المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 33 - بتاريخ: 19 - 02 - 1934 - مجلة الرسالة - جـ ٣٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 33

- بتاريخ: 19 - 02 - 1934

ص: -1

‌في الأقصر.

. .

لا تجد في معبد الأقصر ما تجد في معبد الكرنك من ذلك الاستغراق الذهني الذي يمحو الوجود من ناظرك، ويعفو الحاضر في خاطرك، ويحييك مع أمينوفيس ورمسيس في دهر واحد! فأن هذا المعبد يقع في جبهة المدينة ونزهة الناس فلا تنفك وأنت فيه بين نظرة خادعة من مفاتن النهر، وزفرة صادعة من بواخر كرك، ولفظة صاخبة من لغط المار؛ ولن تستطيع وعيناك تضطربان بين الهيكل والكنيسة والمسجد وقصر السلطان وونتر بلاس، ان تحصر ذهنك في موضع، وتقصر فكرك على موضوع. فكل صورة من هذه الصور الموائل يمثل فكرة وييسجل نهضة ويؤرخ حقبة؛ أما معبد الكرنك فظل بنجوة من تيار الزمن الجارف، ينعم بسكونه الشعري في اعتزاله، ويتمتع في جوه الفرعوني باستقلاله

فتننا سحر الأصيل عن شعر المعبد، فذهبنا فيي طريق السلطان حسين نشهد أروع مجالي الجمال في الطبيعة. ومن حدثك أن بلداً من بلاد الله غير مصر يتمتع في يناير بدفء يستجيش العرق والبهر، وضوء يغمر القلب والنظر، وصحو يدوم النهار والليل، فهو ولا ريب لم ير الأقصر! وأي منظر تألقت به قدرة الله، وتأنقت فيه يد الطبيعة، كمنظر الغروب في طيبة؟ فالشمس المصرية تغرب في جلال وراء الجبل، وأشعتها الفاترة قد تجمعت حولها من سهول الوادي، فلم يبق منها الا غرر تلمع في أجنحة الطير وسعف النخل ورؤس الهضاب، وشفقها الوهاج قد شب في أطراف السلسلة اللوبية حريقا بارد اللهيب ايذانا بالمغيب، والمشتون من سراة أوربا وأمريكا يطالعون في شرفات الفندق أجمل ما خطته يد البارئ المصور في صفحة الوجود، وأنا وأصدقائي الثلاثة نسير الهويني على الشاطئ الضاحك، يشيع في دمائنا مجد هذا الماضي، وفي أعصابنا عظمة هذا الوادي، وفي أخلاقنا صراحة هذا الجو، وفي مشاعرنا جمال هذه الطبيعة، فنكاد من فرط الزهو نقول لمن نلقى من السائحين االغربيين: نحن تلية هذا المجد، وصنيعة هذه الشمس، وصورة هذا الجمال، فهلا تروننا اخلص الناس جوهرا. واصدقهم مظهرا، وازكاهم أرومة؟

وكان حديثنا في هذه الساعة الجليلة نغمة منسجمة في هذا اللحن السماوي الذي تنشده الكائنات كل يوم عند الغروب، وما ظنك بحديث نقي الحواشي يشققه أستاذ في كلية الآدب، واستاذ في كلية العلوم، واستاذ في كلية الحقوق، وكاتب صغير من كتاب الرسالة؟

ص: 1

كان صباح اليوم العيد موعد (المقابلة الملكية) فعبرنا النهر في رهط من أطباء المؤتمر، ووقفنا بالضفة الأخرى نتحسس الآثار الهوالك، فلم نجد أمامتا غير الحقول الزمردية تكسو السهل، والجبال الوردية تسد الأفق. وكانت هذه الضفة الخلاء في دهرها الغابر حيا من أحياء طيبة يسكنه محنطو الجثث وصناع المومياء، فما كان يومئذ يموت انسان أو ينفق حيوان الا أتوابه هذا الحي فيمضي فيه أهله (عملية) الخلود!!

انطلقت بنا السيارات بين الزروع الخضر أرتالا يسفى بعضها الغبار في وجوه بعض، فمررنا بالقرنة وقد خرج أهلها في زينتهم يعيدون فوق المقبرة! وأكبر الظن أنهم بقايا ذلك الحي البائد، فهم يسكنون الجحور كبنات آوى، وينبشون القبور كلصوص الموتى. وينحتون التماثيل كصانعي الآلهة، ويخدعون بالتمائم كدهاة الكنهة!

وقفت بنا الحقول فجأة، ثم أسلتنا الى قفز من الأرض بعضه مرمل وبعضه مترب، فسرنا فيه بين أعلام من الحجارة المنضودة، حتى دفعنا الى شعب في الجبل تكثر على جانبيه الغيران الموحشة والفجوات العميقة، فنحسبها بادئ ذي بدء من أثر الوحوش الحافرة، ولكنك تدرك بعد هنيهة أنها من أثر الانسان الذي نكبت به هذه الأرض منذ أربعة آلاف سنة فلم يرفع معموله عنها الى اليوم!!

شقها فدفن بها الملوك! ثم شقها فسلب فيها الملوك! ثم هو يشقها اليوم دائبا ليخرج منها الملوك!

أخذت طراءة النسيم تتخلف عنا رويداً رويداً حتى انقطعت، وهب يناوحنا من فجاج الوادي الملكي جو ثقيل كجو مايو، وأصبحت سلسلة الجبال فوقنا بعد ان كانت أمامنا، ثم انعطفت الطريق الصاعبد بغتة فاذا السيارة أمام باب من الخشب، وبواب من الناس، وقائل يقول: هنا جبل الخلود وحرم الملوك ومثوى توت عنخ آمون!!

الجبل من أعلاه إلى أسفله قطعة واحدة من الحجر الجيري الصلد لا تجد فيه صدعا ولا فرجة! نقرت يد الانساان القديم في أصله فتحة مربعة دخل منها الدليل ودخلناها على أثره، فاذا سلم حادر يهبط بك قليلاً أو كثيراً الى بئر عميقة تضلل اللصوص: ثم يعود فيهبط الى قاعة فسيحة تجمع أشتات المتاع، ثم يعود فيهبط الى حجرة تضم جثمان الملك! وسقوف الحجر محلاة بصور من جماعات الكواكب، وجدران الانفاق مغشاة بسور من كتاب

ص: 2

الموتى: فالبرزخ الفاصل بين الحياة الفانية والحياة الباقية مصور كله في وضوح ودقة! فهنا الميزان، وهناك الصراط، وهنالك المطهر، وفيما بين ذلك عقبات هائلة وحيات قاتلة لا يفلت منها الا من حمل جواز الأمان وعرف كلمة السر!!

وقفنا حيال فرعون وهو راقد في أكفانه الذهبية رقدة الضراعة والهون! يشمت به الفناء، ويسخر منه البقاء، ويصيح في أذنيه القدر:

لقد علوت في الأرض، وغلوت في الجبروت، وسخرت الزمان لتخليدك، والانسان لتمجيدك، ثم كانت عاقبتك يا فرعون هذه العاقبة المضحكة!! فصاحب اذنك خادم حقير، وكبير أمنائك (ترجمان) أجير، وشعبك العابث يحضر (التشريفة الكبرى) يوم العيد في غير حلة رسمية، ولا هيئة جدية، وجلالتك الالهية كلها لم تقو إلا على الدود، ولم تحظ إلا ببسمة ساخرة من ثغر الخلود!!

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌السياسة وعلم الاجناس

للدكتور محمد عوض محمد

يود الذين يشتغلون بعلم من العلوم لو أدرك الناس ان لكل علم حرما يجب ألا يدنو منه غير أهله إلا بشيء كثير من الحذر. ومع ذلك فان من الشائع المألوف ألا يكتفي للناس بالدنو والاقتراب من حرم هذا العلم أو ذاك، بل ان الكثيير منهم ليقتحم عليه الباب ويخترق الساحة، ويستبيح الحمى. في غير رفق ولا حذر، ودون ان يستأذن أو يسلم

وهذا الاعتداء قد يكون من عامة الناس وجهلتهم. فلقد ترى الواحد من هؤلاء يصف للمريض الدواء الشافي والعلاج الناجع في جرأة قلما نراها في الطبيب المحنك الذي وعى في صدره طب الأولين والآخرين. ولكن هذا الاجتراء على حرم العلم قد يكون أيضا - ويا للاسف - من رجال ينتسبون إلى الثقافة وإلى العلم، وربما رأينا المثقف يعتدي - فيي جرأة واعتداء بالنفس - على حرمة علم لم يدرسه ولم يلم به، فيتحدث عنه حديث من أحاط بأطرافه وتوفر على درسه.

ولعل هؤلاء أشد خطراً من جهلة الناس وعامتهم. لأنهم مثقفون، ولأنهم ألموا ببعض العلوم إلماماً حسنا. فأكسبتهم ثقافتهم وعلمهم مكانة بين الناس ومقدرة على الافصاح عن آرائهم ليست للأمي الجاهل، فهم اذا تحدثوا عن علم غير ما اختصوا بدراسته، أخذ الناس عنهم أقوالهم من غير جدال، لما لهم من المقدرة في البيان ومن المكانة في النفوس.

والذين راقبوا هذه الظاهرة بين رجال الثقافة قد أدهشهم أن يروا هؤلاء يتكلمون في جرأة وفي ثقة، عن أمور لا يتحدث عنها الاخصائيون الا في حذر شديد. فيصدق فيهم المثل الانكليزي:

(يمعن السفهاء في الجري والاندفاع، حيث تخشى الملائكة أن تمشي الهويني)

أثارت هذه الخواطر في نفسي مقالة للدكتور أحمد زكي في الرسالة عنوانها (العنصرية) وقد رأينا فيها ما يعانيه علم جديد وهو علم الأجناس من رجال السياسة ممن لن يلموا به إلماماً صحيحا، ولا جشموا أنفسهم مشقة مطالعة سفر واحد مما ألف فيه. وقل أن يكون بين العلوم علم لقي من هذه الناحية مثل ما لقيه علم الأجناس.

ص: 4

فلقد كان من الشائع جدا أن المتكلم عن الأجناس البشرية يخلط بين الثقافة واللغة والدين في تقسيم الناس إلى أجناس، وبين صفاتهم الجثمانية البحتة كاختلافهم في اللون والقامة وشكل الرأس والشعر. . وهي الصفات التي يجب أن تكون الأساس العلمي الاكبر - بل الوحيد - لتقسيم الناس إلى أجناس.

هذه الاختلافات الجثمانية أمرها قديم جداً. وللأسف لم ينشأ علم ولا علماء يعنون بمعالجة هذا الموضوع ودراسة السلالات البشرية دراسة علمية صحيحة إلا في عصر حديث جداً، ومما يؤسف له أن كثيرين ممن أوتوا حظا وافراً من الثقافة لا يزالون - بسبب حداثة هذا العلم - جاهلين حتى بمبادئه الأولية.

ولهذا قد نرى كثيرا من المسئولين من رجال الأدب والسياسة ينطق بألفاظ وعبارات عن الأجناس وأهميتها وأفضلية جنس على حنس في صور لا تنم عن دراسة حقيقة للسلالات البشرية ولعلم الأجناس.

واختلاط السياسة بعلم الأجناس من أيسر الأمور. فان الدول كثيرا ما تصبح في مقام المنافسة والمناظرة من أجل استنهاض همة الناس أو تقوية الروح القومية فيهم. فليس أسهل للوضوال الى هذه الغاية من أن يفهم الناس أن سلالتهم أعظم السلالات، وجنسهم ارقى الأجناس. وقد يتدخل رجال العلم في هذا الأمر، وينزلون عن عرش علمهم الى درك المنافسات القوية. وهذا أمر يستدعي الأسف، ولكنه كثير الحدوث، ولم تختص به المانيا النازية: كما يزعم خصومها. بل إن أشهر الكتاب فيه من غير الألمان

إن علم الأجناس لا يرى فضلا لسلالة على سلالة ولا لجنس على جنس. حتى إن بعض المؤلفين (راجع مثلا كتاب وقد يخصص جزءا غير قليل من كتابه في دحض الآراء الشائعة عن الأجناس، فهو لابد له أن يهدم الخطأ قبل أن يبنى الصواب.

الاجناس كلها متساوية في نظر العلم، ولكن أكثر الناس قد وقر في نفسه غير هذا. ومن قديم الزمان جداً يفخر كل شعب بأنه هو الشعب الأعظم. وما سواه أمم بربرية. وهذا بالطبع لم يكن سوى صورة من صور الأثرة القومية. فاليونان كانوا يقسمون سكان العالم الى قسمين: اليونان والأمم البربرية. وهكذا يقول هرودوت في مقدمة كتابه إنه سيقص فيه الحوادث العجيبة التي حدثت للهلينيين (اليونان) وللأمم البربرية.

ص: 5

وكذلك كان الرومان يعتقدون أن ما سواهم شعوب بربرية. ومن الغريب أن أهل الصين أيضاً كانوا الى منتصف القرن التاسع عشر ينظرون الى الانكليز ومن اليهم بأنهم بربرة. والكلمة الصينية التي تفيد هذا المعنى: معناها الحر في الاشخاص الذين يجلسون القرفصاء على الأرض: أي أنهم من الوحشية بحيث لا يتخذون كراسي لجلوسهم. وهكذا كان كبار رجال الدولة الصينية يخاطبون سفراء الملكة فكتوريا وكانوا يدعونها ملكة البرابرة حتى لقد كان هذا مما أحفظ الأنكليز؛ وكان من جملة الأسباب التي دعت الى اثارة حرب الأفيون.

ولئن كان الجرمان يفخرون بجنسهم اليوم. فكذلك كان يفعل الروس قبل الحرب، فقد كانوا يمجدون الجنس السلافي ويزعمون أنه أرقى الأجناس جميعاً.

ولعله ليس في العالم شعب قد غلا - من هذه الناحية - الغلو كله مثل الشعب اليهودي، الذي لم يكتف بأن ينادي بأنه الشعب المختار، بل لقد أصبحت هذه العقيدة جزءا من الدين اليهودي لا سبيل الى فصلها عنه.

هذه النعرات القومية، قد تكون من ضروريات السياسة، ومن وسائل النهوض بأمة في وقت من الاوقات. ولكن الواجب يقضي علينا بأن نفرق صريحا بين صيحات السياسة ونظريات العلم.

هنالك نظرية أو رأي اثنولوجي خاطئ شاع في الزمن الحديث، ولا يستند على أساس على ولا تاريخي، بل يحلو لأصحابه أن يتجاهلوا التاريخ تماما. وهذا الرأي هو القائل بأن الجنس الشمالي أو التيوتوني - الذي يمتاز بالشقرة والقامة الطويلة والعيون الزرقاء، وغير هذا من الصفات الجسدية - هو أرقى السلالات البشرية. وأنه لولاه لما كانت حضارة ولا رقى في أي عصر من العصور.

هذا الرأي الجرئ لا يجوز ان ينسب الى الالمان ولا الى الهتلريين، بل ان المؤمنين به في أمريكا مثلا أكثر من القائلين به في المانيا. ومن الغريب أن أول من قال بهذا الرأي الكونت جوبنو الفرنسي في كتابه:

'

وفي هذا الكتاب يزعم المؤلف ان التيوتونيين هم أرقى الاجناس البيضاء جميعا، وأفضل

ص: 6

السلالات البشرية على الاطلاق من حيث قدرتهم على خلق الحضارة بجميع عناصرها المادية والأدبية.

وقد شاع كتاب جوبنو هذا في وقت كانت فيه المنافسة بين فرنسا وألمانيا بالغة منتهى الشدة (بين عام 1860 وعام 1870) ولما كان أكثر الشعب الفرنسي من غير التيوتونيين، وأكثر الالمان منهم فقد كان كتاب جوبنو هذا بمثابة الفضل الذي شهدت به الاعداء.

وقد رد على جوبنو ودحض مزاعمه كثير من الكتاب، ولكنا لا نزال الى وقتنا هذا نرىة كتبا تنشر في انكلتره وفي أمريكا خاصة، ولكها في تمجيد الجنس التيوتوني وتفضيله على سائر الاجناس. ومن شاء الاطلاع على شيء من هذا فليراجع كتاب الاستاذ ماديسون جوانت وعنوانه وكتاب الاستاذ ماكدوجال وهو من كبار علماء النفس في الولايات المتحدة وعنوانه

وكلاهما ينادي في مؤلفه بضرورة الحرص على الجنس الشمالي والاكنار منه لانه العماد الاكبر لحضارة أمريكا؟

ومن الغريب أن الولايات المتحدة حين سنت قانون المهاجرة منذ نحو عشر سنين سمحت بالمهاجرة الى بلادها لعدد عظيم من سكان البلاد التي يسود فيها الجنس التيوتوني. مثل اسكندناوه والمانيا وانكلترة وهولندة. ولم تسمح الا بعدد قليل من المهاجرين من الأقطار الأخرى.

وهذا مثال خطير لتطبيق نظرية لا تقوم على أساس في مسألة دولية خطيرة. وبرغم الاحتراس الشديد الذي يبديه علماء الأجناس أنفسهم، لا نزال نرى الكثيرين يتحدثون في موضوع الأجناس من غير تدبر ولا حذر.

محمد عوض محمد

ص: 7

‌قيمة الثقافة

للأستاذ أحمد أمين

للثقافة قيمة مالية مقررة. فالليسانس والدكتوراه والدبلوم وما الى ذلك

من الأسماء، هي عنوان للثقافة، أو بعبارة أخرى تتويج لمجهود سنين

قضيت في تحصيل العلم، وتأتي (المالية) بعد فتقدر هذه الدرجات

بالجنيه والمليم، وتجعل لكل منها قيمة مالية خاصة، ولها العذر في أن

تخالف بين الدرجات، وتسوى بين حاملي الدرجة الواحدة وإن اختلفوا

في مقدار الثقافة، لأنه لم يخترع الى الآن مقياس دقيق يوزن به الفكر

ومقدار استعداده وزناً صحيحاً. ولو اختراع هذا الميزان لألغيت

الدرجات، واكتفى بوزن الكفايات؛ ولكن من لنا بذلك وقد عجزت

المدنية الحديثة عجزاً تاماً عن اختراع هذا الميزان.

وللثقافة كذلك قيمة اجتماعية، فالثقافة ترفع من كان من طبقة وضيعة، الى ان يكون أحياناً مساوياً لمن كان من طبقة رفيعة، فحامل الشهادة العليا يرى نفسه - وقد يرى الناس معه - أنه صالح لأن يتزوج من طبقة راقية، مهما كان منشؤه ومرباه. وقديماً قال الفقهاء في (باب الزواج): إن شرف العلم فوق شرف النسب - والمثقف الراقي له الحق أن يكون عضواً في الأندية الراقية من غير أن يسأل عن نسبه وحسبه - بل له أن يُدِلّ على أبناء الطبقة الأرستقراطية إذا نال درجة لم ينالوها، وعرف من أنواع الثقافة ما لم يعرفوا، وله من حرمة الناس في المجتمعات والأندية ما لا يناله غير المثقفين، وإن كانوا من بيت خير من بيته، وفي نسب خير من نسبه.

ولكن لا أريد أن أتحدث في شيء من هذا ولا ذاك، فليست تعنيني الآن الناحية المالية للثقافة، ولا الناحية الاجتماعية لها - وإنما أريد أن أتسأل: ما القيمة الذاتية للثقافة؟ إن المال واحترام الناس عرض خارجي، فما القيمة الثابتة التي تتصل بنفس المثقف ولا تفارقها في فقر أو غنى، وفي جاه وغير جاه؟

ص: 8

أهم قيمة - في نظري - لثقافة المثقف هي كيفية نظره الى هذا العالم. ذلك بأن عيون الناس في نظرها الى الأشياء وحكمها عليها ليست سواء، فعيونهم الحسية وإن اتفقت في الحكم على الألوان بالسواد والبياض والحمرة والصفرة، وإن اتفقت في الحكم على الأبعاد قرباً وبُعداً، وإن اتفقت في الحكم على الأحجام كبراً وصغراً، فان العيون النفسية لا تتفق في نظرها ولا حكمها، فالشيء في نظر الأبله غيره في نظر الفيلسوف، وبين هذين درجات لا حدّ لها، وليس للشيء الواحد معنى واحد، بل معان متعددة تتسلسل في الرقي، والناس يدركون من معانيه بحسب استعدادهم وثقافتهم وأذواقهم.

وقد حكموا أن عيسى عليه السلاام مرّ هو وأصحابه بجيفة فقالوا: ما أخبث رائحتها! وقال هو: ما أحسن رياض أسنانها! ونظر الرجل العادي الى حديقة مزهرة غير نظر الاديب الفنان، هذا ينظر اليها فيقرأ فيها من المعاني والجمال ما يمتزج بنفسه، ثم يسيل على قلمه كأنه قطع الرياض - وذاك ينظر اليها نظرة مبهمة، لا تُسفر عن معنى، ولا تُعْرف لها وجهة، نظرة بليدة جامدة، لا يسعفها ذوق ولا تخدمها قريحة.

ومثل هذا في كل شيء يعرض على العين، فكل شيء في السماء وفي الأرض لا يحمل معنى واحدا بل معاني متعددة، وقيمة الثقافة ان تنقل العين من أنظار سخيفة ومعان وضيعة الى أنظار بعيدة ومعان سامية. فالاديب اذا لم ينظر في المرأة الا الى حسن جسمها وتناسب أعضائها لم يكن أديباً مثقفاً وقلنا له كما قال المتنبي

وما الخيل الا كالصديق قليلة

وان كثرت في عين من لا يُجرّب

اذا لم تشاهد غير حسن شياتها

وأعضائها فالحسن عنك مغيب

ففرق كبير بين ان تنظر الى المرأة كشيطان وان تنظر اليها كأنسان وان تنظر اليها كملك - وفرق كبير في كل شيء في الوجود يعرض على أنظار الناس

وكل انسان له نظراته في العالم من اسفل شيء إلى أرقى شيء، من مادة تحيط به ومال يعرض عليه وأعمال تتعاقب أمام نظره واله يعبده - هو في كل ذلك قد يكون سخيفا في نظراته، وضيعا في رأيه، وضيعا في حكمه وقد يبلغ في ذلك كله من السمو منزلة قل أن تنال. وعمل الثقافة ان تنتشله من تلك النظرات الوضيعة الى هذه النظرات السامية

وليست نظرات الانسان الى الحياة قوالب من طوب، كل قالب مستقل بنفسه، محدود

ص: 9

بحدوده، انما هي كسائل لطيف اذا لوَنْتَ نقطة منه بلون مشع اللون في سائر السائل، واذ سخنت جزءا منه وزع حرارته على السائل كله حتى يتعادل - بل الرأي والنظرات ألطف من ذلك وأدق وأرق. فاذا رقى النظر الى شيء أثر ذلك رقيا في سائر النظرات. فكل نظرات الحياة متأثرة بنظرك الى نفسك والعكس، بل نظرك الى الله تعالى متأثر بنظركُ الى عالمك المحيط بك - وهذا ما يجعل الثقافة في أية ناحية من النواحي الأدبية والعلمية يؤثرا أثراً كبيراً في النواحي الأخرى حتى ما تظن أن ليست له صلة به. وقد أصاب صديقي يوما اذ كان يقول (ان رقى الامة في الموسيقى وتذوقها الصوت الجميل والغناء الجميل يجعلها تتعشق الحرية وتأنف الضيم وتأبى المذلة) فمحيط المخ والعقل والشعور محدود، كل ذرة فيه تتأثر بأقل شيء وتؤثر بما تأثرت - والفكرة الجديدة قد تدخل في الفكر فتقلبه رأساً على عقب وتجعل من صاحبه مخلوقاً جديداً يقل وجه الشبه بينه وبين ما كان من قبل، فتجعله في أعلى عليين أو أسفل سافلين.

ان كان هذا صحيحاً، وكانت قيمة الثقافة الذاتية في مقدار ما رفعته في المثقف من وجهة النظر الى الاشياء وتقويمها قيما جديدة اقرب الى الصحة، أسلمنا ذلك الى نتائج خطيرة - فدين خير من دين بمقدار ما تحاول تعاليمه من رفع مستوى النظر الى الله تعالى والى الحياة - وعلم خير من علم باعتبار ما يؤدي اليه من نظر راق صحيح - وثقافة الانسان لا تقدر بمقدار ما قرأ من الكتب وما تعلم من العلوم والآداب ولكن بمقدار ما أفاده العلم، وبمقدار علو المستوى الذي يشرف منه على العالم، وبمقدار ما اوحت اليه الفنون من سمو في الشعور وتذوق للجمال.

أحمد أمين

ص: 10

‌بل. . . صفحة بيضاء!

