الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 333
- بتاريخ: 20 - 11 - 1939
في وزارة الشؤون الاجتماعية أيضاً
هذا هو المنهاج
فكيف يكون المسير؟
حاولنا فيما سبق من القول أن نرسم لوزارة الشؤون الاجتماعية معالم المنهج الذي تسلكه مخافة أن ينتشر عليها الأمر وتلتبس الوجهة؛ ثم تركنا لرجالها المختصين توضيح الرسوم وتحديد التخوم وتعيين المراحل. ولكن رسم المنهاج لا يكلفنا ولا يكلف الوزارة غير ساعات من النظر والفكر والكتابة؛ وإنما عماد الأمر ومِلاكه أن تُنهج السبيل وتُنفذ الخطة وتُبلغ النهاية. ويلوح لي أننا نكلف الوزارة شططاً إذا أردناها على إصلاح الفاسد وإقامة المعوج وهي على حالها الحاضرة ووضعها القائم
ماذا عسى أن تعمل وزارة موظفوها خمسة عشر موظفاً وليس لها وكيل ولا نظام ولا سلطة ولا خزانة؟
لقد صدق الأستاذ الذي قال: إن وزارة الشؤون الاجتماعية مشروع وزارة لا وزارة. فإن خمسة عشر موظفاً من مختلف الوزارات (كشليلة) خيط من غير رأس، أو كشركة إنتاج من غير مال، لا يستطيعون أن يفكروا إلا في لجنة تعقد أو قرية تزار أو مقالة تذاع أو مجلة تحرر؛ أما تنفيذ الرأي وتكوين النتيجة وتوفير الثمرة فذلك شيء فوق الطاقة لمن لا يملك إليه الوسيلة
ولقد كان في وزارة الصحة عبرة لوزارة الشؤون الاجتماعية لو أنها التمست هداها على ضوء الدرس المنظم والتجربة الحاصلة والخبرة المختصة؛ فإن وزارة الصحة قد فكرت منذ عامين في كفاح المرض فهيأت له الأسباب وأرصدت الأُهَب، فجعلت لكل جماعة من الناس طبيباً، وسيَّرت إلى كل جهة من جهات القطر مستشفى، ولكنها لم تجد المال الكافي لشراء الأدوية وتجهيز العلاج فظل أطباؤها من غير عمل، وباتت سياراتها من غير حركة.
إن وزارة الشؤون الاجتماعية فكرة موفقة ما في ذلك ريب؛ وإن الرجل الذي أوحاها خليق بأن يكون صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا، فإن العهد برفعته أنه رجل عَمول يريد ما يقول ويفعل ما يريد. وقد دلَّت الدلائل في وزارته الأولى على أن في رأسه خطة مدبَّرة
للإصلاح لابد من إنفاذها وإن عوَّق القدر وطال الأمد. ولولا ذلك ما هششنا لهذه الوزارة الوليدة ولما أسرفنا في الرجاء منها والحديث عنها. لهذا نعتقد أنه سيفرغ لها بعد حين قد يطول وقد يقصر، فيدبر لها المال ويمهد لرجالها سبيل العمل. وليس من الغلو فيما أظن أن تكون ميزانيتها وسطاً بين ميزانيتي الصحة والمعارف، فقد علمنا أن اختصاصها يكاد ينبسط على كل شيء في هذا البلد. على أن المال الذي يُفرض لهذه الوزارة في ميزانية الدولة هو وحده النصيب الحق لهذا الشعب المسكين من ثروته العامة؛ فإن أكثر ما يجبى من موارد الوطن المشتركة إنما يذهب للحكومة لا للأمة، وللأغنياء لا للفقراء، وللمدائن لا للقرى. وجمهور الشعب هو صلب المجتمع وأداة إنتاجه وعدة دفاعه، فينبغي أن يكون همُّ الخاصة وولاة الأمر مصروفاً لسد عوزه وتثقيف عقله وتأمين سلامته، لا يضنون عليه في سبيل ذلك بمال ولا جهد
إن رئيس الوزارة الذي يتذرع لتقوية الدفاع الوطني بكل الذرائع، لا يمكنه أن ينسى مادة ذلك الدفاع ولا هيكله من العمال والصناع والزراع ومن يقمن على رعايتهم وخدمتهم من أم وزوجة.
