الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 330
- بتاريخ: 30 - 10 - 1939
وزارة الشؤون الاجتماعية
الجهل. . .
- 1 -
ذلك هو العنوان الأول من العناوين الثلاثة التي اقترحنا في العدد الماضي من الرسالة أن يتألف منها الدستور الإصلاحي لوزارة الشؤون الاجتماعية، وهي الجهل والفقر والمرض.
والجهل كما يظهر لأدنى نظر هو علة العلل في اضطراب الأسرة، وانحطاط البيئة، وفساد المجتمع، وأفن الرأي العام. فإذا وقفت هذه الوزارة بالفعل إلى أن تمحو الأمية وتنسخ الجهالة فقد تيسر لها أن تقول فتفهم، وتكتب فتقرأ، وتشير فتتبع؛ وإذن يخفف عنها عبء الإصلاح باعتماد كل امرئ على نفسه في تدبير عيشه من طريق الكفاية فلا يكون فقر، وفي علاج بدنه من طريق الوقاية فلا يكون مرض، وفي تهذيب خلقه من طريق الدراية فلا يكون شر. ذلك إلى أن الشعب متى أدرك القدر المشترك من المعرفة قوى عقله فيعمل عمله بروية، ونضج رأيه فينتخب نائبه بحرية؛ وبروية العزيمة تثمر فروع الإنتاج، وبحرية الرأي تثبت أصول الديمقراطية
ولكن كيف نكلف وزارة الشؤون الاجتماعية أن تساهم في نشر المعرفة وهناك على مدى قريب منها وزارة المعارف بميزانيتها الضخمة وجامعتها الفخمة ومدارسها المختلفة الدرجات والغايات، ورجالها المتعددي الألقاب والشهادات؟ فهل يسوغ في العقل أن تترك هذه الوزارة الغنية الفنية في مصر بعد قرن ونيف من لا يعرف حروف الهجاء، ولا يدري أفي الأموات هو أم في الأحياء؟
الواقع الذي يحار في تعليله الذهن الفلسفي أن التعليم الحكومي والأهلي، والديني والمدني، والوطني والأجنبي، لم يستطع أن ينفي الأمية في مصر - وهي ملتقى بحرين ومجتمع ثلاث قارات - إلا عن 25 ? من الذكور و8 ? من الإناث. ونفي الأمية لا يثبت العلم؛ ولكني أسلم بأن هؤلاء تميزوا عن نظرائهم أولئك بإدراك الحياة الإنسانية على نحو معقول. فإلى من نكيل تعليم البقية وهي سواد الأمة وعماد الدولة وعدة الإنتاج؟ إن تثقيف وزارة المعارف لا يشمل كل الصغار لأن قانون التعليم الإجباري لم يشرع، ولا يقبل كل الكبار لأن قانون التربية لا يجيز؛ فلا يبقى إذن للذين افلتوا من القيد أو شبوا عن الطوق إلا
وزارة الشؤون الاجتماعية؛ فهي وحدها التي تستطيع أن تعلم الزراع والصناع والعمال والخدام والباعة من كل سن وفي كل مكان وعلى أي حالة
أما كيف يتهيأ لوزارتنا الجديدة بلوغ هذه الخطة فسبيله القصد إنشاء المدارس الشعبية الليلية في معاهد المدن ومساجد القرى، وحشد العامة إليها عن طريق الإغراء المادي والإكراه غير المباشر، كأن يفرض للمنتهين والمتفوقين جوائز مالية، وأن يشرط على طلاب الرخص للسعي أو للخدمة أن يلموا بالقراءة والكتابة؛ ولسنا بصدد التفصيل فذلك عمل له وقته وله أهله
هذه المعاهد الليلية المبثوثة في أرجاء الوادي وأعطافه وأريافه ستكون - فضلاً عن عملها الثقافي - أداة مضمونة لنشر الإصلاح الاجتماعي في جهاته المتشعبة وغاياته المتعددة، فإن الوزارة تستطيع أن تجعل من كل فرد يتعلم فيها بوقاً رافعاً لأصوات وعاظها ومرشديها الذين يساعدون بالمحاضرة فيها على تقوية المدارك وتهذيب العادات وتنظيم العيشة وتدبير الصحة. وسيكون كل معهد من هذه المعاهد الشعبية وحدة اجتماعية يتفرق عنها الضوء والحرارة في كل بيئة وفي كل أسرة فإذا قامت الوزارة بذلك ثم حملت وزارة الدفاع على أن تعلم الجيش المرابط والجيش العامل فقد ظفرنا بقتل الأمية في قليل من الزمن بيسير من النفقة. وإذا قتلنا الأمية فقد أحيينا في الشعب خمود الحس وموات الضمير ومعنى الواجب
ستقول الوزارة من أين لي المال وقد ولدتني الضرورة لأعيش على ما طفح من رجال الدواوين وما فضل من مال الوزارات؟ وجوابنا أن الوزارة التي لا تقوم على المال، لا تنتج غير الأقوال. وربما كان ذلك علة ما نرى من نزوع هذه الوزارة في سياستها الإصلاحية إلى الوسائل الكلامية حتى حدثتها نفسها أن تنشئ لها مجلة خاصة بها تملأها بالمقالات والمناقشات والقصائد والحكم والأمثال لتكون كمجلة (التعاون) و (زميل الفلاح) و (المجلة الزراعية) و (الصناعة والتجارة) آلة شرهة لاستهلاك الورق والحبر في غير رحمة ولا جدوى!
يا معالي الوزير، إن فن الإنشاء مستقيم فلا يحتاج إلى إصلاح، وإن سيل الكلام دافق فلا يفتقر إلى رفد، وإن ميادين العاصمة مكتظة بالمجلات فلا تتسع إلى زيادة، وإن ما عندكم
من مذخور البلاغة لا يختلف عما عند الناس. فلماذا نؤثر النظر على العمل ونبذر الجهد والمال والوقت في استثمار الصفصاف واستيلاد العقيم؟
إن الذين يستطيعون أن يقرءوا المجلة العتيدة هم بثقافتهم مستغنون عنها، والذين يهمكم أن يقرءوها لا يستطيعون لأميتهم أن يستفيدوا منها. فأعدوا القارئ قبل أن تعدو المجلة؛ وإعداد القارئ هو الميدان الأول لجهاد الوزارة؛ فإذا انتصرت فيه فقد ضمنت النصر المؤزر في سائر الميادين.
على أن تثقيف الشعب من طريق التعليم في هذه المدارس الشعبية لا يكلف الحكومة أكثر مما تكلفها الفرقة القومية أو مجمع فؤاد للغة العربية، والخير الذي تصيبه الأمة من وراء هذه الكتاتيب المتواضعة لا يجوز أن يوازن به عمل لا يزال صلاحه في ذاته أمراً مشكوكاً فيه!
هذا بعض ما يدخل تحت عنوان (الجهل) أجملناه في هذه الأسطر لتمضي الوزارة في سبيل التفكير فيه، وفي ظننا أنها ستجد في طوايا بحثه أبواباً للعمل وسبلاً للإصلاح تغنيها عن المشروعات المبتسرة التي تلقفها من المجالس، والموضوعات المرتجلة التي تأخذها عن الصحف
احمد حسن الزيات
جناية احمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
- 20 -
من كلام الحكماء: (نعوذ بالله من الحديث المعاد)
وإنما استعاذ الحكماء من الحديث المعاد لأنه شاهد على انعدام القدرة على الابتكار والابتداع والخلق والإنشاء، ولأنه يدل على استهانة المتكلم بأقدار من يخاطب من الرجال، ولأنه يشهد بأن صاحبه قد لا يعني ما يقول
وصديقنا القديم الأستاذ أحمد أمين موكل بالحديث المعاد ينقله من بلد إلى بلد ومن جيل إلى جيل، وقد صحت فيه كلمة أحد النقاد القدماء في سعيد بن حميد:
(لو قيل لكلام سعيد وشعره: ارجع إلى أهلك لما بقي معه شيء)
وكذلك نقول في كلام أحمد أمين: فلو دعونا مقالاته ومؤلفاته بالرجوع إلى أهلها لما بقي معه شيء!
وما ظنكم برجل يتوهم أن القراء في الأقطار العربية هم جميعاً أبناء الأمس، وما فيهم من قارئ واحد سمع من أخبار الأدب والمجتمع غير ما يتحدث به أحمد أمين؟
وإليكم هذا الشاهد:
كان المرحوم الشيخ محمد الخضري بك ألقى محاضرة منذ خمسة وعشرين سنة عن تطور المجتمع المصري، وقد نص في تلك المحاضرة على الخطأ الذي ارتكبته مصر حين سمحت بأن ينقسم التعليم إلى شعبتين: شعبة دينية وشعبة مدنية، وقال: إن هذا يعرض مصر لشهود الصراع بين طائفتين تختلف عقلياتهم أشد الاختلاف
وقد سمعت هذه المحاضرة وسمعها الأستاذ أحمد أمين، فهل تعرفون ما الذي وقع؟
وقع أن الأستاذ احمد أمين فهم أن الشيخ الخضري مات منذ أكثر من عشر سنين، وأن الذين سمعوا تلك المحاضرة منذ خمس وعشرين سنة قد أنستهم الأيام ما كان في تلك المحاضرة من آراء
وكذلك أعد القلم والدواة والقرطاس ليحدث قراء (الثقافة) بأن مصر ارتكبت جرماً فظيعاً حين سمحت بأن ينقسم التعليم إلى شعبتين: شعبة دينية وشعبة مدنية، وأن هذا عرض
المجتمع المصري لشهود الصراع بين طائفتين تختلف عقلياتهم أشد الاختلاف
وكيف قال هذا الكلام؟ قاله وهو يوهم القراء أنه من المبتكرات في عالم الاجتماع!
ولم يكن الشيخ الخضري أول من قال ذلك الكلام الذي سرقه احمد أمين، فقد تنبه المغفور له علي باشا مبارك إلى هذه الفكرة منذ أكثر من سبعين سنة، وعلى أساس هذه الفكرة أنشأ مدرسة دار العلوم ليخلق جيلاً يجمع بين الصبغة الدينية والمدنية ويكون أساساً للتطور المعقول
وهذه الفكرة عرض لها الكتاب بالنقد والشرح مرات كثيرة في مدى أعوام طوال، وفصلها المنفلوطي في (النظرات) بعض التفصيل، وإن كان ساقها في مساق آخر هو التناحر بين الأخياف من أبناء الثقافة المدنية
من حق أحمد أمين أن يلخص كلام من سبقوه ليطلع عليه شبان هذا الجيل
ولكن هل راعى الأمانة العلمية وهو أستاذ مسئول؟
هل رجع كل كلام إلى قائله كما يصنع أساتذة الجامعات؟
لم يصنع شيئاً من ذلك، وإنما انتهب ما انتهب، ثم واجه القراء وهو مزهو مختال، كأنه صار بالفعل من أهل الابتكار في الميادين الأدبية والاجتماعية!
قد يقال: وأين هذا الكلام من الموضوع الأصيل؟
وأجيب بأني أريد أن أبين أن أغلاط أحمد أمين لم تكن أغلاط الرجل المجتهد، وإنما هي أغلاط منهوبة مسروقة ليس فيها من جديد غير برقشتها بحبر جديد في ورق جديد!
وإليكم يساق الحديث
لبس أحمد أمين ثوب المفكر المبتكر وقال: إن الأدب الجاهلي جنى على الأدب العربي حين فرض عليه ما عرف الجاهليون من ألفاظ وأخيلة وتعابير وقواف وأوزان
وهذه الفكرة خطأ في خطأ، وهو نقلها عن بعض الكتاب الذي تكلموا في النقد الأدبي بلا زاد من المعارف الأدبية، وبلا سناد من فهم التطور الذي شهده العرب في ميدان الحقائق الأدبية
وآفة الأدب في مصر وفي غير مصر أنه معرض في كل وقت لغارة الأدعياء، فكل مخلوق يتوهم أن من حقه أن يقرأ الشعر والنثر قراءة الخبير بأسرار الدقائق الشعرية
والنثرية، وأن يوازن بين الشعراء والخطباء والكتاب والمؤلفين بعد أن تتيح له المقادير أن يفرق بين المنظوم والمنثور، وبين الخطاب والكتاب، وبين الألف والباء!
وهل كان من الصحيح أن الأدب الجاهلي جنى على الأدب العربي في العصور الإسلامية؟
إن العرب تحللوا من قيود الأدب الجاهلي منذ أول يوم توجهوا فيه إلى الاتصال بغيرهم من الممالك والشعوب
ويقول المبتدئون في الأدب إن أبا نؤاس كان أول من ثار على التقاليد الجاهلية، وهذا غير صحيح، وإن صار من الحقائق المقررة عند بعض أساتذة كلية الآداب
والصحيح أن الثورة على التقاليد الجاهلية في الأشعار والرسائل سبقت عهد أبي نواس بزمن بعيد. ولهذه الثورة شواهد في العصر الأموي سنسوقها حين نجد ما يجب ذلك، أو حين ينطق الأستاذ أحمد أمين الذي خرج بالصمت عن لا ونعم، والذي نزل بالبرج العاجي ضيفاً على الأستاذ توفيق الحكيم
قلت لكم غير مرة إن أحمد أمين قليل الاطلاع على تاريخ الأدب العربي، فلو كان من المطلعين لعرف أن العرب بعد الإسلام أعلنوا ثورتهم على التقاليد الجاهلية، وصرحوا بأن الأدب يتأثر بالزمان والمكان، وأن أخيلة سكان الحواضر يجب أن تختلف عن أخيلة سكان البوادي، وأن من يعيش في مصر له أذواق تخالف من يعيش في الحجاز أو العراق أو الشام أو المغرب أو فارس أو الهند
لو كان أحمد أمين من المطلعين لعرف أن من العرب في القرن الثالث من صرح بأحكام يعجز عن التصريح بها من يعيشون في هذه الأيام
هل تصدقون بأن من كتاب القرن الثالث من قال بأنه لا يجوز أن نحاكي القرآن في جميع التعابير؟
وهل في الدنيا جرأة أعظم من جرأة الرجل المسلم حين يقول في زمن شباب الإسلام بوجوب التحرر من بعض أساليب القرآن؟
وهل يجوز القول بأن من جاز عندهم الخروج على الأساليب القرآنية تصعب عليهم الثورة على التقاليد الجاهلية؟
انظروا كيف يقول ابن المدبر في (الرسالة العذراء):
(وأعلم أنه لا يجوز في الرسائل ما أتى في آي القرآن من الإيصال والحذف، ومخاطبة الخاص بالعام، والعام بالخاص، لأن الله سبحانه وتعالى إنما خاطب بالقرآن أقواماً فصحاء فهموا عنه جل ثناؤه أمره ونهيه. والرسائل إنما يخاطب بها قوم دخلاء على اللغة لا علم لهم بلسان العرب. وكذلك ينبغي للكاتب أن يتجنب اللفظ المشترك والمعنى الملتبس، فأنه إن ذهب على مثل قوله تعالى (واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي اقبلنا فيها) وقوله تعالى (بل مكر الليل والنهار) احتاج أن يبين أن معناه (اسأل أهل القرية وأهل العير) و (بل مكركم بالليل والنهار) ومثله في القرآن كثير)
فما معنى هذا الكلام؟
معناه أن العرب فهموا أن القرآن وهو عندهم تنزيل من حكيم حميد راعى عقلية العصر الذي نزل فيه فخاطب الناس بما يفهمون، وأنه حين يتغير الناس بتغير الزمان لا يجب أن نخاطبهم بالأسلوب الذي استجازه القرآن، لأنه نزل على قوم يدركون الحذف والإيصال ومخاطبة الخاص بالعام، والعام بالخاص
فهل يعقل أن يكون الأدب الجاهلي أقدس عندهم من القرآن؟
وهل يجوز اتهام العقلية العربية بالجمود والخمود لتصح أوهام أحمد أمين؟
أنا أتحدى أي باحث أن يثبت أن العرب لم يدركوا ما يوجبه اختلاف الزمان والمكان في تلوين الصور والأفكار والأساليب
أتحدى أي باحث أن يقيم الدليل على أن العرب التزموا محاكاة التعابير القرآنية والنبوية
وكيف فات أحمد أمين أن العرب لم يلتزموا وحدة الوزن والقافية على نحو ما التزم الجاهليون؟
ألم تصل إليه أخبار التجديد والتنويع في القوافي والأوزان عند أهل المشرق وأهل المغرب؟
ألم تصل إليه أخبار الموشحات والأزجال؟
ألم يسمع بما دخل في الشعر العربي من الأخيلة الفارسية والمصرية والأندلسية؟
ألم يحدثه أحد بأن الذوق الأدبي عند مهبار الديلمي يخالف الذوق الأدبي عند الشريف الرضي؟
ألم يعلم بأن عمارة اليمني له مذاهب في القول تخالف مذاهب ابن حمديس؟
ألم يقرأ ما كتب أبو الحسن الجرجاني في اختلاف الأذواق باختلاف الوجوه والطباع؟
ألم تحدثه كتب الفقه بأن الشافعي تغيرت حاسته التشريعية بالتردد بين الحجاز ومصر والعراق؟
ألم يسمع بأن علماء البلاغة في مصر لهم مسالك تخالف مسالك أمثالهم في فارس؟
ألم يصل إليه القول بأن كتاب الإحياء له ألوان مختلفات بسبب تنقل المؤلف من أرض إلى أرض؟
ألم يشهد تطور الأسلوب عند ابن عربي في الفتوحات المكية بسبب اختلاف موطن التأليف؟
ألم يعرف بأن شعراء اليتيمة تختلف أذواقهم باختلاف البلاد؟
ألم يدرك أن أشعار البهازير لها مذاق غير مذاق أشعار أبن زيدون؟ ألم يلمس الخشونة والنعومة في تردد ابن الجهم بين البادية وبغداد؟
وهل بقي أحمد أمين على حال واحد حتى يبقى الناس جميعاً على حال واحد؟
إن أحمد أمين القاضي الشرعي كانت له مسالك في الحكم على الأشياء تخالف مسالك احمد أمين الأستاذ في كلية الآداب
فكيف يقال إن الشاعر الذي يعيش في الأندلس أو في فارس لا يزال خاضعاً لأذواق أسلافه القدماء في الحجاز أو العراق؟
إن أذواق أهل العلم في البلد الواحد تختلف باختلاف المعهد الذي يتخرجون فيه، مع وحدة الزمان، ومع تقارب المشارب والميول. فالمتخرج في الأزهر غير المتخرج في دار العلوم وغير المتخرج في كلية الآداب. وقد كان مفهوماً عند أهل مصر أن المتخرج في الأزهر غير المتخرج في الجامع الأحمدي مع التقارب الشديد فيما يلقى هنا هناك من المعارف العقلية والنقلية. وأهل فرنسا يفهمون أن المتخرج في جامعة باريس غير المتخرج في جامعة ليون
وإنما كان الأمر كذلك لأن اختلاف المكان يؤثر في الأذواق حتى صح القول بأن الأدب الإنجليزي في إنجلترا يبعد بعض البعد أو كل البعد عن الأدب الإنجليزي في أمريكا.
وكذلك يقال في الأدب الفرنسي حين يصدر عن أرض فرنسية أو بلجيكية أو سويسرية
فكيف يمكن أن يتفرد العرب بالخروج على هذا القانون الذي تفرضه طبيعة الوجود على سائر الناس
وهل يجوز في ذهن عاقل أن تكون جيمية ابن الرومي نسخة ثانية من جيمية الشماخ لوحدة القافية؟
وهل يصح أن تكون تائية حافظ إبراهيم في رثاء محمد عبدة صورة من تائية دعبل في التوجع لأهل البيت بحجة الاتفاق في الوزن والقافية؟
إن احمد أمين ينظر في ديوان جاهلي وديوان إسلامي فيرى قصائد تشابهت في القوافي والأوزان فيحكم بأن الشعر لم ينتقل من حال إلى حال، وإن اختلفت الأماكن والأجيال
ولو نظر غيره هذه النظرة لقلنا أنه يحكم أحكاماً عامية، ولدعوناه إلى الانسحاب من ميدان الدراسات الأدبية
من واجب أحمد أمين أن يفهم أن أساتذة الجامعات لا يصح لهم الوقوف عند ظواهر الأشياء، فأقل مزية لرجل الجامعة أن يكون في إحساسه كالشاعر الذي قال:
أسمع في قلبي دبيب المنى
…
وألمح الشبهة في خاطري
وأحمد أمين أستاذ في كلية الآداب، وهي كلية على جانب عظيم من الكبرياء، وهي تأبى الاعتراف بأي معهد يقارعها في هذه البلاد، ولا تنظر إلى سائر المعاهد الأدبية إلا بعين الاستخفاف
والمنزلة التي صارت إليها كلية الآداب بفضل جهود أساتذتها الكبار من المصريين والأجانب توجب على الأستاذ أحمد أمين أن ينظر في كل كلمة يكتبها خمسين مرة قبل أن يعرضها على الناس
فأين كان حرصه على مكانة تلك الكلية يوم زعم أن الأدب العربي لم يتطور قط، وأن الأدب الجاهلي ظل يسيطر عليه من عصر إلى عصر حتى خنق مواهب أحمد شوقي وحافظ إبراهيم؟
وهنا يتسع المجال لعرض سرقة جديدة من سرقات احمد أمين فهل يعرف هذا الباحث الكبير من أين أخذ القول بأنه يجب أن نضع القنبلة مكان القوس؟
لقد سرق هذه الفكرة من باحث لا أنوه باسمه إلا وأنا كاره لأني أبغضه أشد البغض وقد أرجع إلى مصاولته بعد أيام أو بعد أسابيع.
