الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 332
- بتاريخ: 13 - 11 - 1939
وزارة الشؤون الاجتماعية
المرض. . .
- 3 -
بعد الجهل والفقر لابد أن يجيء المرض. فهو في الترتيب الطبيعي ثالث العناوين البارزة في دستور وزارة الشؤون الاجتماعية.
وإذا كان الجهل يمنع أن يكون لنا رأي عام، والفقر يمنع أن يكون لنا خير مشترك، فإن المرض يمنع أن يكون لنا كيان صحيح. وإذا لم يكن للمجتمع رأي عام ولا خير مشترك ولا كيان صحيح، فسمه ما شئت إلا أن تسميه أمة.
ولعل المرض كان العَرض الملازم الذي يميز الشقاء المصري من كل شقاء في العالم. وإن أثره في تاريخنا الاجتماعي كان كأثر الزلازل والبراكين والحروب في تاريخ البلاد الأُخر. فقد كانت الأوبئة تفد إلى مصر عاماً بعد عام فتجتاح نصف السكان وتصيب النصف الآخر بعاهات تدعه كالشجر اليابس لا للظل ولا للثمر. والعلة الأصيلة في ذلك أن أبانا النيل منذ شقه الله يجري فيكون الخصب والغضارة والحياة، ثم يركد فيكون الجدب والذبول والموت. وفيضانه ونقصانه يتعاقبان تعاقب الجديدين. فإذا فاض أنعش الذاوي وجدد البالي وأحيا الموات؛ وإذا نقص تخلفت بقاياه في أجواف المصارف وأطراف الترع ومناقع الأرض فتكون مزارعَ خصبة لجراثيم التيفود وبعوض الملاريا وقواقع البلهارسيا وديدان الأنكلستوما، وبنو النيل الدائبون البررة لا ترتفع أيديهم من مائه، في حالي نقصه ووفاءه؛ فخيرهم منه لا يزال مشوباً بالشر، ووجودهم فيه لا ينفك مهدداً بالعدم. فإذا أضفت إلى ذلك أن الجهل يستوجب فساد العيش وترك الوقاية، وأن الفقر يستلزم سوء الغذاء ونقص العلاج، فقد اجتمعت لك أسباب المرض التي جعلت الكثرة الكاثرة منا مذبذبين بين الدور والقبور لا هم في الأحياء ولا هم في الموتى.
إذا استطعت أن تقيم البناء من ناخر الحجر، وتنسج الرداء من رثيث الخيط، استطعت أن تؤلف من مهازيل المرض وسُقَاط الوهن شعباً يستغل الأرض وجيشاً يحمي الوطن.
تعال نزر قرية من قرى الريف فأريك كومة مبسوطة من سباخ الأرض، في مستنقع واسع من آسن الماء، فقد قامت عليها أبنية من الطين والقصب والخشب تجمعت على ظهورها
المراحيض والمزابل، وتكدست في بطونها الناس والبهائم، وتطرحت على أبوابها ومصاطبها الرجال والأطفال وقد هدَّتهم العلل وبَرَتهم الأسقام حتى ليعجزون عن دفع الذباب عن وجوههم الساهمة الشاحبة. فإذا سألت هؤلاء المنهوكين بالزُّحار والصُّفار والسُّلال والطُّحال والحمى والرمد: من الذي يزرع الأرض ويتعهد الزرع، ويحصد الثمر ويجمع الحصيد، وينجل العلف ويرعى الماشية؟ قالوا لك: يعمل ذلك كله قليل من الشبان الذين يدافعون المرض بالجلَد، وكثير من النساء اللاتي يغالبن الضعف بالصبر. ومما ترى وتسمع يتسنى لك أن تروز العبء الذي تحاول وزارة الشؤون الاجتماعية أن تضطلع به.
ولكن هل من الحق أن يلقى عبء الصحة العامة على كاهل هذه الوزارة المفدوحة بأمور المجتمع؟ إذن فماذا تصنع وزارة الصحة؟ والجواب أن الجهاد الصحي مفروض على الوزارتين جميعاً بنظام تقتضيه طبيعة كل منهما فلا يُثقل إحداهما ولا يعطل الأخرى. فكل ما يتصل بالوقاية والصيانة يرجع إلى وزارة الشؤون الاجتماعية، وكل ما يتعلق بالطب والعلاج يعود إلى وزارة الصحة؛ وقد يجوز لهذه بحكم خصوصها أن تصون وتقي، ولكن لا يجوز لتلك بحكم عمومها أن تعالج وتَطب.
فمن الطب الوقائي المنوط بوزارة الشاذلي باشا تخطيط القرية على نمط يكفل لها الشمس والهواء والجمال والذوق والراحة، وفصل الحظائر والمزابل عن المساكن، وتجفيف البرك والمستنقعات، وتطهير الماء الراكد من الطفيليات، وإنشاء المغاسل والمراحيض العامة، ورفع مستوى المعيشة القروية بتحسين الغذاء وتنقية الماء وتعميم النظافة، وإرشاد الفلاحين عن طريق الإذاعة والصحافة والوعظ إلى أنجع الوسائل في اتقاء العدوى وتدبير البدن.
ذلك عملها في القرية، وأما عملها في المدينة فبناء المساكن الصالحة للعمال، ومراقبة المعامل والمصانع من حيث الصحة، وملاحظة المطاعم والمشارب من حيث النظافة، ومراعاة الطعام والشراب من حيث السلامة، وحماية الطبقة العاملة من رهق العمل، ووقاية النفوس الغاوية من سموم المخدرات، وبث الروح الرياضية في كل طبقة، وإنشاء الملاعب والمسابح والأندية في كل بيئة، وإقامة المسابقات النهرية والبرية في كل فرصة، وتفريج الهموم بإقامة المهرجانات الشعبية في كل مناسبة، وتعميم الثقافة الصحية عن طريق التعليم والإذاعة والنشر.
هذا مجمل ما ينبغي أن تقوم به وزارة الشؤون الاجتماعية لمكافحة المرض. فإذا أضفناه إلى ما أجملناه قبلاً من الوسائل الفعالة في كفاح الجهل والفقر كان لنا من مجموع ذلك برنامج كامل شامل لا يعوزه غير التنفيذ. فليت شعري أتظل الوزارة واقفة من شؤونها الاجتماعية موقف خراش من ظبائه، أم تجري على هذه الخطة الواضحة فتأتي كل أمر من وجهه وتعالج كل داء بدوائه؟
أحمد حسن الزيات
جناية أحمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
(النهاية)
هل أستطيع أن أحدِّث القارئ مرةً عن بعض مكاره النقد الأدبي؟
ليتني أعرف من أغروني بسلوك هذا الطريق المحفوف بالمخاطر والمعاطب والحتوف!
كنت تبت ونجاني الله من مهلكات هذا الطريق الوعر الشائك، فكيف رجعت إليه بعد أن عرفت وجه الخلاص؟
كان الأستاذ أحمد أمين أحد الأصدقاء الذين رأيت أن أتجنب الوقوف في طريقهم مهما كانت الأحوال، وكانت الحجة بيني وبين نفسي أن هذا الرجل رقيق الإحساس، أو ضعيف الأعصاب، فلا يجوز أن أعرض له بإيذاء.
وما زلت أذكر ما وقع في سنة 1935
كنت يومئذ مدرساً بكلية الآداب، وأخرج الأستاذ أحمد أمين الجزء الثالث من ضحى الإسلام، وقد سرق من الأستاذ إبراهيم مصطفى مسألة متصلة بتاريخ النحو وسرق مني مسألة متصلة بتاريخ التشريع الإسلامي، فصاح إبراهيم: إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجةً ولي نعجةٌ واحدة فكيف يسرقها مني؟ إنه لطمّاع!
جلست أنا وإبراهيم نتشاكى في غرفة أساتذة اللغة العربية، وانتقلنا من التشاكي إلى التباكي، فهتفتُ: سأنتقم لي ولك يا إبراهيم!
فقال: يعزّ عليّ أن يَجرح الأستاذ أحمد أمين بسببي، وهو صديق قديم، ولم ينهب مني شيئاً قبل هذه المرة، وأنت يا صديقي قد أوغلت في معاداة طه حسين فلا تضف إليها معاداة أحمد أمين!
وشاءت المقادير أن أقص هذه القصة على بعض أصدقائي في بغداد سنة 1938 فكان من أثر ذلك أن يوجَّه إليَّ سؤالٌ في جريدة (الكلام) عن بيان ما سرق مني أحمد أمين.
ورأيت أن أعتصم بالصمت فلا أجيب: لأني كنت نشرت قبل ذلك كلمة أثنيت بها على جهود أحمد أمين في جريدة (الهدف) ولأني كنت أستقبح اغتياب أبناء وطني في جرائد بغداد، فقد كان أدباء لبنان يسمونني سفير العروبة المصرية في العراق.
ومنذ أشهر نشر الأستاذ أحمد أمين مقالته الأولى فيما سمّاه جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي فلم تعجبني: لأني رأيتها من الحديث المعاد، ثم لقيني مصادفةً في (المترو) بعد ظهور مقالته الثانية فسألني عما أراه في الأفكار التي أودعها مقالتيه، فقلت له: لم يعجبني غير نقد الشاهد الذي أوردته من كلام ابن قتيبة، أما سائر أفكارك فتحتاج إلى تحقيق، فقال: أنا دعوت القراء إلى مناقشة تلك الأفكار، وأنا أرحِّب بكل ما يَرِد إلي من تصحيح.
فهل كان يدعوني إلى أن اساجله الحديث؟
كانت الصداقة بيني وبين الأستاذ أحمد أمين قد بلغت أقصى حدود المتانة والصدق، وما كان ينتظر أن يرى مني غير ما يحبّ، وكنت والله خليقاً بالتجاوز عن سيئاته لو لم يُسرف في الإساءة إلى ماضي اللغة العربية في وقت يحرص فيه العرب على تفهيم أبنائهم أن أجدادهم كانوا من أصحاب الرفيعة في العلوم والآداب والفنون، وأنهم كانوا في ماضيهم من أقطاب الزمان.
وكذلك وقعت الواقعة وكان ما عرفه القراء من تمزيق الأوهام التي اعتز بها ذلك الصديق.
ولكن ما الواجب لهذا التمهيد في مطلع المقال الثاني والعشرين؟
أنا أريد أن يعرف القارئ أني أشعر بالضجر حين أثبت في مقال اليوم أن أحمد أمين سرق بعض آرائي، بعد أن أثبتُّ ما سرق من الدكتور أحمد ضيف والدكتور طه حسين، وما كان يهمني أن ينص على ما سرق مني، ولكن اعتزازه بآرائه (المبتكَرة) أوجب الحدّ من جرأته العاتية في نهب تلك (المبتكرات).
وأدخل في صميم الموضوع فأقول:
اهتم الأستاذ أحمد أمين بالنص على أن الشعر العربي كان في أغلب أحواله أدب معدة لا أدب روح، وحجته في ذلك أن التكسب بالشعر كان عادةً غالبةً على أكثر الشعراء، وقد طنطن بهذه المسألة وأخذ يعيدها في كل مكان حتى صحّ للأستاذ محمد العشماوي بك أن يواجهني بهذه العبارة:
(كيف تعيب على الأستاذ أحمد أمين أن يقول إن شعراء العرب كانوا يتجرون بأشعارهم، وهو قول صحيح)؟
فهل ابتكر الأستاذ أحمد أمين ذلك الرأي؟
انظروا ما جاء في كتاب (البدائع) ج 1 ص 99
(لا أنكر أن كثيراً من الشعراء اتخذوا مدح الملوك والأمراء وسيلة من وسائل العيش، ولا أنكر أن كثيراً منهم وصل بذلك إلى أسفل دركات الاسفاف، واصرِّح بأن من النقائص النفسية أن يسخر الشعر تسخيراً في سبيل المنافع الزائلة، وأعترف بأن هذه النقيصة تمسُّ كثيراً من شعراء اللغة العربية، وإن كان من أسباب العزاء أن هذه النقيصة لم يتفرد بعارها شعراء العرب فقد كان أكثر الشعراء في أوربا يعيشون عالةً على الملوك والأمراء ولم يعرف منهم باستقلال الشخصية إلا القليل. ولكني - مع هذا - أقول بأن المديح ديوان العرب، وهو الوثيقة الباقية على ما كان فيهم من كرم الشمائل والخصال. والمادحون قد يكذبون، ولكنهم في كذبهم يصورون ما اصطلح عليه معاصروهم من ألوان المحاسن والعيوب، فالشاعر الكاذب يقف كذبه، عند حقيقة ممدوحه، ولكنه من الوجهة الاجتماعية صادق كل الصدق، لأنه يصور ما يتشهى ممدوحه أن يتصف به من كرائم الخلال).
وهذا البحث كان من البحوث التي راعت الأستاذ المازني وكان نُشرَ في جريدة البلاغ قبل أن يُضم إلى الطبعة الثانية من كتاب البدائع.
وقد رأى الأستاذ أحمد أمين أن ينهب الشطر الأول من الفكرة ويغفل الشطر الأخير، لأن الشطر الأخير فيه توجيه لمدائح الشعراء وهو حريص على طمس محاسن أولئك الشعراء.
وعاب أحمد أمين على العرب أن يلتزموا افتتاح القصائد بالنسيب وأن يتنقلوا بهذه العادة من جيل إلى جيل، في حين أن الشاعر قد لا يكون مشبوب العاطفة في كل حين.
وهذا الكلام مسروق من مقال أرسلته من باريس سنة 1931 وفيه أقول:
(لقد درج شعراء اللغة العربية منذ الزمن القديم على افتتاح القصائد بالنسيب، وتلك طريقة لها محاسن ولها عيوب: فمن محاسنها أنها تمهد للشاعر طريق الكلام، وهي بذلك أشبه بالموسيقى تتقدم الغناء ليثور قلب المغنِّي ويُرهَف إحساسه للتلحين والتطريب. ومن مساويها أنها تفرض على الشاعر ما لا قِبَل له باحتماله من التغني بعواطف قد تكون خمدت في صدره منذ أزمان. على أن الشعراء الأقدمين قد التزموا هذه القاعدة حتى وصلت ببعضهم إلى الإسفاف، وحسبُ القارئ أن أذكر له أن من الشعراء الماضين من كان يفتتح
قصائد الرثاء بالنسيب، وذلك أغرب ألوان الشذوذ، وقد أحصيتُ من هذا النوع عشرين شاهداً هي في مذكراتي بمصر، فليعذرني القارئ إن اكتفيت بالإشارة إليها في هذا الحديث)
وصرح أحمد أمين بأن المعاني القديمة لم تخضع للتجديد، وإنما نقلها الشعراء بلا تجميل ولا تحسين. أفلا يصح القول بأنه سرق هذه الفكرة مما جاء في كتاب (البدائع) ج 1 ص 29.
(إن شعراءنا يدورون حول الحسن فلا يرون منه غير ما كان يرى الأقدمون. فحيرةُ الشاعر اليوم هي حيرة أسلافه منذ قرون مع أن النفوس قد تعقدت أشد التعقد، وهذا الحُسنُ - إن لم يلطف الله - ماضِ في الفتك بلفائف القلوب، وقد جدّت للأرواح أزمات جديدة ومطامح جديدة لم يَشْقَ بها الأولون، فليس من المغالاة في شيء أن نصارح القراء بأن الغزل في شعر شوقي وأضرابه من المعاصرين أصبح أعجز ما يكون عن وصف ما في نفوسنا وأرواحنا وقلوبنا من ألوان القلق والظمأ والالتياع).
واهتم الأستاذ أحمد أمين بتوكيد القول بأن نزعة القرآن روحية لا حِسيّة. فنال بذلك ثناء الأستاذ محمود علي قراعة الذي عدّ كلامه من المبتكرات، فهل يعلم أن هذا الكلام مسروق من قول صاحب (التصوف الإسلامي) ج 2 ص 7.
(وأقرب الآثار الصوفية إلى أذهان الناس هو القرآن، ذلك الكتاب الذي أطال القول في وصف الدنيا وذمها وثلبها وتحقيرها، وقضى بأنها لهو ولعب، وأنها في نضارتها ليست إلا متاع الغرور. القرآن هو أقرب الآثار الصوفية إلى أذهان الناس وإن جهلوا ذلك، هم يعدّونه كتاب تشريع ونراه كتاب تصوف. إن التشريع في القرآن ليس إلا تنظيماً للعلاقات الدنيوية، والعلاقات الدنيوية في نظر القرآن هي تمهيدٌ للصلات الروحية: صلات الناس بالله الكبير المتعال، وكلُّ مَغنم لا يُقرِّب المرء من ربه هو في نظر القرآن ذُخرٌ باطلٌ سخيف)
ومع ذلك يقال إن أحمد أمين يدعو إلى الروحانيات وإن زكي مبارك يقاوم الروحانيات!
فيا ربَّ هل إلا بك النصر يُرتَجَى
…
عليهم؟ وهل إلا عليك المعوَّلُ؟
غفر الله لي ولكم، يا إخوان هذا الزمان!
ويوصي أحمد أمين بقَصْر دراسة تاريخ الأدب على المعاهد العالية والاكتفاء في المدارس
الثانوية بنصوص مختارة من الأدب الحديث.
فمن أين أخذ هذا الكلام وهو الذي اشترك مع لجنة مكونة من أشخاص معروفين في تأليف كتابين للمدارس الثانوية بُدِئ فيهما بالأدب الجاهلي والأدب الأموي، وهما عصران أعلن عليهما الحرب في هذه الأيام؟
أخذ هذا الكلام من قول صاحب رسالة (اللغة والدين والتقاليد) ص 42 و 43.
(إن درس تاريخ الأدب بدعةٌ نقلناها نقلاً عن أوربا، وهي مقبولة هناك؛ لأن الأدب الأوربي يكثر في القصَصَ والتمثيل، وهي موضوعات أَلفها التلاميذ، لأنهم منذ الطفولة عرفوا القصَصَ وعرفوا التمثيل، فلا يصعب عليهم أن يفهموا الفرق بين فن وفن، وعصر وعصر، وأسلوب وأسلوب. أما في مصر فالأدب في جملته يتحدث عن شؤون جِدية لم يعرفها الشبان من قبل، فمن العسير أن يدركوا كيف تطور واستحال من جيل إلى جيل. . . إن تاريخ الأدب لا ينبغي أن يدرس إلا في المعاهد العالية، أما المدارس الثانوية فيدرس فيها الأدب الصِّرف، مع العناية بشرح النصوص والبحث عن مواطن الجمال في النثر الجيد والشعر البليغ. . . درس تاريخ الأدب في المدارس الثانوية جهدٌ ضائع، وسنصبر عليه إلى أن تسوق المقادير رجلاً حاذقاً من بين الذين عرفوا عقلية التلاميذ، وما أظن أننا سنصبر طويلاً، لأن العناية بإصلاح التعليم تزداد من يوم إلى يوم، والى أن تحذف تلك المادة الفضولية نوصي أساتذة اللغة العربية بأن يتخيروا للمطالعة والمحفوظات نصوصاً لا تخرج عن الأدب الحديث، لأنه أقرب العصور إلى أذهان التلاميذ، وقربُهُ من أذهانهم يساعد المعلمين على بيان ما يتصل به من الملابسات الخلقية والاجتماعية، ويمكِّن التلاميذ من فهم ما فيه من أسرار البيان).
ورسالة (اللغة والدين والتقاليد) نشرت في سنة 1936، والفكرة قديمة عند صاحب هذه الرسالة فهي مُثْبتةٌ في كتاب (ذكريات باريس) الذي طبع في سنة 1931.
وأحمد أمين يعرف أن الجندي المجهول الذي اسمه زكي مبارك هو الذي غير منهج دروس الأدب في مدارس وزارة المعارف من حال إلى حال، فقد كانت تبتدئ بالعصر الجاهلي فصارت تبتدئ بالعصر الحديث. ومن السهل أن نستخرج المذكرات التي قدمتها للوزارة في هذه القضية ليعرف أحمد أمين هوية الرجل الذي وَأَد كتاب (المجمل) وكتاب (المفصَّل)
عليهما رحمة الله، وعلى مؤلفيهما السلام، وهي تحية تصل أصداؤها إليه وإلى علي الجارم وأحمد ضيف وعبد العزيز البشري وطه حسين.
وسيأتي يوم أفصِّل فيه ما أديت من الخدمات لتوجيه الحياة العلمية بوزارة المعارف؛ تلك الخدمات التي انتفع بها أحمد أمين وغير أحمد أمين، ثم مضت بلا شكر ولا جزاء غير السرقة والانتهاب!