للأستاذ حسن جلال

كتب الأستاذ الكبير - أحمد أمين - تحت عنوان (صفحة سوداء) مقالا عن مصر كما يراها بعض مؤرخي العرب.

فكمع كثيراً مما قاله القوم في المصريين وفي طبيعة بلادهم. وكيف أن أرض مصر (تولد الجبن والشرور الدنيئة في النفس حتى أن الأسد لم تسكنها - وهي إذا دخلت أرضها ذلت ولم تتناسل! وكلابها أقل جرآة من كلاب غيرها من البلدان، وكذلك سائر ما فيها أضعف من نظيره في البلدان الأخرى) أهـ

وقد تفضل الأستاذ فرد على هذه التهم ولا سيما التهمة المسندة إلى كلاب مصر فانه أبدع في تفنيدها وأشاد بذكر أرمنت وما يستطيع أن يفعله كلابها بجلد المؤرخ الذي فرط منه ذلك القول ونحن نشكره هنا. . بلسان أرمنت وما فيها!

ولكن بقيت بعد ذلك تهمتاه نريد أي نقول نحن أيضاً فيهما كلمتين: أما التهمة الأولى فهي الخاصة بأرض مصر وأن الأسد لا تسكنها، وأنها إذا سكنتها ذلت ولم تتناسل فيها لأنها ترث الجبن عن هذه الأرض، وهذا قول عجيب، فكأن التناسل من أعمال الشجاعة في نظر ذلك المؤرخ الذي يحيط علمه الواسع ولا شك بما قال الشاعر من أن

(بغاث الطير أكثرها فراخا)

والحقيقة الواقعة أن التناسل لا دخل له بالقوة ولا بالضعف ولا بالجبن ولا بالشجاعة. على أننا نكتفي في هذا الصدد بأن نحيل حضرة المؤرخ المحترم - كما يقول البرلمانيون - الى حدائق الحيوان بالجيزة فهي كفيلة وحدها بالرد على دعواه. وفي (بيت الأسود) فيها من الاشبال الكثيرة التي نبتت على أرض مصر وتحت سمائها ما يكفي لتنفيذ مزاعمه!

والآن بقيت تهمة أرض مصر بأنها تفسد أهل مصر وتجعل ما في مصر أضعف من نظيره في البلدان الاخرى. وهذا ما نريد أن نقول فيه كلمة قصيرة. ونحن نطمع في أن يتصدى للادلاء بالقول الفصل في هذا الموضوع رجال هم أقدر منا على ذلك بحكم عملهم ووقتهم واطلاعهم. على أنا نرى الموضوع لا يكفي فيه رد واحد يطلق في صحيفة واحدة ثم تنطوي الصفحة وينسدل الستار، ونبقى نحن على ما عشنا فيه من الاتهام بالذل

ص: 11

والضعف حتى من بعض مؤرخي العرب كأن لم يكفنا ما نلقاه نحن وهم على يد الافرنج من التجني إذ يقولون عنا - ويقصدون بهذه اللفظة المفردة كل ما تنطوي عليه الفاظ الوحشية والهمجية والتأخر من المعاني!

ولعل الوقت الحاضر أنسب الاوقات للأكثار من البحث في هذا الموضوع ورد الحق الى نصابه والأشادة بمكانة المصري ومقدرته وما يمكن أن يأتيه من جلائل الأعمال لو تهيأت له الظروف. فلقد رأينا أخيراً أن هذه الدعوى التي رمانا بها مؤرخو العرب وغيرهم قد بات يحلو ترديدها في قم بعض المصريين أنفسهم عن يقين منهم بصحتها. وتلك آفة الآفات والنكبة التي ما بعدها نكبة لهذه البلاد، فان الايحاء أفعل من السحر. وانك لتستطيع أن تستأنس النمر الشرس لو أتيح لك أن تفهمه أنه هر أليف، ثم تمضي تردد على سمعه هذا القول الهراء. فلينظر الذين يحلو لهم ترديد مثل ذلك القول المنكر إلى أين يهبطون بأنفسهم وبجيلهم يهرفون بما لا يعرفون!

لقد قالوا إن الشعب المصري شعب ذليل بحكم سمائه وارضه. كذبوا، فان سماء مصر وأرضها لا تنبتان الذل وانما تنبتان العزة والقوة والقدرة على الاستذلال. وإني لأستنكف أن أذكر الفراعنة في هذا الصدد حتى لا يقال احتمى بمجد أمة ماضية، ولاذ بعزة قوم غابرين. ولكني أكتفي بأن أنظر الى ما عليه مصر الآن. فان هذه البلاد العجيبة لما ينقض على نهضتها الأخيرة ربع قرن، ومع ذلك برز من بين أبنائها أبطال عالميون في مختلف ميادين الحياة. لقد ظهر فيها اسماعيل سرى المهندس، وعلى ابراهيم الجراح، وخليل عبد الخالق البيولوجي، ونبتت فيها لطفية النادي الطيارة، ومحمود مصطفى المصارع، وسيد نصير الرباع، ونشأ بين أرضها وسمائها طلعت حرب المالي الكبير. ولست أذكر رجالا ظهروا في مستهل هذه النهضة ففتحوا الشام وهزموا الوهابين واستعمروا السودان. فكل أولئك وغيرهم ما كادوا يلجون ميادين أعمالهم حتى تخطوا كل قرنائهم في أنحاء العالم. وحملوهم على التنحي لهم عن الصدر فتبوأوه ورفعوا راية مصر عالية فوق رؤوس الجميع.

فما هو مدلول هذه الظاهرة عند كل ذي عينين غير أن الأمة التي أنجبت كل هؤلاء الأبطال في جيل واحد - وفي هذه الظروف القاسية التي تجتازها مصر الآن - لا يمكن

ص: 12

أن يكون معدن أهلها كمعدن أهل غيرها من بلاد الله. وأنها لابد تمتاز على من عداها في حسن فطرتها وقوة ملكاتها وسلامة استعدادها.

ولئن كانت قد طغت على هذه البلاد موجات من الضعف والتأخر فهذه هي سنة الطبيعة في كل شيء. فما من شعب يدعى اضطراد سيره في سبيل التقدم والرقي منذ خلقه الله، وأنه لم يطرأ عليه من عوامل الضعف ما جعله فريسة لغيره من الشعوب (وتلك الايام نداولها بين الناس)

ولئن صح ما يقال من أن دولا كثيرة استعمرت مصر، فصحيح أيضاً أن مصر من دون البلاد التي استعمرت كانت هي التي تأكل مستعمريها وتطبعهم بطابعها قبل أن تنطبع هي بطابعهم!

لقد حكم الاتراك مصر واشتهرت تركيا بفخامة مساجدها وعظمة قصورها. وأن هذه المساجد وتلك القصور لتشهد للصانع المصري بأنه هو الذي زينها ووشاها، ورفع سمكها وسواها.

ولقد ولى (محمد على الكبير) أمر مصر ولم تك إلا نفخة قوية من صدره الشديد حتى انجاب عن جمرة مصر رمادها الذي خلفه عليها عجز المماليك، فتوهجت هذه الجمرة ونضنض لهيبها ثم اشتعل واندلع لسانه طويلا فلف فلسطين والشام والحجاز والسودان وكاد يحرق استامبول نفسها، وروعيت أوربا من طغيانه نحوها، وأشفقت على سلطانها في الشرق أن تلفحه هذه النار، فاجتمع العالم الغربي كله ليقف في وجه مصر ليكبح جماح المصريين يوم أن أفاقوا من سباتهم وتفتحت أعينهم من جديد على النور!

هذا هو الشعب المصري الذي لا يمكن إلا أن يكون عظيما لأن العظمة في دمه ولحمه. في ماضيه وحاضره. في أرضه وسمائه!

وحق مصر: لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا!

حسن جلال

ص: 13

‌فضائح المالية العليا في فرنسا

للاستاذ محمد عبد الله عنان

(تتمة)

حدثت في فرنسا، مذ كتبنا مقالنا الاول، تطورات سريعة خطيرة لم تكن في حساب أحد؛ فان وزارة مسيو شوتان أو وزارة (الفضيحة) لم تستطع أن تواجه غضب الرأي العام أو أن تهدئ روعه؛ ووقعت في باريس وفي الأقاليم مظاهرات ومصادماات دموية خطيرة قتل فيها مئات وجرح ألوف: وشحنت حامية باريس بالجند المدجج تحوطا للطوارئ، ولاح مدى لحظة أن فرنسا ستغدو فريسة الحرب الأهلية، أو يتحكم فيها النظام الجمهوري لتقوم مكانه دكتاتورية مطلقة. ولكن وزارة دالاديية استقالت في الحال؛ واستدعى مسيو دومرج رئيس الجمهورية الاسبق ليؤلف وزارة ثقة قومية، وقد وفق مسيو دومرج الى تأليف وزارته من شخصيات قوية بعيدة عن ريب الفضائح الأخيرة، وهدأ الرأي العام نوعا، ووقفت المظاهرات مؤقتا. ولكن فرنسا ما تزال مترقبة جزعة، ومن المستحيل أن يتنبأ انسان بما قد يقع بعد هذا الهدوء المؤقت من الحوادث أو التطورات.

كانت فضيحة ستافسكي المالية التي فصلنا حوادثها وظروفها روح هذه التطورات الخطيرة وباعتها الأول. ويندر أن نجد في صحف التاريخ الحديث جريمة أو جرائم مالية كالتي ارتكبها ستافسكي، تحدث في سير الحياة العامة لامة عظيمة كفرنسا مثل هذه الآثار الفادحة، فتهدد سلامة نظام عريق بأسره كالنظام الجمهوري، وتدفع شعباً عظيماً إلى نوع من التوراة أو الحرب الاهلية. ولكن فضائح ستافسكي كانت في الواقع وصمة للنظام باسره، وكانت دليلا ساطعاً على أن عوامل الفساد والانحلال قد سرت الى جميع واحي الحكم والادارة والحياة العامة الفرنسية كلها، وقد شهد الشعب الفرنسي في روعة وسخط كيف يكشف التحقيق تباعا عن أن من بين وزرائه وحكامه وقضاته ونوابه رجالا يلحق الريب بذممهم ونزاهتهم، وكيف أن المجرمين الذين يدبرون اغتيال أموال الشعب يستطيعون بالرشوة أن يشتروا أولئك الذين اختارهم الشعب للسهر على أمواله ومصالحه، وأن يستظلوا بحماية أولئك الذين عهد اليهم بقمع الجريمة، وان يجعلوا من القانون والقضاء اداة مشلولة. وقد رأينا مما تقدم كيف أن ستافسكي، وهو متهم بعدة جرائم نصب وتزوير،

ص: 14

استطاع مدى ثمانية أعوام أن يتفادى نظر القضاء لقضيته، وان يفوز بتأجيلها تباعا عشرات المرات، وانه لبث أعواما يمرح في جرائمه واختلاساته مع أنه معروف لدى دوائر البوليس، ولم تكن جرائمه سراً من الاسرار، فأي دليل أسطع على فساد القضاء وتدهور القانون والأمن والنظام؟

وقد حاولت وزارة مسيو شوتان التي ظهرت في ظلها هذه الفضائح ان تقمع الفساد بسرعة، فأبعد منها الوزيران اللذان اتجهت اليهما الشبه، وهما مسيو دالامييه وزير المستعمرات ووزير العمل السابق، ومسيو رينالدي وزير الحقانية، وقدمت الى البرلمان مشاريع قوانين بمعاقبة الرشوة والمواظفين المرتشين بأشد العقوبات، وقبض على مدير البوليس القضائي وبعض زملائه ليحقق معهم، وقبض على النائبين جارا وبونور اللذين ثبت انهما تلقيا مبالغ طائلة من الافاق ستافسكي وعاوناه في مشاريعه لدى الرجال المسؤلين، وأحيل عدة قضاة من رؤساء الدوائر وأعضاء النيابة الى المحاكمة التأديبية لأنهم تهاونوا في نظر قضية ستافسكي فتركت معلقة عدة أعوام دون أسباب معقولة، ولكن هذه الاجراءات كلها لم تقنع الشعب ولم ترضه. وبدا للشعب بحق أن الجريمة أوسع مدى مما ظهر، وأن الداء أشنع وأبعد أثراً مما صور، وكان من اصراره وسخطه واضطرامه ان استقالت الوزارة (الملوثة) واستقالت من بعدها وزارة دالالدييه، لأنها تستند الى نفس الأحزاب التي ينتمي اليها الرجال (الملوثون)؛ وجاشت باريس وفرنسا كلها بموجة ثورية، كادت تكتسح في طريقها كل شيء لولا أن تذرع الرجال المسئولون ببقية من الشجاعة والحزم، وتقدم الرئيس الشيخ دومرج ليضطلع بأعباء الحكم في هذا المأزق العصيب؛ فألف وزارة ثقة قومية ارتضتها البلاد واستطاعت أن تبث نوعاً من الطمأنينة.

والآن لنعد الى ستافسكي بطل هذه الفضائح المروعة التي كادت تبث الى فرنسا ضرام الحرب الأهلية

لقد شرحنا فيما تقدم طرفا من الحياة المالية العجيبة التي خاض غمارها هذا الافاق البارع، وكيف انه ارتفع من العدم الى صف أعظم رجال المال، وانشأ شركات وبنوكا عديدة، وانتهى بأن انشأ بنك التسليف البلدي في بايون، واتخذه مع شركائه اداة لاصدار سندات مزورة بمئات الملايين كان يستولي على قيمتها ويبددها على بذخه ولهوه، وشرحنا طرفا

ص: 15

من الوسائل والاجراءات التي كان يتبعها لاختلاس هذه المبالغ الطائلة، وكيف اكتشف أمره أخيرا وقبض على شريكه ومساعده الاول تسييه مدير بنك بايون، فبادر بالاعتراف وقص على المحققين كيف كان هذا الاختلاس الهائل يدبروينفذ مدى هذه الاعوام، والقى كل مسئولية فيه على ستافسكي وزعم أنه ضحية نفوذه وإكراهه المعنوي.

وكان اكتشاف الحادث في يوم 22 ديسمبر، ففي نفس اليوم غادر ستافسكي مسكنه الفخم بحي الشانزليزيه بباريس وودع زوجه وولديه، وقال انه مسافر الى فينا لاعمال هامة. ثم اختفى في نفس الوقت الذي صدر فيه أمر قاضي التحقيق بالقبض عليه، وابلغ هذا الامر الى جميع مراكز البوليس والنيابة في فرنسا، والى جميع سلطات الحدود، وطير الامز بواسطة الراديو واللاسلكي الى جميع البواخر الراسية في الثغور الفرنسية والمسافرة في عرض البحر، فلم يكن ثمة وسيلة لأن يغادر ستافسكي فرنسا أو يجتاز الحدود الى أي بلد أجنبي، وأطلقت في أثره مئات من رجال البوليس السري في جميع المواطن التي يظن أنه قصد اليها، ولكن ستافسكي ظل مختفياً عن العيان، ولم يظفر انسان بأثره، وأصرت زوجته على أنها لا تعرف شيئاً عن مصيره ومكان اختفائه ولم تهتم قط بأن تعرف شيئاً عن اعماله المالية.

على أن ادارة البوليس كانت على ثقة من أن ستافسكي لم يغادر فرنسا وأنه لا زال مختفيا بها بمعاونة بعض أصدقائه وقد اسفرت تحرياتها المتواصلة في النهاية عن تأييد هذه الحقيقة، واستطاع بعض رجال البوليس السري بعد أسبوعين من البحث والتنقيب أن يعثروا بآثار بعض أصدقاء ستافسكي في مدينة (شوموني) احدى مدن الجنوب الجبلية، وأجتمعت لديهم القرائن والأدلة على أن الهارب قد التجأ الى هذه الناحية القاصية. وكان ستافسكي قد فر الى هذا المكان بمعاونة اثنين من موظفيه السابقين الذين كان يغدق عليهم عطفه وعطاءه، واستاجر له أحدهما في (شوموني) منزلا صغيراً منعزلا باسم مستعار، ولجأ اليه ستافسكي مع صديقيه باسم مستعار أيضا، ولزم غرفته ولم يغادرها، فحاصر رجال الشرطة هذا المنزل بعد أن وثقوا من أنه هو المقصود، وأن ستافسكي موجود فيه بلا ريب. ثم صعد بعضهم الى الطابق الأعلى، وطلبوا الى ستافسكي أن يسلم نفسه، وكان معتصما بغرفته، فلم يجبهم أحد، فاستمروا في البهو الخارجي حينا يطلبون التسليم دون

ص: 16

جدوى. وأخيراً دوت من الغرفة المحصورة طلقة نار، وهوى جسم على الارض، فكسر رجال البوليس باب الغرفة في الحال، فالقوا ستافسكي بعينه ملقى على الارض مضرجا بدمه في النزع الاخير وقد اخترقت الرصاصة رأسه. وكان ذلك في الثامن من شهر يناير الماضي.

هذا هو البيان الذي قدمته إدارة البوليس عن مصرع ستافسكي بطل الفضيحة الكبرى، ورددته معظم الصحف الفرنسية. ولكن ثارت حول هذا البيان ريب وشكوك خطيرة، وأنكرت بعض الدوائرصحته، وأكدت أن ستافسكي لم ينتحر، ولكن البوليس قتله قتلاً لكي يخرس بذلك لسانه الى الأبد فلا يفضيي إلى المحققين بشيء من الاسرار التي يعرفها، ولا يفضى بالاخص باسماء شركائه ومنهم كثير من الرجال المسئولين، وبذلك يسدل الستار على أهم جوانب الفضيحة. وقد رددت هذه التهمة بقوة، وقذف بها في مجلس النواب في وجه الوزارة، وأهتم لها الرأي العام. ويدلل أصحاب هذا الاتهام على صحته بقرائن شتى، منها أن ستافسكي لو كان ينوي الانتحار لانتحر منذ البداية، ولم يتكبد مشاق الفرار والاختفاء وان رجال البوليس حينما داهموه في مخبئه انتظروا نحو ساعة قبل أن يحاولوا القاء القبض عليه، وأن رئيسهم اتصل أثناء ذلك تليفونيا بادارة البوليس في باريس مع أنه كان يحمل أمراً صريحاً بالقبض على ستافسكي، ثم يقولون أيضاً إن ستافسكي ترك بعد مصرعه طريحاً ينزف الدم منه نحو ساعة ونصف ساعة قبل أن يسعفه الطبيب وسمح للمصورين أن يصوروه وهو في هذه الحالة الخطرة، وأن المقصود بذلك كله أن يهلك ستافسكي قبل أن يستطيع الافضاء بشيء وهذه أقوال لها قوتها بلا ريب. ونحن من جانبنا نرجح مقتل ستافسكي لا انتحاره، خصوصاً وانه ثبت من التحقيق أن البوليس كان يتستر على ستافسكي، وان بعض أكابر ادارة الشرطة الباريسية وفي مقدمتهم مسيو جيشار مدير البوليس القضائي كانوا يتلقون منه الاعانات الطائلة، هذا الى أن الاختام القضائية لم توضع على مسكن ستافسكي الباريسي، وعلى مكاتبه الا بعد عدة أيام من فراره، ولما فتشت لم توجد بها أوراق تفيد التحقيق في شيء:

هكذا كانت خاتمة سرج ستافسكي أعظم أفاق ومختلس في العصر الحديث، بيد أن هذه الخاتمة لم تنجع شيئا في تهدئه اضطراب الرأي العام، ولم تفعل سوى أن أثارت على

ص: 17

وقائع الفضيحة وظروفها ظلاماً جديداً. هل قبض على جميع المجرمين المسئولين عن تبديد أموال الشعب بهذه الجرأة المثيرة؟ أم بقى الاكابر المرتشون المتسترون كالعادة في الظلام؟ هذا ما يتساءل الشعب الفرنسي عنه اليوم. والظاهر أن الشعب الفرنسي لم يقنع بأن ما اتخذ من اجراءات القبض والتحقيق يكفي للقمع ذلك الفساد الذي يقضم النظم والحياة العامة كلها. فقد سقطت وزارة دالادييه أمام غضب الشعب وسخطه، ولكن وزارة دومرج التي قامت مكانها ما تزال تصطدم بهذا السخط، وما تزال العاصمة الفرنسية تضطرم بمختلف المظاهرات، وما يزال العاصمة الفرنسية تضطرم بمختلف المظاهرات، وما يزال الجو فياضاً بمختلف الاحتمالات والرأي العام لا يقف عند المطالبة بمعاقبة المجرمين المغتالين لأموال الشعب أياً كانت مراكزهم وصفاتهم، ولكنه يطالب أيضاً بتطهير الحياة اللعامة من تلك الاادرلان المشينة ووضع الضمانات الكفيلة بطمأنينة الشعب على أمواله وثقته بأن وزاءه ونوابه وموظفيه ليسوا شركاء للصوص والمختلسين، بعد أن دل التحقيق في كل فضيحة من هذه الفضائح المالية الكبرى أن هنالك وزراء ونوباً ومواظفين يشتركون مع اللصوص والمختلسين، ويمرحون معهم في تبديد اموال الأرامل وصغار المودعين والمستشمرين، ويعانونهم في اجتناب سطوة القانون والعدالة. والواقع أن هذه الفضائح المالية الشاملة لم تبق في فرنسا حوادث فردية، بل غدت ظاهرة قوية في سير الحياة العامة. واذا تتبعنا تاريخ الجمهورية الثالثة وجدناه فياضاً بتلك الكوارث المالية الفادحة التي يدبرها افراد اذكياء بمعاونة الرجال المسئولين، وتسفر دائماً عن اختلاس مئات الملايين ونكبة مئات الالوف. وقد كانت هذه الحوادث في بدء الجمهورية الثالثة تعتبر من مخلفات الامبراطورية، لانها ظهرت وتفاقمت في أواخر عهدها، وان توطد النظام الجمهوري سوف يقضي عليها ويطهر الحياة العامة من ادرانها. ولكنها استمرت تتعاقب قوية مروعة في ظل الجمهورية؛ ودلت كثرتها وتفاقمها في الاعوام الاخيرة، حسبما بينا، على أن النظام الجمهوري او بعبارة أخرى على أن الديموقراطية تحتضنها وتسيغها. ويخشى اليوم أولئك الذين يقدسون النظم الديمقراطية، أن هذا الفساد الدفين الذي لم توفق الحكومة الديمقراطية الى قمعه، قد يصرف الشعب عن عبادة الجمهورية والديمقراطية، ويجعله أكثر قبولا لقيام النظم الفاشستية والطغيان المطلق. والديمقراطية تعاني اليوم ازمة

ص: 18

شديدة، بعد أن سحقت في ايطاليا والمانيا؛ وهي تهتز اليوم في فرنسا ويخشى ان تنهار دعائمها اذا لم تتداركها الايدي القوية الماهرة، بيد أنا نستطيع أن نقول ان تطور الحوادث الأخيرة في فرنسا كان ايضاً ظفراً حقيقياً للديموقراطية فقد استطاع الشعب بقوة رأيه وارادته أن يسقط في اسابيع قلائل وزارتين لم يثق بهما ولم يرتض حكمها: وان يقدم الدليل القوي على انها ما زال في ظل الديمقراطية سيد نظمه ومصايره.

محمد عبد الله عنان

ص: 19

‌حول الغموض والوضوح أيضاً

للاستاذ عباس فضلي خماس

(هل يحسن بالشعر أن يكون واضحا حتي لا خلاف فيه أم أن

بعض الغموض فيه مغتفر بل مطلوب) - ط. ح -

يذكر قراء الرسالة ان الدكتور طه حسين كان قد عقد فصلاً ممتعاً حول غموض الشعر ووضوحه، وكان خلال بحثه يرمي الى غاية، وهي ان الشعر الغامض قد ينطوي على ابداع فني. ويذكرون ايضا انني علقت على الموضوع بكلمة ذهبت فيها الى ان الجمال والغموض لا يجتمعان في صعيد واحد، وانتهيت الى ان كل بديع في هذا الكون من منظر الى صوت الى شعر يلازمه الوضوح كيفما تكيف وتطور أو تصور، وأن الوضوح هو جوهر الجمال.

وكان لي من تعليقي على مقال الدكتور غرض جوهري لم يخف على القارئ الاديب كما كان لي من ورائه امل في ان ينشط الادباء للكتابة حول الموضوع بالنظر لما أعتقده فيه من خطورة. وقد تحقق شيء من هذا الأمل بتعليق الاديب الفاضل شوقي ضيف على مقالي حول الغموض والوضوح بما يعرفه القراء الذين تتبعوا هذا البحث.

يتساءل الدكتور طه حسين (هل يحسن بالشعر ان يكون واضحاً حتى لا خلاف فيه).