هذا الباحث هو الدكتور طه حسين الذي عرف الجمهور بالأستاذ احمد أمين
ولكن متى قال الدكتور طه هذا الكلام؟
إن أحمد أمين يظن أن ذاكرة الناس ضعفت كل الضعف، وأنه لم يبقى في مصر أو غير مصر من يتذكر مقالة نشرت منذ عام أو عامين، فكيف يتذكرون مقالة نشرت منذ أكثر عشر سنين؟
فما هي تلك المقالة؟
هي مقالة الدكتور طه حسين في نقد بائية شوقي في يوم (سقاريا) التي عارض بها بائية أبي تمام في يوم (عمورية)، بائية شوقي ذات المطلع:
الله أكبركم في الفتح من عجب
…
يا خالد الترك جدد خالد العرب
وقد نص الدكتور طه في تلك المقالة على أن شوقي استعمل في وصف الحرب التركية اليونانية ألفاظاً وتعابير كانت تعرفها الحروب القديمة، ولكنها مجهولة عند المحاربين في العصر الحديث
أنكر الدكتور على شوقي أن يقول في خطاب مصطفى كمال:
قذفتَهم بالرياح الهُوج مسرجةً
…
يحملن أُسد الشرى في البيض واليَلَبِ
وأن يقول في مدح الجنود الأتراك:
والجاعلين سيوف الهند ألسنهم
…
والكاتبين بأطراف القنا السلُب
وكانت حجة الدكتور طه أن (أسد الشرى) عبارة قديمة وقد لا يفهمها الترك، وأن (البيض واليلب وأطراف القنا السلب) ليست أهم الأدوات الحربية في هذه الأيام
وقد تأذى شوقي بهذا النقد اشد التأذي لأنه في ظاهره لا يخلو من بريق، ودعاني إلى الرد على الدكتور طه حسين ولكني اعتذرت لأسباب أدبية لا يتسع لشرحها المقام، ولعلي كنت أحرص على مجاملة الدكتور طه في ذلك الحين
ومقالة الدكتور طه في نقد بائية شوقي مشوهة جداً، ولكن عند من؟
عند الذين كانوا يسايرون الحياة الأدبية أيام الفتنة بين السعديين والدستوريين والاتحاديين،
وهي مقالة نشرت في جريدة يومية كانت قليلة الذيوع وهي جريدة الاتحاد، ولكنها كانت على كل حال مما يطلع عليه الأستاذ أحمد أمين
ماذا يظن احمد أمين بذاكرة الرجال؟
هل يتوهم أن النقد الأدبي قد أنعدم في مصر وأنه لا يوجد في هذه البلاد من يذكر تطور الآراء النقدية من حال إلى أحوال؟
يجب أن يعرف جيداً أننا سنحصي عليه خطرات قلبه، وسنردها خطرة خطرة إلى ما قرأ وما سمع، فلا يزهي ولا يختال بترديد الحديث المعاد. فهل يقرأ هذا الكلام بعض من كبر عليهم أن نهجم على الأستاذ أحمد أمين؟
إن الذين فتنوا بحذلقة احمد أمين لم يكونوا يعرفون أنه ينتهب آراء المعاصرين وغير المعاصرين بلا تهيب ولا تخوف، ولم يكن يدور في خواطرهم أن هذا الرجل له سطوات على الكتب والمقالات يأخذ بها ما يشاء بلا ترفق ولا استبقاء
قد يقال: وما خطر هذه السرقات؟ وما العيب في أن يسرق احمد أمين كلام طه حسين؟
وأجيب بأن النص على السرقات يشرح تطور الأفكار الأدبية، وذلك مغنم ليس بقليل
وسنرى في المقال المقبل سرقات أغرب وأعجب. . . ومن الله وحده ننتظر حسن الجزاء على هذا الجهاد
زكي مبارك
على ذكر الحرب الراهنة
موقف العلم من الكمال الإنساني
للأستاذ توفيق الطويل
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
انتهينا في حديثنا السالف إلى أن العلم قد استعبدته الأغراض في أكثر مراحل حياته، فعاش في خدمة الإنسان يحقق مطالب حياته العملية، أو يستجيب لنداء عقيدته الدينية، وأقام على هذا الاستعباد طول عمره، إذا استثنيت مرحلتين من حياته تحرر فيهما من ذل الأغراض، هما عهد اليونان، والفترة الأخيرة من عصرنا الحديث. وقد أشرنا فيما أسلفنا إلى الروابط التي أخذ ينشئها المحدثون من العلماء بين العلوم الطبيعية والفنون الجميلة، بتوحيدهم الغاية التي ينتهي إليها كل منهما، فكان علينا إذا رغبنا في الحديث عن صلة العلم بالكمال الإنساني أن نتناوله عند (بيكون) ابن العلم الحديث، ورب الدعوة إلى تسخيره لصالح الإنسان.
3 -
الكمال عند بيكون
تمرد رجال النهضة على العصور الوسطى، وأقبلوا يحملون - فيما حملوا - معاول الإصلاح الديني، وحطموا بها الكنيسة وسلطانها الذي هيمنت به على قلوب الناس وعقولهم أجيالاً طوالاً وسار في موكبهم حواريو العلم الطبيعي يتقدمهم رجال الفلك، من كورنيكوس وتيخوبراهي وغاليلو وكبلر، وشنوا الغارة على علم الأقدمين ومكنتهم الآلات التي اخترعوها من الكشف عن كثير من أخطائهم، وبذلك هتكوا عصمتهم، وحطموا قداستهم وأعلنوهم لطلاب العلم ناساً كسائر الناس، ومهدت هذه الحركات لظهور (بيكون) في أواخر القرن السادس عشر، فتقدم بعقله الواسع وقلمه السيال، للانضمام إلى موكب المحاربين، وساهم بأوفر نصيب في تحطيم الفلسفة الجدلية التي شاعت عند المدرسيين، وهدم القياس الذي استعاروه عن أرسطو ليحل مكانه منطقاً قائماً على الاستقراء، فوضع بذلك أساس المنهج التجريبي، وبدأ العلم في عصره الحديث على يديه، ورسم للباحث منهجه وحدد له غايته، فدعا إلى تطهير العقل من الأوهام التي تعرقل طلاقته، ونادى بالإكثار من جمع
المشاهدات وإعداد تاريخ لكل منها، وتصنيفها توطئة لمقارنتها بعضها ببعض، واستنباط العلل الكامنة وراءها، وتسخير النتائج التي يهتدي إليها العلماء لخدمة المجتمع، وتوفير أسباب الكمال لأفراده، فربط بذلك بين العلم والكمال الإنساني، وصور هذه النتيجة قي كتاب صادف عند الكثيرين من المؤرخين مديحاً ملحوظاً ذلك هو الذي صور فيه مجتمعاً مثالياً - على نمط جمهورية أفلاطون والمدينة الفاضلة للفارابي - وتوافرت في مجتمعه أسباب الكمال، وتهيأت لأفراده ألوان النعيم؛ وأظهر ما في هذا المجتمع المثالي مما يعنينا في مقالنا (بيت سليمان) وهو يشبه المؤسسات العلمية التي تقام في عصرنا الحاضر للعمل على تقدم العلم وإنهاضه، وقد حدد الغرض الذي يرمي إليه هذا البيت بالكشف عن أسباب الظواهر والاهتداء إلى علل الأشياء، والتمكين لسلطان الإنسان حتى يتيسر له القيام بكل عمل ممكن؛ وتحقيقاً لهذه الغاية أنشئت المعامل لإجراء التجارب في مختلف فروع العلم من طب وطبيعة وصناعة وزراعة. وأقيمت المراصد لمراقبة الظواهر الجوية، وحفرت البرك والبحيرات لتربية الأسماك وسائر الأحياء المائية. . . ولما كان بيكون شديد العناية بالإكثار من جمع المشاهدات والإسراف في عمل التجارب رغبة في تمكين البحث، وعدم التسرع في استنباط القوانين العامة من الجزئيات القليلة، فقد رأى أن يوفد بيت سليمان فئة من العلماء بين الحين والحين، يجوبون البلاد الأجنبية، ويرتادون الآفاق النائية في طلب المشاهدات، وجمع الكتب وكتابة التقارير عما يصادفهم من غريب الظواهر، وبذلك ترقى العلوم ويتيسر لأهلها أن يفهموا الطبيعة على وجهها الصحيح، لا اقتصاراً على فهمها، بل توطئة لبسط سلطانهم على ظواهرها، واستغلال سيادتهم لها، في الانتفاع بها والإفادة من مواردها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً وبذلك يرقى المجتمع وينهض أفراده. وقد جره هذا التصور إلى أن يكل حكم المجتمعات إلى العلماء والفلاسفة الذين لا يقنعون بالاطلاع على ما تحويه بطون الكتب، وإنما يولون جهودهم شطر الطبيعة ليجمعوا منها المشاهدات توطئة لاستغلال فهمهم لها في ترقية المجتمع والعمل على تطوره إلى الكمال
تلك صورة مصغرة لهذا المجتمع المثالي الذي يتحقق فيه الكمال الإنساني فيما بدا لبيكون. ولم يكن هذا التصور غريباً على العصر الذي دوت فيه هذه الصيحة، فقد اتجهت فيه أنظار أهل العلم والأدب والفن إلى الطبيعة، وراح كل يعبر عنها بطريقته وفي حدود
منهجه، واهتم العلم بالسيطرة على ظواهرها أملاً في استغلال مواردها، واتقاء شرورها، وملأ الحياة الإنسانية بالخير والهناءة.
وقد تساءل (كامبانيلا) - معاصر (بيكون) - في مجتمعه المثالي عن موقف الإنسان الجديد من الرقيق، وانتهي إلى القول بأن مخترعات العلم الحديث ستوفر للناس وقتهم، وتغنيهم عن الرقيق والعبيد، وتجعلهم سادة للطبيعة، وتملأ حياتهم بالسعادة. . .
تلك هي النزعة التي شاعت في أوربا أواخر عصر النهضة، وهي قائمة على الأمل الباسم في قدرة العلم على تحقيق السعادة للناس. وقد مكن لهذه النزعة بيكون في مستهل القرن السابع عشر، ودفعها إلى العصور الحديثة، فانطلقت أبانها تسعى حثيثة حتى خابت في العلم آمال الناس، وتحرر العلماء من ذل الأغراض - على نحو ما عرفنا في مقالنا السالف -
والآن بعد أن قطع العلم هذه المراحل الطويلة في تحقيق الغاية التي كان يرجوها (بيكون) وأشياعه، نرى من حقنا - وقد اندلعت نار الحرب وراح العلم يقدم لها الوقود - أن نتساءل عن مدى ما حققه العلم من الكمال، ومبلغ ما أسبغه على الناس من نعم. وليس هذا السؤال بجديد في تاريخ الفكر، فكثيراً ما تردد في أبحاث الأدباء والفلاسفة، واختلفت في الإجابة عليه وجهات النظر. ولقد ذهب بعض الذين تناولوا بالبحث هذا الموضوع إلى الطعن في العلم وما يترتب عليه من ألوان الحضارة والمدنية، والدعوة إلى العيش على مقتضى الإلهام الطبيعي البسيط، وقد نادى بهذه النزعة في القرن الثامن عشر (جان جاك روسو)، ولم يقصر هجومه على العلوم الطبيعية وحدها، وإنما تجاوز آفاقها إلى الطعن في العلم بأوسع معانيه، فشملت غارته الآداب والفنون كذلك، فلنعرض - في إيجاز - حلمه الذي كان يرى فيه تحقيقاً لسعادة الناس، وسنرى بين آرائه وآراء (بيكون) هوة سحيقة القرار:
4 -
السعادة عند روسو:
مات لويس الرابع عشر فماتت معه الملكية المستبدة القادرة في فرنسا، واستأسد من كان بالأمس ذئباً، فاسترد الأشراف نفوذهم، واستعاد الكتاب والشعراء حريتهم، وتأهبوا لتحطيم الإيمان الديني الذي جاهد أسلافهم لتدعيمه زلفى إلى الملك الديّن المستبد. وشاعت اللادينية في فرنسا، وكانت تعاني من حروب انقضت ظهرها، وفاقة أحرجت صدرها، وترف يهد
من كيانها فتدهور نفوذ الملك، وانحل سلطان الدين، ومال المفكرون إلى تمجيد العقل، معلنين التمرد على كل قديم. وفي هذا الجو نشأ (جان جاك روسو) شريداً بائساً، حييّا مسرفاً في الحياء، لا يحسن عشرة الناس ولا يألف المجتمعات؛ يعشق الطبيعة ويجد في رحابها مسرحاً لخياله الوثاب، لم يوهب العقل الخالق الممتاز، ولكنه أوتي القدرة على التعبير المليء بالقوة والحرارة والإيمان، فنصب نفسه لمحاربة الإلحاد بالطعن في العقل والمدنية وتمجيد القلب والفطرة، بعد أن أخفق (بيركلي) في نصرة الإيمان الديني بإنكار المادة، والاقتصار على الاعتراف بوجود العقل - أو الروح - وتهيأت له فرصة الإعلان عن رأيه، حين طرحت أكاديمية (ديجون) على الكتاب مسابقة عن أثر العلوم والفنون في صلاح الأخلاق أو فسادها، فتقدم (روسو) للاشتراك فيها، وقد وطن العزم على الطعن في العلوم والفنون، وبيان ما يترتب على انتشارها من سيئ الآثار، وتوالت بعد ذلك حملاته وإلى القارئ الكريم خلاصة رأيه:
تحدث (روسو) عن الرجل البدائي الذي يعيش في أحضان الطبيعة، بسيطاً هانئاً ببساطته، جاهلاً قانعاً بجهالته، مسترسلاً على فطرته وطبيعته؛ ثم قارنه برجل المدنية الفخور بعلومه، المزهو بفنونه، الغارق في حياته المعقدة، وانتهى من هذه المقارنة بترجيح الأول على الثاني، مؤيداً رأيه بمثل استقاها من تاريخ المصريين واليونان ومن إليهم. فمصر المجيدة التي كانت مدرسة الدنيا بأسرها، ما كادت تصبح أم العلوم والفنون، حتى أغار عليها قمبيز، وأعقبه اليونان والرومان والعرب والأتراك على التوالي، فهبطت إلى الهوان على سلم صيغت درجاته من علم وفن. وكذلك يقال في غيرها من كبرى الأمم، والتاريخ شاهد عدل على صدق ما نقول، فمتى نشأت الفلسفة تدهورت الأخلاق، وأنى ظهر العلم اختفى الشرف، وليس الرجل المفكر إلا حيواناً فاسد المزاج مناقضاً للطبيعة، فالفكر وكل ما أبدعه من ألوان المدنية والحضارة تمرد على إلهام الفطرة ووحي الطبيعة، ومن هنا نشأ شقاء بني الإنسان. فالإنسان الأول خيّر بطبيعته، طيب بفطرته، قانع ما وجد اللقمة التي يسد بها رمقه، والخرقة التي يستر بها عورته، والمرأة التي يقضي معها حاجته، ومتى انقضت حاجته، فقد انطفأت رغبته، فإذا ولدت المرأة تعهدت طفلها بالرعاية كما تفعل أنثى الحيوان التي لا تعرف إلا إلهام الطبيعة الرحيمة، فإذا شب الولد في ظل هذه الرحمة
الطبيعية تكفل بحياته، شأنه شأن سائر أنواع الحيوان، وعاش متساوياً مع رفاقه يتبادلون المحبة والوئام والإخاء، لا يزهو أحد على أقرانه بعلم ولا مال، وبهذا كانوا سعداء، ثم تمردوا على إلهام الطبيعة، وخضعوا لإملاء العقل، فأدركتهم المدنية بعلومها وفنونها، وسرعان ما طاردت النعيم الذي عاشوا في رحابه، وسلبتهم باسم النظام ما كانوا يتمتعون به من ألوان الحرية، وميزت بعضهم على بعض فجعلت منهم أغنياء وفقراء، وسادة وعبيداً، فكان هذا مبعث الداء وأصل الشقاء. ولقد كانت الإنسانية تنجو من الجرائم البشعة والحروب الدامية التي ارتكبت في سالف أيامها من جراء الطمع، لو أن أول من أحاط قطعة أرض وقال: هذه ملكي - قد وجد رجلاً شهماً يتقدم إلى هذه الأرض فيحطم السياج الذي أحاط بها، أو يردم الخندق الذي التف حولها، ويصيح في قومه: أيها الناس حذار أن تصدقوا هذا الكذاب الأشر. . .
وما من دواء لهذا الداء إلا بالرجوع إلى أحضان الطبيعة، ورياضة القلب والاعتماد على الفطرة وإهمال العقل وما يترتب عليه من ألوان العلوم ومظاهر المدنية والحضارة
تلك صورة مصغرة للكمال الذي يحلم به (روسو) في القرن الثامن عشر. وهي على خلاف ملحوظ مع الكمال الذي يحلم به بيكون في القرن السابع عشر. ويعنينا من هذا أن (روسو) يهاجم العقل وكل ما يترتب عليه من علم ومدنية، ويرجو لو عاد الناس إلى حضن الطبيعة، وعاشوا سعداء بما هم عليه من قناعة وجهالة. أما (بيكون) فيرى الكمال ماثلاً في إنسان قد مكنته قوى العقل وتجارب العلم من إخضاع الأرض والسماء والماء لسلطانه، فأحسن استغلالها لمصلحة المجتمع الإنساني، وتحقيق السعادة لأبنائه، ففي مدنية العقل الناجح غي إخضاع الطبيعة للإنسان، يكمن الكمال عند بيكون، فأي المذهبين أبعد عن الخطأ أو أدنى إلى الصواب؟
5 -
مناقشة روسو وبيكون
ينبغي أن نعترف إنصافاً لروسو بأن آراءه قد صادفت هوى من نفوس قرائه، وأنها سعت إلى قلوب الكثيرين منهم وهيمنت على عواطفهم، وكان لها بالغ الأثر في قيام الثورة الفرنسية بعد ذلك، وكان من آثارها أنها حادت بالأدب عن العقل واتجهت به نحو العاطفة، وجعلت السيدات في صالونات الأدب يسرفن في التزام الظهور بما يدل على الشعور
الرقيق والقلب الرحيم، دون العقل الراجح والفكر المتزن، وربما كان لها أثرها في انتعاش الشعور الديني عند القراء
ولكن آراء (روسو) مع هذا حافلة بالأخطاء - فيما يلوح - والمثل الأعلى الذي ينشده عسير التحقيق، ولو تحقق لما أقام الناس عليه طويلاً، ولعادوا إلى المدنية راضين أو كارهين، فإن العقل من شأنه التفكير المتواصل، وليس في وسع قوة في الأرض أن تقيد عقول الناس، وتحرمها نعمة التفكير دواماً، وذلك وحده كفيل بتحقيق التطور الذي يرفع الإنسان من حالة الفطرة إلى مستوى المدنية، وروسو يقاوم أموراً يتصل بعضها بما يترتب على الغرائز من آثار، يطلب محو الملكية، والتزام القناعة، وعدم التقييد باختيار امرأة بعينها، ويزعم أن الناس بطبيعتهم أخيار أطهار، ويبني على هذا الأساس الخاطئ نظرياته التي ثبت اليوم بطلانها - كالعقد الاجتماعي مثلاً - تلك كلها أحلام عسيرة التحقيق، وقد نادى ببعضها أفلاطون في جمهوريته، وحسبنا أن نكشف عن ضعف نظرته إلى علاقة الرجل بزوجته، بتجربة نرويها كما نذكرها الآن: يقال إن تجربة أجريت على طائفة من القردة العليا لمعرفة نظام الزواج الراهن ومدى انطباقه على الطبيعة البشرية - كما أذكر الآن من أمر هذه التجربة - فجمعت القردة ذكوراً وإناثاً، وأتيح لها أن تعيش في مكان واحد، فلوحظ بعد فترة من الزمن أن كل قرد قد اختار له أنثى بعينها والتزم عشرتها، وتولى الذود عنها إزاء كل قرد يفكر في الاعتداء عليها، وكذلك كان موقف الإناث من ذكورها مع فوارق بسيطة، فانتهى الحال إلى ما يشبه النظام الذي شرعته الأديان وأقرته المدنيات.