إن الفخر بغيض ممقوت، وقد عابه عليَّ الأصدقاء قبل الأعداء؛ ولكن ماذا أصنع وأنا أشهد آرائي تُنتهب بلا تحرُّز ولا ترفق، وبها يرد على خصومي حين يشتجر القتال، وكأنها مما ابتكرت أفكارهم الثواقب وألسنتهم النواطق!
ويقول أحمد أمين وطه حسين: إن الأدب يجب أن يرفع نفسية الأمة ويدلها على مواطن الضعف والقوة لتواجه الحياة عن هدى وبصيرة
فهل أستطيع أن أقول إن هذه الآراء منهوبة من قول صاحب رسالة (اللغة والدين والتقاليد)(ص 46 و 47).
(فإذا انتقلنا من الأدب وتاريخ الأدب في المدارس الثانوية والعالية تلفتنا نبحث عن الأديب المخلوق لدرس الحياة، ونحن نرجو أن يكون في أساتذة الأدب من يخرج على الذوق المتكلف والوقار المصنوع، نرجو أن يكون عندنا أساتذة يزورون تلاميذهم في بيوتهم، ويرافقونهم في الحفلات والسهرات، ويطوفون بهم على الأحياء الشعبية ليعلموهم كيف تكون الثورة على ما في حياة الشعب من بؤس وشقاء. . . نريد أساتذة يربون تلاميذهم على مرافقة العمال والصناع والفلاحين ليكونوا في المستقبل من حملة الأقلام الثورانية التي تبدد غياهب الجهل والخمول. . . نريد أدباً يبعث في الشعب روح التمرد على الفقر والمسكنة والذل، ويروضه على الطمع الشريف في الغنى والكسب والعزة والكبرياء. . . نريد أدباً يطمعنا في استرجاع ما ضاع من مجد مصر والنيل. . . نريد أدباً يرفعنا إلى صفوف الجوارح، نريد أدباً يعلمنا فضل المِخلب والناب، نريد أدباً نسيطر به على الدنيا غير باغين ولا عادين).
أما بعد فقد أنهيتُ القول في محاسبة الأستاذ أحمد أمين بعد أن أرَّقت جفونه خمسة أشهر كانت عنده كألف سنة مما تعدون، وأنا أشكر لمجلة (الرسالة) وقرائها ما لقيت من تشجيع
وترحيب.
انتهيت من محاسبة أحمد أمين الباحث، أما أحمد أمين الصديق فله في قلبي أكرم منزلة وأرفع مكان، ولن يراني إلا حيث يحب في حدود المنطق والعقل، فما أرضى له أن يكون من الساخرين بالأدب العربي وماضي الأمة العربية
وسأبدأ بالتحية حيث ثَقِفْتُه. فلا يَزْو عني وجهاً أراه أهلاً للكرامة والحب.
وسلام عليه من الصديق الذي لا يغدر ولا يخون.
(تم البحث)
زكي مبارك
من كتاب (الدين الإسلامي)
من هو المسلم؟
للأستاذ علي الطنطاوي
ديننا علم واعتقاد وعمل
فالمسلم من (علم) أن الله عز وجل بعث محمداً صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل بالشريعة الخالدة التي تصلح لكل زمان ومكان، والتي تكفل لمتبعيها سعادة الدنيا والآخرة، وجعلها رحمة للعالمين، وهدى للناس أجمعين، وأنزل عليه الكتابَ الذي ما فرط فيه من شيء، القرآن كلامَ الله القديم، وختم بالإسلام الرسالات فلا نبي بعد محمد خاتم النبيين
و (علم) أن دعامة الإسلام وأساسه، ومصباحه ونبراسه، كتاب الله وسنَّة نبيِّه، فما جاء في القرآن أو صحَّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو من الدين، وما عدا ذلك من بدع ابتدعها في الدين قوم، أو زيادات زادها أقوام ليست في القرآن ولم ترد في الحديث الصحيح ولا تقاس عليهما ولا يجمع عليها أئمة المسلمين فليست من الدين ولو قال بها أهل الأرض.
و (علم) أن الإسلام لا يشبه الأديان ولا يقاس عليها، لأنه دين وشريعة وسياسة وأخلاق، فهو يبيِّن صلة العبد بربه، ويضع القوانين لصلات الناس بعضهم ببعض، ويبني قواعد العلاقات السياسية بين الدول الإسلامية وغيرها من الدول، والإسلام يرافق المسلم إذا غدا أو راح أو طلع أو نزل لا يفارقه لحظة ولا خطوة. وليس في الدنيا عمل لا يدخل فيه الإسلام ويبيِّن فيه حكم الله، فإما أن يكون مباحاً لا يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، وإما أن يكون مندوباً يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، وإما أن يكون واجباً يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وإما أن يكون مكروهاً يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، وإما أن يكون حراماً يثاب تاركه ويعاقب فاعله. وهذه الأحكام الخمسة (الفرض والمندوب والمباح والمكروه والحرام) هي التي تحدد مكان كل عمل من الدين ولا يخلو عمل من واحد منها. فالمسلم لا يقول أبداً (هذا الأمر خارج عن نطاق الدين لا دخل له فيه) كما أنه لا يقول (إن الإسلام يجب أن ينفصل عن السياسة) لأن السياسة جزء من أجزاء الدين، و (براءة) وكلها سياسة، سورة من
القرآن لا يمكن أن تنفصل عنه
والمسلم من (علم) أن الشريعة الإسلامية أغنى الشرائع؛ وأنها أثمن وأجمع وأحكم من القانون الروماني الذي اقتبست منه كل قوانين أوربة، وأنه يجب أن تكون قوانيننا المدنية والجزائية والمالية والإدارية والدستورية مستنبطة من شريعتنا، مقتبسة من ديننا
و (علم) أن من أنكر آية من القرآن، أو حديثاً متواتراً فقد خرج من الإسلام
و (علم) أن الاجتهاد في استنباط الفروع أمر مستحسن شرعاً، يؤجر عليه صاحبه ولو أخطأ فيه مكافأة له على بذله الجهد واستفراغه الطاقة، فإذا أصاب كان له فوق ذلك أجر آخر هو أجر الإصابة؛ وأن الاجتهاد في أصول الدين ممنوع لأنها منصوص عليها ولا مساغ للاجتهاد مع ورود النص، وأنه لا يضر الناس اختلافهم في الفروع (فكلهم من رسول الله ملتمس) سواء في ذلك الحنفي منهم والشافعي والمالكي والحنبلي. بل إن اختلافهم رحمة من الله وتوسيع على الامة، ولكن يضر الناس اختلافهم في أصول الدين من العقائد ونحوها، ويكون الواحد منهم مصيباً والباقون على ضلال. لأن الحق لا يتعدد، والمصيب هو من اتبع ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والقرن الأول خير القرون
و (علم) أن كل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولم يعتقد ما يخالف الكتاب والسنة، ولم يستحل محرَّماً ولم يحرم حلالاً، فهو مسلم تنطبق عليه أحكام المسلمين وتجمعنا به أُخوة الدين، ولا يجوز تكفير مسلم إلا إذا أنكر أصلاً من الأصول، أو أتى ما أجمع الأئمة على أنه مكفر
و (علم) أن الإسلام لا يعارض العلم الصحيح، ولا الفن النافع، ولا الحضارة الخيِّرة، وأنه دين سهل رحب مرن، ليس بالدين الضيق الجامد المحرج
والمسلم من (اعتقد) بأن لهذا الكون إلهاً واحداً قديماً باقياً، سميعاً بصيراً، متصفاً بصفات الكمال، منزهاً عن صفات النقصان، وأنه هو خالق كل شيء وإليه المصير، ويخلص له العبادة ويراقبه دائماً ويعلم أنه مطلع عليه، وأنه هو وحده النافع الضار، وبيده الخير وهو على كل شيء قدير. فلا يدعو معه غيره، ولا يسأل سواه حاجة من الحاجات التي لا يقدر البشر على مثلها ولا يستعين إلا به، ولا يخاف حق الخوف إلا منه، ولا يسخطه ليرضي الناس، ولا يبالي إذا رضي عنه بسخط أحد
و (اعتقد) أن الله خلق أنواعاً من المخلوقات، منها ما خلقه من مادة كثيفة كالناس والحيوان والكواكب، ومنها ما خلقه من مادة نورانية كالملائكة وهم خلق كثير من خلق الله لا يأكلون ولا يشربون ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون
ومن مخلوقاته الجن، وهم خلق يروننا ولا نراهم، ومنهم المؤمن ومنهم الكافر، ومنها الشياطين وهم أهل الشر ليس فيهم صالح
و (اعتقد) أن الله رحمة منه بالناس، اختار منهم رجالاً عصمهم من الكبائر، ونزههم عن النقائص، ثم بعث إليهم (جبريل) وهو واحد من الملائكة، فأبلغهم رسالة الله، وعلمهم ما يسعدهم في دنياهم وينجيهم في آخرتهم، وكلفهم إبلاغ هذه الرسالة أقوامهم، وهؤلاء هم الرسل وأولهم آدم وآخرهم محمد صلوات الله عليهم أجمعين.
ولو شاء الله لأنزل كتاباً واحداً، وجعل الناس أمة واحدة، ولكن اقتضت حكمته أن يكون التكامل في الرسالة تدريجياً، كالتكامل في الحضارة والرقي، فكل رسالة تعدل التي قبلها وتكملها، حتى جاءت رسالة محمد، في نهاية الكمال، لا يحتاج بعدها إلى شيء لسببين، أولهما أن طبيعة الرسالة المحمدية طبيعة مرنة قابلة للتطور في أحكامها الفرعية تبعاً لتطور العصور، فهي لذلك تبدو في كل عصر جديدة، ويتكشف منها جوانب ومعان لم تكن معروفة، حتى كأنما أنزلت لذلك العصر؛ والسبب الثاني طبيعة الحياة البشرية وميلها نحو الوحدة، منذ فجر الإسلام حتى اليوم، إذ أصبح الناس من حيث الاتصال كأنهم أبناء أسرة واحدة، تقال الكلمة في آخر الشرق فتسمع في آخر الغرب، وسهل تبليغ الرسالة، ولم تعد حاجة لتعدد الرسل بتعدد الأقوام
و (اعتقد) أن الوحي معناه نزول الملَك على الرسول، وهو غير الإلهام الروحاني الذي يحس به الشعراء والكتاب، وأن الوحي ليس كسبياً وإنما هو عطاء من الله لا ينال بالتحصيل، ولا يوصل إليه بالبحث والعلم والتفكير، لذلك لا يقال إن النبي مصلح عظيم، ولا شاعر ولا فيلسوف، لأن ذلك كله يختلف عن النبوة، وينحط عن مرتبتها انحطاطاً كبيراً، ويخالف العقيدة الإسلامية
و (اعتقد) أن الله أنزل على أربعة من رسله كتباً، فأنزل التوراة على موسى، والزبور على
داود، والإنجيل على عيسى، والقرآن على محمد صلى الله على الجميع، فبدل كل قوم كتابهم وحرَّفوه وبقي القرآن كما أنزل، لأن الله ضمن حفظه (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).
و (اعتقد) أن الله سيجمع الناس كلهم في يوم القيامة، فيعيد الحياة لمن مات، ويرد عليه الروح ولو فني وصار تراباً، ولو أحرق جسده وصار رماداً، ولو أكلته الوحوش أو تخطفته الطير، ثم يحاسبهم جميعاً على ما عملوا في الدنيا، فيكافئ المحسنين فيخلدهم في الجنة، ويعاقب المسيئين فيدخلهم النار
وأنه لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.
وأن من تاب قبل أن يموت محي ذنبه حتى كأنه لم يذنب، بشرط أن تكون التوبة مقرونة بترك الذنب، والعزم على عدم العودة إليه، والندم على الماضي، وهذه هي التوبة الصادقة التي تمحو الذنب، فإن عاد بعدها إلى الذنب، ثم تاب منه توبة صادقة غفر له، ولو كثرت ذنوبه حتى صارت مثل زبد البحر (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً)
أما من تاب من ذنب وهو لا يزال مقيماً عليه، أو يفكر في أن يعود اليه، فهذا كالمستهزئ به والعياذ بالله
و (اعتقد) أن كل شيء بقدر الله، وأن الله قسم للعبد سعادته وشقاءه، ورزقه وعمره فما كان لك سوف يأتيك على ضعفك، وما كان لغيرك لن تناله بقوتك، ولو بقي في عمرك يوم واحد لا يقتلك أهل الأرض ولو اجتمعوا عليك، وإذا جاء أجلك أدركك الموت ولو كنت في برج مشيَّد، رفعت الأقلام، وجفت الصحف، ولا رادَّ لما قضى الله، ولا دافع لمشيئته
والمسلم بعد ذلك، من يقر ويشهد بلسانه أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيم الصلاة ويؤديها على وجهها في أوقاتها محافظاً على فروضها وسننها، خاشعاً لله فيها، ويصوم رمضان إيماناً واحتساباً، ويؤدي زكاة ماله طيباً بها قلبه، ويحج البيت إن استطاع
ثم إنه لا يكذب ولا يغتاب ولا يشي ولا يؤذي أحداً ولا يظلمه، ويكون عفيف العين واليد والفرج، ساعياً إلى مكارم الأخلاق، آخذاً الحكمة من حيث وجدها، يحب لأخيه ما يحب لنفسه، مبتعداً عن الفحشاء والمنكر، يعاون على البر والتقوى، ولا يعاون على الإثم
والعدوان، ينكر المنكر بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان، ويؤدي حقوق المسلمين فيساعد ضعيفهم، ويمد فقيرهم، ويعود مريضهم، ويغض بصره عن نسائهم، ويحفظ لهم أعراضهم، ويعد كل شيخ في المسلمين أباً له، وكل شاب أخاً، وكل صبي ولداً، وكل فتاة بنتاً، وكل امرأة أختاً، ثم إنه يجتنب الخمر، ويدع الربا، ويخاف الشُّبَه كيلا تقوده إلى المحرمات، ولا يحوم حول الحمى حتى لا يقع فيه
ويريد بذلك وجه الله، مبتعداً عن حظ النفس ما استطاع الابتعاد، عالماً أنه بشر فيه غرائز لا يملك الانفكاك عنها، ولا يؤاخذه الله إلا بما ملك.
هذا هو المسلم الحق. . . فاللهم اجعلنا مسلمين حقا!
علي الطنطاوي
الفروق السيكلوجية بين الأفراد
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
إن ما أعنيه بالفروق السيكلوجية هي تلك الفروق العقلية والخلقية والمزاجية والجسمية الموجودة بين الأفراد. ومن السهل على المفكر العادي أن يدرك مظاهر تلك الفروق في تصرفات الأفراد وفي إنتاجهم الاجتماعي والعلمي. وليس موضوع اختلاف الأفراد السيكلوجي حديثاً في ذاته، فقد تناوله العلماء والفلاسفة بالبحث منذ قرون. ولكنه حديث بالنسبة لبحثه بالطرق العلمية والإحصائية، وتحديد تلك الفروق وتبويبها، ومعرفة أسبابها، وعزو ما هو وراثي منها للوراثة، وما هو بيئي للبيئة. وهذا النوع من البحث العلمي في الفروق السيكلوجية ظهر واحتل مكاناً بين فروع علم النفس في الربع الأخير من القرن الماضي وذلك بنمو علم النفس التجريبي. وهو يعرف الآن بعلم النفس الفردي في
وأقدم من عالج هذا الموضوع أفلاطون في جمهوريته، فإنه حين وضع نظام المدينة الفاضلة بناه على أساس الاختلاف السيكلوجي بين أفراد الجماعة الواحدة. وكان يرى أن (العدل الاجتماعي) يقضي بأن يقوم الفرد بالعمل الذي أُعد له بطبيعته، والذي تقوى على تحمله وتسويته طاقته العقلية، واستعداده الجسمي. وكانت نتيجة هذا المبدأ أن قسم أفلاطون سكان مدينته إلى طبقات ثلاث، فجعل فيها طبقة الزراع والصناع والتجار، وهؤلاء بطبيعتهم غير صالحين لأن يكونوا ضمن الطبقة الثانية طبقة الجنود المدافعين عن المدينة من الخارج والمحافظين على نظامها في الداخل. وفوق هاتين الطبقتين طبقة ثالثة قد وهبت من المزايا العقلية والخلقية ما لم توهب الطبقتان الأخريان وهذه هي طبقة الفلاسفة والحكام الذين لهم حق الإشراف على الإدارة والقضاء والتشريع. وقد أشار أفلاطون في الجمهورية إلى أن هذه الطبقة الأخيرة طبقة ممتازة بالفطرة. وأهم مميزاتها التفكير المنطقي المعنوي، والإدراك الفلسفي لحقائق الأشياء. ومن الغريب أن هذه الميزة التي يراها أفلاطون ضرورية لطبقة الفلاسفة هي التي يسميها بعض علماء النفس الحديثين الذكاء
وضع أفلاطون منهجاً لتربية هذه الطبقات الثلاث، ورأى أنه من العبث أن يضيع المجهود في تربية طبقة الزراع والصناع، لأن هذه الطبقة ليست بفطرتها مستعدة للنمو الثقافي
والترقي الفكري.
وإذاً فمن صالح هذه الطبقة - وصالح الجماعة أيضاً - أن تنصرف إلى نوع العمل المستعدة له، يعني الزراعة والصناعة؛ أما الطبقتان الأخريان فقد رأى العناية بتربيتهما من سن السابعة إلى سن العشرين.
وحينما يصل الشبان إلى هذه السن تكون قد ظهرت مواهبهم وقدراتهم للمشرفين على تربيتهم، فيختارون من بينهم النابغين منهم عقلياً وتفكيرياً ليواصلوا دراساتهم الثقافية وتستمر دراسات هؤلاء المختارين مدة عشر سنوات يعالجون فيها من الموضوعات كل ما ينمي فيهم القدرة على التعليل وفي نهاية عشر السنوات يُختار الصالح من هذه الطبقة ليكون مشرفاً إدارياً، بينما يستمر الأصلحون منهم خمس سنوات أخرى في دراسة الجدل والحوار المنطقي، وبذلك يكونون قد أُعِدُّوا لتحمل التبعة الكبرى، تبعة الحكم الرئيسي
ويمثل رأي أفلاطون الذي شرحناه هذا مذهب الوراثيين الذين يبالغون في أهمية الوراثة كعامل مرجح في تكوين الصفات العقلية والخلقية والجسمية للفرد، ويعزون للوراثة وحدها الفروق السيكلوجية بين الأفراد
ولسنا هنا في مقام انتقاد هذا الرأي الأفلاطوني من الناحية العلمية والسيكولوجية الحديثة، ولا في مقام شرح نقط الضعف في نظام الطبقات وتربيتها، تلك التربية التي أهملت عدداً كبيراً من المواهب الفردية والعناصر النافعة ضائعةً في طبقة الصناع والتجار والزراع وفي طبقة الجنود. ولكنه ضروري من الناحية التاريخية أن نشير إلى أن أفلاطون حاول أن تكون مراحل التربية وغاياتها في المدينة الفاضلة مبنية على أساس أن هناك فروقاً عقلية وجسدية بين أفرادها. ويقابل هذا في التربية الحديثة أن تكون المناهج الدراسية مختلفة باختلاف قوى التلاميذ العقلية واستعدادهم الطبيعي وميولهم الفطرية، وأن يكون التعليم المدرسي فردياً أكثر منه جميعاً
اتبع أرسطو مذهب أستاذه أفلاطون في قبول مبدأ الفروق السيكلوجية الفردية، ولكنه اختلف عنه في أن أهم هذه الفروق هي الفروق الجنسية.
فالمرأة عنده تختلف بطبيعتها عن الرجل من حيث استعدادها العقلي والجسمي والمزاجي والخلقي. ولذلك رأى أن يختلف نوع التربية التي تتلقاها عن تربية الرجل، وأن تكون
الغاية من تربيتها مختلفة عن الغاية من تربية الرجل. فلم يقرَّ ما ذهب إليه أفلاطون من أن الطبيعة جعلت المرأة مساوية للرجل وهيأتها للمشاركة في الجندية والسياسة. وزاد على ذلك أرسطو فحاول أن يحدد النمو البشري العقلي والجسمي وطبيعته، والعوامل التي تحدث الفروق السيكلوجية في مراحل هذا النمو. وهو يرى أن التربية ليست آلة يستطيع بها المربي أن يصوغ المربى كما يشاء، وأن يضعه في القالب الذي يريد، ولكن التربية وسيلة للتوجيه فقط، توجيه القوى الكامنة والاستعدادات السيكلوجية الفطرية في الأفراد توجيهاً إلى الناحية الصالحة، وتوجيهاً عن الناحية الفاسدة.
وهو يرجع الفروق السيكلوجية بين الأفراد عامة إلى ثلاثة عوامل رئيسية:
(1)
الطبيعة البشرية (2) العادة والتمرين (3) التعقل.