نعم يحسن بالشعر ان يكون واضحاً حتى لا خلاف فيه اذا كان هم الشاعر ان يضمنه صوراً جميلة، وسوانح رائعة، لأن القارئ لا يستطيع ان يتبين الصورة الجميلة اذا كانت مغمورة في حجب الغموض الكثيفة ولا تتأثر نفسه بروعة السوانح الفكرية، والخوالج النفسية اذا كانت متلفعة من الشعر الغامض بأستار مظلمة.

الشعر الفاظ وتعابير، يستعين بها الشاعر على وصف مشاهد الكون وتصوير الحادثات، والانفعالات والانطباعات النفسية المتكونة من تأثير المحيط الخارجي في نفسه. فهو اذن وسيلة وليس غاية. والشعر بالفاظه وتعابيره واصطلاحاته واوزانه وقوافيه للشاعر كالقيثارة أو الكمان أو البيان للموسيقى. يجلس الموسيقى على شاطئ بحر في ليل عاصف، فتتأثر نفسه بصفير الرياح وهزيم الرعد وتلاطم الامواج، فيحاول ان يصور تأثير نفسه

ص: 20

بانغام يتخيلها اولاً، ثم يؤلف بين متصاعداتها ومُتنازلاتها، ويوفق بين تموجاتها مستعيناً بآلاته الموسيقية حتى يهتدي الى تأليف قطعة موسيقية تتضمن من الانغام، ما لو سمعها الانسان لشعر بنفس التأثير الذي تأثر به الموسيقي ولخيل اليه انه في مجلس ذلك الموسيقي من شاطئ البحر في تلك الليلة:

ويجلس الشاعر مجلس هذا الموسيقي، ويتأثر بنفس ما تأثر به زميله، فيحاول ان يصف تأثره ويصور انفعالات نفسه بتخير الألفاظ والتعابير التي تحمل تلك التأثيرات الى نفوس السامعين ليجسم لهم الخيال المتولد من تأثير هذه الالفاظ والتعابير، صفير الريح وهزيم الرعد، كما يجسم لهم شعور الاستيحاش من الظلام الذي يشمل الطبيعة في ذلك الموقف

هذا اذا كان الأول يملك من الآلات الموسيقية ومن القابليات الفنية الخاصة بالموسيقى ما تمكنه من بلوغ غاية نفسه.

واذا كان الثاني ذا نفس شاعرة حساسة دقيقاً في تصوره، متقنا في تصويره، مالكاً زمام الالفاظ والتعابير يحسن استعمالها في مواطنها، حاذقاً في أسلوبه، عالماً بنفسيات الناس وما تتأثر به والى غير ذلك من الصفات التي يجب ان تتوفر في الشاعر.

فاذا لم يتصف الموسيقى بما مر ذكره، أسمعنا ولا شك قطعة مزعجة في نغماتها، لا تناسب ولا وئام بين تموجاتها، فلا تولد في النفس التأثير الذي قصد الموسيقى اليه. وكذلك االشاعر اذا لم تتوفر فيه الصفات التي ذكرنا بعضها انشدنا كلاما غامضاً لا نكاد نتبين منهقصده، واذا لم يتبين الانسان قصد الشاعر بما نظم فأين يا ترى يكون موضع الجمال ومحل الابداع، وموطن الروعة من شعره؟

لكي يفلح الشاعر في وصف الجمال او القبح وتصوير اللذة او الالم وغيرها من الحادثات النفسية يجب ان يكون صافي الذهن والنفس، واضحاً في تعابيره واصطلاحاته. استعرض مناظر الكون جمعاء، تحت نور الشفق القاني الأدكن، وتحت أشعة الهاجرة المتوهجة، أو تحت نور الأصيل الذهبي الفاتح، وتحر الجمال وابحث عن الروعة في هذه المناظر، تجد نفسك مهتدياً اليهما دون أي عناء، وتراك تنجذب الى مواطنهما كما تنجذب الفراشة الى الورود والازاهير الزاهية بالوانها الفياحة باريجها.

فالجميل يكهرب حواسك، والبديع يمغطس مشاعرك، فيجذبك اليه فتنجذب. وما ذلك الا

ص: 21

للتناسب الظاهر بين اجزائه وللنظام المسيطر على تراكيب تلك الاجزاء والاشكال، وهذا هو سر الوضوح.

استعرض دواوين الشعر ديواناً، واقرأ قصائدها واحدة بعد واحدة، تجد نفسك تعرض عن قراءة بعضها بينما تقبل على قراءة بعض آخر، ابحث في نفسك عن سبب اعراضك وتلمس دواعي إقبالك، تجد أنك في الحالة الأولى لا تستطيع أن تهتدي تحت جنح ظلام الغموض الى الجمال واللذة اللتين تنشدهما نفسك كما تجد أن نور الوضوح في الحالة الثانية ينير نفسك فتهتدي الى الجمال وتلمس اللذة.

اما أن يكون هناك غموضان أو نوعان من الغموض كما يرى الاديب الفاضل شوقي ضيف، فهذا ما لا أتفق معه عليه ولا إخال أحداً من الأدباء يوافقه في مذهبه.

فالكلام إما أن يكون واضحاً وإما غامضاً، ولك ما نرى أو نسمع أو نلمس، وكل ما تتأثر به أنفسنا بطريق الحواس: إما أن يكون واضحاً بتأثيره في النفس، وإما أن يكون غامضاً، ففي الحالة الأولى تتلذذ به لأن نفسنا تستطيع أن تلمس جماله، وتعانق ابداعه، وتحتضن روعته، وفي الحالة الثانية نشمئز منه وننفر؛ فنفسنا لا تتأثر به، لأنها لا تلمس منه إلا شيئاً واحداً، وهو الألم الذي تعانيه من معالجة حل رموزه وطلاسمه. فاذا كانت ثمة نتيجة من قراءة الشعر الغامض، فهي ليست حينئذ لذة من تلمس أثر جمال أو روعة، وإنما هي شعور بألم الخيبة، ولذة الراحة بعد العناء.

ومثل الذي يعالج استنباط المعنى أو الغرض من الشعر الغامض، كمثل من يتوهم أن في بقعة من الأرض ركازاً، فيظل ينبش أرض تلك البقعة الى أن يعييه الاجهاد، ولما لم يجد ما يتوهم وجوده يطرح بمعوله جانباً وهو يلهث كما يطرح بنفسه على الأرض وهو غير مفلح إلا بشيئين: ألم، ولذة. أما الأول فناشئ من شعور الخيبة في العثور على كنزه الموهوم. وأما الثاني فشعوره الناشئ من لذة الراحة بعد التعب والعناء.

أما الأديب الفاضل شوقي ضيف فقد أوجد غموضين (فجلل) الغموض الأول (من حنادس الليل بحجب وأستار) فجعله بذلك مشتملا على ظلام موحش وحلوكة دامسة. أما الثاني فقال عنه إنه غموض جميل (لا تنفر منه النفس ولا تستوحش، وإنما تقبل عليه وتهش له وتجد فيه لذة ومتاعاً كبيراً، ثم راح يشبه غموضه الجميل بالظلال التي لا (تحجب النور)

ص: 22

وارتأى أنه لا يحول بين المرء وبين التأثر الجميل بالقطعة الشعرية، وأنه منار للاعجاب ومبعث للسرور، وما إلى ذلك.

والعجيب كل العجب أن الأديب الفاضل لم يبتعد كثيراً عن غموضه الجميل الذي شبهه بالسدول الرقيقة التي يرخيها الضباب على الطبيعة، حتى أخذ يسرد لنا أسبابه وبشرح علته، فقال: إن كثيراً من الغموض يرجع أسبابه الى فقر اللغة وقصورها في الافصاح عن عواطف الشعراء وميولهم؛ ثم أردف هذه الأسباب بأخرى وهي تعقد الحياة النفسية وإبهامها وغموضها، ثم انتهى الى أن هذا الغموض سيظل مسيطراً على الشعر حتى تتضح الحياة النفسية.

أما قصور اللغة في الافصاح عن بعض الحوادث النفسية الدقيقة فأمر لا ننكره ولا ينكره أحد من الناس، ولكن ذلك لا يعني بأن الشعر الغامض يجب أن يكون منطوياً على جمال رائع، وفن بديع، ولا يسوغ لنا أن نعتبر الكلام المرتبك الغامض شعراً كما أنه لا يجوز لنا أن نعتبر الناظم الذي لا يوفق لتصوير خوالج نفسه وعواطف روحه وانفعالاته شاعراً مبدعاً

واذ القيت نظرة متأمل الى ضروب الشعر الوجداني والعاطفي تبين لك أن بين هذا الشعر ما قد تمكن من أن يصف لك أعمق العواطف البشرية وأدقها بأبرع اسلوب وأتم بيان، ومنه ما كان بالفاظه وتعابيره أشبه بالاحاجي والالغاز منه بالكلام المفهوم

وقد يجوز أن تجيش في نفس الانسان بعض الخواطر البديعة والمشاعر الرائعة، وقد يجوز أن يحتدم جيشانهما في أعماق نفسه فيضطرب شعوره بها ويظهر هذا الاضطراب ويفيض من جوانحه الى جوارحه فيصبح على أشبه ما يكون بثورة نفسية، ولكنه مع ذلك لا يستطيع أن يظره لغيره، ما تكنه نفسه لأنه ليس بشاعر ليتمكن من التوفيق بين الكلمات والتأليف بين التعابير والمصطلحات اللفظية التي تحمل الى نفوس الناس وافهامه ما خالج نفسه وما أثار شعوره وإحساسه، أو لأنه ليس برسام ليستطيع أن ينقل بريشته الوان تلك الصور والأشكال التي تأثرت بها نفسه، أو لأنه ليس بالفنان الذي يستطيع أن يستخدم وسائل فنه لتصوير ما جاشت به نفسه ووصف ما اضطرب له حسه.

فان شعوره ولا شك يبقى مطموراً في باطنه، ولا يمكن البتة أن يتأثر احد سواه بما تأثر به

ص: 23

هو، ومثل الشاعر الغامض الذي ينظم قصيدة فيقرأها الناس ولا يفهمون ما اراد بها وما قصد، فيضطرون الى ان يسألوا منها عن مراده وقصده - كمثل كل انسان اعتيادي بما يشعر به تجاه مظاهر الكون وحوادثه.

والسبب الثاني الذي اورده الاديب الفاضل شوقي ضيف على غموض الشعر هو تعقد الحياة النفسية وابهامها، ولعله قاصد بهذا التعقد والابهام عجز الانسان عن تبين ماهية بعض من ميول نفسه ونزعاتها ورغباتها وانفعالاتها و. . . الخ

نعم ان الحياة النفسية معقدة بالرغم من مجهودات البشر العلمية في تحليلها الى ابسط ما يمكن، وستظل معقدة بل سيزيد تعقدها وابهامها كلما تقدمت جهود الانسان العقلية في البحث عن كنه النفس واسرار حوادثها.

اما ان يظل الشعر يلازمه الغموض ما دامت الحياة النفسية غامضة فهذا حكم غير صائب، ولعل الاديب الفاضل قد تورط اضطرار في هذا الحكم وذلك لأنه ضيق على نفسه بيده مجال البحث فناط بالشعر وحده دون سواه من الفنون الجميلة اماطة اللثام عن اسرار هذه الحياة النفسية.

لا يا أخي شوقي! ما كان الشعر في جميع أدوار حياته، ولن يكون وحده الكفيل الضامن للنهوض بهذا العبء الثقيل، فقد وجدناه في سالف العصور ونجده الآن يمد يده الى اخوته، الفنون الجميلة مثل الرسم والنحت والموسيقى حتى الرقص يستعين بها على بلوغ هذه الغاية.

فهناك بعض الحوادث النفسية لا يستطيع الشعر أن يصفها بما لديه من وسائل، وتستطيع ريشة الرسام أن تبرزها واضحة، فعدم استطاعة الشعر في مثل هذا الموقف يجب ألا نعتبره عجزاً منه وتقصيراً بل هو في الحقيقة تكليفه بالخروج عن نطاق اختصاصه وقابليته كما أن هناك بعض الخوالج النفسية يعجز عن ابلاغها إلى النفوس كل من الشاعر والرسام والمثال والموسيقي، ولكن راقصة رشيقة فنانة تتمكن بحركات خاصة أن تعبر عنها وتجسم تأثيرها في النفوس.

فمطالبة الشعر وحده يكشف أسرار الحوادث النفسية ووصفها وتصويرها على اختلاف أنواعها وضروب تأاثيراتها هو السبب الذي حدا ببعض المفكرين أن يرموه بعلة الغموض،

ص: 24

هذه العلة التي راحوا بعد اختراعها يتحرون بين طياتها الجمال الموهوم والابداع المزعوم.

بغداد

عباس فضلي خماس

في محكمة التاريخ

ص: 25

‌الوزير مؤيد الدين بن العلقمي

هل غدر بأمته وخليفته؟

إن موضوع الخيانة العظمى التي تتهم جمهرة المؤرخين هذا الوزير بها موضوع دقيق، اذ ليس لدى من يعرض لهذا الحادث التاريخي المهم الادلة الكافية التي تخرجه بنتيجة حاسمة لا جدل فيها ولا مغالطة، وكيف يتسنى لكاتب ان يصل لحقيقة تحيط بها الشكوك وتكتنفها الظنون؟ لأن ما يظهره بعض من كتبوا او قل تعرضوا لهذا الأمر الخطير من ميل مع هوى النفس وخضوع للعواطف يزيد في التحير والتشكك. زد على هذا وقوع هذا الحادث في فترة فوضى واضطراب استولى الرعب فيها على مشاعر الناس، وكيف لا وهي فترة تقتيل وتشريد وتحريق وتدمير. وفي احوال كهذه يجب الشك، ويلزم الحذر والتنبه لاكثر ما يروي عما يقع عادة في خلال هذه الاحوال المضطربة، لأن الفزع والذعر يخرجان المرء عن الطبيعة الهادئة المتروبة التي تتطلبها رواية الحوادث ولا سيما الهامة منها، فالاضطراب والتشويش صنوان متعانقان فضلاً عن رواج سوق الشائعات، ولا سيما الباطلة منها في اوقات الانقلابات والاحداث السياسية المهمة، وسأضع الآن بين أيديكم ما تقوله المصادر الأولية عن هذا الحادث، مبتدئاً بالمصادر حسب اوليتها، وبعد ان افرغ من ذلك سأحاول جهدي المقابلة بين المصادر، ثم نقد مواطن الضعف في كل مصدر. وأبدأ بما يقوله ابن الطقطقي في صدد الكلام عن مخامرة الوزير (ونسبة الناس انه خامر. وليس ذلك بصحيح. ومن أقوى الأدلة على عدم مخامرته سلامته في هذه الدولة، فان السلطان هلاكو لما فتح بغداد وقتل الخليفة سلم البلد الى الوزير وأحسن اليه وحكمه، فلو كان قد خامر على الخليفة لما وقع الوثوق اليه).

وبعد أن ينتهي من هذا البرهان يذكر لنا روايته عن تصلب الوزير واصراره على عدم الخروج الى هلاكو. ويروي المؤرخ هذه الرواية عن ابن أخت الوزير، ومألها أن الخليفة طلب وزيره وقال له (قد أنفذ السلطان بطلبك، وينبغي أن تخرج اليه، فخرج الوزير من ذلك، وقال يا مولانا اذا أخرجت فمن يدير البلد ومن يتولى المهام؟ فقال له الخليفة لابد من أن تخرج. قال فقال السمع والطاعة، ثم مضى الى داره وتهيأ للخروج ثم خرج. . فلما حضر بين يدي السلطان وسمع كلامه وقع بموقع الاستحسان. . . . فلما فتحت بغداد

ص: 26

سلمت اليه والى علي بهادر الشحنة فمكث الوزير شهوراً ثم مرض ومات رحمه الله في جمادي الأولى سنة ست وخمسين وستمائة)

اما ابو الفدا فيقول في كلامه عن استيلاء التتر على بغداد وسبب مجيئهم (ان وزير الخليفة مؤيد الدين بن العلقمي كان رافضياً، وكان اهل الكرخ ايضاً روافض، فجرت فتنة بين السنية والشيعة ببغداد على جاري عادتهم فامر أبو بكر ابن الخليفة وركن الدين الدوادار العسكر فنهبوا الكرخ وهتكوا النساء وركبوا منهن الفواحش فعظم ذلك على الوزير ابن العلقمي وكاتب التتر واطمعهم في ملك بغداد) وبعد ان يذكر ما وقع بين جند الخليفة وجند السلطان وتغلب السلطان وتقدمه لحصار بغداد (خرج مؤيد الدين الوزير ابن العلقمي الى هولاكو فتوثق منه لنفسه وعاد الى الخليفة المستعصم وقال إن هلاكو يبقيك في الخلافة كما فعل بسلطان الروم ويريد ان يزوج ابنته من ابنك أبي بكر، وحسن له الخروج الى هلاكو فخرج اليه المستعصم في جمع من اكابر اصحابه فانزل في خيمة ثم استدعى الوزير الفقهاء والاماثل فاجمتع هناك جميع سادات بغداد والمدرسون، وكان منهم محي الدين بن الجوزي واولاده وكذلك بقى يخرج الى التتر طائفة بعد طائفة، فلما تكاملوا قتلهم التتر عن آخرهم)

ويجيء بعد ابي الفداء ابن الوردي وهو يأخذ عن ابي الفدا احياناً بالحرف، ولولا انه ذكر اشياء لم يذكهرا ابو الفدا لاغفلت ذكره، وهو بعد ان يذكر ما ذكره ابو الفدا عن فتنة بغداد وما ارتكب من الامور الشنيعة، وان ابن العلقمي ارسل الى هولاكو يستقدمه

يورد نص الرسالة التي ينفرد بذكرها فيقول (وكاتب التتر واطمعهم في بغداد وطمع الخبيث الغوي في اقامة خليفة علوي)(قلت) وكتب ابن العلقمي وكتب ابن العلقمي الى وزير اربل يطلعه على ذلك في رسالة (منها) أنه قد نهب الكرخ المكرم وقد ديس البساط النبوي المعظم وقد نهبت العترة العلوية واستؤسرت العصابة الهاشمية وقد حسن التمثيل بقول شخص من غزيه

امور تضحك السفهاء منها

ويبكي من عواقبها اللبيب

قد عزموا على نهب الحلة والنيل، بل سولت لهم أنفسهم أمراً فصبر جميل.

أرى تحت الرماد وميض نار

ويوشك أن يكون لها ضرام

ص: 27

ومنها:

وزير رضى من حكمه وانتقامه

بطى رقاع حشرها النظم والنثر

كما تسجع الورقاء وهي حمامة

وليس لها نهى يطاع ولا أمر

(فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون)

ووديعة من سر آل محمد

أودعتهاا إن كنت من أمنائها

فاذا رأيت الكوكبين تقارنا

في الجدي عند صباحها ومسائها

فهناك يؤخذ ثار آل محمد

وطلابها بالترك من اعدائها

وكن لما أقول بالمرصاد، وتأول أول النجم واحرص) ثم يقول في شأن الرسول وكيف أرسل بالرسالة الى هلاكو (فارسل ابن العلقمي الى التتر أخاه يستدعيهم فساروا قاصدين بغداد في جحفل عظيم (قلت) أراد ابن العلقمي نصرة الشعية فنصر عليهم، وحاول الدفع عنهم فدفع اليهم، وسعى ولكن في فسادهم، وعاضدو لكن على سبي حريمهم وأولادهم، وجاء بجيوش سلبت عنه النعمة، ونكبت الامام والأمة، وسفكت دماء الشيعة والسنة، وخلدت عليه العار واللعنة) ثم يقول عن عاقبة الوزير: وفيها أي في سنة 656هـ (توفى. . . والوزير المتبر مؤيد الدين محمد بن محمد العلقمي الرافضي، قرر مع هلاكو أموراً فانعكست عليه وعض يده ندماً وصار يركب اكديشاً فنادته عجوز يا ابن العلقمي هكذا كنت تركب في أيام المستعصم؟ ووبخه هلاكو آخراً فمات غماً وغبناً لا رحمة الله ومات ابنه بعده) أما صاحب فوات الوفيات فيذكر ان الوزير ظل مخلصاً للأستاذه حتى وقع بينه وبين الدوادار ما وقع من اختلاف، فعضدت الحاشية الدوادار فضعف أمر الوزير فرفعته الضغينة والحقد ان يسعى في ادالة الدولة فأخذ (يكاتب التتر الى ان جرأ هلاكو على أخذ بغداد وقرر مع هلاكو أموراً انعكست عليه وندم حيث لا ينفعه الندم، وكان كثيراً ما يقول. وجرى القضاء بعكس ما املته، لأنه عومل بانواع الهوان من اراذل التتر والمرتدة) ثم يستمر ابن شاكر في حديثه فيروي لنا كيف ابلغ الوزير رسالته الى التتر، فقد ابتدع خطة جهنمية قد لا تخطر لانسان فيقول المؤرخ (وحكى انه لما كان يكاتب التتر تحيل الى ان أخذ رجلاً وحلق رأسه حلقاً بليغاً، وكتب ما اراد عليه بالابر ونفض عليه الكحل وتركه عنده الى ان طلع شعره وغطى ما كتب فجهزه وقال اذا وصلت مرهم بحلق رأسك ودعهم

ص: 28

يقرأون ما فيه. وكان في آخر الكلام (قطعوا الورقة) فضربت عنقه وهذا غاية في المكر والخزي) أما عن نهاية الوزير فيروي انه مات بعيد استيلاءالتتر على بغداد بتأثير الغنم والغيظ على ما أصابه من التتر في سبيل انتقامه من الدوادار ومشايعيه ويقول ابن خلدون في كلامه عن هلاكو (وقصد قلعة ألموت وبها صاحبها علاء الدين فبلغه في طريقه وصية ابن العلقمي وزير المستعصم ببغداد في كتاب ابن الصلايا صاحب اربل يستحثه للسير الى بغداد ويسهل عليه امرها لما كان ابن العلقمي رافضيا هو وأهل محلته بالكرخ، وتعصب عليهم أهل السنة بان الخليفة والدوادار يظاهرونهم، وأوقعوا باهل الكرخ وغضب لذلك ابن العلقمي ودس الى ابن الصلايا باربل وكان صديقاً له بان يستحث التتر للملك بغداد، وأسقط عامة الجند يموه بانه يصانع التتر بعطائهم، وسار هلاكو والتتر الى بغداد) وبعد أن يذكر فظائع التتر ببغداد وما قتلوا من أنفس أحصى عددها فبلغ المليون والثلاثمائة ألف يقول (. . . واستبقى ابن العلقمي على الوزارة والرتبة ساقطة عندهم فلم يكن قصاى أمره الا الكلام في الدخل والخرج متصرفاً من تحت آخر أقرب الى هلاكو منه فبقى على ذلك مدة ثم اضطرب وقتله هلاكو)

ويقول دحلان في كلامه عن مجيء التتر (وكان من أعظم الاسباب أن ابن العلقمي وزير المستعصم كان رافضيا وكان يريد نقل الخلافة من العباسيين الى العلويين فكاتب التتر وأطمعهم في ملك بغداد. . أما ابن العلقمي فلم يتم له ما أراد وذاق من التتر غاية الذل والهوان، فان هلاكو استدعاه بين يديه وعنقه على سواء ما فعله مع أستاذه، ثم قتله شر قتلة، وقيل إ ' نه مات حتف أنفه غماً وكمداً)

فرحان شبيلات

الجامعة الامريكية (بيروت)

ص: 29

‌خواطر

للاستاذ أديب عباسي

1 -

الفضيلة سياج من شوك ليس له باب، يجد الداخل اليه والخارج منه صعوبة على السواء.

2 -

كثيرون يخلقون عندما يموتون.

3 -

مساوئ المرء تدفن معه.

4 -

بعض الناس كالموائع يتشكلون دائماً بشكل الاناء الذي يوضعون فيه.

5 -

كلما دنت النفوس من الأرض هان قطافها - شأنها شأن الثمر.

6 -

أفراح الحياة واتراحها ممتزج بعضها ببعض. لهذا كان من المستحيل أن ينال امرؤ حظاً من الحياة خالصاً من الاتراح، أو خالياً من الأفراح.

7 -

أكثر الذين يظنون انهم يحبون غيرهم لا يحبون في الحقيقة غير نفوسهم.

8 -

يحب الرجل الانكسار في المرأة لأنه تعود اذلالها.

9 -

من لا تحفزه همته الى الاهتمام بنفسه لا يستطيع احد ان أن يحمله على ذلك.