وإذا صح هذا مع الحيوانات العليا فأحر به أن يكون صحيحاً مع بني الإنسان. ومثل هذا يقال في بقية الآراء التي خلفها لنا (روسو) وذلك - فيما يلوح - أظهر الفوارق بينه وبين (بيكون) فإن الكمال الذي يحلم به بيكون سهل التحقيق، وليس فيه مقاومة لغرائز الناس أو ما يترتب عليها من آثار. . .
ثم أي سعادة تلك التي يحتمل أن يشعر بها الرجل المتوحش الذي يعيش على إلهام الطبيعة ووحي الفطرة؟ إن (روسو) يتغنى بما يتمتع به الرجل من ألوان الحرية ونعيم الجهالة، ويشفق على المتمدين من القيود التي يكبل بها باسم النظام والمدنية ولكنه نسي أن هذا
المتوحش يعيش في أسر ذليل، تستعبده الأوهام، وتذله الخرافات، ويزعجه الخوف من كل شيء حتى من نفسه، ثم لا يشعر بعد هذا بالسعادة التي يحلم بها (روسو) حتى إذا عاش في غمرتها، ذلك لأن الشعور بالسعادة يتوفر لأصحابه إذا مروا بدورين: أولهما سلبي وهو انتفاء الشعور بالشقاء، وثانيهما إيجابي والشعور بالسعادة. أما الحالة الوسط التي يعيش فيها الرجل المتوحش، فينتفي عندها الشعور بالشقاء والسعادة معا، فإنها ليست من السعادة في كثير ولا قليل، ومن هنا يظهر بطلان الدعوة التي بشر بها (روسو) وعبر عنها (المتنبي) بقوله:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
…
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
ذلك وجه الخطأ في مهاجمة العلم وما يترتب عليه من آثار المدنية، والدعوة إلى الطبيعة وتوهم السعادة في ظلها. وقد تردى روسو في هذا الخطأ لأنه عاش في بيئة أنهكتها الأمراض والعلل، بالإضافة إلى فشله في عشرة الناس، وعدم ملاءمة طبيعته للمجتمعات، ولهذا أصاب في التمرد على أخطاء بيئته، ولكنه أخفق في علاجها إخفاقاً بيناً. ولعل (فولتير) كان على حق حين قال ساخراً منه:(لو أن الناس أصاخوا لآرائه، لسرهم أن يمشوا على أربع. . .!)
وقد عاش بيكون في بيئة عقلية يعوزها الاستقرار، فعرف داءها وشخص الدواء الذي يقتضيه علاجها، وقد تجد ما تؤاخذ به بيكون في تشخيص الدواء أو فهم الداء، ولكنك لا تملك إلا الاعتراف بتوفيقه، وقد انقضى على موته نحو ثلاثة عشر قرناً وثلاث عشر عاماً، وحققت الأيام الكثير من آماله، فأصاب العلم نجاحاً في أكثر الميادين، وعرف الإنسان كيف يعالج الطبيعة، ويتغلغل إلى فهم أسرارها ويعرف العلل الكامنة وراء ظواهرها والطرق التي تمكنه من استغلالها على أكمل وجه والانتفاع بها إلى أقصى حد، فقهرها على ظهر الأرض وفي أعماق البحار وفي أجواز السماء، وكاد يحيل المكان والزمان اسماً على غير مسمى. . .! إنه ينصت اليوم في مصر إلى توقيع الموسيقى في أمريكا، ويستطيع أن يتبادل الحديث وهو جالس إلى مكتبه مع أصدقائه أو عملائه في أقصى بقاع الأرض طرا، وتلك هي السيادة الموفقة على الزمان والمكان. . .
ولكن هل حقق هذا كله شيئاً من سعادة الناس؟ لقد أسفر نجاح العلم عن اختراع الغازات
السامة والقنابل المحرقة والمدافع المدمرة والغواصات المغرقة، وسائر وسائل التدمير والتخريب، مما يسمع الناس صدى التهديد به في أيامنا الراهنة، فتنهد قواهم وتنهك أعصابهم وهم بعيدون في غمرة القتال، والظاهر أن (بيكون) لم يقدر هذه النتيجة الرهيبة، فقد جعل من مظاهر التقدم في مجتمعه المثالي، أن يتجنب الحروب ويتقي شرورها، وذلك بألا ينتج إلا ما يستهلكه، ولا يستهلك إلا ما ينتجه. .!
على أن هذه النتيجة التي انتهينا إليها من النظر في الأثر الذي يترتب على الدعوة إلى تقدم العلم، قد رد عليها دعاته فقالوا إن العلم الذي اخترع ما استغله البعض في غير صالح الإنسان، هو نفسه الذي اخترع ما يقي الإنسان هذا الشر الطارئ. اخترع الغازات السامة وقدم للناس الأقنعة الواقية. اخترع الطائرات الحربية بقنابلها المحرقة وأعد المدافع المضادة لمقاومتها. وكلما أظهر للمجتمع خطراً جديداً تولى وحده مقاومته ووقاية الناس من ضرره. . .
ولكن أصحيح أن المجتمع الإنساني قد أمن بهذا شر المخترعات الحديثة؟ أصحيح أن الناس الآمنين في بيوتهم لن تصيبهم الغازات الجوية بعد اليوم بسوء؟ ذلك ما تجيب عنه وحشية الحروب في وقتنا الحاضر؛ على أنا نقول إنصافاً للعلم وأهله إن ما نتصوره ضاراً بالمجتمع الإنساني قد يكون كبير النفع من جوانب أخرى، وما نراه في الحروب عدواناً وحشياً ذميماً فيه قضاء على النفوس البريئة والأموال الطائلة وحضارة الأجيال الماضية، قد يعتبر شراً لا بد منه تقضي به حياتنا ومثلنا العليا. ومن المفكرين الذين درسوا المجتمع في تطوره إلى الكمال وانحداره إلى الاضمحلال من اعتبر الحرب نعمة والسلام الدائم نكبة على أصحابه. ثم إن عدوان القوي على الضعيف عند بعض المفكرين حتى تبيحه القوة أو يبرره التفاوت في المدنية، وذلك بالإضافة إلى أن القتال في أصله غريزة لم يلدها العلم وإنما اقتصر على تغذية نارها، فإن كان أثر العلم في وحشية الحروب سيئة عند بعض القراء فهو حسنة عند غيرهم من المفكرين، لأنه يعجل بنهاية الحرب وينقذ الناس من شر أنبائها، بالإضافة إلى الميزات التي يكسبها الناس من وراء الحروب. . .
على أن من التجني أن يحمل العلم تبعة هذه الاتهامات التي عرضه لها بيكون يوم ربطه بصالح الإنسان، فقد ألقى العلم عن عاتقه هذه التبعة الخطيرة يوم حرر نفسه من ذل
الأغراض - كما أبنا في مقالنا السالف -
على أن من الخير أن نقول إن السعادة - إن صح أنها رادف لكمال الإنسان - لا تعيش في آثار العلم والمدنية، ولا تقيم في أحضان الطبيعة والفطرة؛ ولكنها تعيش في قلب الإنسان يحملها معه أنى ذهب ولا يستطيع أن يفارقها أو يستدعيها تبعاً لظروف الزمان والمكان، وهي بعيدة عنه دائماً إن كان بينه وبينها جفاء طبيعي ولده مزاجه أو أسفر عنه خطأه في النظر إلى الحياة، فمن الناس من وهب القدرة على أن يستمد من الشقاء الذي يكتنفه شعوره بالسعادة، ومنهم من يتخذ من مباهج الحياة وأفراحها أسباب اكتئابه وشقائه. فالسعادة فن يفيد تعلمه أكثر الأشقياء الذين قد لا تنطوي حياتهم على سبب واحد يبرر الشعور بالشقاء! وما يقال في الفرد ينسحب على الجماعات. . .
توفيق الطويل
من بغداد. . . إلى كركوك
وداع بغداد!
للأستاذ علي الطنطاوي
الوداع يا بغداد. . .
يا بلد المنصور والرشيد والنعمان وأحمد، والكرخي والجنيد، وأبي نؤاس والعباس، ومخارق وإسحاق، ومطيع وحماد. . .
يا منزل القواد والخلفاء، والمحدثين والفقهاء، والزهاد والأنقياء، والمغنين والشعراء، والمجان والظرفاء. . .
يا مثابة العلم والتقى، واللهو والفسوق، والمجد والغنى، والفقر والخمول. . . يا دنيا فيها من كل شيء
الوداع يا دار السلام، ويا موئل العربية، ويا قبة الإسلام
يا بلداً أحببته قبل أن أراه، وأحببته بعد ما رأيته. . .
لقد عشت فيك زماناً مر كحلم النائم، صحوت منه على صوت الداعي يؤذن بالفراق، فلم أجد منه في يدي إلا لذع الذكرى
وهل تخلف الأحلام يا بلد إلا الأسى والآلام؟
ولكني على ذلك راضٍ راضْ. . . فالوداع يا بغداد واسلمي على الزمان!
ودعتها والسيارة تشتد بي إلى المحطة تسلك إليها الشوارع ذات بهجة وجمال، شبهتها (والمحطة غايتها) بليالي الحب كلها أنس وحلاوة، ولكن نهايتها وحشة الوحدة ومرارة الفراق. وعانيت الوداع، فأيقنت أني مفارق بغداد عما قليل، وأني سأتلفت فلا أرى رياضها ولا أرباضها، ولا أبصر دجلتها ولا نخيلها، فجرى لساني بقول الأول (وإن من الأقوال ما لا تبلي جدته ولا يمضي زمانه):
أقول لصاحبي والعيس تهوى
…
بنا بين المنيفة فالضمار
تمتع من شميم عرار نجد
…
فما بعد العشية من عرار
شهور قد (مضين) وما شعرنا
…
بأنصاف لهن ولا سرار
فأما ليلهن فخير ليل
…
وأطيب ما يكون من النهار
وجعلت أذكركم ودعت من أحباب، وكم فارقت من منازل، وكم قطعت قلبي قطعاً نثرتها في أرض الله الواسعة التي لا تحفظ ذكرى، ولا ترثى لبائس، ورأيتني لا أكاد أستقر في بلد حتى تطرحني النوى في آخر، كنبتة لا تكاد ترسخ في تربة وتمد فيها جذورها حتى تقلع وتنتقل إلى أخرى. . . ورأيت أني دخلت بغداد يوم لم يكن جاءها أحد من أصحابي فلبثت فيها وحيداً مستوحشاً، لا أعرف منها إلا المسجد، وما كان لمسلم أن يرى نفسه غريباً في بلد فيه مسجد، ولكنها العاطفة الضعيفة المتهافتة، فلما ألفتها وصارت بلدي، وغدا لها في قلبي مكان نفيت عنها. . .
دخلنا كارهين لها فلما
…
ألفناها خرجنا (مكرهينا)
وفكرت في أمري متى ألقي رحلي، ومتى أحل حقائبي؟ وهل كتب علي أن أطوف أبداً في البلاد، وأعيش غريباً وحيداً بعيداً عن أهلي وكتبي وصحبي؟ وهاجت في رأسي الخواطر السود وماجت حتى لقد رأيت الشوارع الحالية بالزهر صحراء مجدبة، ورأيت شعاع القمر المضيء أظلم خابياً. . .
ومن طوف تطوافي، وأقبل مثلي على بلاد ما لها في نفسه صورة، ولا له فيها صديق، وفارق أهلاً إليه أحبة، وصحباً عليه كراماً، وكانت حاله كحالي، عرف صدق مقالي!
وصفر القطار وسار، وطفقت ألوح بمنديلي لصديقيّ الأثيرين أنور وحسن حتى داراهما عني الظلام، فنظرت حولي فإذا أنا وحيد في العربة الفخمة، لا أنيس ولا جليس، فكر فكري راجعاً إلى بغداد. . .
بغداد، يا مهد الحب، يولد الحب على جسرك الذي تحرسه (العيون)، وينمو في زوارقك ذات الأجنحة البيض التي تخفق كخفقان قلوب راكبيها، ويشب في كرخك وتحت ظلال نخيلك
فتشوا كم تحت الثرى من بقايا القلوب التي حطمها بسهام (العيون) هذا المخلوق الجبار الذي ولد على الجسر شابا، ونما في الزورق، واكتهل في الكرخ، ثم لم يمت لأنه من أبناء الخلود
سلوا أرض بغداد: أعندها خبر من شهداء الغرام؟
سلوا جو بغداد: أين النغمات العذاب التي عطرت نسيمه بعطر الجنة، فهزت قلوباً،
وهاجت عواطف، وأضحكت وأبكت، وأماتت وأحيت؛ هل أضعت ويحك هذه الثروة التي لا تعوض؟
سلوا الجسر. . . يا (جسر بغداد) إن ما بقي من حديثك قد ملأ كتب الأدب، حتى لم يعرف الناس سوقاً للعواطف والأفكار والعبر أكبر من جسر بغداد، فأين سائر أخبارك؟
كم ضممت ذراعيك على عشيقين فنعما بينهما بلذة الحب! وكم تركت حبيباً ينتظر فلا يرجع بعد الانتظار إلا بالخيبة والأسى! وكم عطفت على بائس منكود، وأعرضت عن منكود بائس، فأريت الأول من مشاهد الحياة ما هون عليه ما هو فيه، وزدت الثاني بؤساً ونكداً؟ وكم وعيت من أسرار الحب والبغض والفرح والحزن، والغنى والفقر، والعزة والذل، وكل ما تحتوي الحياة وتشمل النفس من ألوان؟ كم رأيت من حصاد الأدمغة وثمرات القلوب؟
كم مدت تحت أقدام خليفة كانت تصغي له الدنيا إذا قال لأنه ينطق بلسان محمد، وقائد كانت تخضع له الأمم إذا سار لأنه يلوح بسيف محمد؟
يا (جسر غازي) الجديد، الهائل العظيم، أعندك نبأ من ذلك الجسر الذي كان عالماً من العوالم؟ والذي كان سُرّة الدنيا وقطب رحاها؟ وكان للجد إذا جد الجد، وللهزل إذا جاز الهزل، فحوى المجد من أساسه، وجمع المتعة من أطرافها؟
وهذه المنارة المنحنية المائلة في (سوق الغزل) تنظر بعيني أم ثكلى. . . سلوها أين مسجدها الذي كان يضيق على سعته بالمصلين، حتى تمتد الصفوف إلى الشارع ثم تتتالى حتى تبلغ النهر؟ أين أولئك العلماء الذين أترعوا الدنيا علما وملئوا آفاق الأرض نوراً وهدى؟ أين مواكب الخلفاء حيث. . .
الخيل تصهل والفوارس تدّعي والبيض تلمع والأسنة تزهر
ومشيهم في رحاب بيت الله. . .
. . . مشية خاشع متواضع
…
لله لا يزهي ولا يتكبر
أين فرسان المنابر وأبطالها؟ أين جيران المحاريب وجلامها؟ أين. . . أين. . .؟
يا أسفي! لقد سرق المسجد، وهدم المنبر، وضاع المحراب، ولم تحفظ الحجارة يا بغداد مآثرك ومصانعك، ولاوعت الأرض ذكريات حبك، ولا أبقى الجو رنات عيدانك. . . أفلا
حفظتها قلوب اقسم أصحابها أنهم ذاكروا عهدك وأنهم مرجعوا مجدك؟
فأين مسجد بغداد الجامع يا مديرية الأوقاف؟ أين المسجد يا إدارة الآثار؟ أين المسجد يا من تخذتم المسجد بيوتاً ودكاكين وتركتم المنارة منحنية عليه تبكي!
أين المدرسة النظامية يا من أقمتم على أنقاضها سوق الشورجة لتبيعوا فيه البصل والثوم - وقد كانت تباع فيها حيوات العلماء وعصارات عقولهم وقلوبهم؟. . .
لا تحزني يا بغداد واصبري فإن كل شيء يعود ما بقي في القلب إيمان، وفي الفم لسان، وفي اليد سنان
وتلفت ورائي فإذا بغداد قد اختفت وراء الأفق. . . وغابت مسارب الأعظمية التي تحاذي النهر، تتكشف تارة فتضيء، ثم تختفي في ظلال النخيل كشاعر منفرد يتأمل، أو محب معتزل يناجي طيف الحبيب، ويسامر ليالي الوصال التي تلوح له صورها. . . والنهر يطلع عليها مرة بصفحته البيضاء المشرقة التي تشبه أمنية بدت لحالم، ثم يحجبه عنها النخيل، ويمحوه الظلام كما تمحو الحياة بواقعها الأحلام وتطمس صور الأماني. . . وغابت شوارع الصالحية ذات الفتنة والجلال وغابت المآذن الرشيقة، وغابت القباب. . . وبقيت أنا والماضي!
هذا الماضي الذي طالما قاسيت منه، وطالما كابدت. . . ثم كلما أوغلت به انحداراً في أعماق نفسي ودفنته في هوة الذكرى وقلت مات، عاد حياً كاملاً تثيره نغمة وتهيجه صورة ويبعثه بيت من الشعر. . . فيبعث بحياته آلامي. . .
غابت، فسلام على بغداد، وأشهدوا أنه ما بعد دمشق بلد أحب ألي من بغداد، ولا بعد العتابا نغمة أوقع في قلبي من الأبوذية، ولا بعد الحور شجر أجمل في عيني من النخيل، ولا بعد بردي نهر أعز على نفسي من دجلة. . .
استغفر الله! إلا حرم الله ومدينة نبيه، فهما والله أحب البلاد ألي، وماؤهما ألذ الماء في فمي، وشجرهما، أبهى الشجر في بصري. . .
السلام عليك يا بغداد ولو نفيتني عنك إلى كركوك، وعلى ساكنيك السلام. . .
(ثانوية كركوك)
علي الطنطاوي
هل يقرأ الفنان هتلر
الدم والحديد
رواية في فصل واحد
بقلم بيرلي بورشهان وروبت دافيز
ترجمة الأستاذ عبد اللطيف النشار
أشخاص الرواية:
(الإمبراطور غليوم الثاني، وعالم ألماني وجندي مرقع من مشوهي الحرب)
المكان: (قاعة العرش)
الوقت: (في مساء عيد ميلاد الإمبراطور غليوم مدة الحرب الكبرى)
الإمبراطور - (يدخل فيعتلي العرش)
العالم - (يحمل حافظة فيضعها على منضدة ويبتسم ويفرك كفيه) مولاي! إن الهيبة تعقد لساني
الإمبراطور - إن وقتي محدود، فولي العهد في انتظاري
العالم - (متحمساً إلى درجة الارتعاش) مولاي! إن الهدية التي أقدمها إلى جلالتكم بمناسبة عيد ميلادكم الإمبراطوري لهي أثمن الهدايا لأنها تعني أن في الإمكان إعادة مليون من الجنود المشوهين إلى صفوف جيشكم، وتعني أن الجيش الألماني أصبح قوة مخيفة
الإمبراطور - (في اهتمام) هذا كلام عام
العالم - (وقد لاحظ أن الإمبراطور يبدي حركة عنيفة دالة على أتم الاستعداد للإصغاء) إنني سأخصص يا مولاي: إن أهم عنصر من عناصر الإتقان ألا نترك شيئاً يفقد بغير جدوى. وقد جعلت همي في أمر اليوم أن أرد إلى الجنود المصابين ما فقدوه بسبب الحرب. وقد نجحت
الإمبراطور (وقد بدا عليه الاغتباط) - كيف ذلك؟
العالم - بعد تجارب متعددة أصبح في وسعنا أن نأتي بأي جندي كائنة ما كانت درجة أصابته فنعيده إلى الصفوف أقوى مما كان. . . نعيده لا إنساناً ضعيفاً سريع القابلية للفناء،
بل آلة قوية باطشة
الإمبراطور - (ضاحكاً) كلام حماسي ولكنه غير مقنع، فهات الدليل
العالم (في لهجة دالة على الصدق والإخلاص) لقد توقعت يا مولاي هذا الشك فجئت معي. . .
الإمبراطور (مقاطعاً) - بماذا؟ بنموذج؟
العالم - نعم يا مولاي بنموذج حي آلي في غرفة الانتظار
الإمبراطور (متعجلاً) - إيت به، إيت به
العالم - مولاي، أستميح عفوكم فإن منظره غير سار
الإمبراطور - هذر! كل ما يؤدي إلى الاحتفاظ بالقوة جميل
العالم (وقد بدا عليه الابتهاج) - هل لي. . .؟
الإمبراطور - أسرع!
