم في بلادنا العربية. ولو كانت الروح القومية واحدة لرأينا العربي المسلم يدرس إلى جانب العربي الأرثوذكسي والكاثوليكي على مقعد واحد في مدرسة واحدة.

ومن دعاة الجامعة الإسلامية من يوجس في نفسه شراً من الجامعة العربية، وكأنه يحسب أن الإفراط في الارتباط بالقومية، والمبالغة في التمسك بحبل العروبة مما يحل عقدة العقيدة، ويوهن عصب الجامعة الإسلامية، ومن دعاة الجامعة العربية من يخال أن الجامعتين متضادتان، وأنه قلما اجتمعت الوطنية الصحيحة والقومية الصادقة في أحد من دعاة الجامعة الإسلامية، وكلا الفريقين غال في رأيه، مخطئ في حكمه: ذلك لأن العربي المسلم قد يشاطر الياباني والهندي المسلم عقيدته وعاطفته وهيامه بالمثل الإسلامي الأعلى،

ص: 67

ويحب لهم من الخير والاستقلال وبلوغ الكمال ما يحب لنفسه؛ ولكن حبه الخير لأخيه في الإيمان لا ينافي حبه الخير والسعادة لأخيه في الأوطان.

ولا ضرر على الإسلام ولا ضرار في انتشار دين العروبة في البلدان العربية، فكثيراً ما عرفت بين نصارى العرب أو عرب النصارى من شبان يدينون بدين العروبة، ويجاهدون في سبيلها حق الجهاد، ومنهم من هو أكثر خيراً للعروبة وأقل ضرراً للإسلام من بعض ملاحدة المسلمين.

ذلك لأن منهم من كانت عروبته الصادقة تحطم قيود عقيدته التقليدية، وتحمله على درس القرآن وسيرة النبي العربي، فيجلو بدرسه الحر وبحثه المستقل وما ران على قلبه من أضاليل المستشرقين ودعايات المبشرين.

ولو سردت أسماء إخواني في العروبة في لبنان وفلسطين والشام والعراق ومصر وأمريكة وعرضت لذكر آرائهم لضاق بي نطاق البحث، وحسبي أن أذكر من هؤلاء الأدباء النجباء في أرومتهم والصرحاء في عروبتهم الأستاذ خليل جمعه الطوال مؤلف (تحت راية الإسلام)

لقد عرفت قبل اليوم هذا المؤلف معرفة روحية بقراءة ما كان يكتبه في مجلة الرسالة من الأبحاث الدقيقة الممتعة، وعرفته في الفيحاء اليوم عربياً مشهوداً له في بلاده بصدق النسب العربي، والاعتزاز بالنبي العربي، الذي أحيا أمته وجمع بعد تفرق شملها، وشفاها من أمراض الجاهلية المعضلة، وأخرجها من القبلية الضيقة النطاق، إلى الشعبية الفسيحة الآفاق، فجعلها أمة واحدة تحمل بيمناها كتاب القرآن، وبيسراها كتاب علوم الأكوان، فهدت بالأول الأمم إلى مَسمى الإنسانية، واهتدت بالثاني في معترك حياتها الدنيوية، ففازت بالإسلام بسعادة الدارين معاً

استمع لما توحيه إليك كلمة المؤلف في مطلع كتابه إذ يقول: (لقد نشأت بتأثير تربيتي المسيحية الكاثوليكية نفوراً من الإسلام كارهاً له ولأهله، لا أقر له بحسنة، ولا أبرئه من سيئة، وغاية ما كنت أعرفه عنه أنه شريعة فاسدة تنطوي على عيوب كثيرة، أقامتها جماعة من الغزاة المحبين لسفك الدماء والنهب والسلب، ثم اعتنقتها شعوب بدائية وأمم بربرية لا حظ لها من الثقافة والمدنية. ولست أرى عليَّ الآن أيّ لوم في تلك الصورة

ص: 68

الملفقة المشوهة التي كنت أحملها عن الإسلام، لأني لم أكونها لنفسي بنفسي، ولا بنيتها على ما قد انتهى إليه اجتهادي في دراسة حقيقة الإسلام، أو اقتنعت به بعد إنعام النظر وإعمال الفكر في كتابه، ولكني ورثتها منذ حداثتي وراثة تقليدية. . .)