10 -

من الناس من يخلقون اذناباً؛ ومن العبث المسرف أن تجعلهم رؤساء.

11 -

ليس آلم للنفس من رؤية الرذيلة في ثياب الفضيلة والذئب في ثياب الحمل.

12 -

المتكبر كالرابية الجرداء.

13 -

يحب الشهرة جميع الناس، ولكن العاجزين يتظاهرون بالرغبة عنها.

14 -

شر الناس واشدهم خطرا هم اولئك الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، لأن من بدت للناس سريرته هان عليهم اتقاؤه مهما كان شره.

15 -

ينعم الجاهل بجهله كما ينعم الحكيم بحكمته.

16 -

ضعيف الأرادة كالمريض المدنف عرضه لتغيرات البيئة.

17 -

كثير الكلام كالصبي لا يستطيع ان يعطيك فكرة محبوكة الاطراف.

18 -

تحب المرأة في الرجل الصفات التي هي خلو منها وكذلك الرجل، فكانهما فهما قصد الطبيعة فامتزجا على هذا النحو ليخرجا المخلوق الكامل.

19 -

الجهل صحراء محرقة لا يعيش فيه الا من تعوده.

ص: 30

20 -

الضمير الحي كالابرة لا تستطيع ان تمعن في الضغط عليه.

21 -

المصائب الكبرى تبتلع الصغرى.

22 -

كلما كثرت اغلاط المرء قل اهتمامه بها.

23 -

من حرص على اخفاء عيوبه فقد قلل منها.

24 -

الفن هو فن على قدر ما يستولي علينا ويستغرق حواسنا ومشاعرنا.

25 -

رحب الصدر كالبحر مهما جاش وأزبد يبقى في موضعه.

26 -

المتكبر كالرجل فوق الجبل يرى الناس صغاراً وهم يرونه صغيراً.

27 -

ما أغرب ما تكون حياة المرء لو عمل بكل ما يفكر به.

28 -

اذا فقد الذئب أنيابه صار حملا.

29 -

النبع العميق لا تعكره الحصاة الصغيرة.

30 -

الأمل يزيد القوي قوة والضعيف ضعفاً.

31 -

من لا يقتنع بالحق لا يستطيع أن يقنع به أحداً.

32 -

الوضيع كالدخان لابد عائد الى مصدره الوضيع مهما ارتفع.

33 -

بعض الناس (كديك) الهواء يميلون دائماً حيث تميل الريح

34 -

من تكلف الصدق فقد كذب.

35 -

نزعة الدفاع عن النفس يذكيها ويغذيها فينا الشعور بالنقص والحرمان من جهة، وما فطرنا عليه من حب للكمال وكره للنقص من جهة أخرى. ومن هنا كانت هذه النزعة بين الناس في هذا الحد من الشيوع.

36 -

من الناس من اذا أعياه الارتفاع الى مستوى الأغيار حاول النزول به الى مستواه.

37 -

ان العبقري كالمصباح القائم على عمود عال يرى ويلاحظ من بعيد، ولكنه في الوقت ذاته يبدي للمشاهدين كل ما يحيط به ويرتكز عليه.

38 -

المرأة كالأطفال تأسرها الروايات المغرقة في الخيال. وهذا ليس أمراً عارضاً: إنما هو تعبير صامت عن شعورها بالضعف ومقياس لمقدار ما تشتهيه من قوة ونفوذ، فتعوض عن ذلك بطريق الخيال.

39 -

ان الميل الذي يظهره البعض الى الزهد والتقشف قد لا يكون له من أساس إلا طلب

ص: 31

المتعة من جهة، والعجز عن نيلها من جهة أخرى، فينطبق عليهم مثل الثعلب والعنب.

40 -

ان الخطيب الذي يهبط كلامه الى قرارة النفوس هو الخطيب الذي يقول: (نحن) ولا (أنتم).

41 -

العبقري جبل شاهق بين سلاسل من التلال المطمئنة. فيشعر أوساط الناس - الذين يقيسون اقدارهم الى قدره - بأنوارهم تكف وأقدارهم تتضاءل. ومن هنا ترانا الى تضخيم سيئات العبقري أميل، وبتشويه سمعته أعلق، كأننا ننتقم منه لعزَّتنا الجريحة

43 -

لا يوصف العبقري بالاعتدال (والاعتدال دائماً النزول على حكم الأكثرية). ومن هنا يجده العبقري من تأييد شديداً وعداء شديد. فهو في آرائه ونزعاته وأخلاقه ينحاز غالباً الى أحد طرفي المبالغة. وهو - لذلك - ييوافق فئة أشد الموافقة ويخالف فئة أشد الخلاف.

44 -

لا ترسل الطبيعة العبقري برقا يردد صدى اصوات الجمهور، انما ترسله نوراً وهداية يؤتم به ويهتدي بهديه.

شرق الأردن

أديب عباسي

ص: 32

‌يوم سقراط الأخير في منزله

للآنسة اسماء فهمي

تهمنا ناحية خاصة من تعاليم الفيلسوف سقراط، التي سجلها أفلاطون في (الجمهورية) وهي رأيه في تعليم النساء؛ فقد كان يقول بوجوب تعليم الممتازات منهن تعليما لا يختلف عن تعليم الرجال الممتازين، لاعدادهن لتولي منصب الحكام الفلاسفة في المدينة النموذجية، إذ لا يرى اختلافاً جوهرياً بين استعداد المرأة واستعداد الرجل. يرى سقراط هذا الرأي في وقت انحطت فيه مكانة المرأة في أثينا وأصبحت لا تمتاز من الأرقاء إلا قليلاً؛ وبالرغم من أنه كان يعيش مع زوجة يضرب بها المثل في شراسة الطباع ورعونة الخلق. وهذا لا شك برهان قوي على استقلال رأي الفيلسوف وسموه على الآراء السائدة، والمؤثرات الخارجية،

واعترفاً بفضل سقراط على المرأة سأبين فيما يلي ما عاناه من عنت زوجه (زانتيب) في يومه الأخير بداره قبل القبض عليه، مستعينة بالرواية التي وضعها عن حياة الفيلسوف.

في صباح يوم راق جوه، وسطعت شمسه، آثر سقراط البقاء في منزله على غير العادة، فلم يخرج للحوار والمجادلة في أسواق أثينا، وإنما جلس على مقعد خشبي عتيق في فناء داره التي كانت يستعملها غرفة استقبال - وأخذ يخصف حذاءه؛ ولعل ذلك ما منعه عن الخروج ذلك اليوم؛ وتلك عملية كانت تجدد ولا شك كل بضعة أسابيع، لأن الفيلسوف كان لا يستعمل شيئاً أكثر من نعليه سوى لسانه!

وبينما هو على تلك الحال، ولحيته الطويلة البيضاء المرسلة تكاد تخفي الحذاء وتعوق سير العمل، اذ بزوجته زانتيب تنقض عليه انقضاض الصاعقة وتفاجئه قائلة:

- أنت هنا يا سقراط؟

- نعم: ييا زانتيب، ولكن لا أفهم المقصود من تلك العبارة. .؟

- وما الذي تفهم من شئون الحياة؟ سأفرغ من اعداد طعامك بعد دقائق. .

- حسن جدا.

- الطعام المعتاد طبعا.

- جميل للغاية.

ص: 33

- أحقاً ما تقول؟! لو كنت تعمل عملاً شريفاً وتحصل منه على بعض النقود مثل سائر الرجال المجدين لما أصبحنا في حاجة لأكل العيش والعدس يوماً بعد يوم.

- إن من لا يسأل غير الكفاف يا زانتيب يكون بلا شك أعظم الناس شبها بالآلهة!

- أبق هذا الهذيان حتى تكون مع صحبك الأعزاء. أما انا فلا تهذ معي. . .

- لقد خلق كلانا محبا للكلام!

- لقد خلقت محباً لذاتك، وتلك هي مصيبتك.

- ربما.

- أيهمك أمري أو أمر اللأطفال؟ لو كنت تفكر فينا حقاً لما جننت لدرجة أنك أصبحت تناصب الحكومة العداء،

- ما الذي سيحل بي؟

- أريد أن أعلم - عندما يلقونك في أعماق السجون؟

- عندئذ تصبحين أسعد حالاً.

- وكيف ذلك؟ هل لي أن أسأل؟

- إن أصدقائي لا يفتأون يقدمون الى نقودا. . .

- (زانتيب مقاطعة) وأنت دائماً ترفضها.

- بالتأكيد! أما أنت فسوف لا ترفضينها!

- هل تريد ان أموت جوعاً؟ أما عن اصدقائك فاني أبغضهم جميعاً ما عدا (السبياديس) الانيق. اني لا أستغرب ان يقتل الشبان الموسرون أوقاتهم في المجادلة في أمور تافهة، ولكن الذي استغربه هو عدم ترك الرجل الفقير لتلك الأمور لمن هم فوقه مرتبة.

- لقد اشتغلت بجد في شبابي

- وانفقت كل ما جمعت على الناس! آه لقد نفد معين الصبر معك!

- لقد لاحظت ذلك

- آه. كم أود أن تغتاط وتفقد حلمك معي! انني كمن يحاول إيقاد خشب مبتل.

- لا تحاولي ذلك

- سحقاً لك! أعازم على الدخول أنت؟

ص: 34

- سريعاً

- سوف لا تجد من الطعام غير الماء البارد

- هو كل ما أريد

(يسمع طرق على الباب)

زانتيب: - من الطارق؟ إذا بقيت هنا للكلام فقد لا تجد طعاماً مطلقاً. (تخرج)

سقراط: يفتح الباب ويدخل (مليتاس) الشاعر

سقراط: أنك لتفاجئني!

مليتاس: أتسمح لي بالبقاء دقائق معدودة؟

سقراط: بالطبع. ولكنك منذ ثلاثة أيام قلت إنك سوف لا تكلمني أبداً

مليتاس: لقد كان ذلك هياجاً سخيفاً. لقد كنت على صواب وكنت أنا على خطأ وقد جئت لأقر بذلك الآن بجانب غرض آخر

سقراط: وما هو الغرض الآخر؟

مليتاس - أن أسأل عما اذا كان في إحضاري صديقين من أصدقائي للحديث معك عمل خارج عن حدود الحرية المألوفة.

انهما يتلهفان لمعرفتك

سقراط - بابي لكل وارد مفتوح. من هما؟

مليتاس - أنيتاس الدباغ، وليكون الخطيب من ذوي المستقبل الباهر في السياسة. ولقد سنحت لهما الفرصة الآن طبعا.

سقراط - الآن؟ ولم الآن؟

مليتاس - أحقا إنك لم تسمع بعد؟

سقراط - لم أخرج اليوم من منزلي قط.

مليتااس - إذن أنا الذي سأزف اليك النبأ السار: لقد سقطت الحكومة الاستبدادية وقامت مكانها حكومة ديمقراطية.

سقراط - معنى ذلك نفي عدد جديد من الناس على ما أعتقد.

مليتاس - معناه أنك أصبحت بعيداً عن الخطر الآن.

ص: 35

سقراط - نعم! ولكني واثق من إغضاب الحكومة الحاضرة كما أغضبت السالفة.

مليتاس - وهل نسيت أن لك عدداً كبيراً من الأصدقاء في أثينا؟

سقراط - لي أضعاف أضعافهم من الاعداء.

(يسمع طرق على الباب)

مليتاس - ها هما ذان قد حضرا

سقراط - من أعدائي؟

مليتاس - كلا. كلا. بل قل أصدقاءك الجدد (يدخل أنيتاس الدباغ وليكون الخطيب)

مليتاس - ها قد أتيتما. هذا أنيتااس الدباغ وليكون الخطيب

سقراط - اجلسا على الرحب والسعة.

ليكون - ان من دواعي فخاري أن أتعرف اليك الآن

أنيتاس - وإنه ليسرنا نجاتك المدهشة.

ليكون - قد تتساءل عن سبب زيارتنا لك الآن؟

سقراط - صدقت.

ليكون - إننا ديقراطيان متحمسان

أنيتاس - ونعد الديمقراطية النوع الوحيد من الحكومات الذي يرضى أفراد الشعب الذين يحترمون أنفسهم ويعتزون بالكرامة.

ليكون - وإنه ليسرنا أن سقراط العظيم يوافقنا في الرأي

سقراط - ان نوع الحكومة لا يفضل أي نوع آخر، بل كل شيء يتوقف على الأشخاص الذين يحكمون بالفعل.

مليتاس - ولكنك بالطبع تؤيد المبادئ الديمقراطية؟

سقراط - هل لليكون أن يعرفني ما هي لأنه كما يبدو أكثر احتمالا لغباوتي من غيره؟

ليكون - الديمقراطية هي الحكومة القائمة على رغبة الشعب، هي المبنية على المساواة المطلقة بين الافراد.

سقراط - عظيم جداً. . . ولكن هل لي أن أسأل بعض الاسئلة بحسب طريقتي المعروفة.

زانتيب (من الداخل) سقراط! سقراط!

ص: 36

سقراط - هي زوجتي تعلن اعداد الطعام

ليكون - اذن يجب أن نستأذن للخروج

سقراط - انني أفضل الحديث على الطعام.

مليتاس - اذن سل ما تشاء.

سقراط - سأبدأ بسؤال ليكون. اتسلم مبدئياً بمقتضى ما لديك من التجارب أن التجارب مثلا ليست من الأمور الهينة وكذلك إدارة الجيش.

ليكون - بالتأكيد.

سقراط - وأن ادارة الحكومة يدخل ضمنها التجارة والجيش والزراعة وأشياء أخرى صعبة الحصر؟

ليكون - بالطبع

سقراط - وأن من الضروري أن يديرحكومة كهذه كثيرة الفروع مختلفة الاغراض أعقل الأفراد؟

ليكون - بالضرورة.

سقراط: وهؤلاء يختارون بالتصويت العام. أليس كذلك؟

ليكون: هو ما تقول

سقراط: وانت تقول إنه لابد من اشتراك الافراد في الحكومة اشتراكاً مبنيا على المساواة في التصويت ماداموا يتساوون في الدفاع عن الأوطان؟

ليكون: مازلت محتفظاً بنظريتي.

سقراط: ومعنى ذلك أن الفرد الغبي له سلطة تعادل سلطة الرجل الذكي، والنتيجة تكون اختيار افضل الرجال؟

ليكون: (بغضب) إننا نعتمد على الاجماع الذي لا يضل:

انيتاس: وما الذي ترمي اليه من محاورتك هذه؟

(تدخل زانتيب)

زانتيب: بمثل هذا الاهمال تعامل الزوجة الصالحة التي تجهد نفسها في طهي العدس؟ ألا فاشهدوا أيها الرفاق على عقوق الأزواج!

ص: 37

هيا انهض معي وإلا كيف يكون الانتقام

سقراط: معذرة أيها الرفاق فانا ذاهب معها! (يخرجان)

مليتاس: ألم اقل لكما إنه عدو للحكومة والشعب؟ اذهب يا انيتاس وأحضر من يتولى القبض عليه فهو كما تبين لكما خائن للحكومة وكثيراً ما عاث في الارض وأفسد عقائد الشيوخ والشبان.

(يخرج انيتاس)

(يدخل سقراط)

سقراط - أين انيتاس وكيف يخرج غير مسلم؟

ليكون - لقد كلب إلى أن أعتذر اليك إذ تذكر موعداً أنساه إياه حديثك العذب الطريف. . الآن وقد استنرت بآرائك في السياسة فهل لي أن أطلب هدايتك في الدين؟

مليتاس - حذار يا ليكون فسقراط معروف بكفرانه بالآلهة

سقراط - تلك أكذوبة لفقها كتاب الكوميديا.

ليكون - أنت غير ملحد إذن؟

سقراط - يلزمنا أن ننظف أدمغتنا كل عاام كما ننظف دورنا من سقط المتاع

مليتاس - وما هو سقط المتاع يا ترى؟

سقراط - آراء ماتت أو آخذة فيي التعفن والاضمحلال.

(تدخل زانتيب)

زانتيب - لقد برد طعامك، فما الفائدة من كل ذلك الهذيان؟

إن العدس لا يؤكل الآن

سقراط - لا بأس فلا حاجة لي به

زانتيب - أتقول لا حاجة لك به بعد أن تعبت في إعداده لك؟

حسنا هاك جرة من الماء البارد هي كل ما ينبغي أن تأكل جزاء وفاقا (تلقي الجرة في وجهه)

(يسمع طرق على الباب)

زانتيب - تسير نحو الباب وتفتحه قليلا ثم ترده بسرعة صارخة وتكر راجعة

ص: 38

زانتيب - الجنود! الجنود بالباب يا سقراط. . . اني أرى الشر في وجوههم أي زوجي العزيز. . لقد جاءوا في طلبك ولا شك. ألم أقل لك أن كف عن النقد والجدل. . آه (تبكي)(يشتد الطرق) ولكنك لم تنهرني ابداً ولم تضربني كما يفعل الرجال غلاظ القلوب مغفلة يا زوجي العزيز. واحزناه. . انك لم تذق طعاماً منذ ظهر أمس (تدخل الجنود)

سقراط - مهلا ايها الجنود. . انا قادم اليكم. . . وداعا يا زانتيب. . لا تجزعي فسيرعاك الله في غيبتي. . . واذا ماا ذكرتني فاذكري انني لم أعبأ قط بالحياة ولا بالموت بل بالحقيقة التي سأعذب ولا شك من أجلها. . . .

زانتيب -: ترتمي على مقعد وتنتحب. . .

اسماء فهمي

(2 - ابن قلاقس

532 -

567هـ (1138 - 1172م)

لشاعرنا مذهب في الحياة، اختاره لنفسه، وارتضاه كطريقة يسير عليها، ذلك المذهب هو اختلاس الفرصة، وانتهاز غفلة الزمان، فهو قد آمن بأن الدهر لا يحسن مرة الا أساء أخرى، ولا يمد يداً الا انتزاع بشماله ما قدمه بيمينه، فهو متقلب متلون كالحرباء، وإذا كانت تلك حالة الدهر، فمن الخير للمرء أن ينتهز الفرصة التي تسنح له، فلا يدعها تفلت من يده، ولينل فيها اللذة التي تهيأت له، إذ انه من الخير للمرء ألا يدع نفسه فريسة الدهر فيزيد السهام سهماً، والجراح جرحاً، وأولى له أن ينتهز غفلة الدهر فاذا نامت عينه، تمتع ما دامت تلك العين غافلة، واستمع إليه حين يقول:

واعطف على خلس اللذات مغتنماً

فالدهر في حربه تلوين حرباء

أما اختلاس اللذات من الناحية الدينية فهو يطمئنك عليها ويخبرك أن هناك الها رؤوفاً رحيماً لا يضن عليك بالعفو إن أنت اقترفت جرماً ثم عدت إليه لابساً التوبة مرتدياً ثياب الاستعطاف، فلا بأس عليك من ذنب، ولا ضير عليك من اقتراف معصية، فاقترف، واعترف، فثم كريم يهب الأقتراف للاعتراف ولقد كان من وسائل سروره التمتع بالغناء، والانصات إلى مغنية جميلة رخيمة الصوت تطربه وتسره، حتى أصبح له بسبب هذا

ص: 39

الولوع اذن غنائية هيأت له أن ينتقد المغنيات اللاتي لا يجدن من الغناء ولا يحسن الا مد الصوت ولو كان متنافراً، ولا يجدن اتفاق النغمات، ولا ندري إن كان شاعرنا قد اتخذ الخمر وسيلة من وسائل تمتعه بالحياة ولهو فيها، أو أن لهجة بها وتغنيه بذكرها، وتفننه في وصفها، كان ناشئا عن تقليد لا عن عاطفة نحوها، وبعد فماذا كان موقف ابن قلاقس إزاء الحياة العلمية؟ وما مذهبه الذي اختطه لنفسه؟ وهل كان موفقاً في اختياره هذا المذهب؟

- 5 -

إن كنت تبغي وطنا

من العلا فاغترب

فالسمر في غابلتها

معدودة في القضب

على أن أسعى وما

على نجح الطلب

تلك هي عقيدته في الحياة العملية، وذلك هو مذهبه الذي اختاره وارتضاه، فهو لا يرى العلا تنال إلا بالبعد عن الوطن والتغرب عن الآل، ففي ذلك نيل الأمل وبلوغ المأرب. ولعل ولادته في ثغر الاسكندرية لها اثر في ذلك، على أنه بالرغم من هذا لا يرى التغرب إلا وسيلة من الوسائل للوصول إلى أطماعه، فأن أخفقت فأن ذلك الاخفاق لا يفت في عضده ولا يضعضع من قوته، فعليه أن يسعى، وما عليه نجح مطالبه، وشاعرنا لم يكن في مذهبه ذلك مشرعاً فحسب أو قانونياً يلقى القانون إلى الناس، ولا يتبعه بعمل بل كان قوله ذلك معبراً أصدق تعبير عن حياته العملية كلها، فتاريخه ينبئنا أنه كان كثير الحركات والأسفار، لم يقتصر على التنقل في وطنه، بل غادره إلى بلاد غير بلاده وآل غير آله

رحل إلى صقلية في شعبان سنة ثلاث وستين وخمسمائة، وصقلية جزيرة قرب ايطاليا كانت تابعة للفاطميين حينا من الزمن طويلا، إلى أن تغلب عليها روجر النورماندي، وانتزعها من أيديهم، وجعلها إمارة مستقلة، وكان بتك الجزيرة أيام وصل اليها شاعرنا قائد يسمى أبا القاسم بن حجر، فاتصل به اتصالا وثيقاً، ومدحه مدحا كثيراً، وتوثقت بينهما الصلة، حتى ان شاعرنا ألف له كتابا أسماه الزهر الباسم في أوصاف أبي القاسم، ويقال إنه قد أجاد فيه، ولكن الكتاب لم يصل الينا، وعبثت به يد الزمان، وظل شاعرنا لدى أبي القاسم حول عامين، أراد الرجوع بعدهما إلى بلاده، وكان في زمن الشتاء، فردته الرياح إلى صقلية، فكتب إلى أبي القاسم المذكور:

ص: 40

منع الشتاء من الوصو

ل مع الرسول الى دياري

فأعادني وعلى اختيا_ري جاء من غير اختياري

ولم يقتصر شاعرنا في رحلاته على صقلية، بل ذهب الى بلاد المغرب ومدح صاحبها عبد المؤمن بقصيدة قوية الأسلوب، قوية المعاني، تدلنا على عظمة من قيلت فيه. وانصت اليه يقول:

عظمت قيمتها مذ علقت

بأمير المؤمنين الأعظم

كعبة المن التي من زارها

بات في أمن حمام الحرم

قبلة الدين التي حج لها

خلقه: من كافر أو مسلم

قائد الجيش الذي من راعه

باسمه قبل التلاقي يهزم

يا إماما خضع الدهر له

فأطاعته رقاب الأمم. . . الخ.

ثم عاد الى وطنه، ولكنه لم يستقر به المقام طويلا حتى دفعته النوى إلى بلاد اليمن، ودخل مدينة عدن، واتصل بأبي الفرج ياسر بن بلال وزير البلاد اليمنية، فأحسن الوزير صلته، وأجزل عطيته، ثم فارقه عائداً إلى الديار المصرية فانكسر المركب به وغرق جميع ما كان معه بالقرب من دهلك، فعاد الى ياسر، ومدحه بقصيدة بدأها بقوله:

صدرنا وقد نادى السماح بناردوا

فعدنا إلى مغناك، والعود أحمد

وجاذبنا للأهل شوق يقيمنا

وشوق لمغنينا عن الأهل يقعد

ثم أنشده قصيدة أخرى يصف فيها غرقه، وما أصابه في البحر

غير أن هذا الحادث لم يجعله يسخط على السفر والاغتراب كما قد يظن، فقد رأيناه بعد أن نجا يكرر مذهبه ويؤكده، ويقول

سافر إذا ما رمت قدرا

سار الهلال فصار بدرا

والماء يكسب ما جرى

طيباً، ويخبث ما استقرا

وبنقلة الدرر النفيس

ة بدلت بالبحر نحرا

مما يدلنا على قوة عزمه، وتغلغل مبدأ السفر والارتحال في فؤاده، ولقد هداه حادث الغرق إلى أنه من الخطا تشبيه ممدوحه بالبحر إذ يقول:

وغلطت في تشبيه

بالبحر فاللهم غفرا

ص: 41

أو ليس نلت بذاغني

جما، ونلت بذاك فقرا؟!