أما الطبيعية فهي وراثية توجد في الطفل منذ الولادة وهي كامنة في الفرد في جميع أطوار نموه. وأما العادة فهي أثر من آثار البيئة وهي التي تحدد اتجاه النمو الطبيعي والتطور الفردي.
وأما التعقل فهو الذي يتدخل في قوانين العادة فيهذب منها، ويبطل هذا ويحبذ ذلك.
ويدلنا مذهب أرسطو هذا على اعتداله، وأنه يأخذ بمبدأ تأثير كل من الوراثة والبيئة في إيجاد الفروق الفردية السيكلوجية. غير أنه يقول بأن فرداً لا يمكن تغييره وتحويره بحيث يعدو حدود طبيعته، لأن أي مؤثر تربيوي إنما يحدث أثره في الفرد ضمن قوى الفرد الطبيعية.
ويقرر أن الأفراد الذين يعوزهم الذكاء العقلي يعيشون طول حياتهم متخلفين عن غيرهم ممن منحوا هذا الذكاء مهما سلطت على الأولين من عوامل تربيوية قوية. وثمة نوع غير هذين النوعين من الأفراد وهم النابغون، وهم قلائل ولا يحتاجون لاستغلال نبوغهم إلا إلى قدر يسير من الدربة والتربية بالنسبة لغيرهم.
ونستنبط من مذهب أرسطو هذا أن الفرد بطبيعته مزود بقوى حسية وإدراكية محدودة، وأن التربية (العادة في نظره) هي التي تنمي هذه القوى وتعمل على أن تصل بها إلى مرحلة الكمال الممكن.
ولما كانت هذه القوى مختلفة عند الأفراد، وكان أثر التربية في كل فرد مختلفاً أيضاً كانت
النتيجة أن الأفراد مختلفون في تصرفاتهم وسلوكهم وإنتاجهم. وهذا ما يسميه علماء النفس الحديثون بالفروق الفردية السيكلوجية
كان اسكوراطس الخطيب اليوناني القدير معنياً بتعليم الخطباء وتمرينهم وتنشئتهم. وقد أدرك هو أيضاً كمعلم الفروق السيكلوجية بين من قام بإعدادهم من الطلبة لمهنة الخطابة واللسن.
وهو يقول في هذا الصدد (لقد أشرفت على إعداد معلمي الخطابة ومعلمي الألعاب البدنية كما لاحظتهم أثناء قيامهم بالتدريس ووصلت إلى نتيجة اقتنعت بها. وهي أنهم في مكنتهم أن يتقدموا بتلاميذهم، وأن يرتقوا بهم إلى درجة يصيرون فيها أقدر على استعمال أجسامهم وعقولهم من ذي قبل. ومهما يكن من الأمر فإنه ليس في استطاعة معلمي الخطابة، ولا معلمي الألعاب البدنية أن يخلقوا خطباء من أي أفراد يشاءون. نعم إن مجهود هؤلاء المعلمين ينتج إلى حد ما نتيجة نسبية، ولكنه لا يمكن أن ينتج هذا المجهود أقصى ما يمكن إلا إذا صادف من التلاميذ من جمع بين فضيلتين: الذكاء وقبول التدريب)
وإذا نظرنا إلى الذكاء وجدنا أنه عامل وراثي، أما التدريب فهو عامل بيئي، وإذاً فقد قال أسكوراطس بأثر عاملي البيئة والوراثة معاً
هكذا كان مذهب أسكوراطس الأثيني في الوقت الذي كان فيه التفكير اليوناني ينظر إلى الفرد من جميع نواحيه السيكلوجية: الناحية الجسمية، والناحية العقلية، والناحية الخلقية، والناحية الذوقية، وكان مجموع هذه النواحي يُكوِّن عند الرأي اليوناني ما يسمى بالشخصية، وكلما وجد تناسق وتناسب وانسجام بين هذه النواحي وبين أطوار نموها كانت الشخصية أقرب إلى الكمال
وينحو علم النفس الحديث هذا المنحى الآثيني، مع اختلاف في طريقة البحث والقياس. فللأفراد شخصيات مختلفة، واختلاف الشخصيات هذا معناه الفروق الفردية السيكلوجية، والشخصية وفقاً لعلم النفس الحديث يمكن تحليلها إلى عناصر أربعة: العنصر العقلي والعنصر الخلقي والعنصر الذوقي والعنصر الجسمي.
(للبحث بقية)
عبد العزيز عبد المجيد
رئيس شعبة اللغة العربية بمعاهد بخت الرضا التجريبية
بالسودان
الثقافة العسكرية وأناشيد الجيش
للأستاذ عبد اللطيف النشار
يا بعد ما بين القوة وبين التبجح!
وهل تعده قوياً ذلك الشكس الشرس الذي يخشى أن يوصم بالضعف فهو لا ينفك يهاهي ويباهي؟!
يا بعد ما بين الشجاعة وبين ذلك الهذر هذر المهاتر الخائف الواجف فهو لا يزال يتهدد ويتوعد حتى لا يقال إنه أذعن أو يوشك أن يذعن
كثر في هذه الأيام شعر الأناشيد العسكرية وقلما خلت أنشودة من ذكر الدم والفداء والاستشهاد والتضحية. فهل هذا الشعر قد وضع للإزعاج والتخويف، أو لبث الروح العسكرية القوية، تلك المتعلقة بالحياة التي تترنم بالحب والجمال وتفيض بالشوق والحنين.
دعت قيادة الجيش المرابط ووزارة الدفاع ووزارة الشؤون الاجتماعية سادتنا الشعراء إلى وضع ألحان حماسية ليأخذوا بنصيب في نشر الثقافة العسكرية. وكان شرفاً عظيماً أن تتجه هذه الهيئات السامية إلى فريق مثقف من الأمة فتدعوه إلى هذه المشاركة. ولكن شعراءنا كانوا أحوج إلى الثقافة العسكرية من جنود الجيش المرابط فخالوا أنه ما دامت الدعوة من هيئات حربية ولغرض عسكري ومن أجل الجنود فلا أقل من أن يكون الشعر عروقاً تتفجر وأشلاء تتبعثر وسلاحاً يتكسر!
كلا أيها السادة الشعراء، هذا أدل على الخوف منه إلى الشجاعة، وهذا النوع من الحماسة لا يشابههه إلا نوع آخر في الحب جعلتم فيه علامة العشق البكاء والانتحاب والتمرغ على الأبواب وذكر الدموع والأرق والسهاد. ولا حب في هذه الذلة ولا قوة في ذلك التبجح
أدب القوة!؟
نعم ونعيم عين وحباً وكرامة
ولكن ما هي القوة؟
شعر الحرب!؟
نعم ونعيم عين وحباً وكرامة
ولكن ما هو الحرب؟!
ليست الحروب جديدة في التاريخ العربي، ولا شعر الحماسة جديداً في لغتنا الفاتحة الظافرة فكونوا مجتهدين ولكم إمام، أو كونوا مبتكرين على شريطة الصدق في الإلهام؟
إن للجنود أناشيد في كل اللغات ولكن أناشيدهم حافلة بالحنين وبالشوق وبالتمدح بالأهل والوطن وبالغزل الرقيق، فهذا هو الشعر الذي يثقف الجنود ثقافة عسكرية. أما الألفاظ الدامية فلا يهديها الشعراء إلى الجنود كما لا يهدي النمر إلى هجر كما جاء في المثل.
(يا شباب النيل يا عماد الجيل)
مطلع جميل! ولكن ماذا يقال لشباب النيل وعماد الجليل؟
يقال إن أجمل امرأة لأقوى فارس. هكذا قيل في الشعر الحماسي وهكذا ينبغي أن يقال. أما كونوا الفداء، وأريقوا الدماء، ولا تهنوا في الدفاع عن اللواء، فهذا ما يعلمه شباب الجيل للشعراء لا ما يتعلمونه من الشعراء، وقد يكون الشعراء من عماد الجيل ومن شباب النيل ولكنهم عند ذلك لا يقولون بل يفعلون
وبعد فقد كان للنبي (ص) شعراء وكانوا يضعون الشعر الحماسي لفاتحي الفتوح وغالبي الغالبين وقاهري القاهرين فماذا قال شعراء النبي؟ قال حسان:
إن كنت فاعلة الذي أوعدتني
…
فنجوت منجى الحرث بن هشام
ترك الأحبة لا يدافع عنهم
…
ونجا برأس طمرَّة ولجام
فبهذه السخرية ظفر بفارس قائد فأحرجه فعاد إلى الجيش فاستشهد في الموقعة التالية
بهذه السخرية لا بالألفاظ الجوفاء حمل القائد الذي كان قد فر إلى أن يعود للرسول فيقول:
الله يعلم ما تركت قتالهم
…
حتى رموا فرسي بأشقر مزبد
وعلمت أني إن أقاتل مفرداً
…
أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي
ففررت منهم والأحبة فيهمو
…
طمعاً لهم بعقاب يوم مرصد
ولو أن حساناً قال يا شباب النيل يا عماد الجيل لتغير وجه التاريخ!
يا أساتذتي الشعراء، لا أستخف بالأناشيد التي تذاع إلا لأني أثق باستطاعتكم وضع أناشيد جدية لو اطلعتم على الأناشيد الحماسية في اللغات الأخرى أو رجعتم إلى الشعر الحماسي في لغتكم أو رجعتم إلى خيالكم الصادق ولباقتكم فعرفتم كيف ينبغي أن يقال للجندي وكيف ينبغي أن يقول الجندي، وماذا يخطر بباله وبماذا يشعر
أيحارب لأنه يريد أن يموت حباً في الموت فيقال له الفداء والدماء، أو يحارب لأنه يحب الحياة الكريمة؟ فإن يكن الموت ولابد (فلن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) أيحارب حباً في سفك الدماء أم ضناً بسلام بلده أن يعتدى عليه؛ فإن لم يكن بد من رد السهم إلى الرامية فان
قومي همو قتلوا أميم أخي
…
فإذا رميت أصابني سهمي
أيحارب لأنه مل الحياة أم لأنه يرجو أن ينتصر فيسعد في الحياة؟ زينوا ثمر النصر ولا تذكروا ثمنه (فمن خطب الحسناء لم يغله المهر) واذكروا ذلك الشعر الحماسي العربي الذي عماده الغزل، وذلك الشعر الحماسي الأوربي الذي عماده الخيال الصادق في تصوير نجوى النفس
هذا فيما يتعلق بالأناشيد وهي أدنى ما يراد منكم، فالعسكريون أقل حاجة إلى حماستكم من المدنيين إلى حسن تصويركم؛ فضعوا للمدنيين القصائد المسهبة في وصف الحياة العليا التي تتخيلونها والتي من أجلها نحمل ضرورات الحرب إن وقعت. صفوا الترف والنعيم
كان حسان شاعر النبي يقول:
نشربها صرفاً وممزوجة
…
ثم نغنى في بيوت الرخام
فهذا النعيم الذي يصفه هو الذي من أجله يدعو إلى الحرب فيطاع
وما آمركم بشيء أنا عنه بنجوة. أبدأ بنفسي. ولما كنت أومن بأن احتذاء المثل من أقوى أركان الفنون فسأبدأ بترجمة بعض الأناشيد الحربية التي كسبت بهت مواقع، وباختيار أناشيد حربية عربية كسبت بها مواقع، ثم أعرض نماذج من شعري الذي أدعو إليه. والى الملتقى على صحائف الرسالة.
عبد اللطيف النشار
جندي متطوع في الجيش المرابط
أنت عزائي.
. .!
للآنسة جميلة العلايلي
أيها الحاكم بغير لسان، والآمر بغير بيان، والمتحدث ليل نهار!
أيها المنذر الصارم، والعطوف الراحم، والمرشد في الحياة كشعاع علوي يهدي الحائر
والضال!
أيها الملاك النائم على عرش من عروش الطهر والبهاء!
أيها الهزار الغرد فوق أفنان من حديقة السعادة والهناء! أيتها النسمة الصافية التي تهب
عن الأرواح فتبعث فيها نشوة الأمل! أيتها الزهرة الندية التي تنفح عطراً يسكر الأرواح كأنه خمر الهناءة يشربها الثمل!
يا ملاكي المعبود، يا هزاري المنشود، يا نسمتي المنعشة، يا زهرتي المزركشة، يا حياتي
ورجائي، يا سعادتي وهنائي، أنت عزائي!
أنت أليفي الحبيب، يلازمني في مسيري ويسايرني في وحدتي. أنت سميري الأمين الذي
يحبوني العطف والرعاية في ثورتي وهدأتي! أنت عزائي الذي ينير لي الحياة كلما نشر الظلام ستاره على العالم فلا أضل السبيل. أنت المرفأ الأمين الذي ترسو عنده السفينة بعد أن تتخبط في ظلمات الموج وقد فقدت الربان والدليل
أنت المزنة الهاطلة تتنزل على الأرض القاحلة فتكسوها ببساط البهر والجمال. أنت
الروح الهفهافة تسكب دماء الحياة في قلب الزمن فيكيف الكون بالحسن والجمال.
يا جنتي وحياتي، يا قبلتي وصلاتي، يا أملي الحبيب، يا رجائي الغريب، يا سعادتي
وضيائي، يا حلمي وغنائي، أنت عزائي!
أيتها الشمس المشرقة في بهرة العمر وروعة النهار!
أيتها النفحة السارية تطبع على فم هذا الكون قبلة الأقمار!
أيتها النسمة الملائكية تهب على الأرض فيطفر الروض وتهزج الأزهار!
أيتها النغمة الخالدة التي تحيي الأمل وتوحي الفن والأشعار
يا شمسي العالية. . . يا نغمتي السارية. . . يا نسمتي الصافية. . . يا نفحتي الصادية. .
. يا مناط حنيني. . . يا باعث أنيني. . . أنت عزائي. . . يا قلب. . .
(المنصورة)
جميلة العلايلي
في الأدب الإنجليزي الحديث
د. هـ. لورنس
للأستاذ عبد الحميد حمدي
5 -
الرجل كابن ومحب
بدأ لورنس حياته الأدبية الصحيحة بمعالجة مشكلة من مشكلات العصر الحديث، ألا وهي موقف الرجل كابن ومحب، أو موقفه حيال عاطفتين: عاطفة البنوة وعاطفة الحب. وقد سبق أن عالج لورنس هذا الموضوع في أولى رواياته (الطاووس الأبيض) ثم عالجها بشكل أعمق في روايته (الأبناء والمحبون) ولم ينسها في قصصه القصيرة التي من أهمها (بنات القسيس) وأخيراً بحث فيها بتطويل وصراحة في كتابه عن اللاشعور. ولم يصل كاتب إنجليزي إلى ما وصل إليه لورنس من العمق والدقة في تحليل العلاقة بين الحبيب وحبيبته وبين الوالدين وأبنائهما أو بناتهما. ولا يجوز أن نعزو معالجة لورنس لموضوع واحد في كتب مختلفة إلى رغبته في التكرار أو إلى نقص في معينه، وإنما يجب أن نذكر دواماً أن لورنس كاتب يبشر بدين جديد وبآراء ومعتقدات لم تكن معروفة من قبل. فكان لزاماً عليه أن يعرض الفكرة ويكرر عرضها ويمثل لها بشخصيات متعددة بعد أن يضعها في ظروف مغايرة حتى ترسخ في أذهان قرائه ويؤمنون بها.
ويعتقد لورنس أن الطفل يولد وتولد معه غريزته الجنسية، ولكن لا ينبغي أن تظهر هذه الغريزة أو يبدأ عملها حتى يصل الطفل سناً معينة. وإن من الخير أن نقيم الحد الفاصل بين الولد والبنت في تلك السن المبكرة حتى نضمن عندنا رجولة كاملة وأنوثة مطلقة، وبدون ذلك لا تقوم للمجتمع قائمة. ويحدد لورنس الرجولة الكاملة بأنها هي التي تحدو صاحبها إلى تحقيق غرض سام في الحياة، غرض يرمي إلى بناء الكون وتوسيعه. أما الأنوثة الكاملة فهي التي تتطلب من صاحبتها أن تكون كتلة عواطف، تقودها في كل أعمالها، دون أن يكون للعقل سلطان عليها، ويصحب التغيرات الجسمية التي تعتري الولد أو البنت في دور البلوغ تغيرات من نوع آخر، أهمها تغير العلاقات. فبعد أن ظل الولد أعواماً طويلة لا يفكر إلا في والده أو والدته يبدأ في هذه السن بالتفكير فيمن ستكون شريكة
حياته. وبدل أن كانت علاقته قاصرة على أخوته وأخواته يبدأ يفكر في أصدقائه وصديقاته. ويعبر لورنس عن هذه السن بأنها ساعة دخول الغريب، وإنه من الأفضل أن نترك الغريب يدخل دون أن نحاول عرقلته أو الوقوف في سبيله. ويقصد لورنس من الغريب الحبيب أو الحبيبة. ويرى لورنس أن الوالدين في عصرنا هذا يبذلان قصارى جهدهما للوقوف في سبيل هذا الغريب وعرقلة مساعيه ظناً منهما أن في استطاعتهما احتكار حب الابن حتى لا يدعاه يفكر في أحد سواهما. فضلاً عن ذلك فإن حبهما الفياض لابنهما في تلك السن المبكرة يوقظ فيه غريزة كان يجب أن تكون نائمة في هذا الوقت ألا وهي الغريزة الجنسية، ويعتبر لورنس ذلك جريمة لا تغتفر يجنيها الوالدان على ابنهما. ثم يجيء دور البلوغ الذي يتطلب من الابن أن يكون حراً طليقاً يحب من يشاء ويصادق من يريد، فبدل أن يفعل ذلك يرى نفسه يرسف في أغلال حب ثقيل لا يستطيع منه فكاكاً، وبذلك يحرم من حبه للمرأة، ذلك الحب الذي لا تقوم للمجتمع قائمة بدونه
وكان الواجب على الوالدين أن يقطعا علاقتهما القديمة بولدهما بعد أن يصل إلى سن البلوغ كي يتركا له الفرصة لبدء علاقات جديدة غير علاقات الأبوة أو الأمومة. وليس هناك أخطر من أن يحاول الأب أو الأم أن ينصب من نفسه صديقاً لابنه.
والآن لندرس حالة البيئة الحديثة لنرى نتيجة إهمال الوالدين في تربية أبنائهما. فيرى لورنس أن المرأة في عصرنا هذا قد تبوأت مركزاً غير مركزها الذي خلقت من أجله فسيطرت على البيت بكل ما في هذه الكلمة من معنى. فهي التي تقود الرجل وترشده بعد أن كان راعيها وحاكمها، وهي لا تنظر إلى جنسها أي إلى العلاقة الجنسية سوى نظرتها إلى وسيلة للسيطرة على الرجل واستغلاله. وهي لا تعتبر الرجل سوى تابعاً لها أو خادمها المطيع، وتعتبره أحياناً مصدراً لإشباع عواطفها إذا ما عاودتها الرغبة في الرجوع إلى أنوثتها الأولى، وهذا عكس للأمور ووضعها في غير نصابها، وإن يكن له نتيجة فستكون هدم كيان المجتمع وتقويض بنائه. ثم زوال المدنية الحديثة واندثارها، تلك المدنية التي نفخر بها دواماً.