العالم (يفتح الباب ويخرج وهو ينادي بلهجة عسكرية) - انتباه! إلى الإمام؟
(وهنا يسمع صليل وجلجلة كصوت حديد يتحرك، ويدخل الجندي رقم 241 كما تمشي أية آلة ميكانيكية فلا ملاحظة لشيء ولا اختلاف بين الخطوات، حتى ما صار في وسط القاعة ناداه العالم أن يقف فيقف)
العالم - لقد جربناه 241 مرة ومن أجل ذلك أطلقنا عليه هذا الرقم
(ويبدأ العالم في الشرح، وفي هذه الأثناء يحدق الإمبراطور فيه وهو مفتون)
الإمبراطور - هذه أحسن مشية عسكرية
العالم - هذه أقل ميزة له
(ثم يلتفت إلى رقم 241 ويعرض يده الفولاذية ويأمره أن يفتح فمه فتبدو أسنانه الحديدية ويأمره بإغلاقه فيسمع صوت الحديد، ويأمره برفع يده اليمنى فيظهر ذراع آلي من الصلب وكذلك ساقه اليسرى التي يؤمر بتحريكها فيكون لها صليل. ويرى الإمبراطور ذلك مبتهجاً)
الإمبراطور - هذا ترقيع في نهاية الإحكام
العالم - ولكن كفايته زادت كثيراً بهذا الترقيع فهو الآن يتناول البندقية ويطلق المدفع دون أن يخشى سقوطه في الميدان.
إن يده معدنية فلا تعتريها رجعة ولا اضطراب
(ثم يلتفت العالم إلى الجندي المرقع ويأمره)
انتباه!
احمل السلاح!
سر إلى الأمام!
صوب إلى الهدف!
أطلق النار!
(ويقوم الجندي المرقع بكل ما يؤمر به والإمبراطور ينظر إليه وقد بدت عليه علائم الدهشة)
الإمبراطور - هذا فوق ما كنا نحلم به
العالم - بهذه التجربة أصبح في وسعنا يا مولاي أن نعيد إلى الجيش جميع العميان ومكسوري الأيدي والأرجل ومفقودي السمع
الإمبراطور - هذا فوز عظيم للمدنية
العالم - هذا يا مولاي خراب تام للمستشفيات
الإمبراطور - أنت عزيز لدينا يا أستاذ. إن العلم هو أمل الدولة
العالم - أتأذن يا مولاي بامتحان أذنه؟
الإمبراطور - بغير شك
(فيقف العالم خلف العرش، ويدق بطرف ظفره دقات غير مسموعة ويسأل الإمبراطور)
العالم - هل سمعتم جلالتكم شيئاً؟
الإمبراطور - كلا
الجندي المرقع - سمعت ثلاث دقات عالية
(ثم يمشي العالم إلى المنضدة التي عليها حافظة أوراقه، ويستخرج منها بطاقة صغيرة عليها كتابة بخط دقيق جداً ويسأل الإمبراطور وهو غير بعيد عنه هل يستطيع قرأتها فيقول الإمبراطور إنه لا يستطيع
ويعرض العالم البطاقة على الجندي المرقع عن بعد فيقرأ الجندي: إن الشعوب هي الإرادة
وإن الحكم هو القوة
ويعرض العالم البطاقة على الإمبراطور فيتناولها ويقول: (قراءة صحيحة)
ويعود العالم إلى مكان الحافظة فيضع فيها البطاقة ويلتفت إلى الإمبراطور ويقول):
العالم - هذا خير ما أداه العالم؛ فقد استغل بقايا الإنسان المحطم الذي لا خير فيه. لنفسه ولا لأمته فأعاده كما ترون جلالتكم، يد من الصلب، ورجل من البرنز، وذراع من النيكل، ومفاصل من الأليومنيوم، وعين تلسكوبية، وأذن من مصابيح الراديو
(ويلتفت العالم إلى الجندي ويسأله):
العالم - ماذا تسمع الآن؟
الجندي - صوت بوق عال
الإمبراطور - هذا مستحيل فإني لا أسمع شيئاً. افتح النافذة
(فيفتح العالم النافذة وينصت الإمبراطور فيسمع صوتا ضعيفا هو صوت بوق عن بعد)
الإمبراطور (في دهشة) هذا هو الكمال التام
العالم - هذا انتصار على المادة. إن الجندي الذي يسقط في الميدان يصبح عالة على الأمة لا يصلح لشيء، ولكن العلم يرد إلى الأعرج رجله وإلى الأبتر ذراعه، وإلى الأصم تلفونين في جانبي أذنيه، وإلى الأعمى تلسكوبين تحت حاجبيه
ويلتفت الإمبراطور إلى الجندي المرقع ويسأله: (كم مدة خدمتك في الجندية؟)
فيتقدم الجندي ثم يرفع يده بالسلام
العالم - أجب جلالة الإمبراطور
الجندي المرقع - ثمانية عشر عاماً يا مولاي
الإمبراطور - وهل أنت متزوج؟
الجندي - نعم يا مولاي
الإمبراطور - وهل لك أولاد؟
الجندي - سبعة يا مولاي
العالم (متدخلا في الحديث) منهم خمسة ذكور يا مولاي
الجندي (في مرارة) - واحد مات وثلاثة في الميدان والأصغر سيتبعهم
الإمبراطور - كم عمره؟
الجندي (وهو يبلع ريقه كالغصان) - ستة عشر
الإمبراطور (إلى العالم) - ومتى يعود هذا الجندي إلى الصفوف؟
العالم - في ظهر الغد يا مولاي
الإمبراطور - متى عاد من الصفوف فإني أحب أن أراه مرة أخرى وسأنعم عليه بالوسام المثلث الصلبان
العالم - أنتم ترون يا صاحب الجلالة أنه أصبح في وسعنا إرسال الجيش ومعه (قطع التغيير) أرجل من المعدن، وأيد البرنز، وأعضاء من النيكل، ومفاصل من الألومنيوم وعيون وآذان كهربائية، فعند أقل إصابة نستبدل بالأجزاء الهالكة الآدمية أجزاء قوية آلية. وهناك أصابع على حدة، وأكف مستقلة عن الأذرع، ومعاصم إلى دون الكوع
الإمبراطور - وما وزن هذا الجندي؟
العالم - 175 كيلو يا مولاي!
الإمبراطور - وما وزن (قطع التغيير) التي أضيفت إليه؟
العالم - مائة وخمسة يا مولاي؟
الإمبراطور (وهو يمسح جبينه بيده) - هذا أكثر من وزن جسمه
العالم - هذا صحيح يا مولاي ولكن غذاءه الآن أقل من نصف ما كان يحتاج إليه. لأن الأجزاء الآلية في غير حاجة للغذاء
الإمبراطور - لقد أهديت إلى أعظم ما وصلت إليه المدنية في تاريخها، ولكن حدثني عن العين التلسكوبية
العالم - هذه العين يا صاحب الجلالة فضلاً عن قوتها لها ميزة أخرى هي أنها ترى في الظلام
الإمبراطور (وقد بدا عليه أنه لم يصدق) يرى في الظلام؟
العالم - نعم يا مولاي، وفضلاً عن ذلك. . .
الإمبراطور (مقاطعاً) صه! إن هذا الأمر في غاية الخطورة
العالم - هل لجلالتكم اعتراض على تجربته في الظلام؟
الإمبراطور (متردداً) - لا - وعندك زر الكهرباء، أغلق النافذة وأطفئ النور
العالم (للجندي 241) - التفت إلى جلالة الإمبراطور. وسأطفئ النور (ثم قال الإمبراطور) وتفضل يا مولاي بإبداء أية حركة فإن الجندي سيصفها
(ويطفئ النور فيبدي الإمبراطور حركات وبطلب إلى الجندي وصفها)
الجندي - إن جلالته رفع يديه إلى أعلى ثم ضمهما. إنه أحنى رأسه إلى الأمام. إنه يصلي
الإمبراطور (محتداً) - أسرع بإيقاد المصباح
العالم - هل اكتفيتم جلالتكم من التجربة؟
الإمبراطور (بحالة عصيبة) - هذا فوق المدارك الإنسانية
ويوقد النور فيقف الإمبراطور ويقول: هذه سعادة لا حد لها أهديتها إلي في عيد ميلادي يا أستاذ! هذا اختراع يعيد إلى جنسنا جدارة فوق كل جدارة (ثم ينزع وساماً عن صدره ويضعه على صدر العالم) ويقول: هذا وسام الجدارة المرصع. هذا شارة الحق الإلهي. هذا الوسام الذي لم يتقلده غير الإمبراطور أقدمه هدية إليك
العالم (يتقدم منزعجا فيقبل يد الإمبراطور)
(في اللحظة التي يقبل فيها العالم يد الإمبراطور تبدو على عيني الجندي نظرة غضب شديد وتفتر أسنانه المعدنية عن ابتسامة خفيفة مؤلمة ويعود الإمبراطور إلى الجلوس)
الإمبراطور - إني في دهشة من قوته ومن حدة بصره فإلى أي مدى يرى؟
العالم - في استطاعته يا صاحب الجلالة أن يرى العدو على بعد عشرين أو ثلاثين ميلاً وأن يعد ما لديه من المدافع والخيول والمعدات
الإمبراطور (مسرعاً) - انتظر فإني سأقوم بتجربة أخرى.
إنني أحمل في جيبي نسخة دقيقة الحروف من الكتاب المقدس ولا تمكن قراءتها إلا بالمكرسكوب. فهل ترى هذه التجربة صعبة؟
العالم - كلا يا صاحب الجلالة فهذه تجربة سهلة جداً
(يتقدم من الإمبراطور ويتناول منه الكتاب المقدس ثم يلتفت إلى الجندي رقم 241 ويقول:
التفات!
در يميناً!
(يلتفت الجندي ويؤدي التحية العسكرية)
العالم - إنني أفتح الكتاب المقدس حيثما اتفق - أقرأ من هذه الصفحة
الجندي - إنجيل متي. الإصحاح الخامس. الآية الرابعة:
طوبى للحزانى لأنهم يتعزون. طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض
العالم (يلتفت إلى الإمبراطور)
الإمبراطور - أصاب، فإني أحفظ كثيراً من إنجيل متي
العالم - (يلتفت إلى الجندي) أطو هذه الصفحة واقرأ في أخرى
الجندي - اشعيا، الإصحاح الثالث، الآية الخامسة عشرة. ما لكم تسحقون شعبي وتطحنون وجوه البائسين. يقول السيد رب الجنود
الإمبراطور - صه! (ويستند بظهره إلى الكرسي وقد بدا عليه الانفعال الشديد ويمسح جبينه بكفه مرات
ويتناول العالم الكتاب فيرده إلى الإمبراطور فيضعه هذا في جيبه ويقول إن قوته شيطانية. إنني أريد امتحانه على انفراد
العالم يمشي إلى المنضدة التي عليها حافظة أوراقه فيحملها)
الإمبراطور - أسرع وسأطلبك متى شئت بدق هذا الجرس (وفي هذه الأثناء يظل الجندي واقفا مكانه وقد بدا علي عينيه إصرار على عزم جديد
العالم - مره يا مولاي!
(ثم ينحني ويخرج. ويظل الإمبراطور يتأمل في دهشة ولا يرفع بصره عن الجندي 241 ثم ينزل بجلال عن عرشه ويمشي في بطء نحو الجندي ويدور حوله ويفحصه ناقدا ممحصا. وهنا يبدو على الإمبراطور فزع وخوف ويشعر بأن مركزه من هذا الجندي غير مأمون
الإمبراطور - أين مولدك؟
الجندي - في الجنوب يا صاحب الجلالة
الإمبراطور - ماذا كانت حرفتك؟
الجندي (يبدي من غير إرادة حركة دالة على التبرم) - كنت زهَّاراً. (فيتأمل الإمبراطور
في أصابعه المعدنية. ويفطن الجندي إلى هذه الملاحظة)
الجندي - لقد كنت اصنع باقات الورد ولكن بغير هذه الأصابع (ينحني الإمبراطور وحهه عنه) بل بأصابعي المفقودة
الإمبراطور - ليس في الحرب حفلات تحتاج للزهور
الجندي - أستطيع يا صاحب الجلالة أن اصنع باقات للموتى (ثم يميل نحو الإمبراطور)
(يلاحظ الإمبراطور لهجة تهكمية في خطاب الجندي فيتظاهر بالغضب)
الإمبراطور - ألست شاكراً فضل العلم على ما قام به نحوك من الإصلاح؟ تكلم!
الجندي - ماذا أقول؟
الإمبراطور - لقد أصبحت إنساناً بعد أن شوهت. لقد استرددت ما فقد منك
الجندي - نعم يا جلالة الإمبراطور ولكن قلبي تحطم
الإمبراطور - لماذا؟
الجندي - أهلي يموتون جوعاً. وزوجتي وحدها
الإمبراطور - إذن فأنت غير مزهو بأن العلم وجد سبيلاً لمضاعفة جيشنا وتقويته؟
الجندي - بماذا؟ بتقديمي ضحية للموت مرتين؟
الإمبراطور (يتكئ إلى الكرسي مستنداً إليه) - هذا جحود!
الجندي - بمضاعفتك قوة جيشك ضاعفت أحزان الإنسانية (ويخطو خطوتين في عنف نحو الإمبراطور)
الإمبراطور - أنت تفوه بكلمات ثورية في حضرة الإمبراطور بما اجترأت على قوله
الجندي - اجترأت؟ إن الخوف قد ذهب من جسدي الممزق إلى جسدك أنت (ويمشي نحو الزر الكهربائي متثاقلاً ليطفئ النور)
الإمبراطور - اجث على قدميك، وأطلب الصفح من إمبراطورك
الجندي - إن هذا الجسد الذي أصبح معظمه من الحديد لا يجثوا أمام جسد معظمه من الدم. إنني لا أركع إلا لله الذي أطلب منه أن يغفر لي ما اعتزمت على اقترافه الآن. بل لا وزر عليّ في إنقاذ العالم من روحك الطاغية. فالذي سأفعله هو لمصلحة الشعوب المرهقة. إن عيد ميلادك هذا هو عيد موتك وعيد مولد الحرية
(ويطفئ الجندي النور فيغمر الظلام المسرح)
الإمبراطور (صارخا) - النور! النور!
الجندي - لست في حاجة إلى نور
الإمبراطور (يشتد صراخه) - النور! النور!
الجندي - لقد جعلتني أعيش في الظلام فمت أنت الآن في الظلام
الإمبراطور - (وهو يكاد يختنق) الرحمة! الرحمة!
الجندي - إنك لن تستطيع الإفلات مني. إنني أستطيع رؤيتك في أحلك الحالك، وأستطيع سماعك مهما خفت صوتك. تعالى إلى اليد الحديدية التي تباهي بأنك صنعتها لي. لا ترتعش وأذهب إلى ملك الملوك
(يسمع صوت جلجلة الحديد وصلصلته وتسمع أصوات من خارج القاعة ممتزجة بصرخات، وبصوت الأسنان الحديدية والأيدي والأرجل المعدنية.
ثم يسود الصمت مرة أخرى وتضاء الغرفة فيظهر الجندي 241 واقفا وأمامه الإمبراطور ملقى على الأرض عند عتبة العرش، ثم ينحني الجندي على صدره فينزع الوسام ويضعه على صدر نفسه
ويدخل العالم الذي كان مختبئا إلى الآن وراء الستار)
العالم (مذعوراً) - ما هذا؟
الجندي (رافعا يده المعدنية إلى السماء صائحا بصوت كالرعد):
(الدم والحديد!)
(ستار)
التاريخ في سير أبطاله
مازيني
(رسول الحرية إلى قومه، المجاهد الذي أبلى في جهاده مثل
بلاء الأنبياء)
للأستاذ محمود الخفيف
لئن كان في المجاهدين رجل أعوز في جهاده المرير كل سلاح فتسلح بإيمانه فحسب ومشى يهزأ بكل قوة حتى تغلب بذلك الإيمان وحده على جميع القوى التي غالبته، واثبت في النهاية أن المثل العليا في مختلف أوضاعها هي خير هاد للبشرية إلى ما تنشد من كمال، فذلك الرجل هو يوسف مازيني رسول الحرية إلى قومه، المجاهد الذي أبلى في جهاده مثل بلاء الأنبياء.
وما نجد في الذين خلوا من قبله من المجاهدين والزعماء من كان مثله في ذلك؛ فهذه جان دارك الفتاة الناعمة على ما توافى لها من إيمان قد لبست الحديد واعتلت صهوة جواد وأقدمت يحف بها الجند وتلتمع من حولها السيوف؛ وهذا وشنجطون الزعيم الشيخ قد خاض إلى النصر غمرات الحتوف على رأس الأنجاد البواسل من جنوده؛ ثم هذا لنكولن المجاهد الصابر لم يجد بداً آخر الأمر من امتشاق الحسام ليصل به إلى ما لم تجد في الوصول إليه وسيلة من الوسائل.
لذلك كان مازيني بدعاً من الزعماء، وكان كفاحه فاتحة عهد جديد في كفاح المغلوبين على أمرهم، ثم كان جهاده مثالاً يحتذي كما كان صبره على ما لقي من الأذى ومجابهة حوازب الخطوب أحقاباً طويلة وحياً للمجاهدين من بعده يوحي البطولة إلى نفوسهم ويربط على قلوبهم ويحبب إليهم التضحية والفداء. ومن هنا كان خطر مازيني في تاريخ الحرية، ثم من هنا كان أساس عظمته ومبعث قوته.
أما في الذين خلفوا من بعده فقد نستطيع أن نضع إلى جانب أسمه أسم سعد في مصر واسم غاندي في الهند؛ فلقد انتهج هذان البطلان منهجه عامدين أو غير عامدين، إذ كان سلاح كل منهما إيمانه فحسب، وكان ما تعرض له كلاهما من ألوان الخطوب بحيث يبوئهما بلا
شك مكان كبار الأبطال، كما كانت قضية كل منهما قضيته وإن اختلفت الظروف وتباعدت الأيام.
ولد يوسف مازيني في جنوه في اليوم الثاني والعشرين شهر مايو سنة 1805؛ وكان أبوه طبيباً يتمتع بقسط من الشهرة في تلك المدينة، وكان رجلاً رقيق الحاشية، عطوفاً حتى ليمد يد المساعدة أحياناً إلى المرضى دون أجر، وإن كان يعنف في بعض الأحيان على أسرته ويريها شيئاً من الغلظة والتحكم. وكانت أمه امرأة صالحة قانتة قوية الخلق ذكية الفؤاد، ولقد ورث الصبي هذه الخلال فما ورث من أمه فكان أكثر شبهاً بها منه بأبيه.
ونشأته هذه الأم قوياً، فلقد كانت تعني أشد العناية بإعداد أبنائها لملاقاة مصاعب الحياة يوم يجابهون الحياة؛ ودرج الصبي في عصر كان ينذر بجسيمات الأمور، عصر كانت البلاد فيه أشد ما تكون حاجة إلى أولى الفطنة والعزم من الرجال؛ وراح يستبقل الشباب في الوقت الذي كانت إيطاليا تستقبل فيه فترة من حياتها كانت كفترة الشباب من حياة الأفراد.
ولد مازيني بعد ثلاثة أعوام من تتويج ابن الثورة بونابرت إمبراطوراً على فرنسا؛ وكانت لا تزال انتصاراته في إيطاليا تشغل أذهان بنيها، تلك الانتصارات التي وضع بها أساس مجده وعظمته؛ وكانت نفوس الإيطاليين لا تزال تجيش بما هبط عليهم من وراء الألب مع الفاتحين من مبادئ تلك الثورة التي افتتحت فصلاً جديداً في تاريخ بني الإنسان؛ وأحس ذلك الشعب كما أحس غيره من الشعوب أنه تلقاء فجر عصر جديد يخالف ما سلف من العصور أشد المخالفة، وكانت ترف على جانبي ذلك الفجر أطياف جميلة بسَّامة ولدت كلها من النور كأنما تهبط من عالم غير هذا العالم الذي ألف الظلام؛ ولقد اشتد هيام الناس بتلك الأطياف الساحرة التي سموها الحرية والديمقراطية والمساواة، وراحوا يمنون أنفسهم بالصباح الجميل بعد ليلهم الحالك الطويل.
ولكن الصبي لم يكد يناهز التاسعة من عمره حتى كان الإمبراطور في قبضة أولئك الذين كان يزعجهم بالأمس مجرد ذكر اسمه؛ وأرسل (القورسيقي الصغير) كما بات يدعوه أعداؤه إلى جزيرة إلبا حيث يلاقي ذل الأسر؛ وشاعت في طول أوربا وعرضها أحاديث القومية ويقظة الشعوب وتحطيم الاستبداد وما إليها من العبارات التي ولدها الجيل، وتكشف الفجر عن طيوف جديدة ازداد بها طلاقة وسحراً.
على أن الناس في إيطاليا وغير إيطاليا ما عتموا أن أدركوا أنهم كانوا تلقاء فجر كاذب، فلقد راح أرباب العروش وأقطاب السياسة يعدون الأغلال والسلاسل بدعوى القضاء على عوامل الفوضى والضرب على أيدي الخارجين على حكامهم الشرعيين؛ وهبط الليل، وانحسرت الموجة العاتية التي انبعثت من فرنسا، ولكن لتتجمع فتتلاطم فتندفع فتحطم الجسور وتجرف السدود.