فلعله يقرع بصوته العالي أسماع أولئك الأمراء والأغنياء فينزلوا عن بعض ترفهم وسرفهم للجيش أسوة بمن يضحون بأرواحهم وأموالهم في سبيل وطنهم من أمراء إنجلترا وأغنياء فرنسا؛ فإنهم إن فعلوا ذلك - وبعيدٌ أن يفعلوه طائعين - تسنى له أن يجد المال الضروري للشؤون الاجتماعية، ومن ثَم يتسنى لوزارة هذه الشؤون أن تنهض بما ألقى عليها من عبء، وتحقق ما نيط بها من أمل
نعم، هذا هو المنهاج فكيف يكون المسير؟ هيهات أن تسير وزارة الشؤون الاجتماعية إلا على قدمين من عزم ومال. فمتى تيسر لها المال وتوفر لها العزم كان عليها يومئذ أن تعيد النظر في تنظيمها وتقسيمها على أساس مكين من الحاجة والكفاية والاختصاص، فإن الإسراف في قلة الموظفين كالإسراف في كثرتهم سواء بسواء؛ والعدول عن الكفء إلى غيره جناية على العدل وإنكار لفائدة العمل؛ ووضع الأمر في غير أهله أقصر الطرق للفوضى المربكة والفشل المحقق. وإذا كانت الوزارات الأُخر تجري على سَنَن من التقاليد الموروثة والأنظمة الآلية والأعمال الرتيبة، فإن هذه الوزارة الجديدة في وضعها
وموضوعها حرية بأن تكون مثلاً يحتذى في اختيار الموظف، وابتكار الطريقة، وتبسيط الإجراء، ودقة المراقبة، وحسن التوفيق بين قدرة العامل وطبيعة العمل، وفرض المسؤولية على كل موظف بمنح الاستقلال الذاتي لكل وظيفة. وتجربة النظم الحديثة في الجديد المنشأ أسهل منها في القديم المجدِّد. وتحويل الوزارة القديمة بمصطلحاتها وطفيلياتها ومحاباتها وفوضاها إلى وزارة جديدة بطريق التنظيم، أدخل في باب المحال من تحويل المدينة العتيقة بمنعرجاتها ومنعطفاتها ومضايقها إلى عمارة حديثة بطريق الترميم.
ومِلاك الأمر في الإصلاح الدرس والروية والمشورة والعزيمة والنفاذ، على أن يكون كل عمل في وقته، وكل رأي في وجهه، وكل أمر في أهله. ومدار النجاح في العمل العظيم على الرزانة والجد. فإذا قضى الله أن يعاجلك الفشل دون التمام، فخير لك أن تفشل بالصمت لا بالكلام!
أحمد حسن الزيات
الشيوخ والسياسة
للأستاذ عباس محمود العقاد
الشيخوخة زيادة ونقصان
زيادة في الخبرة والحنكة، ونقصان في الطاقة والهمة، والأمم السعيدة هي الأمم التي تحسن الانتفاع بجانب الزيادة، وتحسن الحذر من جانب النقصان.
أما الأمم التي تهملهما إهمالاً فهي مسرفة مضيعة، قد تفوتها المنفعة ولا تضمن أن تفوتها الخسارة.
في جزائر الفيجي، على ما يقال، قبيلة تقتل الشيوخ الفانين أو تدفنهم أحياء. . . لأنهم لا ينفعون في حرب ولا صيد ولا عمل. وقد يعرقلون أعمال النافعين
أولئك قوم من الهمج لا يحتاجون إلى الرأي ولا يفترقون إلى عبر الماضي وهي كل ما يعرفه الشيوخ. فإذا بدا لهم أن الشيخوخة ضرر محصن وسن عقيمة فلا عجب: هي كذلك بين أمثال هؤلاء الناس.
وفي اليابان مجلس للشيوخ الكبارين ينتظم فيه الرجل بعد اعتزاله مناصب الحكم ومعارك السياسة ومطامع الحياة، وقلما ينتظم فيه قبل السبعين أو الثمانين. فإذا أشار بالرأي فإنما ينزع فيه عن غرض قويم لا خبيئة وراءه من طمع ولا ضغينة، أو هكذا يعتقدون هناك في فضائل الرأي الذي يصدر من مجلس الكبارين، وما نخالهم على الصواب كل الصواب فيما اعتقدوه، لأن المرء قد يطمع لغيره إذا بطلت مطامعه لنفسه، وقد يكون طمعه لابنه أو زوج بنته أو نصيره أشد تمكناً من هواه وأثقل غشاوة على بصره من الطمع الذي كان يطمعه لنفسه في شبابه.