ولعل شاعرنا حينما ألقت به يد الأمواج إلى جزيرة دهلك لم يأنس بالمقام فيها، ولم يجد من حاكمها مالك بن شداد براولا رحمة، لذلك هجاها، وصورها بصورة جهنم بدليل أن خازنها مالك (ودهلك جزيرة بين بلاد اليمن وبلاد الحبشة) وظلت أيدي النوى تتقاذفه حتى ألقت به في عيذاب، وهي بليدة على شاطئ بحر جدة يعدى منها الركب المصري المتوجه إلى الحجاز عن طريق قوص، وهناك وافته منيته بعد أن بلغ من العمر خمساً وثلاثين سنة.

بالرغم من كثرة أسفار شاعرنا، وكثرة تنقله بين الأوطان المختلفة كان حنينه وشوقه الى مصر لا يفتران: ففي صقلية يذكر مصر، وفي غيرها يذكر مصر، ويذكر آله وقومه، ويذكر ما كان له في تلك الديار: من صحب وأصدقاء فيحن إليهم ويقول:

يا إخوتي، ولنا من ودنا نسب

على تباين آباء وأجداد

متى تنور آفاق المنارة لي

بكوكب في ظلام الليل وقاد

متى تقر ديار الظاعنين بهم

والدهر يسعفهم بالماء والزاد

ويقول مخاطباً أبا القاسم بصقلية:

وعليك السلام مني، فاني

عنك غاد أو رائح أو ساري

شاقني الأهل والديار وذو البعـ

د معنى بأهله والديار

وتلك حالة طبيعية يمسها الرجل المفارق لوطنه، فهو يحن إليه دائماً، ويشتاقه دائماً

(البقية في العدد القادم)

أحمد أحمد بدوي

ص: 42

‌من طرائف الشعر

ذكرى الحج

للأستاذ الحاج محمد الهراوي

حَدّا بِي الى أُمِّ القُرَى شوقُ هائِم

مُدَلِّةِ قلبٍ حوْلَ مكة حائم

وَلِهْتُ بها ما بين نومٍ ويقظةٍ

وقلبي يقظانُ الهوى غيرُ نائم

فان نمتُ لم تبرح تُخَيِّلُ لي الرْؤَى

وإن أصْحُ لم يَبرَحْ تخيُّل واهِمِ

فذلك شأني ثم لَجء بيَ الهوَى

الى أن رأيتُ الحجَّ ضربةَ لازِم

حططتُ برحلي فوق ناحيةِ السُّرَى

وطرتُ بشَوْقي فوقَ ذاتِ القوادِم

لعلِّي، وفي برديَّ حُوبة آثمٍ

أُطهِّرُ عن بردىِّ حوبةَ آثمِ

ويُطمعني في الله أنىَ من مِنىً

قريبٌ، وأني من سُلالةِ هاشمِ

أُمَسِّحُ بالأركان وجهي مُعفّراً

وأهمى عليها من دموعي السواجم

أطوفُ وأسْعى بين مَرْوةَ والصَّفا

وآوى الى رُكنٍ من البيت عاصمِ

وأرجعُ مملوء الجوانح خَشيْةً

من الله في يومٍ من الهَوْل قادِمِ

فَيَاهلْ أتى صَحْبي بَمسْرَح لهوْهِم

مَتَابى، وأني قارعٌ سِنَّ نادِمِ

فلم أرَ مثلَ الدينِ أدعى الهُدَى

ولا مثلَ حجِّ البيت أهدْىَ لجارمِ

وما أبتغي إلا المْثَوبةَ مخلصاً

ودعوةَ ربِّ البيتِ تحتَ المحارِمِ

أقول: إلهي أنتَ أدرَى بأمَّتي

وكم نزَلتْ دْهراً على حكم غاشم

تركتُ ورائي أُمةً لم تكن تَني

عن الحقِّ جُهْداً، أو تهى في العزائم

فياربِّ يا حامي حِمَى البيتِ لا تُبِحْ

حِمى مِصرَ للعادِينَ من كلِّ ظالم

وياربِّ إنَّ الشرقَ بات بأهلهِ

كبيرَ الأماني طامحاً للعظائم

يريد حياةَ العزِّ وهو مُسالِمٌ

ويأبى عليه الجَوْرُ عَيْشَ المُسالم

فياربِّ أيِّدْهُ على الحقِّ ما سَعَى

الى الحقِّ وارفعْ عنه نِيرَ المظالِمِ

بلادي وقوميي فوقَ ما جئتُ أبتغي

لنفسي، وما أرجو لها من مغانِمِ

وياربِّ إن كانت لنفسي حاجة

فحاجةُ نفسي منكَ حُسْنُ الخوَاتِمِ

ص: 43

‌سبيكة الشعر

إن كنتِ أهديتني من شَعرك الغالي

سبيكةً جددت عهد الهوى الخالي

فقد وهبتك يا دنياي مرتضياً

قلباً يفيض بأحلامي وآمالي

قلبي لديك. فهلاً

رويته من نهرك؟

كما تروْي عيوني

بالدمع غاليَ شَعرك

وهل يجود الزمانُ

بالقرب بعد النوى؟

فتلقي العينانْ

ونستعيد الهوى

مازالت أندب والأحشاء ثائرة

عهوده كلما مرَّت على بالي

ولا أرى بعد ما هاجرتِ مرغمة

إلا عذاب فؤادي أو ضنى حالي

ولم تعد لي دموعْ

إلا دماء الفؤاد

أبكي بها في الضلوع

عليه بعد البعاد

يا ضيعة العمر إلا

في وكرك الفتان

وبؤسَ للقلب إن لم

ينل لديك الأماني

مناي في الحب أن نقضي الحياة كما

كنا: أليفين في حِلٍّ وترحال

أسقيك كأس الهوى والحب متروعة

وأستقى من رضاك المسكر الحالي

محمد فريد عين شوكه

ص: 44

‌عالم الهوى

للشاعر الوجداني أحمد رامي

يا طيورْ ما الذي هزك للشَّدو الجميل

في سكَون الليل أو صفو السَّحَر

يا زهورْ ما لأغصانك في الروض تميل

في ضياء الشمس أو نور القمر

يا غديرْ ما لأمواهك في المرْج تسيل

ضاحكاتٍ بين أفنان الشجر

قالت الطير أما تلقى الربى

يتباهي الزهر فيها بالجمال؟

وانثنى الزهر مجيبا هل ترى كيف يجري الماء ما بين الظلال؟

ومضى الجدول مختالا وقال

قد غذانى النهر بالعذب الزلال

تعشق الطير الزهور

والجنى يهوى الغدير

والغدير

يستقى الماء من النهر النمير

كل من في الكون يَغْنى

من هواه بنصيب

وأنا قلبِيَ يَهْنا

برضى قلبِ الحبيب

ص: 45

‌وحشة

للاستاذ محمود الخفيف

// ليس يمحو الوجدَ من قلبي الحزين

كلُّ ما في الكون من آي الجمال

يتأسى كل قلب بعد حين

ما لقلبي بات مفقود المثال؟!

شفه طول الحنين

وتباريح الخيال

واغتدى بعد اليقين

بين يأس واحتمال

أظلم الكون وقد كان سناه

مشرقا في النفس اشراق الأمل

نبه القلبَ لأكدار الحياه

وحشة تبعث في قلبي الوجل

حار قلبي في هواه

والهوى أصل الخبل

ويحه ماذا دهاه

فبكى بعد الجذل؟

تبسم الأزهار للصبح الوليد

وتغنى الطير الحان السَّحر

ويلوح النور في الأفق البعيد

فيهز البشر أعطاف الشجر

والندى در نضيد

فوق أكمام الزَّهر

هل يرى قلبي الشريد

حسن هاتيك الصور؟

تشرق الشمس لا أرى معنى

يبهج النفس من معاني ضحاها

لا، ولا البدر اذ يسير الهويني

باعث في النفس أحلام مناها

واذا العصفور غنى

ذكرت عيني بكاها

واذا الغصن تثنج

هيج النفس شجاها

تدمع العين برغمى أن أرى

في ظلال الريف مغنانا الوسيم

كان مرعى اللهو فيه ناضرا

عاطر الأنفاس مطلول الأديم

مالعيني لا ترى

حسن مرآه القديم؟

يتراءى مقفرا

والأسى فيه مقيم!

أسأل الدوحة عنها ذاهلا

وأطيل السير في جنب الغدير

ثم أمضي بعد حين قافلا

تخفق اللوعة في قلبي الكسير

أتناجى قائلا

بين دمع وزفير

ص: 46

كيف ولى عاجلا

ذلك العيش الغرير؟

صرت لا أقوى على غشيانه

ان في مرآه الوان الشجن

وكأن الورق في أفنانه

تشتكي مثلي تصاريف الزمن

هل سوى سلوانه

لفؤادي من سكن؟

أو سوى هجرانه

لغريب في الوطن؟

زمن الوصل تقضى مثلما

يتقضى في الكرى حلم بديع

وتولت بهجة العيش كما

يسقط الزهر اذا ولى الربيع

ويح نفسي أكلما

ذكر الشمل الجميع

بات مضنى هائما

ذلك القلب الصديع

أترى تذكر (أيدا) عهدنا

أم تناسته وقد طال الغياب

نفِس الدهر علينا صفونا

وكذا الدهر نعيم وعذاب

كم حبسنا دمعنا

ما شكا البينَ الصحاب

وارتقبنا يومنا

في وجوم واكتئاب

اقرإي هذا وحسبي سلوة

أن ترى عيناك هاتيك الدموع

خانني عزمي ففاضت عنوة

وأخو الشوق لدى الذكرى جزوع

فاغفري لي صبوة

لم تجئ بعد شروع

ولقلبي وثبة

أشفقت منها الضلوع

ص: 47

‌الى السيدة منيرة توفيق

من الآنسة خيرية أحمد

ناحت مطوَّقةٌ فأشْ

جتْ كلَّ طير في الخمائلْ

وبكت لها مقَل السحا

ب بأدمع تجري هواطلْ

شكتِ الحنين إلى الحلي

لِ من الجوى والوجد ماثلْ

صَدَقَ الهوى بفؤادها

فبكت وصِدق الحب قاتلْ

زَيْنَ العقائل والفضا

ئلِ في المنازل والمحافلْ

أخت الفصاحة والسما

حة والرجاحة في الشمائلْ

لو كنت في عصر الأوا

ئل كنت مَفخْرَةَ الأوائلْ

زَفَرَات أختك قد عَلَمتْ

لأَساكِ تَغْلي كالمراجلْ

عَجبَي لزوجك كيف غير

رَ عَهْدَه بعد التواصلْ

وأدال من حَكَم الهَوَى

والحب خصم لا ينَازَلْ

هل في البرِّيةِ للوفِيّـ

ةِ والحبيبة من مُعادِلْ

هل للخلالَ الباهرا

تِ وللفضائل من مماثل

ولَرُبَّ رأيٍ قد رآ

هـ الزوج حقاً وهو خائلْ

وتعدُّد الزوجات في الـ

أُسْرَات مهزلة المهازلْ

أصل العداوة والشقا

قِ وباب مشكلة المشاكلْ

والحق سيفٌ لو تجرَّ

د نصلهُ ماضٍ وقاصلْ

وأخال أنكِ تحليـ

ن وأنَّ هذا الحلمَ زائلْ

سيعود زوجك للوئا

م وليس عند الخلف طائلْ

ص: 48

‌واليها أيضاً

من الآنسة ناهد محمد فهمي

إن طال سهُدُكِ فاشتكي

لله زوجا غيرَ عادل

إني أرى بين السطو

رِ دُموعَ قلبِكِ كالجداول

تجري بألحان الأسى

وخريرها يشجى العقائل

لا تيأسى فلرَّبما

عاد العَقوق الى التواصُل

وترَفَّقى في لومه

فلرافق من شيم الأماثل

وتساهلي فيما جنى

لا شيء ينفع كالتساهل

وتدرَّعي بالصبر في

كل الكوارث والنوازل

كم من ضحايا للرجا

ل وكم نعاني من رذائل

ص: 49

‌مذهب (السمبوليسم)

أو

الشعر الرمزي

للاستاذ خليل هنداوي

المدرسة الرومانتيكية والبرناسية. حقيقة المذهب الرمزي. الشعر الرمزي كالاحلام الشعر الرمزي والموسيقي. الشعر الرمزي والطبيعة

(شغل الرسالة - في الايام الاخيرة - ما شغلها من (بول فاليري). وكان من (مقبرته البحرية) مجال فسيح لبحث الوضوح والغموض في الشعر، وقد رأيت ان أرضح مذهب أصحاب المدرسة الرمزية بهذه المقالة، ثم اتلوها بصور سشعرية مختارة لهم).

المدرسة الرومانتيكية والبرناسية

لم يكد يوارى جثمان الشاعر (هينو) في الاثرى حتى قامت مدرسة شعرية جديدة هي مدرسة (السمبوليسم) تنازع المدرسة (البرناسية) التي نازعت بدورها المدرسة (الرومانتيكية)

المدرسة الرومانتيكية جعلت موضوعها الفني عواطف الشاعر نفسه، فترى الواحد من شعرائها ينظرم وينظم، وهو يحدثك عن نفسه، ويقصيك عن نفسه، يحسب نفسه اللعالم الأكبر الذي ينطوي على كل شيء، فاذا أنّ وانتحب عجب من للناس كيف لم يسمعوا أنينه ولم ينتحبوا؟ ونراه اذا عرض عليك عواطفه رقق ديباجته، وبهرج اللوانه، وذوب نفسه، لأن قاعدة هذه المدرسة توجب على الشاعر ان يكون متأثراً حتى يستطيعه ان يؤثر في غيره. فجاءت المدرسة البرناسية تنعى على أصحابها ضيق عقولهم وقلوبهم، وتنتقد هذا المذهب الذي يتغنى على ضرب واحد لا يتغير له لحن ولا وتر، ولا يسمع سامعه الا رنة ناقوس واحد. فكان جدال عنيف وكان نقد صارم، فاضاع الشعر الوجداني كثيراً من قيمته. وذهب زمان كان يؤله الناس فيه هذا النوع من الشعر لأنه - كما يعتقد أصحابه - هو شعر الرقة، وشعر الجمال. وقد لا يمكننا القول بأن أصحابه لم يحسوا الجمال، وغاية الادب - مذ كان الادب - الحج الى مجالي الجمال. ولكن كثيرين ممن يتمثلون الهدف

ص: 50

ويعينون موقع الهدف، ويسعون بشوق ولهفة، تسعى بهم اقدامهم ويا للاسف الى غير الهدف. وللجمال طريق يختلف عن طريق هؤلاء القوم الذين اتخذوا طريقهم اليه: طريق الالحان المشوشة التي تخلقها العواطف الثائرة. ومتى كانت مقاييس العواطف ثابتة وموازينها صادقة؟ وحقيقة هذه الالحان أنها تصور أهواء النفس، ولا تصور شيئاً من مجالي الفن والجمال. فكانت غاية المدرسة البرناسية أن تحول أذهان الناس عما اعتقدوا، وأن تصف الجمال - بالفن الذي لا يتصل بمشاعر النفس، ولا يتعلق بأهواء النفس، ولكن هذه المدرسة لقيت فشلها، وكان يقدر لها الفشل، وهي لما تدرج من مهدها لولا ثبات أصحابها، واحترام الاندية الأدبيه لهم. وتحوير هؤلاء لبعض قواعدهم. فالفئة التي سئمت الحان النفس والوجدان سأما بعثها عليه المغالاة والتصنع، راعها أن يطلبوا منها أن تقطع كل صلة بينها وبين النفس، ليتسنى لها أن تدرك الجمال بدورها كما أدركوه هم بدورهم. ولكنهم (أصحاب المدرسة البرناسية) لم يستطيعوا أن ييقطعوا هذه الصلة، لان الانسان لا يستطيع أن يؤدي لغته الشعرية، وأن يفهم اللغة الشعرية الا بنفسه. وهل يستطيع أحد أن يفهم ملامح التمثال دون أن يمر بهذه الملامح على نفسه التي تدرك منها ما تدرك. وقد يكون هذا الادراك هو الادراك الصحيح للتمثال وقد لا يكون، ولكنه لم يكن - في الحالين - الا تعبير النفس والعاطفة العميقة. ولذلك لم يحفل الناس بهذه المدرسة الا كحفلهم بشيء جديد له منظر جديد وروعة جديدة ولو كان هذا الشيء قبيحاً. حتى اذا شبعوا من هذه المنظر الجديد والروعة الجديدة صدفوا بوجوههم عنه، وعاودوا النظر في الأفق البعيد، لأنهم لم يقعوا على غايتهم في هذا الأفق الخادع.

وهذا (بول فرلين) أحد شعراء هذه المدرسة لم يستطع أن يثابر على النظم وهو خارج عن نفسه، فتمرد على احساسه وتمرد احساسه عليه، فعاد يترجم عن مشاعره مضطراً، لأنه لم يقدر على كبحها، ولكن بأسلوب غير الأسلوب (الرومانتيكي) لأن فلسفته العميقة ساعدته على خلق فنه ولغته. فنزل الى أعماق النفس، وهبط الى حيث تكمن المشاعر (في الخليات المظلمة) فأيقظها وأحيياها وأدناه من عالم النور والحركة، بعد أن كان يغمرها الظلام والسكون.

حقيقة المذهب الرمزي:

ص: 51

كان (ديكارت) يزعم خطأ يوم قال: بان لا مستقر في الدماغ الا للافكار الواضحة، وخلا هذه الافكار لا تقوم الا المادة الجامدة التي لا تحتوي على شيء، ولكن الفلسفة الحديثة نقضت هذا الرأي، وأثبتت ان هنالك في الدماغ مجموعة من احساسات وافكار وعواطف، كلها واضحة بادية، ووراء هذه المجموعة مجموعة عواطف نائمة ضعيفة، حتى لكأنها تحيا بنصف شعور! وهذه العواطف قد لا يأبه بها الانسان الا اذا نزل اليها وتنبه لها، ولكن الانسان - في أغلب الاحيان - ينقاد لها على غير وعي، ويقبل حكمها وهو جاهل مصدر الحكم، ويتبع ما أغرته به وهو غافل عن مكمن هذا الاغراء.

مع هذه العواطف القائمة تحيا كل ميولنا الفنية، واحساساتنا الشعرية، ونحن لا نكاد نشعر بها. فنقرأ المقطوعة الجميلة، فتتيقظ هذه الميول وتستفيق هذه الاحساسات، لهوى جاء في هذه المنقطوعة كان سبب يقظتها، فتهب وتظهر وتتوارى وترتخي وتشتد حسبما تشاء. فاذا عرجنا بهذا الهوى على المنطق والعقل تبدل الحكم وتغير الوضع، وجاءت النتيجة: اما مؤيدة لهذا الهوى أو ذاهبة به. على ان هذه الاحساسات نفسها تبقى مبهمة، متدثرة بشيء من الغموض والخفاء، لا يدرك من أين بدأت وانتشرت، والى أين تناهت وتلاشت.

أليس من واجب الشعر اذا ان يعبر عن هذا الهوى وهذا التناقض في الاحساسات التي لا تحصى؟ فاذا كان النثر الواضح المنطقي العقلي واجبه ان يعبر عن أفكار ظاهرة، وعواطف بادية، ومواضيع يراد تقسيمها الى فصول واجزاء لكي تدنيها من الافهام فان الشعر واجبه ان يعبر عن ذلك الاحساس الباطني الذي يكمن الجمال في حناياه.

إن (البرناسيين) وصفوا الجمال للجمال نفسه لا لغاية. وخده والفن للفن لا لحاجة. (ولكن الرمزيين) اعتبروا هذه المذهب وما قبله من المذاهب لا يصلح منها شيء للشعر، اذ - في الامكان - تحويل ما رصفوه القول ونظموه الى نثر لا يذهب ببهجة معانيهم. وانصرفوا هم الى انفسهم، وفي انفسهم تلك العوالم الواسعة الطافحة بالاحساسات المبهمة، والاهواء المظلمة. لا يرسل اليها احد عقله حتى تتلاشى، ولا تلين للتعابير الواضحة لأنها تذهب بمعناها. والاحساس الحقيقي هو الاحساس الذي يختلج في النفس دون ان يستطيع البيان أن يعبر عنه. ولهذه الاحساسات - كما للصور الخيالية - رسائل لا يمكن أن تقيدها الاغلال المنطقية، والقيود الشعرية التقليدية. وهذه الرسائل التي تستعين - بالاحساس وحده

ص: 52

- لتفهمها، ولا تستعين بالدماغ الذي يفككها ويقضي على روعتها، هذه الرسائل هي الشرع الحقيقي وهذه الاحساسات الباطنة هي التي حدت (بالرمزيين) الى أن يعالجوا اعمق عالم مظلم في أنفسنا، ويعبروا عن هذا العالم تعبيراً شعرياً.

أجمع علماء النفس على أن العقل الواعي ما هو الا مظهر حقير من مظاهر العقل الباطن الكامن في (اللاشعور) وهذه العقيدة الفلسفية اضطرت الشعراء والفنانين الى الانطلاق من قيد العقل الذي لا يحكم الا بوعيه، ولا يخضع الا لحكمة، وقالوا ان العقل الواعي بما فيه من أفكار واضحة انما وجد لكي نستخدمه في حياتنا العملية والتفكيرية. ولم يوجد ليكون معبراً عن الحياة الشعرية، إذ يجب على الشارع أن يرتفع عن هذه العوالم المتجسدة، ويخوض في البقاع التي يتلاقى فيها النور بالظلمة، والبيان بالغموض والشعور باللاشعور.

الشعر الرمزي كالاحلام:

لا نكاد نجهل نصيب الرؤى التي تطرقنا في أحايين وأحايين. فنمت أحلام واوهام وحوادث تبدو وتتوالى لا يدفعها جهد، ولا يربط ما بينها منطق. تظهر كقوة خفية لا يمكن تعليلها ولا تحليلها على أن بعض هذه الاحلام قد يجيء عذبا لذيذاً يسعد النفس بما يجمل اليها من أوهام، أليس من هذه البعض تلك الاحلام التي تغنى بها الشعراء لانها مثلت الهم أطياف الاحباب؟ فودوا لو ان حياتهم الحقيقية تكون صورة من حلم لأن شعورهم الجائع النائم مثل لهم - بدوره - هذه الأحلام. ولكنه تمثيل، ليس له تعليل وهكذا قد تاتي الصور الشعرية ممائلة لهذه الصور الوهمية، صورة أو صوراً تتتالى، يحدوها وهم لا حقيقة له، ولا يمازجها شيء من الشعور؛ ولكنك تتلوها وتتلوها، فيخيل اليك أنك دخلت في عالم جديد تلمس فيه هذه الصور، فترى بعينيك ما يجب أن يرى وتسمع بأذنيك ما يجب ان يسمع. وقد تستقرئ هذه الصور الوهمية، وتحس مواضع التخلخل فيها والاضطراب المنطقي والتباين العقلي، وتشعر بأن المطابقة فيها مفقودة، والتناسب معدوم. تستقرئ هذا كله وتستوضحه بأجمعه، ثم يخيل اليك ألآن هذه الصور الوهمية انما هي حقييقة، وأنها باعثة فيك ما تريد من اسباب الرضا والسرور.

وقف الشاعر (كارنور راميورد) شعره على التعبير عن مثل هذه الصور الوهمية، قد ولد في مدينة مكتظة بالمصانع تقلق آلاتها الراقدين والساهدين؛ وكان يرى - برغم ذلك -

ص: 53

موطناً يستسلم فه الى أحلامه التي تحمله الى عالم الغيب والذهول، حتى أصبح يرى في الحانة معبداً. وفي كثير من مقطوعاته كـ (سفينته الضالة) جاء بأفكار غامضة كل الغموض، وتعابير مبهمة كل الابهام. لأن الشاعر يخلق لنفسه الحروف والكلمات التي يراها مؤتلفة مع نفسه، ولكن فقدان التسلسل المنطقي يرخي على المقطوعة سدول الغموض، حتى لينتقل الابهام من الأفكار والمعاني الى الصور الشعرية وإذ ذاك يغدون القارئ شبيها بمتدحرج اصابه دوار في بصره شغله عن التأمل والتفكير.

الشعر الرمزي والموسيقى:

الموسيقي قبل كل شيء! الموسيقى دائماً وأبداً

ليكن شعرك شيئاً يطير من النفس صاعداص الى سماوات أخرى.

(بول فرلين)

الفن الشعري: - أنت تعلم ذلك التأثير الذي تثيره في النفس الواعية تلك الألحان الشائعة، لبحر يهدر، أو لجدول يخر، أو لنغمة تعلو من آلة موسيقية. فهذه الالحان لا تكلم العقل رأساًن وانما تكلم - قبل عقلنا - احساساتنا. فيخيل الينا أننا منطلقون منعتقون لأننا لم نتأثر بالعقل والمنطق. فتحملنا هذه الألحان ونحن كسالى هامدون، الى عالم ملؤه الراحة والسكون.

