المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 331 - بتاريخ: 06 - 11 - 1939 - مجلة الرسالة - جـ ٣٣١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 331

- بتاريخ: 06 - 11 - 1939

ص: -1

‌وزارة الشؤون الاجتماعية

الفقر. . .

- 2 -

الفقر هو العنوان الثاني في الدستور الإصلاحي لوزارة الشؤون الاجتماعية كما نقترح أن يكون. وإذا قلت الفقر فقد عنيت بهذه الحروف الثلاثة كل ما يقع في ذهن المرء وخياله وحسه من معاني البؤس والألم والأسى والجريمة والرذيلة والذلة والمسكنة والعداوة والانتقام والثورة. وأي مجتمع يتسنى له أن يلتئم أو ينتظم أو يسعد ما دامت هذه الآفات تلح عليه بالاعتلال والانحلال والوهن؟ وأنت إذا تقصيت بالنظر المتأمل أحوال الناس وأهوال الدنيا وجدت تنازع القوت هو المشكلة الأزلية للحياة، والفقر هو النكبة الأبدية على النظام، والجوع هو السبب القريب أو البعيد لكل ثورة في تاريخ الأمم وكل جريمة في حياة الأفراد. فهل في حدود الجائز إذن أن نطلب إلى وزارة الشؤون الاجتماعية أن تبيد الفقر وتقتل الجوع كما طلبنا إليها أن تمحو الأمية وتنسخ الجهالة؟ لا وا أسفاه! لأن شمول العلم أمر تقتضيه الفطرة وتجيزه القدرة، ولكن شمول الغني شيء تأباه الطبيعة ويمنعه العجز. وما دام الناس مختلفين في الذكاء والقوة، فلا بد أن يختلفوا كذلك في النفوذ والثروة. والتفاوت في الطبع والكفاية والحيلة والوسيلة مبدأ مقرر في الطبيعة ونظام مسلم في الدين. إنما نطلب إلى وزارتنا المصلحة أن تخفف من نوائب الفاقة وتكفكف من غوائل الجوع بتقريب المسافة بين الغني والفقر، وتنظيم العلاقة بين القوة والضعف، فإنها إن نجحت في تحقيق هذه الأملين فقد نجحت في إقرار السلام في النفوس وإحكام النظام في المجتمع

ولكن كيف تستطيع وزارة الشؤون الاجتماعية أن تخفف آلام هذه العاهة المستديمة ما دامت لا تستطيع أن تحسم أسبابها بالطّباب الناجع؟ تستطيع ذلك من طريق الدين ومن طريق التشريع ومن طريق الإدارة. فأما ما تستطيعه من طريق الدين فجبابة الزكاة وتنظيم الإحسان. وجباية الزكاة فريضة على الحكومة المسلمة، كما أن أداءها فريضة على الشعب المسلم. فلا يجوز للوزارة أن تكل أمرها لحرية الضمير وإرادة النفس، فإن طمع الناس في عاجل ثواب الدنيا أقوى من طمعهم في آجل ثواب الدين. ومن أجل أداء الزكاة كان ارتداد العرب عن الإسلام في عهد أبي بكر. إنما يجب أن تجبى الزكوات بالاضطرار كما تجبي

ص: 1

ضرائب الأرض وعوائد العقار، وأن يكون لوزارة الشؤون الاجتماعية جباة كما كان لوزارة المالية صيارف. ولا بأس أن يترك الاختيار في الإحسان على أن يستعان على غرسه في القلوب وجمعه في الأيدي بفرقة من الرجال والنساء تدخل البيوت والمكاتب على الأغنياء والغنيات من الأفراد والشركات فيذكرونهم بان الله الذي خلقهم وخلق الفقراء قد جعل جمعة ما بينهم وبينهم قائمة على أساس من المودة والرحمة. فإذا تعهدوا هذه الصلة الإلهية بالبر فمنح القادر العاجز روحا من قواه، ونفح الواجد الفاقد قليلاً من جدواه، سارت القافلة الإنسانية في طريقها غير ظلعاء ولا وانية. فإذا ما جمعت الزكوات والصدقات من طريقي الطوع والكره تجعل في (بيت المال) لا في (الخزانة العامة)، ثم تدبر على النظم الحديثة في التأثيل والاستغلال، وتنفق في إنشاء المياتم والملاجئ والمستشفيات، ويستعان بالفرقة التي جمعت الإحسان من بيوت الأغنياء، في توزيع المعونة على المتعفف المجهول من بيوت الفقراء

وأما ما تستطيعه الوزارة من طريق التشريع فسن القوانين لحماية العامل والفلاح من صاحب المال ومالك الأرض؛ فإن أكثر ما يصيب الطبقة العاملة من المحن والإحن إنما ينشأ من إطلاق الحرية الطاغية لأصحاب الأموال الذين يستثمرونها في التجارة أو في الصناعة، ولأرباب الأطيان الذين يستغلونها بالتأجير أو بالزراعة

فهؤلاء وأولئك على قلتهم يتحكمون في الأجراء ويستبدون بالمستأجرين ولا تدركهم بهم رحمة الخالق بالخلق ولا عناية الصانع بالآلة. فصاحب الآلة يوفر لها الشحم والوقود، ومالك البقرة يهيئ لها الحظيرة والعلف؛ ولكن أصحاب الأموال والأطيان لا يكادون يتركون لعمالهم وفلاحيهم ما يمسك الروح ويستر البدن

وإذا شاءت الوزارة أن تحقق ما يعانيه العامل والصانع من أولى العمل، وما يقاسيه الأجير والزارع من ذوي الطين، تكشفت لها أستار المجتمع عن مآس مروعة من الظلم والغبن والطمع والأثرة لا يستطيع منع تمثيلها المحزن المخزي غير سلطان القانون

بقى ما تستطيعه الوزارة من طريق الإدارة وهو يشمل ما لا يدخل في نطاق الدين أو القانون بنص صريح، كمكافحة البطالة بتيسير سبب العمل للعامل، وتدبير رأس المال للصانع، وتمصير المعامل والمصانع والمتاجر والمصارف والشركات يداً ولساناً ليحل

ص: 2

الوطنيون المتعطلون فيها محل الأجانب، وذلك مورد للرزق يمكن أن يعيش عليه ألوف من الأسر المحرومة أهملته الحكومات السالفة لاشتغالها بسياسة الكلام وخصومة الحكم عن كل نافع

بهذه الخطة المحكمة لكفاح الفقر بمعونة من سلطان الدين وسطوة القانون وقوة الحكومة تستطيع الوزارة أن تنقذ من غوائله الطفولة المعذبة والشبيبة المشردة والشيخوخة العاجزة والأسر المنكوبة والكفايات المعطلة، وأن تطهر المجتمع مما يجره عليه بقاء هذه الأحوال من فساد الأخلاق ونغل القلوب واضطراب الأمن وقلة الإنتاج وكثرة الجرائم. ونجاحها في ذلك معناه بناء المجتمع المصري على أسس جديدة من تقوى الله ورضوان الناس وتعاطف النفوس وتعاون القوى وتضامن الأمة.

احمد حسن الزيات

ص: 3

‌الباحثون والساسة

للأستاذ عباس محمود العقاد

المعروف عن رجال السياسة في أمم الغرب أنهم أوسع اطلاعاً وأكمل ثقافة من رصفائهم في الأمم الشرقية، فمنهم الأدباء والناقدون، ومنهم المشتغلون بالفن أو بالعلم أو بالرياضة، وقل منهم من ليست له مشاركة في موضوع من موضوعات الذوق أو التفكير

لكن العجيب فيهم مع ذلك أنهم يعدون في بلادهم من أقل الناس اطلاعاً على الدراسات النافعة في شؤون السياسة العصرية، أي الشؤون التي هم بها مشتغلون وعليها عاكفون، كأنما يستنكف أحدهم أن يتعلم شيئاً في مسألة من المسائل هو أحرى أن يجلس فيها مجلس الأساتذة المعلمين!

ومن هنا يعتورهم السهو والتقصير، وتتعرض أحكامهم على المسائل العالمية لما يشبه الغفلة والإهمال

مثل من الأمثلة الكثيرة على ذلك هذه المحالفة الشيوعية النازية التي وقعت عند الأكثرين موقع المفاجأة والغرابة وفي طليعتهم أقطاب الوزارة والسفارة

ففي الوقت الذي كان فيه بعض السفراء والوزراء يعانون صدمة المفاجأة من جراء هذه المحالفة الغربية كان قراء الكتب السياسية يتلقونها كما يتلقون نبأ جائزاً في التقدير بل مرجحاً أعظم الترجيح في الحسبان

ففي أوائل هذه السنة طبع كتاب الناقد السياسي والخبير الاقتصادي الدكتور بيتر دركر الموسوم بنهاية الرجل الاقتصادي أو الرجل الذي يفترضه الشيوعيون والنازيون فإذا بالمؤلف يقول عن المحالفة بين الروسيا والأمم الديمقراطية: (إنها قد أحدثت من الأضرار ما لم تحدثه قط غلطة سياسية في السنين العشرين الأخيرة. فلن تقع الآن حرب بين ألمانيا وروسيا ما لم تعترض في الطريق قارعة لا تخطر على البال. . . ومتى امتنعت الحرب فلا بد من محالفة تربط هاتين الدولتين في وجه العالم الغربي بأسره، ولا ينبغي أن ننظر إلى الحرب بينهما إلا على اعتبار أنها فكرة متمناة أو أمنية ترد علينا مورد التفكير. . . أما الواقع فهو أن الدولتين خليقتان أن تتقاربا وتتحالفا لأنهما متشابهتان في لباب العقيدة وأحوال الاجتماع. ومن الحق أن نترقب هذه المحالفة ولو ناقضتها في الظاهر جميع

ص: 4

الاعتبارات والتقديرات. . .)

وفي قريب من الوقت الذي طبع فيه ذلك الكتاب كان كتاب آخر باسم (بولونيا مفتاح أوربا) يطبع لمؤلفه الدكتور رايموند لسلي الثقة بين علماء الأمريكيين في هذه الشؤون، وكان مؤلفه يراجع آراء هتلر التي بسطها في كتابه (جهادي) عن المحالفة بين الروس والألمان فيرد قائلاً:

(ومع هذا يحتمل أن تصبح الروسيا أقوى من أن تمزق وأضعف من أن ترفض اقتراحاً من النازيين بالاتفاق الشامل بين الفريقين. فهي في عزلتها عن فرنسا وبريطانيا العظمى، وفي حذرها من تهديد اليابان لتخومها الشرقية، قد تؤثر محالفة ألمانيا على محاربتها، وقد تؤدي هذه المحالفة إلى بطلان الدولية الثالثة وتقديم الموارد الروسية إلى الألمان واتخاذ السياسة المعادية لليهود؛ ويلوح أن إبرام هذا الاتفاق عسير قبل موت ستالين، ولكن احتمالاً من هذين الاحتمالين وهما الحرب أو المحالفة الشاملة أمر لا ينبغي أن يغرب عن البال. . . ولا يصعب علينا أن نتوقع اتفاقاً على تقسيم بولونيا تقسيماً جديداً بعد المحالفة)

وحوالي هذا الوقت بعينه كانت صحيفة إنجليزية تصدر في فانكوفر اسمها شمس فانكوفر وهي بلدة في كندا تنشر بحثاً ضافياً في هذا الموضوع فتقول فيه بعد عرض المسألة من جميع جوانبها ما خلاصته: (أن ستالين وهتلر قد يطرحان عنهما خصومتهما القائمة في الوقت الحاضر ويتفقان على تكرار تقسيم بولونيا من جديد. فالحكومة والأحوال في كلتا الأمتين الروسية والألمانية ليس بينهما كبير خلاف، وإن سخط هتلر وأصحابه من بيان هذه الحقيقة: كلتاهما حكومة طغيان عسكري لا أثر في ظلالها للحرية، وقد صدقت الفكاهة التي تشيع اليوم في البيئات الألمانية وفحواها أن صاحباً يسأل صاحبه في معزل عن الناس: ما الفرق بين روسيا السوفيتية وألمانيا النازية؟ فيجيبه: الجو بارد في روسيا أبرد!. . .)

كان الباحثون السياسيون يفيضون في أمثال هذه البحوث بين الترجيح تارة والتوكيد تارة أخرى والسفراء والوزراء يلحون في وجوب عقد المحالفة بين الروسيا من جهة وبريطانيا العظمى وفرنسا من الجهة الأخرى، وكان منهم رجل حصيف مثل لويد جورج يكتب وينادي بأن هذه المحالفة ضرورة لا محيص عنها وباب لا باب غيره للنجاة من إرهاب

ص: 5

الهتلرية والنازية، وكانت الإشاعات تتوالى بالتقدم في طريق الاتفاق والدخول في التفصيلات التي لا ضير منها على المبادئ والأصول، وتشاء مضحكات القدر أن نقرأ أنباء هذه البشريات وأنباء الغدر الروسي في بريد واحد وصل بعد استفحال الخطب وجلاء الشكوك!

ويسألني القارئ: وما اقتراحك في هذه المشكلة؟ أتراك توصي بإسناد الوزارة والسفارة إلى الباحثين والدارسين وانتزاعها من أيدي الوزراء والسفراء؟

وأبادر فأقول معاذ الله!. . . إن الباحث باحث والوزير وزير، فإذا أصبح الباحث وزيراً بطل بحثه ونقص من أحد طرفيه ولم يستوف العملين في آن

وإنما أقول بوجوب الانتفاع بهذه البحوث والدراسات في تذكير الوزراء والسفراء أو في بسط وجوه النظر في كل مسألة من مسائل السياسة والحكم عندما يعرضها عليهم العارضون

فيشتمل كل مكتب من المكاتب المتصلة بالسياسة القومية أو السياسة العالمية على قسم للقراءة والتلخيص والتبويب، ولا تنظر مسألة من المسائل إلا ومعها سجل الحقائق والمعلومات والآراء التي اهتدى إليها في تلك المسألة ذوو الخبرة والاختصاص

ولبيان الفرق بين قرار يتخذه عالم منقطع للدرس والمراجعة وقرار يتخذه وزير خاضع للقيود العلمية والوقائع الراهنة والمنازعات الحزبية نسأل:

هبوا وزراء فرنسا وبريطانيا العظمى اطلعوا جميعاً على كتب الباحثين وفصول الخبراء الثقات في ترجيح المحالفة النازية الشيوعية والتيئيس من المحالفة الأخرى وآمنوا أصدق الإيمان بما قرءوه فماذا عساهم كانوا صانعين؟

كانوا يحجمون عن مفاوضة الروسيا ويستضيعون الوقت فيما ليس وراءه طائل

ونعود فنسأل: أتراهم يحسنون بذلك أم يسيئون؟؟

واعتقادنا نحن أنهم يسيئون غاية الإساءة، لأن أنصار الروسيا بين الفرنسيين والإنجليز أبناء الأمم أجمع يظلون بعد ذلك في ضلالهم القديم، ويزعمون لأنفسهم أو لغيرهم أن ساسة فرنسا وإنجلترا هم الذين عزلوا الروسيا وقطعوا ما بينهم وبينها

فدفعوا بها كارهة إلى أحضان النازيين أعداء الديمقراطية، وانهم إذن مسؤولون عن هذا

ص: 6

الفشل وعما يضيع بسبيله من الأرواح والأموال

ومتى شاعت هذه العقيدة بين الطبقات التي يؤخذ منها الجنود والعمال فالخطر عظيم، وتزييف العقيدة بالحجج العلمية والدروس النظرية عسير، وباب المكابرة واللجاجة مفتوح لمن شاء على مصراعيه

أما اليوم فقد أخطأ الساسة في مفاوضة الشيوعيين وأصاب المقدار. فلا مكابرة ولا لجاجة ولا خفاء بحقيقة النيات بعد أن بلغ من وضوح الحقيقة أن تلمسها كل يد وتبصرها كل عين

إن الدراسة حسنة واتباع الواقع حسن، وأحسن منهما واقع تهديه دراسة الدارسين.

عباس محمود العقاد

ص: 7

‌جناية أحمد أمين على الأدب العربي

للدكتور زكي مبارك

- 21 -

رأينا في المقال السالف سرقتين من سرقات الأستاذ أحمد (الأمين) كما كان يسميه أستاذنا الشيخ المراغي قبل أن تنكشف تلك السرقات

والكشف عن سرقات هذا الرجل المفضال لا يعد من الإيذاء حتى نقبل دعوة بعض الأصدقاء إلى مهادنته مراعاةً لأدب الصيام. فاحمد أمين نفسه يحكم منصبه في كلية الآداب يعرف أن الكشف عن سرقات الشعراء والخطباء والكتاب نوع من المرانة الذهنية، وفن من فنون الأدب الرفيع

وأعترف بأن اهتمامي بكشف سرقات أحمد أمين لا يخلو من شيطنة، ولعله ضرب من المنافسة للدكتور طه حسين، فالدكتور طه قد زعم أن أحمد أمين لم يكن يعرف نفسه فهداه إليها، وأنا أيضاً أزعم أن أحمد أمين لم يكن يعرف نفسه وسأهديه إليها، مع الفرق بين الهدايتين

وأصرح بأن تشجيع القراء وحرصهم على أن تجمع هذه المقالات في كتاب يرجع إليه من تهمهم معاودة النظر فيما شرحناه من الحقائق الأدبية، ذلك التشجيع لا يهمني كثيراً وإن كان يدلني على يقظة القراء ورغبتهم في محاسبة الكتاب والباحثين.

وإنما أنتظر أن أتلقى كلمة ثناء من الأستاذ أحمد أمين لأعرف أن الجميل في هذا البلد لا يضيع، فهو يعرف جيداً أني قدمت إليه خدمة عظيمة حين دللته على أن مصر لا تزال بخير ففيها رجال يحاسبون من كان في مثل منزلته من المتصدرين لتدريس الأدب بكلية الآداب، وهل يظن أصدقاؤنا بتلك الكلية أن حديقة الأورمان منطقة من مناطق المريخ، وأنهم بمنجاة من أسنة الأقلام؟ هيهات ثم هيهات؟!