لكن هؤلاء الكبارين ينفعون
ومتى كان لهم بعض النفع فمن الإسراف تضييعه، ومن الواجب تمييز نفعهم وضرهم قبل رفض النفع والضرر جزافاً على السواء.
أما اعتقادنا نحن في آفات آراء الشيوخ فالمحقق أنها عرضة لآفتين متلازمتين قد تفسدان كل ما لهم من أصالة وصواب: إحداهما التهيب من الأعمال الجسام، والثاني الحرص على العادة المتبعة والاستخفاف بكل شيء لا يضعون أيديهم عليه، ولا يملكون تصريفه مع
خلفائهم في الميدان
وقد خطر لي هذا الخاطر يوم نقل البريد الإنجليزي إلينا أقوال لويد جورج وأحاديثه التي يذكر فيها أنه يتلقى الرسائل كل يوم بتعجيل مؤتمر السلام، وأنه يرى (أن تتولى الولايات المتحدة عقد هذا المؤتمر، وألا يكون أساس البحث فيع عودة الحدود البولونية والتشيكية إلى ما كانت عليه قبل احتلال الألمان، بل ضمان الوسيلة التي يتحقق بها دوام السلام بين شعوب العالم)
عجبت لهذا الرأي يصدر من الرجل الذي ألَّب الدنيا على غليوم الثاني، وهو لم يبلغ مبلغ هتلر من إقلاق الشعوب وإهدار العهود وإزعاج الشرق والغرب بالتهديد وراء التهديد، والإرهاب في ذيل الإرهاب.
عجبت لمثير الأمم كلها إلى الحرب كيف يحجم هذا الإحجام، ويرتاع هذا الارتياع، ويحسب أن الحرب شر من العواقب التي لا تنقطع فيها الحروب ولا تهدأ فيها الفتن لو نجح هتلر فيما ابتغاه وفقدت الشعوب كل سند تستند إليه حيثما جمح به هواه، وعاد إليه ديدنه وهجِّيراه؟
أهذا لويد جورج الذي كان يقسم لا يتركن غليوم حتى يشد بيديه حبل مشنقته في العاصمة الإنجليزية؟
أهذا لويد جورج الذي كان يقسم ليفتشن جيوب الألمان فرداً فرداً عن بقية الدراهم الباقية عليهم من غرامات الهزيمة؟
كلا!
إنما لويد جورج الذي يقول هذا هو كما قال شاعرنا العربي:
فكأني وما أزيَّن منها
…
قُعَديٌّ يزِّين التحكيما
لا ينصح بالسلام إلا كما ينصح الرجل بالعفة إذا خمدت فيه نار الغرام. أو هو كما قال خصومه (لويد جورج في السادسة والسبعين)!
أما لويد جورج الذي شن الغارة العالمية على غليوم الثاني فقد كان رجلاً آخر، لأنه كان لويد جورج في نحو الخمسين.
وشتان اللويدان!
وشتان كل إنسان يتعاقب عليه هذان العمران
ولقد كان لهذا الشيخ الكبار أخ له من قبل كان أعظم منه شأناً وأرفع في الخدمة الوطنية رتبة وأخلد سابقة في سجلات وطنه وسجلات العالم بأسره
لأن لويد جورج هزم غليوم
أما أخوه السابق فقد هزم نابليون الكبير
ولأن لويد جورج هزم غليوم في ديوان الوزارة أو على منصة الخطابة
أما أخوه السابق فقد هزم نابليون الكبير بالرأي والسيف، أو هو كان ظافراً في الميدان كما كان ظافراً بعد ذلك في الديوان.
لأن لويد جورج لا ينسى المناورات السياسية والمفاجآت المسرحية.
أما أخوه السابق فقد كان مثلاً في صراحة القول وصراحة العمل، وكان نموذجاً من نماذج الفروسية في غزواته الحربية أو غزواته الوزارية.
ذلك الأخ السابق كما علم القراء الآن هو ولنجتون القائد السفير الوزير
وقد هزم نابليون وهو في الخامسة والأربعين، ثم ساورته مخاوف الهرم فقال بعد أن جاوز الثمانين:(إنه يحمد الله الذي حماه أن يعيش حتى يرى عاقبة الخراب الذي تتجمع حولهم دواعيه)!
ولنجتون في الخامسة والأربعين غير ولنجتون في الثالثة والثمانين.
ولويد جورج في السادسة والسبعين غير لويد جورج في الخمسين.