ورأى صديقاً له مسلماً يبتاع نسخة من التوراة والإنجيل ليدرسهما قائلاً له: (من الناس من يكره شيئاً ويحب آخر دون أن يكون له في كلا الحالين أمر أو رأي، ولكنه مقيد في جميع سلوكه بمألوف عادات بيئته وتقاليدها، ويسرني أنني لست من ذلك الطراز، ولذلك اشتريت هذه الكتب لأقبل ما فيها أو أرفضه عن فهم واقتناع لا عن جهل وتعصب)

ورأى أن حالة صديقه المسلم تنطبق عليه، وأن كلمته هذه الحرة جدير به أن يقول مثلها إن كان منصفاً وعاقلاً حراً. قال المؤلف: (ثم نظرت فإذا بي أكره أخي العربي المسلم وأنفر منه وأتحاشاه لا لعلة إلا لما كان من إسلامه الذي كنت أشعر بكراهته قد خالطت لحمي ودمي، إلا أنني على كل حال لا أكاد أعرف عنه إلا اسمه، فعزمت لذلك على دراسة أملاً أن أقف على صحته أو فساده

(وفي ذات يوم عرجت على إحدى المكاتب العربية وابتعت منها نسخة من القرآن العربي المبين، وأخرى من سيرة ابن هشام فطواهما البائع لي في رزمة، وتسللت من عنده كاللص، واضعاً إياها بين ملابسي، وحريصاً كل الحرص على ألا يطلع عليها أحد من أقاربي وأهلي، ذلك لأن الكنيسة الكاثوليكية كانت سوى ذلك تحرم على المسيحيين مطالعة جميع الكتب الدينية غير الكاثوليكية ولو كانت مسيحية، فكيف الكتب الإسلامية؟!)

تلا المؤلف القرآن باستقلال فكر وإنعام نظر، وقرأ معه سيرة ابن هشام فرأى ما رأى من شبهات غير المحققين من المبشرين وشاهد ما شاهد من مفتريات غير المحقين من المستشرقين، فكان كما قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده:(من عرف الحق عزَّ عليه أن يراه مهضوماً)، ولذلك انتبه من رقدته منتصراً لمحمد فخر أمته، وللحق يراه مهضوماً، وللعدل يبصره مظلوماً، فألف كتابه هذا (تحت راية الإسلام)

على أنه ينتظر لمثله أن يؤذى ويظلم في حرية تفكيره فقد قال المسيحيون عنه: (زنديق مارق عن الدين وكافر يجب حرمانه) وأجاب المسلمون: (بل هو دجَّال متملق يقول هذا لغرض يريده حتى إذا ظفر به انقلب على عقبيه)، ولقد ظلم كثيراً من المسيحيين

ص: 69

والمسلمين بقوله هذا، لأن المسيحيَّ العاقل الفاضل يعذره، ولا يكفره، إذ لا يجتمع عقل سليم وتعصب ذميم، والفضل يحول بين المرء والعدوان في كل زمان ومكان؛ وأما المسلم الذي يعرف ما لقيه المؤلف في سبيل عقيدته الحرة من ضروب الأذى، فإنه لا يقول لمثل خليل جمعة الطوال متملق دجال!

إن دين الله السماويَّ واحد، وكالقطر حين ينزل من السماء واحد، وتحليله الكيميائي واحد، وإنما تباعدت النصرانية الحاضرة عن الإسلام بكثرة ما دخلها من الزيادات الكنسية، كماء السماء ينزل صافياً نقياً، وكلما ازداد اتصالاً بالأرض وجرياناً عليها قل صفاءه بمقدار ذلك وبقاءه، والمؤلف مع اعتقاده بمحاسن الإسلام وصدق دعوته العامة لا يزال يعتقد بالنصرانية الأولى ولا يرى تنافياً في الدعوتين، لأن الإسلام كما قال السيد جمال الدين الأفغاني: نصرانية وزيادة، ولذلك يقول في كتابه (تحت راية الإسلام) ما نصه:(إن اعتقادي الصحة في معتقدي لا يمنعني البتة من أن أعتقدها في مذهب غيري)، ويقول في موطن آخر معترفاً بأن محمداً لم يرسل إلا رحمة للعالمين: فبه اهتدت السفينة الضالة وكملت البشرية الناقصة، وعزت الإنسانية المهينة، فمن لم يحبه عن طريق الدين الذي أظهره، أحبه عن طريق الدنيا التي طهرها، ومن لم يمجده عن طريق الإسلام الذي رفع مناره مجَّده عن طريق العنصر العربي المجيد الذي أعز مكانه ورفع قدره وأعلى كلمته. . .)، فالأستاذ خليل جمعه الطوال الذي شرح الله للإسلام صدره لا يزال في يوم الناس هذا ممن يكتم إيمانه، وإن صدَّق بنبيه العربي محمد وأحب قرآنه، ودون للناس في كتابه حسنَ دعوته وإحسانه

(دمشق)

عز الدين التنوخي

ص: 70