وقد فهم الرمزيون هذه الوشائج النفسية العميقة فأعلنوا - وفي طليعتهم - (فرلين، وراميون وملارمي) أنهم سيتخذون من الكلمات ألحاناً موسيقية، وأنهم سيعنون بوقعها قبل عنايتهم بمعانيها! فكانت هذه الثورة ثورة منتجة للغة، لأنها تهذبها وترفقها وتجملها، ولكنهم - كما أحسنوا في مواطن كثيرة - قد كبوا في مواطن كثيرة، لأنهم استعملوا كلمات غريبة ليس لها معنى يميزها، أو ميسم يسمها، واستخدموا ألفاظاً مجهولة لا تدرك إلا في معاجمهم الرمزية، حتى دعاهم هذا الى الاستخفاف بقيمة الكلمة والنص عن معناها، والالتفات الى وقع موسيقاها؛ ولم نكن لننكر ان القوم أحسنوا كل الاحسان في انعتاقهم من القواعد التقليدية، وعروجهم بالشعر الى مرابع خصبة ندية. فاللغات لا تزال قاصرة، لا تحدد كل كلمة مدلوها الذي وضعت من اجله. ولا تزال تضيق عن استيعاب ما يجود به عالم النفس

ص: 54

الأكبر من الخواطر الكامنة. ولكن هذا القصور لا يحمل القادر على توسيع شقة الابهام. وترك الامر فوضى بين الأفهام، فان في استطاعة الشاعر أن يتخير الكلمة الواضح معناها، والحسن، وسيقاها، وهو بعد ذلك لا يخسر من معناه ولا من مبناه شيئاً.

فاذا تلونا مقاطيعهم فلنقلها كموسيقى، فانها قد تلذنا لو كنا خلقنا شعراء. وتولد فينا تأثيراً عميقاً يحملنا - على غير وعي منا - الى عالم يزداد وضوحاً أو غموضاً حسب بيان الشاعر.

الشعر الرمزي والطبيعة

التفت شعراء الرموز الى أنفسهم، ولاحظوا دقائق الحياة الباطنة ونواحيها الغامضة، ولم يعنوا كثيراً بالظواهر الخارجية

نظروا إلى عرم الساعة الهاربة، والفصل الغابر، والزمن السائر، ولجب الحياة العاملة ولا انتهاء لها، والانحلال والتركيب اللذين لا ينتهيان في هذه اللحظة وفي قلب هذه الحركة وصفوا صور المادة وشرائع الطبيعة الخفية، قرأوا حقائق الاشياء كانها تتلاشى بين تبدل المظاهر وبقاء أسبابها. والطبيعة ما هي الا صورة متحركة ورمز مستور مقيد محصور. ورأوا من جهة أخرى ان فهمنا للاشياء ما هو الا صورة من صور احساسنا، فكأنها تحيا فينا، أو قل هي نحن. وأنا كلما نظرت للاشياء شعرت بنفسي وأحسسة بحياة عقلي. وما تنظيمي للناظر التي رأيتها ثم نظمي شعراً لهذه الاحساسات الا اباحة منى بجانب او بجوانب من إسرار نفسي. ولكن، أليست الطبيعة كلها رمزاً لحياتي ووجودي؟ أليس هذا الرمز هو اللذي يؤلفغ بين النفس والطبيعة؟

ان الفنان الرمزي لا يجعل همه ان ينقل صور الطبيعة نقلا ويعرضها على الناس، انه يفسر ويؤول قبل كل شيء ما يراه، ويعطيك ما أوله بتعابير ملؤها الرموز والكتابات، وعليك ان ترى وتؤول وتفهم هذه التعابير، لأن فنان يود الايراك عبداً للراحة، والفتور. هو يريد ان يطربك بموسيقاه فتطرب، ولكن موسيقاه، تغرى الأرواح. فتذهب روحك على أثره. وانت تعلم وقد لا تعلم! حتى تجوز ما يقدر لها ارتفاعها من مراحل. وان في هذا السفر تعباً ولكنه تعب فيه لذة المستكشف فاذا كان يطيب لك ان تجول في بقعة غريبة تطلع على مجاهلها وتفرح بما تجد، فجدير بك ان تكون اكثر طرباً، وقد وقعت على بقعة

ص: 55

نفسية مجهولة تستكشف مخبوءاتها؛ وتقف على مكنوناتها

كتب (ملارمي) جواباً على سؤال (ان البرناسيين يأخذون الشي بتمامه ويبدونه للعين، مع أن تعيينك للشيء هو حذف ثلاثة ارباع لذته، لأن اللذة الحقيقية تكمن في الاستكشاف التدريجي. وفي التنويه الذي ينطوي على السحر الذي ألف عالم الرموز.

ولكن هذا الفن الشعري الذي كانت له مآثره كانت له عيوبه أيضاً، فأصحابه وهم ينطقون عن الغامضن والمبهم، وقعوا في التعابير المظلمة، فجاء شعرهم محاطاً بحجب كثيفة لا تزيحها الا أيديهم.

على أن الشعر الرمزي - برغم هذه الأخطار والاخطار - قد فتح في الأدب عالماً اتسع للاوهام والحقائق الخفيية، وانشأ روحاً جديداً للعاطفة الشعرية التي تعددت وتتعدد من أجلها المذاهب، وهي واحدة لكنها غامضة لم تزل وراء الرموز

دير الزور

خليل هنداوي

-

ص: 56

‌العُلوم

مطالعات واشتات

للدكتور أحمد زكي

انقلاب اللاسلكي: الانسان في كثير من أموره يبدأ صغيراً ثم

يطلب الكبر، يطلب العظمة في الضخامة والقيمة من الجرم.

ولكنه جرى على غير ذلك في اللاسلكي، فهو ابتدأ في الاذاعة

بالموجات الطويلة العظيمة، ثم أخذ بالموجات الأثيرية

الصغرى طولا فالصغرى، ثم بالمتوسطة فالتي دون ذلك

فتقسمت الموجات الى طويلة وهي التي تزيد على 1000

متر، ومتوسطة وهي التي بين الألف والمائة، وصغيرة وهي

التي بين المائة والعشرة، وزائدة الصغر وهي التي دون ذلك.

وقد يختلف اللاسلكيون في هذا التدريج وهذه التسمية، ولكن

هذا لا يؤثر في الحقيقة الراهنة وهي ان استغلال هذه

الموجات بدأ بالكبيرة ثم بالتي دونها. وكانت الشركات الكبيرة

تعتقد انه لا حاجة بها الى الموجات الصغيرة حتى قام الهواة

في بقاع الأرض المختلفة على الاذاعة والاستقبال، معاً بتلك

الموجات، وأخذوا في التغيير في أجهزتهم والتبديل في

طرائقهم حتى وقفوا على أحسن الشروط لحسن الارسال

ص: 57

والاستقبال وكشفوا عن ميزات لهذه الموجات الصغيرة ليست

للكبيرة؛ فمن ذلك ان الصغيرة تحمل الأصوات الى السامع

خالصة من هذه الطقطقة والخرفشة وذلك الضجيج والعجيج

والنشوز الملح الذي يؤذي الأذن ويحرج الصدر ويذهب بصبر

الانسان. ومنها أنهاا تنفذ في الأجواء الى مسافة ابعد وعلى

حال أشد حتى لتلف الكرة الأرضية لفاً. لذلك ما لبثت

السلطات اللاسلكية التجارية أن أغارت على هذه الموجات

فاستلبتها واحتفظت للهواة بموجات دون تلك أكثر صغراً

يجرون فيها ما شاءوا من التجارب فقصر الهواة عملهم على

هذه فأتقنوه كساالف دأبهم، فتجددت الاغارة عليهم فاستبلت تلك

الموجات أيضاً، وارتد الهواة الى الوراء، إلى موجات أمعن

في الصغر. ولكن يظهر أن الشركات اللاسلكية عرفت من

مزايا هذه الموجات ما سوغ لها أن تقوم في العلانية قليلا وفي

السر أكثر بدراسة هذه الموجات لتسبق الهواة، وهم الذين كان

لهم فضل السبق الى كشف فضلها. وقد جاء في الاخبار.

الحديثة أن شركة مركوني قامت في الخفاء منذ أكثر من

شهرين بدراسة موجات طولها أصغر من متر واحد وانها

ص: 58

نجحت في استخدامها نجاحاً كبيراً، وانها ترجو من وراء ذلك

أن تحدث في الاذاعة التجارية انقلاباً خطيراً.

بدأت بتلك التجارب في (بيت مركوني) على نهر (التمس) فكانت تذيع من هناك الرسائل لتستقبلها مستقبلات متنقلة في مقاطعة (كنت) بانجلترا وقد تمكن السناتور مركوني بهذه الاشعة التي يسمونها بالمجهرية من الارسال الى أبعد من 180 ميلا، والهوائي المستخدم فيها لا يزيد طوله على ثلاث بوصات، والقوة الكهربائية اللازمة للمحطة المرسلة لا تزيد على تلك التي تلزم لأضاءة مصباح كهربائي.

وستكون هذه الطريقة الصغيرة الجديدة شديدة النفع في القريب العاجل في المواصلة بين مراكز الشرطة والاسعاف، وبين بيوت الأعمال الكبيرة وفروعها، فان الجهاز نفسه يكاد يحمل في الجيب، وقد اتضح أن هذه الطريقة المصغرة أيسر في نقل الصور من الطرق الكبيرة والقديمة، أو التي سنسميها قريباً بالقديمة، فقد جربها السناتور مركوني فعلاً في ذلك فنقل بها صورة بلغت مساحتها خمسة أقدام في خمسة كانت غاية في الوضوح ومثلاً في البيان.

وهذه الموجات الضئيلة لا تتأثر بالجو ولا بالضباب، وفوق ذلك لا يمكن استراق السمع منها. ويقول العارفون أنه قد لا تمضي بضع سنوات حتى تصبح الموجات الطويلة اثراً بعد عين

دقات قلب سكنت

الدكتور (هـ. و. كروك) طبيب يسكن (في أكستر) من المدن الغربية الجنوبية في انجلترا، لا يزال الى اليوم رائحاً غادياً في مطالب العيش، ولكن قلبه لا ينبض بالحياة منذ ثمانية أعوام. وليس هو بالرجل الكسول الخامل فهو يشتغل في الاسبوع ستة أيام كاملة ويسوق سيارته بنفسه، وهو يعلم وهو الطبيب ان قلبه سكنت ضرباته الى الأبد، ولا يزعجه ذلك ولا يهمه، فأنت تراه ينعم بالدنيا كغيره من الأصحاء، وهو اذا ذكر قلبه اهتم به اهتمام العالم بظاهرة غريبة يحملها بين جوانحه كأن من حسن حظه ان استأثرته الطبيعة بها.

بدأت قصة هذه الحال في سنة من سنوات بعيدة اذ كان (المستر كروك) يدرس الطب في

ص: 59

مستشفى (جاي) بلندن، فأصابته حمى روماتزمية أخذت تنتابه ثم تذهب عنه فيصح، فتعود اليه المرة بعد المرة، فكان من آثارها اتساع صمامات قلبه فأصبحت لا تنفتح ولا تنغلق كعادتها اذ تدفع الدم كالمضخة فتجريه في الجسم، وبانعدام هذه الانفتاح وذلك الانغلاق، انعدم الصوت الذي نسمعه وهو دقة القلب.

حدث ذلك له في مرضه الأخير عام 1926، وكانت حاله لاا رجاء فيها، وكتم عنه الأطباء أمره خشية أن يدرك خطره فينزعج ويصدمه الخبر السوء، فييكون في ذلك قضاؤه. ودخلوا عليه مرة يفحصونه فأزعجهم أن وجدوه يأخذ سماعة من تحت وسادته يستمع بها الى قلبه. ولكنه ما لبث أن ذكر لهم أنه لم يفتر عن الاستماع الى قلبه كل يوم، وأنه يعلم ما آل اليه. وعقب على ذلك في كثير من البشر وشئ من المزح أنه معجب بنفسه مغتبط بان يقدم لهم وللطب حالة نادرة لذيذة ممتعة للفاحص والمتقصى وقد اتصل بالدكتور في الأسابيع الماضية متصل يستخير عن صحته فذكر له أنه صحيح لا يحسن علة ولا يشكو ضيقاً، وان عضلات قلبه اشتدت سد النقص الذي طرأ على صماماته، وانه ينعم بالحياة كنعمة المستخبر. وهكذا الطبيعة تحاول دائماً أن تصحح أخطاءها، فتصيب مرة وتعجز مراراً.

البيض المحفوظ:

كل كائن حي يفسد على الزمن، وكل نتاج من كائن حيي تظل فيه الحياة حيناً، ثم يعتريه الفساد كذلك. وتدخل في هذه الأنتجة اللحوم والخضروات والحبوب وما اليها. وكان المعروف أن البرودة تطيل من صلاح هذه الأطعمة، والحرارة تعجل فسادها؛ فعمدت المصانع الى استخدام الكهرباء والكيمياء في بناء الخزانات الباردة، منها الصغير الذي يستخدم في المنازل والمعامل، ومنها الكبير الذي يبلغ القصور حجماً؛ وقد أفادت هذه المبردات التجارة فوائد كبيرة أدت إلى انتشارها انتشاراً واسعاً وعمدوا فيها عمدوا اليه البيض يحتفظون به في تلك الخزانات، ولكن التجربة دلت على أن البيض في اختزانه يفقد الشيء الكثير من جدته رغماً من برودته. ويرجع هذا الى تغيرات فسلجية وبيلجية تحدث طبيعة في داخل البيضة من العسير الشاق إيقافها بالتبريد.

وقد ظهر في دورية (الصناعات اللغذائية) وصف لطريقة جديدة يختزن بمقتضاها البيض

ص: 60

مبرداً ولكن في جو من غاز الكربون أعني ثاني اكسيد الكربون فيخرج بعد أشهر ثمانية صبيحاً لا يمكنك تمييزه من البيض الطازج، وتفصيل ذلك أن البيض المختار يوضع في خزانات مختومة في حجرة لا تزيد حرارتها على الصفر. ثم تفرغ الخزانات من الهواء وتملأ بغاز الكربون حتى يزيد ضغطه قليلاً على الضغط الجوي، وذلك خشية أن يكون في الخزانة ثقب غير منظور فيتسرب اليها منه الهواء. وغير هذا يجعلون على ظاهر الخزانات أنابيب للتبريد تجعل حوائطها أبرد من جوفها ليتكثف بخار الماء داخلها على تلك الحوائط. فلا يسقط على البيض، فأنه ان فعل ذلك اثر على قشر البيض بما يحتويه من غاز الكربون الذائب فخشنه وحببه. ويظهر من هذا الوصف أن النفقة لابد كبيرة، ولكنهم يقولونإن البيض المحفوظ بهذه الطريقة يباع في أشهر القلة بأثمان تزيد على النفقة زيادة مربحة.

كمرة تبلع:

ولكنها بالطبع صغيرة لكي تمر في الحلقوم فالمرئ ثم تستقر في المعدة فتصور ما فيها. وهي على شكل اسطوانه طولها بوصتان وقطر قاعدتها خمسة أثمان بوصة. وتتصل بها انبوبتان أحداهما لتوصيل التيار الكهربائي الى مصباح وامض تحمله الكمرة، والأنبوبة الأخرى لتحمل السلك المتصل بغطاء العدسة يفتحها ويغلقها وهي في جوف الانسان. استخدمت هذه الكمرة في لندن فلقطت 16 صورة من جدران المعدة في 20 ثانية.

وهذا لا شك فتح جديد في تشخيص امراض المعدة، فاننا اذا عجزنا عن نزعها من الجسم كما تنزع اجزاء المكنات لفحصها واصلاحها بعدسة العين فلا أقل من أن نراها وهي في مكانها بعدسة الجماد. ومن عجائب ما تستخدم فيه الكمرات مما يتصل بالطب ما قرأته أخيراً عن مريض في البرازيل أصابه في عينه مرض أعجزّ الأطباء. وكان لابد من تشخيصه عاجلا والا فقد المنكود بصره. وفي وقت غاية في القصر صوروا عيني المريض وأبرقوا بالصور على اسلاك التلغراف الى برلين الى احد الأخصائيين، وما لبث هذا الأخصائي في فحصها وعاد فأبرق الى البرازيل بالداء والدواء وبهذا نجا المريض من ظلام ليل دائم

أحمد زكي

ص: 61

‌الثعبان والانسان

للدكتور حسين فرج زين الدين

دكتوراه في التاريخ الطبيعي من فينا

من رسالة قيمة وضعها في (الحيات المصرية) سننشر بعض فصولها تباعاً

لعل من يزور حدائق الحيوانات بالجيزة لا يستوقف نظره شيء اكثر مما تستوقفه تلك الحيات السجينة في بيوتها الزجاجية، فهي على الرغم من جمال منظرها وما هو معروف من نعومة ملمسها تبعث في النفس شيئاً من الاشمئزاز والكراهية، وعلى الرغم من سجنها والامان من شرها يهتز القلب فزعاً منها، ولعل السر في ذلك تلك الاعتقادات السائدة التي تناقلها الناس جيلاً بعد جيل عن فتكها وخيانتها حتى جاء ذكرها في كثير من تشبيهات الكتاب وخيال الشعراء. كما ورد ذكرها في الكتب السماوية

وقد يكون ذلك راجعاً الى شكلها الطبيعي ووقوفها شاخصة لا تغمض ولا تطرف وحركات السنتها الدائمة السريعة، واعتقاد الناس خطأ أنها أعضاء اللدغ منها فترى أثر الخوف منها شديداً في نفوس الكبار الذين عرفوا شيئاً عنها، ولكن الاطفال الصغار لا يدركون قليلاً ولا كثيراً من امرها، وكذلك صغار القردة قد ترى الافاعي زاحفة فلا تخشى ان تقترب منها وتلمسها وتعلب بها، وقد ايد هذه المشاهدة البحاثة ميتشل في تجارب عدة قام بها، وقد أثبت كل من العالمين & بعد بحثهما في أفاعي الهند والصين انها على ضخامتها تفزغ من الناس، وتفر منهم ولا تحاول ايذاءهم الا محرجة مضطرة للدفاع عن نفسها، غير ان ذلك لم يقلل من اعتقاد الناس بخطرها، وليس هذا عجيباً منهم فانها كانت دائماً موضع اهتمام عظيييم. كثر ذكرها في الكتب السماوية وفي الديانات على اختلافها، وفي الكتب الادبية والعلمية، فهناك حية آدم عليه السلام، وعصا موصى وثعبان كليوبطرة، وترى اسكليبوس إله الطب عند اليونان يحمل عصاً ملتفة عليها أفعى، وابنته هيجياً إلهة الصحة ترى دائماً معها أفعى تقدم اليها الماء، وقد صنع عقداً لألهة مينرفا من صور الأفاعي، وإن رأس ميدوزا إلهة الانتقام معصوب بها؛ وكان قدماء المصريين يعبدون الناشر المصري المعروف، وكان من الخرافات السائدة في الشعب في ذلك العهد، ان هذه الأفاعي الخطرة تختلط بالناس في بيوتهم وتعيش بينهم على العسل والنبيذ لا تمسهم بسوء. . ويروي أنها

ص: 63

ظلت على هذه الولاء للناس حتى كان لأحد التجار طفل فعدا عليه يوماً ثعبان صغير فلدغه فمات؛ ولما عادت أم الثعبان وعلمت بجريرة ابنها قتلته ارضاء لآل الطفل. ومنذ ذلك اليوم هجر الأفاعي البيوت الى الخلاء، وساجلت ابناء آدم العداوة، وأضحت لدغتها قاتلة. ومنذ ذلك اليوم أيضاً جعلت الأفعى رمز القوة، ووضعت على تيجان الملوك القدماء.

وروي بلوتارك المؤرخ الروماني ان قبيلة السلر وهي من القبائل البائدة، كانت في رجالها مناعة طبيعية موروثة ضد سم الحيات، وكانوا يحافظون على طهارة أصلابهم ونقاء دمائهم المحافظة كلها فلا يسمحون لنسائهم أن يتزوجن أو يتصلن أي اتصال برجال من غيرهم، وكانوا يستوثقون من هذه الطهارة بان يطلقوا الحيات السامة على أولادهم حين ولادتهم فان قتلت واحداً منهم تبينوا خيانة أمه.

ومن الحيات المعروفة في الهند ذات النظارة وتسمى الناشر الهندي، وفي الاساطير التي تروي عنها ان الأله بوذا هبط مرة الى الارض على شكل انسان ونام في الهواء فجاءت هذه الحية ونشرت عليه عنوقها فأظلته من الشمس فجزاها على ذلك بان آمنها من شر المخلوقات جميعاً، وبعد حين ذهبت اليه تقتضيه وعده وتشكو اليه الطيور الجوارح واضرارها بها فوهبها تلك النظارة تمتاز بها لدى الطيور فخشاها ولا يصل اليها اذاها.

ومن الروايات الشائعة التي يتناقلها سكان الجمهورية الفضية ان البقرات التي يقل ادرارها تكون قد رضعتها الحيات، بل يعزون ضعف بعض أطفالهم الى أن الحيات تمر ليلاً بأمهاتهم فترضع ثديهن.

ويعتقد الناس أن في الحواة سحراً أو قوة خارقة يسلطونها على االحياة. ففي الهند مثلا يمر الحااوي بالناشر الهندي ومعه عصا ومزمار، فيظل يداعبه باالعصا والحية تعضها، وبعد ان ييكون قد أجهده التعب يرمز له فيهدأ ويسكن فييظن االنااس أن الثعبان لا يلدغ االحاوي خوفاً منه والواقع أنه يكون أفرغ سمه حين عض العصا كماا يحسبون أن للقيثارة أثرا في تهدئته، والحقيقة اانه التعب الذي اضناه.

وكذلك نرى حواتنا في مصر يطوفون بأنواع من الحيات يحملونها عادة في جراب من الجلد ويلعبون بها العاباً مختلفة فيطوقون بها بعض النظارة أو يضعون رؤوسها في أفواههم أو يمزقونها بااسنانهم أو يتركونها تشرب من اناء ثم يشربون منه، ومنهم من

ص: 64

يدرب بعض القردة على اللهو بها وقذفها على الناس ويوهمون العامة ان ذلك راجع الى سر الولاية الرفاعية فيهم، والحقيقة ان بعض هذه الحيات ليس ذات خطر مطلقاً كالدساس الذي يعتقد الناس ظلماً انه اشد انواعها خطراً، وكأنواع الارقام وكبعض الحيات الاخرى الخطرة المنزوعة الانياب، ولا يعرف غير الحاوي سر ذلك.

وقد حدث في المنيا في مايو سنة 1931 ان احد هؤلاء الحوّاة الرفاعية كان ينزع أسنان ناشر فأفلت من يده ولدغه فمات. وحية الناشر محفوظة الى الآن في المستشفى االاميري هناك

اما الطريقة التي يستخدمها هؤلاء الناس في امساك الحيات فانها ترجع اولاً الى الذعر الذي يعتري الحية عندما يفاجئها مفاجئ غريب فانها تقف بغتة بتأثير الحركات العكسية فيها، ثم الى خفة حركة الصياد في القبض على رقبة الحية، وفي تحريك عصاه، والى قوة تأثيره النفسي وشعرو الحية بهذه القوة كقوة التنويم المغناطيسي. والدليل الآتي يؤيد صحة هذه النظرية. وذلك أنه قد تقدم أحد الاشخاص وكان يخاف من الحيات فامسك دساساً فعضه، ثم تقدم آخر لا يخشاها ولا يخاف منها وأمسك الحية، فلم تحرك ساكناً وكلاهما لا يدين بمذهب الرفاعية.

وعلى ذلك لا يجوز أن تعزى قوة الحواة الى شيء من السحر أو الولاية، ولا أدل على ذلك من أن أهالي البرازيل وعمال حديقة الحيات الشهيرة عندهم يمسكون بأنواع الحيات، ومنها ذات الجرس المخيف دون أن يمسهم سوء، وهم ليسوا أتباعاً ولا ينتسبون للرفاعي.