ويستمع الصبي إلى هذه الأنباء في بيته حيث كان يلتقي خلان أبيه، فلا يفهم منها إلا بمقدار ما يسع عقله الصغير؛ ولكنه كان صبياً قوي الخيال منذ حداثته، وعصر الطفولة هو عصر الخيال الخصب، هو ذلك العصر الذي يخيل إلى كل طفل فيه أنه قادر على أن يكون بطلاً ككل من يسمع سيرهم من الأبطال؛ ولذلك تحرك خيال الصبي أكثر مما تحرك عقله، وامتلأ لا ريب بشتى الصور عن ذلك القورسيقي الإيطالي المولد الذي جاب البلاد قاصيها ودانيها فاتحاً ظافراً ليستقر آخر الأمر أسيراً في جزيرة إيطالية. وما الذي هزم ذلك الجبار وأنزله من عليائه؟ ذلك ما يتساءل عنه الصبي. وماذا يعني أبوه بقوله اتحاد الشعوب ضده؟ ولكن خياله القوي لا يلبث أن يسعفه بالجواب، فهو وخلانه الصغار إذا اتحدوا على صبي كبير فإنهم يخيفونه ويهزمونه؟ وهكذا يتعلم زعيم الغد أول درس من دروس الجهاد ويفطن إلى أول عدة من عدد القوة.
ويحار الصبي أحياناً بين مادحي ذلك الجبار وبين قادحيه؛ ولئن استطاع أن يدرك أنه يبغض لأنه كان مستبداً يفرض إرادته على الشعوب، فما يقوى عقله الصغير على متابعة الذين يمدحونه والذين يسندون إليه أنه خطا بإيطاليا خطوات واسعة نحو الاتحاد فقضى على حكم البربون وحكم البابا، وأشاع في البلاد على رغم خضوعها له شعور القومية والوحدة. لا يستطيع الصبي أن يفهم ذلك جلياً، وإن كان خياله لا يتقاصر عن تصور الوحدة ولو في أبسط صورها؛ وأنه ليدين لهذا الخيال بالكثير مما يتعلم في هذه السن. وهل يفلت من الخيال في غد يوم يكون شاباً مثقفاً أو كهلاً مجرباً؟ كلا. فلسوف يكون الخيال من أعظم أسباب قوته ومن اشد دعائم إيمانه ومن أبرز خصائصه؛ وإن كان بعض دارسيه يعيبونه عليه وينكرون إسرافه فيه، وهم لو أنصفوا لرأوا فيه عنوان محامده. وكم كان للخيال من فضل على كثير غيره من العظماء!
ويجلس الساسة في فينا بعد واترلو يتحكمون في مصير الضعفاء ويقضون قضاءهم في إيطاليا كما قضوا في غيرها، فإذا سلطان النمسا يفرض على ولايتها وتضم جنوة إلى بيدمنت، وقد طالما مناها الساسة بالاستقلال، وتعود إلى البابا ولاياته وسلطته، وتقادم في نابلي مملكة تخضع للبربون، ويتفق ملكها سراً مع زعيم الرجعية العتيد في ذلك العصر مترنيخ على ألا يمنح شعبه دستوراً إلا بإذن من النمسا. وهكذا يفلح ذلك السياسي الماكر في تقسيم إيطاليا وتفريق كلمتها حتى ليحق عليها قوله:(إن إيطاليا ليست سوى اسم جغرافي).
وتخيم الرجعية على إيطاليا جميعاً وتطارد الحرية الشريدة أينما ظهر هيكلها المكدود أو لاح علمها الممزق؛ وينتقل الصبي من طور الخيال الغالب إلى طور العقل المتيقظ في مثل ذلك الجو البغيض
ولن يملل الصبي القراءة في تناول أعداداً قديمة من صحيفة الجيروند كان قد دسها أبوه بين كتبه الطبية مخافة الرقباء، وينهل ما شاء من معين عذب يروى غليل نفسه ويبهج روحه ويثبت فؤاده؛ ويحرم عليه وعلى التلاميذ الكتب التي تخشى الحكومة منها فلا يعطون إلا الكتب الكلاسيكية ليكون لهم فيها ما يبعدهم عن الآراء الثورية، ولكنهم يقرئون تاريخ الإغريق والرومان فيعجبون بالنظام الجمهوري ويطربون لما تقع عليه أعينهم من مبادئ الديمقراطية
ويستشرف الفتى للسادسة عشرة من عمره فتهز نفسه من أعماقها أنباء تتناقلها الألسن عما انبعث من الرجفات في أنحاء إيطاليا، فإن الناس حين ضاقوا بحالهم لم يجدوا بداً من تكوين الجماعات السرية وكان من اشهر هذه الجماعات جماعة الكاربوناري، وما زالت هذه الجماعة تنمو وتنتشر حتى كان لها أنصارها في أكثر الولايات! وكان لهذه الجماعة بحكم تكوينها رموز يعرفها أعضاؤها، فاسمها معناه (موقدو الفحم)، ومن مبادئها (طرد الذئاب من الغابات) ولعلهم يريدون طرد الحكام الأجانب من البلاد. على أن غاية الجماعة كانت تنحصر في القضاء على الاستبداد وإحلال الحكم الدستوري محله
وما حل عام 1820 حتى هبت الثورة في نابلي، وقد جاءت الأنباء إلى الكاربوناي هناك عن ثورة في أسبانيا؛ وأسقط في يد الملك فأجاب شعبه إلى الدستور؛ وحذا الكاربوناري في
بيدمنت حذو إخوانهم في الجنوب، فاندلعت نيران ثورتهم في صورة لم يجد ملكهم بداً إزاءها من اعتزال الحكم، فقد خشي من النمسا أن يمنح شعبه الدستور؛ واتسع نطاق الثورة حتى شملت لمبارديا نفسها وكانت تخضع مباشرة لحكم النمسا
ولكن النمسا ما لبثت أن ساقت جيوشها فقضت على الثورات وأرغمت الثوار على الفرار ونكلت بمن وقع منهم في يدها، وأثبت مترنيخ لساسة أوربا مقدرته على مقاومة هذه الحركات، وإنه لينسى أن القوة المادية مهما بلغت لن تقضي على القوة المعنوية، وإن هذه الثورات إنما تستعر كما تستعر الجمرات تحت الرماد؛ وهل كانت الحرية إلا تلك الشعلة التي لا تزداد مع الضرب إلا توقداً واشتعالاً؟
وكان الصبي يمشي صحبة أمة ذات يوم في أحد شوارع جنوة فوقعت عيناه على فلول من الهاربين كانوا في طريقهم إلى أسبانيا، ورأى معاني اليأس تلوح في وجوههم المصفارة، كما رأى آثار الإعياء بادية في أجسامهم المكدودة، وكان بعضهم لا يجد ما يقتات به وقد عضه الجوع أياماً
واستقر في خاطره هذا المنظر فما يبارحه قط، وتحرك اليوم خياله وعقله معاً، وأخذته حال من الهم صرفته عن كل شيء حتى باتت أمه تشفق مما ألم به، ثم أخذ يفكر في أسباب هزيمتهم ويتتبع أنباءهم حتى اهتدى إلى حكم؛ فقال وهو لا يدري أنه كان يعبر عن الواقع (لقد كان من الممكن أن ينتصروا لو أن كل فرد قد أدى واجبه)
وتعلق خياله بالكاربوناري ومبادئهم فما يلتفت إلى شيء سواها، وكان يومئذ في سن اليفاعة، سن الأحلام والآمال، سن التوثب والتطلع إلى المثل التي ينسجها الخيال ويفيض عليها من سحره ومن تلفيقه، وهو ذلك الفتى الذي اشتد خياله حتى أشرف به على المرض. أنظر إليه كيف آلى على نفسه أن يلبس السواد منذ ذلك اليوم الذي رآه اسود في خياله، فلن يبدل ثيابه السود بعدها حتى يلفه الكفن ويضمه سواد القبر
وهكذا ينضم الفتى إلى الكاربوناري بآماله وقلبه، ويتحرق شوقاً إلى اليوم الذي يجاهد فيه بين صفوفهم، ويستعذب معهم الألم في سبيل قضية الحرية والدستور
ويعود إلى كتبه بعد حين وقد انطوت نفسه على ما لن تقلع عنه بعد اليوم؛ وكم وجه سواه من العظماء وجهتهم حادث بسيط تقع عليه أعينهم فيرون فيه على بساطته مالا يراه
غيرهم، وتستشف نفوسهم من خلاله من المعاني مالا تستشفه إلا كبار النفوس؛ وتلك خلة يمتاز بها العظماء أبدا من سائر الناس. . .
وكان الصبي يدرس الطب ليخلف أباه، ولكنه أخذه الإغماء مرة وهو يشهد عملية جراحية، فمال به ذلك الحادث عن الطب فاختار القانون؛ وكان يحس بميل قوي إلى القانون، فلعله كان يراه أقرب إلى ما وطد العزم عليه، وإن يكن قد أبغض طريقة تدريسه وبرم بالكتب التي تشرح قواعده
على أنه كان يكثر قراءة الشعر والتاريخ ففيهما لخياله المشبوب مجال، ولروحه المتوثبة وحي؛ ولنفسه الحزينة عزاء. ولما أوفت به سنة على الشباب عرف بين أقرانه بفصاحة اللسان وصفاء الذهن وحماسة القلب وشدة الشعور وجموح الخيال
(يتبع)
الخفيف
رسالة الفن
لإسلام الفن وإسلامنا:
فلنغير ما بأنفسنا
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
قواعد الإسلام هي:
1 -
الشهادة بأن لا أله. . . إلا الله وحده. . . وحده لا شريك له في أي ناحية من نواحي ألوهيته، ومنها تفرده بالخلق فهو واهب الحياة، وواهب الرزق، وواهب الراحة في الحياة، وفي الموت، وفيما بعده. ومنها تفرده بالحكم حكم فلا حكم إلا لقضائه وأمره وشرعه. . . هي الشهادة بالله. وأظن أنه لا جدال في الله
2 -
الشهادة بأن محمداً رسول الله. . . وهذه قضية تقوم على ركنين: أولهما أن محمداً رسول، وثانيهما أنه رسول الله. أما أنه رسول فحياته كلها تشهد بذلك، فقد كان صاحب فكرة خاصة محدودة تسلطت عليه منذ يقظته إلى الكون وانتباهه إلى نفسه، فلم يخرج عن حدود فكرته هذه لا في عمل ولا في قول، ولا في جد ولا في هزل. حتى لقد كان يمزح فلا يقول إلا حقا. وقد بدأ انطلاقه في اتجاهه هذا منذ طفولته المبكرة فعرف فيه الناس طفلاً (الصادق الأمين) وليس للأطفال جرائم ولا زلات إلا الكذب وإغفال العهد فمن لم يقترفها منهم كان الطفل الطاهر، محمداً. ما أروع أسمه!
هو إذن رسول فكرته. . . فأية فكرة كانت فكرته؟ كانت الحق، وكانت الفطرة. والحق هو الله. . . والفطرة هي الطبيعة التي أوجدها الله، ومن قوانين هذه الطبيعة التطور والارتقاء بالمادة والروح
فهو إذن رسول الله، لا رسول الشيطان، ولا رسول فكرة أخرى آثمة بعثتها نزعة من نزعات نفس متعجلة. . . فمن محمد؟ إنه بشر لم يخرج على طبع البشر. فهل من طبع البشر أن يستطيع الاتصال بالله؟. . . إنه يستطيع لو كانت في نفسه مؤهلات محمد ومواهبه ثم جاهدها جهاد محمد. فإذا لم يستطيع فليشابهه قليلاً أو كثيراً حسبما يستطيع، ومن كان كعمر فهو خير ممن كان كزفر
3 -
الصلاة: والصلاة عمل وكلام: قيام يقرأ الإنسان فيه من كلام الله. . . كذلك يجب أن ينهض المسلم في الحياة وأن يذكر الله. . . وعليه أن يذكر الله في عمله، وفي قوله، فالصلاة عمل وكلام. . . وركوع. . . وهو هذا الانحناء أمام ربنا العظيم. . . العظيم حقاً. . . الذي فعل ويفعل. . . وسجود لربنا الأعلى. . . إليه وحده الذل، وبه وحده العزة، وعنده وحده الأمان، وفيه وحده الرجاء. . . وهذه الجلسة الأخيرة المطمئنة التي يقرأ فيها المصلي التحيات لله، والسلام على النبي وعلى نفسه وعلى المؤمنين. كذلك يجب أن يفعل الإنسان حين يطمئن وحده أو بين الناس أن يكون كلامه وعمله تحيات وسلاماً. . . لله وللنبي وللمؤمنين ولنفسه. فالصلاة إذن تلخيص لما يجب أن تكون عليه الحياة. ولو أن الناس ذكروا الله ونهضوا، وعظموه وخشعوا، وأجلَّوا شأنه وذلوا له وآمنوا به، وكان الذي بينهم وبين الله والنبي والناس وأنفسهم تحيات وسلام. . . لو أنهم فعلوا هذا فيما بين الصلاة والصلاة، لكانت حياتهم صلاة في صلاة. . .
4 -
صيام: والصيام زهد في حاجات البدن، وهو دليل على إمكان الرقي وهو من بشائر القيام بالذات. . . وهو عدو المادة الذي نصره الإسلام
5 -
الزكاة: والزكاة نزول عن جزء من ملك الإنسان للناس، فمن كان ملكه مالاً فعليه نصيب منه يجب أن يؤديه للناس، ومن كان ملكه معنى فإن عليه نصيباً منه يجب أن يؤديه للناس. . ومن أحسن وتصدق فإن له في الصدقة عشرة أمثالها. . ذلك أن الإحسان يبعث في النفس شعوراً بالراحة والغبطة، فإذا أحب الإنسان الإحسان أحب هذا الشعور، فمارس من أجله الإحسان وأدمنه واستلان له حتى يقضي العمر في إحسان وإحسان، فهو في راحة وغبطة ما دام محسناً. . . إن في الإحسان جزاء الإحسان، وإن الذي عند الله خير وأبقى
6 -
حج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً: والبيت حرم تتجه إليه القلوب والأنظار والأسماع. وللحج وقت خاص يجتمع فيه القادرون عند هذا البيت. . . من الشرق ومن الغرب ومن الشمال ومن الجنوب، فإذا كانت أمة في محنة حج القادرون من أهلها إلى البيت والتقوا عنده بالحجاج ممن يملكون عونهم فاستعانوهم، والإسلام أخوة، والتعاون فيه واجب، فالحج إلى البيت يشبه ما يريد الغرب أن يحج رؤوسه إلى جنيف أو لوزان
هذه هي قواعد الإسلام وهذا هو شيء عنها، وإن الإسلام لأجل وأجل من هذا الذي بسطت وأعظم
فهل في الدنيا مسلمون كثيرون؟
الواقع أننا في حاجة إلى صرخة جديدة تهتف بالإسلام ليفيق على دويها المسلمون الذين نام الإسلام في قلوبهم - ولا نقل إنه مات، لأنه لا يمكن أن يموت، فهو دين الفطرة والطبيعة المرتقية، فهو حي ما كانت الحياة، إذا أغفله أهله المنسوبون إليه، فإن غيرهم ساع إليه متعلق به؛ يحققه قليلاً قليلاً، حتى ليشهدن في آخر الأمر به عمله، وليعلنن الشهادة بعد ذلك بلسانه
وهاهو ذا برناردشو يقول إن الإسلام هو الدين الذي سيسود أوربا بعد مائة عام. وهو لم يقل هذا إلا لأنه لحظ اتجاه الحياة الأوربية إلى مبادئ الإسلام الحقة تستنجد بها كلما أحست وحشة المارد وظلمتها، مدفوعة في ذلك بعوامل الطبيعة لا بتبشير يزاوله المسلمون، ولا بجهاد يمارسونه. و (شو) فنان من الغرب يعرفه الناس بأنه قد حرر عقله، وهو يؤذن بالإسلام على رأس أوربا. . . فكم من فنان (مسلم) يفعل اليوم هذا؟. . . قليلون جداً، فأكثرهم يتحرروا كما تحرر هو، وأكثرهم لم يصقلوا إحساسهم كما صقل إحساسه هو، وأكثرهم لم يطلقوا عقولهم من أغلال الزيف كما أطلق عقله هو، وأكثرهم يعربدون في ظلمة الباطل خارج الحدود التي رسمها الإسلام للحياة. . . ولا يعربد هو وكأنما هم يجهلون أن الفن من الحياة، وأن للحياة حدوداً رسمها الإسلام فحصر في داخلها أصولها، ثم ترك الخيار بعد ذلك لكل مسلم أن ينطلق داخل هذه الحدود ما حلا له الانطلاق، وحدود الإسلام ليست قيوداً مما يشل الحركة، ولا هي أغلال مما يمنع النهوض، ولا هي عصائب مما يحجب عن العيون النور، ولا هي أحجار مما يثقل على الحس، ولا هي جهالات مما يمتنع على العقل الاقتناع به وتدبره، وإنما هي حدود الطبيعة التي لا يمكن خرقها، والتي لا يخرقها إلا من يظلم نفسه، وهي ليست شيئاً إلا تحرير الإنسانية من كل عبودية تفرض عليها إلا عبادة الله ومن كل تقليد أو نظام يراد به العبث بكرامة العقل أو كرامة الروح. . . وهي في ذلك كله سعي حر بالتطور إلى الارتقاء
فعلينا أن نسعى إلى هذا ومن الله العون
وعلى أهل الفن الإمامة في هذا السعي فهم الموهوبون فضلاً من روح الله، وعليهم زكاة الروح كما أدى غني زكاة المال. وليقرئوا معنا من آيات القرآن قوله تعالى:(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فهذه أمام العيون حقيقة من حقائق الإسلام التي تحتمل الأكوان، وتنهض بالأقدار. وقد تكون عند من يسمعها ويتفهمها أمراً بديهياً تراه كل عين، ويحسه كل قلب، ويعيه كل عقل حتى لكأنها تشبه قولنا: (إننا بشر) و (الملح يذوب في الماء) و (النار تبعث الحرارة) فكل هذه حقائق ليست في حاجة إلى الترديد لأنها معلومة متفق عليها لا ينكرها ولا يجحدها عقل إنسان. ولكن هذا لا يعيبها طبعاً، فهكذا طبع الخلود والدوام في الحق: قد يجهله، وقد نظل أطول العمر نجهله فإذا عرفناه قلنا:(هذا صحيح) ولم نقل أكثر منها، ثم تعجبنا له أو لم نتعجب، ثم أطلقناه بعد ذلك في أنفسنا يغيب في آفاقها حيثما شاء لا نراقبه ولا نتقصى أثره لأننا مطمئنون إليه بما جبلنا عليه من حبه، ولإيماننا الفطري بأنه مهما غاب في أنفسنا؛ فإنه منجدنا عندما نستنجده، وبأنه مجيرنا وقتما نحتاج إليه ونطلبه وأنه يأبى أن يخذلنا فهو الحق، والحق هو الله، والله قريب يلبي دعوة الداعي إذا دعاه. . . ولكننا لا ندعو من الحق إلا قليلاً، ندعوه بعد نكران أو نسيان، وأغلب ما ندعوه في حاجات الأبدان، ليتنا نذكره في غيرها وندعوه، فتصبح لنا إلى جانب هذه الحضارة التي أقامها العالم بالأسمنت و (الزلط) حضارة أخرى نقيمها نحن بالحب والرحمة. . .
فما لنا لا ندعوه؟!.
سبيلنا واضح وهو الإسلام. وهداتنا إليه الفنانون قبل العلماء، فهم الذين يناجون شعورنا وهو أول علامات الحياة فينا، وإنهم يقولون إن طلبهم التحرر، وإنهم لا يطيقون القيود، وإنهم يحبون أن ينطلقوا في الحياة كل منهم وراء فكرة، وإنهم يبذلون أنفسهم للناس فيحترقون ويضيئون لغيرهم الطريق، وإن مأربهم في الدنيا تحية وسلام. فهل هناك حياة تحقق هذا كله في أروع الصور إلا حياة الإسلام؟ فعليهم أن يباشروها، فهي التي تبعث الفن، أسمى الفن، وتقود إلى الهدى، أصوب الهدى وتنشر بين الناس أطيب ما تمنته الإنسانية من اسعد الأحلام. . .