ويرى لورنس أن الواجب قطع تلك العلاقة القديمة بين الأم وابنها أو بين البنت وأبيها إذا ما وصلا إلى سن البلوغ. فقبيل هذه السن يجب أن نبعد الولد عن كل سيطرة نسوية،
كسيطرة الأم أو الأخت أو المربية. ويستحسن أن يوضع في رعاية رجل. وليس هناك أخطر من أن يدلل الأمهات أبنائهن بأن يلبسنهم ملابس البنات أو يعاملنهم معاملتهن، أو يتركنهم يزاولون ألعابهن لأن عاقبة ذلك تكون فقد رجولتهم أو عدم استكمالها. ويجب أن يكون لنا في الزنوج خير قدوة عندما نراهم يحتفلون بوصول الولد إلى سن البلوغ ودخوله دوراً جديداً من أدوار حياته، وهم باحتفالهم به إنما يشعرونه أنه انتقل إلى حياة جديدة لها أهميتها
وأول واجب للوالدين بعد وصول ابنهما إلى هذا الدور هو أن يحيطاه علماً بالغريزة الجنسية، وليست هذه المهمة باليسيرة إذ يلزم الأب أو الأم أن يكون حريصاً في كلامه في هذا الموضوع كل الحرص، ويعتقد لورنس أن أسوأ ما يفعله الوالدان هو أن يلجئا إلى المعلومات العلمية يفسران بها لولدهما ما خفي عنه من هذه الغريزة، لأن أمثال هذه المعلومات كفيلة أن تبغض الولد في هذه الغريزة مما يترك لديه أسوأ الأثر. كذلك يجب على الأم ألا تصور العلاقة الجنسية لابنتها في شكل روحي غامض. والى القارئ مثلاً من الأمثلة الخاطئة التي يتبعها بعض الأمهات مع بناتهن:
(والآن يا حبيبتي، تعرفين أن أباك رجل، وأني أحبه، وسوف يأتي الوقت الذي تقابلين فيه رجلاً تحبينه كما أحب أباك وبعد ذلك سوف تتزوجين منه وتعيشين معه عيشة سعيدة. ولذلك آمل أن تتزوجي من الرجل الذي سوف تشعرين أن قلبك يخفق نحوه بالحب. . .) ثم تقبل ابنتها وتستطرد قائلة: (وبعد زواجك ستحدث لك أشياء كثيرة لا علم لك بها يا حبيبتي، وستفكرين في أن يكون لك طفل جميل، وكذلك سيفعل زوجك، لأن ابنك سيكون ابنه أيضاً، أليس كذلك يا حبيبتي؟ وسيكون الطفل طفلكما معاً. . . أنت تعرفين ذلك تمام المعرفة، ولكنك لا تعرفين كيف يتم ذلك. سيأتي هذا الطفل من جسمك وسوف يخرج من جسمك كما خرجت أنت من جسمي من قبل. . . الخ) ويقاوم لورنس هذه الطريقة التي يتبعها معظم الأمهات في الإدلاء بالمعلومات الجنسية إلى بناتهن، ويرى أنها لا تغني ولا تشبع من جوع. وليست الطريقة العلمية بأحسن منها حالاً. فهي بتشريحها جسم الإنسان إلى جزيئاته الصغيرة تشوه جماله وتسيء إلى صاحبه، وتكون النتيجة أن يشب الولد وهو ينظر إلى هذه العلاقة نظرة خوف واشمئزاز.
هذا هو مجمل لرأي لورنس في العلاقة التي يجب أن تكون بين الوالدين وولدهما وبين الابن ومن سوف تشاركه حياته المستقبلية. والآن فلنحاول تطبيق ما قلنا على إحدى روايات لورنس المهمة، وهي (الأبناء والمحبون) فهذه الرواية هي ترجمة دقيقة لحياة لورنس، وحوادثها هي تجاربه الخاصة، وأشخاصها هم الأشخاص الذين احتك بهم في الجزء الأول من حياته وكان لهم أكبر الأثر في حياته المستقبلية. وفيما يلي الخطاب الذي أرفقه لورنس بالرواية بعد أن فرغ منها وأرسله إلى إدوارد جارنت أحد الناشرين، ومن هذا الخطاب نقرأ الرواية باختصار:
(تدور حوادث هذه الرواية حول امرأة من طبقة النبلاء أحبت عاملاً من طبقة الدهماء وتزوجت منه. ولكن كانت الشقة بين ثقافتيهما واسعة فلم تتفق حياتهما في نقطة واحدة، فانصرفت الزوجة عن زوجها وانصرف هو عنها. وبعد أن أعقبت منه أطفالها استعانت بهم لإشباع رغباتها الغريزية بعد أن فشل في ذلك زوجها. وكان من جراء حبها الجارف لأطفالها أن شبوا يفيضون حباً لها ويبادلونها عاطفة بعاطفة. ولكن أتى ذلك الوقت الذي وصل فيه الولد إلى سن الرجولة وشعر بالرغبة الملحة في داخلية نفسه نحو الحب، حب امرأة غريبة عنه، ولكن أتى له ذلك وأمه تملك عليه كل مشاعره وتقيده بتلك الأغلال التي لا يستطيع لها كسراً؟ ورغم ذلك فقد حاول الاتصال بامرأة، فشعر بالانقسام داخل جسمه لأن قلبه كان نهباً بين حبين، حبه لأمه وهو حب قوي جارف، وحبه للمرأة الأخرى، ذلك الحب الذي لا يستطيع أن يعيش بدونه، ولقد كان من جراء هذا الانقسام أن مات الولد الأكبر لأنه لم يحاول مقاومة أو دفاعاً. أما الابن الأصغر فقام للدفاع عنه تلك المرأة التي كان يريد أن يجعلها شريكة حياته، فقاتلت الأم ودافعت عن مركزها دفاعاً مجيداً. ولقد دام هذا النضال طويلاً ولكن النصر في النهاية كان للأم وباءت المرأة الأخرى بالفشل، وذلك لأن مركز الأم كان أمنع وأقوى من مركز المرأة، وحتى بعد أن ترك الأمر للابن أي الكفتين يرجح؛ عمد إلى كفة أمه فرجحها لصلة الدم التي تربطهما معاً، ولم يأبه للمرأة الأخرى التي تحطم قلبها وتكسرت آمالها. وفي النهاية تدرك الأم خطورة الدور الذي تلعبه وأثره السيئ في حياة أولادها فمرضت وأشرفت على الموت، ولكن لم يمنع هذا من أن يهجر الولد المرأة بتاتاً ليلازم أمه ويقوم بالعناية بها. وأخيراً تموت الأم وتكون النتيجة أن
يفقد الولد أمه وخطيبته في آن واحد: فلا هو أصاب حب أمه ولا هو أصاب حب المرأة)
هذا هو ملخص رواية (الأبناء والمحبون) كما كتبه لورنس بخط يده. والكتاب عبارة عن صورة دقيقة لحياة المناجم والمنجمين، وصورة أخرى لتلك المرأة التي وقفت ثقافتها ونبل أصلها حجر عثرة في سبيل الحياة الزوجية الصحيحة. ومن الصفحات الأولى للرواية نستطيع أن نحكم لأول وهلة أن هذه الزوجة هي على النقيض من زوجها في كل شيء، فهي امرأة مفكرة يروق لها البحث في الموضوعات المختلفة، ولها ولع شديد بالمناقشات والمجادلات وخاصة في المسائل الدينية والفلسفية والسياسية، وهذا أول سهم من سهام النقد التي يوجهها لورنس إلى المرأة الحديثة، فالمرأة في نظره لا يجب أن تعيش بعقلها بل بعواطفها وجسمها، أما التفكير فهذا من شأن الرجل وحده. فاهتمام المرأة يجب أن يركز إلى أسفل، وأما الرجل فهو الذي يوجه اهتمامه إلى أعلى، إلى الفكر. فالأم في هذه الرواية هي صورة مشوهة لامرأة أو هي صورة امرأة قد جردت من صفات أنوثتها واستعاضت عنها بصفات هي من شأن الرجل وحده، ولم يكفها ذلك بل عمدت إلى زوجها تحاول تغييره وخلقه من جديد خلقاً يتفق مع ما هي عليه من الشذوذ. لم ترضها رجولته ولم تعجبها حيوانيته، فأرادت أن تصقل من طبعه وتهذب من حواشيه وتحد من حيوانيته وتنتقص رجولته، فهدمت كيانه وهدمت نفسها معه، وبذلك لم يعد لها في الحياة مطمع ولا في العيش مأرب، اللهم إلا أن تعيش وتفني شبابها من أجل أطفالها، ولكنها لم تكن لتستسلم أو تقهر فبعد أن تكسرت آمالها، وتحطمت أمانيها، وانهارت خيالاتها تجولت إلى أول أطفالها بقلب يفيض حباً وعاطفة، وحملته بين ذراعيها، وتفرست في عينيه الزرقاوين الواسعتين، فشعرت بقلبها يكاد يقفز من بين جنبيها حباً وغراماً بطفلها، ثم أحست بذلك الرباط الذي كان يربطها بزوجها قد تمزق وانقطع، وأحست أن حبها لزوجها قد اندثر ولم يعد له أثر، وحل محله حب عميق فياض هو حبها لطفلها فقربته منها وضمته إلى صدرها وأخذته بين أحضانها
هذا هو شعورها بعد أن ولد أول طفل لها، فما كاد ثالث طفل يرى نور الحياة لأول مرة حتى كان زوجها في عالم النسيان. لم تعد تشعر قط بتلك الرغبة الغريزية التي كانت تدفعها سابقاً للاتصال بزوجها، لم تعد تحس بأن زوجها جزء متمم لها لا غنى عنه، لم يعد يهمها
في كثير أو قليل متى يحضر أو ماذا يفعل، لم تعد تتأثر أو تتألم إذا ما أصابته مصيبة أو حدث له حادث. أما الرجل فكانت حياته جحيما لا يطاق، كان يشعر بالرغبة إلى زوجته، لكن أنى له ذلك فدونه خرط القتاد. افتقد امرأته فما وجدها، مد يده نحوها فما عبأت به، توسل إليها فاحتقرته، شعر بالفراغ يعم قلبه فحاول ملأه فما استطاع، صار المنزل جحيمه فهجره، إلى الحانة يتناول فيها ما هو كفيل بأن ينسيه آلامه وأحزانه ويصرفه عن ذكرى تحطيم آماله، هجر المنزل وهجر زوجه وأولاده وعاش عيشة لا يكاد يحتملها مخلوق، أما هي فاستعاضت عن حب زوجها بحب ابنها بول، فأشبعت غرائزها، وملأت فراغ قلبها وسدت ذلك النقص الذي كانت تشعر به وهي إلى جوار زوجها ولم تكتف الأم بذلك بل سعت حتى جعلت ابنها يبادلها حباً بحب وعاطفة بعاطفة. فشعر نحو أمه بذلك الشعور الذي كان يجب أن يشعر به نحو المرأة التي ستكون شريكة حياته، وبذلك قيدته بسلاسل حديدية لا يستطيع معها أن يتصل بامرأة أخرى أو يبادلها الحب. هذه هي الأم الحديثة، أم القرن العشرين، الأم التي يفسد حبها لأبنائها حياتهم وينغص عليهم مستقبلهم ويحطم آمالهم وأمانيهم.
(يتبع)
عبد الحميد حمدي
مدرس بمدرسة شبرا الثانوية
التاريخ في سير أبطاله
مازيني
(رسول الحرية إلى قومه، المجاهد الذي أبلى في جهاده مثل
بلاء الأنبياء)
للأستاذ محمود الخفيف
- 3 -
ولكن حلاوة الجهاد ما لبثت أن أنسته مرارة الغربة، وإن النفوس الكبيرة لتتعزى بنبل غاياتها فيهما يصيبها في سبيل تلك الغايات، فتستعزب الألم وهو مر، ويحلو لها في سبيل النصر الجلاد؛ ويراد بها أن تذل فما يكسبها الإذلال إلا إباء الأبطال وحفاظ أولى القوة من الرجال؛ وما يزيدها العذاب والنكال إلا إصراراً على النضال وإمعاناً في الاستبسال، ولن تحول بينها وبين غايتها قوة حتى الموت، فإنها إن تزهق فقد تم لها بالاستشهاد أروع مواقف الجهاد. . .
ولقد كان مازيني من أولئك البواسل الميامين الذين تبعث الشدائد كامن قواتهم، وتوقظ المحن نوازع نفوسهم، حتى لكأن الشدائد والمحن من مستلزمات ذواتهم ومقومات أخلاقهم.
استقر مازيني في منفاه يتدبر فيما كان يعتلج في نفسه، وأخذ يتساءل ماذا بقي في بلاده من أثر الثورة التي هبت في فرنسا؟ لقد أحزنه قبل نفيه أن يرى فرنسا تطلق يد مترنيخ في إيطاليا فيبطش بها في سنة 1831 كما بطشت بها في سنة 1820، ويقضي في غير هوادة على ما انبعث من مظاهر العصيان في مودينا وبارما والولايات البابوية، وقد حزر ذلك الوزير النمسوي الملك الجديد الذي تربع على عرش فرنسا من أن يظهر أي عطف على مثل هاتيك الحركات الشعبية التي من شأنها أن تزلزل العروش إذا أطلق لها العنان، وأمن على هذا الرأي ذلك الملك الذي جعل المحافظة على عرشه قاعدة حكمه، وذاق الثوار في إيطاليا مرارة الخيبة والخذلان مرة ثانية.
أليس ذلك ما كان يخشاه مازيني؟ ألم يعب على الكاربوناري اعتمادهم على غيرهم؟ هاهي ذي الأيام تأتي مصدقة لما رأى، وإذاً فليس لإيطاليا بعد اليوم إذا أرادت النجاح أن تسير
على نهج الكاربوناري، وعليها أن تنتهج نهجاً جديداً يكون فيه صلاحها وفوزها
ولقد كانت حالة إيطاليا يومئذ تبعث على الأسى، فلم تكن أكثر من اسم جغرافي على حد تعبير مترنيخ، ففيها ولايات الشمال والوسط والجنوب، وفيها ولايات البابا؛ وفوق ذلك كانت ولاية لمبارديا خاضعة لحكم النمسا المباشر، على أن سلطان النمسا كان متغلغلاً في شبه الجزيرة جميعاً.
وكانت هذه الوحدات مستقلة بعضها عن بعض، حتى لقد وضعت حدوداً جمركية فيما بينها، فلم يك ثمة ما يشعر أهل إيطاليا بأنهم شعب، اللهم إلا شعورهم جميعاً بوطأة الحكم النمسوي الذي كان قوامه الرجعية الشديدة في شتى مظاهرها البغيضة من خنق للحريات جميعاً، إلى إهمال شائن للشؤون العمرانية والاقتصادية، وللتعليم والثقافة العامة، لأن هذه جميعاً كانت عند مترنيخ وأعوانه عناصر القوة التي لا يأمن معها أن تبعث الثورات من جديد في كل مكان.
وفكر مازيني في حال إيطاليا فرأى الظلام الكثيف يخيم عليها وهذا الظلام لا ريب مدعاة إلى اليأس والخوف، ولكن في قلوب غير قلبه؛ أما هو فقد كان يتلمس النور الباهر الذي لا يلبث أن يكتسح هاتيك الظلمات كلها - في شيئين: الإيمان والشباب، ومن هنا برزت إلى الوجود جمعيته الجديدة (إيطاليا الفتاة) أو قل بدأت رسالته إلى الجيل الجديد: رسالة الوحدة والحياة الحرة. . .
وتغلغل الإيمان في قلبه الكبير وأحس ما يحسه كل صاحب دعوة من حرارة ذلك السر الهائل الذي لا يعرف مستحيلاً أو يحفل برهبة، ورفع الفتى مشعله فوق رأسه ووضع روحه فوق كفه، ومشى يبدد ظلام اليأس وعلى محياه الأبلج نور الوطنية وصرامة الجهاد، وفي عينيه الباسمتين أشعة اليقين وبريق الأمل.
ولخص مازيني دعوته في كلمتين: الله والشعب، وراح يبشر بدينه الجديد في غير مبالاة بما يعترضه من الصعاب. ولقد جعل أساس كفاحه التضحية، فدعا حواريه وأنصاره إلى أن يتألموا حتى تمحص نفوسهم الآلام، وتقوى عزائمهم المحن، وتعلي مبادئهم ما يلاقونه في سبيلها من أنواع العذاب.
وعول على أن يبث النور في كل قلب، ويحيي بالحماسة كل نفس، ويجري أناشيد الوطنية
العذبة على كل لسان، حتى يتألف من الشعب كله قوة تهزأ بكل قوة، وتطفئ بالدم الغالي بريق الحديد ولهيب النار. وعنده أن كل حركة شعبية مصيرها إلى الفشل ما لم تقم على أساس من الوطنية الصحيحة المنبعثة من الأعماق، تلك الوطنية التي تحتقر أعراض الدنيا، لأنها متصلة بالسماء، والتي تضحي بالنفس في سبيل العقيدة، لأن قوام العقيدة الفداء.
وكان هو أكثر الناس إيماناً بوحدة إيطاليا، يوقن أن سوف يأتي اليوم الذي تتم فيه رسالته على يده هو أو على يد غيره من الأحرار. ولقد اتخذ من الشباب جنده وأعوانه، لأن قلوب الشباب بطهارتها وحرارتها أجدر بالإيمان وأسرع إلى البذل وأقوى على العذاب. قال في ذلك:(اجعلوا الشباب على رأس الجماهير الثائرة، فإنكم لا تعلمون مدى القوة الكامنة في تلك الأيدي الصغيرة، ولا مدى التأثير السحري الذي يكون لأصوات الشباب بين الجموع، ولسوف تجدون في الشباب رسل الدين الجديد). وعظمت ثقته بتلك القلوب الفتية حتى أنه كان لا يقبل عضواً في الجمعية من تزيد سنه على الأربعين، إلا في ظروف استثنائية حينما كان يتقدم إليه ذو منزلة، أو ذو سن كبيرة وقلب فتي.
ولئن تشبعت قلوب الشبان بمبادئ الوطنية والتضحية فسوف تتسرب منهم إلى سواهم؛ ولكن كثيراً من الصناع والتجار والفلاحين لن يشايعوهم إلا إذا كان إلى جانب الوطنية إصلاح يتناول شؤونهم؛ وعلى ذلك فقد جعل مازيني من مبادئ جماعته الإصلاح الاجتماعي في أوسع نطاقه وبذلك زاد مبادئها قوة ورسوخاً.
وكان يرى مازيني أن الحرب (هي القانون الأبدي بين السيدويين العبد الذي يريد أن يحطم الأغلال)، ولكنه كان يشير إلى الحرب غير النظامية لأنها الوسيلة الطبيعية للشعب الثائر في وجه القوة المنظمة، فما لمثل هذا الشعب الذي يعتمد على نفسه سبيل إلى الجيوش النظامية التي تكون بالضرورة من صنع الحكومات.
واستقر الغريب المنفي في مرسيليا يعمل في غربته من أجل وطنه، ويخرج إلى الوجود ما امتلأ به رأسه من الأفكار، وأحاط به أول الأمر خمسة من الشباب، أخرجوا مثله من وطنهم فصاروا حواريه في رسالته.
وما نجد في تاريخ الحركات الشعبية حركة بدأت على مثل هذه الصورة التي بدأت بها حركة (إيطاليا الفتاة)، فهؤلاء الخمسة الميامين، هؤلاء السابقون الأولون، وعلى رأسهم
زعيمهم، كانوا كل شيء؛ استأجروا داراً صغيرة وراحوا يعملون ليل نهار لتحقيق مبادئهم! أيكون في تاريخ الجهاد أغرب من أن يعتزم ستة من الفتيان يعوزهم المال والجاه توحيد شعب ممزق وتحريره من سلطان دولة عانية مسيطرة؟ ولكن الشباب إذا آمن لا يعرف المستحيل، فليشمر هؤلاء الأبطال عن سواعدهم وليسهروا الليالي في الكتابة ومراسلة من يريد أن ينضم إليهم حتى تكل أبصارهم فيناموا بعض ساعات ثم ينهضوا للعمل يحدوهم الأمل؛ وليوح إليهم زعيمهم بالصبر ويبث في قلوبهم الإيمان، فهذا أجدى عليهم وعلى حركتهم من الجاه والمال.
هكذا بدأ مازيني وحواريه، فسرعان ما انضم إليهم الانصار، واجتمع لهم بعض المال فأنشئوا صحيفة يذيعون بها آرائهم ومبادئهم. وشد ما فرحوا بهذا واستبشروا به! وكان مازيني يحرر أكثر أجزائها وحده فيبث فيها من روحه؛ وكان أصحابه يحتالون، وقد تكاثر عددهم وعدد مريديهم على تهريب تلك الصحيفة إلى إيطاليا كما كانوا يهربون إليها بين حين وآخر بعض المطبوعات الصغيرة التي توحي إلى القراء مبادئ الجمعية وتعلمهم دروس الوطنية.
وأقبل مازيني وحواريه على العمل، يزدادون نشاطاً وهمة كلما ازداد عدد أنصارهم. وانقضى عام فرأى الزعيم الشاب ما شرح صدره وملأ نفسه بما تمتلئ به نفس المؤمن من نشوة الظفر، فللجمعية مراكز في شمال إيطاليا ووسطها، وأعضاؤها يبلغون في إيطاليا وخارج إيطاليا مائة ألف أو يزيدون! وهذا نجاح جاء أكثر مما كان يتوقع.
وتقع عين مازيني على أسماء الأعضاء وأعمالهم في ثبت سرى فيسره ويثبت فؤاده أن يرى فيهم بعض النبلاء وبعض الضباط، حتى القساوسة يجد أسماءهم بين المجاهدين! وتطيب نفسه بذلك ويحلو له الجهاد وتلوح له بوارق الأمل فتسهل الصعب وتقرب البعيد.
وكان ممن انضموا إلى الجمعية رجل سوف يكون له في تاريخ وحدة إيطاليا وحريتها شأن عظيم، ذلك هو غاريبلدي المجاهد البطل والفدائي الأروع الذي جمعت حوله سجاياه العذبة وشجاعته الفائقة قلوب الرجال.