وقد شاءت حكمة الله أن يسلط بعض المخلوقات الحية على بعض حتى لا تزدحم بها الأرض أو يطغى جنس منها على غيره من الأجناس، ولهذا نرى رحى الحرب دائرة بين هذه المخلوقات منذ نشات الدنيا فبينما نرى الطيور الجوارح وغيرها مسلطة على الحيات فلا تكاد تراها حتى تنقض عليها وتمزقها تمزيقاً فلا تحميها منها لدغاتها ولا سمومها، تجد هذه الحياة بدورها مسلطة على الضفادع والسحالي وصغار الطير والثديات، ولا ينجو من شرها الانسان نفسه، فكثيراً ما تعدو عليه وعلى أطفاله وعلى ما يربى من طيور وثديات نافعة كما تفعل الأرقام في مصر والبواء في الهند والبرازيل وهناك الحيات المائية الشرهة التي تفتك بالاسماك، ويكثر فتك أنواع من الحيات بالانسان فان للغريبة والناشر في الهند

ص: 65

وذوات اللاجراس في أمريكا والابتر والناشر في افريقيا لا ينهض بعبء احصائها العادون.

ولكنها الى جانب هذه الاضرار لا تخلو من فائدة، فهي تقضي في الهند على الفيران التي هي من أكبر العوامل في نقل عدوى الطاعون فتقلل بذلك انتشاره وتحمي البيوت والمزارع من هذه الفيران كذلك بخاصة الغيطية منها، وبعض الحيات تأكل الديدان الضارة، وهناك أنواع ضخمة تؤكل لحومها ويصنع من جلودها أجود أنواع الأحذية وحقائب السيدات.

ص: 66

‌العالم المسرحي والسينمائي

(فلم عيون ساحرة)

لناقد (الرسالة) الفني

عرض في الاسبوع الماضي فلم (عيون ساحرة) للسيدة آسيا في دار سينما فؤاد، وبرغم الدعاية الواسعة النطاق التي استمرت أشهراً طويلة قبل عرض الفلم، والضجة التي قامت أخيراً بسبب تعنت قلم المراقبة من أصحاب الفلم، وعدم اجازة بعض مراقفه والسماح بعرضها، على رغم كل هذا لم يلق الفلم من اقبال الجمهور ما ينبئ عن نجاح كبير، وهو ما يؤسف له حقاً أشد الأسف، فان صناعة الافلام المصرية في أشد الحاجة الى التشجيع والمؤازرة ليشتد ساعدها وتمضي في طريقها بخطى ثابتة نحو الرقيي والكمال.

يمتاز هذا الفلم من سابقيه بانه نحا في فكرته وفي اخراجه منحى جديداً لم نألفه بعد في أفلامنا المصرية التي كانت في الأغلب تدور فكرتها حول مواضيع مصرية بعضها عادي لا غناء فيه، وبعضها فيه من المحاولة والجهد ما يدل على رغبة صادقة وفي التجديد والابتكار، وان قعدت الوسائل المحدودة والجهود الشخصية التي لا تقوم على أساس صادق في العلم أو التجربة بأصحاب هذه الافلام عن تحقيق ما يطمعون فيه من التقدم والتجديد.

فكرة الفلم معقدة بعض التعقيد، أو قل أنها كانت من العمق بحيث أصبح من العسير على الجمهور ان يلمسها أو يفهمها للوهلة الاولى، والى هذاعزو انصراف الجمهور عن الاقبال عى مشاهدة هذا الفلم. والواقع ان الفلم لا تنقصه عوامل الاغراء التي تدفع الجمهور عن حضوره فمن مناظر جميلة خلابة، وجو يكنفه غير قليل من الرهبة والغموض، وحيل سينمائية لم يألفها جمهورنا في الافلام المصرية، الى غير ذلك من دواعي الاقبال. ومع هذه كله فالواقع ان الفلم لم يصادف نجاحاً كبيراً. وأرجح ان السبب الاول في هذا هو عدم تفهم الجمهور لفكرة الفلم وعدم تتبعه لها في مشاهده المختلفة.

على ان اصحاب الفلم، على ما أظن، قدروا ان نفس هذه العوامل مع الغموض الذي يسود الفلم والفكرة الغريبة التي يعرضها، هي التي ستدفع الجمهور الى التزاحم على مشاهدته؛ فكانوا في تقديرهم مخطئين. وأمثال هذه كثيير مألوف في عالم السينما في اروبا وامريكا على السواء، وكم من افلام أنفق عليها آلاف الجنيهات واشترك فيها أقطاب السينما من

ص: 67

ممثلين ومخرجين، وقدر لها النجاح، ثم لم تصادف اقبالا من الجماهير فتكبد أصحابها خسائر جسيمة. ولكن ما كان اغنانا نحن في مصر، وما زلنا في خطانا الاولى في هذا الميدان المترامي الاطراف الوعر المسالك، عن ان نجازف منثل هذه المجازفات الخطرة ولما تنضب بعد بين أيدينا المواضيع التي يصح ان نستمد منها مادة لأفلامنا المصرية.

على أن المخرج لم يفلح في خلق الجو الغامض المخيف الذي يسود مثل هذه الافلام، ولذلك كانت مشاهد الفلم - وليست لها تلك الروعة التي تناسب الفكرة - تقابل من الجمهور بكثير من عدم الاكتراث والمبالاة. على أن المحاولة في ذاتها محاولة جريئة مبتكرة - من ناحية الفلم المصري على الاقل - وقد أراد المخرج أن يسير فيها على نمط بعض الافلام الغربية التي من هذا النوع كفلم (فرنكشتين) ولكن لم تسعفه تجاربه وخبرته من الناحية المعنوية، ولا ما تحت يديه من عدد وآلات من الناحية المادية. على أننا نرجو الا تثبط هذه التجربة - وما كانت لها من نتائج تدعو حقا الى اشد الاسف - عزائم السيدة آسيا وتثنيها عن متابعة جهودها، ولعل فلمها القادم يكون أحسن حظاً وأكثر نجاحاً ورواجاً.

ذكرنا أن بالفلم مشاهد رائعة الجمال من تلك الحدائق الغناء والقصور الانيقة والرياش الفاخر مما يعطي لمشاهدي الفلم في الخارج فكرة طيبة عن هذه البلاد، وعن مفاتنها ومغانيها، وينفع في الدعاية لمصر نفعاً لا شك فيه. وقد تقف مميزات الفلم عند هذه الحد فأننا اذا شئنا أن نتحدث عن بعض نواحيه الفنية وجدنا فيها نقصاً كبيراً لعله واضح ملموس حتى لا يخطئه أقل الناس خبرة بمثل هذه الشئون. فالصوت لم يكن حسن الالتقاط ولا دقيقة، والجمل مقطعة تقطيعاً غريباً حتى لتمر الثواني بين الكلمة والكلمة في الجملة الواحدة، وربما اقتضى الموقف ان يلفظها الممثل في تدفق وحرارة، فهذا التقطيع يفسد وقعها ويضيع علىالمشاهد الأثر الذي كان يجب أن تخلفه في نفسه. وصوت الآلات الموسيقية كان أشبه برنين الاواني النحاسية منه بوقع المثاني والمثالث كما يقولون احياناً. . . وكانت (خشخشة) الصوت وما فيه من عيوب واضحة تذكرني بتك الآلة المعلونة (الراديو) التي تزعجني في المنزل اي ازعاج، وقد عدت اليوم شديد الاعجاب بها والرضاء عنها.

كذلك كانت الاضاءة، إلا في بعض المشاهدة الخارجية التي تغني فيها أشعة الشمس

ص: 68

الساطعة عن الآلات التي قد لا تستخدم على الوجه الأكمل.

وللمرة الأولى - على ما أذكر - تغني السيدة آسيا، ولست ممن ينصح لها بالغناء، على الأقل حتى تجد الآلات اللاقطة التي لا تشوه الصوت وتجعله بحيث يصادف وقعاً حسناً في الأذن، وارتياحاً في نفس المتفرج. وعلى كل حال فما أظن ان أفلام السيدة آسيا - مهما أكثرت فيها من المشاهد الغنائية - ستعد في يوم من الأيام من الأفلام الموسيقية، فالخير لها أن تقتصد في هذا أو تعدل عنه بالمرة.

بذل ممثلو الفلم جهداً كبيراً في أداء أدوارهم على أحسن وجه ممكن، على أن الحظ خانهم في كثير من المشاهد، ولم يصادفوا التوفيق الذي كانوا أهلا له، ونلاحظ على أحمد افندي جلال أنه كان كثير التقيد في حركاته، كثير الاضطراب فيها، حتى في المشاهد العادية التي تخرج عن دائرة السحر ووقوعه تحت تأثير دليله. ولو ترك نفسه على سجيتها، وكان في دوره أكثر بساطة وأقل تكلفا لكان خيراً مما رأيناه.

بقى أن نقول ان الحوار في الفلم لم يكتب بشييء من العناية، والنقص فيه واضح جداً. كما أن تقطيع الفلم لم يخل من الارتباك والاضطراب، وما نجد غناء فيي تفصيل كل هذا.

وفي النهاية أظن من االخير ومن التشجيع للسيدة آسيا على مداومة الجهد والعمل، أن نشكر لها ما بذلت وما حاولت، وان نرجو لها في الأفلام القادمة ما تصبو اليه من النجاح والتوفيق. فان أخطأها الحظ اليوم، فما نظنه يخطئها في المرات المقبلة.

ص: 69

‌على مسرح الاوبر الملكية

تعمل على مسرح دار الاوبر الملكية هذه الايام فرقة غنائية فرنسية تضم بعض ممثلي دار (الاوبرا) في باريس (والاوبرا كوميك). وقد جرت التقاليد ان تشغل هذا الفصل من موسم الاوبرا في مصر فرقة ايطالية، وقد حرم الجمهور بذلك من الفن الموسيقي الايطالي على ماله من القدر والقيمة الفنية التي يعرفها عشاق الفن الموسيقي الغربي، واتيحت لنا هذا الموسم فرصة للتمتع بهذه الاوبرات العظيمة التي وضعها كبار الملحنين الفرنسيين.

ومن الاوبرات التي تعرضها هذه الفرقة (تاييس) و (مانون) و (لاكميه) و (كارمن) و (صيادو اللؤلؤ) و (فرتر)(وحياة البوهيميين) و (فاوست) وكلها من أشهر الاوبرات المعروفة، وبعضها مأخوذ من قطع أدبية لها طرافتها ولها قدرها في عالم الادب كفاوست وفرترلجيته، وتاييس لاناتول فرانس، ومانون للأب بريفو

وقد شاهدنا من هذه الاوبرات (تاييس) و (كرمن) و (مانون) ولمسنا عن كثب ما بذله أقطاب هذه الفرقة الغنائية من جهد، ومقدرتهم في اداء الاوبرا روحت عن نفوسنا كثيراً مما نعانيه من الغصص لما يلحق مسرحنا المصري من الركود بل العدم.

على أن من الحق أن نذكر بهذه المناسبة أن مناظر دار الاوبرا وملابسها أصبحت قديمة بالية على ضخامة ميزانية الدار التي لا يخصص منها الا القليل للنواحي النفية الخالصة، وقد كان هذا سبباً في الا تبرز هذه الاوبرات في المستوى الفني الحق الذي يضفي عليها جلالا وروعة، ولهذا يحسن المتفرج كثيراً من النقص، ولا تخرج الرواية بذلك في الثواب الفني اللائق بها، ومن الواجب ان نذكر أن دار الاوبرا لا تستطيع بمعداتها اليوم أن تجاري وسائل التجديد في الفن المسرحي الحديث، ومن الخير الا تكون دارنا الرسمية للفنون في مستوى أقل من الواجب، وفي مرتبة أقل من مثيلاتها من دور الاوبرا في العالم.

ص: 70

‌الحركة المسرحية والسينمائية في الخارج

هوليود

تعد هوليود للسنة الجديدة نرنامجاً حافلاً بروايات من أفلام أكبر الكتاب العالميين المعروفين. وستخرج شركة مترو جلدوين ماير روايتي (النور الذي خفت) و (كيم) لرديارد كبلنج شاعر الامبراطورية البريطانية كما يسمونه.

وستخرج رواية (ما تعرفه المرأة) للكاتب الانجليزي الشهري باري، وتقوم بالدول الأول فيها هيلين هايز. كما تعد رواية (صور من المستقبل) للكاتب المعروف ولن للظهور على الشاشة الفضية، وقد سبق أن أخرجت له روايتي (جزيرة الدكتور مورو) و (الرجل الذي لا يرى). وسيرى رواد السينما رواية (دنيا جديدة عظيمة) من قلم ألدس هكلي الذي يعد من أعظم كتاب العصر الحديث.

وتستعد شركة راديو لاخراج راوياة برناردشو (تلميذ الشيطان) ويقوم بالدور الأول فيها جون باريمور الممثل السينمائي الشهير

وقد قبل هرلاميل لدويج الكاتب المعروف وصاحب التراجم الشهيرة أن تقتبس من كتابه عن نابليون رواية للشاشة الفضية، وسمثل دور نابليون فيها ادوارد روبنسون من أقدر ممثلي شركة وارنر السينمائية. وقد عاد لدويج أخيراً من هوليود وذكر لبعض الصحفيين أن من عزمه أن يضع كتاباً عنها قائلاً: إن للمدن كما للاشخاص شخصياتها الملاءى بالفواجع والمهازل على السواء.

برلين

دعا الهر هتلر زعيم حزب النازي ورئيس الوزارة الالمانية أنى أوندرا الممثلة السينمائية الشهيرة وزوجها ماكس شملنج الملاكم المعروف لتناول الشاي في قصره الخاص بمناسبة مبارحتهما المانيا الى أمريكا.

باريس

ايفون برنتان من أشهر ممثلات المسرح الباريسي وقد دعيت لزيارة لندن لتمثل رواية كتبها خصيصاً من أجلها مستر نويل كوارد الكاتب الانجليزي المعروف ومؤلف رواية

ص: 71

(كفلكاد) الشهيرة. والرواية من نوع الاوبريت وقد عرضت على مسرح (ماجستي) وربما انتهزت بعض الشركات السينمائية في انجلترا فرصة هذه الزيارة وتعاقدت مع الممثلة على الظهور في عدة أفلام غنائية ناطقة.

لندن

ارتفعت الشكاية في لندن من أصحاب المسارح والممثلين ومديري الفرق من الضريبة التي فرضتها الحكومة على المسرح، وعقدت اجتماعات كحثيرة للاحتجاج على هذه الضر يبة واستطاعت سيبل ثورنديك الممثلة الانجليزية الشهيرة بما لها من المكانة والاحترام في جميع الأوساط أن تطلب من بعض أعضاء مجلس العموم البريطاني ممن يعنون بهذه المسائل عقد اجتماع خاص في إحدى غرف المجلس للبحث في هذا الموضوع. وتم الاجتماع خاص في إحدى غرف المجلس للبحث في هذا الموضوع. وتم الاجتماع منذ أمد قريب وحضرته سيبل ثورنديك وباحثت الحاضرين من النواب في أمر هذه الضريبة وقد وعدوها بعرض الأمر على المجلس في القريب العاجل.

قامت شركة جومون الانجليزية للسينما بتجربة هي الاولى من نوعها. والغرض منها تقريب السينما الى العميان وحثهم على مشاهدتها وأعدت الشركة ثلاث حفلات للعميان عرضت فيها فلم (انا كنت جاسوسة) وكانت الحركات السينمائية يتولى اذاعتها علىالحضور احد موظفي الشركة بواسطة ميكروفون خاص دجون أن يحول ذلك بينهم وبين سماع محاورات الفلم وحديث أبطاله. وقد نجحت التجربة وخرج الحضور مسرورين من هذه النتيجة التي قبرب اليهم احدث ما وصلت اليه المدنية الراهنة من وسائل الرفاهية والمتعة.

وبهذه المناسبة نذكر ان بعض المسارح تعد في صفوفها الامامية سماعات خاصة يستطيع بواسطتها الصم أن يسمعوا ما يلقى على المسرح اثناء التمثيل.

نيويورك

عمت البطالة المشتغلين بالمسرح في امريكا كغيرهم من أصحاب المهن والحرف الحرة، واشتدت الأزمة حتى أغلقت كثير من المسارح أبوابها، وأعلنت بعض الاندية الفنية

ص: 72

وجمعيات الهواة أنها على وشك الافلاس ان لم تمد لها الحكومة يد المعونة، وخفضت المسارح مرتبات ممثليها بنسبة كبيرة، وتدفع نقابة الممثلين في نيويورك مرتبات من صندوق التوفير للممثلين العاطلين، وقد بذلت في هذا السبيل في العام الماضي 40. 000 جنيه، وأعدت هذه السنة مطعماً خاصاً لاطعام ثلثمائة من الممثلين العاطلين يتناولون فيه طعام الغداء كل يوم مجاناً.

ص: 73

‌القصص

قصة مصرية

المعلم لوقا. . .

اجتاز الترام الميادين والشوارع، وأخذ ينساب بين الحقول في الطريق إلى الأهرام؛ وكان القمر قد نفض الغيوم عن وجهه، وبدا سافرا يضحك للحقول، ويحنو على النباتات المرتجفة في نسيم الليل، ويناغي الأغصان المشرئبة اليه من أعالي الأشجار، فانبسطت أسارير (المعلم لوقا) سائق المركبة، وفارق العبوس وجهه الهزيل اليابس، وأخرج علبة سعوطه وأدناها من أنفه، ييلتمس الصحو والانتعاش.

لم يكن الرجل في حال حسنة، لأن الليلة باردة قارسة البرد، وهو مسن، ليس في هيكل من اللحم ما يقي عظامه المقرورة، ولو كان معافى لما شكى، لكنه مريض، مبهور الأنفاس من السعال، معصوب الرأس، يحرك عينيه بعناء كأن السعال قد شدهما في محجريهما بخيوط قوية. . . ما كان أحوجه أن يأوى الى فراشه! لكنه آثر أن يشتغل الليلة، ليظفر بيوم راحته في الغد، لأن الغد (عيد الميلاد) وهو يريد أن يبقى في البيت مع زوجته (كتُّورة) وابنته (ياسمينة) يستقبل المهنئين بعودة الأيام، والمتمنين أن يمضي الحول، فاذا بياسمينة أم لطفل جميل.

وإذ ذكر (عم لوقا) فناته ابتسم، ونظر في ساعته يتعجل ميعاد العودة، ثم أرسل بصره في الطريق أمامه، وابتدأ يغرق في تأملاته: كم له من السنين وهو يقف هذه الوقفة؟!. . إنه الآن شيخ! كان فتى عندما ارتدى سترة (المصلحة) للمرة الاولى. كان وجهه ناضراً، وشاربه أسود مفتولا! وكان له حاجبان جميلاً! وكان شعره مرتباً معطراً!. . أما الآن فقد صار يابس الوجه! ظهر الشيب في حاجبيه، وعبثت بجمالهما الأيام! ولم تعد رأسه معطرة مزينة، بل استغنت عن المطر بأرد الصابون؛ ولم يعد للمشط معها شأن، لأن شعرها قد انتحل، ولم تذر الأيام منه غير بقايا مبعثرة متباعدة. . . وندت عن صدره آهة طويلة وهو يغمغهم:(ما أعجب أمر الحياة!!).

واكتابت نفس (لوقا) واشتد عليه صداعه، واستيقظ سعاله، فاضطربت الصور في مخيلته، وانهدت قواه، ولم يعد يملك كل وعيه، وصار يستقبل بذهول هذه الأصوات المنصبة في

ص: 74

أذنيه من ضجيج العجدلات، وصريرا لآلة، وهمهمة الأشجار في أذن الليل. . . فلما وصل التراتم الأهرام تهالك في مقعده، وأغمض عينيه وهو يتحسس بيده جبهته الملتهبة، ويحدث نفسه: لا بأس. سأقضي العيد مع ياسمينة، وارتسمت فوق شفتيه ابتسامة سعيدة، ورقص شاربه الفضي.

حاول لآن ينام ريثما يحين وقت العودة، لكن الالم كان يحتدم في جمجمته، ويتردد في عظامه فيعيده إلى اليقظة. . . وأخيراً آثر أن يفكر، وأن يرسل روحه في ماضيه.

واضطربت مقلتاه خلف جفنيه المقفلين! فقد ذكرلا (آلة القيادة). آلته المحبوبة، التي يحركها فتندفع المركبة، وتشق الطريق وهي تغنى بعجدلاتها فوق القضبان!. . واشتاقت يده أن يلمسها، ويشركها سعادته بالعيد، فمد نحوها يديه، ما أعزها عليه! أليست رفيقة حياته، وعشيرته الدائمة، كزوجته كتورة سواء بسواء!.

وتقلصت ابتسامته عن شفتيه!. ذكر سيئات آلته، وانها لم تكن له مطيعة ولا موانية في بعض الاحيان. وبدت امنام عينيه صور أشلاء مبعثرة، وطربوش فارق جبهة هشمتها العجلات. ودم قان يبلل الحصى ويصبغ القضبان!. . وذهب يستر عينيه بيده المرتجفة النحلية، فقد ذكر موقفه في قفص الاتهام، في محكمة الجنايات، والنائب يحدث المستشارين قائلاً: كان الصبي وأخته في طريقهما إلى المدرسة عندما دهمهما هذا الرجل الشرير المستهين بالارواح من العدل أن ينال أقصى القصاص.

لقد برأته المحكمة. (ومضت عشر سنوات) لكنه يشعر للآن أنه مذنب. وأنه قد ارتكب خطأ ما. وخيل اليه ان الصغيرين ينظران اليه بعيون بريئة عاتبه مملوءة بالألم. وأن أبويهما يجدد ان الحزن في العيد ويذهبان الليلة الى الكنيسة في ثياب سوداء يلتمسان العزاء ويسألان النعيم لولديهما والسلوان لأكبادهما الحرى، فانسابت الدموع من بين جفنيه وبللت وجهه النحيل، وغمغم بصوت حزين (رحماك يا رب)

وارتد فكرة من هذه الجولة في الماضي. وذكر أن (ياسمينة) تنتظره ليشاطرها طعام العيد ورأى مائدة شهيةـ متعددة الالوان عقب أيام الصوم. وما تنالو فيها من طعام غليظ مجهز بالزيت، فسال لعابه. وبدأت اساريره تنبسط. . وبدأ يصفح عن آلته العزيزة وما فعلت طالما مكرت به كتورة واذنبت اليه وسامحها فلا ضير ان سامح آلته المحبوبة.

ص: 75

وأخذ القمر يغالب الغمام ثم احتجب، وأظلمت الدنيا وامتدت ظلمتها الى روح (المعلم لوقا). . عاد فذكر شيخوخته، وان الحياة ستتبرع له بأيام أخرى قليلة إن كانت كريمة. من يدري قد لا يأتي عليه عيد جديداً. . قد تقضى (ياسمينة) العيد الآتي وحدها، وتشتمل بثوب أسود، وترسل أثوابها الزاهية الملونة الى المصبغة: ويطفئ الحزن لمعان عينيها، ويذهب ببهجة قلبها، وتصير ابنة يتيمة منكرة!. .

نشر يديه في الهواء كأنه يحاول ان يحميها، ثم سقطت يداه فوق ركبتيه، وانتابته رعدة، وأخذ السعال يصخب في صدره. ففتح عينيه وأخذ يحدق في الظلام وقديمم وجهه شطر الصحراء ورأس نفسه يرتقي الاهرام كما كان يفعل ايام الشباب! وخلال انه جالس على القمة يستعرض الحياة من هناك، ويرسل بصره من مكانه العتيد في القفر البعيد الممتد!. . هو واحد من هذه الهوام الزاحفة على ظهر الارض يسحقها الموت بقدمه وهي تسعى، فتضير نسياً منسياً كهذه الحشرة التي يدوسها عابر السبيل!.

وبدت له الحياة متعبة ثقيلة لا خير فيها. . . ما اشبه برجل سائر على الرمال، تائه ضال، يسير نحو مصير مجهول تضربه الشمس، ويقرسه البرد، وتروعه وحوش الفلاة. . . يسير ويسير، وهو ينشد الواحة. ويحتمل الصعاب والمشاق على أمل أن يستريح عليها راحة الأبد، ولا يعود يخشى عرياً ولا جوعاً. . .

ماذا كسب من حياته!. . لا شيء. عمل، وعرق، وخبر. . . ليست هناك مسرات. ولد وتألم، سيموت. لم يبق غير المرحلة الاخيرة. . .

وحدق في الآلة التي امامه، وهي جالسة صامتة، تنتظر يده لتدور، وتفنى الوقت في الدمدمة. لم تعد جميلة في عينيه! ود لو يحطمها! رأى نفسه عبدا لها مربوطا بها يطوف واياها حول المدينة كما تطوف البقرة الذلول حول الساقية كل النهار. أي فرق بينهما!. . بل انه اسوأ منها حالاً! هي تعمل لقاء حفنة من الشعير، وهو يعمل لقاء أجر لا ينيله بين الناس الترف الذي نالته بين البهائم. . .