ونرجع إلى السرقات فنقول:

شغل الأستاذ أحمد أمين نفسه بالنص على أن العرب في جاهليتهم لم تكن لهم وثنية تبدع الأساطير على نحو ما كان الحال عند اليونان، وذلك يشهد بأن الجاهليين لم يكونوا من أهل الخيال

ص: 8

وقد ناقشنا هذا الرأي بمقال مفصل نكره تلخيصه اليوم لئلا نقع في الحديث المعاد، فهل يعرف القراء من أين أخذ الأستاذ أحمد أمين هذا الرأي؟ أخذه من قول الدكتور أحمد ضيف:

(وقد قال بعض المستشرقين مثل رينان ومن جرى على مذهبه: إن العرب ككل الأمم الساميّة ليس لها أساطير في شعرها ولا في عقائدها، وإن هذا يدل على ضيق الخيال لديهم: لأن الأساطير والخرافات إنما هي نتيجة سعة الخيال، ونتيجة الحيرة والبحث وحب الاطلاع. . . وكل ذلك يظهر أثره في بلاغات الأمم من نظم ونثر، كما هي الحال عند الأمم الآرية كاليونان وغيرهم من الأمم الأوربية، وقالوا سعة الخيال، ولا يقصدون بالخيال ما نقصده نحن من المجاز والتشبيه، وإنما يقصدون سعة الخيال في تصور الحقائق وفي إدراك الموضوعات المختلفة، لأن أساطير اليونان كان منشأها البحث عن الخالق وتصوره فلم ترشدهم عقولهم إلا إلى ضرب من الخرافات كتبوا عنها وألفوا فيها الأسفار ونصبوا لها التماثيل، فاستدل الباحثون بذلك على قوة الذكاء وسعة الخيال وحب الجمال والافتتان فيه، وربما كان هذا من الأسباب التي حملتهم على طول الكلام والميل إلى القَصص في النثر والشعر، لأن هذا النوع من البلاغة ليس إلا ضرباً من سعة الخيال في التصور والفكر والتعبير. ومن هنا يكون تعدد الأنواع في ضروب البلاغة نظماً ونثراً)

ذلك كلام الدكتور أحمد ضيف في محاضرات ألقاها بالجامعة المصرية سنة 1918 ونشرها سنة 1921

فهل عرفتم من أين سرق الأستاذ أحمد أمين كلامه عن الفرق بين وثنية العرب ووثنية اليونان؟ هل عرفتم من أين سرق القول بأن الوثنية العربية لم تخلق التماثيل كما صنعت وثنية اليونان؟ هل عرفتم من أين أنتهب القول بأن المجاز والتشبيه لا يدلان على سعة الخيال؟ هل عرفتم من أين اغتصب القول بأن الجاهليين لم تتعدد عندهم ضروب البلاغة فلم يعرفوا الأقاصيص الشعرية والنثرية؟

إن الدكتور أحمد ضيف لم يبتكر هذا الكلام، ولكنه راعي الأمانة العلمية فذكر مصدره من كلام المستشرقين، أما الأستاذ أحمد أمين فقد انتهب ما نقله الدكتور أحمد ضيف عن المستشرقين ثم ادعى أنه من مبتكراته ودعا الناس إلى مناقشته في تلك (المبتكرات)!!

ص: 9

فهل عرف أنه جازف أقبح مجازفة حين دعا الباحثين إلى مناقشته وهو يظن أن لن يسمع منهم غير الحمد والثناء؟

وفُتِنَ القراء بقول الأستاذ أحمد أمين إن العربي الجاهلي وصف ما رآه، وهي فكرة بسيطة لا تحتاج إلى مقال مطول في مجلة اسبوعية، ولكنها مع ذلك مسروقة من قول الدكتور أحمد ضيف:

(كان العربي يصف في شعره ما يراه، ويتكلم عما يشعر به في نفسه من عواطف وفضائل، وقد تكلم وعبَّر عما يجول بخاطره بنفس الشجاعة والإقدام اللذين كانا له في الحياة)

فأين الذين فتنوا بكلام الأستاذ أحمد أمين ليعرفوا أنه مسروق من كلام الدكتور أحمد ضيف؟

وهناك فرق بين العبارتين: فعبارة الدكتور ضيف سبقت بتعليل مقبول لوقوف العربي عند وصف ما يراه، أما أحمد أمين فاقتضب الكلام حتى لا ينتبه بعض القراء إلى أنه يجدح من سويِق سواه!

وقال الأستاذ أحمد أمين إن بلاد العرب كانت في الأغلب جرداء فلم توح إليهم التفنن في وصف المناظر الطبيعية من رياض وبساتين، وجداول وأنهار، وجبال مكللة بالأشجار والأزهار

فهل يعرف القراء أنه سرق هذه الفكرة من قول الدكتور أحمد ضيف:

(إن طبيعة بلاد العرب الجافة ذات الشكل الواحد لم تُلهم العربي ولم توح إليه من أنواع الجمال غير جمال التعبير عما يجول بخاطره وإظهار عواطفه إظهاراً ساذجاً. غاب عنه جمال الطبيعة من حقول وخمائل ومن جبال وتلال مكللة بالأشجار والأزهار، ونَدرَ لديه جريان الماء وهدوء الجو، فلم ير إلا الصحراء المحرقة ذات الفضاء اللانهائي، والنخل المصعد في السماء على شكل واحد فأثر ذلك في خياله وجعله لا يعرف التغيير)

قد تقولون إن هذه أفكار تعدُّ من البديهيات، فمن حق أحمد أمين أن ينقلها عن أحمد ضيف

وهذا حق، ولكن ما رأيكم فيمن ينقل البديهيات التي أعيدت مرات على أنها من البدع المبتكر الطريف، ثم يقول وهو مزهو مختال: هذه آراء نعرضها للبحث وندعو القراء إلى

ص: 10

مناقشتها رغبةً في تلخيص الأدب العربي من الأوهام والأضاليل؟!

وأراد الأستاذ أحمد أمين أن يأتي بالأعاجيب فقرر أن العرب لم يعرفوا الشعر القصصي ولا الشعر التمثيلي، وهي فكرة بسيطة لا تحتاج إلى دعوى الابتكار والابتداع، ولكنها مع ذلك مسروقة من قول الدكتور أحمد ضيف:(الشعر القصصي والشعر التمثيلي بالمعنى المعروف الآن عند الأدباء في بلاغات الأمم الأخرى لا وجود له عند العرب)

وما ادعينا ولا ادعى أحد أن العرب كان عندهم شعر قصصي وشعر تمثيلي حتى نحتاج إلى حذلقة أحمد أمين.

وعاب صاحبنا على الناس أن يظنوا أن العرب عرفوا كل شيء، ولامهم على الاطمئنان المطلق إلى المؤلفات القديمة مع أنها على سعتها مشوشة تتنافر بعض أجزائها مع بعض، وعجب من أن يوجد قوم يأنفون من الخروج على الأدب القديم

وهذا الكلام (المبتكر) مسروق من قول الدكتور أحمد ضيف في مطلع المحاضرة التي ألقاها بحضور الزعيم سعد زغلول في اليوم التاسع من نوفمبر سنة 1918:

(دراسة الأدب العربي بالطرق المعروفة الآن لا تزال حديثة العهد. والأدب العربي على سعته وغناه مشوش مختلط مرتبك لا يزال باقياً على حالته الأولى من البساطة والسذاجة في التأليف والجمع، ولم تحرر بعد عقول أدبائنا من قيود الطرق القديمة والانتصار لها، ولا يزال يعد الخروج من القديم خروجاً عليه. ولا نزال نعتقد أن القدماء وصلوا إلى أقصى ما يمكن أن يصل إليه العقل البشري من الذكاء والإتقان، وغير ذلك من ضروب الرضا والارتياح)

ومن ذلك ترون أن الأستاذ أحمد أمين لم يكن من المبتكرين حين أراد أن ينهبكم إلى الغفلة التي شاعت منذ أزمان، الغفلة التي توجب أن نجهل أن مصادر الأدب العربي تحتاج إلى تهذيب وترتيب، والتي قضت أن تظل عقولنا في أسر الأدب القديم، والتي أوهمتنا أن العرب لم يتركوا زيادةً لمستزيد، وأنهم وصلوا إلى كل شيء، وأن لغتهم أحسن اللغات

قد تعتذرون عن الأستاذ أحمد أمين بأنه يحادث ناساً يعيشون في سنة 1939 لا في سنة 1918، ولكن لا تؤاخذوني: فقد توهمت أننا نتقدم في الدراسات الأدبية من يوم إلى يوم، وأن ما ينشر في سنة 1918 لا يعاد بحروفه في سنة 1939 خوفاً من أن يقال إن في

ص: 11

أساتذة الجامعة المصرية من يرى الحديث المعاد من المبتكرات

وحدثكم الأستاذ أحمد أمين أن الإعجاب المطلق بالأدب العربي يضر أكثر مما ينفع، وأن من واجبنا أن نوازن بين أدبنا وبين الآداب الأجنبية، وأن نترك أحكام النقل والتقليد. . . وهذا منقول عن قول الدكتور ضيف:

(كل حكم مبني على النقل أو التقليد لا قيمة له، ولا يفيد شيئاً ولا يصح الاعتماد عليه، فلا يصح أن نصدق قول من قال إن لغة العرب أحسن اللغات بدون أن نعرف شيئاً من اللغات الأجنبية ونوازن بينها وبين اللغة العربية. وإننا لنسيء إلى اللغة العربية وإلى الأدب العربي وإلى الأمة العربية أكثر من أن نحسن إليها بمثل هذه الأقوال التي لا يمكن أن يعتمد عليها إنسان مفكر، كما أنها لا تحرك العقول ولا تحملها على البحث)

ذلك كلام الدكتور أحمد ضيف الذي نقله الأستاذ أحمد أمين بدون أن يشير إليه. . . وهل كان يظن أن في مصر من لا يزال يذكر كلاماً قيل في سنة 1918 ونشر في سنة 1921؟

وحدثكم الأستاذ أحمد أمين بأنه يجب أن ننظر إلى الأدب العربي القديم كما ننظر إلى الآثار المودعة في المتاحف، وندرسه كما تدرس الآداب اليونانية واللاتينية. . . وهذا هو كلام الدكتور ضيف إذ يقول:

(من هذه الوجهة يجب أن نتعصب للغة العربية وآدابها كما يتعصب الأوربيون الآن للغة اللاتينية واليونانية لأنهما أصل معارفهم ومستودع سر مدينتهم)

وحدثكم أحمد أمين بأنه يجب أن يكون لنا أدب مصري يصور المجتمع عندنا ويحدثنا عن الزارع في حقله والتاجر في متجره والعالم بين تلاميذه وكتبه والعابد في معبد والماجن في مجونه. . . وهذا منقول عن قول الدكتور ضيف:

(نريد أن تكون لنا آداب مصرية تمثل حالتنا الاجتماعية، وحركاتنا الفكرية، والعصر الذي نعيش فيه، تمثل الزارع في حقله، والتاجر في حانوته، والأمير في قصره، والعالم بين تلاميذه وكتبه، والشيخ في أهله، والعابد في مسجده وصومعته، والشاب في مجونه وغرامه. أي نريد أن تكون لنا شخصية في آدابنا. ولا نريد بذلك أن نهجر اللغة العربية وآدابها، لأننا إن فعلنا ذلك أصبحنا بلا لغة وبلا أدب)

ومن هنا تعرفون كيف سرق أحمد أمين تلك (المبتكرات) التي دعاكم إلى تقليبها على جميع

ص: 12

الوجوه لتعرفوا ما في كلامه من الخطأ والصواب!

وحدثكم أحمد أمين بأنه يجب تحرير الشعر من القوافي والأوزان حتى يتسع لشرح مختلف المقاصد والأغراض. وهذا منقول عن قول الدكتور ضيف:

(إن بلاغة العرب محصورة أو تكاد تكون محصورة في الشعر، والشعر لا يمثل حالة الاجتماع لضيق المجال فيه، لأنه لا يسع جميع الأفكار ولا يحتمل إظهار الحقائق كما ينبغي، لما فيه من القوانين التي جيب على الشاعر اتباعها، وكثيراً ما تضطره إلى ذكر ما لا يلزم، أو حذف ما يلزم، ولأن الشعر رغم كل شيء مبناه الخيال والمبالغات، والاستعارة والتشبيه والمجاز)

أما بعد فتلك مجموعة جديدة من سرقات أحمد أمين في الآراء التي عدَّها من (المبتكرات)

فهل أخذتم منها عبرة؟

هي أولاً شاهد على أن في أدبائنا من ينهب آراء معاصريه لا ترفق ولا استبقاء

وهي ثانياً مظهر من مظاهر الاستخفاف بيقظة النقد الأدبي فلو كان الأستاذ أحد أمين يعرف أن مصر رجالاً يسايرون الحياة الأدبية مسايرة نمكنهم من رد كل كلام إلى مصادره الظاهرة والخفية لتهيب عواقب السطو على آراء من سبقوه في القديم والحديث

وهي ثالثاً دليل جديد على عدل فاطر الأرض والسموات، فالدكتور ضيف قد انسحب من ميدان الحياة الأدبية منذ أعوام طوال، وهو يوغل في إيثار العزلة والانزواء، ولا يكاد يلتفت إلى أن له آراء يسرقها أحمد أمين أو غير أحمد أمين، ولعله يتأذى حين يسمع أننا ننوه بتلك الآراء ونأخذ بتلابيب من يسرقونها في وضح النهار أو ظلام الليل.

ثم ماذا؟ ثم ماذا؟

سترون في المقال المقبل سرقات جديدة من سرقات الأستاذ النبيل أحمد أمين!

وسترون أنه لن يضن علينا بكلمة ثناء!

الهم إني صائم! الهم إني صائم!

فاجعل إفطاري على زاد أفضل من كشف سرقات الأدباء

(للحديث شجون)

زكي مبارك

ص: 13

‌دمشقيات

صديقي رمضان. . .

للأستاذ علي الطنطاوي

صديق عزيز، لقيته وأنا طفل في دمشق، ثم افتقدته وأنا شاب أذرع الأرض وأضرب في بلاد الله، ففرحت بلقائه وأحببته، وألمت لفقده وازداد حنيني إليه، فأين أنت يا صديقي رمضان؟

كنت أرقب قدومه، وأحسب له الأيام والليالي على مقدار ما يحسن طفل من الحساب، فإذا جاء فرحت به وضحكت له روحي لأني كنت أرى الدنيا تضحك له وتفرح بقدومه

كنت أبصره في المدرسة، فالمدرسة في رمضان مسجد، ودرسها تلاوة وذكر، وأهلوها أحبة، ما فيهم مدرّس يقسو على طلاب، وطلاب يكرهون المدرس، لأن رمضان وصل النفوس بالله فأشرق عليها من لدنه النور فذاقت حلاوة الإيمان، ومن ذاق حلاوة الإيمان، لم يعرف البغض ولا الشرّ ولا العدوان

كنت أراه في الأسواق، فالأسواق تعرض بضاعة رمضان وتفيض عليها روح رمضان فتمحو الغش من نفوس أهلها محواً ويملؤها خوف الله ورجاؤه، وتقف ألسنتهم عن الكذب لأنها جرت بذكر الله واستغفاره، وهانت عليهم الدنيا حين أرادوا الله والدار الآخرة، فغدا الناس آمنين أن يغشهم تاجر، أو يخدعهم في مال أو متاع، ويمضي النهار كله على ذلك، فإذا كان الأصيل ودنا الغروب تجلى رمضان على الأسواق بوجهه فهشت له وجوه الناس، وهتفت باسمه ألسن الباعة، فلا تسمع إلا أمثال قولهم:(الصايم في البيت بركة) - (الله وليك يا صايم) - (الله وليك ومحمد نبيك) ثم لا ترى إلا مسرعاً إلى داره حاملاً طبق (الفول المدمس) أو (المسبحة) أو سلال الفاكهة أو قطع (الجرادق)، ثم لا تبصر إلا مراقباً المنارة في دمشق ذات الثمانين منارة، أو منتظراً المدفع، فإذا سمع صيحة المؤذن أو طلقة المدفع دخل داره، والأطفال يجتمعون في كل رحبة في دمشق ليسمعوها فيصيحوا: أذن. . . أذن. . . أذن. . . ثم يطيروا إلى منازلهم كالظباء النافرة.

وكنت أبصر رمضان يؤلف بين القلوب المتباينة، ويجلو الأخوة الإسلامية رابطة المسلم أخي المسلم فتبدو في أكمل صورها فيتقابل الناس عند الغروب تقابل الأصدقاء على غير

ص: 15

معرفة متقدمة فيتساءلون ويتحدثون ثم يتبادلون التمر والزبيب ويقدمون الفطور لمن أدركه المغرب على الطريق فلم يجد ما يفطر عليه، تمرة أو حبة من زبيب، هينة في ذاتها، تافهة في ثمنها، ولكنها تنشئ صداقة وتدل على عاطفة، وتشير إلى معنى كبير

وكنت انظر إلى رمضان وقد سكّن الدنيا ساعة الإفطار، وأراح أهلها من التكالب على الدنيا والازدحام على الشهوات، وضم الرجل إلى أهله، وجمع الأسرة على أحلى مائدة وأجمل مجلس وأنفع مدرسة. فوا شوقاه إلى موائد رمضان وأنا الغريب الوحيد في مطعم لا أجد فيه صائماً ولا أسمع فيه أذاناً ولا أرى فيه ظلاً لرمضان. . .

فإذا انتهت ساعة الإفطار، بدأ رمضان يظهر في جلاله وجماله وعظمته المهولة في المسجد الأموي أجل مساجد الأرض اليوم وأجملها وأعظمها، وكنت أذهب إلى المسجد بعد المغرب وأنا طفل فأراه عامراً بالناس ممتلئاً بحلق العلم كما كان عامراً بهم ممتلئاً بها النهار بطوله، فأجول فيه مع صديقي سعيد الأفغاني خلال الحلقات نستمع ما يقول المدرسون والوعاظ، وأشهد ثريّاته وأضواءه وجماعاته، ومن صنع الله لهذا المسجد أن صلاة الجماعة لا تنقطع فيه خمس دقائق من الظهر إلى العشاء الآخرة في أيام السنة كلها وقد بقى ذلك إلى اليوم على ضعف الدين في النفوس وفساد الزمان. . وإن أنس لا أنس تلك الثريا الضخمة ولم يكن قد مدّ إليها الكهرباء، فكانت توقد مصابيحها وهي أكثر من ألف بالزيت واحداً بعد واحد يشعلها الحسكيون وهم يطيفون بها على سلاليم قصيرة من الخشب فيكون لذلك المشهد اثر في النفس واضح، ثم يكون العشاء وتقوم من بعده التراويح ولها في الأموي منظر ما رأيت أجل منه ولا أعظم إلا صلاة المغرب حول الكعبة في مسجد الله الحرام فإن ذلك يفوق الوصف، ولا يعرف قدره إلا بالعيان. وليس يقلّ من يصلي التراويح في الأموي عن خمسة آلاف أصلاً، وقد يبلغون في الليالي الأواخر الخمسة عشر والعشرين ألفاً، وهو عدد يكاد يشكّ فيه من لم يكن عارفاً بحقيقته ولكنه الواقع، يعرف ذلك الدماشقة ومن رأى الأموي من غيرهم. وحدثّ عن الليالي الأواخر (في دمشق) ولا حرج، وبالغ ولا تخش كذباً، فإن الحقيقة توشك أن تسبقك مبالغة، تلك هي ليالي الوداع يجلس فيها الناس صفوفاً حول السدّة بعد التراويح، ويقوم المؤذنون والمنشدون فينشدون الأشعار في وداع رمضان بأشجى نغمة وأحزنها ثم يردّد الناس كلهم: يا شهرنا ودعتنا عليك السلام! يا شهرنا هذا

ص: 16

عليك السلام ويتزلزل المسجد من البكاء حزناً على رمضان

وسحر رمضان؛ إنه السحر الحلال. إنه جنة النفس ونعيمها في هذه الدنيا، وإني لأقنع من جنات الفردوس أن تكون مثل سحر رمضان، فأين ذهب رمضان؟ وأنى لي بأن تعود أيامي التي وصفت لأعود إليه؟

ذمّ المنازل بعد منزلة اللوى

والعيش بعد أولئك الأيام

إني لا أشتهي شيئاً إلا أن أعود طفلاً صغيراً لأستمتع بجوّ المسجد في رمضان وأنشق هواءه وأتذوق نعيمه. لم أعد أجد هذا النعيم، وما تغيرت أنا أفتغيرت الدنيا؟

إني لأتلفت أفتش في غربتي عن رمضان فلا ألقاه لا في المسجد ولا في السوق ولا في المدرسة، فهل مات رمضان؟

إذن فإنا لله وإنا إليه راجعون

لقد فقدت أنس قلبي يوم فقدت أمي، وأضعت راحة روحي يوم افتقدت رمضان، فعلى قلبي وأمي ورمضان وروحي رحمة الله وسلامه!