وراح الزعيم ينشر تعاليمه ويرسم خططه. استمع إليه كيف يقول لأنصاره: (اصعدوا الجبال واذهبوا إلى القرى وشاطروا العمال والفلاحين طعامهم المتواضع، وجالسوهم
وتحدثوا إليهم؛ وزوروا المصانع والصناع الذي أهملوا حتى اليوم. حدثوا هؤلاء عن حقوقهم وعن ذكريات ماضيهم وتقاليدهم ومفاخرهم السالفة وتجاربهم التي مرت، وعددوا لهم ما لا ينفد من أنواع الاضطهاد التي يجهلونها لأنهم لم يجدوا من يكشفها لهم).
بهذه الطريقة راح مازيني يرسل صوته إلى الأعماق ويملأ به الآفاق؛ ولقد تخرج معظم ذوي الشأن في المستقبل من رجال إيطاليا في جمعيته، فكان له بذلك شرف لن يتاح إلا لأفذاذ العظماء: شرف الخلق والتكوين، فما كانت إيطاليا الحديثة إلا من صنع يده. وإن تمت وحدتها على أيدٍ غيرها. وبذلك يعد مازيني من مكوني أوربا الحديثة، وهي منزلة لن يشاركه فيه إلا أمثال بسمارك ومن على شاكلتهما ممن تقرن أشخاصهم بحركات عامة توجه التاريخ وجهته في فترة من فتراته.
وكان ممن كاتبهم مازيني ليعاونوه: شارل ألبرت ملك ولاية بيدمنت؛ وكان ذلك بعد خروجه من إيطاليا ببضعة أشهر، وقد كان يعلم عن شارل بالأمس أنه من ذوي الآراء الحرة، إذ كان متصلاً بالكاربوناري وكان يعطف على ثورتهم التي هبت سنة 1821؛ ولكن مازيني كان مسرفاً في حسن ظنه به. وكيف كان يرجو المساعدة من ملك يتناول تاجه في الواقع من النمسا؟ ولئن كان شارل بالأمس نصير الحرية، فهو اليوم على عرشه يبغضها ويحذر منها، فلقد تجر إلى الثورة دعوة الداعين إليها، وما له حيلة إلى إجابتهم، والنمسا تلوح للبلاد بسيف الغلب. قال مازيني في خطابه (هناك يا مولاي طريق آخر إلى القوة والخلود العظيم، وحليف آخر أقوى وأسلم من النمسا أو فرنسا، وتاج أكثر لمعاناً وبهجة من تاج بيدمنت، تاج ينتظر الرجل الذي يجرؤ على أن يفكر فيه والذي يوجه حياته للحصول عليه. . . ألم تلق يا مولاي قط مثل لمحة النسر على إيطاليا هذه، إيطاليا التي تجملها بسمة الطبيعة، والتي يتوجها عشرون قرناً من الذكريات الجميلة، أرض العبقرية القوية بمنابعها التي لا تنفد والتي لا يعوزها إلا الغرض المشترك؛ المحاطة بحدود من المنعة بحيث لا تحتاج إلا إلى عزيمة وثيقة وبعض القلوب البواسل لحمايتها من العداء الخارجي. ضع نفسك على رأس الشعب، واكتب على رايتك: الاتحاد والحرية والاستقلال. حرر إيطاليا من البربرية وابن المستقبل وكن نابليون حرية إيطاليا. افعل ذلك نلتف حولك ونقدم حياتنا من أجلك ونجمع الولايات الصغيرة تحت علمك. إن نجاتك في حد سيفك، فأشهر السيف
واطرح الغمد، وتذكر أنك إن لم تفعل ذلك فسيفعله غيرك دونك ويوجهه ضدك).
في هذا الخطاب تتجلى حماسة الشاب المجاهد، وتتبين آماله، وتتضح نزعاته؛ وفيه قبس من وميض حماسته وفيض من حرارة إيمانه وقوة وجدانه، ولكنه لم يظفر من الملك برد، وكان جواب الحكومة أن أمرت بالقبض على مرسله إذا اجتاز الحدود الإيطالية.
على أن بيدمنت ما لبثت بعد سنتين أن امتلأت كما امتلأت الولايات الأخرى على نحو ما أسلفنا بأنصار مازيني، وفي نصرة الشعب له خير عوض عن معونة الملك.
وتسربت مبادئ الجمعية إلى جيش بيدمنت؛ وكان يذيعها فيه رافيني كبير أنصار مازيني وساعده الأيمن في جهاده، وأحكمت مؤامرة للقيام بثورة عن طريق الجيش؛ ولكن تلك المؤامرة اكتشفت وا أسفاه؛ وبطشت الحكومة بالمتآمرين؛ فقتلت عشرة من الضباط رمياً بالرصاص واثنين من المدنيين، فضلاً عمن أودعتهم السجون من الرجال، حيث أخذت الحكومة تنكل بهم ليعترفوا.
وكان رافيني ممن سجنوا، وخير في سجنه بين الاعتراف على شركائه والنجاة من الموت أو الإنكار والإعدام، فاختار الموت ولكن بيده هو، فانتحر في سجنه. ونمى خبر الفاجعة إلى مازيني فاشتد وقعها عليه، حتى لقد كانت من أعظم ما ناله من المحن؛ وتوزع الحزن قلبه حتى ما يفيق من الغم، ووهن جسمه واعتلت صحته كمداً على صاحبه الشهيد.
(يتبع)
الخفيف
الحب الطاهر
لمعالي الشيخ محمد رضا الشبيبي
أما لأسير في هواكَ سراحُ
…
وهل لتباريحِ الفؤادِ براحُ
أجل، سّلمتْك العاشقون قلوبها
…
وما فوْق تسليمِ القلوبِ سماح
إذا بدءوا يستعطفونك عاوَدوا
…
وإن بكرَوا يستطلعونك راحوا
هوُوا فاتَّقوْا بثَّ الغرام فأضمروا
…
فخانهمُ الصبرُ الجميل فباحوا
يحبون وخزَ النُّجلِ وهي صوارمٌ
…
وطعنَ القدودِ الهيفِ وهيَ رِماح
خليليَِّ ما أحلى الغرامَ سجيّةً
…
إذا كرَّمتْه عفةٌ وصلاح!
وما أخطر العشق الذي ليس دونه
…
على عاشقٍ يأتي الهناة جُناح!
يقولون: إتيانُ الكبائرِ جائزُ
…
وفعلُ الخطايا المنكرات مباح
أفي هذه الأخلاقِ للجنس نهضةٌ
…
وللبشر الآتين منه فلاح؟
يريدون للدنيا ضِماداً وإنهم
…
بجُثمانِ هذا الاجتماع جِراح
ويعتبرون الناسَ مرضى كأنهم
…
- وهم كيَّفوا داَء النفوس - صِحاح
ألا هِممٌ يكبحْن من شهواتهمْ
…
فينحطُّ مبْلٌ، أو يلين جِماحٌ
وهل فاضلٌ يرعى الفضيلة؟ إنها
…
خيالٌ سَيفْنى أو حِمىً سيباح
فقد عصفت بالمَكْرمات زعازعٌ
…
وعفَّت رُسومَ الأكرمين رياح
إذا أظلمتْ أخلاقنا وتجهَّمتْ
…
فهل نافعٌ أنَّ الوُجوهَ صِباح؟
محمد رضا الشبيبي
قولي معي.
. .
للأستاذ الحوماني
مَن ذا يقول معي: عينان ملؤهما
…
دمعٌ، هما غذتا عينيكِ بالحوَرِ
قولي معي: لم يذب قلبٌ شقيت به
…
إلا ليسقىَ ما تجنين من ثمر
أخليتُ عينيَّ من دمعٍ يمدُّهما
…
بالنور من فمكِ المحشوِّ بالدُّرر
وأنضرتْ فاكِ آصال شربتِ بها
…
روحاً تلظَّى به خداك في السحر
في عين حوَّاء صبحٌ ضرِّجت قبلى
…
عينيك بين يديه من دم الخَفَر
لا تجزعي وتلقَّيهنَّ باسمة
…
للطير يصدح غِرَّيداً على الشجر
كالشاعر الطفل يمشي في خميلته
…
وينشد الفجر حوّاماً على الغُدُر
قومي نكنْ مثل هذا الطير يجمعنا
…
حوض من الماء أو روض من الزهر
فلا نحاذرُ من وحش الفلا بشراً
…
ولا ينغصنا وحشٌ من البشر
الحوماني
اسلمي.
. .!
للأديب محمود السيد شعبان
اسْلَمِي يا نَبْعَ أشوا
…
قي ويا دُنيا خُلودِي!
وابسِمي تُفصِحْ لِيَ الأيا (م)
…
مُ عن سرِّ وُجودي
مهجتي تدْعوكِ. . . يا ذا
…
تي إلى وَكركِ عودي!
إنَّ في كفَّيْكِ أحلا
…
مي فصوني لي عهودي
وتَعاليْ!. . قبَلُ الحب (م)
…
تنادي شَفَتَيْنا!
وسَعِيرُ الشَّوقِ في الأج
…
ساد يدعوها إلينا!
إنْ نعِشْ لِلحبِّ يا صَف
…
وِي فلا لومَ علينا
إنه الكوْنُ الذي من
…
هـ إلى الدنيا أتيْنا!
وتعاليْ!. . . لا يُرَوِّع
…
كِ شقائِي يا فتاتِي!
فالهوى والطُّهْرُ والإي
…
مانُ نَبْعٌ في حَياتي
أو خُذيني أَنْسَ في دُن
…
ياكِ دُنيا زَفَراتي!
وتَعِشْ للحبِّ والأل
…
حانِ في ظِلَّكِ ذَاتي!
إنني في عالَمِ الحِر
…
مانِ قد عِشتُ شَقِيّا!
فاخلُقِي في باطني كو
…
ناً من الحبِِّ شَهِيّا
واسكُبي الأشواقَ والأل
…
حانَ في نفسي لأَحيا!
قَبْلما تذْوِي مُنى نف
…
سي وتقضى في يَدَّيا!
يا نشيدي!. . . ليتني كن
…
تُ لدُنياكِ نَشيدَا
أنا منْ ذِكرِكِ في أُنْ - سٍ وإن عشتُ وحيدا. .
لستُ أَنساكِ. . . ففي ظل
…
كِ قد كنت سعيدا!
ونَظَمْتُ الكوْنَ منْ
…
أعماقِ أنفاسي قَصِيدا!
(القاهرة)
محمود السيد شعبان
وحي صورة
للأديب مصطفى علي عبد الرحمن
ذكَّرتني ذلك الماضي السعيد
…
شعَّ في جناتِه نور الأماني
والهوى في مهدِهِ طِفلٌ وليدْ
…
هامَ في دنيا حنانٍ من جناني
ما رأى القسْوة أو ذل القيود
…
لا. ولو عَق جَناني وعصاني
كلما شبَّ نما فيه الجمود
…
وإذا بي منه في قيد الهوان
ذكرتني ذلك الروضَ النضيرْ
…
والذي أوحاه من شتى المعاني
وابتسامَ الزهر من حول الغدير
…
وطيور الأيك تشدو بالأغاني
كل شيءٍ كان من صفوٍ ونور
…
يغمُر القلب بنُعمى وَحنان
لم يعد للعين، والقلب الكسير
…
غير ذكرى من لظاها كم أُعاني
ذكرتني الأمسَ - والدنيا نعم
…
وصفاءٌ شامل - حلو المجاني
قد حسونا الحب واللقيا نديم
…
والهوى نشوان في نعمى التداني
في ليالٍ كنَّ في ظل الكروم
…
كم بعثن السحر في تلك المغاني
ذكريات تشعل الهم الأليم
…
كلما تخطر من آنٍ لآن
ذكرتني ليلةَ النيل الوديعْ
…
حيث غنّى لهوانا الشاطئان
وبنا الزورقُ يسري في خشوع
…
فوق موج ناعس الأجفان هان
بت أرعى ذلك الحسن البديعْ
…
يتجلى في افتتان وافتتان
طابت الأيام والعمرُ ربيعْ
…
هل يعود اليوم لي بعض الأماني
(إسكندرية)
مصطفى علي عبد الرحمن
أباريق الجمال.
. .
(إلى الناسج أردية الجمال من أضواء قلمه، إلى الزيات. . .)
للأديب أحمد عبد الرحمن عيسى
الأباريق حُفَّلٌ فابتهلها
…
وكن اليوم أول الشاربينا
إنما أنت في الحياة هباء
…
فلماذا تكون عبداً رهيناً. . .؟
أرقص الناي صاحبي أو فدعه
…
يتحطم على التراب مهينا!
سوف يمضي - وإن تلبث حينا -
…
إن طروباً محبباً أو حزينا!
سوف يمضي كما مضى النفَس العا
…
بر في روضة من الياسمينا
وستمضي. . . وما أخالك إلا
…
ومضة ألمعت من الدهر حينا
والسعادات في الأشعة غرقى
…
قد حباها الزمان عرضاً مصونا
هي بكر فكيف تحسب أني
…
قد تفيأت ظلها المجنونا!
وهي حِرْمٌ على العفاة فما لي
…
خلف هذا السراب أعدو سنينا
الأباريق حفل فدعينا
…
نتزود من الجمال دعينا
إنما نحن مهجة تتشاجَى
…
ونداء يرف حتى يبينا!
بِدَع الحسن صيرتنا شعاعاً
…
كابيَ اللون يستدر العيونا
(كلية اللغة)
أحمد عبد الرحمن عيسى
رسالة الفن
دراسات في الفن
الفن في حياتنا الاجتماعية
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
شاءت وزارة الشؤون الاجتماعية أن تتعرض للفن فأنشأت في نفسها إدارة للدعاية خصتها بأمور ستة: الأول نشر المبادئ الاجتماعية القويمة، والثاني الإشراف على برامج الإذاعة وترقيتها، والثالث تدعيم المسرح القومي والعمل على جعله وسيلة فعالة لتثقيف الشعب وإصلاحه، والرابع مراقبة الروايات والأفلام السينمائية والأغاني الشعبية، والخامس الإشراف على تنظيم المهرجانات والأعياد القومية والموالد بما يحقق استفادة الجماهير منها من الوجهتين الاجتماعية والاقتصادية، والسادس تنفيذ القوانين واللوائح الخاصة بمحال دور التسلية. . . وهذه الأمور الستة شديدة الصلة بالفن، وهذا ما يدعوني إلى إنعام النظر فيها محاولاً أن أجد الطريق العملي إلى تحقيقها.
والمسألة فيما يخيل إلى دائرة. . . ذلك أننا نعرف أن الفن هو ثمرة الحياة الاجتماعية، فكما تكون الأمة يكون فنها، وأمتنا كما هو ملحوظ في حاجة إلى إصلاح اجتماعي، فإذا حاولنا أن نصلحها بفنها لم نفعل شيئاً، لأن فنها منها وما هو منها لا يمكن أن يصلحها. إنما هناك رجال سبقوا عصرهم وهؤلاء وحدهم هم الذين يستطيعون أن يؤثروا في مواطنيهم لو أن فرصة العمل أتيحت لهم، وفرصة العمل لا تتاح لهؤلاء عادة في سهولة لأن مواطنيهم متأخرون عنهم فهم لا يتذوقونهم كما يتذوقون غيرهم من الفنانين والمفكرين الغارقين في هذا العصر الضال، فأول ما يجب علينا إذن هو البحث عن هؤلاء الرجال، وإلقاء مقاليد الإصلاح بين أيديهم. . .
ونحن إذا استرجعنا هذه الأهداف الستة التي تريد وزارة الشؤون الاجتماعية أن تصل إليها وفكرنا فيمن يصلح لقيادة الشعب لها. . . رأينا الهدف الأول هو نشر المبادئ الاجتماعية القويمة، ولعل هذا يتم بإنشاء مجلس أعلى للشؤون الاجتماعية يضم كل من عرفت مصر أنهم يهتمون بشؤونها الاجتماعية اهتماماً حقيقياً لا اهتماماً زائفاً، ويكون على رأس هؤلاء
جميعاً صاحب السعادة عبد العزيز فهمي باشا. . . فهو الزعيم المصري الذي آمن بحق الوطن حينما لم يكن يؤمن به إلا نفر قليل جداً من أبناء الوطن، وهو الذي سبق كل الزعماء في تقدير القسط الصالح من سيادة الشعب وقتما كان كل الزعماء يريدون للشعب سلطة فضفاضة وهو لم يزل طفلاً ناشئاً. . . وهو الرجل الذي لو أراد أن يعيش متنقلاً بين الكونتنتال ومينا هاوس وسان استفانو لفعل، ولكنه على الرغم من جهل الجماهير لفضله يفضل دائماً أن يقترب من الجماهير، ويختار جمهوره الأقرب إليه فهو يلزم (كفر المصيلحة) قريته التي نبت فيها والتي وهبها كل الفراغ من وقته، والتي ظل فيها يكافح الجهل حتى محا منها الأمية محواً، ويكافح الفقر حتى لم يعد من أبنائها متعطل ولا متسكع، ويكافح المرض حتى أصبح أكثر أهلها من هواة الألعاب الرياضية وهم يقيمون فيها المسابقات. . . هذا الرجل وغيره من رؤوس الريف العاملين المجربين هم الذين يعرفون ما هي السبيل إلى نشر المبادئ الاجتماعية القويمة، وليشترك معه الكتاب والمفكرون والمجاهدون الذين لهم ماض بين الفقر والجهل والمرض. . . أولئك الذين خالطوا الناس وعرفوا أوجاعهم، والذين أهينوا وعذبوا وسجنوا وجاعوا وتألموا. . . أبناء الشعب، ونبت الطين المصري. . . من يهمهم إصلاح الحياة في مصر لتصلح حياتهم هم أنفسهم، ولترتاح ضمائرهم. . . أما الإذاعة فتنقسم إلى قسمين: أولهما قسم الأغاني والموسيقى، وثانيهما قسم الأحاديث والمحاضرات والتمثيل. وقسم الأغاني والموسيقى لا يمكن أن يرقى إلا إذا أشرف عليه رجل موسيقي، وهو اليوم ملقى بين يدي مصطفى بك رضا الموظف بوزارة الأوقاف، وهو رجل من أبناء الذوات تعلم العزف على القانون كما يتعلم أبناء الذوات وبنات الذوات العزف على البيانو، فهو عندهم وعندهن زينة وأبهة. . . هذا الرجل يجب أن يبعد عن محطة الإذاعة وعن المعهد الملكي للموسيقى العربية ليحل محله واحد ممن كافحوا الحياة في سبيل الفن، وممن بذلوا للفن حياتهم؛ وأنا، ومن يعرفون لا يشكون في أن مثل زكريا أحمد هو أول هؤلاء فقد كان مقرئاً للقرآن كما كان من منشدي القصائد ومرتلي مولد النبي، ثم إنه من ملحني التخت له أدوار وطقاطيق وموشحات لا يحصى عددها وهو بعد ذلك من ملحني المسرح والسينما أيضاً. . . وليس في مصر من جمع هذه المميزات على نجاح مشهود وتفوق ظاهر غير زكريا، فكيف يبعد رجل كهذا عن الإشراف على
ترقية الأغاني والموسيقى في مصر؟
ويجيء بعد ذلك قسم الأحاديث والخطابة والروايات، ولابد أن يكون المشرف على هذا القسم ممن سبق لهم أن تحدثوا إلى الشعب وأن عرفوا ما هي الأحاديث التي تؤثر فيه وتخلبه، وكيف يمكن أن يقاد وكيف يمكن أن يُهدى.
أما تدعيم المسرح فلا يمكن أن يكون إلا بتحريره، وتحريره لا يمكن أن يكون إلا بتشجيعه، وتشجيعه لا يمكن أن يكون إلا بالمال يوزع على الفرق الأهلية، فيكون للريحاني نصيب، ويكون ليوسف وهبي نصيب، ولفاطمة رشدي نصيب. . . وقد تستجد فرق أخرى تنافس هذه، ولا ريب أن الروح ستدب من جديد إلى المسرح المصري الذي قتل حين أظله (الميري) بظله. . . إن الفرقة القومية تشبه جريدة الوقائع الرسمية والمجمع الملكي للغة العربية. . . فكم من الناس يكترثون لهذه الجريدة وهذا المجمع؟ وما مدى تأثير كل منهما في الحياة المصرية؟ وبم يشعر الناس لو أنهما ألغيا؟ هل يحس أحد بأن الحياة المصرية قد نقصت شيئاً؟
وأما مراقبة الأفلام والروايات السينمائية فلابد لها من خطة خاصة أيضاً. . . لابد أن يعهد بالإشراف عليها إلى هيئة لا إلى فرد فهي تؤثر في الجمهور من عدة نواح مختلفة، وهي شديدة الخطر على النشء، فإذا لم تكن خاضعة لرقابة صالحة يقوم بها نفر ممن يغارون على وطنهم وأهلهم فإنها من غير شك ستجرف مصر إلى هاوية ليس لنا قبل بالتردي فيها. . . هذا إلى ما يكون في روايات السينما أحياناً من مظاهر التعصب الغربي ضد الشرق عامة، وضد العرب خاصة. . . والروايات التي تنحو هذا النحو يقبلها الغرب لأنها ترضي كبرياءه ولأنها تنم عن ألوان من الكفاح اصطنعها الغرب ضد الشرق وانتصر فيها. . . ولكن هذه الروايات نفسها لا يصح أن تعرض في بلد شرقي لأن عرضها فيه إهانة له ولأنها تربي الصغار على كراهية الشرق وعبادة الغرب بينما هم شرقيون.