وهم أقدر الناس على هذا ما دام المفروض فيهم هو أنهم أشد الناس إحساساً، وأسرعهم
إدراكاً لحقائق الحياة القريبة من الفطرة، أو التي هي الفطرة نفسها، والتي غيبتها عن إدراك الجماهير هذه الستار أسدلتها الصناعة على الطبيعة، وهذه الوسائل أراد بها الناس أن يأخذوا من الأرض أكثر مما تحمل طاقتهم فرزحوا تحت أعباء ما حملوا، وثقلت عليهم أعباؤهم فشغلتهم عما كان جديراً بهم أن يلمسوه، وأن يحسوه، وأن يعقلوه، من شئون أنفسهم ومن شئون هذه الخلائق التي تحيط بهم، وما يربط هذه الموجودات جميعاً من نظام لا يختل، ولا يعتل
جماهير الناس لم تعد آذانهم تسمع أصوات قلوبهم وأفئدتهم فقد طغى على هذه الهمسات الناعمة قصف المدافع، وضوضاء البورصات، وصفير القطر، وأزيز الطيارات. . .
جماهير الناس لم تعد أعينهم ترى ما في أحضانهم من نفوس أزواجهم وأولادهم، فقد غاب كل مرئي في هذه الحضارة بين سحائب الدخان الكثيف الذي تنفخه المصانع فتسمم به الهواء وتسودّه ظلاماً
جماهير الناس لم تعد تملك أن تقف وقفة المتريث المتعرف المتأمل عند أي ظاهرة من ظواهر الجمال أو ظواهر القبح، فالناس اليوم متسرعون متعجلون، يجرون ويطيرون ويقفزون على وجه الأرض كما يرقص الشيطان. . يمرون بآلاف من شواهد الحق والحكمة، ولكنهم لا يلمحونها إلا كما يلمح العقاب من فوق السحاب دبة النملة تحت التراب. . .
فأي شيء يراه هؤلاء؟ وأي شيء يسمعون؟ وأي شيء يعون؟
إنهم أشقى القرون وأباس الأجيال!. . .
وليت للمسلمين في هذه السوق ما لغيرهم من ربح المادة، فقد يكون في المادة عزاء. . . بل حاشا أن يكون فيها إلا عزاء السكرة. . . وهم حتى في هذا متراجعون متأخرون رانت عليهم قناعة النائمين، فلا هم كسبوا الدنيا ولا هم ربحوا الدين. . . فمن منقذهم من هذا غير الفن يلتهب في بعض النفوس بوهج من حر الإسلام، يشعله الإيمان، وتزكيه الرعاية، ويحفظه الإصرار على إرضاء الله. . .
وإن فينا فنانين تعرفهم جماهيرنا. . . ولكنهم مشغولون بما يقرئون من كتب الغرب التي أوحتها حضارة المادة الملفقة، عن آيات الخلد المبسوطة للعيون في القرآن. . . وحتى هم
إذا قرءوه لم يقرئوا منه إلا لفظة وأسرعوا في تلاوته كأنما هم يعدون أرقاماً. وفيه آيات جمعت أسرار الحياة. . .
عزيز أحمد فهمي
رسالة العلم
لحظات الإلهام في تاريخ العلم
بقلم مريون فلورنس لانسنغ
قصة العجلة
أبونا النيل - الريح والتيار
كان الإنسان الهمجي لا يضع على جسده ستراً سوى جلد الحيوان، وكان إما دافعاً صخرة أكبر من أن يستطيع حملها وإما حاملاً عبئاً ينوء بحمله - هذه أول صورة نتخيلها للرجل القديم أثناء مزاولته عمله
ما أضأل وما أعيى ما يبدو لنا الإنسان الأول عندما نتصوره واقفاً بالعراء وليس لماضيه تاريخ يفيد منه وليس له إلا جسمه القوي وإلا مواهبه الذهنية التي عليه أن يقهر بها الدنيا ويخضعها له! وكان لا بد له من قهرها لأنه إذا لم يحصل على الطعام والمأوى والدفء فإنه ميت لا محالة
إن الدنيا حافلة بالكنوز التي فيها وسائل نعمته وراحته. ولكن كيف يستطيع ذلك؟ لم يكن لديه مفتاح تلك الكنوز ولا لديه المرشد لمصادرها، ولا غرابة في أن يكون بطيئاً في الوصول إلى شيء ما وإنما الغرابة في سرعته - على الرغم من قلة التجريب ذهنياً ويدوياً - في الوصول إلى أشياء يقضى بها حاجياته
يقف الرجل الهمجي أمام عبء أثقل مما يستطيع حمله كما تصورناه في بداية المقال، وليس لديه من الآلات إلا أجزاء جسمه وليس يستطيع السفر إلا إلى حيث تستطيع قدماه حمله ولا يحمل إلا ما تقوى ذراعاه على رفعه ولا يدفع إلا ما يندفع أمامه. هذه صخرة أمامه وهاهو ذا لا يستطيع أن يحركها
ربما وجد هذا الإنسان القديم غصناً ساقطاً من شجرة فوضع طرفه عند تلك الصخرة ودفعه فوجد الصخرة تتحرك. . . إن حدث ذلك فإن دهشة ستعروه وسيجرب غصناً قصيراً فلا يجد له فائدة وسيجرب غصناً أطول فيجد فائدته أكبر. وإذا صادف وجود صخرة أصغر من الأولى على مقربة منها ووضع الغصن فوقها ووضع طرفها تحت الصخرة الكبيرة فقد
يجد أنه يستطيع رفع تلك الصخرة عن موضعها بإحداث ثقل من جسمه على الطرف الآخر من الغصن دون أن يحمَّل عضلاته مشقة الدفع والرفع
إن فعل ذلك فإنه يخطو خطوة عظيمة في سبيل الابتعاد عن مستوى الحيوانات التي تعيش معه في نفس الغابة لأنه باستكشافه هذا يكون قد عثر على قانون من قوانين الطبيعة هو نظرية الرافعة التي بواسطتها يمكن استخدام ثقل ضئيل لرفع ثقل أكبر بالضغط على الطرف الآخر
لم يكن ليعرف في ذلك العهد أن هذا قانون من قوانين الطبيعة فقد مضت مئات كثيرة من السنين حتى ظهر العلامة اليوناني أرخميدس وتبين هذه النظرية وما يمكن أن يترتب عليها من النتائج المدهشة فقال: (لا أريد إلا مكاناً آخر أضع عليه الرافعة فيصبح في وسعي تحريك هذه الدنيا
وكانت لحظة عظيمة تلك التي عرف فيها أرخميدس قانون الروافع، ولكن ألم يكن أكبر من هذه اللحظة تلك اللحظة الأخرى التي احتاج فيها الصياد القديم إلى شيء فوق طاقته فصنع رافعة وهو يجهل كنهها من الخشب وحرك بها الثقل
كان هو البشير بالرجل الذي رفع الصخور الضخمة ليبني بها أهرام مصر كما كان هو البشير بمهندس القرن العشرين الذي يرفع القوائم الحديدية إلى قمة ناطحات السحاب
وإنما نجح ذلك الرجل لأنه لا يريد أن يفشل في واجب لم يستطيع أداءه، وربما كان العبء الذي أراد الصياد القديم أن يحمله إلى كهفه صندوقاً فيه جثة وحش ليقتات من لحمه، وربما كان قد أعانه على تحريك هذا الصندوق عمودان من الخشب وضعهما تحته فاستطاع بواسطتهما نقل الصندوق إلى مكان ابعد من الذي يستطيع نقله إليه لو حمله على ظهره
لكن هذا العمود كان في البداية شجرة طويلة غير مشذبة تتدحرج باليد على أرض غير ممهدة، فَنَقْل الصندوق على عمودين من هذا النوع أمر يشق على صياد مُتْعَب. لكن صادف أن كان العمود ناعم الملمس حسن الاستدارة، وكان وضعه تحت الصندوق بشكل حسن، فسهل تحريك الصندوق الذي كان تحريكه صعباً من قبل
في تلك العصور المظلمة التي نتخيل حدوث هذه القصَّة فيها كانت توجد كتل من الخشب مستديرة وهي مقطوعة من جذوع الأشجار
وكان في ذلك العهد رجل أذكى من رفاقه، فبعد أن نقل الأثقال على أشجار تتدحرج حتى كاد ظهره أن ينكسر، رأى أن يحفر اثنتين من هاتين الكتل وأن يصل بينهما بعمود يمر بوسط كل منهما لا يكون كجسم الشجرة التي تجر على الأرض. هذا هو أول نوع من أنواع العجلتين ومن المحور الواصل بينهما
وبهذه الوسيلة عرف الإنسان قانوناً آخر من قوانين الطبيعة هو نظرية الاحتكاك، والاحتكاك معناه تمرير سطح على سطح. وهذه النظرية تفيد الإنسان من عدة وجوه، وقد كنا ننزلق على الثلج بغير قبقاب (الباتيناج) لولا معرفتنا تلك النظرية
لكن إنسان ما قبل التاريخ كان يستخدم كل قوته ضد قوة الاحتكاك، فكان يوجه جهد عضلاته لجر الأثقال على الأرض، فلما رفع الأثقال عن الأرض استفاد كثيراً ووجد الدحرجة على أشياء مستديرة أسهل من الجر على الأرض، فلما عرف العجلتين المتصلتين بواصل يوضع تحت العبء تضاعف كسبه، فقد أضاف قوة العجلة إلى قوته وطبق نظرية الرافعة مرة أخرى لرفع الثقل عن الأرض حتى لا يجر جسماً مسطحاً على جسم مسطح
وشتان بين تعلم هذه النظريات من كتب الطبيعة بطريق الدرس وبين معرفة الرجل القديم لها واحدة بعد واحدة، معانياً الكثير من الفشل في مقابل القليل من النجاح. وهو في أثناء ذلك يحتال على تخفيف الجهد القاصم للظهور والمستنفد للقوى
إننا نجل الذين كان لهم من الحكمة ما ساعدهم على أن يفهموا وأن يستنبطوا القوانين العظيمة التي أقيم عليها بناء هذا العالم فلا تنسى أن تكرم ذلك المخترع المبتكر الذي كان له من الذكاء ما مكنه من صنع العجلة
أبونا النيل
(أقبل الفيضان! أقبل الفيضان! أبونا النيل يعلو)
هكذا كان يقول الأطفال في مصر فيترك كل عامل عمله ويذهب ليشهد النيل العظيم وقد بدأ يقيض ماؤه على جانبيه
وقد كانت أرض مصر مدة اشهر عشرة قبل الفيضان جافة بتأثير الشمس الجنوبية المحرقة، وهاهو ذا الصيف قد أقبل وارتفع ماء النهر المعبود جرياً على عادته التي لم يخلَّ بها؛ وهاهو ذا يترك مجراه ويصل إلى أماكن بعيدة من أرض البلاد التي يهبها الحياة،
ويظل النيل خمسين يوماً ينُعم على الناس ببركاته. وعندما يعود إلى مرقده الآمن بين شاطئيه اللذين أنشأهما لنفسه، يحجب ظاهره بطبقة غنية من الطمى الأسود تستمد منها الحياة فواكه الربيع وزهوره وحبوبه، فينعم بها الناس إلى العام المقبل حيث يعود إليهم مرة أخرى بهدايا مائه الغالي. أما في نظر الذين تمطر في بلادهم الدنيا في الربيع والصيف والخريف، ويتساقط البرد في الشتاء، وفي أرضهم الماء غير منقطع، فإن الفيضان بالنسبة لهم إخلال بنظام الطبيعة ونكبة على الجنس الإنساني، لأنهم لا ينتظرون ولا يريدون المفاجأة التي تجلب لهم النكبات والخسائر، وتهلك محاصيلهم وتكتسح مساكنهم
لكن أبانا النيل لم يكن بالضيف غير المرحب به على هذا الاعتبار بالنسبة لأرض مصر التي لفحتها الحرارة فلو أتى فيضانه مرة في كل عام بمقدار أربعين قدماً لأصبحت البلاد صحراء كالصحاري المجاورة لها. فلا عجب إذن في تقديس المصريين له واعتبارهم إياه أباً عطوفاً مكللاً بالفواكه والورق الأخضر. وتصويرهم إياه وحوله الأرواح السعيدة تلعب في مرح وهي وافرة العدد
ولكن مع كثرة ما يجود به النيل فإنه يعم جميع البلاد، ومع أن مدة الفيضان مطلوبة مهما طالت فإنه يظل كالنائم في مجراه الضيق عشرة أشهر في كل عام. وعندما ينتهي عمل النيل يبدأ عمل الإنسان وقد كان عملاً مجهداً
هذا الماء الغالي الذي يأتي في وقت قصير يجب أن يحتفظ به، من أجل ذلك كان الأرقاء ينشئون ما يشبه أن يكون بحيرة حتى لا يضيع ماء الفيضان بدداً في الرمال. ويجب أن يحمل هذا الماء إلى الدور والحدائق والمزارع التي تخرج عن المنطقة التي ينالها الفيضان. ومن أجل ذلك كان يكلف الأرقاء بحمل هذا الماء في أوان على رؤوسهم
وقد كان الجهد الإنساني رخيصاً في تلك الأيام وكان للملوك والنبلاء في مصر مئات ومئات من العبيد لا يعدونهم أفضل من المواشي: هم آلات إنسانية لم توجد إلا لتؤدي مالا نهاية له من الخدمات لساداتهم. وعلى النقوش المصرية القديمة على الأحجار صفوف وصفوف من العبيد حاملين أواني الماء على رؤوسهم
لكن حتى الأرقاء ومن يعهد إليهم بأن يسوقوا العبيد كانوا أهل ذكاء ولم يكونوا حيوانات تعمل بلا عمل ولا فكر ولا محاولة للتغيير. وفي يوم من الأيام حدث أن رجلاً ذكياً من بين
اللذين كان من واجبهم اليومي رفع المياه من المجرى المنخفض إلى الحقول العالية، حدث أن هذا الرجل علق دلوه بطرف عمود خشبي مستند وسطه إلى الجسر وتعلق بالطرف الآخر من هذا العمود وها أنت ذا تراه الآن يطبق نظرية الرافعة مرة أخرى، فعلق الدلو في سهولة في الهواء ثم سكب في الموضع الذي أراد الرجل أن يرويه من ماء النهر
وقد كانت مصر موصولة الأجزاء على ضفتي نيلها بترع وجداول تروى بواسطة الشادوف (الدلو والعمود)، وتوضع هذه الشواديف أما فرادى وإما أزواجاً لرفع الماء من مستوى إلى مستوى آخر. لكن كان لا يزال الرفع بواسطة رجال، وكانت كل القوات الدافعة التي يجب استخدامها من نشاط العضلات
ثم جاء رقيق لعله أذكى ولعله اضعف جسماً من غيره، فظن سيده أنه أكسل من رفاقه، راقب هذا العبد وهو يؤدي عمله إحدى العربات المصرية وهي تسير بخفة بسبب عجلاتها الدائرة فأخذ عجلة قديمة سقطت من إحدى العربات وعلقها في عمود فوق حفرة الماء وعلق بها الدلو ووجد بذلك أن الدلو يهبط ويعلو في سهولة وأن المشقة قد قلَّت
كان الرجل يندفع إلى الأمام ثم إلى الوراء في أثناء إخراجه للدلو ووضعه في الماء، ويتكرر ذلك طول مدة السقي فيفقد قواه شيئاً فشيئاً لطول هذه الحركة، وهو فضلاً عن ذلك مضطر إلى الوقوف بين دفعة ودفعة
فلما عرف طريقة العجلة التي تدور دون أن تقف أو تعاود البدء، لما عرف هذه العجلة (الساقية) أضيف فصل آخر إلى قصة العجلات التي مكنت الإنسان بسبب ما فيها من سرعة الحركة من جر أثقاله ومن الانتقال على عربة، ومن رفع الأثقال عن الأرض هذا فضلاً عن أن العجلة يمكن أن تدار سواء بواسطة الإنسان أو بواسطة حيوان يساعد الإنسان في هذه المهمة، ولكنها في مصر كانت على الغالب تدار بواسطة الإنسان وحده لكثرة الرجال ورخص الجهد الإنساني.
(يتبع)
ع. أ
الكينا تفتح للصين عهدا جديدا مزدهرا
(شانك شي) هو اسم لإحدى المقاطعات التي لا بجدها الإنسان في خارطة مهما كانت دقيقة فليست هذه تسمية جغرافية رسمية ولكنه اسم يعني باللغة الشعبية (العشرين هسيان) الواقعة في جنوبي شرقي تونان المقاطعة الصينية.
(شانك شي) معناها هواء فاسد ولهذه المقاطعة سمعة سيئة منذ أكثر من ألف سنة بسبب العدد الكبير للوفيات التي يسببها مرض الهواء الفاسد (الملاريا) فقد كانت سابقا بقعة تجارية غنية ومزدهرة وهي الآن بقعة فقيرة تعد ضحايا الملاريا بعشرات الألوف.
لكن عن قريب تدخل هذه الأخبار في نطاق التاريخ القديم. فمنذ
منتصف 1936 يوجد في اليونان مصلحة صحة للمقاطعة تقوم بمهمتها
بكثير من الغيرة وأرسلت أيضا عمالها الصحيين إلى مقاطعة شانك
شي كي يقوموا هناك بتحقيق يتعلق بجنس المرض المنتشر فيها فظهر
أن هذا المرض ليس إلا الملاريا فاتخذوا الإجراءات اللازمة حال
معرفة النتيجة وأرسلت مصلحة الصحة الوطنية مليونا ومائتي ألف
جنيه من الكينا على سبيل الإسعاف المؤقت وسترسل في المستقبل إلى
مقاطعة شانك شي كميات أكبر أيضا من هذا الدواء الشافي والواقي.
فالكينا هي فعلا العلاج الذي وصفته لجنة الملاريا في جمعية الأمم للوقاية وللشفاء من هذه البلية البشرية فإذا تبع الإنسان نصيحة هذه اللجنة وأخذ يوميا 400 ملليجرام من الكينا مدة موسم الحميات فلا يصيبه هذا المرض وإذا ما أصابه فلجنة جمعية الأمم توصي في هذه الحالة بالعلاج السريع بالكينا أي جراما واحدا أو جراما وثلاثين ستجرام مدة خمسة أو سبعة أيام ولا داعي لعلاج تكميلي آخر لكن في حالة الانتكاس يمكن الشفاء باستعمال العلاج السريع نفسه.
البريد الأدبي
على مسرح الأوبرا
افتتحت الفرقة القومية موسمها على مسرح الأوبرا بمسرحية (مصرع كليوبترا) وهي داخلة في أدبنا القومي. وميزة المسرحية أن موضوعها مصري وأن صاحبها وضعها بالعربية شعراً. وإذا نحن نظرنا في مبناها ومعناها أصبنا الأول لا يخرج عن طرائق النظم المألوفة بمحاسنها ومساوئها، مع توخي الَجرسْ البحتري اللطيف، وتطلب الحكم والأمثال على أسلوب المتنبي وغيره. . . ذاك هو شوقي الذي لم يسعده إقدامه على فك أداء الشعر العاني. وأما المعنى فتسَّيره النية الحسنة ويزينه الظرف، ثم يعوزه الإيغال في التفكير الشامل، والكشف عن بواطن النفس، وتغليب التلميح الرقيق على التصريح الذي لا يدع شيئاً لمخيلة متخيل
وقد ألقى الممثلون شعر شوقي كما كنا نلقي الشعر العربي في المدارس: نقطَّع أقسام البيت ونتمهل عند العروض ثم نضغط على الضرب، والذي يحرك ألسنتنا الوزن الذي عليه جاءت القطعة أو القصيدة. وفي ذلك الأمر ما فيه من غرابة، فإن الشعر لعهدنا هذا في أوربة (وعنها نأخذ فن التمثيل) يلقي على المسرح كأنه نثر. وسبب ذلك أن القصيدة تقوم بمعانيها وألفاظها لا بتفاعيلها، والتفاعيل كأنها الدعامات والخشب في منزل، وأما المعاني والألفاظ فأثاثه والتزاويق والتصاوير وكل ما يأخذ الطرف. كل ذلك فضلاً عن أن تقطيع أقسام البيت، وفصمه مصراعين، والضغط على القافية الراجعة، يورث الملل ويصك الأذن. وخير من هذا إنشاد البيت على حسب انسياب المعنى في تضاعيفه، مع التمهل عند اللفتة أو النكتة أو اللفظ الموحى، ومع تسرق العروض والضرب، كأن القصيدة كلها بيت (مدور) على قول أهل العروض. ومما يذكر بعد هذا أن الممثلين لم يلحنوا إلا قليلاً، ولكن بين الذال والثاء وألسنتهم (ولا سيما ألسنتهن) مغاضبة شديدة
وكان التمثيل يجاري لون المسرحية نفسها، وهو اللون الابتداعي (على حد ترجمة الصديق صاحب (الرسالة) بل كان يذهب وراءه على الغالب: ضجة، ومبالغة في الإشارة، وإفراط في التعبير عن الشعور. ولم يمُسك عن هذا إلا ثلاثة: منسي فهمي، وحسين رياض، وعباس فارس، إذ طلبوا الاعتدال في الأداء لعلمهم أن الصدق فيما هو طبيعي
وأما إخراج المسرحية فلا أكتمك أن المنظر الأول صدم عيني، فهو منظر (عايدة) المسرحية الملحنة. ويعلم الله كم مرة مثلت هذه المسرحية في دار الأوبرا الملكية، فكيف غاب عن المخرج أن العين سئمت مناظرها، بل كيف غاب عنه أنها لم تكن لتنتظر واحداً منها في (مصرع كليوبترا) أول ما يرتفع الستار. وقد رجعت إلى نصَّ شوقي، فقرأت (المنظر الأول - في مكتبة قصر كليوبترا - أشخاص جلوس إلى أعمالهم). والغريب أن الناظر لم يلمح على المسرح كتاباً واحداً، وأما الأشخاص فكان بعضهم إلى بعض جالساً لمحادثة أو لائتمار. هذا وفي الإخراج مآخذ أخرى أقف عند واحد منها: كانت الإضاءة تجري على غير بصيرة في غالب الأمر واكثر الحال. فكانت شديدة جداً في مشاهد تتطلب بعض الظلمة، في مشهد مصرع كليوبترا مثلاً. حتى الفصل الثالث - وفيه ينشق الستار عن مشهدين متجاورين، أحدهما حجرة الكاهن في المعبد، والآخر جانب من خارج المعبد فيه شجرة باسقة - على حسن توزيع مشهديه، لم يستطيع أن يوحي إلى الناظر ما ابتغاه المؤلف والمخرج جميعاً. وعلة ذلك اضطراب الإضاءة، فقد كان نور أحد الجانبين يسطع قبل انطفاء نور الجانب الآخر أو بعده توًّا، فلم يتمكن الناظر أن ينتقل - في دخيلة نفسه - من مشهد إلى مشهد: إن للنظر إيحاء وإيهام قبل كل شيء
وهذا الحديث يدور على الإخراج في الفرقة القومية. فهل أخفى عليك أني دهشت - وقد دهش غيري - أن الأستاذ زكي مبارك طليمات المخرج القدير لم يُدعَ هذه السنة، بعد رحيل المخرج الفرنسي (فلاندر)، إلى الوقوف على شؤون الإخراج في الفرقة وهي التي نهضت به من حيث الإخراج أول ما نهضت. ثم كيف ينسى ناس أن (أهل الكهف) و (تاجر البندقية) خرجتا على يد زكي طليمات ألطف إخراج، وأن الأولى لولا حذقه ما تذوق الجمهور المصري ما فيها من فن رقيق؟
حتَّام تهمل الكفايات - وما أقلها! - في هذا البلد؟ أو أقل ماذا يصنع ناس بما جاء في خطاب رئيس الوزراء: (وكم شاهدنا القادرين من أهل الفن والمعرفة يقصون عن العمل فيما هم أهل له).