(كركوك)

علي الطنطاوي

ص: 17

‌هل يقرأ الفنان هتلر

الذئب والحمار

رواية في منظر واحد

الأستاذ عبد اللطيف النشار

(يزعم هتلر أنه يريد إنقاذ الإنسانية من شوك الديمقراطية)

الحمار (يدخل المسرح خائفاً وحده):

أقبل الذئب ومالي

بكفاح الذئب حيله

رَب ألهمني برأي

فحياتي مستحيله

أدّعي أني مريض

علني أنجو بحيله

(يتعارج. . . ويدخل الذئب)

الذئب:

لِمَ تمشي مشية الأع

رج يا أوفى حبيب

كيف تشكو أي داء

وأنا خير طبيب

أرني رجلك أشف

يك من الجرح الرغيب

(يتقدم ليرى رجل الحمار)

الحمار:

لك شكري وثنائي

وجزاك الله عني

قد أصاب الشوك رجلي

فانزع الشوك ترِحْني

وإذا لم أستطع قتلك

يا ذئب فكلني

(يركل بقدميه الخلفية)

الذئب (وهو يتلوى من الألم ويجود بنفسه):

هكذا أقضي حياتي

هكذا عقبى الغرور

أنا قصاب فمالي

أدَّعى طب الحمير

ليس في الكذْب على ال

خلق سوى الشر الكثير

ص: 18

(يموت)

الحمار:

أحمد الله على ال

مقل ففي عقلي نجاتي

أحمد الله فلولا

حيلتي ضاعت حياتي

كتب الله ليَ العمْ

رَ بصبري وثباتي

عبد اللطيف النشار

ص: 19

‌التعليم والإنتاج

للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر

أبنا في مقالنا السابق أهمية ارتباط معاهد التعليم بمصادر الإنتاج وضرورة اتصالها بها اتصالاً وثيقاً يضمن لخريجي هذه المعاهد العمل المباشر بين تلك المصادر بمجرد انتهائهم من عهد الدراسة ومغادرتهم لدورها إلى الحياة العامة

أما الإنتاج فهو في الحقيقة نوعان: إنتاج عقلي وإنتاج مادي. ولا شك في أن الإنتاج المادي، وهو أمر يتعلق برفاهية الأفراد والأمم وثروتها ومجدها الإقتصادي، يستمد قوته ونشاطه وحيويته من الإنتاج العقلي، إذ كلما كان الذهن نشيطاً وكانت الثقافة مزدهرة استطاع العقل البشري أن يبتكر طرقاً جديدة مفيدة في زيادة الإنتاج المادي وإنماء الثروات المختلفة مما يؤدي طبعاً إلى السعة بين الأفراد ورفع مستوى الحياة بين طبقات الشعب. ولذلك نعد الإنتاج العقلي الأساس الذي ينبني عليه عز الأمة وقوتها ورفاهيتها. ولعل هذا كان السبب الذي من أجله اتجهت المدارس المصرية بكل قوتها منذ فجر النهضة إلى دراسة مبادئ العلوم الحديثة النظرية ظناً من القائمين بأمرها أن الإنتاج بنوعيه محصور في ذلك لما هو ظاهر من الارتباط الوثيق بين المدنية الحديثة وبين تلك العلوم العصرية، مهملين بجانب ذلك أموراً حيوية أخرى لا محيص عنها في سبيل الحصول على الثمرة الحقيقة من التربية والتعليم في تلك المدارس، وهي أمور تعني بها العناية كلها جميع المعاهد العلمية في مختلف الأمم المتمدنة. فكان لهذا العمل أثره الكبير فيما نلمسه من الفروق الكبيرة بين شبابنا وشبابهم: فبينما تجد الشاب منهم ينغمس في أعمال الإنتاج بمجرد انتهائه من دراسته، إذا بالشاب المصري يسعى حثيثاً إلى الوظيفة ويفضلها على أي عمل منج آخر، معتقداً أن فيها ضماناً للعيش في هدوء وطمأنينة مهما قلت مواردها، ومهما هزل مستقبلها على حد قول الشاعر:

حب السلامة يثني هم صاحبه

عن المعالي ويغري المرء بالكسل

ومن ثم نرى الشاب المصري لا يقوى على المخاطرة في الأعمال الإنتاجية لأنه ضعيف العزم قليل الصبر على ما يعترضه من عقبات، يجب أن يصل دائماً إلى نتيجة حاسمة سريعة مما لا يصل إليه غيره في البلاد الأخرى إلا بقوة العزيمة والأناة والصبر والجد

ص: 20

المتواصل؛ ونراه يتعجل الثروة قبل أوانها ويتعجل المجد قبل أن يحين حينه، يضجره البطء ويقضي عليه التسرع فيسلمه للفشل كمن قيل فيه:(إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى). ونراه متراخياً متواكلاً يفضل الاعتماد على والديه وذويه وما يمنحونه إياه من فضلات الرزق، على القليل مما قد يصيبه من الكد وعرق الجبين، وهكذا نجد في شبابنا نقصاً في نواح متعددة بل في كثير من الصفات التي تقتضيها الرجولة ويحتمها الجهاد في الحياة الحاضرة. وما ذلك إلا لأن المدرسة لم تجد من الوقت ما يمكنها من العناية بغرس تلكم الصفات الضرورية في أبنائها لأنها خصصت كما ذكرنا في مقالنا السابق كل وقتها لحفظ الكتب المؤلفة في برامج الامتحان ليصل الطالب إلى الشهادة التي كانت ذات قيمة ذهبية في سوالف الأيام، وقد أصبحت اليوم في نظر عقلاء المجتمع لا قيمة لها في الحياة العملية العامة. وإذا كان الإنتاج العقلي كما قررنا هو الأساس الذي تبنى عليه قوة الإنتاج المادي فإن الأمم الحية لا تعنى بالإنتاج العقلي وحده مهملة في معاهدها كما فعلنا نحن في معاهدنا، الاتصال المباشر بمصادر الإنتاج المادي ولكن السياسة التي يسير عليها التعليم في تلك الأمم تقوم على فكرة حصر الإنتاج العقلي على قدر الإمكان في المتفوقين من أبنائها فلا يباح لكل متوسط العقل أو ضعيفه أن يخترق الصفوف إلى معاهد التعليم العليا ما دام قادراً على دفع مصروفاته كما هو الحال عندنا. ولكن هؤلاء قبل أن يتزاحموا على أبواب المعاهد العليا تزاحمهم عندنا اليوم، يوجهون توجيهاً صحيحاً إلى معاهد الإنتاج المادي لتتكون منهم فئات الزراع والصناع والتجار العاديين قبل أن يكونوا عالة على معاهد الثقافة العليا فلا يكون الكثيرون منهم نكبة على تلك المعاهد فقط بل نكبة كذلك على الإنتاج العقلي نفسه! بهذا تتكون طبقات الأمة عند تلك الأمم تكوناً صحيحاً، وتنحصر القيادة العقلية والعلمية في المتفوقين من ذوي العقول الناضجة والإفهام القوية، ولا توجد عندهم تلك الثقافة المزيفة التي تحمل شبابنا من شعبة الرياضة اليوم مثلاً على أن يلجئوا مكرهين كليتي الحقوق والتجارة مع أنهم لم يخلقوا لهما، تلك الثقافة المزيفة التي وصفها الأستاذ العقاد في إحدى مقالاته بالرسالة بقوله:

(فالثقافة المزيفة بلاء لا تنحصر أضراره في الأدب والفن والتأليف، ولا يزال يسري في كل شعبة من شعب الحياة حتى يعطل القوة العسكرية والقوة البدنية والقوة الحيوانية في

ص: 21

النهاية وهي القوى التي يظن أنها أغنى ما تكون عن الثقافة والمثقفين)

من اجل هذا كله إذا بحثنا في إنتاجنا العقلي الحالي نجده مع الأسف ضئيلاً عقيما فما بالك إذن بالإنتاج المادي! ليس لدينا من الهيئات العلمية إلا العدد القليل، وأهمها طبعاً كليات الجامعة وهي وإن كانت لا تزال ناشئة إلا أننا كنا نأمل منها في زهاء 15 سنة مضت أن تثبت وجودها العلمي بين جمهور المثقفين كما أثبتته بين جدرانها الخاصة، فهي وإن كانت لها بحوث علمية إلا أنها إلى الآن لم يحس الجمهور المثقف بوجودها لأنه لم يستفد من بحوثها إلا قليلاً ولأنه لم يحس بأثر لها في الحياة العامة أكثر مما كان للمدارس العالية قديماً، فالجمهور لم يستفد شيئاً محسوساً إلى اليوم في أغانيه وأناشيده وأقاصيصه القومية من كلية الآداب مثلاً، والجمهور لم يجد فائدة تذكر من كلية العلوم وكلية الزراعة ومصلحة الكيمياء في أمور تتصل بالصميم من حياته الإنتاجية كمسألة دودة القطن التي تقضي على ملايين الجنيهات من ثروته سنوياً، لا ولا فيما هو أبسط من ذلك كالفوائد الصحية التي يمكن أن تجنى من عين مائية كالعين الجديدة في حلوان الخ

فإذا انتقلنا خطوة إلى التعليم الفني الزراعي والصناعي والتجاري وهو التعليم المتصل اتصالاً مباشراً بحياة الإنتاج المادي وجدنا حالة مع الآسف لا تسر أي مصري، إذ ليس لتلك المعاهد بأنواعها أثر يذكر في ذلك الإنتاج، لأن جميع خريجيها لا يعنون بمصادر الإنتاج المادي ولا يعبئون بالاتصال به. إنما همهم جميعاً الحصول على الوظيفة حتى ولو كانت وظيفة كتابية أو إدارية لا علاقة لها بفنهم. ولقد شرحت عيوب هذا النوع من التعليم في مؤلفي (التعليم والمتعطلون في مصر) من صفحة 246 إلى صفحة 253

أما التعليم العام فالإنتاج العقلي يكاد يكون معدوماً بين رجاله أنفسهم، لأن كل إنتاجهم محصور في عدة كتب خاصة بمناهج الدراسة ليس للابتكار أثر فيها لأن معظمها منقول عن الكتب الإفرنجية لغرض الكسب المادي لا لغرض الثقافة والتثقيف، مما لا يحبب الطالب في المطالعة بل يبعده عنها ويبغضه فيها، على عكس الحال في المدارس الأجنبية التي تعتبر الغرض الأساسي من وجوها ووجود مؤلفاتها إنما هو تعويد أبنائها القراءة وتحبيبهم في المطالعة وإفهامهم جيداً أنهم إذا تركوا المدرسة فإنما يتركونها ليبدؤوا تعليمهم الحقيقي المستمد من داخلية نفوسهم بالاطلاع على الكتب المختلفة، مما لا أثر له عندنا مع

ص: 22

الآسف. ولعل سبباً من أسباب ذلك العقم يرجع إلى النظام الذي ابتدعه دنلوب قديماً في مكافأة رجال التعليم وترقيتهم، والذي أخذ به أتباعه ولا يزال يأخذ به الكثيرون منهم، ذلك النظام العتيق الذي يقضي بقصر الترقية على ذوي المؤهلات التي حصل عليها الواحد منهم من غير نظر إلى ما ينتجه فترهم يقدمون دائماًَ صاحب المؤهلات الأوربية على ذوي المؤهلات المصرية مهما كان الأول عديم الإنتاج ومهما كان الثاني كثير الإنتاج لا لسبب إلى لأن الأول - كما يقولون - رجل إنجلترا أو وهذا النظام - وهو نظام المؤهلات والشهادات يقضي على الإنتاج العلمي قضاءاً تاماً، لأن الجميع عرفوا أنه يكفي للواحد منهم أن يقضي ثلاث سنوات في إنجلترا ليضمن القفز المستمر في التقدم على زملائه بل على أساتذته أنفسهم مهما كانوا منتجين! وبذا لا يهتم رجل التعليم اليوم بأن يكون منتجاً (وقد يضر الإنتاج أحياناً) بقدر ما يهتم بأن ينتسب إلى إحدى الكليات في أوربا ليقضي بها سنين معدودة تجعله في مقدمة الصفوف دائماً وتضمن له الوصول إلى أعلى القمة

وإنا لنأمل في هذا العهد الجديد أن يقضي على هذا النظام الدنلوبي العتيق قضاءاً تاماً، لأنه يقف حجر عثرة في سبيل النهوض بالإنتاج العلمي والعقلي الذي يجب أن يكون هو الأداة الفعالة في سبيل النجاح والرقي

عبد الحميد فهمي مطر

ص: 23

‌صوت من ألف عام

للأستاذ محمد حسن الأعظمي

وهذا الصوت هو ديوان الأمير تميم بن الخليفة المعز لدين الله الفاطمي، وهو كما يعرف الأدباء أمير شعراء مصر في العصر الفاطمي. ويمكننا القول بأن تميما هذا كان مبدأ حياة خصيبة عامرة نشأ في وقت واحد مع القاهرة. وكان الشعر في مصر بما نعلمه عن الضعف والقلة والندرة، إذ كان العصر العباسي الثاني حافلاً بدويلات مختلفة شبه مستقلة، وكان الشعر فيها يصيب تشجيعاً من أمراء العرب كدولة بني حمدان. إلا أن الحياة في مصر كانت طوفاناً مضطرب الأمواج بين أيدي رسل الخليفة من الأتراك الذين لم يكن الشعر العربي يلقي حياته المعروفة عندهم بحكم تباين اللغة والمنزع. لهذا كان يلجأ الشعراء إلى غير مصر ويلتمسون لأنفسهم الحياة والرقي في الشام وبغداد، بينما كانت اللغة الفارسية تلتمس في ذلك العهد نهضتها وانبعاثها في الدولة السامانية والغزنوية فإذا ما أتيح للفاطميين أن يقيموا دولتهم الكبرى في وادي النيل فنحن أمام دولة عربية هاشمية تحمي اللغة كما تحمي كتابها ودينها، ففي عصر الفاطميين أخصب البيان العربي وانفسح الميدان للشعراء يتبارون في قرض قصائده وعرض فرائده، أمكننا أن نسمع مائة شاعر في رثاء بعض الوزراء ينشدون جميعاً وينالون الجائزة جميعاً، فيجيدون من أربحية الفاطميين وسعة نائلهم ما يشجعهم على القول يدفعهم إلى الإجادة. ولكن لماذا يحدث صاحب العمدة والثعالبي وغيرهما عن تميم والجميع قد أجمعوا أو كادوا يجمعون على أن تميما كان على عرش الإمارة في الشعر كما كان أبوه وأخوه على عرش الخلافة في مصر. الحق أن للسياسة دخلاً كبيراً في السطو على تميم وحرمان أبناء العربية أدهاراً طوالاً من ثمار تفكيره، فقد كان شعر تميم ضمن مخلفات ذلك البيت المالك، وفي خزانة القصر الفاطمي التي كانت حافلة بمئات الألوف من الذخائر الأدبية والنفائس الفلسفية والعلمية، ونحن نسمع من التاريخ أحاديث متشعبة الأطراف عن الأحداث الجسام التي انتابت هذا القصر في كتبه وفي جواهره بل في أهله ومشيديه، وكان الأمر بعد عصر الحاكم نهباً في أيدي الثورات المتتابعة بين الجيوش السودانية والتركية من جهة والمصرية من جهة أخرى، وأصيب الملك كله بأزمة جائحة وصدمة فاجعة تركت القصر نهباً والكتب سلباً. ثم جاء بعد ذلك

ص: 24

العصر الذي غربت فيه شمس الدولة الفاطمية فنهبت هذه القصور وأحرق أكثرها وحمل القليل من تحفها وجواهرها، وشاءت الأقدار أن تحفظ لنا تميما وأن ينقل من مصر مع من هاجر من بقايا هذه الأسرة وأتباعها الذين اعتصموا بجبال اليمن ولاذوا بحصونها الطبيعية المنيعة من غوائل أعدائهم. أما أدباء العرب والمؤرخون فلم يعرفوا عن تميم بعد ذلك إلا شذرات متفرقة وبضع قصائد لعبت بها يد التحريف والتصحيف

إن البقية الباقية من أتباع الفاطميين لم يكونوا بمأمن على أنفسهم في جبال اليمن فأرادوا النجاة بأرواحهم وبما في أيديهم من الكتب إلى الهند في مقاطعة كُجرات، فأقاموا بها وشيدوا لأنفسهم هنالك دويلة روحية وأقاموا لهم كلية عظيمة تدرس بها العلوم الفاطمية حيث يقبل الطلبة من أنحاء الهند إليها فيتعلمون بعد امتحان دقيق ما تصبوا إليه نفوسهم من العرفان. وكان من نصيبي أن أدرس بهذه الكلية، أو بعبارة أقرب إلى الوضوح أنه كان يعنيني في هذه الكلية دراسة فلسفتها كما حاولت قبلها الانتساب إلى كليات أخرى في مذاهب شتى لاستكمال الثقافة الإسلامية من نواحيها العديدة، ولاعتقادي أن الحكمة ضالة العاقل ينشدها في كل مكان ويبحث عن لآلئها في كل غور وصقع. وكان هذا الديوان فيما وجدته بين نفائس المكتبة وما أكثرها، فنقلته من سبع نسخ مختلفة كما نقلت غيره من الكتب الخطية المفقودة في جميع مكاتب العالم، ومنها مثلاً ثمانمائة محاضرة لداعي دعاة الفاطميين المؤيد الشيرازي الذي ناظر أبا العلاء المعري. وقد أردت قبل طبع الديوان جملة أن أعرض على قراء الرسالة الغراء نماذج يسيرة من هذا الديوان

قال رداً على عبد الله بن المعتز في تفضيله العباسيين على العلويين في قصيدته التي أولها (أي ربع لآل هند ودار):