لابد لنا من عالم نفساني اجتماعي يشاهد هذه الأفلام قبل عرضها ليحكم عليها وليقرر أنها تقربنا في المثل العليا التي نحب أن نحققها فيبيح عرضها أو أنها تحيد بنا إلى مثل سفلى لا يصح أن نتدلى إليها فيمنع عرضها، ولابد إلى جانب هذا من رجل غيور على التقاليد والنظم الشرقية غيرة صحيحة، ولابد إلى جانب هذا وذاك من مرب يعرف مدى ما تؤثر
هذه الروايات في نفوس الصغار، وفي صغار النفوس.
وتجيء أخيراً المهرجانات والأعياد والموالد، وهذه هي معضلة المعضلات. . . فكم من أمة حكمت مصر، وكم من حضارة ألمت بها، وكم من دين غزاها، وكم أريد بها أن تكون على هوى من أراد فلم تكن إلا ما أرادت بها طبيعتها فنفضت عن نفسها كل ما حاول الجبابرة أن يصبغوها به من ألوان الحياة، ولم تستبق من هذه الأصباغ إلا صبغتين اثنتين هما صبغة الفراعنة وصبغة الفاطميين. أما الفراعنة فلا يزال في مصر من مخلفاتهم هذه الآثار القائمة من الصخر والحجر، وهذه اللغة التي يتكلم بها بعض أهل النوبة، وهذا التقويم الذي يؤقت به المصريون الزراعة، وهذه العواطف التي لا تزال تختلج في نفوس المصريين اليوم بالمنطق نفسه الذي كانت تختلج به في نفوس المصريين من أقدم العصور والتي نحب بها ما كان يحبه أجدادنا ونكره بها ما كانوا يكرهون، فنحن لا نزال نحب النيل ونحتفل بفيضانه كما كانوا يفعلون، ونحن لا نزال نحب الجاموس الذي يساعدنا في فلاحة الأرض كما عبدوا العجل أبيس، ونحن لا نزال نكره الهجرة من بلادنا مهما قست علينا الحياة فيها كما كانوا يكرهون هم الهجرة من بلادهم مع أننا اليوم مسلمون، ومع أن الإسلام يمقت الذين يتشبثون بأرض يستضعفون فيها. وفينا كذلك من تفكيرهم هذه القدرة العجيبة على الاستعاضة بالخيال عن الحقيقة والأمر الواقع، ولعلنا الشعب الوحيد الذي يرضى اليوم أن تلاقيه ولا تغديه، كما أن فينا من أخلاقهم (فرعنة) تجري في عروقنا مع الدم، فالواحد منا إما فرعون يتفرعن على من هو دونه، وإما عبد لكل فرعون ممن هم فوقه رؤساء وحكاماً. وأما الفاطميون فلا تزال مصر تحتفظ بكل ما أقاموه فيها من دعائم حكمهم، فهذه الأضرحة التي تملأ القاهرة وغيرها من مدن مصر وقراها، وهذه الموالد التي لا يزال المصريون يجرون وراءها من القاهرة إلى دسوق إلى طنطن إلى دمنهور، وهذه الخرافات العجيبة المتأصلة في أذهان الناس والتي تخالط عقائدهم من دينية ودنيوية والتي يستقونها من القصص الفاطمي المتفشي بينهم، ومن الكتب المدسوسة عليهم باسم الإسلام والإسلام منها بريء. وهذا التشاغل عن الحياة، وهذه القناعة بخيرات الأرض إذا جادت الأرض بالخيرات. . . هذا وذاك باقيان في الحياة المصرية إلى اليوم من أثر الفراعنة ومن أثر الفاطميين، حتى الدين تأثر بالفراعنة والفاطميين، فالإسلام الذي في نفوس العامة من
المصريين إسلام فاطمي، والمسيحية التي في نفوس العامة منهم مسيحية فرعونية. . فالمسلمون من المصريين يفكرون في أهل البيت أكثر مما يفكرون في الله، ويستنجدون بالحسين والسيدة زينب أكثر مما يستنجدون بالله الواحد الأحد خالق الحسين والسيدة زينب وجدهما عليه الصلاة والسلام، وهم يقرؤون قصص السيد البدوي ومناقبه وأحاديث أكلاته ومواقعه أكثر مما يقرؤون القرآن وتاريخ النبي. والمسيحيون المصريون فرعنوا مسيحيتهم هم أيضاً؛ فهم يسمون أنفسهم بأسماء فرعونية مع أن الفرعونية وثنية في رأي المسيحية، ثم إنهم لا يزالون يتفننون في الحزن على موتاهم تفنناً عجيباً لم يكن يحسنه في الشعوب الغابرة أحد إلا قدماء المصريين، ويحسنونه هم اليوم، مع أن المسيحية إيمان مطلق بإرادة الله ورضا مطلق بمشيئته. . . فلماذا انطبعت الحياة المصرية بهذين الطابعين وحدهما. . .؟ ولماذا استطاع هذان الطابعان أن يغالبا الزمن في مصر وأن يبقيا فيها على مر العصور دون غيرهما مما كان يصح أن يؤثر في الحياة المصرية وأن يطبعها بطابعه. لابد أن في الأمر سراً. والسر هو أن الفراعنة والفاطميين أنشئوا دولتيهم على أساس من الدعاية والفن، وقد راعوا في فنونهم أن توافق الروح المصرية، وقد عرفوا أن مصر أرض زراعية، وأن هذه الأرض الزراعية تستذل أهلها بخيراتها، وأنه إذا توفر الخير لأهلها طابت لهم الحياة فيها فلم يعودوا يفكرون في شيء إلا اللهو، فشغلوهم بأنواع من اللهو، كما شغلوهم بأنواع من الاسترقاق خيلوا إليهم أنها أصل خيرهم، فحملوهم على عبادة النيل، وعبادة الحكام، وعبادة العجول، وأولياء الله الصالحين واختلقوا لهم ألواناً من البطولة هي ألوان الآكل والشرب. . .
ولم يكن الفراعنة مجانين ولا كان الفرعون منهم يصدق أنه إله لأنه كان يعرف أنه ضعيف، ولم يكن الخليفة الفاطمي سخيفاً ولم يكن يصدق أن السيد البدوي يأكل بقرة وكبشاً ومائة دجاجة وألف عصفور. . . وإنما كانت هذه هي السياسة التي قام عليها حكم الفراعنة وحكم الفاطميين. . . ونحن اليوم نجتاز ظرفاً جديداً من ظروف الحياة ثبت فيه أن الزراعة لم تعد تصلح أن تكون أساساً لحياة راقية في أمة ناهضة، وثبت فيه أن العلم والحرية أساسان للرقي والنهوض، لذلك يجب أن تتبدل هذه الأسس التي خلفها الفراعنة والتي ثبتها الفاطميون، وليس يستطيع هذا إلا فنانون مبتدعون يخلقون للمصريين المثل
العليا للبطولة الجديدة، يستقونها من الإسلام الصحيح، ومن تاريخ النبي وعمر وصلاح الدين وأولئك الأبطال المسلمين. . . وليس يتأتى هذا إلا لفنانين عاشوا في الريف وعاشوا في المدن، وخالطوا البيئة الزراعية والبيئة الصناعية، وتمكنوا من الحياة المصرية الناعسة وتحرقوا شوقاً لحياة مصرية جديدة صاخبة حية. . . تنهض على أساس مصري إسلامي لا على أساس مترجم أو مسروق. . . لابد أن تعطل موالد الأكالين والدجالين وأن تحيا موالد الأبطال الحقيقيين. . لابد من رجعة إلى النور. . . بلسان المصريين. . . وأقدر الفنانين على هذا هم: بيرم التونسي وعبد السلام شهاب وبديع خيري. . على أن يعاونهم مؤرخون.
أما تنفيذ اللوائح فمن شأن رجال القانون.
عزيز أحمد فهمي
رسالة العلم
لحظات الإلهام
في تاريخ العلم
بقلم مريون فلورنس لانسنغ
الريح والتيار
مضت مئات كثيرة من السنين قبل أن يحدث الحادث التالي العظيم: حدث عندما صار للإنسان قدرة حقيقية على الاختراع أن رجلاً امتاز عن معاصريه امتيازاً عظيماً في رجحان العقل وحدة الذكاء قد لاحظ سرعة التيار في مجرى الماء وهو يكتسح كل شيء في سبيله، فوضع به عجلة بحيث يمكن أن تديرها قوة الماء، ثم جعل حول هذه العجلة ما يشبه الزعانف لتكون كمجاذيف السفينة في تلقيها ضغط الماء.
لما استطاع الإنسان أن يجعل قوة الماء الجاري تدير له العجلة واستطاع أن يربط هذه العجلة من مركزها بتدبير خاص يمكنه من رفع الماء بواسطة الدلاء - لما استطاع الإنسان ذلك انتصر انتصاراً استحق أن تحييه من أجله الأجيال لأنه بذلك قد تمكن من صنع آلة تدور من نفسها وتخطى الدور الذي يمكن فيه استخدام الآلة التي يجب أن يزودها بقوة الدفع من عنده، كما تجاوز أيضاً نظرية الروافع التي احتاج في تطبيقها إلى جزء من قوته يضاف إليه القوة التي مصدرها قانون الآلة، أما فيما يتعلق بالقوة التي يديرها الماء فإنه قد اخترع منها آلة يديرها الماء نفسه لرفع الماء ويقتصر جهد الإنسان فيها على الوقوف بجانبها ومراقبتها.
من تلك اللحظة بدأ عهد الآلات التي تدور من تلقاء نفسها، ومن تلك اللحظة رفع الإنسان نفسه عن مستوى الكادح الذي تتوقف نتائج عمله على مقدار جهده أو جهد ماشيته، وأضاف إلى جهد الإنسان أو الحيوان عنصراً طبيعياً هو قوة ضغط الماء.
في ذلك اليوم المجيد بدأ الإنسان يتحرر من رق العمل، وبدأ يسلك طريقاً طويلاً يستعين فيه بجهده الذهني بدلاً من الجهد العضلي.
الهواء ضد الماء
منذ خمسمائة عام كان يقيم في قرية الكماد، وهي قرية صغيرة في شمال هولاندا، رجل اسمه فلورنت الكماد وهو غني من أهل تلك المدينة يشتغل بالحدادة فضلاً عن كونه مزارعاً موسراً يملك أرضاً واسعة.
ولم تكن الزراعة من الأعمال السهلة في ذلك العهد بهولاندا وما جاورها من الأراضي المنخفضة ولم تكن الحياة فيها سهلة هناك منذ العهد الذي نزل فيه السكسونيون والهمج من الغريزيان إلى تلك الأراضي ذات المستنقعات التي أطلقوا عليها اسم الأراضي المنخفضة، وأرادوا أن يتخذوا منها وطناً.
وربما كانت القوة والعزيمة اللتان امتاز بهما أهل هذه البلاد في تاريخهم كله - ربما كانت هذه القوة وليدة اضطرارهم للمحاربة الدائمة ضد الريح وضد الماء اللذين تتوقف على محاربتهما حياة هذه البلدة الصغيرة. وما كان في وسع شعب غير جريء وغير مثابر أن يستولي على أرض رملية أنهارها دائمة الفيضان وبحرها دائم الطغيان فيجعل ذلك الشعب منها بلاداً زراعية خصبة.
ويعلم كل إنسان قصة المرافئ الهولاندية وهي تلك الحواجز المنيعة المصنوعة من الأحجار والتي مهمتها منع البحر من الطغيان على الأرض التي ينخفض جزء كبير من شاطئها عن مستواه.
بنى الكبريون والغريزان هذه المرافئ حين عسكروا على أكثر أجزائها ارتفاعاً وقاية لأنفسهم من الماء. وزاد أهل الأجيال التالية من تلك الحواجز إلى أن جاء عهد فلورنت الكماد فأصبحت الأنهار والبحر تحت نوع من الرقابة يمكن للمقيم بالبلاد من الاطمئنان على السلامة والراحة عند الشاطئ المحصن.
ولكن بينما البحر محصور كانت الأنهار لا تزال تفيض على الشاطئين فتحدث خطاً طويلاً من مستنقعات دائمة، فبدلاً من أن يكون على الشاطئين مزارع خضراء وحقول خصبة تنبت الحب كان حولها مستنقعات واسعة كثيرة السبخ. وكما كانت مصر في عهد الفراعنة تشكو من قلة الماء، فكذلك كانت هولاندا في بداية تاريخها تشكو من كثرة ما يغمرها من الماء.
ولم يكن فلورنت دائم الإقامة في قريته الصغيرة فقد كان يسافر من أجل عمله ولا تقتصر
رحلاته على زيارة المدن الهولاندية الأخرى بل كان يزور باريس وما دونها من المدن جنوباً في الأقاليم الزراعية الغنية التي تمتد وسط أوربا. رأي ثراء تلك البلاد وفكر في أطيانه ذات المستنقعات التي يمكن أن تصير خصبة أيضاً لو أنه جفف ما فيها من الماء.
وكان قد سمع في باريس من سائح أنه قد ظهر اختراع حديث في بوهميا حيث أنشأ رجل عجلة تدار بواسطة الهواء وتستخدم في امتصاص المياه من الآبار. وكان الكماد ميكانيكياً عملياً فعرف كيف يمكن امتصاص الماء فوق الأرض. وكان يستعمل في ضيعته مصاصات للماء غير متقنة الصنع تكلف عناء كبيراً في العمل ولا تمتص إلا القليل من الماء، لأن المصاصات التي تستعمل باليد لتفريغ مستنقعات طاغية مما يسيل من مجرى النهر لا تكاد تفضل في عملها بعض ألاعيب الصبيان. ولم يكن في هولاندا في القرن الخامس عشر جيش من الرقيق يستخدم في مستنقعاتها الواسعة ليلاً ونهاراً ليحارب طغيان الماء.
ولو أن رجلاً آخر كان في مكان الكماد لجاز أن يسخر بفكرة استخدام الريح لهذه الغاية، ولكنه كان هولاندياً يألف ما يألفه المتصلة حياتهم بالسفن وبالمياه، وقد عرف في طفولته كيف ينزع شراع سفينة ويقيمه في مستنقع في الأرض ليساعد بواسطة الريح على كسح الماء. وكان ملاحاً فهو يعرف حق المعرفة قوة الريح. ولكن الفكرة التي كانت جديدة هي أن تدير الريح عجلة وأن تدير هذه العجلة مصاصة.
ولو أن رجلاً آخر في موضع هذا الرجل وكان أقل ذكاء لرأى الفكرة مستحيلة. ولو أن الأمر الذي يعنيه كان أقل أهمية لرأى أسهل الأمرين أن يستمر امتصاص الماء بواسطة العمل اليدوي القديم أو بإدارة ساقية يجرها حيوان. لكن بالنسبة لهذا الرجل فإنه لا الإنسان ولا الحيوان يقوى على مص الماء من أطيانه الواسعة، وهو يعتقد أنها لو صُفِّيتْ من الماء لصار في وسعه أن يجعل كل جزء منها في مثل خصوبة المزارع الفرنسية.
ولما عاد الكماد من باريس إلى وطنه لم يقل شيئاً عن هذه الآلة الجديدة التي سمع عنها لأنه عرف أن جيرانه الهادئين المجردين من الخيال سيسخرون من الهواء الذي يمتص الماء، ولكنه عكف على صنع ألعوبة تمثل عجلة فوقها أكثر من شراع، وذلك لكي يجرب بها الاختراع.
وقد أمضى زمناً ليس بالقليل في وضع كل شراع بالزاوية التي تناسبه، ولكنه أخيراً صنع طاحوناً تدور حول نفسها كأنما تلقت سر الحركة الدائمة.
وعند ذلك استدعى بعض جيرانه فأطلعهم عليها وقد أعجبوا بذكائه في صنع اللعبة، ولكنهم ضحكوا من استحالة القيام بعمل جدي بواسطتها وقالوا: (هل يدل هذا على مقدار الأذى الذي تلحقه الأسفار بالانسان، فإن فلورنت كان مزارعاً صالحاً وعاملاً منتجاً وحداداً جاهداً قبل أن يعتاد السياحة في البلدان، وهو الآن يظن أنه يعرف أكثر مما كان آباؤه يعرفون وهو يضيع وقته في صنع الألاعيب، وما أغرب تخيله في أن تمتص الرياح الماء! من الذي سمع من قبل بأمر مثل هذا؟
لكنه على الرغم من أنه لم يكن في هولاندا من سمع شيئاً من هذا، فإن الكماد ظل يعمل لينشئ طاحونة. وبعد أن أجرى التجربة في الألعوبة شيد طاحونة كبيرة ذات أربعة شرع بدلاً من العجلة. وجعل هذه الشرع ذات دولاب واحد لكي تظل الريح تديرها، وذلك لأنه إذا كانت حركتها مستمرة كان من السهل أن تركب عليها عجلات أصغر منها تجعل حركة المصاصات مستمرة كذلك.
أنشأ طاحونته الفخمة ولكنها كانت لا تدور إلا إذا هبت الريح من اتجاه معين. وكذلك ظلت كما ظل مِنْ بعدها كل الطواحين الهولاندية مدداً طويلة تعمل عندما تهب الريح شمالية شرقية.
فلما تحركت وامتصَّتْ الماء استدعى جيرانه وأراهم نجاحها.
وقد يكون الهولندي بطيئاً في تصرفه وقد يكون من الصعب إقناعه، ولكنه متى رأى عملاً صالحاً فهو يحسن تقديره، فهؤلاء المزارعون الهولنديون ذوو الصلابة قد قضوا العمر في محاربة عنصرين من عناصر الطبيعة: الماء والريح. وما كادوا ينشئون تلك المرافئ الرملية لتحميهم من الأمواج حتى هبت الرياح فأزالت أعالي هذه المرافئ وأعادت الماء إلى الطغيان.
لما رأى هؤلاء المزارعون عدويهم القديمين وقد سُخِّر أحدهما لمحاربة الآخر ضحكوا وصفقوا وأثنوا على ذكاء فلورنت.
وقبل أن يموت فلورنت كان نجاحه غير مقتصر على أن أصبحت الطواحين منتشرة في
كل مزارعه لتجفيف المستنقعات لتصبح الأرض قابلة للزراعة في مواسمها؛ بل إن جيرانه قد أصبحوا يحاكونه، فكانت الشراعات تدور مع النسيم لمثل هذه الغاية. وكان الناس يأتون من أطراف هولاندا ليشاهدوا هذه الطواحين.
وكانت أول طاحونة ناجحة أنشأها الكماد هي التي أنشئت في سنة 1408 وقبل عام 1500 كانت هولاندا قد غصت بالطواحين الهوائية التي جعلت هذه البلاد في ظرف أربعمائة عام شهيرة بمناظرها الزراعية. وتحولت أراضي المستنفعات إلى مزارع خصبة، وأثرى الناس، وأدرك الإنسان فوزاً جديداً هو تسخير قوة من قوى الطبيعة ضد قوة أخرى في صنع آلاته. ونجح الهولنديون بمحالفتهم الهواء ضد الماء فانتصروا على الطبيعة.
وكانت الخطوة التالية هي التي انتصر فيها الإنسان على النار فاستخدمها لإدارة العجل بواسطة البخار. وقد استطاع الإنسان ذلك بعد مائتي عام. وتتم قصة العجلة بتمام القدرة على تحويل الوقود إلى قوة تحرك الآلات.