بشر فارس
حاشية: بدا للفرقة أن تدعو أحد المغنين إلى إنشاد قطعة من المسرحية فكان الغناء طنينا،
وقد أسعفته الموسيقى، كما أسعفت الرقص.
بيني وبين القراء
1 -
اطلعت في العدد الأخير من الرسالة على كلمة لحضرة الأخ الكريم الأستاذ محمد عبد الواحد خلاف يذكر فيها أن الحديث الذي دار في منزل صاحب العزة الدكتور طه حسين بك لا حقيقة له وأن ذلك الاجتماع من نسج الخيال
وقد دهشت من كلمة الأستاذ خلاف، وبلغ مني العَجب كل مبلغ. ولولا الرعاية لحقوق الأخوةّ لقلت إن كلام الأستاذ يحتاج إلى تصحيح، وقدمتُ له الأدلة والأسانيد؛ ولكن الأستاذ خلاف كما أعرفه ينفر من المجادلات والمصاولات، ويكره ما يصحب النقد أحياناً من صَخب وضجيج. ومن حقه علينا وهو أخٌ كريم أن نجنَّبه مواطن الشغب والصيال
وما نمنَّ عليه بهذا الترفق، فهو عندنا أهلٌ للتكريم والتبجيل، وسنصفي ما بيننا من حساب يوم نلتقي مرة ثانية في منزل الدكتور طه حسين
2 -
قرأت (الحد الفاصل بين أدب الروح وأدب المعدة) لحضرة الأستاذ محمود على قراعة، وأنا أشكر لهذا الصديق المفضال ما تجشم من المتاعب في شرح الفروق بين النوازع الحسية والعواطف الروحية. ثم أعتب عليه: فقد آذاني أن يقرر أن زكي مبارك (يتحدى كل فكرة روحية، ويتهكم على كل نزعة سماوية) فمؤلفاتي ومقالاتي ومذاهبي في الحياة تشهد بغير ذلك. وهذا العناد الذي يعيبه عليّ بعض القراء هو من الشواهد على قوة الروح، ولو كانت المنافع المادية مما يدخل في حسابي لما استبحت الهجوم على فلان وفلان وفلان في سبيل الحق، ولهم قدرة على الضر والنفع، ولهم أصدقاء يقدَّمون ويؤخَّرون، ويحسب لهم طلاب المنافع ألف حساب
قد يكون للمظاهر دخلٌ في تلوين الصورة التي تراني عليها بعض العيون، فقد أكثرتُ من الكلام في الغراميات والوجدانيات، ولكن هذا الميل هو في جوهره من صميم الروحانية، وسأقضي حياتي في التغني بالصباحة والملاحة والجمال، تأدباً مع الله الذي جعل الوجود مواسم فتنة ومطالع أقمار ومشارق شموس. فإن كان هذا مما ينافي الوقار في نظر بعض الناس فهو عندي من أصدق الشواهد على الرزانة والعقل. ويرحم الله من يقول:
شاع في العالمين أني أديبٌ
…
جامح القلب فاتك النظراتِ
فاستباح الجهال شتمي وعدُّوا
…
فتنتي بالجمال من هَنَواِتي
ظلموني فلم أكن غير روُحٍ
…
صِيغَ من لوعة ومن زفراتِ
لو بعيني رأوا صدور الغوانِي
…
سبَّحوا للجمال في الصلواتِ
ومن غرائب الدهر - وللدهر غرائب - أن أضطر إلى الدفاع عن نفسي وقد جعلت الهيام بالمعاني الروحية والذوقية شريعة من الشرائع، وملأت الدنيا بالحديث عن أزمات الأرواح والقلوب في الشرق والغرب، ولم تكن فتنتي بالأعاصير في صحراء النجف أقل من فتنتي بالأزاهير في حدائق روان
الأستاذ محمود قراعة رجل فاضل، والفضل يوجب عليه أن يعترف بأصل الخلاف بيني وبين الأستاذ أحمد أمين فيما يتصل بأدب المعدة وأدب الروح، فقد أنكرت عليه هذه التسمية فيما يختص بالقرآن، لأن القرآن يرى الشخصية الإنسانية مكونة من جسد وروح، وقد وعد المؤمنين بأن ستكون لهم في الجنة طيبات من النعيم المحسوس
والفضل يوجب على الأستاذ قراعة أن يعترف بأني نقلته من حال إلى حال، فقد صرح بأن ما ورد في القرآن من اللذات الحسية ليس إلا رموزاً وإشارات، وأعلن أن بعض المبشرين تهكم حين سمع أننا نقول بأن المؤمنين ستكون لهم في الجنة أطايب من لذات الحواس!
وقد بينت في الكلمات الماضية أن هذه النزعة لم تصل إلى بعض المسلمين إلا عن طريق النصرانية، وقد اقتنع الأستاذ قراعة بهذا الرأي بعد أن تعرض لمناوشات صوبها إليه باحث من مصر وباحث من فلسطين
أما ثناء الأستاذ محمود قراعة على الأستاذ أحمد أمين فهو مقبول، ذكره الله بكل صالحة، وأعانه على فهم القيمة الصحيحة للأدب العربي، وجعله بالفعل لا بالقول من أنصار الروح!
اسمعوا كلمة الحق، أيها الناس
إن الأستاذ أحمد أمين قال في لغة العرب كلاماً لو قيل مثله في لغة الزنوج لعد من المفتريات، فكيف يكون تصحيح أغلاطه ضرباً من العدوان على الآمنين؟
3 -
أما الأستاذ محمد علي عكاوي فسنرد عليه في العدد المقبل. وأما الفتنة التي ثارت بين الدكتور فارس والدكتور أدهم وأشير فيها إلى أسمي عدة مرات فقد أكتب عنها كلمة بعد
أسابيع
زكي مبارك
الأدب التحليلي والتركيبي
حضرة الأستاذ الفاضل محرر مجلة الرسالة:
تحية وسلاماً، وبعد فقد بدت لي بعض الملاحظات وأنا أقرأ ما كتبه الدكتور زكي مبارك أخيراً في الرد على الأستاذ أحمد أمين أجملها فيما يلي:
1 -
يقول الدكتور زكي مبارك: (إن الطريقة التحليلية عرفها شعراء العرب منذ اقدم العصور. وعليه (يريد أحمد أمين) أن يرجع إلى معلقة طرفة ومعلقة لبيَّد وعينية أبن سويد. . .) والرأي عندي أن زكي مبارك أخطأ فهم المقصود من اصطلاح الأدب التحليلي، وإلا لما أجاز لنفسه هذا القول. فمعلقة طرفة ومعلقة لبيد، ليستا من الأدب التحليلي في شيء. لأن التحليل - كما نعرفه ويعرفه كل الباحثين في تاريخ الآداب - هو رد الأشياء إلى أصولها الأولى، وبيان تقومها بهذه الأصول ووجه هذا التقوم. ومعلقتا طرفة ولبيد ليستا من ذلك في شيء، وإنما الصفة الغالبة عليهما، صفة الوصف التشريحي. فطرفة مثلاً يصف لك الجمال في معلقته بدقة تشريحية، ولكن هذا الوصف التشريحي وإن لخص لك التفاصيل في دقة متناهية، فهو بعيد بعد ذلك كل البعد عن أن يظهر لك الجمل في حياته الداخلية. ذلك أن هذا الوصف التشريحي ينقصه التجرد عن الذاتية من جهة ثم إدخال عنصر الخيال فيها من جهة أخرى. ومن هنا جاء القصور عن أن يطرق الشاعر الناحية التحليلية في وصف الجمل. كذلك يمكننا أن نقرر هذا الكلام في شيء قليل من التعديل ليناسب المقام حين نعرض لمعلقة لبيد أو عينية ابن سويد، أو غيرهما ممن ذكرهم زكي مبارك كنماذج للأدب العربي الذي جرى على النهج التحليلي
2 -
وضرب الدكتور زكي مبارك مثلاً لقوله بتغلب النزعة التحليلية على أكثر الشعر العربي فقال: إن قصيدة سعيد ابن حميد في النهي عن العقاب فيها تحليل واستقصاء، ثم تعليل وانتقال من العموم إلى الخصوص مما يثبت عنده ملكة التحليل للشاعر. والذي عندي أن الدكتور زكي أخطأ فهم القصيدة ونوعها وخصائصها. فالقصيدة ليس فيها تحليل، وإنما
كل ما فيها وصف ساذج لحالات تتقوم بفكرة النهي عن العقاب. كذلك قصيدة الطغرائي في الحمامة الباكية، يمكن أن نقول فيها إنها وصفية ساذجة بعيدة عن التحليل. أما قصيدة الشريف الرضي فما بدا فيها من تسلسل الفكرة والترابط بين الموضوعات التي تنتقل فيها القصيدة، فهي نتيجة لكون طبيعة الناثر متغلبة على الشريف الرضي، وليس من ذلك طبيعة التحليل في شيء
3 -
يتصور الدكتور زكي مبارك أن النزعة التحليلية في الأدب تقوم على أساس الاهتمام بتصوير المعاني وإشعار السامع والقارئ بأن هنالك محاورة للعواطف والقلوب والعقول. وهذا خطأ، لأن القدرة على الوصف وإجراء الحوار شيء، والقدرة على التحليل شيء آخر، فقد يكون شاعر من الشعراء وصافا، ولكن ذلك لا يعني أنه صاحب تحليل يمكنه من ردَّ الأشياء إلى أصولها الأولى. وإليك مثلاً لذلك قول تميم بن جميل في وصفه حاله الشعورية وهو يرى منظر الموت أمام المعتصم. فهذه القصيدة - وقد ذكرها زكي مبارك - وصفية، وهي بعد ذلك ليست قائمة على عنصر التحليل للحالات الشعورية التي كانت تنتابه في ذلك الموقف والخلجات التي كان يحسها، ومنظر الموت أمامه
والذي عندي أن السبب في خطأ الدكتور زكي يرجع إلى أنه ظن الوصف من التحليل، وسبب هذا الظن الخاطئ أنه قرأ لإسماعيل مظهر والمازني والعقاد أن ابن الرومي متفوق في الوصف، ثم قرأ لهم أنه صاحب طريقة التحليل في الأدب العربي فاختلط في ذهنه هذا بذاك وكان منه الظن بأن الوصف من التحليل
هذه ملاحظات وجدت من المفيد أن أعقب بها على ما كتبه الدكتور زكي مبارك في هذا الموضوع. وليس بي غير الرغبة في تبيان رأي قديم لي في هذا الموضوع والسلام.
(الإسكندرية)
إسماعيل أحمد أدهم
حول أبن تيمية وابن بطوطة
اطلعت في الرسالة الغراء على كلمة للأستاذ محمد محسن البرازي يأخذ فيها على الشيخ الخالدي ما نقلته عنه من أن ابن بطوطة لم يدرك ابن تيمية، وكان الشيخ قد ذكر هذا ينفي
ما حدثته به من قول ابن بطوطة إنه رأى ابن تيمية على منبر الجامع بدمشق يقول: إن الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا، ونزل درجة من درج المنبر
فأما إدراك ابن بطوطة لابن تيمية فلا شك فيه كما قال الأستاذ البرازي. وقد وقع السهو في وضع كلمة يدرك مكان كلمة يلقى. والكاتب الفاضل يوافق الشيخ الخالدي في هذا
وأنا مع إجلالي للأستاذين لا أجد ما يحملني على تكذيب ابن بطوطة في أمر يدعى أنه رآه وسمعه
عبد الوهاب عزام
رواية (عثمان في الهند) - إلى ناقد الرسالة
سمعنا مساء السبت الماضي (21101939) عن طريق
الإذاعة اللاسلكية من مسرح (ديانا) بالإسكندرية، رواية
(عثمان في الهند) تأليف الأديب محمد شكري، وتمثيل الممثل
الهزلي علي الكسار؛ ويسوءني أن أقول: إن هذه الرواية
ساقطة؛ وهي أتفه من أن تشاهد أو تذاع أو تسمع!
ولعلك يا أخي سمعتها أو شاهدتها فرأيت كيف بدت هزيلة في فكرتها وفي موضوعها وأسلوبها وأغانيها وفي مغزاها، ولولا وجود بضعة (قفشات تخللت القصة لرجحت أن يطالب مشاهدو الرواية بما دفعوا من قروش، إذ لم يشهدوا رواية تذكر، وإنما شهدوا تهريجاً مرذولاً، كالذي يقوم به (الحواة والنور) في الأحياء الفقيرة من العاصمة والأقاليم لقاء مليم أو مليمين
لقد جلسنا إلى المذياع وابتدأت الرواية، وذهبنا نفتش عن فكرة تدور عليها، أو مغزى ترمي إليه، فتتابعت الفصول والمناظر، وأعلن المذيع انتهاء الرواية، فدهشنا كما دهش المشاهدون بالمسرح، فلم نسمع منهم هتافاً ولا تحية، ولو على سبيل المجاملة!
لم تخرج الرواية عن جملة من الأغاني العادية ومعها جملة من (النكات والقفشات). وليت
الأغاني كانت جديدة، أو جميلة، أو قوية؛ ولكنها كانت ثقيلة، مملولة، معادة وإن ظهرت في ألفاظ جديدة وشكل جديد؛ واللحن المكرر يسأم وإن عرض من آخره معكوساً بدل عرضه من أوله. . .!!
قد يقول قائل: إن الفرقة هزلية، والرواية (كوميدية) مضحكة، وعلى ذلك فلا يشترط أن تتضمن الرواية فكرة أو ترمي إلى مغزى؛ وقائل هذا مخطئ بعيد عن روح المسرح جاهل لرسالته. فسواء كانت الرواية محزنة أو مضحكة، وسواء كانت من (الدرام) أو (الكوميدية)، فإنها تستطيع - بل يجب - أن توضح ما يشاء المؤلف من أفكار، وتعرض ما يشاء من مبادئ، وتظهر ما يشاء من غرض
وقد تستطيع الرواية الهزلية بنكاتها اللاذعة و (قفشاتها) المحكمة، أن تؤثر في أفكارنا وفي عواطفنا وفي نفوسنا، أكثر مما تؤثر الرواية المحزنة؛ فإن النفوس أميل إلى الضحك، وأولع بالهزل، ومن هذه السبيل نستطيع أن ندخل إلى النفوس ما نشاء من آراء ومبادئ. وقد يستطيع الممثل الهزلي بسخريته واستهزائه وتهكمه، أن يقف منا موقف الحكيم الفيلسوف، فيهدي الضال ويرشد الحائر، ويقوي الفضيلة، ويحد من الطغيان!
لقد كانت رواية (عثمان في الهند) التي نحن بسبيل نقدها، تتحدث عن أن المعروف إذا فعله المرء وألقى به إلى البحر فإنه لا يضيع، ولكن هل يستطيع حقاً - أو يستطيع من سمع أو شاهد الرواية - أن أقول إنني آمنت - بتأثير الرواية - بهذا المبدأ؟ هل استطاعت الرواية حقاً أن تظهر هذا المبدأ الأخلاقي كأنه قضية مسلمة مقبولة؟ الجواب: كلا!. . .
إن أكبر اللوم - كما أعتقد - يقع على مؤلف الرواية، لأن الممثل يترسم خطاه، ويتمسك بأسلوبه وطريقته، ولو أن المؤلف أجاد التأليف لاستطاع أن يجيد الممثل التمثيل فنشهد الرواية الكاملة
يا حسرة على المسرح المصري. . . لقد ظهر عدوه اللدود (السينما) وبدأ يغزوه في كل مكان وكل ميدان، وكنا نتوقع من المسرح أن يشمر عن ساعده، ويحمل سلاحه لمناضلة هذا العدو الجديد، لكي يثبت أنه جدير بالبقاء والحياة. ولكنه - مع الأسف - رضي من الغنيمة بالإياب، واستطاب الركود والخمول. وما دليلي على ذلك إلا إقامة أهله على تمثيل
الروايات القديمة المكررة التي أكل عليها الدهر وشرب فإذا ما اقدموا على التجديد والتأليف جاءونا بالغث البارد الذي لا يشبع روحاً ولا يرضى فناً، ولا ينال قطرة من إعجاب أو تقدير!
أحمد جمعه الشرباصي
رسالة النقد
لا بد مما ليس منه بد
حول كتاب
بقلم الدكتور بشر فارس
قال لي ناس - وأهل الفطنة كثير -: رأيناك تشهر القلم في وجه بعضهم إرادة الذود عن حمى العِلم، إذ قلتَ (الرسالة 314):(إن العلم في مصر أمسى شيئاً مقدساً له سَدَنته وله حراسه، فكيف يأخذنا القول بالظن والكلام المتحدي والجدال المتحكم والتظاهر بالتثبت والدراية). ونصحتَ لمن عنَّ له التطاول أن يطيل الروّية، وبصرتَه عواقب أمره (إذا هو أقبل على الاشتغال بالعلم أو على نقد من توفر عليه، لأن النقد لا ثمرة فيه إذا حاد عن خدمة العلم وحده). وهذا الناقد ينقضه كلامك فيكتب مقالاً وثانياً وثالثاً، وأنت معرض عنه وقد قلتَ كلمتَك فسارت. فاعلم أن في عنقك أن تكشف عما يجب الكشف عنه مادام المتستر ينتفض فتنزلق المناظرة على يديه إلى مماحكة.
قال لي ناس. . . فقلت: شهرت القلم من قبل للسبب الذي تعرفونه، فلما رأيت الرجل يلوّى قلمه ويكابر، قلت في نفسي: هذا الوادي لا أنزل فيه ولا قَبل لقلمي بالوثب في منحرفاته. إن إسماعيل أدهم تخرّج في جامعة موسكو سنة 1933 على قول مجلة الحديث (حلب 1938)، وأنا في غير هذه الجامعة تخرجت؛ وقد لقّنني من أدبني أن ألتزم طريق الحق كيفما دار وحيثما انقطع ولا أدري كيف يكون التلقين في جامعة موسكو. قلتم إن المناظرة انزلقت على يد الخصم إلى مماحكة، فحسبي اليوم أن أدوّن ما يؤيد قولكم
قلت كلمتي في (الرسالة) بعد نقد أدهم الأول لكتاب (مباحث عربية). فردَّ أدهم في الأعداد 317، و 326، و 328. وكنت أنا وغيري نرقب كيف يحاول أدهم التنصّل مما ألصقته به، فأخفقت الرقابة.