يا بني هاشم ولسنا سواء

في صغار من العلي أو كبار

إن نكن ننتمي لجدّ فإنا

قد سبقناكم لكل فخار

ليس عباسُكم كمثل عليٍّ

هل تُقاس النجومُ بالأقمار

من له الفضل والتقدم في الإ

سلام والناس شيعة الكفار

من له الصِهر والمواساة والنص

رة والحرب ترتمي بالشرار

من دعاء النبي خِدنا وسمّا

هـ أخا في الخلفاء والإظهار

ص: 25

من له قال لا فتى كعلي

لا ولا منصل سوى ذي الفقار

وبمن باهلَ النبيُّ أأنتم

جهلاءٌ بواضح الأخبار

أَبِعبد الإله أم بحسين

وأخيه سلالة الأطهار

يا بني عمنا ظلمتم وطرتم

عن سبيل الإنصاف كل مطار

كيف تحوون بالأكُفِ مكاناًً

لم تنالوا رؤياه بالأبصار

من توّطى الفراشَ يخلف فيه

أحمداً وهو نحو يثرب سار

أين كان العباسُ إذ ذاك في ال

هجرة أم في الفراش أم في الغار؟

ألكم مثل هذه يا بني العبا

س مأثورة من الآثار. . .؟

ألكم حرمة بعم رسول (م)

الله ليست فيكم بذات بوار؟

ولنا حرمة الولادة والأع

مام والسبق والهدى والمنار

ولنا هجرة المهاجر قدماً

ولنا نصرة من الأنصار

ولنا الصوم والصلاة وبذل ال

عرف في عسرنا وفي الإعسار

ونحن أهل الكساء سادسنا الر

وح أمين المهيمن الجبار

نحن أهل التقى وأهل المواسا

ة وأهل النوال والأيسار

فدعوا خُطة العُلى لذويها

من بني بيت أحمد الأبرار

أو فلوموا الإله في أن برانا

فوقكم واغضبوا على المقدار

أجعلتم سقي الحجيج كمن آمن (م)

بالله مؤمناً لا يداري؟

أو جعلتم نداء عباس في الحر

ب كمن فر عن لقاء الشفار

كوقوف الوصي في غمرة المو

ت لضرب الرؤوس تحت الغبار

حين ولّى صحب النَبّي فرارا

وهو يحمي النبي عند الفرار

واسألوا يوم خيبر واسألوا

مكة عن كرّه على الفجّار

واسألوا يوم بدر من فارس الإس

لام فيه وطالب الأوتار

واسألوا كل غزوة لرسول (م)

الله عمن أغار كل مغار

يا بني هاشم أليس عليّ

كاشف الكرب والرزايا الكبار

فبماذا ملكتم دوننا إر

ثَ نبيّ الهدى بلا استظهار

ص: 26

أبقربي فنحن أقرب للمو

روث منكم ومن مكان الشعار

أم بإرث ورثتموه فإنا

نحن أهل الآثار والأخطار

لا تغطوا بحيفكم واضح الحق (م)

فيقضي بكم لكل دمار

وأصيخوا لوقعة تملأ الأر

ض عليكم بجحفل جرّار

تحت أعلامه من الفاطميي

ن أسود ترمى شبا الأظفار

فأصدروا عن موارد الملك إنا

نحن أهل الإيراد والإصدار

ولنا العز والسموّ عليكم

والمساعي وقطب كل مدار

يا بني فاطم إلى كم أقيمكم

بلساني ومنصلي وانتصاري

ويرثى الأمير أهل بيت النبي:

نأت بعد ما بان العزاء سعاد

فحشو جفون المقلتين سهاد

فليتَ فؤادي للظمائن مربع

وليت دموعي للخليط مزاد

نأوا بعدما ألقت مكائدها النوى

وقرّت بهم دارٌ وصحّ وِداد

وقد تؤمن الأحداث من حيث تتقى

ويبعد نجح الأمر حين يراد

أعاذل لي عن فسحة الصبر مذهب

وللهو غيري مألوف ومصاد

ثوت لي أسلاف كرام بكربل

هُم لثغور المسلمين سداد

أصابتهم من عبد شمس عداوة

وعاجلهم بالناكثين حصاد

فكيف يلذ العيش عفوا وقد سطا

وجار على آل النبي زياد

وقتلهم بغياً عبيد وكادهم

يزيد بأنواع الشقاق فبادوا

بثارات بدر قاتلوهم ومكة

وكادوهمُ والحق ليس يكاد

فحكّمت الأسياف فيهم وسلطت

عليهم رِماح للنفاق حِداد

فكم كربة في كربلاء شديدة

دهاهم بها للناكثين كياد

تحكّم فيهم كل أنوك جاهل

ويغزون غزوا ليس فيه محاد

كأنهم ارتدّوا ارتداد أُميّة

وحادوا كما حادت ثمود وعاد

ألم تعظموا يا قومُ رهط نبيكم

أمالكم يوم النشور معاد

تداس بأقدام العُصاة جسومهم

وتدرسهم جردٌ هناك جياد

ص: 27

تضمُيهم بالقتل أمة جدهم

سفاها وعن ماء الفرات تذاد

فماتوا عطاشاً صابرين على الوغى

ولم يجبُنوا بل جالدوا فأجادوا

ولم يقبلوا حكم الدعىّ لأنهم

تساموا وسادوا في المهود وقادوا

ولكنهم ماتوا كراماً أعزّة

وعاش بهم قبل الممات عباد

وكم بأعالي كربلا من حفائر

بها جُثث الأبرار ليس تُعاد

بها من بني الزهراء كل سميدع

جوادٍ إذ أعيي الأنام جَواد

معفّرة في ذلك الترب منهم

وجوه بها كان النجاح يفاد

فلهفي على قتل الحسين ومسلم

وخزي لمن عاداهما وبعاد

ولهفي على زيد وبثاً مردّدا

إذا حان من بث الكئيب نفاد

ألا كبدٌ تفنى عليهم صبابةً

فيقطر حزناً أو يذوب فؤاد

ألا مقلة تهمي ألا أُذن تعي

أكلّ قلوب العالمين جماد

تقاد دماء المارقين ولا أرى

دماء بني بيت النبي تقاد

أليس هم الهادين والعترة التي

بها انجاب شركٌ واضمحل فساد

تساق على الإرغام قسراً نساؤهم

سبايا إلى أرض الشآم تُقاد

يسقن إلى دار اللعين صواغراً

كما سيق في عصف الرياح جراد

كأنهم فيء النصارى وإنهم

لأكرم مَن قد عزّ عنه قياد

يعزّ على الزهراء ذلة زينب

وقتل حسين والقلوب شِداد

وقرع يزيد بالقضيب لسّنه

لقد مجسوا أهل الشآم وهادوا

قتلتم بني الإيمان والوحي والهدى

متى صحّ منكم في الإله مُراد

ولم تقتلوهم بل قتلتم هداكم

بهم ونقصتم عند ذاك وزادوا

أمية ما زلتم لأبناء هاشم

عِدي فاملأوا طرق النفاق وعادوا

إلى كم وقد لاحت براهين فضلهم

عليكم نِفارٌ منكم وعناد

متى قط أضحى عبد شمس كهاشم

لقد قل إنصاف وطال شراد

متى وُزِنت صمّ الحجار بجوهر

متى شارفت شمَّ الجبال وهادُ

متى بعث الرحمن منكم كجدهم

نبيَّا علت للحق منه زِناد

ص: 28

متى كان يوماً صخركم كعليّهم

إذا عُدَّ إيمان وعُدّ جهاد

متى أصبحت هندٌ كفاطمة الرضى

متى قِيس بالصبح المنير سَواد

أَآل رسول الله سؤتم وكدتم

ستُجنى عليكم ذلة وكساد

أليس رسول الله فيهم خصيمكم

إذا اشتد إبعاد وأرمل زاد

بكُم أم بهم جاء القرآن مبشراً

بكُم أم بهم دين الإله يُشاد

سأبكيكم يا سادتي بمدامع

غزارٍ وحزن ليس عنه رقاد

وإن لم أعاد عبد شمس عليكم

فلا اتسعت بي ما حييتُ بلاد

وأطلبهم حتى يروحوا ومالهم

على الأرض من طول الفِرار مهاد

سَقى حفراً وارتكم وحوتكم

من المستهِلاّت العِذاب عهاد

وقال متغزلاً:

قالت: أغدراً بنا في الحب قلت لها:

لا نال غاية ما يرجوه مَن غَدرا

قالت: فلم لم تزرنا قلت: زاركم

قلبي ولم يدر بي جسمي ولا شعرا

قالت: كذا يكتم العشّاق حبّهم

فينعمون ويجنُون الهوى نضرا

قلت: اسمحي لي بتقبيلٍ أعيش به

قالت: وأيّ محبٍ قبّل القمرا

وقال يصف الناعورة:

وباكية من غير دمع بأعين

على غير خل دائماً تتحدر

يغني بها زجل المدير لقطبها

فيطربها حسن الغناء فتنعر

إذا نزف العشاق دمع عيونهم

فأدمعها مع كثرة السكب تغزر

وقال وقت الخروج من الشام سنة 374هـ:

قالوا الرحيل لخمسة

تأتي سراعاً من جمادى

فأحببتهم أني اتخذت

له البكا والحزن زادا

سبحان من قسم الهوى

بين الأحبة والبعادا

وأعار للأجفان سق

ما يسترق بها لعبادا

يا ويح من منع الفراق

جفون مقلته الرقادا

وقال في الحكم:

ص: 29

قواضب الرأي أمضى من شبا القضب

والحزم في الجد ليس الحزم في اللعب

بت ساهراً عند رأس الأمر ترقبه

ولا تبت نائماً عنه لدى الذنب

يرجى دفاع الرزايا قبل موقعها

وليس يرتجع الماضي من النوب

وأفضل الحلم حلم عند مقدرة

وأعذب الجود ما وافى بلا طلب

وقال أيضاً:

قتيل الحوادث مَن خافها

فلا تخش حادثةً تنجح

مع العسر يسر يجّلي الأسى

ألم تتذكر ألم نشرح

وقال:

عتبتْ فأثنى عليها العتاب

ودعا دمعَ مقلتيها انسكاب

وسعت نحو خدّها بيديها

فالتقى الياسمينُ والعُنَّاب

رُبَّ مبدي تعتّبٍ جعل العت

ب رياء وهمّه الإعتاب

فاسقينها مدامةً تصبغ الكأ

س كما يصبغ الخدود الشباب

ما ترى الليل كيف رقَّ دجاه

وبدا طيلسانه ينجاب

وكأن الصباح في الأفق باد

والدجى بين مخلبيه غراب

وكأن السماء لجة بحر

وكأن النجوم فيها حباب

وكأن الجوزاء سيف صقيل

وكأن الدجى عليها قِراب

وقال معرضاً ببعض القرابة، وذاك أنه ذكر أن الأمير يستعين على ما يأتي به من الشعر بغيره:

أرى أناساً ساءني ظنهم

في كل ما قلت من الشعر

لما تطاطا بهمُ علمهم

قاسوا بأقدارهمُ قدري

لو فهموا أو عقلوا لاستحوا

أن يجعلوا المريخ كالبدر

قيسوا بشعري شعره تعلموا

تصايق النهر عن البحر

من بطّل الحق هجا نفسه

بجهله من حيث لا يدري

فناظروني فيه أو فاشرحوا

شعريَ إن أنكرتم أمري

أو لا فقولوا حسدٌ قلتل

مستمكن في القلب والصدر

ص: 30

وقال يمدح أخاه الخليفة العزيز بالله الفاطمي:

أشرب فإن الزمان غضّ

وصرفه ليِّن الجناب

من قهوة مرّة كميت

أسكرُ من أعصر الشباب

أرق من أدمع التصابي

سكباً وأشهى من الضراب

صاغ لها المزج حين شبت

بطاق در من الحباب

كأن في كأسها صباحاً

والليل محلولك الثياب

يسعى بها ساحر المآقي

لا يمرض الوصل بالعتاب

كأنها لون وجنيته

وطيب ألفاظه العذاب

إن ندى راحتي نزار

ما زال يغني عن السحاب

مهذب أروع السجايا

مقابل ما جد النصاب

ومن أحسن ما قيل في الأمير قول ابن رشيق:

أضح وأقوى ما سمعناه في الندى

من الخبر المأثور منذ قديم

أحاديث ترويها السيول عن الحيا

عن البحر عن كف الأمير تميم

محمد حسن الأعظمي

-

ص: 31

‌لو.

. .

للأستاذ إيليا أبو ماضي

لو أنني يا هند بدر السما

هبطت من أفقي إلى مخدعك

وصرت عقداً لك أو خاتما

في جيدك الناصع أو أصبعك

أو بلبل البستان ما لذ لي

الإنشاد إن لم يك في مسمعك

ولو أكون الأرج الذاكي

لما هجرت الروض لولاك

وما حواني غير مغناك

ولم أفح حتى تكوني معي

فيك وفي الوردة سر الصبا

وفي الصبا سر الهوى والجمال

فإن تريني واجماً باهتا

حيالها أخشى عليها الزوال

فإنني شاهدت طيف الردى

ينسل كالسارق بين الظلال

ولاح لي في الورق النامي

منطرحاً في الأرض قدامي

رموز آمال وأحلام

أحلام من؟ أحلام مضناك

إيليا أبو ماضي

ص: 32

‌استطلاع صحفي

مدرسة الطيران الحربي

كيف تصبح طياراً حربياً؟

(لمندوب الرسالة)

تكلمنا في مقال سابق عن مدرسة التصوير الجوي وبينا

أهميتها. ونتحدث اليوم عن مدرسة الطيران الحربي حيث

يتلقى ضباطنا الطيارون دروسهم العلمية والعملية فيكونون

أهم وسائل القتال الحديث. فقد اصبح الطيران الحربي عماد

الجيوش فهو الذي يؤدي مهمة استطلاع مواطن العدو، وهو

الذي يدمر بقنابله موارد جيوشه، ويعطل طرق تموينه بنسف

السكك الحديدية أو المصانع الحربية والحاجيات الأولية، فهو

الذي يدعم الحرب الاقتصادية).

قوة الأعصاب

على طرف مسطرة ممدودة في يد أحد الطلاب أوقف مسمار على سطحه المستوي. والمسطرة وذراع الطالب في مستوى كتفه يتحركان ذات اليمين وذات اليسار تبعاً لأوامر الطبيب دون أن يهتز المسمار أو يسقط. فالطبيب يختبر قوة أعصاب الطالب ليقرر إذا كان يصلح لدراسة فن الطيران الحربي أو لا يصلح. وينتقل الطالب من اختبار إلى اخر، فهنا يختبر الطبيب حدة بصره وسلامته من العيوب فيقرب جسماً صغيراً من وجهه ليرى زاوية التقاء البصر في العينين، وهناك يدرس حساسية أجزاء الجسم فيمر أجساماً غريبة على جلده ويلاحظ الانفعالات المختلفة، وهكذا يمر طالب الالتحاق بمدرسة الطيران

ص: 33

الحربي من مرحلة إلى أخرى، حتى يتأكد الطبيب أن جسمه من أصلح الأجسام وأقواها، فإن الطيار يتعرض لضغوط جوية مختلفة تودي بحياته إذا كان جسمه لا يتحملها.

فإذا قبل الطالب في مدرسة الطيران الحربي، فهو يبدأ دراسة فنية عمادها الخبرة العملية وتطبيق النظريات العلمية مع ملاحظة سرعة الخاطر وحضور البديهة. فالطيران الحربي فن الطوارئ سواء كانت طبيعية أم صناعية، فقد يقابل الطيار أثناء تحليقه في الجو إعصاراً، وقد يفسد منه أحد الأدوات، فعليه أن يدبر نفسه ويصلح خلله وإلا كلفه جهله أو ارتباكه ثمناً غالياً إذا لم يكن حياته فهو الطائرة التي يركبها. وقد تقابله أثناء قتاله مع العدو قوة أقوى من قوته أو خدعة لم تخطر له على بال، فعليه في هذه الحالة أن يتصرف ويجيد التصرف، وعليه أن يغامر ويحسن المغامرة وإلا أفسد المهمة التي كلفه بها قائده وكلف جيشه وأمته خسائر مادية ومعنوية كبيرة.

الطيران الثابت

يبدأ الطالب دراسته في مدرسة الطيران الحربي في غرفة صغيرة في أحد جوانبها جهاز صغير على شكل حجم الطائرة، ورسم على حائط الغرفة الأفق وزوايا الطيران المطلوبة. وفي جانب آخر يجلس المدرب أمام جهاز لاسلكي يعرف بواسطته حركات الجهاز كما يصدر أوامر بالاتجاه إلى اليمين أو إلى اليسار والأمام.

ويدور هذا الجهاز بالكهرباء، فيجلس الطالب على مقعده فيجد أمامه عصا القيادة وأقيسة اتجاهات الريح والضغط والبوصلة وغيرها من الأدوات التي لا غنى عنها لطيار. ويعمل الجهاز فتتولد فيه عدة تيارات هوائية تمثل التيارات الهوائية الجوية، ويتعرض جهازه لعدة أخطاء فيتعلم الطالب كيف يضبط جهازه في الوضع الصحيح بتحريك عصا القيادة في اتجاه يصحح أخطاء الريح فإذا مال الجهاز بفعل التيارات إلى اليمين صححه الطالب

وتعرف هذه الرحلة بالطيران الثابت، ففيها يتعرض الطالب لجميع مؤثرات الطيران، ولكن جهازه لا يفارق الأرض، وإن سمح له أن يدور إلى اليمين أو إلى اليسار. ويمكث الطالب على هذه الحالة عشر دقائق في اليوم لمدة 15 يوماً. فيتاح للطالب المبتدئ أن يعرف كثيراً من أسرار الطيران دون أن يعرض حياته ومال الدولة للهلاك. أضف إلى ذلك أنه يكون بعيداً عن ضوضاء المحركات مالكاً لأعصابه فيسهل عليه أن يفهم إرشادات مدربه بسهولة

ص: 34

لا تتيسر له إذا استعمل طائرة حقيقية، ثم وجد نفسه لأول مرة معلقاً بين الأرض والسماء

الطيران الأعمى

والأصل في هذا الجهاز أن يتمرن عليه الطيارون فيما يسمى بالطيران الأعمى، إذ يغطي سقفه فينعزل القائد عن العالم ولا يبقى أمامه إلا خريطة وأجهزة ليضبط بها الاتجاه الذي يجب أن يسير فيه. وهذا المران هام جداً لمن يريد قطع مسافات طويلة على ارتفاعات كبيرة لا يمكنه رؤية تفاصيل الأرض أو في مناطق متشابهة كالصحارى أو البحار والمحيطات، فعلى ضوء هذه الأدوات وحدها يعرف الطيار طريقه وبمساعدتها يصل إلى هدفه

ورأت إدارة المدرسة أن تستغل هذا الجهاز لتعليم المبتدئين لقلة نفقاته ولبعده عن الخطر، فإنه يدار بالكهرباء التي لا تكلف الدولة إلا نفقات زهيدة لا تذكر إلى جانب ما تستهلكه الطائرة الحقيقية من وقود وآلات. ويمر بهذا الجهاز كل طالب يدرس فن الطيران سواء كان ضابطاً أو مجاهداً (صول)

والمعروف أن الطيارين لا يحتاجون إلى كثير من تنظيم الصفوف وتعليم المشية العسكرية والحركات الحربية الأرضية ولكنه يحب على كل طيار أن يقضي أربعة أشهر يتعلم فيها هذه الحركات لتكتسب عضلاته المرونة الرياضية وليتعود الحياة العسكرية، فإذا أتقنها بدأت حياته كطيار