(يتبع)
ع. أ
من هنا ومن هناك
الحيلة في تقليد السياسة الألمانية
(عن (ذي ايفننج استاندر))
للسياسة الألمانية طرائق وأساليب قلَّ أن يعتريها التغيير وإن تغير
الجيل واختلفت العصور. وقد مر سبعون عاماً منذ اعتزم بسمارك
محاربة فرنسا، مدفوعاً بفكرة ضم الولايات الألمانية المتحالفة التي
حازتها ألمانيا، نتيجة لحروبها السابقة التي وضع خطتها بعناية
وإتقان. وكان بسمارك يطمع في تقوية مركز بروسيا للسيطرة على
هذه الولايات. فأشعل نيران الحرب في أوربا من أجل هذه الأسباب
التي تتعلق بسياسة ألمانيا الداخلية.
وقد كتب الكثيرون في موقفه هذا والطريق التي سلكها لتحقيق بغيته، ولكن تلك القصة العجيبة مازالت قابلة لأن تعاد. كانت أسبانيا تقطع مرحلة من مراحل السلام والهدوء فأظهرت حاجتها إلى حاكم عادل يسوس أمورها. فعرضت عرشها على أمير من أسرة (هوهنزلرن). ومن الجلي أن الفرنسيين لا يرحبون بفكرة مثل هذه الفكرة ولا يسمحون بتحقيقها، إذ أنها تبيح لأسرة واحدة أن تحكم على الرين والبرانس.
فلاقى بسمارك صعوبة في تحقيق مطلبه - لا من ناحية الفرنسيين الذين لم يكن يعبأ بهم - ولكن من ناحية (سيك) ملك بروسيا الذي يقول عنه في مذكراته: (لقد كان رجلاً في الثالثة والسبعين من عمره محباً للسلام، فلم يشأ أن يخاطر بأكاليل النصر التي نالها في حرب عام 1866. ويشير بسمارك هنا إلى الفوز الذي أحرزته بروسيا على أوستريا عام 1866 في حرب قصيرة المدى.
فلما رأى الملك المعمر أن حرباً أوربية توشك أن تقع من جراء قبول أحد أقربائه عرش أسبانيا، اعتزم أن يمنعه. فما كاد يصل احتجاج فرنسا إلى يده حتى استدعى (البرنس ليوبولد أوف هوهنزلرن) وما زال به حتى رفض ما عرض عليه. ورأى بسمارك أن
الأمر قد انتهى عند هذا الحد، وأنه لا يجد أمامه ما يحارب من أجله فانتهز فرصة غياب الملك للاستشفاء بمياه أحد الأنهار وأخذ يدبر الحيل لإثارة الحرب. وبينما هو والكونت مولتكي وفون ردن القائدان الألمانيان يتناولان العشاء ويتباحثان في شؤون الحرب، إذ وردت برقية من سفير فرنسا يطلب على لسان حكومته بعض تأكيدات في موضوع عرش أسبانيا، فرأى بسمارك أن الفرصة سانحة للتدبير لبغيته، فأدخل بضع كلمات على برقية السفير الفرنسي، ثم التفت ذات اليمين وذات اليسار إلى القائدين الألمانيين متسائلاً عن مبلغ استعدادهما للحرب فأجاباه بما يؤيد رغبته. فلما أطلع المليك على الرسالة الفرنسية اعتبر ما فيها حاطاً للكرامة، ورفضها رفضاً باتاً. ثم أمر أن يمنع سفير فرنسا من المثول في حضرته. وقد كان بسمارك قد أعد اللازم لظهور هذه الرسالة في الصحف الألمانية في اليوم التالي، ومن ثم أعلنت الحرب بين فرنسا وبروسيا. إنها لصورة خبيثة بالغة حد البشاعة تلك الصورة التي ظهر بها هؤلاء الشيوخ الثلاثة وهم يتجرعون كئوس الخمر ويهنئ بعضهم بعضاً لنجاحهم في إشعال الحرب بين هاتين الأمتين العظيمتين.
ليس من الصعب علينا بعد هذا أن نتصور موقفاً مشابهاً لهذا الموقف فيما حدث في أوربا منذ أسابيع، إذ قامت تلك العصابة المتعطشة إلى سفك الدماء بوضع شروطها الستة عشر التي بنت عليها إنذارها النهائي لبولندا بحيث لم تطلع عليها بولندا نفسها أو الحلفاء إلا بعد فوات الوقت اللازم للرد عليها.
ففوجئ الناس بخبر الحرب ليلة 31 أغسطس عن طريق الإذاعة الألمانية دون مقدمات سابقة. ولكن الأمر تبين بجلاء في خطاب رئيس الوزارة الإنجليزية بعد ظهر اليوم التالي، فتحولت الدهشة إلى احتقار واشمئزاز.
إن ريبنتروب يحاول أن يقلد بسمارك في أحاييله السياسية. ولكن كم من الفروق الشاسعة بين تلك الشخصيات التي بنت مجد الإمبراطورية وتلك التي تذهب بمجدها إلى الهاوية.
أما هتلر فقد عقد نيته على الحرب سنة 1939 كما فعل بسمارك سنة 1870. وقد نستطيع أن نقول: إن ذاك الأرستقراطي البروسي لا يختلف على وجه العموم عن ذلك النقاش الآستوري، فكلاهما على استعداد لإزهاق ما لا يعد ولا يحصى من النفوس البشرية في سبيل المطامع الشخصية.
ألا إن بسمارك كان أكثر تهذيباً وأنضج عقلاً، فقد كان يعرف من أين يبتدئ والى أين ينتهي.
عصبة الأمم ما لها وما عليها
(عن (فيتال سبيتسن))
اختلف الكثيرون في الرأي حول عصبة الأمم فمن قال، إنها أخفقت في تحقيق مهمتها، وقائل أنها نجحت في هذه المهمة، فأي الرأيين الصواب؟
إن أعمال عصبة الأمم في العشرين سنة التي انسلخت منذ ظهورها كثيرة الشعب متعددة الألوان. ويحسن بنا أن نشبهها بمجموعة من الخيطان بعضها أبيض اللون والبعض الآخر أسوده. فالألوان البيضاء تمثل الأعمال التي أدتها العصبة بنجاح في جنيف، والألوان السوداء وهي لاشك أقل عدداً من الأولى - تذكرنا بالأعمال التي أخفقت فيها.
فمن الواجب إذن أن نعترف بأن عصبة الأمم نجحت نجاحاً محققاً في كثير من الشؤون، ومن الواجب كذلك أن نصرح بأنها أخفقت في بعضها.
لقد نجحت عصبة الأمم في عقد اجتماعات دورية في جنيف يحضرها خمسون عضواً يمثلون خمسين حكومة من حكومات العالم. وقد بدأت أعمالها باثنين وأربعين عضواً ممثلين لحكوماتهم، ووصل هذا العدد إلى ستين في وقت من الأوقات. ويبلغ عدد الدول الممثلة في عصبة الأمم الآن خمسين دولة، وهذا العدد يدل على اتجاه الغالبية العظمى التي تؤيدها بين أمم العالم. إذ لا يزيد عدد الدول المعترف بها في العالم اليوم على خمس وستين.
وبعد سنتين من قيام عصبة الأمم أنشأت محكمة العدل الدولية في لاهاي وهذه المحكمة تفصل فيما يقع بين الأمم من المنازعات والخلافات القانونية. وهي مفتوحة الأبواب دائماً لكل دولة تريد الاحتكام إليها. وقد بلغ عدد القضايا التي فصلت فيها هذه المحكمة سبعين قضية.
أما فيما يتعلق بالقضايا الناشئة عن التغييرات الطارئة على مراكز بعض الدول وما يستدعيه ذلك من إعادة النظر في كثير من الحقوق التي تدعو إليها الضرورة فقد توسطت عصبة الأمم منذ سنة 1920 في أربعين مسألة فصلت في ثلاثين منها فصلاً تاماً. وقد
قامت عصبة الأمم خارجاً عن ميدان السياسة بكثير من جلائل الأعمال، كمنع تجارة الرقيق الأبيض ومحاربة الأفيون وغيره من العقاقير الضارة وتسهيل المواصلات بين بعض الأمم، وإيواء المهاجرين، وتبادل السكان بين اليونان وتركيا وبلغاريا، والنظر في شؤون الصحة العامة وحماية الطفولة، وتحقيق مصالح العمال.
ومما لا شك فيه أن عصبة الأمم قد ضربت المثل الأعلى في عقيدة التعاون وضرورتها بين الأمم والأفراد.
أما ما يؤخذ على العصبة فعدم نجاحها في منع التسلح الحربي والاقتصادي بين الأمم وإخفاقها في إيقاف الحرب في منشوريا سنة 1931 وفي جنوب أمريكا سنة 1933 وفي الحبشة سنة 1935 وفي إسبانيا واستريا وتشيكوسلوفاكيا وبولنده في السنتين الأخيرتين. إلا أن هذه المنازعات المفاجئة كانت مبنية على مطامع بعض الدول في امتلاك أرض الغير، ومن الطبيعي في هذه الحالة أن تتهرب من التحكيم، وتقضي على كل مجهود يبذل في سبيل التوفيق.
البريد الأدبي
علامة تعجب
في (الرسالة)(رقم 329) قصيدة أبياتها أربعة وخمسون وتُزخرفها اثنتان وستون علامة تَعَجُّب، أعان الله جمّاع حروف (الرسالة)! ولا أقصد هنا التمهل عند هذا النحو من أنحاء النظْم الحديثة، فلكل عهد من عهود الشعر المنظوم بالصنعة ذرائع؛ وقديماً استنجد بعض الشعراء ممن قعد خاطره بمحسنات البديع، واستغاث غيرهم ممن جمدت رويَّته بالأغراب والتهويل اللفظي، وفزع طائفة من المحدثين إلى المسخ أو المحاكاة أو المعارضة، ثم هذى الطباعة الحديثة تبذل أسباباً أخرى في طليعتها علامات التعجُّب (أو التنهد أو التحسر).
ولو كان في يدي من أمر (الرسالة) شيء لكنت ضننت على الشاعر بذلك العدد الجارف من علامات التعجب، فأدخرها للقراء أنفسهم إذ آمُر بها فتنثر هنا وهنا في صفحة من صفحات المجلة، فيلتقط منها الملتقط ويختطف المختطف. ألا يحصرنا من مثيرات العجب ما لا يحصيه غير إحصائي حاذق؟ ولو بسطتَ أطراف العجب على ما يبغتك لنفدت علامات التعجب المخزونة في صناديق (الرسالة) مهما غصت بحروف الترقيم. وحسبي أن أتعجب مما صدمني في يوم واحد.
هاتِ علامةً أتعجب بها من معاملة إدارة دار الأوبرة والفرقة القومية وشركة مصر للتمثيل والسينما. فمن المشهور أنها تدعو إلى ما تقيمه الحين بعد الحين من صنوف الفن طائفةً من الصحافيين والنقدة الفضوليين الهاجمين، مداراةً أو تلطفاً، وأنها تدعو زمرة ممن يقال لهم (كبار الموظفين). تدعو هؤلاء وأولئك، وهي تُهمل نفراً من الكتاب المقدمين والنقاد البصراء؛ فإن سألها أحدهم في ذلك قالت له (اقصدني أتفضلْ عليك بتذكرة دخول). فهل غاب عن تلك الإدارات ما يجري في نواحي أوربة المتمدينة؟ ولعل الصديق الأستاذ توفيق الحكيم يرشد تلك الإدارات المختلفة إلى آداب المعاملة الثقافية.
وعلامةً أتعجب بها من خروج مسرحية عنوانها (امرأة تستجدي) على مسرح الفرقة القومية، وقد وصفها ناقد الرسالة خير وصف في العدد السابق. بالله كيف أفلتت هذه المسرحية من مناظير (لجنة القراءة) وفيها من فيها؟ ولِمَ تذيقُ الفرقة رجالها عذاب تمثيل مثل هذه المسرحية وتذيق النظارةَ شهودها؟ هل يدخل هذا في مجاهدات شهر رمضان؟ ألا
كثيراً ما قلنا للفرقة القومية: المسرحية المرضية إذا ترجمت خير من المسرحية التافهة وإن كانت مؤلَّفة. والتأليف المسرحي في الأدب العربي لا يزال في عهد الاستواء، فاطلبوا النماذج الحسنة وانبذوا الرديئة. ولا يضير بلداً أن يقال فيه إنه لم يخرج بعد عدداً من الفلاسفة المبتكرين أو الشعراء الفحول. . . إن مجد الأمم لا يرتجل.
وعلامةً أتعجب بها مما جاء في الصفحة الأولى من (مصطلحات في باب الأحياء والطب) من (مجلة مجمع فؤاد الأول للغة العربية)(ج 4 ص 11 والشرح). أصبت في تلك الصفحة: (الحركة الذاتية) بازاء ثم (الحركة الخارجية) بازاء والذي يعرفه طلاب الفنون أن كلمة تنظر إليها في العربية كلمة (فعّال) وأن تنظر إليها كلمة (منفعل) و (انفعالي) وهما من المقولتين (يفعل وينفعل)(راجع هذا في (مباحث عربية) ص 120، الحاشية). وأما (الحركة الذاتية) فشيء آخر (وتصيب تعريف هذا التعبير في (كشاف اصطلاحات الفنون) مادة (الحركة) ص 343، وفي (التعريفات) مصر 1283 ص 58). وكيفما كانت الحال فإن التعبير الذي يقابل (الحركة الذاتية) هو:(الحركة العرضية)، كما جاء في ذينك المرجعين. هذا وكأني بالمجمع عبَّر بـ (الحركة الخارجية) عن (الحركة القسرية) (وهذا من المصطلحات العربية) و (هي ما يكون مبدؤها بسبب ميل من خارج كالحجر المرمى من فوق) (التعريفات). ومما يقابل (الحركة القسرية) في المصطلح:(الحركة الإدارية).
ثم علامةً أتعجب بها مما جرى به قلم الصديق الدكتور زكي مبارك، إذ أخذ عليَّ في العدد السابق أني أغلَّب إلقاء الشعر بحسب المعاني والألفاظ على إلقائه بحسب التفاعيل، وسبب التعجب أن زميلي الباريسي يعلم فوق علمي أن أهل الدراية من عرب وأعاجم مجمعون على أن الشاعر خير من الوازن، وكانت العرب تقول في موضع الذم:(إنما هو عروضي، ومقطع أبيات ووزان تفاعيل)، وما كان لهذا أن يكون لولا أن الشعر يقوم بمعناه ولفظه فوق ما يقوم بوزنه، وذلك فضلاً عن أن مجرَّد الوزن إنما هو للأذن، وأما المعنى واللفظ فلما يليها في الباطن؛ والطرب لا يأخذ النفس اللطيفة من طريق الحس الظاهر، بل هذا الحس إذا علا شأنه طغى على الوجدان، فمما يحسن به إذن أن يتواضع، ومما يحق على الوزن أن ينتشر خِفيةً في تضاعيف البيت. ثم كيف يكون مأخذ الصديق صاحب (ليلى
المريضة. . .) - لعلها شُفيت فشفى فيشفى المواسون معه - وهو يذيع فينا أنه مفتون بالجمال، والجمال لا تصيبه في الهيكل العظمي بل عليك به فيما يكسوه، وإنما الوزن يكسوه المعنى واللفظ. بقي أن فن الإلقاء الحديث يرى ما أرى، وإن تمسك الصديق بما ألِفتَه أذنه، وكثيراً ما نغضب لما تعودناه، من ذلك غضب بعضهم للحجاب وغضب بعضهم (للعتبة الخضراء) يرحمها الله.
بشر فارس
العيد الألفي لمولد الشريف الرضي
أخي الأستاذ الزيات:
كنت تفضلت فأطلعتني على بعض ما نشر في جرائد العراق عن الاستعداد لأقامة حفلة كبيرة في الكاظمية بمناسبة العيد الألفي للشريف الرضي.
ومنذ أيام قرأت في مجلة الصباح كلمة قال كاتبها (الفائق): إن سعادة السيد إبراهيم صالح شكر قائم مقام الكاظمية يهتم بتوسيع ضريح الشريف تمهيداً لتلك الحفلة الكبيرة.
فهل أستطيع أن أقول إن الشريف الرضي يستحق أن تقام له حفلة رسمية في العراق كالحفلة التي أقيمت لأبي الطيب المتنبي؟
إن المجد الأدبي للشريف الرضي لم يعد ميراثاً لأتباعه من الشيعة، مع الاحترام لصدقهم في الحرص على إحياء ذكراه، وإنما مجد الشريف الرضي تراث للعراق أولاً، وللأمم العربية ثانياً؛ ومن أجل ذلك أرجو أن يأخذ الاحتفال بذكراه في العراق صبغة قومية لا صبغة طائفية، فيكون من الخطباء والشعراء من يفهمون أنه من رجال الأدب قبل أن يكون من رجال الدين.
وأنت تعرف يا صديقي أن الشريف الرضي تحرر من دنياه من الصبغة المذهبية فدرس كتب الشافعية ليعرف ما عند أهل السنة من أفكار وآراء، فمن الظلم لهذا الرجل العظيم أن يحتفل بذكراه فريق دون فريق.
وفي نيتي - إن شاء الله - أن أحضر تلك الحفلة على شرط أن تصدر الدعوة إليها من وزارة المعارف العراقية، وإلا فسأقترح على كلية الآداب بالجامعة المصرية أن تقيم
أسبوعاً لذكرى الشريف كما أقامت أسبوعاً لذكرى المتنبي، فنؤدي حق الشريف في القاهرة قبل أن يؤدى في بغداد.
فإن قيل إن الحالة الدولية قد تمنع من إقامة تلك الحفلة بصفة رسمية، فإني أجيب بأن الأوربيين يحتفلون بذكريات رجالهم العظماء في ميادين الحروب، ونريد أن نكون أعرف منهم بالواجب وأحفظ للجميل.
وحين يتفضل وزير المعارف في العراق باستماع هذا القول فإني أرجو أن نزور بغداد معاً في آذار المقبل لنشترك في إحياء ذكرى الشريف، ولنشهد تفتُّح الأزهار حول دجلة والفرات، ولنطوف بدار ليلى ودار ظمياء. . . والله يحفظك للصديق الموكَّل برعاية العهود.
زكي مبارك
تخليطات في فهرس (عيون الأخبار)
عامة الناس على أن دار الكتب المصرية، بقسمها الأدبي، أمثل دور النشر العربية جميعاً، بما أتيح لها من أسباب القوة، وما مكن لها من وسائل التحرير والضبط، مادية وفنية، ففيها المال والرجال، وجنباتها الواسعة تفهق بالمراجع العظيمة والمصادر الثرية، ولها الصوت الواسع البعيد الذي يكفل لنشراتها ما تقتطع دونه أعناق الناشرين تشوقاً وطماعية.
وما نشك في أن (دار الكتب) جديرة - مع شيء من التحفظ - بهذه المكانة التي تتبوؤها، فقد أسدت إلى الأدب العربي، والى جمهرة المتأدبين والباحثين، صنائع لا سبيل إلى نكرانها، قياساً إلى تلك النشرات الأخرى التي نكب بها الأدب العربي. وإذا كان بعض الناس يغلو في نقدها ومؤاخذتها بالبطء الشديد، والتنكب أحياناً لمسالك النشر العلمي السديد، فإنما ذلك على قدر الظن بها، والأمل فيها؛ وعلى قدر الرغبة في أن تكون النشرات التي تقوم عليها صورة مثلى مما تضطرب به آمالنا نحو تراثنا العقلي، من الأخذ في تحقيقها بالتثبيت الذي لا يتهاون ولا يتسامح ولا يغفل، مما هو جدير بأدبنا العربي الذي ندين له، وجدير بالمنزلة التي نزعمها لمصر نحوه.
ومن نشرات (دار الكتب) التي نرى فيها إلى جانب الرغبة في التحري والدقة والضبط
مظاهر شنيعة للغفلة والإهمال والتخبط كتاب (عيون الأخبار) لابن قتيبة، مما يبعد بهذه النشرة عن الروح العلمية بعداً شاسعاً، ويضع الذين قاموا عليها موضعاً غير جدير بهم ولا بمكانهم من تلك الدار.
وأنا أكتفي من هذه المظاهر المتناثرة في أثناء الكتاب كله بثلاثة مواضع لا عذر فيها لمعتذر، ولا محل فيهل لجدل؛ وليس يقال فيها: رداءة الأصل وانبهام الخط وانعدام المصادر واختلاف النظر. فهي أغلاط بل (تخليطات) في فهرس الإعلام لذلك الكتاب، ومثل هذه الفهارس التي قيل فيها إنها نصف العلم، إن لم يؤخذ في وضعها بالدقة، كانت شيئاً أشبه بالترف الذي يقوم على التقليد الظاهر، أو التغرير الذي يلجأ إليه بعض المتجرين التماساً للعائدة المادية ليس غير، لا ضرورة علمية توحي بها روح العلم ومناهج البحث.