ماذا أصاب من حياته!. . تنبهت روحه، وأحس كأنه قد حمل على كتفه من ركبوا معه طيلة مدة خدمته. ذكر مركبة الدرجة الأولى التي تكون الى ظهره اذ يقود الترام. وذكر المترفين الذين يصعدون اليها. ناس من طينة غير طينته. ليسو قوما مملقين متعبين مثله

ص: 76

أيديهم ملساء ناعمة لم يجر عليها العمل الشاق. وجباهم منبسطة مطمئنة لم يبللها عرق الكفاح، وليس على وجوهم ثوب الذل الذي نسجه على وجه الضنك والزمان اللئيم. . ذكر كبرياء بعض السادة وعجرفة بعض السيدات. وخشيتهن على أثوابهن الجميلة أن تمسها سترته الخشنة أو يداه الشقيتان.

ذكر كم منهم ومنهن يندفعون الى باب المركبة وهو يهم بالمسير فتكاد أقدامهم تزل، فيقتحمونه بأبصارهم وتزدحم أفواههم بكلمات الازدراء والتحقير، ويصعقونه بأبصارهم الآلهة وهم يصرخون (يا اعمى) بينما يقيدون (نمرته) في مذكراتهم ذات الجلد الجميل المزركش، ليبلغوا شكواهم الى الشركة، حتى تجزيه بخصم بضعة أيام من راتبه!. . كم من الأيام عمل بلا اجر، بفضل هذا العنف من الناس! كم غضب ويئس وطاش حلمه. ورد لو يقتاد المركبات الى النيل لينتقم ويستريح. . عاد الى حلق المعلم لوقا طعم المرارة الذي يغص به المضطهد والمظلوم. وامتدت انامله المرتجفة الى القطعة النحاسيةالمعلقة بياقته. وقد نقشت عليها (نمرته) فأحسن كأنه مسجون محكوم عليه بالعمل الشاق مدى الحياة، وغمغم. (يا رب رحماك!. .)

ونظر في ساعته. . . بعد قليل سيعود الى القاهرة. سيجمع في طريقه الخارجين من المسارح والصالات. عشاق مسرات الليل زبائنه الدائمين، وشر الراكبين. رحم الله ايام الماضي! لم يكن الناس قد تعلموا الافراط في السهر، فلم يكن الطريق يزدحم عندما ينشطر الليل. وكان يسوق بسرور واطمئنان لا يخشى شيئاً، لأن الطريق خال والناس في مضاجعهم يستقبلون احلام الفجر. . أما الآن فيجب ان يجلو أعصابه ويشحذ حواسه، ويلزم جانب الحيطة والحذر، لأن الحانات بدأت ترفض المتهالكين على الشراب، وتطرد النائمين فوق الموائد. وهم الآن مبعثرون في الطريق يترنحون وقد يحلو لبعضهم أن يداعب السائق، أو يغني وهو جالس بين القضبان!.

وقد بدأت الصالات والمراقص تلفظ روادها. دور الدعارة تتقيأ من ابتلعتهم أول الليل. والفتيات خارجات من دور السينما في رفقة الفتيان! في ذراع كل فتاة شاب! والذراع حار! لا تحلو لهم إلا حفلات الليل! تنهد (المعلم لوقا) وهو يفكر ويحدث نفسه: رحم الله ايام زمان! أيتغير الناس هكذا! أين جيل (كتورة) وعهد الحرائر! أين الثياب الفضفاضة! أين

ص: 77

البرقع الابيض. واليشمك، والحبرة! ذهبت الحشمة وولى الوقار الادبار من (بر مصر)!. . ولم يعد النساء يعنين بصيانة أجسامهن من عبث الناظرين لا يرى فقدت هيبتها وأصبحت وسيلة بنات البلد لهز الاارداف!. .

ومض السخط في عيني (المعلم لوقا) وحوقل وهو يعيد في ذهنه صورة هؤلاء الفتيان الذين وقفوا بجانبه بالأمس بعد منتصف الليل. كانت رائحة الخمر تنبعث من أفواههم، والكلمات البذيئة تتكاثر عند شفاههم كما يتكاثر الذباب عند الأقذار. كانوا يتهامسون متهكمين بطربوشه الباهت الملوث، وكيف اسودات حافته. . . وأخذ يجذب شعرات شاربه بعنف وأنامل متوترة!. .

واتسعت حدقتاه فجأة!. . صور عنيفة كانت تخطر أمام عينيه! ذكر أنداد هؤلاء الغلمان من أربعة عشر عاماً خلت. . كانوا رجالا بأرواحهم فتياناً بأجسادهم. لأن الزمان كان يخلق في الفتيان جهد الرجال. كانت الأرواح كاملة النمو تامة النشاط. لم يكونوا يتحدثون عندما يقفون خلفه عن الفتيات والموادات، لأن حديثاً آخر كان يشغلهم. ولم تكن تنبعث من أفواههم رائحة الخمر بل قد كانت تقبل الى قفاه اذ يتناقشون أنفاس حارة، نرسلها صدور ألهبها الشوق للحرية. لم يكونوا ضاحكين ساخرين، بل قد كانوا أغلب الوقت حزانى واجمين، ينظرون في صحف الليل فيصمتون ويطيلون الصمت، وهم يحدقون في أعمدة الصحيفة بيضاء لا كتابه فيها، لأن يداً تحب مصر تبعثر الحروف المصفوقة حتى لا تستيقظ الأرواح لكن الأرواح يقظي متنبه، تقرأ الحديث، وتعلم الخطب وإن لم يكن كتوباً!. .

لم يكونوا يتهكمون به، بل قد كانوا يحدثونه عن مصر الفتاة، والمستقبل، والأيام الآتية!. . ويناشدونه ان يلبي داعي الوطن يوم يطلب الوطن المضني دماء بنيه يجدد بها الحياة.

وازدحمت أمام عيني (المعلم لوقا) الصور المجيدة. وبكى كأن العام 19، والتلاميذ عائدون من مدارسهم يملأون الترام ويكونون مواكب جميلة متنقلة هاتفة للحرية! وهو القائد لهذه المواكب لانه السائق، قائد فخور تياه، لا يزعجه رفيف الرصاص، تطلقه أيد أثيمة. مشتاقة لابادة الارواح. دائبة على صراع الأحرار. وتمثل في ذهنه صورة الفتيان وهم يسقطون مجندلين يهزون الأعلام في أيديهم وهم يتخبطون في دمائهم. وذكر كيف غلى الدم في

ص: 78

عروقه فقفظ من الترام وتلقى العلم عن أحد الشهداء وذهب يعدو في الطرقات يزأر بأن الحياة لمصر والنيل لبنيه!. . وأحسن بدم البطولة يعود فيجري في عروقه، ويجدد في صدره الحياة، فشمخ بأنفه، وصعر خده، وابتسم ابتسامة استحمت في الدمع المتهاطل من عينيه، ودس يده في جيبه يلتمس علبة سعوطه وأفرغ ما فيها في أنفه وهو يغمغم! (ياما شافت العين يا لوقا. .)

وكأن صدره لم ييحتمل هذا الأنفعال فاستيقظ سعاله، وأخذ يعبث بانفاسه في غير رحمة ولا هوادة، حتى اغرورقت عيناه وانصدع جنباه. هي نزلة شعبية مزمنة مضت سنين وهو يتطبب، وينفق في الادوية نصف اجره الضئيل على غير جدوى. ولم تكن النوبات بادئ الأمر حادة هكذا ولكن مهنته هي التي قضت عليه استقبال هواء امشير البارد وهواء بؤونه الناري هو ما أحدث هذه التهيجات بصدره واتلف رئتيه. . كم هم بترك العمل، ثم كان يذكر حاجة عياله للقوت. فيعود وهو ناقم. يعود لخدمة سيد يرى أرواح خدامه أرخص من أن تفتدى بالواح من الزجاج تقيهم تغيرات الجو! ليس أمامه الا ان يخضع، ويحتمل، ويدفع ثمن قوته من حياته، وينفق سلفا أيامه الآتية ليتقي غوائل الجوع في الغد القريب!. .

ولم تتركه غلته ليفكر، وبدأ يسعل من جديد. . وتنهد. . لو كان له أولاد لكان الآن في دفء الفراش. رجل سيء البلخت. دفنهم بيده اربعة. غيبهم التراب وهم في سن الشباب ليتهم ماتوا صغارا كاخواتهم الآخرين قبل ان تتعلق روحه بهم ويحبهم حبا مفرطا كانت يد المنون تقصفهم كما تقصف الريح السنابل وقد بدأت تمتلئ بالقمح. .

واشتد البرد، وازداد الليل حلكة، وساد الارجاء صمت عميق، وأخذ الرجل ينتفض، خيل إليه أن أولاده الأربعة يحيوطون به، جالسين في اكفنمهم لا تبين منهم غير وجوهم الشاحبة، وانهم يعتبون عليه اهماله في علاجهم، وعدم مواظبته في السهر عليهم في مرضهم، وأمضه هذا الخاطر وأقلق روحه، وذهب الشك الماكر يعذبه، وذهب الوهم يصور له انهم يحتضرون الساعة بين يديه، وانه يسبل أجفاههم، ويطبع على جباههم القبلة الاخيرة.

كان يحسب أن الجراح قد اندملت، وأن يد النسيان قد مسحت الاحزان عن صدره، فاذا بالذكرى تمزق هذه الغشاوة الرقيقة التي نسجها الزمان وإذا بالجراح تتفتح، وإذا به يحسن

ص: 79

ان بين جنبيه كبداً قد اخترمها الأسى، فلم يبق منها غير قطعة كالاسفنج راوية من قيح الحزن وصديده.

ووضع يده على جنبه يلم بها حشاه الممزق، وأخذ يبكي. . يبكي؟!. كيف! لم يكن يبكهم وقد كان الحزن جديداً، لأنه كان وقتذاك رجلا قوياً. وكان يزعم أن البكاء للاطفال والاحتمال للرجال، لأن الرجل كفؤ لحمل اثقال الهموم. بل قد كان ينكر على زوجته أن تعول ونتحب، ويطلب منها أن تكون امرأة صبوراً قوية، وكم اختطف حزام من وسطه وانهال عليها بالضرب الموجع - لترأفبنفسها! فما باله الآن يبكي وقد صار شيخاً؟! ان الاطفال اضراب للشيوخ في الابانة عن عواطفهم!.

وأهمته هذه الفكرة، وأزعجه أنه صار ضعيفاً يضطهده الحزن فلا يستطيع حبس دمعه، وكتم أنينه وحدث نفسه:(والله طيب يا زمان! بقيت عيل يا لوقا! فين عزم الرجال!. .)

وصعب عليه الامر فاستخرط في البكاء وأخذ ينشج نشيجاً عالياً. وإذ هو في بكائه فاجأته نوبة السعال، وكانت هذه المرة قوية مجتاحة متلفة. . وأحس (المعلم لوقا) كأن روحه تتسرب من بين جنبيه. وكان أعضاؤه ترتجف وتتشنج، وأنفاسه تختلج في صدره اختلاجاً قوياً. ثم أخذت حركته تهدأ، ورعدته تسكن، وأنفاسه تعود الى الخمود.

وشعر (لوقا) في تلك الآونة بشوق شديد لياسمينة، وخيل له أنها مقبلة اليه فابتسم، ومد نحوها يديه، ثم سقطت يداه الى جانبه، ومال عنقه الى كتفه. .

وأزف وقت العودة، وذهب (الكمساري) يتفقد صاحبه، وهمس في أذنه: لوقا. كل عام وأنت طيب. الدنيا برد. سوق بسرعة هلكنا. يتوب علينا!. .

كان لوقا فاتحا عينيه يحدق في الفضاء، لكنه لم يجب رفيقه، فاغتاظ، وظنه لا يحفل بحديثه فلكزه واذا به يتداعى بين يديه. .

وظهر له ما خفى من أمر زميله، وحدق في عينيه فلعم أن (المعلم لوقا) قد أنتهى أمره مع الحياة فاسبل جفنيه. ومزق السكون صوت ينادي: (لا حول ولا قوة الا بالله. . . انا لله وانا اليه راجعون!. .

كانت (كتورة) تغط في النوم، وكانت الأبنة جالسة في ثوب العيد تنتظر أباها وقد لعب القلق بفؤادها، فلما قرع الباب تهلل، وجهها وهتفت وهي تضع يدها على المزلاج: (ابي،

ص: 80

كل عام، وانت بخير).

ولم يجب أبوها، لأنه كان نائماً على كتف رفيقه. وكان يبدو على وجهه ان نعاسة عميق، وانه لن يستيقظ سريعاً، وحدق ياسمينة في وجهه لعله يلين ويستيقظ، فلم تظفر بغير تلك الابتسامة الواضحة على شفتيه، كان كان سعيداً، موفور السرور بالوصول (الى الراحة)

يوسف جوُهر عطية

ص: 81

‌الكتب

2 -

أهل الكهف

قصة مسرحية للاستاذ توفيق الحكيم

بحث وتحليل ونقد بقلم الأديب عبد الرحمن صدقي

ألوان التفكير:

لا نقصد الى استقصاء ألوان التفكير في الرواية. فالتفكير العميق المنساب في غير للجب ولا عنف هو من أظهر مميزاتها. وقلما تخلو منه صفحة من صفحاتها. والقارئ المطلع على الادب العالي في الأمم الراقية يألف هذه الأفكار، ولا يجد هذه المناحى من التفكير غريبة عنه. وانما براعة هذا المؤلف المسرحي حق براعته في أنه لا يشعرك بأن له فكرة، أو انه يفكر ويتفلسف. وانما هي وقائع الحال ناطقة، وهذا الذي تسمعه هو ما يجري على لسان الحال، وتنطلق به كل نفس على سجيتها في مثل هذه الملابسات

فالرواية فلها فكرة عامة خرج بها المؤلف من بعث هؤلاء الذين بعثوا. وفيها تشاؤم متغلغل خفي نكتفي بالتنويه به تاركين للقراء اكتناهه.

كما أن كل فصل من الفصول الأربعة يكاد يكون له فكرة خاصة يدور على محورها. فهو يعرض في الفصل الاول للأيمان وصنوفه: فثمة ايمان الراعي الموروث في رسوخه وبساطته من غير تحليل ولا تعليل، فهو ايمان التسليم الخاشع والعاطفة الجميلة الساذجة. فاسمع اليه يروي يوم أن ذهب الى المدينة في بعض شأنه، فلمح خارج أسوارها راهباً يتكلم في جميع صغير بين خرائب قديمة تخفيهم عن الأعين؛ فاقترب وأصغى اليه، فاذا به كأنما انقلب إنساناً آخر. فلما سأله صاحباه في الكهف عما كان يقوله الراهب؛ قال: (لست أذكر شيئاً مما قال، لكني لن انسى ما شعرت به إذ ذاك، إحساس لم يعترني في حياتي من قبل إلا مرن إذ كنت أهبط الجبل ساعة غروب، فأشرقت على منظر بالخلاء لم ار اجمل منه، فلبثت ليلتي أفكر وأستذكر أين رأيت هذه الصورة من قبل؟ أفي االطفولة؟ أفي الاحلام؟ أم قبل أن أولد؟. إن هذا الجمال على غرابته ليس مجهولا مني. وقمت في الفجر فذكرت صورة البارحة، وفجأة برقت في رأسي فكرة: هذا الجمال كان موجوداً دائماً منذ

ص: 82

الازل، منذ وجدت الخليقة. هذا الاحساس بعينه هو ماشعرت به وأنا أصغي الى الراهب. إن كلامه الذي أسمعه لاول مرة ليس مع ذلك جديداً عندي. أين سمعته ومتى؟ أفي الطفولة؟ أفي الحلم؟ أقبل أن ولدت؟ وتولدت في نفسي عقيدة أن هذا الكلام هو الحق، إذ لا أتصور بدء الوجود بدونه ولا انتهاءه بدونه. . .)

أما المستشاران فهما بطبيعة تعليمهما وحداثة عهدهما بالعقيدة يؤمنان ايمان العقل والمنطق. بلا شأن لله فيما وقعا فيه بل هما اللذان أوقعا نفسيهما في التهلكة. وهما يفكران في أمرّهما أكثر من تفكيرهما في الله. واذا صليا له فلكي يسألانه الخير - هذا لامرأته وولده وذلك لحبيبته. والحب يبتلع كل شيء حتى الايمان لانه ايمان أقوى من كل ايمان. وما دام الله قد خلق للناس قلوبا فقد نزل عن بعض حقه عليهم. . . واذا هما قابلا بين ايمانهما هذا وايمان الراعي قدرا في تحليل وتعليل أن صاحبهما خلى، فما يضيره أن يمنح قلبه كله لله أو للشيطان

ثم ايمان المرأة، فقد كان حسب ابنة الملك أن تسمع الفتى الذي تحبه يقول لها وهي في ثياب بيضاء تخطر في بهو الأعمدة في هدأة الليل وسكون القصر (إنك ملك من ملائكة السماء) وأن تعلم منه ان هذا في المسيحية اسم لمخلوقات أسمى وألطف من مخلوقات الارض، حتى رضيت نفسها عن المسيحية وارتاحت لها بحافز ما في الاحياء عامة وفي المرأة خاصة من الانانية الكامنة.

ويأتي الفصل الثاني فتراه يعالج في مطلعه طبيعة المرأة. فهي أبداً امرأة، قديسة كانت أو غير قديسة، ملكة أو من بنات السوقة فاذا قيل ارتباط بعهد مقدس لم يخطر لها انه مع الله بل حسبته مع من يختاره قلبها. فقلب المرأة يتسع دائماً لله وغير الله. ولعل اللقديسة كانت تفضل أن تكون امرأة لو أنها استطاعت.

والفصل الثالث عن الزمن. فالمؤلف يشعرك بأنه لا حقيقة المزمن خارج شعورنا وأنه على قدر تطور شعورنا تكون حركة الزمن. فكل واحد من أهل الكهف لم يشعر بشقة الزمن الذي غبر حتى أحس بالشقة السحيقة بينه وبين من حواليه في الشعور. والذي أطال وهم أصغر فتية الكهف أنه التقى بمن تشبه حبيبته، وتكاد تكون مثالا لتقمص روحها، فلم يصدق دورة الزمن حتى حدث له ما حدث. ثم اسمع لقائل منهم يقول: (حياة جيدة! إن

ص: 83

مجرد الحياة لا قيمة لها. ان الحياة المطلقة المجردة عن كل ماض وعن كل صلة وعن كل سبب لهي أقل من العدم بل ليس هناك قط عدم. ما العدم إلا حياة مطلقة)

والفصل الأخير يعرض لحيرة العقل في الحد بين الوهم والحقيقة، وما يعترض المعرفة الصحيحة من عقبات لقيام العواطف االداخلية والمؤثرات الخارجية، وكيف اختلاط الحقيقة بالوهم بحيث يرفع الخيال عالم الواقع ويجمل الحلم عالم اليقظة، كما يفعل الفني بمادته من الحياة فيسبغ عليها من عبقريته معنىً فنياً من جمال أو فظاعة لم يكن لها.

أسلوب التأليف

المؤلف خبير بالقصة المسرحية، وما يدخل هذه الصناعة من التفنن والاحتيال. فلم يغفل عن شيء فيه تقويه العمل والحركة في روايته. وقد بث في اثناء كل فصل من فصولها المفاجأة بعد المفاجأة فكلما استقرت حواسك وألفت من القصة مسلكاً، ابتدهك بما يجدد اهتمامك ويفززك، فلا يدركك فتور ولا ركدة. والعجب أنك على عرفانك بوقائع القصة المروية فأنه يسوقها في نظام يجعل شعورك بها جديداً، ولا يسردها سرداً في نفس واحد، بل يفرط عقدها حبة حبة بين حين وآخر في ظرفها الملائم وموقعها المناسب، فاذا كل واقعة تفعل في نفسك كأنه اول عهد لك بها. كما أنه لا يفتأ يستغل كل جزء منها في أصغر تفاصيله ويستنبطه حتى أخر قطرة فلا يتركه بعده الامصاصة جافة. ومؤلفنا من طبيعة ذهنه الاستطراد والتنقل من فكرة ومن أحساس الى إحساسن تتداعى جميعها في سبحات حالمة دون ان يكون سياقها منبتاً وعراهاً متفككة ومن ديدنه أحياناً تكرار الجمل وترديد الخواطر في مواضع تشعرك بتعلق القوم بأمل ضعيف واه يعيدون فيه ويستأنفونه محاولين بهذا إقناع أنفسهم. ثم ان عنده مقدرة بارزة الأثر في تعقيد المواقف وخلق سوء التفاهم بحيث يتكلم كل فريق ويتصرف بما يفهمه اللآخر على غير الوجه المقصود وإن كان يحتمله منطوقه. وله هنا وهناك فكاهة دقيقة تجمع في بعض الاحايين بين الفكه والفاجع ويتجاور فيها الدمع والابتسام.

وعبارة الكاتب فيها قصد وايجاز تغنى بالاشارة عن الافاضة وتنطوي على ايحاء يفتح للقارئ نوافذ وكواء على آفاق وأجواء. وفيه شاعريه غنية تمده بالجميل قالباً ودلالة. فيقول مثلا عن أساطير الأمم أنها ضمير الشعب. ويقل على لسان أحد فتية الكهف وقد برم

ص: 84

بالحياة في هذا الوسط الجديد (إلى الكهف، الكهف كل ما نعرف من مقر في هذا الوجود، الكهف هو الحلقة التي تصلنا بعالمنا المفقود) وعلى لسان آخر منهم (أننا أشباح لسنا ملك الزمن. إنما نحن ملك التاريخ. وقد هربنا منه. فالتاريخ ينتقم).

كذلك قصة أورشيما فهي في ذاتها جميلة رائعهة ويزيد في روعة جمالها موضعها من قصة أهل الكهف لما بينهما من مقابلة، ولو أنه يخشى ألا يكون للرومان والمسيحيين الأوائل علم بأساطير اليابان في عزلتها العتيدة.

وإلى هذا ملكة في التصوير ملحوظة. وأبرع مثال عليها وصف الراعي لاحساسه بالغربة في هذه البيئة المستحدثة:

(آه لو تعلمان ما رأيت الآن في شارع بطرسوس، إن كانت هذه بعد مدينة طرسوس (لو رأيتماني وقد أحاطت بي ناس في ثياب غريبة وعلى وجوههم ملامح غريبة. وأينما سرت فهم في إثري بنظراتهم المستطلعة الحذرة. وكأنهم يتفحصون امري تفحص من يحسبني من عالم الجن. لا أستطيع مخاطبة أحد منهم، وإن فعلت فلا أحسبني اجد مجيباً بل نظرت صامتة مفزوعة. . . بل إني سمعت اثناء هذا نباحاً خافتاً مخنوقاً، فأنتبهت فألفيت كلبي قطميراً كذلك قد أحاطت به كلاب المدينة، وطفقت ترمقه وتشمه كأنه حيوان عجيب. وهو يحاول الخلاص من خناقها ولا يجد الى ذلك سبيلا وجرى المسكين أخيراً الى جدار قريب ووقع تحته اعياء ورعباً، والكلاب في أثره، حتى وقفت منه على قيد خطوة. تعيد النظر اليه، ويريد بعضها الدنو منهه لمعاودة شمه فيقصيها الحذر. . هذا أنا، وهذا كلبي قمطير في هذه الحياة الجديدة.

وله أيضاً زكانة لأدراك العواطف المركبة وتحليلها، كاستمتاع برييسكا بعنف فتى الكهف في كلامه معها يحسب أنها وحنثت بعهده، فهي وإن صدمها عنف هذا الخطاب الا أنه يشعرها بأنها محبوبة - ولو وهما، يشعرها بعاطفة الحب التي تعيش كل امرأة في انتظارها

كذلك له توفيقات عجيبة نذكر منها على قبي المثل أنه يجعل الراعي أول من استيقظ من أهل الكهف كعادة الرعاة في التبكير ويتلوه مرنوش لأنه أكبر الصاحبين سنا والمرء يقل نومه كلما تقدم به العمر، وأخيراً مشلينيا لأنه فتى والفتيان نومهم عميق. وتجتزئ لضيق

ص: 85

المقام بهذا المثل. ولا نحسب أن المؤلف حسب لكل هذه التوفيقات حساابها الدقيق ودبر لها التدابير. ولكنها - فيما نعلمه عن المؤلف - الهام ذوقه الفني. وان هذا الذوق الفني العميق الشعور هو فيما يكتب هايه ومسدد خطاه

الختام

فقصة الكهف قد استوفاها مؤلفها الشاب من ناحية التأليف المسرحي ورسم الشخصيات وعمق التفكير وجمال الحوار. ولا شك أن القارئ لا يفرغ منها حتى يقول: هذا الفتى فنان حتى أطرقاف أنامله.

ص: 86