بين طبقات الهواء

وبعد أن يتقن الطالب السيطرة على إدارة هذا الجهاز ينتقل إلى الرحلة التالية فيحلق بطيارة حقيقية في الهواء. وتحتوى طائرة التدريب عادة على مقعدين أحدهما خلف الآخر جهز كل منهما بجميع أدوات القيادة، وامتاز مقعد المدرب (بزر) إذا ضغط عليه انتقلت عملية القيادة إلى أدواته. يجلس الطالب في مقعده ويجلس المدرب في الثاني فإذا ارتفعت الطائرة في طبقات الهواء ترك المدرب لتلميذه مهمة قيادتها تبعاً للخبرة التي تلقاها عندما كان في مرحلة الطيران الثابت. فإذا أخطأ صحح له أخطاءه

ويستمر هذا المران أشهراً ثلاثة يتلقى الطيار أثنائها فنون الطيران كالملاحة الجوية

ص: 35

وصيانة الطائرة وفنون اللاسلكي واستعمال أسلحة القتال المختلفة، فإن المران العملي لا يستنفذ كل وقت الطالب إذ هو لا يتجاوز الساعة في اليوم بينما يصرف باقي يومه في تلقي العلوم النظرية، ويتلقى طلبة الكلية الحربية بعض هذه العلوم قبل التحاقهم بمدرسة الطيران

ويتنقل الطالب أثناء مرانه على ثلاثة أنواع من الطائرات تختلف في الوزن والسرعة والدقة، ولهذا فهي تقسم إلى ثلاث مراحل أولاها الطيران الابتدائي فيقود الطالب طائرة من طراز ماجستر، وفي الطيران المتوسط تكون طائرته من نوع الإفرو وفي المرحلة الأخيرة المعروفة باسم الطيران العالي يقود طائرة من نوع الأوداكس، وتختلف سرعة الهبوط على الأرض في كل من هذه الأنواع الثلاثة

مدرسة حديثة ناجحة

فإذا نجح الطالب في اجتياز هذه الفترات الثلاث جاز له أن يقود أكبر الطائرات وأكثرها تعقيداً. وقد تمكنت مدرسة الطيران الحربي من سد حاجات سلاح الطيران الجوي المصري رغم حداثة عهدها إذ أنشئت سنة 1938. ولم تكن هي أولى مدارس الطيران في مصر، فقد أنشأ سلاح الطيران الحربي البريطاني مدرسة في أبي قير سنة 1929

ويبذل مدير المدرسة عبد الحميد الدغيدي أفندي كثيراً من الجهد والوقت حتى تؤدي المدرسة مهمتها بتقديم طيارين صالحين يقدرون المهمة الملقاة على عاتقهم بالدفاع عن مصر وكرامتها، ويعرفون أن الطيران أصبح من أشد وسائل القتال خطورة

صيانة وإصلاح

وإذا قلنا مدرسة الطيران الحربي فإننا في الواقع نتكلم عن أربع مدارس مجتمعة في مكان واحد وتحت إدارة واحدة. فإن الطيران الحربي يحتاج إلى مدرسة ميكانيكية يتعلم فيها رجال الجيش كيف يصلحون العطب الذي يحل بطائرتهم والعناية بها، فإن مهمة حفظ هذه الأدوات لا تقل خطورة عن مهمة قيادتها. فإن أقل خلل في جهاز الطائرة يعرضها للتلف كما يكلف الأمة فقد أرواح عزيزة عليها

ولهذا فقد اختص فريق من الطلبة بالدراسة في هذا المعهد حيث يفحصون أجزاء الطائرات

ص: 36

على نماذج مكشوفة عملت فيها قطاعات تبين أجزائها المختلفة حتى يشاهد الطالب بنفسه العمليات الداخلية في الطائرة وأثرها. ففي إحدى الغرف تشاهد محركاً تظهر فيه مجاري الوقود وتبين تأثيره. وفي مكان آخر تشاهد نموذج جناح الطائرة وجزءها الخلفي وهو مكشوف بين التركيبات الداخلية وقوة مقاومتها

ويتولى خريجو هذا القسم الإشراف على صيانة الطائرات وإصلاحها، ولا يباح للطائرة أن تغادر حظيرتها إلا إذا رأى الضابط المسئول أنها في حالة جيدة وأن جميع أجهزتها سليمة. ولهذا يتولى المسئولون فحص الطائرات كل مدة معينة. وأحياناً يكون هذا الفحص كاملاً وأحياناً يكون سطحياً تبعاً لحالة الطائرة والمدة التي حلقتها في الجو، فلكل طائرة كتابها الخاص الذي يبين تاريخ حياتها حيث تقيد فيه عدد ساعات تحليقها في الجو والأماكن التي زارتها والأعمال التي أدتها

حلقة متصلة

وتستلزم لدراسة الميكانيكية لأجزاء الطائرات معرفة عدة مهن فكما تحتاج إلى حداد فهي تحتاج إلى نجار، فبعض أجزائها يتكون من المعادن وبعضها الآخر يتكون من الخشب. أضف إلى ذلك ما يحتاجه سلاح الطيران من أثاث تعد به الحجرات وصناديق تحفظ فيها الذخائر والأجهزة

ويتبع مدرسة الطيران الحربي مدارس التصوير الجوي والمدفعية واللاسلكي. وقد تحدثنا عن الأولى في مقال سابق وفي عدد تال نتحدث عن المدرستين الأخريين فإن كل هذه الفنون ضرورية للطيار حتى يكون قادراً على تأدية مهمته سواء في زمن السلم أو في زمن الحرب

وفي مدرسة المدفعية يتعلم كيف يطلق القنابل ويستعمل مدافعه السريعة الطلقات، وفي مدرسة اللاسلكي يتعلم كيف يتلقى الأوامر من قيادته وهو محلق في الجو

فوزي الشتوي

ص: 37

‌التاريخ في سير أبطاله

مازيني

(رسول الحرية إلى قومه، المجاهد الذي أبلى في جهاده مثل

بلاء الأنبياء)

للأستاذ محمود الخفيف

- 2 -

والتحق الفتى بالجامعة في جنوة حيث بدأت فترة نشاطه في قراءة الآداب والتزود بشتى فروع المعرفة مما يدخل في نطاق دراسته؛ وما كان اعتماده فيما يقرأه على الجامعة، فلو أنه قصر همه على ما كانت تزجيه لطلابها من الدروس والكتب لكان له وجهة غير التي اتجهها في المطالعة والبحث ولكانت ثقافته من نوع محدود، هو ذلك النوع الذي يعد الطلاب للإجازات التي تمنحها الجامعات لأبنائها دلالة على انهم درسوا هذه الفنون أو تلك في مستوى معين وعلى صورة معينة ما تكاد تختلف في طالب عنها في آخر

وما كان الفتى ممن يسهل قيادهم من الفتيان فيولون الوجهة التي يريدها لهم غيرهم، وإنما كان بطبعه ثائراً على كل قيد، ما رأى شبح القواعد التي تحد من الحرية في شيء إلا نفر منه ثم عول على تخطي تلك القيود ولو أصابه من وراء ذلك الإعانات والإحراج؛ وكثيراً ما أدى ذلك إلى شكوى القائمين على شؤون الجامعة، وإلى اتهام من يجهل خلقه إياه بأنه مشاغب متمرد؛ أما الذين عرفوه معرفة خبرة فكانوا يحسون في ذلك التمرد وفي ذلك التوثب روحاً قوية حرة لا يجدون نظيرها في أحد ممن حوله من الطلاب

وكانت الحكومة وقد هالها ما هب من الثورات تقاوم كل ميل إلى الحرية ما وسعتها المقاومة؛ وكانت الجامعات هي الأمكنة التي تنظر إليها بعين الخوف والحذر، ففي هذه الأبنية يلتقي الشباب، والتقاء الشباب في جماعات أمر لا يتفق في طبيعته مع تلك المقاومة التي راحت تحكم الحكومة أمرها في طول البلاد وعرضها؛ فللشباب أحلام وآمال لا تحد، وفيهم حيوية وتوثب، ثم هم يتزودون من المعرفة؛ ومن كان هذا شأنهم، أو من كانت هذه طبيعتهم صعب على الآمرين أخذهم بالعنف، بل ما يكون العنف إلا داعياً إلى العصيان

ص: 38

فالتذمر فالثورة

وكان حراماً على الأساتذة أن يجاروا الطلاب في أهوائهم، أو أن يكون فيما يلقونه عليهم ما يحفزهم إلى أيتجهوا الوجهة التي لا ترضاها الحكومات لهم؛ وكانت إدارة الجامعة في جنوة لا تقبل من الطلاب غالباً إلا من تطمئن إلى سلوكه ومن يملك أبوه قدراً معيناً من الثروة لتكون ثروته رهينة لدى الحكومة متى شاءت؛ وحسبك أنها كانت تحتم على الطلاب أن يحلقوا شواربهم لأن الشوارب عندها كانت من علامات التمرد والنزوع إلى الأفكار الثورية! ومن خالف ذلك حمل على رغمه إلى أقرب حلاق حيث يقضي على شاربه في غير رفق، ولا ندري كم مرة حمل فيها مازيني على هذه الصورة المضحكة!

وكانت له وهو لا يزال في الجامعة الزعامة على الطلاب جميعاً؛ وهو بذلك يقدم البرهان العملي على أن الزعيم الشعبي يولد وفيه صفات الزعامة، فما يزال زعيماً في كل مراحل حياته حتى تتناهى إليه كبرى الزعامات فيصبح في أمته الرجل الذي يعمل بوحيه الرجال أرادوا ذلك أو لم يريدوا

كان وسط إخوانه جاداً لا يعرف صغار الأمور، عزوفاً بطبعه عن اللهو وإن كان يحب الرياضة البدنية ويجعل لها بعض وقته، فإذا كان لا بد من المزاح فهو مزاح الأديب الفطن، الذي يحلق ولا يسف، والذي تعذب روحه دون أن يبتذل شخصه. وكان له إلى الموسيقى ميل شديد ولكن على أنها شيء تسمو بها النفس وتستيقظ عليه الروح، أما أن تكون ملهاة أو مدعاة إلى المجون والعبث فذلك ما كان ينفر منه أشد النفور

وكان شخصه أبداً يوحي إلى من حوله معاني الاحترام؛ فصفاء ذهنه وحدة تفكيره يمليان على المتحدث أن يفكر فيما يقول، وقوة خلقه وترفعه عن الدنايا تحول بين الكلمة النابية على لسان غيره وبين الإعلان؛ وإنه ليحمي الضعيف وينتصر للمظلوم، ويدافع عن الحق في كل ما يعرض له من الأمور؛ ثم إنه ليواسي البائس ويعزي المحزون، ويمد الفقير بما تملك يداه من نقود وكتب وملابس. ولسوف تكبر معه تلك الصفات وتنتقل من مجال الجامعة إلى مجال إيطاليا كلها يوم ينفخ فيها من روحه فيبعث في أرجائها الحياة والأمل

وكانت القراءة أحب هوية إلى نفسه منذ حداثته، فكان يكب على ما يقع في يده من الكتب فما يدعها حتى يأتي عليها؛ ثم اتفق وبعض خلانه على تأليف جماعة للقراءة والدرس.

ص: 39

وكانت الحكومة بعد ثورات سنة 1820 قد شددت الرقابة على الكتب فلا تسمح بنشر ما يدعو إلى المبادئ الثورية منها أو ما توحي قراءته بتلك المبادئ؛ وكذلك شددت الحكومة الوثاق على الصحف الأجنبية فلا تأذن بدخول البلاد إلا لما لا تخشى من دخوله. من أجل ذلك عولت تلك الجماعة على تلمس السبل لتهريب الكتب والصحف المحرمة، ولقد نجحت في ذلك نجاحاً مرضياً

وأقبل مازيني على كتب الأدب فراح يعيش مع شكسبير وجوته وبيرون وشلر، وكان قد قرأ قبل هؤلاء دانتي وأعجب به أيما إعجاب حتى لقد صار له المكان الأسمى في قلبه

كان مازيني يرى رسالة الأدب على العموم والشعر على الخصوص السمو بالنفوس وتطهيرها، وبث الأمل فيها وتقويتها وشحذ العزائم واستنهاض الهمم، وإيجاد روح المحبة والمودة بين الناس، وكان يرى أن الشاعر الحق هو الذي يجمع بين الشعر والحكمة فيطرب النفوس ويطير بها إلى الجواء العليا ثم يملأها بمعاني الفضيلة ويستحثها على الجهاد والعمل؛ أما الاقتصار على التغني والوصف دون أن يكون من وراء ذلك غاية من فضيلة أو عمل فذلك عنده ضرب من النقص

وقرأ مازيني فيما قرأ الفلسفة فدرس هيجل وكانت وفخت وهردر، وصاحب روسو وفلتير فترة من الزمن، ورجع إلى ماكيافيلي وكان عنده في السياسة كدانتي في الأدب إذ كان كلاهما إيطالياً وطنياً وإذ كان نبوغ كل منهما يدل على إيطاليا جديرة بأن تخرج النوابغ الأفذاذ

وكان في إيطاليا يومئذ نزاع بين أنصار الأدب الابتداعي (الرومانتيكي) وأنصار الأدب الأتباعي (الكلاسيكي)؛ فكان من الطبيعي أن يشايع مازيني الفريق الأول، فينتصر لأدب الحرية والابتكار الذي يتحرر من القيود ويجرف السدود، وكم كان لذلك معجباً بشاعر إنجلترا العظيم اللورد بيرون، ذلك الذي كان يصل شعره إلى أعماق نفسه لما كان فيه من تمرد وتوثب ولما كان يوحي به من معاني العزم والجهاد والتغلب على الشدائد؛ وكان اسم بيرون يومئذ يدوي في أنحاء أوربا حتى لقد باتت كتبه فتنة كل شاب في كل لغة

وكان مازيني يقول إنه لن يتحقق لإيطاليا من جديد كيان سياسي اجتماعي إلا إذا تحقق لها أدب يدعو إلى الحرية والتقدم. ومما ذكره في هذا الصدد قوله: (إن تشريع وآداب أية أمة

ص: 40

يسيران أبداً في خطين متوازيين) وقوله: (إن بين تقدم الثقافة العقلية والحياة السياسية للأمة ارتباطاً وثيقاً) وتحدث عن الأدب الابتداعي بقوله: إن غرض الأديب الابتداعي هو أن يمد الإيطاليين بأدب قومي أصيل، لا بأدب كذلك الذي يكون كصوت الموسيقى العابرة يطأ الأذن ثم يموت؛ أدب يترجم لهم عن نوازع نفوسهم وأفكارهم وحاجاتهم وحركتهم الاجتماعية)

وراح الشاب وهو في الثالثة والعشرين يكتب في الصحف وقد صرف همه أول الأمر إلى النقد، إذا كان يرجو من ورائه أن يوجه أدب قومه إلى ما كان يريد؛ وبدأ يكتب في صحيفة في جنوة ولكنها عطلت بأمر الرقيب بعد عام، فأنشأ صاحبها غيرها وكتب إلى مازيني ليوافيه بأبحاثه ففعل مغتبطاً ولكن هذه الصحيفة لحقت بسابقتها بعد عام آخر، فتعاظم الأمر هذا الشاب الحر ولكنه ما زاده إلا إيماناً بالحرية ومزاياها

وتسنى لمازيني بعد جهد ليس بالقليل أن يتصل بأكبر صحف بلاده وكانت تسمى (أنتولوجيا) وقد أخذت مواهبه، كناقد من أمهر النقاد، تتجلى في تلك الصحيفة

وكان مازيني يجعل من الأدب يومئذ وسيلته إلى خدمة بلاده وكانت تحدثه نفسه بشتى المشروعات الأدبية يرمى بها إلى الهدف الذي عينه، هدف القومية والحرية؛ ولكن هاجساً ظل يهجس في نفسه منذ ترك الجامعة أن الأدب ليس كل شيء، فهو وسيلة بطيئة، ولا سيما أن الرقابة تضيق مجاله أشد التضييق

وكان ذلك الهاجس يكرب نفسه إذ كان يدعه في حيرة من أمره ويذره أحياناً بين اليأس والرجاء؛ فروحه المتوثبة كانت تستبطئ الوسيلة التي اتخذها وتتوق إلى وسيلة غيرها ولكنه كان لا يدري ما عسى أن تكون الوسيلة الجديدة. . . أليس يحس يد البطش تقضي على كل ميل إلى المقاومة في كل جهة من جهات إيطاليا؟ ثم ألا يذكر ما حل بالثائرين قبل ذلك بنحو ثمانية أعوام؟ وهاهو ذا مترنخ لا يزال يشهر سيف الرجعية فيخطف بريقه الأبصار ويلقي الرعب في الأفئدة

على أنه وإن عدم الوسيلة كان يرى الغاية واضحة أمامه أتم الوضوح؛ وما كانت تلك الغاية إلا بناء إيطاليا من جديد على أساس قومي، فتصبح أمة واحدة تتمتع بالحرية وتبهر العالم كما تعودت أن تبهره من قبل بثقافتها ومدنيتها؛ ولقد استقرت هذه الغاية في أعماق

ص: 41

نفسه حتى أصبحت أغلى عنده من حياته؛ وما تهدأ تلك النفس التي تتنزى في أغلال الرجعية حتى يؤدي رسالته أو يهلك دونها، مهما يرى أمامه من جبروت ويلمس من بطش؛ ولكم سلح الحق الأعزال وحطم الإيمان السلاسل والأغلال

وكان الفتى منذ عامين قد اتصل بجماعة الكاربوناري وانضم إلى صفوفهم؛ وكانت تلك الجماعة لا تزال تضم إليها الأنصار في طول البلاد وعرضها، ولئن كان قد لحقها الوهن منذ ثوراتها عام 1820، فلقد ظلت متماسكة، ولقد أخذت تنتشر حتى لقد جازت حدود إيطاليا وصار لها مراكز في القارة، وكان مركزها الرئيسي في باريس، حيث اتصل زعماؤها بالأحرار الناقمين على الملكية المتجبرة في فرنسا ملكية شارل العاشر، أو الكونت دا أرتوا ذلك الذي شهد بنفسه بالأمس القريب الثورة الكبرى ورأى مصير لويس المسكين فما اعتبر، بل طغى واستكبر، حين استوى على العرش وازدهاء التاج والصولجان.

ولكن جماعة الكاربوناري كان يعوزها المال والقيادة الحكيمة، وذلك ما كان يألم له مازيني أشد الألم، وكذلك كان يألم مازيني من اعتماد الجماعة على فرنسا فحسب إذ كان يرى - وما أجمل ما كان يرى - أن قوة الشعب إن لم تكن منبعثة منه فلا أمل فيها، وأساس الوطنية والجهاد القومي اعتماد الشعب على إيمانه وثقته في نفسه أولاً، ولا ضير بعد ذلك أن يتلقى العون من غيره؛ ولكنه إن اعتمد على غيره وكانت تعوزه العزيمة فليس له من أمل إلا أن يعينه ذلك الغير، وهذا أمر غير مضمون في كل وقت، وإذا كف ذلك الغير يده عظمت الخيبة وتسرب إلى النفوس اليأس

على أنه على الرغم من هذا كان يرى في الجماعة الهيئة الوحيدة التي تعتبر عنصر المقاومة والفداء، ولذلك لم يتردد أن يضع يده على خنجر عار ويؤدي القسم على تنفيذ ما يأمر به؛ وكان من نظام الجماعة ألا يعرف العضو رؤساءه، وإنما يعرف زميلاً أو زميلين، ولقد أخلص مازيني لمبادئ الجماعة ونمى أمر إخلاصه وحماسته إلى رؤسائه القريبين، فأوفد من قبلهم إلى بعض الجهات مبشراً بتلك المبادئ عاملاً على ضم أعضاء جدد إلى الكاربوناري. . .