1 -
أول هذه المواضع يتعلق بالثوري، وقد جاء (الثوري) في عيون الأخبار مشتركاً بين اثنين، يختلف ما بينهما اختلافاً كبيراً، حتى ما يكادان يلتقيان إلا في هذه النسبة: أحدهما أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري، المحدث العظيم، والورع المعتصم بدينه وورعه عن مزالق الهوى، والمحتمل في ذلك أذى التواري ومحنة التوقي ومضاضة العيش حتى لا يلي للسلطان عملاً، ولا ينفذ إليه الشيطان من باب. وأما الثاني، فهو أبو عبد الرحمن أحد شخصيات الجاحظ الطريفة في كتاب (البخلاء)، ممن اتخذهم أبو عثمان مادة لتصويره وسخريته من طبقة (البورجوازي) في البصرة وبغداد. وحسبنا هذا لنعلم أي صورتين متناقضتين جعل منهما ناشرو (عيون الأخبار) شخصاً واحداً، وأرسلوه في فهرس الإعلام باسم أبي عبد الرحمن الثوري (صاحب الجاحظ) بالرغم من كل شيء، وأخضعوا الأمر لقاعدة التغليب. . . يعتسفونه اعتسافاً. . . وهكذا أضاع ناشرونا الأفاضل أبا عبد الله سفيان، كان الله له!
2 -
وأما الموضع الثاني، فالخلط فيه أشنع، والخطأ فيه أفظع، أو هي المعجزة التي تعنو لها المعجزات، وقعت على أيدي سادتنا الأجلاء، إذ نرى الكليم موسى بن عمران عليه السلام قد تقلصت عنه السنون، فقام ينفض غبار القرون، فإذا هو من معاصري أبي الهذيل العلاف وسهل بن هرون! وحقت بذلك كلمة القوم.
فكذلك صنع ناشرو عيون الأخبار في الإشارة إلى موسى ابن عمران في خبر جاء فيه أن سهل بن هرون بعث إليه أبياتاً يعبث فيها بأبي الهذيل العلاف، إذ خلطوا بينه وبين موسى ابن عمران (النبي عليه السلام.
وإنما موسى بن عمران هذا هو بعينه الذي يذكر كثيراً باسم (مويس بن عمران)، وقد ذكره المرتضى في الطبقة السادسة من طبقات المعتزلة، وكثير من أخباره وآرائه في الانتصار لأبي الحسين الخياط، والملل والنحل لشهرستاني، والاغاني لأبي فرج، وأخبار أبي نواس لابن منظور. كما يردد الجاحظ اسمه كثيراً في كتبه كالحيوان والبخلاء والبيان والتبيين.
3 -
وأما الموضع الثالث فأعجب عجباً وأغرب غرابة، والخلط فيه من طراز بدع جديد.
لعل كثيراً من المتأدبين يذكرون قصيدة سويد بن أبي كاهل التي يقول فيها:
رب من أنضجت غيظاً قلبه
…
قد تمنى لي موتاً لم يطَع
وقد جاء فيها هذا البيت يذكر ذلك المغيظ الذي أنضج الغيظ قلبه:
مزبداً يخطر ما لم يرني
…
فإذا أسمعته صوتي انقمع
وكنا نفهم - بكل بساطة - أنه يمثل صاحبه في هذا البيت بالجمل الهائج يخطر في مشيه ويضرب بذنبه وقد علا الزبد شدقيه، وقد غفلنا - ونستغفر الله الذي تفرد بالعصمة - أن فوق كل ذي علم عليما. فقد أبى أصحابنا الناشرون إلا أن (مزبدا) في هذا البيت ليس على ما خيل إلينا وإنما هو. . . (مزبد) المدني صاحب النوادر! هكذا والله صنع القوم. فقد أشاروا إلى هذا البيت في فهرس الإعلام ضمن ما أشاروا إليه من النصوص التي ورد فيها (مزبد) هذا وأحالوا الباحثين عليها.
وبعد فإن هذه التخليطات الغليظة تكاد تهدم الثقة بدار الكتب ونشراتها جميعاً، لولا ما نراه فيها كثيراً من آيات الجهد الجاهد في التحرير والضبط، والبراعة العظيمة في التصحيح والتخريج. فنتساءل مع شيخنا الجاحظ: كيف تصبر البعيد الغامض، وتغبى عن القريب الجليل!
م. ط. ح
تعليق على خطبة وزير الدفاع
ألقى حضرة صاحب المعالي اللواء محمد صالح حرب باشا وزير الدفاع خطبة قوية رائعة في احتفال الكلية الحربية صباح الخميس 2 نوفمبر، بمناسبة تخرج طائفة من الضباط الذين أتموا دراستهم. وأشهد لقد قرأت هذه الخطبة في الصحف، فاهتزت مشاعري حماسة وإعجاباً بما اشتملت عليه من معان وطنية سامية، تبعث العزة والكرامة في النفوس، وتحفز إلى التضحية والاستشهاد في ميدان الشرف!
ومعالي الوزير أديب واسع الاطلاع، دقيق الفهم لأسرار البيان، وخطيب بالغ الحجة قوي التأثير؛ وهو فوق هذا صاحب عقيدة راسخة وخلق متين.
أستهل معاليه خطبته البليغة بقوله: (أبنائي الأعزاء، إن موقفي اليوم منكم هو موقف التهنئة والتبريك، فأهنئكم من كل قلبي. أهنئكم بالنجمة الأولى في سماء المجد والشرف، وأهنئكم بالسيف المصلت في سبيل الوطن الغالي!).
يا له من توجيه سديد والتفاتة بارعة! نعم إنها النجمة الأولى التي يزهو بها حاملها في سماء المجد والشرف، لا بين نجوم المسرح وكواكب الصالات. . .
إنني لأذكر مع الأسف ذلك المشهد المؤذي للكرامة والشعور حين وقفت إحدى الراقصات تلقي منلوجاً مطلعه:
النجمة في كتفك عاجباني
…
والسيف على وسطك خلاني
حبيتك يا ملازم ثاني. . .!
فما كان من أحد الضباط وقد استخفه الطرب إلا أن قام في عربدة واستهتار يطلب الترديد والمزيد، ثم طوح بطربوشه في الفضاء، مزهواً بالنجمة الآفلة والسيف الذليل!
فأي ضابط من أولئك الذين سمعوا وزيرهم النبيل يلقي عليهم ذلك الدرس البليغ في تقدير هذه الشارات الرفيعة التي ترمز إلى المجد والعظمة والسمو، تحدثه نفسه بعد ذلك بالنزول إلى هذا المستوى الوضيع؟
لقد ترك معالي الوزير السابق أجمل الذكرى وأطيب الأثر، حين أمر بعدم ظهور الضباط بملابسهم العسكرية في هذه الميادين. وفي ذلك معنى بليغ يجب تدبره وتقديره، وهو أن الضابط الذي يزج بنفسه في هذه النواحي لا يستحق التمتع بشرف الجندية.
وحبذا لو أتم معالي الوزير الحالي خطوات سلفه، فلم يجعل هذا الخطر قاصراً على
الضباط فحسب، بل نافذاً على الجنود أيضاً. حتى لا نشاهد تلك المناظر المخجلة في بؤر الدعارة والفساد جنود الوطن وعدته في الشدائد الذين يمثلون أسمى معاني الرجولة والشرف، تمتلئ بهم المواخير في بعض الليالي والأيام.
ويقول معالي الوزير في خطبته السديدة: (ليست الجندية غروراً يملأ الصدور وينفخ في المعاطس، ولا بدلة للزينة؛ وليست الجندية رتباً ولباساً ومطعماً ومتاعاً من النعيم الذليل. ولكن الجندية - وهي أسمى مراتب الرجولة وأسمى منازل الأخلاق - أكرم على الله والناس من أن تكون هذه غايتها وهذا مداها!).
منطق حق وقول سديد. وما أحوج رجال الجيش إلى تدبر هذه المعاني النبيلة، والانطباع على تلك الأخلاق القويمة. حتى يستطيع أن ينهض بأعبائه الثقال قوي العدة متين البناء. فنحن في زمن - كما يقول معاليه - من لم يكن فيه ذئباً كان في الغنم.
ثم يختتم خطابه بقوله: (أوصيكم بأنفسكم خيراً، وتحصنوا بالأخلاق فهي جنتكم من الزلل. ثم أوصيكم بالجنود خيراً، وأكرر هذه الوصاة، فهم عدة الوطن في شدته، وهم طعام النيران! ومن أساء إليهم فقد أساء الوطن، وإني أعيذكم أن تسيئوا إلى مصر وأنتم حماة ذمارها).
وهنا أشير إلى عادة مستهجنة يجري العمل عليها في نظام الجيش، فيها الإساءة البالغة إلى كرامة الجنود وشرف الجندية. تلك هي نظام (المراسلة) الذي يفرض على بعض الجنود أن يكونوا خدماً للضباط لا في ميادين القتال وساحات الجهاد، وإنما في المنازل حيث إعداد الطعام وغسل البلاط وحمل الأطفال! بل وفيما هو أحط من ذلك في كثير من النواحي والشؤون. . .
ومن المؤلم أن تكون هذه الخدمة مطمح الجنود ومقر ذوي الحظوة منهم. وفي ذلك ما فيه من إفساد للروح المعنوية وانحدار عن مستوى الرجولة والشرف. فهل لمعالي الوزير الحازم - وهو يوصي بالجنود خيراً - أن يرفع عن أعناقهم هذا النير الذي يورث الذل والصغار، فلا يفرض عليهم الخدمة في غير المعسكر أو الميدان؟
إنا لنرجو الخير الكثير على يدي معاليه. ولنا في ماضيه الجليل في ميدان الحرب والسياسة، وحاضره المحفوف بالتقدير والإكبار ما يؤكد الثقة ويقوي الأمل في جلال
المستقبل وعزة الغد.
(حلوان)
محمد كامل حتة
زكاة الفطر
أعدت وزارة الشؤون الاجتماعية صندوق الإحسان في بنك مصر لجمع زكاة الفطر ووجه معالي وزيرها إلى الشعب نداء بليغاً يدعوه إلى أداء هذه الزكاة جاء في ختامه قوله:
(إن وزارة الشؤون الاجتماعية حين تجعل في عنقها أمانة الزكاة تنهى إلى خاصة المسلمين وعامتهم أن إيداع زكاة الفطر في (صندوق الإحسان) الذي جعلته وعاء للخير موافق لأحكام الشرع الشريف، فبهذا أفتى رجال الدين وعليه جرى العمل في دول الإسلام الأولى وصدور أيامه السالفة وبه تبرأ ذمة كل مسلم من عهدة التقصير في هذه الزكاة وتنتقل المسؤولية أمام الله إلى وزير الصدقات الذي هو وزير الشؤون الاجتماعية. وحسبكم أن يعطيكم وزير الشؤون الاجتماعية عهد الله وذمته فيشهد الله ويشهدكم أن ينفق ما تزكون به في وجوهه المشروعة.
إن فرصة الخير أضيق من أن تمتد مع التسويف وقد علمتم أن أفضل ما تؤدى زكاة الفطر إذا لم تتأخر عن يوم العيد والله تعالى يدعوكم إليها فأجيبوا دعاءه وهو يعدكم حسن الجزاء عليها فاستوجبوا وعده الصادق بالمبادرة إلى طاعته).
اكتشاف مصل واق من التيتانوس
أبلغ المجمع العلمي الفرنسي أن الدكتور رمون والدكتور لبميه توصلا إلى صنع مصل واق من التيتانوس ودلت التجارب التي عملت أن هذا المصل يعطي الإنسان والحيوان مناعة قوية من التيتانوس وهو اكتشاف ذو أهمية خاصة في هذا الوقت الذي يعد فيه التيتانوس مرضاً مخيفاً في وقت الحرب.
العالم المسرحي والسينمائي
مع الأستاذ توفيق الحكيم
الفرقة القومية في عهد جديد
كيف السبيل إلى النهوض بالمسرح؟
نعتقد أننا قد أجبنا على هذا السؤال فيما كتبناه عن (نهضة المسرح في مصر)، إذ شرحنا في إيجاز جميع العوامل وكل الأسباب التي أدت إلى انحلال المسرح، ثم قيام الحكومة بنصيبها في نهضته بإنشاء الفرقة القومية ونصيب هذه الفرقة من النهضة الأخيرة وواجبها حيالها.
على أنه كاد الموسم يبدأ حتى كانت الفرقة قد انتقلت من يد إلى يد، وأصبح أمراً واقعاً أن وزارة المعارف قد سلمت مقاليدها إلى وزارة الشؤون الاجتماعية، فحمدنا الظروف التي أتاحت هذا التغيير الذي سيكون له أثره في سياسة الفرقة، والذي جعل للأستاذ الكبير توفيق الحكيم إشرافاً حقيقياً على شؤون المسرح فلطالما كان من أعز أمانينا أن يكون لمن هو في مكان الأستاذ من المسرح هذا الأثر الفعال في توجيه شؤونه.
من يحمي الفنون ومن ينصرها في بلد يراها ضرباً من ضروب اللهو ولوناً من ألوان التسلية؟ فالبعض عندنا يذهب إلى المسرح للتسلية ولمجرد اللهو ولا ينظر إلى ما وراء ذلك من فائدة والى ما بعد ذلك من أثر. كل ما يرجوه ساعة أو أكثر يقضيها في دار للتمثيل: يضحك ويتندر ويتحدث، كأنما هو على قارعة الطريق، أو في بيته أو في أحد المنتديات أو المشارب؛ أما الفهم الصحيح للمسرح ورسالته، وأما الرغبة الأكيدة في الإفادة من هذا الغذاء الروحي والعقلي، فإنهما بعيدان عن تفكيره وميوله، ولهذا عاش المسرح في مصر خاضعاً لأهواء الجماهير، حتى في أيام ازدهاره، وحتى حين أخرج للناس (أوديب) و (عطيل) و (لويس الحادي عشر) وغيرها من الروايات الخالدة، حتى في ذلك الوقت لم يكن إقبال الناس على هذه الروايات، ولم يكن نجاحها الملحوظ عندهم إلا ستاراً لرغباتهم في التسلية، فهم يجتمعون في دار الأوبرا، وهم يتحدثون ويتندرون في هذا الشيء الجديد الذي يمر أمامهم، وفي هذه الشخصيات المضيئة التي تصعد في سمائهم، ولم توجد الرغبة
الأكيدة في رفع شأن المسرح، ولن توجد إلا إذا عهد به إلى أهل المسرح وأبنائه، ووكل إليهم شأنه وترك لهم أمره.
من يحمي المسرح إذن؟
هم الفنانون المخلصون الذين لا يضعون في اعتبارهم أن الجمهور يريد أن يتسلى، والذين يفهمون أن رسالتهم البعيدة عن تسلية هذا الجمهور، وإنما هي قريبة إلى إفادته والى رفع مستواه والصعود به إلى القمة حيث تنفتح عيونه على أفانين من الجمال يراها في صور متعددة من صور الفنون الحقة تسمو به وبروحه وبكل جارحة فيه إلى حيث يكشف داخل نفسه وفي نفوس الآخرين تلك الإنسانية التي تميزه عن غيره من المخلوقات.
ذهبنا إلى الأستاذ توفيق الحكيم وفي خلدنا تدور هذه الآراء وغيرها، وفي عزمنا أن نسأله بياناً عن السياسة الجديدة للمسرح المصري بعد إذ أصبحت مقاليده عند وزارة الشؤون الاجتماعية التي ناطت به شؤون الدعاية فيها. على أننا ما كدنا نقول كلمة أو كلمتين حتى أفاض معنا في الحديث في سلاسة واتزان. قلنا: إن علة العلل هي (الرواية) فالفرقة القومية قوية بعناصرها غنية بمالها، وإن يكن من رأينا أن بعض العناصر مازالت خارجة عنها ويجب أن تضم إليها لتزداد قوة على قوة. وإنما ينقص الفرقة شيء واحد هو (الرواية) التي لم تحط بالعناية المنشودة فيما سلف من أيام.
فقال: سنكون من أول ما نعني به اختيار الرواية الصالحة، وقد أنشأت لذلك لجنة تنفيذية (مكونة من العشماوي بك وخليل مطران بك والأستاذ الحكيم)، وهذه اللجنة من شأنها أن تنظر في الرواية بلجنة القراءة لترى إن كانت تصلح للمسرح وتتفق ورسالته ثم تقدر قيمتها، ونحن نفكر في تكوين لجنة أولية من المخرجين والممثلين لتقرأ الرواية قبل تقديمها للجنة القراءة حتى لا تصل إلى أيدينا رواية تافهة، وحتى يكون للمخرج رأيه فيما يخرج، وللممثل رأيه فيما يمثل. على أننا سنضع نصب أعيننا أن تكون الروايات التي تخرجها الفرقة من الأدب الرفيع الذي يتفق ورسالتها، وقد كان من رأينا أنها يجب أن تخرج عن حدود هذه الرسالة حتى لو لم يقبل عليها الجمهور الإقبال المأمول. وأستطيع أن أؤكد لك أن الجهات المسؤولة تشجع الفرقة على ذلك ولا تطلب منها أكثر من السمو بالفن ولتكن النتائج ما تكون، وإن تكن رغبتنا أن يقبل الناس جميعاً على الفرقة وأن يشجعوها.
ومن رأينا أن الروايات الممتازة الخالدة التي سبق أن أخرجت للمسرح يجب أن تخرج ثانية وأن يراها الجمهور كلما سنحت الفرصة. وسوف يرى النقاد فيها لوناً جديداً من ألوان الإخراج والتمثيل. فالمخرجون قد أصبحوا غيرهم بالأمس، والممثلون كذلك إلا قليلاً. ونحب ألا يقال إنها روايات قديمة بل يجب أن يقال إنها خالدة لا يفرغ الجمهور من مشاهدتها ولا يكف النقد عن التحدث عنها وإنك لترى أنهم في أوربا، ولديهم المؤلف الحديث والرواية الجديدة، يعنون بتراث الآداب الخالدة. وروايات شكسبير وراسين وفولتير وغيرهم مترجمة إلى اللغات الحية، وهي تخرج على المسارح في كل فرصة والناس يقبلون عليها كأنها روايات جديدة. وعلى هذا فلا بأس من أن تخرج روايات شكسبير وسوفوكل وكورنبي وغيرهم؛ ولا ضير من أن يرى الناس للمرة المائة بعد الألف عطيل وأوديب والسيد وغيرها.
وكان أحمد أفندي عسكر موجوداً أثناء الحديث فأضاف (غادة الكاميليا)، وقد لقي اقتراحه قبولاً على أن تعرب الرواية من جديد وأن يقوم بتعريبها الكاتب الأديب الممتاز الذي اشتهر بتعريب الروايات الرومانتيكية العاطفية.
وعاد الأستاذ توفيق الحكيم إلى حديثه فقال:
لقد دلت التجارب على أن الرواية الموضوعة لم تصل بعد إلى المرحلة التي نطمئن لها، ومع ذلك فإن الباب سيظل مفتوحاً للكفايات المجهولة لنتقدم على مسئوليتها بما تنتجه، فلن نكلف أديباً أن يضع لنا رواية نكون مضطرين إلى قبولها منه. أما الروايات المترجمة فقد صح عزمنا بعد التجارب العديدة التي مرت بها الفرقة أن نختارها نحن من الأدب الرفيع قديمه وحديثه وأن نعهد بها إلى مترجمين ممتازين ممن لهم شأن معلوم ومكان معروف، وبذلك نضمن نجاح الرواية من كل الوجوه.
هذا وستعنى الفرقة بفن الأوبرا والأوبريت لترفع من شأنهما بعد إذ مرت عليهما فترة ركود حتى كاد يسدل عليهما النسيان ستاراً كثيفاً، وحتى انصرف الجمهور عنهما إلى صالات الرقص والمجون.
وعلى العموم فإن سياستنا ستكون النهوض بالفرقة ومساعدتها المساعدة الحقة على أداء رسالتها. ونأمل أن يكون النقد معنا وفي عوننا؛ فالفرقة لا تستطيع مقاومة العواصف من
كل جانب، وعن طريق النقد؛ سيفهم الجمهور رسالة الفرقة، وسيروض نفسه على تقبلها وإن كان لونها مما لا يتفق وهواه.
وانتهى الحديث بأن أبدى الأستاذ الحكيم استعداده ورغبته في تبادل الآراء حول هذه الموضوعات وغيرها كلما وجد في الأمر ما يدعو إلى ذلك.
ونحن نعتقد أن في تنفيذ السياسة التي بسطها الأستاذ ما يكفل نهوض المسرح وكرامة أبنائه ونجاح رسالته.
فرعون الصغير
العزيمة
بدأ عرض رواية (العزيمة) على ستار سينما ستديو مصر منذ الاثنين الماضي وسننشر كلمتنا عنها في العدد المقبل.