كنت قد كتبت إن أدهم (يختلق القول). إذ يقول: (يعتبر الباحث (يعنيني) كلمة البصيرة مقابلاً (يريد: ناظرة إلى) في ص 57 من مباحث عربية). وزدت أنه من الغريب أني لم أثبت كلمة إزاء كلمة البصيرة في الصفحة المذكورة وقد أطلعت صاحب (الرسالة)
ورئيس تحرير المقتطف على ذلك، فمن أين جاء أدهم بالكلمة الفرنسية، وكيف جعلني (أعتبر) ما يجهل أنا (معتبره)؟
ثم كنت كتبت أن أدهم (يرتجل المصادر) ودليلي أنه استشهد بالإصحاح الرابع عشر من (سفر دانيال) من العهد القديم للكتاب المقدسّ، على حين أن (سفر دانيال) كله أثنا عشر إصحاحاً فقط. فبينت كيف اقتبس أدهم ذلك المرجع الوهمي من كتاب (ملتقى اللغتين) لمراد فرج، وكيف سقط هذا المرجع هناك من باب الغلط المطبعي - إذ الصواب الإصحاح الرابع - فسطا عليه أدهم من غير تحقيق ولا رؤية. ثم إني أتيت بدليل آخر مجمله أن أدهم استشهد، عند الكلام على أنساب العرب، بالجزء الثالث من (الفهرست) لابن النديم وعين الصفحة 187 فبعد أن نفيت احتمال غلط الطبع بينت أن (الفهرست) لم يخرج إلا في جزء واحد، وأن الصفحة التي عينها الرجل لا أثر فيها لما استشهد به. وكان أدهم قد أسند نص الاستشهاد إلى أبن حزم، فسألته من ابن حزم هذا وما كتابه، ولابن حزم المشهور ستة وثلاثون مؤلفاً؟ فاستخلصت من هذا كله أن أدهم اقتبس المرجع إلى (الفهرست) من كتاب من الكتب الحديثة من غير أن يراجع المظنة، دأبه مع (سفر دانيال). هذا وأخبرني من هو أرسخ مني في العلم قدماً بأن ما استشهد به أدهم إنما هو وارد في الجزء الثالث من كتاب (بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب) للألوسي. فانظر كيف يكون الاضطراب في تناول المراجع.
كتبت ذلك فأحجم أدهم عن الدفاع، أو قل أبي التسليم: أحَياء أم مكابرة؟
أما نقد أدهم الثاني فمما لاُ يلتفت إليه؛ فيه عناد ومغالطة وتحدٍّ وعود إلى اختلاق القول وتهويل ونقد عن هوىً. والله يعلم أنيً لست ممن يعتبط الكلام ويرسل التهمة؛ فرجائي من القارئ أن يلمس بعض الأدلة:
- أما العناد ففي إصرار أدهم على أن المسلمين الذين اهتديتُ إليهم في فنلندة سنة 1934 لم يرحلوا إليها عقب الثورة البلشفية في روسية، على حسب ما أثبتُّ نقلاً عن هؤلاء المسلمين أنفسهم واستناداً إلى بيان موظفي الحكومة الفنلندية. وإن أدهم يحملنا على أن نظن أن أولئك المسلمين من سلالة طائفة من الترك هبطوا فنلندة في (القرن السادس عشر للميلاد)، وحجته هنا أن مدينة (توركو) الفنلندية تشتق اسمها من هؤلاء الترك. فرددت
على هذا قلت: إن مدينة (توركو) تصعد إلى المائة الرابعة عشرة، واستشهدت فيما استشهدت به بدائرة المعارف البريطانية. ولكن أدهم لم يدفع شهادة دائرة المعارف البريطانية - ولعل هذا السفر مما لا يعول في جامعة موسكو - بل عاد إلى تشكيكه في تاريخ هجرة أولئك المسلمين، وقام يستند إلى كتب ألفها علماء من روسية ليبرهن على أن جماعة من الترك رحلوا إلى فنلندة قبل الثورة البلشفية، وأن أمرهم مشهور.
- وحسبي اليوم أن أنقل هنا رسالة بعث بها إلي رأس المستشرقين في روسية، وهو الأستاذ كراتشكوفسكي أستاذ العربية وآدابها في جامعة لننجراد (وهي غير جامعة موسكو، كما يعرف أدهم نفسه) ومن أعضاء الأكاديمية الروسية فيها، (وقد اطلع صاحب مجلة (الرسالة) ورئيس تحرير المقتطف على تلك الرسالة) ونصَّها:
(سيدي الأستاذ الفاضل، سلاماً واحتراماً وشكراً على ما أنعمتم علي به من رسالتكم اللطيفة عن أحوال المسلمين في فنلندا، وقد قرأتها بكل إمعان ولذة في مجلة الدراسات الإسلامية، ولكم الفضل في لفت أنظار العلماء إلى هذه الزاوية من العالم الإسلامي الحاضر) ا. هـ
وعلى هذا فقد شهد شاهد من أهله، وأي شاهد!
وهل ثمة حاجة بعد ذلك إلى أن أخبرك بأن (مجلة الدراسات الإسلامية) التي يخرجها المستشرق ماسينون في باريس نشرت حديثي عن أولئك المسلمين على أنه (اكتشاف)، نشرته بالفرنسية سنة 1934 قبل أن أنقله إلى لغتنا في (مباحث عربية)؟ أو إلى أن أخبرك بأن المستشرق جِبّ من أساتذة جامعة اكسفرد بعث إلي برسالة (اطلع عليها صاحب مجلة الرسالة ورئيس تحرير المقتطف) يقول فيها إنه لم يك يعلم شيئاً عن أولئك المسلمين؟
- وأما مغالطة أدهم، فقد بينتها من قبل عند الكلام على ارتجاله لعنوان كتاب جعل اسمه أول الأمر (مجموعة محاضرات دركايم عن علم الاجتماع في السوربون)، حتى إذا ضيقت عليه المسالك قال:(الرسالة 317 وردّى 320) إن هذا الكتاب يحمل أسم (قواعد منهج علم الاجتماع) تحت عنوان شامل هو (أعمال السنة الاجتماعية)(وهي مجلة دورية)، وقد حاول عبثاً أن يقحم كلمة (مجموعة) في هذين العنوانين. ثم إنه اعترف بعد ذلك أنه كان قد استند إلى ترجمة الكتاب بالإنجليزية. فكيف يناقشني - أول ما يناقشني - في الأصل الفرنسي ويعين صفحات منه؟
- وأما تحدي أدهم في القول فيدخل تحته ما بدا له أن يكتب في جانب اللغة. ووالله ما أدرى ما الذي استدرج الرجل إلى اقتحام النقد اللغوي، وهو لا يزال يأخذ لغتنا عنا كما يقول (الرسالة 313 ص 331)، وهو يريد الاعتذار من اقتباس تعبيرات لي:(إنني حين أكتب بالعربية فأنا أكتب بلغة غير لغتي الأصلية، ومن هنا بعض ما يجئ على قلمي من التعابير الخاصة لكتاب اليوم استداركاً للمعنى الذي في ذهني). هذا ولا شك عندي أن القارئ لمس ارتباك أسلوب أدهم وركاكة عبارته واختلال مواقع ألفاظه، وكثيراً ما قوّمت تعبيره، وأنا أناظره حتى يفهمه القارئ. وهيهات أن أجادل أدهم فيما جاء به في نقده الثاني دفاعاً عن آرائه اللغوية الأولى. فقد نصحت له من قبل أن يقرأ النوع السابع والعشرين من (المزهر) للسيوطي حتى يتبين معنى (المترادف)، ونصحت له فوق ذلك أن يراجع دواوين اللغة والمؤلفات الفلسفية في العربية والفرنسية جميعاً لعله يعلم أن (الأخلاقيات): بمعنى شيء و (السلوك) شيء آخر. ماذا أصنع وأنا لا أملك إلا النصيحة؟
وحسبي اليوم أن أبرز للقارئ جانبين من نقد أدهم الثاني في باب اللغة، قال أدهم (الرسالة 326 ص 1924) - وهو على كل قول قدير - (وليس جعلنا (يعني نفسه) لفظة المتشابهة ناظرة إلى أفرنجياً بدليل (أضف: على) قصور في العلم باللغة. لأن المتشابهة والمتباينة (كذا والله!) من الألفاظ التي تنظر إلى أهـ. هذا وأنت تعلم أن لفظة تفيد مفاد كلمة (المترادف) عندنا. فالله كيف تكون الألفاظ المتشابهة والمتباينة ناظرة معاً إلى المترادفة، وبين المتشابه والمتباين ما بين الأبيض والأسود؟ - ثم قال أدهم (الرسالة 326 ص 1996):(أما عن مجيء هذه الروايات (الخاصة بالمروءة) من الجاهلية أو عدم مجيئها، فلا يؤثر على (يريد: في) القضية في شيء، لأن جلّها أتى من صدر الإسلام، والعربية لم تتغاير (يريد: تتغَّير؛ قد والله سئمت تهذيب أسلوب الرجل!) فلا معنى للاحتجاج بأنها ليست (يعني الروايات) من الجاهلية، وإذن يبقى معنا لفظة المروءة نازعة منزع السيادة في الجاهلية وصدر الإسلام، بعكس ما حاول أن يوهم القارئ بطرق ملتوية الدكتور بشر في مباحثه العربية) أهـ. فهل للأستاذ الدكتور أدهم أن يراجع في (الصاحبي) لابن فارس باباً لطيفاً قريب المنال عنوانه (الأسباب الإسلامية) ليتبين له أن العربية اتفق لها أن (تتغاير) كما يقول، بانتقال أهلها من الجاهلية إلى الإسلام إذ (حالت أحوال، وأبطلت أمور،
ونقلت من اللغة ألفاظ من مواضع إلى مواضع آخر. فعفى الآخر الأول). ليراجع الأستاذ الدكتور أدهم ذلك الباب، فبه إليه حاجة، وليطمئن إلى أن ابن فارس لا (يوهم القارئ بطرق ملتوية) مثل بشر فارس
- وأما عود أدهم إلى اختلاق القول فقصته أن الرجل قال (الرسالة 328 ص 1995) إني ألفتُ رسالة بالفرنسية عنوانها (العرض عند عرب الجاهلية وموضوعها أن أخلاق عرب الجاهلية تندرج تحت معنى العرض، ثم زاد)(ولما كان المستشرق جولدتسيهر قد كتب فصلاً كاملاً عن المروءة ذهب فيه إلى أن المروءة كانت تنزل منزلة الفضيلة عند عرب الجاهلية. فقد أضطر الدكتور بشر أن يعود عام (يريد: سنة) 1937 ليناقش رأي جولدتسيهر فكتب مادة مروءة في تكملة دائرة المعارف الإسلامية ثم توسع بالمادة فكان منها موضوع مبحث المروءة من كتاب مباحث عربية) ، أهـ
والرد على هذا أن كتابي (العرض عند غرب الجاهلية) مطبوع ومتداول، وهو موجود في مصر، في دار الكتب مثلاً وعند نفر من علمائنا وكتابنا. فمن ذا الذي يقول إني لم أناقش في هذا الكتاب - هو الرسالة التي نلت بها شهادة الدكتوراه من السوربون - رأى جولدتسيهر ومن تلا تِلوه من المستشرقين؟ إني لم أتحول في مبحثي الذي نشرته لي دائرة المعارف الإسلامية الخارجة في هولندة ولا في مبحثي المدرج في مباحث عربية عما جاء في كتاب العرض عند عرب الجاهلية. إن ما ذهبت إليه هنا هو ما ذهبت إليه هنالك مع زيادة في سياقة النصوص وإفاضة في عرضها؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله! وحسبك موازنة ما جاء في كتابي الفرنسي (ص30 - 32) بما جاء في مباحث عربية (ص 72 - 74) وقد اطلع على ذلك صاحب مجلة الرسالة ورئيس تحرير المقتطف
- وأما تهويل أدهم فيدل عليه ما تقدم بك من ارتجاله للمصادر، وإن قال من قبل متواضعاً (الرسالة 311 ص 1225):(أظن أن الدكتور بشر فارس لا ينكر علينا أننا أكثر الكاتبين في العربية استقصاء للمصادر). ثم دعني أخبرك بأن أدهم سلط قلمه ثانية على مبحثي في المروءة فاستغرق نقد ثلاث صفحات من الرسالة (328). ولما رأيت ذلك قلت في نفسي: لعل الناقد يدفع ما ذهبت إليه بتضعيف النصوص التي استخرجتها وهي تزيد على ثلاثمائة سواء تصريحاً أو تلميحاً، أو لعله يسقط مبحثي بالطعن في المراجع التي عولت عليها
وهي تقارب المائة. ذلك ما يرقبه الناس من الناقد الثبت فيما أعلم. فماذا أصبت في تلك الصفحات الثلاث؟ جاءني أدهم - حياتك - بنصوص دون غيرها، فحرفها عن مواضعها، وقدم من سياقها وأخر، وحملها ما لا تحمل ثم استخلص من ذلك التشويش أني أبعد ما يكون عن البحث اللغوي البسيط. بالله ثم بالله لِمَ لمْ يأت بنص من عنده، ولو بنص واحد؟
وأظرف من هذا أنه أثبت مظان النصوص في نقده ناقلاً إياها من المراجع المثبتة في هوامش كتابي. ألا من يقول لي ما الذي يدعوه إلى أن يدوَّن مثلاً: (كتاب الأردبيلي مخطوط في آيا صوفيا رقم 2049 وهو مخطوط في التصوف كما وصف ذلك الأستاذ تيشنر في مبحثه المعنون باسم (هنا العنوان الألماني)، والمنشور بمجلة التي تصدر عن همبرج مجلد 24 ص58)، ما يدعوه إلى مثل هذا التعالم، وكل ما دوَّنه مثبت في مباحث عربية) (ص 59 المتن والحاشية)؟ وعلى هذا ما دوَّنه بشأن كتاب جولدتسيهر، وكتاب العرض عند العرب الجاهلية (راجع (مباحث. . .) ص 72، 74). وخير للأستاذ أدهم أن يعدل عن التعالم بعد اليوم، فلربما حفر حفرة وقع فيها. من ذلك الحفرة التي حفرها، وهو يسطو (على ملتقى اللغتين) لمراد فرج، ومن ذلك أيضاً قوله (الرسالة 328 ص 1995):(المعنى الحقيقي وياليته قنع بالسطو على التركيب العربي وحده، (وهو في (مباحث عربية) ص 60)! إلا أن وسوسة التهويل غوته فزاد كلمة فرنسية في صيغتها المؤنثة. فلم يؤنثها في نقده وهي واردة فيه من غير موصوفها؟ القصة أن أدهم نسى الموصوف في طيات (مباحث عربية) وهو (أي التعريف) فجاءت الصفة مبتورة، ولم يفطن أدهم إلى وجوب تذكيرها حتى ترد صيغة الإطلاق. ولو كان أسند كل هذا إلي لكان خرج من ظِنَّة السطو. . إلا إنها الوسوسات، لطف الله بنا!
- وأما نقد أدهم عن هوىَ مبيَّت في النفس فواضح في عناده عند الكلام على مسلمي فنلندة. وكان قد اجتاب النقد اجتلاباً من قبل ثم عاد فذهب في اللجاج، على ما قدمت، لأنه - هو المتخرج في موسكو بعد سنة 1918 - يريد أن يجعلنا نرتاب في أن نفراً من الناس بل من المسلمين يخطر لهم أن يفرَّوا من الثورة البلشفية (أو (الثورة الاشتراكية الكبرى) كما يسميها هو: الرسالة 311 ص 1230).
وأوضح من هذا أن أدهم خرج من نقده الثاني بهذه النتيجة:
(ظهرت عقلية الدكتور بشر الشكلية بأجلى مظاهرها وتبين لنا كيف أن هذه الشكلية مساقة إلى أخطاء في البحث لا يقع فيها من له دراية بسيطة بالبحث اللغوي المستقيم (يعني نفسه طبعاً). والواقع أن بحث الدكتور بشر في المروءة ضعيف لا يثبت على نقد ولا يمكن أن يواجه مراجعة علمية صحيحة)
وهنا لا أحب أن أذكر أدهم بأن مبحث المروءة نشر من قبل بالفرنسية والإنجليزية والألمانية في دائرة المعارف الإسلامية الخارجة في هولندة ولم يظفر بمثل هذا الحكم. ثم لا أحب أن استشهد بآراء من كتب عندنا في (مباحث عربية) مثل العلامة الأب الكرملي، والأديب المترسل الأستاذ المازني، ومدرسَين من الجامعة المصرية وغيرهم. فلربما قال أدهم (وهو على كل قول قدير): إن هؤلاء وأشباههم لا (دراية لهم بالبحث اللغوي المستقيم). ثم لا أحب أن أطلعه على ما قاله المستشرق بروكلمن في الجزء الثالث من تكملة تاريخ الآداب العربية؛ فلربما قال: إن بروكلمن لا يستطيع (مراجعة علمية صحيحة). بل ليأذن لي الأستاذ الدكتور أدهم أن أدوَّن اليوم حرفاً لحرف ما قاله في نقد الأول لكتابي:
(وفي هذا المبحث (مبحث المروءة) يبرز الباحث (يعنيني (مع الأسف) رجلاً مدققاً عرض للموضوع في إحاطة عجيبة) (الرسالة 312 ص 1274).
ثم هذه خاتمة نقد الأول: (هذا هو كتاب مباحث عربية. وهو كتاب فريد في موضوعه وفي نهج بحثه وفي منحى تحقيقه، يدل على أن صاحبه صاحب ذهنية علمية متزنة، يتصدى للموضوعات على أساس من التقصي للأصول والفروع مع دراية تامة بأساليب البحث (غريب، غريب!) والمآخذ التي أخذناها على أهميتها لا تنال من قيمة البحوث ولا من الجهد العلمي المبذول فيه. والواقع أن الدكتور بشر فارس شق الطريق للبحث العلمي الجدي (العفو!) ولو لم يكن له غير هذا الجهد لكفى ذلك التقدير. إسماعيل أحمد أدهم) (الرسالة 312 ص 1275)
إن السر في هذه الردَّة أنى أدهم كتب نقده الثاني وهو ناقم حانق، لأن بينت في المقتطف (أغسطس) والرسالة (314) كيف يجتلب النقد اجتلاباً ويرتجل المصادر ويتحدى في القول ويتعالم فينزلق إلى الاعتساف والغمر. ولم أجد بداً حينئذ من تبيين كل هذا - على ما قال
أدهم في خاتمة نقده - حتى تستقيم موازين النقد عندنا وينزجر الهاجم على العلم من غير بابه. فلما عجز الأستاذ الدكتور أدهم عن دفع البينة فزع إلى المماحكة والمهاترة، قطع الله الحزازات التي تأكل النفس!
وإن قال أدهم (وهو على كل قول قدير): إن له أن ينكر رأياً دوَّنه فيستبدل به ضده، بعد مضىَّ أربعة أشهر (والحر في مصر شديد، ييبس كل شيء)، قلتُ ما دمتَ تناظر في العلم كأنك تداور في السياسة على الطريقة الحديثة، فخذ شهادة أخرى ممن يُجَلّ به من (أهلك)، وهي رسالة بالعربية بعث بها إلى الأستاذ كراتشكوفسكي، وقد اطلع عليها صاحب مجلة الرسالة ورئيس تحرير المقتطف:(سيدي العزيز الفاضل. سلاماً واحتراماً وشكراً لكم على إرسال كتابكم الجديد (مباحث عربية) وقد قرأته في هذه الأيام أيام العطلة المدرسية، وانتفعت منه كثيراً. لا يخفى عليكم أن في قراءته بعض صعوبة على من لم يتعود طريقاً علمياً صرفاً في البحث والاستقرار ومع ذلك في الكتاب درس مهم وخطوة جديدة في سبيل ترقية العلم العربي الحديث، عسى أن ينتفع بها أبناء العربية في كل أقطارها. حتى بدعة الرموز، الرموز الاختزالية رأيتها في مكانها وهي بدعة مستحسنة، ولا يتعسر إدراكها واستعمالها على كل من يتمرن فيها دقيقتين. وفي الإجمال قد خدمتم العلم والآداب بهذا الكتاب الجديد خدمة تذكر وتشكر ودمتم على مساعيكم الحميدة والنجاح حليفكم وذوو العقول السليمة في الشرق والغرب أصدقاؤكم. أغناطيوس، كراتشكوفسكي، الروسي) أ. هـ - ألا حسبي صداقة (العقول السليمة)!
وبعد فهذه كلمة ثانية، أرسلها مكرهاً، ولكنها رعاية العلم الحق وإقامة النقد الصحيح ولن أعود إلى مثلها مع إسماعيل أحمد أدهم، فإن قلمي لمشغول عن مماحكته بما هو أجل شأناً وأعم نفعاً
ب. ف.