ورجفت الراجفة في فرنسا فأطاحت بالملك المتجبر عام 1830؛ فرأى للمرة الثانية الدليل العملي على أن قوة الشعوب قد باتت أمراً يجدر بكل حاكم أن يحسب له ألف حساب؛ وأن

ص: 42

هذه الشعوب إذا استقرت بعد هياج فلن تكون، إذا سلط عليها الظلم، إلا كالبحر يعظم جيشانه وفورانه بقدر ما كان من تطامنه وثباته

وهبطت من وراء الألب على إيطاليا أنباء الثورة الجديدة في فرنسا والتمعت بوارق الأمل للأحرار، وتأهب رجال الكاربوناري، وقد حسبوا أن قد جاء اليوم الموعود، ونشط مازيني وخلانه يذيعون مبادئ الجماعة ويهيبون بالشباب أن ينتظروا أول صيحة

ولكن الحكومة ما لبثت أن ألقت القبض عليه، فلقد بثت من قبل عيونها بين صفوف هذه الجماعة واتهم مازيني بأنه كان يغري أحدهم بالانضمام إليها. وألقى بالشاب المجاهد في غيابة السجن في سافو وهو يومئذ في الخامسة والعشرين، فكان هذا أول ما لحقه من الآلام في حياته التي سوف تكون مليئة بالآلام

وسيق إلى المحاكمة فمالت إلى تبرئته لعدم توافر الأدلة ولأنه لم يقم إلا شاهد واحد عليه؛ ولكن السلطة خيرته بين الاعتقال في إحدى القرى أو النفي إلى خارج إيطاليا؛ فاختار النفي، وعبر جبال الألب إلى فرنسا، وكان يريد الذهاب إلى باريس حيث يخدم مبادئ الجماعة هناك، ولكنه تحول إلى ليون حيث انضم إلى المنفيين هناك من الإيطاليين وشاطرهم مرارة الاغتراب

(يتبع)

الخفيف

ص: 43

‌رسالة الفن

دراسات في الفن

معضلة بين الفن والقانون

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

قابلتني، وكنت أنا في هذه المرة المهموم فسألتني مشفقة:

- مالك؟

- إني متألم لصديق توشك نكبة أن تحل به ويلزمه العيش أن يمهد لها السبيل كي تحل به

- أعوذ بالله! ومن صديقك هذا؟ أأعرفه؟

- تعرفينه، ويعرفه الكثيرون. هو محمود حسن إسماعيل الشاعر، والموظف بوزارة المعارف

- محمود إسماعيل؟ وماذا جرى له؟

- عينه اليسرى ضعيفة - فيما تقول الوزارة - وهو الآن يعالجها ليقويها لينجح في الفرصة الأخيرة من فرص الكشف الطبي، لتجدد الوزارة عقده وتثبته في وظيفته. . .

- فهل أصابها سوء وهو يعالجها؟

- يقول إنها تتقوى

- وأي شيء في هذا؟

- أن يمتنع الشعر على محمود!

- إيه؟ ولماذا

- لأن عينه اليسرى هي التي يرى بها الشعر ما دامت على هذه الحال

- أما قلت لي هذا من الأول؟! حسبت ما يهمك جداً. وماذا يا سيدي؟

- لا شيء، أما يكفيك هذا؟ كم هم الشعراء في مصر الذين يشبهون محموداً في مصر الآن ومن قبل

- يا سلام؟! أإلى هذا الحد تكبره؟

- هذا رأيي. وقد قلته له في وجهه، وأنت تعرفين قلة ما أقتنع بالناس، وندرة ما أصرح

ص: 44

بهذا الاقتناع. . . وأنا كما قلت لك دائماً أعجز العاجزين، وأضعف الضعفاء

- ولكني لا أرى محموداً كما تراه. . .

- فليكن رأيك فيه ما يكون. ولكن التاريخ سيشهد بأن الشعر العربي في مصر بدأت تكثر فيه التسابيح، والأنغام، والتهاويل، والطهارات، والأشعة، والضفادع، والثيران، والغربان، والنخيل، والبقول، والزهور، والأرواح، والأطياف، والمعازف، والمزامير، والمباسم، والمشاعل، والساقي، والأكواخ، و. . . و. . . و. . . من بعد اليوم المبارك 23 يناير سنة 1938

- وهل استصدر محمود في هذا اليوم مرسوماً من القصر الملكي باستعمال هذه الألفاظ في الشعر، وطواف الشعراء حول ما يحيط بها من المباني؟

- نعم. لقد فعل محمود هذا

- لو لم اكن نسيت مسدسي في البيت! كيف حدث هذا يا أخانا؟

كان هذا اليوم المبارك هو ثالث أيام زفاف الفاروق، وكان جلالته قد أسعد محمودا والفن بالشرف الأسمى إذ دعاه إلى عابدين ليرتل بين يديه من أغاني الروح على أثر إعجابه به في حفل سمعه فيه، وكان هذا الحفل من حفلات الجمعية الخيرية الإسلامية، وقد هذه الدعوة حضرة صاحب المقام الرفيع محمد محمود باشا رئيس الوزارة السابقة ورئيس الجمعية الخيرية الإسلامية، والظل الأول الذي أظل محموداً، كما شهدها حضرة صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا رئيس الديوان الملكي سابقاً، ورئيس الوزارة اليوم. وكانت هذه الدعوة هي هذا المرسوم، وقد تلاه محمود في عابدين. . . إنه الشعر الذي طاب للملك. . . والملك عارف، والملك عبقري، والملك ناقد فذ

- ما أبرعك صديقاً!

- في اختيار أصدقائي لا في رفعهم بالباطل

- فمحمود إذن له قيمة. . .

- قيمة خطيرة. ولو أن ملكاً في غير مصر فعل هذا الذي فعله الفاروق أعزه الله في شاعر لبدأت الحكومة، وبدأ الشعب يدرسان هذا الشاعر، فالملك لا يدعو كل شاعر، والملك لا يفعل ما يفعل عبثاً، فهو يعرف أنه رأس الدولة، انظري إليه. . . من الذي أعلن عنه

ص: 45

رضاه من رجال المسرح بعد أن استعرضهم جميعاً. . . أليس هو نجيب الريحاني؟. . . ومن في رجال مسرحنا مثل نجيب الريحاني؟. . . وانظري. . . ألم يغن عبد الوهاب في القصر

- فحياه جلالته حين سمعه بكل ما في الملوك النبلاء من أدب ورقة. . .

- إنك بدأت تفهمين. . . يخيل إليّ أنه ليس في مصر من يحس ويتذوق ويفهم مثل فاروق الأول. . . تربية فؤاد الملك الذي اعتلى العرش بعد ما اختبر الحياة مع الملوك ومارس الحياة في صميمها بين أفراد الشعوب. . . فعرف بعد ذلك كيف يملك وكيف يحكم وكيف يعد للعرش من بعده ملكا يتغلغل بالإدراك في تلافيف وطنه. . . ومحمود الشاعر الذي قدره الفاروق والذي يهتف الجيش اليوم بنشيد من شعره، تساومه الآن وزارة المعارف ووزارة المالية في فنه، لا بد أن يفقده إذا أراد أن يبقي موظفاً. . . فهل يصح أن يحدث هذا؟ كلا! فلا بد أن يعفي من الكشف الطبي

- ولكن أحداً لم يطلب منه أن ينزل عن شعره!

- إنهم يريدون منه أن يقوي عينه اليسرى. . . وقد قلت لك إن عينه اليسرى هذه هي التي يرى بها الشعر

- وكان يجب أن أقول لك أنا إن هذا هو كلام المجانين

- أرجوك ألا تصدري حكما على شيء قبل أن تبحثيه وتدرسيه. . . لقد عرض محمود عينه هذه على ثلاثة من أطباء العيون الممتازين في مصر هم الدكتور محمد صبحي وقد سمعت من الكثيرين أنه أقدر أطباء العيون في مصر، والدكتور محمد بكري وهو مدير مستشفى العيون بروض الفرج. . . مدير المستشفى. . . والدكتور إيليا ناشد وهو عضو كلية الجراحين بإنجلترا. . . بإنجلترا لا بمدغشقر. . . وقد قرر هؤلاء الفحول الثلاثة أن عينه اليسرى هذه سليمة، وأن أعصابها قوية. . . فهي إذن ليست ضعيفة. . .

- إذن فقد كان يجب عليها أن تنجح في الكشف الطبي

- هذا لو أنها كانت كبقية العيون التي ركبها الله تركيباً يمكنها من رؤية علامات الكشف الطبي

- وهل هي مركبة تركيباً آخر فليست مثل عيون الناس؟

ص: 46

- أسمعي! هل تصدقين النبي محمداً أو أنت تكذبينه؟

- معاذ الله أن أشك في قوله

- الحمد الله. كان محمد رسول الله يقول إنه كان يسمع الوحي سمعاً. . . وكان يوحي إليه في الموقعة الحربية، وكان يصاحبه في مواقعه الحربية جنوده وأنصاره فلا يسمع الوحي أحد غيره. فهل كانت أذن محمد كآذان بقية الناس؟ أجيبي؟

- كان محمد نبياً

- وكان بشراً مثلنا بتقرير القرآن وتقريره هو نفسه. . . فتكذبين القرآن؟

- حاشا الله. . .

- إذن فهو لا يختلف في شيء عن تكوين البشر. . . ومع هذا فقد كان يسمع ما لم يسمعه جيرانه والملتصقون به. . . فلا بد إذن أن يكون من تكوين البشر حالات خارقة نادرة يستعصي على الآلات وأجهزة الكشف الطبي قياسها. . .

- كأني أريد أن أوافقك وأن أقول إن هذا كلام معقول

- هو معقول لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فمحمد الرسول كان بشراً وكان نبيّا له أذن تسمع ما لم يكن يسمعه الناس. . . وكذلك كان موسى. وكذلك في جهة أخرى كان بتهوفن الموسيقى الأصم. وكذلك كل موسيقى آخر يلتقط الأنغام من الجو. موهبة السمع فيهم واحدة وإن كانت تتشكل بأشكال مختلفة. . . ومحمود حسن إسماعيل شاعر، وله عين يرى بها ما لا يراه بقية الناس. . . هذا أمر لا عجب فيه. . .

- لو كان لديك دليل مادي غير هذه الاستنباطات

- الدليل موجود. . . وهو في شعر محمود. . . أقرئيه تجدي تسعين في المائة منه على الأقل كلها صور بصرية. . . إنه يشبه حتى المسموعات بالمرئيات. . . إنه يرسم معانيه صوراً كل صورة منها يمكن إن توضع في إطار. . . إن شعره كله يمكن أن يترجم إلى رسوم. . . فكيف يتاح له هذا إلا إذا كان يرى هذا الذي يصفه. . . لا تقولي إنه يتكلف هذا. . . فالمتكلف لا يستطيع أن يستمر وأن يتجدد وأن يفيض مثلما يفعل محمود. . . إنه يرى هذه الأشياء حقا. . . أقرئي شعره!

- فليكن هذا حقاً. . . فكيف نحكم بأنه يرى هذه الأشياء بعينه اليسرى لا اليمنى. . .

ص: 47

- لأنه يغمض عينه اليسرى حين يكتب. . . أنا أعرفه. . . وقد رأيته كثيراً وهو يسبح وراء خياله. . . كما رأيته كثيراً وهو يكتب. . . ورأيته يغمض عينه اليسرى كلما كتب شعراً

- قد تكون عادة!

- لا. بل إنه يغمض عينه اليسرى ليسترجع هذه الصور التي يصفها وليراها في وضوح. . . ويفتح عينه اليمنى ليرى بها القلم والورق و (اللكي سترايك)

- يا لها من خرافة!

- إنها ليست خرافة. . . وإنما هي رأي. . . ومع أنه رأيي فأني لا أريد أن أقطع به، فإن كنت قد تعلمت شيئاً فإن أساتذتي الذين علموني لا يزالون بحمد الله موجودين على قيد الحياة. . .

وهم جميعاً طوع أمر وزارة المعارف ، ووزير المعارف رجل من رجال التربية وعلم النفس فهو عالم ومعلم قبل أن يكون سياسياً ووزيراً. . . ووكيل المعارف رجل من المجتهدين وممن لهم آراء جديدة في فنه، وممن لن تقف عقولهم عند القديم المقرر. . . فهو يرحب بالدراسات الجديدة من غير شك. . . فهذا وزير عالم وهذا وكيل مجتهد، والأستاذ عبد السلام القباني المتفنن في دراسات النفس وتجارب التربية موجود في معهد التربية للمعلمين وهو وكيله، والدكتور عبد العزيز القوصي أستاذ علم النفس بالمعهد موجود أيضاً وأظن أن الرسالة القيمة التي نال بها إجازة الدكتوراه في علم النفس على يد سبيرمان كبير الأساتذة الإنجليز كانت خاصة بالعين، والبصر، والنظر. . . وهذه وزارة المعارف من أولها إلى آخرها بمن فيها من علماء النفس، والمربين والأدباء والفلاسفة. . . وهذه حالة شاذة يصح أن تدرس. . . فلماذا لا تدرس؟ هي عين يقولون إنها ضعيفة، ويقول الأطباء إنها قوية، ويقولون إنها لا ترى علامات الكشف الطبي، وأقول إنها ترى صوراً لا يراها الناس ويصفها محمود بالشعر. . . فكيف تحكم حكماً صحيحاً في هذه المعضلة إلا بالدرس. . . أليس الدرس هو الطريق الطبيعي المنطقي الوحيد الذي يستطيع الإنسان به أن يصدر حكماً في مسألة من المسائل؟ فإذا لم نسلك هذا الطريق الوحيد مع شاعر رضى عنه الملك وينشد جيشنا شعره. . . فمع من نسلك طريق المنطق والعقل والطبيعة. . . إن المسألة

ص: 48

أخطر مما تتوهمين!

- ولكن كيف تدرس هذه الحال؟

- أنا لا أعرف كيف. . . فلست دكتوراً في علم النفس، ولا أنا شيء ما. . . وإنما هذه فكرة خطرت. . . أنا ذهبت إلى وزارة المعارف ومعي إنسان في (زكيبة)، وقلت لها يا وزارة المعارف خذي هذا الإنسان وأدخليه في مدرسة من مدارسك الابتدائية، فهل ترفضه الوزارة، أو تقبله قبل أن تخرجه من الزكيبة فتعرف إذا كان صبياً أو صبية. . . وهل هو أو هي مستوف أو مستوفاة لشروط الدخول في المدارس الابتدائية. . . أو أمره غير ذلك. . . كذلك موقفي الآن مع وزارة المعارف وفي يدي محمود إسماعيل. . . أفلا يجب عليها أن تتعرف ما هو؟. . . قبل أن تفصله أو تثبته أو تطالبه بتقوية عينه. . . أو. . .

- وما لوزارة المعارف وهذا كله. . . إنها تريد موظفين بعيون قوية

- اللهم يا رب عفوك. . . إن في الموظفين من ليست لهم عيون قوية ولا عيون. . . قوية. . .

- وماذا يضره لو أن عينه تقوت؟

- إنها لن تتقوى يا إنسانة. . . إنها مخلوقة هكذا. . . هذه هي قوتها. فهل يرضي مصر لو فشل محمود في تقوية عينه أن تلفظه وزارة المعارف فيسرح على الأبواب يقول: (الحمد لرب مقتدر) إن المسكين يضع على عينيه اليوم مناظير زاعماً أنها وسيلته إلى تقوية عينه وهو يخدع نفسه أحياناً فيزعم أنها تقوت

- ولماذا تقول إنه يخدع نفسه؟

- له شهر وأكثر وهو بهذه المناظير الثلاثة. واحد معتم للشمس، وواحد مكبر لتقوية عينه اليسرى، وواحد زجاج على اليسرى ليكشفها فترى، وسواد على اليمنى ليمنعها من الرؤية تمكيناً لليسرى من التدرب على النظر. . . ومنذ عصب عينيه بهذه المناظير قد كف عن الشعر. ألست تقرئين (الرسالة) على الدوام؟ ألم تلحظي أنه احتجب منذ خمسة أو ستة أسابيع؟. . . لقد كان يكتب قصيدة للإذاعة فكتب منها سبعين بيتاً إلا شطراً واحداً وقف عن كتابته منذ طلسم عينيه بهذه المناظير. إنه الآن لا يرى ما كان يراه من قبل وهو يعاني أزمة نفسية قاتلة، ولا عزاء له في هذا كله إلا أن يردد دائماً قوله:(إن عينه تقوت)، وهو

ص: 49

يقولها كلما عجز عن رؤية شيء واضح. في سبيل الوظيفة والخضوع للنص الحرفي القديم في القانون سيختل عقل شاعر شاب فذ كان يكفيه ما يلاقيه الشباب من إنكار الشيوخ وبطشهم في هذا الزمن. . . فكيف ننقذه. . .؟

- أكتب في هذا الموضوع؟!

- ومن أنا حتى أكتب فيسمع كلامي؟!

- إنك إنسان ما. . . ولكن الكلام الذي تقوله معقول. والذين بيدهم الأمر كلهم عقلاء. . . وأصلبهم وهو وزير المالية أشدهم إيماناً بالعقل، فهو مهندس وبالعقل وحده استطاع أن يكون وزيراً للحربية ثم وزيراً للمالية. . . وهو مهندس. . . ولم يستطع هذا إلا لآن له عقلاً ناضجاً. . . ثق بأنه سيكون في صفك. . .

- إنك تشجعينني

- أكتب واطلب من وزارة المعارف أن تؤلف لجنة من علمائها لدراسة هذا الموضوع. . .

- طيب. على الله. . .

وهأنذا كتبت. . . فمن يكتب عن معضلتي أنا؟

عزيز أحمد فهمي

ص: 50

‌من هنا ومن هناك

سويسرا تضرب المثل في التسلح

(عن (باري سوار))

لعل ما تقوم به سويسرا في الأيام الأخيرة من الاستعداد الحربي وإنفاق

الأموال الطائلة في سبيل التسليح، يعد مثلاً بارزاً لكثير من الأمم التي

تخال أنها في مأمن من الحوادث. فقد كانت سويسرا من سنة 1920

إلى سنة 1930 تقتصد في نفقات التسليح كل الاقتصاد، حتى أنها لا

تقرر لأجله في ميزانيتها إلا مبلغاً ضئيلاً لا يكفي إلا لشراء بعض

الآلات الحربية الخفيفة إذ أنها لم تكن تشعر في تلك السنين بأي تهديد.

فسويسرا متاخمة لفرنسا، وأمة كالأمة السويسرية أشتهر أهلها بالرزانة

والعقل وحب السلام، لا يزعجها وجود الجيش الفرنسي عند حدودها

وفي سنة 1931 والسنين التي تلتها أخذت سويسرا تعمل لزيادة التسليح ولا تدخر وسعاً في هذا السبيل. وذلك أن شبح هتلر كان قد بدأ يحلق في سماء القارة الأوربية. ولم تكن سويسرا حتى سنة 1929 تقدر للتسليح أكثر من 16 ? من الميزانية العامة. فلم تمض عشر سنوات حتى وصلت النسبة إلى 22 ? ولكن هذه المقادير لم تكن لتفي بحاجاتها إلى السلاح وما تتطلبه من الأموال الطائلة. فعقدت قروضا فيما بين 1929 - 1930 لأجل الدفاع بمبلغ 648 مليوناً من الفرنكات السويسرية أو ما يوازي 32. 000. 000 من الجنيهات

ولم تقف سويسرا في استعدادها الحربي عند هذا الحد، فمنذ سنة 1936 نشطت هذه الأمة الوادعة في تنظيم جيشها، وحشد قواها، وتعزيز جبهتها، وزيادة مدة التدريب العسكري بين أبنائها. وإذا كانت سويسرا فيما مضى لم تفكر في إقامة المصانع الحربية، فقد أصبح لديها الآن مئات من المصانع الكبيرة المعدة لهذا الغرض في أنحائها المختلفة. أما قوى الطيران الدفاعية منها والهجومية، فقد أصبحت على قدم الاستعداد، وقد أقيمت استحكامات عظيمة

ص: 51

على طول خط الرين وبالقرب من الجبهة الألمانية. وتعد سويسرا الآن برنامجاً حربياً حافلاً لحمايتها من الطوارئ المفاجئة، ولكي تصل إلى الغاية قررت سحب 25 مليوناً أخرى من المال الاحتياطي للاستمرار في عمليات التحصين والتسلح حتى تصل في دفاعها إلى أقصى ما تصل إليه أمة في العالم.

فسويسرا لن تفقد استقلالها، ولن تموت أبداً. وإذا كان الشعب السويسري لم يكن في تاريخه من الشعوب المتعطشة للحروب فليس هو كذلك بالشعب الذي يغتر بالسلم، وقد أعد العدة للطوارئ بعد أن ظهرت نيات ألمانيا نحو الشعوب الضعيفة.

وقد تحدث إلي في الأيام الأخيرة سويسري عظيم فقال: (إنني أعرف إعجابك بألمانيا التي أنجبت كثيراً من العبقريات النادرة؛ ولست أخالفك في ذلك، فأنا من أبناء سويسرا الألمانية وقد نشأت على احترام تلك البلاد الغنية بعلمائها وفلاسفتها وشعرائها وموسيقيها. ولكنني لا أستطيع أن أتبين أثراً لألمانيا الحقيقية وراء القناع الهتلري. إن أمتي تنظر بعين الذعر إلى أعمال ألمانيا ونياتها، لأنها تريد أن تظل تلك الأمة الجديرة بتاريخها المجيد)

ومن خلال هذه الكلمات المريرة نستطيع أن ننظر إلى سويسرة المتألمة الصبور.

الطيران في القرن الخامس عشر

(عن (لاتريبونا إلستراتا) رومة)

أقيم في ميلانو في الأيام الأخيرة معرض لأعمال ليوناردو دافنسي العبقري المشهور

ومما أثار الدهشة في نفوس الزائرين لذلك المعرض تلك الطائرة التي وضعها هذا الفنان الفذ قبل ظهور أول طائرة بخمسة قرون

فقد كان دافنسي يشتغل بالطيران، ويبذل كثيراً من وقته وتفكيره لتنفيذ فكرته متأثراً بأساطير الإغريق

ومما يروى أن عضواً من أعضاء الأكاديمية الفرنسية شرح هذا الاختراع الذي كان يدور برأس ليوناردو. للملك لويس الثامن فما كاد يسمع منه بفكرة الآلة الطائرة حتى افتر ثغره عن ابتسامة ساخرة وقال: (إن ليوناردو حسن الحظ لأن مستشفى المجانين لم يكن قد عرف في العصر الذي عاش فيه)

ص: 52

وقد جاء (أوتوليليانثال) في العصر الحديث ودرس خواص الطير والقوة التي تساعدها على الصعود والتحليق في السماء، وأثبت أن ما كان من الخيالات والأوهام العابرة في العصور السابقة قد أصبح حقيقة علمية خاضعة للتنفيذ

ولم يكن ليوناردو في بادئ الأمر يعرف طريقة لإدارة الطائرة غير الطريقة التي تحركها بالقوة العضلية، إلا أنه وجد أخيراً أن هذه الطريقة لا تكفي لاستمرار سيرها، فوضع لها سيوراً من المطاط تدار باليد أو بالقدم. وقد عرضت طائرتان من هذا النوع لدافنسي كانتا موضع الدهشة والإعجاب

ومما فكر فيه هذا الفنان لإتمام مشروعه، قوة الهواء والرياح فسخر وقته لدراسة الطيور. وأخذ يفكر في القوة التي تساعدها على التحليق وسط الزعازع والأنواء. وقد دلت الدراسات الحديثة، على أن النتائج التي وصل إليها كانت على جانب عظيم من الأهمية وفي مقال كتبه عن تحليق الطيور، وضع ليوناردو فكرة الطيران الآلي بواسطة الجناحين، وأشار إلى كثير من الآراء الناجحة في فن الطيران، ومما لاشك فيه أن الآلة التي ابتدعها ليوناردو كانت مؤسسة على الطرق والقواعد السائدة في الأيام الحديثة

ولعل اشتغال هذا الفنان العظيم بصوره ولوحاته الفنية النفيسة، هو الذي عاقه عن إتمام مشروع الطيران، فلم يترك له الوقت الكافي للسير بالفكرة إلى النهاية، وإن كان الكثيرون من أصحاب الرأي والخبرة، يؤكدون صحة القواعد التي وضعها، ويسلمون بأن التجارب التي أقيمت عليها كانت ناجحة كل النجاح

تاريخ التقبيل

(عن

القبلة هي إحدى الطرق الإنسانية النفيسة التي ابتدعها الحب فما هو تاريخ ظهورها بين بني الإنسان؟

المعروف عند عامة الناس أن التقبيل نشأ مع الشهوة الجنسية وهذا مخالف للحقيقة، ويحملنا على الاعتقاد بأن هذه العادة لم تكن من الغرائز الإنسانية الأولى، أن كثيراً من الأمم لا يعرفها على وجه الإطلاق، وأن بعضها ينظر إليها بالمقت والامتعاض

ص: 53

ومن المحقق أن قبائل الاسكيمو والمورا لا يعرفون التقبيل. وقد مضت قرون عديدة قبل أن تعرف هذه العادة في الصين واليابان أما في أيامنا الحديثة فالصينيون يعرفون التقبيل ولا يرون بأساً من انتشاره بينهم، ولكن اليابان يحرمونه ويبالغون في تحريمه، حتى أنهم يحذفون جميع مناظر التقبيل من الأفلام الأوربية والأمريكية التي تعرض في بلادهم

وقد عرضت رسوم رودان في معرض طوكيو سنة 1924 فظهرت جميع رسومه المشهورة ما عدا اللوحة التي تحمل صورة القبلة فقد ألقى عليها غطاء كثيف. وقد اعترض بعض الزوار الفرنسيين على ذلك فأجابه رئيس البوليس بأن مجموعة رودان كان من الواجب أن توضع جميعها تحت غطاء من أجل صورة القبلة فالتقبيل عادة أوربية ممقوتة تمنعها اليابان بأي ثمن، ولولا عظمة رودان وماله من الشهرة بين أمم العالم لمنعت جميع رسومه من الدخول إلى اليابان لأجل هذه الصورة. . .

أما تاريخ التقبيل فغير معروف على التحقيق وإن كان لبعض القبلات تاريخها وشهرتها، ومن القبل المشهورة قبلة (فلورنتين) وتنسب إلى (نابليون الأول) وقد بيعت قبلة واحدة في إحدى المناسبات بمبلغ 12000 جنيه، وكان ذلك في البرت هول سنة 1915 في حفلة لإعانة الجرحى عرضتها الممثلة المشهورة (مورلوب) عن طريق المزايدة؛ فلما وصلت المبالغ المعروضة إلى 8000 جنيه كف جميع المتنافسين عدا اثنين هما المثري الكبير هتشنسن ودوق أرسنت ألبانز؛ وقد فاز الدوق في النهاية بهذه القبلة. ومما يذكر في هذه المناسبة أن الدوق طلب إلى الممثلة أن تقبل أبنه البالغ من العمر تسع سنوات بدلاً منه. . .

وتعد القبلة في بعض أنحاء الولايات المتحدة عملاً مخالفاً للصحة، وتعريض صحة إنسان ما للمرض جريمة يعاقب عليها القانون. أما اغتصاب القبلة من امرأة أية كانت فهو عمل يعاقب عليه القانون في سائر الأحوال

وإذا كانت القبلة اليوم هي التعبير الجسدي عن الحب، فقد كانت في الأزمان الخالية نوعاً من التحية فحسب كالتلويح بالمنديل للمسافرين، وقد ظلت كذلك إلى القرن الخامس عشر، وكان يباح للضيف أن يقبل زوجة مضيفه، وكل فرد من أفراد عائلته

وكانوا في روما القديمة يقبلون لأسباب غير التحية والاحترام فقد كان النبيذ محظوراً على

ص: 54

النساء تعاطيه، ومن ثم كانوا يبيحون للرجل أن يقبل المرأة إذا كانت له بها علاقة، ليتأكد من أنها لا تشرب النبيذ وتخالف القانون

وقد قام أحد علماء أمريكا في الأيام الأخيرة يحذر العالم من التقبيل، ويعلن أنه ينقص من أجل الإنسان، ولكن أحداً من الناس لم يصدقه أو يجعل لتحذيره نصيبه من التقدير

ص: 55

‌البريد الأدبي

نداء المجهول - قصة للأستاذ محمود تيمور نشرتها المكشوف

بهذه القصة الجديدة يندفع الأستاذ محمود تيمور في اللون التخيّلي، وقد بدت بوادره في قصته المتأخرة (فرعون الصغير) على ما بينت في مقتطف يولية الماضي. وتراه يندفع فيه مهملاً اللون الواقعي الذي عرف به زماناً. ولكن إهماله له إنما هو من ناحية الفكرة التي تسّير القصة لا من جهة السياق، إذ لا يزال يلتزم التصوير المباشر والتحليل الصريح وغير ذلك من أساليب الواقعية واللون التخيلي بالفرنسية والإنجليزية (هنا أيضاً وبالألمانية - يجري إلى سرد الحوادث النوادر و (المغامرات) (كما نقول اليوم في مصر: وإلى وصف العوالم التي تَبهت العقل وإلى الكشف عن آفاق تضطرب فيها الأسرار والألغاز، كل ذلك رغبة في الفرار مما نعرفه ونلمسه ونؤمن به، كل ذلك إرادة أن تلبي النفس نداء يأتيها من وراء حجب. هذا وبين التخيلية والرمزية المستحدثة وشائج من جهة ذلك الفرار من العالم المبذول لنا. غير أن هذه تتشبث بما يجول في النفس خفيةً فتبرزه عزمات وتصورات وانفعالات، ثم تستخرج ما وراء الحسّ وتدون ما يهجم على القلب ويرد على الوهم، وذلك من طريق التمثيل، وانتزاع الصور من الأشكال والهيئات، واستنباط المطابقات والمقابلات والإضافات مما يجري الموازنة البعيدة أو القريبة بين الحيّ والجامد

وجملة القول أن التخيلية تتناول الخارجيات من بلدان نائية وغرائب مستملحة وحوادث أخاذة، على حين أن الرمزية المستحدثة تركز أوتادها في وادي المضمرات والسوانح وما يلي المادة المباشرة

وقد عرف الأدب العربي اللون التخيلي، ففي حكايات جدّاتنا وفي (ألف ليلة وليلة) ما تشاء من ابتداع للطائف. وأما الأدب الإفرنجي الحديث فقد خرج اللون التخيلي على يديه فناً شائعاً مقبولاً شريف الغاية في أكثر الحال، بيّن الأوضاع على تباين في الأنحاء. وفن تيمور في (نداء المجهول) لا يرجع إلى الأدب العربي، ثم إنه ليس من فن (كبلنج) لأن هذا بلا ما كتب، وليس من فن (إستراتي). لأن هذا صاحب عنف، وليس من فن (فورنييه) لأن الرجل شاعر في نثره وصاحب وسوسات، وليس من فن (مارك أورلا).

ص: 56

لأن هذا خاض الحياة الشاقة. إن اللون التخيلي عند تيمور في (نداء المجهول) يقارب بعض المقاربة ما نعرفه من فن القصصي الفرنسي مع اعتبار ما يميز الكاتب من الكاتب من حيث الأسلوب والتفكير

وأسلوب تيمور في قصته التخيلية لا يبرح أسير الطريقة الواقعية كما قدّمت: فلا اللفظ يثب من موضعه المعهود، ولا التعبير يميل إلى الإيحاء، ولا العبارة يجربها نغم خفيّ. بل كل ما يتصل بالأداء تصيبه في المكان الذي كنت تحتسبه

لا أدري ما الذي وقع لصديقي تيمور حتى يجنح إلى ذلك التخيل ثم يريده إرادة؟ أي شيء ينفّره من هذا العالم ثم يطير به إلى آفاق المجهول؟ هل خاب أمل من آماله؟ هل أحسن بطلان دنيانا وتعرّف مبلغ زيفها فانجذب إلى التشاؤم كما انجذب إليه (بيرلوتي) من قبل؟ إن عطف تيمور على الإنسانية ورثاءه لبؤسها وضعفها مما هو جليّ في قصصه السابقة. وبين هذا العطف على الناس وطلب الفرار منهم خطوة. . . ألا شبّك يدك بيدي أيها الصديق، فاثنان على الفرار المضني أقوى من واحد، وإن كان لكل منا جناحه!

وبعد فرجائي ممن يستهويه الأفق البعيد أن يقرأ (فرعون الصغير) لكي ينطلق فيحيا قدر لحظات حياة البطولة أو حياة الغرابة، ثم يهبط إلى أرضه فتعاود أيامه دورتها الشاحبة. وحسب تيمور أنه يستطيع بذل تلك اللحظات النفيسة، حسبه! هل يستطيع ذلك غير صاحب افتتان غزير المادة لطيف النواحي؟

بشر فارس

التاريخ المزخرف والأشعار المسرحية

1 -

أشكر لحضرة السيد محمد علي عكاري جهده في تقديم بعض الشواهد التي تؤيد القول بأن وثنية العرب قامت في الأصل على قواعد روحية، وأرجوه أن يجعل هذه المسألة في باله فيقيد جميع ما يصادفه من البينات التي تجلو غوامض تلك الوثنية.

وليكن مفهوماً عنده وعند سائر الباحثين أن الوثنيات في جميع بقاع الأرض لم تكن إلا صوراً أو رموزاً لحقائق وجدانية ومعنوية كانت في الأصل ديانات سليمة خفيت مغازيها على الجماهير فجسّموها بالصور والتماثيل. ومن هنا تسقط حجة من قال إن وثنية العرب

ص: 57

كانت (أرضية وضيعة) ولو أنه كان فهم هذه الحقيقة لعرف أن العرب لم يكونوا بدعاً بين الأمم حين عبرّوا عن عقائدهم بمثل ما عبّر به الفرس والهنود واليونان والرومان والمصريون

وقد أوضح القرآن حجة الجاهلين في عبادة الأوثان إذ حكى أنهم قالوا (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) وهذه العبارة القرآنية تشهد بأن الأوثان كانت رموزاً لمعان روحية

وأنتقل بعد هذا إلى صلاة المأمون علي الموصلي والكسائي وابن الأحنف وقد ماتوا في يوم واحد فأقول:

إني أوردت هذه القصة في كتاب (مدامع العشاق) نقلاً عن شرح شواهد ابن عقيل للشيخ قطة العدوى، وهو لم يخترعها وإنما نقلها عن بعض المصادر الأدبية

وأنت لا تنكر أني أوردت هذه القصة بتحفظ مراعاةً للأمانة العلمية، فأرجو أن تعرف أنها عندي من التاريخ المزخرف ? والتاريخ الزخرف يقبله الباحثون في الموضوعات التي تغلب فيها الصبغة الروائية على الصبغة التاريخية.

والذي زخرف هذا التاريخ كان يقصد إلى تمجيد العباس ابن الأحنف الذي كاد يتفرد بإجادة القول في الكتمان، والذي أذاع معاني الصدق في الوجد في أيام كثرت فيها الاستهانة بشرف العفاف

ولو أنك رجعت إلى أكثر الأخبار الأدبية لرأيتها من التاريخ المزخرف الذي يعتمد على التصوير أكثر مما يعتمد على التحقيق، وذلك التاريخ مقبول في الميادين الأدبية، والغرض منه معروف، فلا تستغرب صدوره من العرب، لأنه يشهد بأنهم كانوا من أهل البراعة والخيال

2 -

نشرت (الرسالة) كلمة لصديقنا الدكتور بشر فارس في نقد رواية (مصرع كليوباترا) التي مثلتها الفرقة القومية، وفي ذلك النقد آراء فيها المقبول والمردود، ولكني أقف عند قوله:

(ألقى الممثلون شعر شوقي كما كنا نلقي الشعر العربي في المدارس: نقطّع أقسام البيت ونتمهل عند العروض ثم نضغط على الضرب، والذي يحرك ألسنتنا الوزن الذي عليه جاءت القطعة أو القصيدة. وفي ذلك الأمر ما فيه من غرابة، فإن الشعر لعهدنا هذا في

ص: 58

أوربا - وعنها نأخذ فن التمثيل - يلقى على المسرح كأنه نثر، وسبب ذلك أن القصيدة تقوم بمعانيها وألفاظها لا بتفاعيلها والتفاعيل كأنها الدعامات والخشب في المنزل، وأما المعاني والألفاظ فأثاثه والتصاوير والتزاويق وكل ما يأخذ الطرف. كل ذلك فضلاً عن أن تقطيع أقسام البيت، وفصمه إلى مصراعين، والضغط على القافية الراجعة يورث الملل ويصك الأذن). . . الخ.

ذلك كلام الدكتور فارس، وهو كلام برّاق، ولكنه غير صحيح.

وما كنت أحب أن أخطئ هذا الصديق لولا الخوف من أن يتأثر به النقاد والممثلون فتفسد أذواق من ينشدون الأشعار المسرحية فساداً لا يرجى بعده صلاح.

نحن أخذنا عن أوربا فن التمثيل؟

هذا حق، ولكن لا ينبغي أن نأخذ عنها فن الإلقاء، فإن الأداء بالشعر غير الأداء بالنثر، وليست الأشعار المسرحية إلا قصائد خضعت للقوافي والأوزان، وفيها محرجات تقبل في المنظوم ولا تقبل في المنثور، ومعنى ذلك أن صوغ المعنى في بيت من الشعر يجعل له صورة غير صورته في فقرة من النثر، فإذا أدى الشعر كما يؤدي النثر تعرض للغثاثة والانحلال.

ولو أن الدكتور فارس كان شهد إبراهيم الجزار - وما أعظم فجيعة الشعر المسرحي بوفاة إبراهيم الجزار - لعرف أن لإلقاء الشعر المسرحي أصولاً في الإلقاء تختلف في لغة العرب عن أمثالها في لغة الإنجليز والفرنسيس.

الوزن في الشعر ليس تصويراً وتزويقاً، كما يظن الدكتور فارس، وإنما هو عنصر أصيل لا يقام بدونه للشعر ميزان، وليس بصحيح أن الأوربيين يلقون الأشعار المسرحية كما يلقون القطع النثرية، وإن كانوا أقل منا رعايةً للأوزان عند الإنشاد، لأن ذوقهم يختلف عن ذوقنا بعض الاختلاف.

وخلاصة القول أن الممثلين لا يجوز لهم تحويل الشعر إلى نثر وإلا فسد الذوق واختلت الموازين وضاع جمال الفن في الشعر المسرحي أبشع ضياع.

وإني لأرجو أن يراعي ممثلو الفرقة القومية أذواقنا حين ينشدون الشعر المسرحي مرة ثانية، فقد انزعج كثير من الناس حين رأوهم ينشدون بعض الأشعار بلا احتفال بأهمية ما

ص: 59

في الأوزان من الرنة الموسيقية.

زكي مبارك

وحدة الوجود والحلول

لأستاذنا الجليل أحمد أمين سابقة جليلة في اللغة العربية، حين انتدب لكثير من المصطلحات الفلسفية في اللغة الإنجليزية فوضع بإزائها كلماتها العربية. وليست كلمتنا هذه لبيان هذه الفضيلة، فهي غنية عن البيان. ولكن إحدى هذه الكلمات استوقفتنا، وقد خيل إلينا أن أستاذنا المفضال خانته فيها دقته، وهي كلمة الحلول، فقد وضعها بإزاء كلمة وتحليل هذه الكلمة يرجعها إلى كلمتين يونانيتين: بمعنى (كل) وبمعنى (الله) فهي تعني بهذا أن كل شيء هو الله، أو أن الله هو كل شيء؛ وطبيعي أنه لا يستقيم مع هذه الكلية المطلقة إلا أن يكون ثمة كائن واحد هو الله (وسائر الصور الأرضية والسماوية صور تجلياته وشؤون ظهور ذاته) كما يقول العلامة بهاء الدين العاملي في رسالته: الوحدة الوجودية. وكذلك سمى المسلمون هذا المذهب بوحدة الوجود، واستفاضت هذه التسمية. أما (الحلول) الذي آثره الأستاذ فما زالوا يبرءون منه في كل مناسبة: أن يشتبه بمذهبهم ويشنع به عليهم، فهو شيء مختلف كل الاختلاف. فيقول ابن الفارض مثلاً:

وفي الصَّحو بعد المحو لم أكُ غيرها

وذاتي بذاتي إذ تحلَّت تحلّتِ

وما زلتُ إيّاها، وإيّاي لم تَزَل،

ولا فرقَ، بل ذاتي لذاتي أحبّتِ

متى حلتُ عن قولي: أنا هِيَ، أو أقلْ:

- وحشا هُداها - إنها في حلَّتِ؟

وليسَ معي في الملك شيء سواي وال

معيّة لم تخطر على ألمعيّتي

وكذلك جاء عبد الغني النابلسي ينتفي من هذه التهمة في تائيته إذ يقول:

وإياك من قولي بأن تفهم الذي

تدين به الكفار بين البرّية

فإني برئ من حلول رمت به

عقول تغذَّت بالظنون الخبيثة

وما بانحلالٍ واتِّحادٍ أدين في

حياتي وإن دانتهما شرُّ أمة

وقد وضح العاملي في رسالته الآنفة الذكر الفرق بين وحدة الوجود والحلول توضيحاً يحسم الشبهة بقوله: (فإن قيل لهم فيلزمكم القول بالحلول والاتحاد يقولون: لا يلزمنا هذا ولا ذاك،

ص: 60

إذ نقول: لا وجود لشيء غير الوجود وما سواه فهو اعتبار محض. فمن أين الحلول والاتحاد؟ إذ لا غير ولا اثنينية فلا حلول ولا اتحاد)

ففي تعبير الأستاذ أحمد أمين عن هذا المذهب بالحلول تسامح ظاهر، وإنما توضع كلمة الحلول بإزاء الكلمة الإفرنجية

أبو حيان

حول ابن تيمية وابن بطوطة

قرأت في الأعداد الثلاثة السالفة من (مجلة الرسالة الغراء) ما نقله الأستاذ الدكتور عبد الوهاب عزام عن العلامة الخالدي وما رد به الأستاذ البرازي وما استدركه عليه الدكتور عزام حول سماع ابن بطوطة الحافظ ابن تيمية يقول وهو على منبر الجامع بدمشق: إن الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا. ونزل درجة من درج المنبر

قرأت ذلك كله فذكرت أن هذا الخبر ذكره الحافظ بن حجر في (الدرر الكامنة) وابن فرحون في (الديباج المذهب) قال الحافظ: ذكروا أنه ذكر (أي ابن تيمية) حديث النزول فنزل عن المنبر درجتين فقال (كنزولي هذا) فنسب إلى التجسيم. اهـ

ورأيت في حواشي (دفع شبه التشبيه لابن الجوزي) في الصفحة 48 من مطبوعة دمشق: يقول بعض علماء دمشق بأنه رأى خطبة ابن تيمية في مخطوط قديم وفيها زيادة (لا) قبل (كنزولي) أي (لا كنزولي هذا) والله أعلم

سيف الدين الخليلي

إلى الدكتور زكي مبارك

حضرة المحترم الفاضل الدكتور زكي مبارك

تحية طيبة وبعد فأراني بين عاملين متجاذبين إذ أكتب هذا لحضرتك: العامل الأول يحفزني، وأكاد أقدم، لما أعتقده في نفسك الكريمة من نخوة، وما امتازت به شخصيتك من إقدام وشجاعة

والعامل الثاني يثبط همتي، ويقف يراعتي مترددة حائرة، خشية ما قد يصيبني ويصيب الموضوع الذي سأتعرض له معك

ص: 61

وأخيراً رجحت عندي كفة الإقدام على ما اعتزمت ثقة بأنه لن تتحد النخوة مع الجبن ولا تتنافر شجاعة المصلحين ومثابرتهم كل في سبيله، مادامت ترمي إلى هدف سام، وتطمح إلى غاية نبيلة

وفي اعتقادي أن الأستاذ الفاضل أحمد أمين حينما تعرض بمقاله (جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي) لم يكن قصده من النقد والتوجيه إلا نبل الغاية، وحسن النية، واعتقد أيضاً أن ثورة الدكتور مبارك التي تجلت في المقالات التي عنونت:(جناية أحمد أمين على الأدب العربي) لم تكن إلا ثورة للنقد والإصلاح من طريق آخر، وكلا الغرضين شريف بالنسبة لموضوع الأدب العربي الذي نال حظوة موفقة بأن هيأت له الظروف قلم هذين العالمين الفاضلين.

والآن وقد أتممت يا حضرة الدكتور عشرين مقالاً تحت العنوان السالف الذكر، فإني أتقدم إليك برجاء لم يدفعني إليه إلا رغبتي الأكيدة في أن توجه جهودك الجبارة ونشاطك المعدوم النظير، إلى نوع آخر من الإصلاح حتى نفوز بقراءة طريفة من قلمك المرن

وأحب أن أخبر حضرتك أني من المعجبات بكل ما يكتبه الأستاذ الفاضل أحمد أمين بأسلوبه العلمي المتين، وأؤكد للدكتور الفاضل زكي مبارك أن الأستاذ أحمد أمين يتصدر ركناً مهماً في الثقافة المصرية، وقد أبلى فيه بلاء حسناً، سواء وافقتني على رأي هذا أو لم توافقني. وأقول إنه إن تخلى عن مجهوداته التي يؤديها، أو أنكر فضله إنسان فيما سبق أن أداه، فليس من السهل ملء الفراغ الذي لا بد يحدثه هذا التخلي وذلك الإنكار

هذا ورجائي أن تتفضل الرسالة الغراء بنشر خطابي هذا إلى الدكتور زكي مبارك، ولا إخالها إلا فاعلة كما هو عهدي بها محبّة للحق، أمينة في خدمة الأدب والعلم والفن

زينب الحكيم

حول (مجلس في منزل الدكتور طه حسين)

بعد أن وقف القراء على تكذيب الأستاذ محمد عبد الواحد خلاف للحديث الذي رواه الدكتور زكي مبارك عن مجلس قال إنه كان في منزل الدكتور طه حسين، كتب إلينا كثير منهم يظهرون إعجابهم ببراعة الدكتور الفنية في إدارة الحوار وإجراء الكلام على ألسنة

ص: 62

الجالسين بما يشبه أن يصدر عنهم فاكتفينا عن نشر ما كتبوا بهذا التنويه.

قرية تعليمية نموذجية في السودان

اختير الأستاذ عبد العزيز أمين عبد المجيد خريج دار العلوم وجامعات إنجلترا ليساهم في الجهاد الثقافي الحديث في السودان الشقيق. والأستاذ عبد العزيز من القلائل الذين زاوجوا بين الثقافتين الشرقية والغربية بالبصيرة النيرة والمنطق السليم، وقد كتب إلى (الرسالة) كتاباً نقتطف منه هذه الجملة:

(. . . بخت الرضا قرية تعليمية نموذجية أسستها مصلحة المعارف السودانية سنة 1934 لتكون مركزاً للتجارب في التربية والتعليم. وأنشأت بها ثلاث مدارس: مدرسة أولية، ومدرسة وسطى، وكلية للمعلمين. وقد راعت في تأسيس هذه القرية ومدارسها أن تكون ريفية محضة، وأن تكون القرية مستقلة في المعيشة بقدر ما يمكن. ولذلك فقد بنيت بيوتها ومدارسها من اللبن أو الجالوس، وحفرت بها الآبار، وتضاء ليلاً بمصابيح البترول، وبها دكاكين ومسجد وصيدلية وحمام للسباحة وملاعب للرياضة البدنية. وتتبعها حقول وحدائق للتجارب الزراعية. وبها أبقار وأغنام ومصانع للزبدة ولها نجارها الخاص وحلاقها وخفراؤها الخ والتلاميذ والمدرسون والمشرفون يعيشون في هذه القرية التي لا يسكنها أجنبي. والعمل في هذه القرية وما يتبعها مستمر طول اليوم وهزيعاً من الليل في المزارع ومرابط الأبقار ودكاكين النجارة وحجرات الدراسة الخ ونظام العمل هنا تعاوني، ويقوم الطلبة بمعظم الأعمال المدرسية والمزرعية والمنزلية بالاشتراك، ويصدرون جريدتهم الأسبوعية ومجلتهم الشهرية. وبالجملة فالغاية هنا من التربية أن تكون عملية بسيطة رخيصة تعد السوداني ليعيش في القرية السودانية ويعتمد على نفسه في أكثر ما يحتاج إليه

وللدراسة خمس شعب: شعبة المواد الاجتماعية، وشعبة الرياضة، وشعبة الفنون الجميلة والأعمال اليدوية، وشعبة الزراعة، وشعبة اللغة العربية. ولكل من هذه الشعب رئيس إنجليزي إلا شعبة اللغة العربية فهي من نصيبي. ولكل رئيس مساعدان، ومهمة رئيس الشعبة الإشراف على كل عمل يتصل بمادته أو موارده، وهو مسئول عن المدرسين والكتب وطرق التدريس ونظام العمل في حصص مادته. وهو أيضاً مسئول عن وضع المنهج المناسب وتأليف الكتب. وهذا المنهج وهذه الكتب تمر في مرحلة التجربة قبل أن

ص: 63

تعتمد فتعمم في مدارس السودان جميعها. وقد بدأت منذ وصولي من الأساس. وأنا الآن أدرس منهج التعليم الأولى ومشغول بمقرر اللغة العربية في السنة الأولى الأولية وكتبها وطرق التدريس فيها تمهيداً للقيام بالتجارب في السنة الدراسية القادمة التي تبدأ هنا عادة من يناير. ورئيس هذه المعاهد إنجليزي فاضل حازم له تجارب منتجة في الهند والسودان. ولذلك تجد دولاب العمل يسير بانتظام وتناسب في جميع أركان القرية وفي المعاهد

لقد أطلت عليك في وصف قريتنا التعليمية، ولكني أرجو أن تكون إطالتي في غير ملل؛ فأنت من أسرة المدرسين ويلذ لك أن تقرأ عن أخبار التعليم وأخبار أسرتك

العمل هنا كثير وكله علمي تثقيفي نافع، وأنا سعيد بعملي هنا وأحبه وأقبل عليه برغبة وإن كان لا يترك لي إلا القليل للراحة والاستجمام. وأحاول أن أختلس سويعات في أوقات الراحة فأكتب شيئاً أو أعالج موضوعاً يصح أن ينشر. . .)

عبد العزيز أمين عبد المجيد

رئيس شعبة اللغة العربية بمعاهد بخت الرضا التجريبية

استدراك

جاء في المقال الثاني عن (موقف العلم من الكمال الإنساني) للأستاذ توفيق الطويل أن بيكون قد انقضى على وفاته ثلاثة عشر قرون وثلاثة عشر عاماً. والصواب ثلاثة قرون وثلاثة عشر عاماً

أسرار البلاغة في علم البيان

أصدرت (دار المنار) في هذه الأيام هذا الكتاب النفيس لمؤلفه الإمام (عبد القاهر الجرجاني) مطبوعاً طبعاً متقناً على ورق جيد صقيل، والكتاب ومؤلفه غنيان عن التعريف، وقد وضع في وقت تحكمت فيه دولة الألفاظ واستبدت على المعاني، وهو خير ما كتب في موضوعه عبارة وأسلوباً وإيضاحاً للمسائل وبسطاً للدلائل، وقد امتاز بإرجاع الاصطلاحات الفنية إلى علم النفس وتأثير الكلام البليغ في العقل والقلب. وقد عني بتصحيحه علامتا المعقول والمنقول المرحومان الشيخ (محمد عبده) والشيخ (محمد محمود الشنقيطي) وعلق حواشيه المرحوم (السيد محمد رشيد رضا). وثمن النسخة 25 قرشاً

ص: 64

‌الفرقة القومية تقدم رواية:

امرأة تستجدي

أدار المؤلف موضوع الرواية حول شخصية بارزة في المجتمع لها حظها من الثقافة والعلم والمكان الرفيع. فالبطل رئيس تحرير صحيفة سياسية قد رشحه مجلس النواب، وهو رجل مثقف مستنير الذهن واسع المدارك يعيش أعزب حتى يلتقي بامرأة تقع من نفسه موقعاً حسناً فيخطبها سعيداً مغتبطاً. وإذ هو بسبيل استكمال سعادته يعرض له حادث يغير وجه الأمر

لقد كان من رأيه أن ليس من حق الإنسان أن ينتصف لنفسه. ليس له

أن يقتل مهما يكن من أمر، ليدع القضاء يأخذ له حقه، رعاية لنظام

المجتمع وخشية عليه من الانهيار. وقد هاجر برأيه هذا في مسألة

عرضت له إذ قتل رجل عشيق ابنته الذي وعدها وأخلف

بيد أنه لا يجد مناصاً من ارتكاب جريمة القتل لسبب لا يسيغ قتل ذبابة فضلاً عن رجل! أتدري من قتل؟ إنه قتل زوج أخته الذي طلقها لينقذه من حبائل امرأة مستهترة ولينقذ شرف الأسرة وثروتها التي لا تزيد على عشرين فداناً مثقلة بالديون!

وإنك لترى أنه أقدم على ارتكاب جريمة القتل وهو في حالة كان يرى فيها نفسه أسعد رجل في الوجود، خطب المرأة التي يحبها وسيتزوج منها بعد أيام، وهو يوشك أن يبلغ قمة المجد، وغداً ربما يكون وزيراً أو رجلاً خطيراً في الدولة. هذا الرجل يقدم بعزم وإصرار على قتل زوج أخته لأنهه طلقها! ومن العجيب أنه، وقد أراد أن ينقذ شرف الأسرة وثروة الأسرة، أنه سلم نفسه للعدالة حتى لا ينتصف لنفسه بنفسه، وبذلك وقعت الكارثة الكبرى، وانتهت حياته وانهارت آماله ونزلت بالأسرة الفضيحة مزدوجة وخسرت عائلها وسيدها!

بأي منطلق كتب المؤلف هذه الرواية؟ لسنا ندري، ومن العبث أن ندري فما يجيز العقل شيئاً كهذا إلا إذا كان البطل قد نزل يوماً بدار المجانين، وقد جعل هذا المنطق شخصيات الرواية شاذة مضطربة ليس في الحياة مثلها أو شبيهة بها. وبهذا خرجت الرواية سقيمة

ص: 66

عرجاء رغم جهد المخرج النابه الذي أخرج غيرها من قبل بنجاح ملحوظ. وكيف يسيغ هذه الأكذوبة الجريئة على الحق والحياة، لو أنه بذل بعض هذا المجهود في إخراج رواية مستقيمة لأفاد منها كثيراً كما أفاد من (الحب والدسيسة) وغيرها مما أخرج

وقام الأستاذ أحمد علام بدور البطل، وإنك لترى موقفه وهو يحاول عبثاً أن يستر ضعف الشخصية التي يؤديها، على أنه وفق في كثير من مواقفها كممثل

وهكذا كانت السيدة دولت أبيض التي جعلها المؤلف، وهي امرأة، لا تهتز لذكرى أمها على حين كان أخوها، وهو رجل قد بلغ الغاية في رقة العاطفة وجلال التأثر لذكرى أعز شخصية في الوجود

أما الآنسة فردوس حسن فقد كانت شخصيتها بعيدة عن منطق الرواية الأعرج، وهي منها في الصميم، أحبت صاحبها ورضيت به زوجاً ودافعت عن سعادتها في حدود قدرة المرأة التي جربت الحرمان، وهكذا كان عملها سليما وشخصيتها سليمة

وكان منسي فهمي بارعاً في دور الرجل المستهتر السادر في غيه. وكان موقفه مع (شربات) الراقصة من أبدع المواقف

أما الآنسة أمينة نور الدين فقد قامت بدور (شربات) الراقصة، ولنا حديث عنها في العدد المقبل.

وكان الأستاذ عباس فارس في دوره الصغير آية من آيات الإبداع والقوة، حتى لقد جعلنا ننتصر لقضيته ونسخر بمنطق البطل.

وكان أنور وجدي في دور الشاب المرح غاية في الظرف. وكذلك كان حسن إسماعيل في دور (هاني) الذي يعتبر بداية حسنة لممثل شاب وبعد فإن الرواية ساقطة من وجهة التأليف ناجحة إلى حد ما من وجهة الإخراج

فرعون الصغير

ص: 67