ولابد للشيخوخة من آفة وهي هي اضمحلال الحياة
وهذه هي آفة الشيخوخة لا مراء
على أنها ليست آفة الشيخوخة وحدها فيما يرجع إلى صاحبنا لويد جورج
لأن الرجل كان في الخامسة والسبعين قبل عام واحد وليس الفرق عظيماً بين شيخ في الخامسة والسبعين وشيخ في السادسة والسبعين.
كان لويد جورج شيخاً كباراً في شهر أكتوبر من السنة الماضية
وكان لا يكف يومئذ عن تحذير رئيس الوزراء من الضعف والهوادة (مخافة أن نخون الشرف وأن نفقد ثقة العالم. بل شر من ذلك وأدهى أننا نفقد الثقة بأنفسنا. ثم لا يكون سلام
بعد هذا كله في خاتمة المطاف!).
فالذي يقول هذا في الخامسة والسبعين خليق أن يقول مثله في السادسة والسبعين
عام واحد لا ينقل الإنسان هذه النقلة، ولا ينال من عزيمته هذا المنال
فالشيخوخة على كثرة آفاتها براء مما نجنيه عليها حين نلقي عليها وحدها تبعة الخلاف في الرأي إلى هذا المدى بين عام وعام.
إنما هناك أمور أخرى تعمل عملها وتسبق الشيخوخة إلى آفاتها
إنما هناك شعور الرجل من قبل فرنسا لم يفارقه منذ كانت سياستها في حرب الأناضول سبباً من أسباب فشله وزوال عهده.
وإنما هناك شعور الرجل من قبل ألمانيا وما أبقته في قلبه زيارته لزعمائها.
وإنما هناك حب الملام ممن يده في الماء لمن يده كما يقولون في النار
وإنما هناك مفاجآت لويد جورج، ولا غنى للرجل عن مفاجآت
لقد حوسب الرجل بعد خطابه حساباً عسيراً:
حاسبوه على تبشيره بالمحالفة الروسية، وتبشيره من قبلها بالمحالفة الألمانية، وتبشيره بكل خطة تخالف ما خطته الوزارة القائمة، ثم يكون الفشل من نصيبها ويبدو العقم على وجهها قبل أن تنحدر إلى عقابيلها.
حاسبوه ولم يظلموه
وحاسبوا الشيخوخة وظلموها في غير ذنبها
وإن يكن للشيخوخة ذنب فمن الشيخوخة شفيع!
عباس محمود العقاد
السراكينوي هم السرويون
للأب أنستاس ماري الكرملي
1 -
السراكينوي لا السراكينوس
كتب حضرة الأستاذ الجليل محمد عبد الله العمودي مقالة بعنوان (الساراكينوس) في الجزء الـ 327 من (الرسالة)، ونَقَلَ عبارة المسعودي المأثورة عن نقفور الأول، ملك الروم، وهي:(وأنكر على الروم تسميتهم العرب (ساراقينوس)، تفسير ذلك: عبيد سارة، طعناً منهم على هاجر وابنها إسماعيل، وقال: تسميتهم عبيد سارة كذب. والروم إلى هذا الوقت (يعني سنة 345) تسمي العرب (ساراقينوس). . . اهـ
قلنا: إن حضرة الأستاذ خُدع بما طُبع من نص هذا الكتاب، إذ نقل (ساراكينوس) أو (ساراقينوس) بمعنى العرب. والصواب أن قد وقع خطأ في طبع هذا الاسم وهذا الصواب هو (ساراكينوي) أو (ساراقينوي)؛ أي بياء في الآخر في مكان السين. وأما إذا كان اللفظ مختوماً بسين فيدل على الفرد لا على الجمع، كما هو مشهور في تلك اللغة.
2 -
معناها
وأما أن نقفور قال: معناها عبيد سارة، فهو من تأويله الخاص به، ولم يذهب إليه أحد من العلماء الأقدمين، ولا من المحدثين. وأنتَ عليم أن هذا الملك وُلِدَ في سلوقية العراقية، في جوار المدائن، وكان فيها يومئذ مدارس عامرة تضارع أشهر مدارس ربوع اليونان؛ فتبحَّر نقفور فيها كما تبحر في مطالعة التواريخ القديمة. ولو كان معنى هذه الكلمة كما يقول هذا الملك - (أي ساراكينوي)، أي مملوكات أو مماليك سارة، لكن لم ينطق أحد من المؤرخين أو المؤلفين بهذا اللفظ، اللهم إلا أن يكون قد نحِتَ وصُحِّفَ فقيل ما قيل. لكن يبقى أن هذا التأويل خاص بالملك نقفور دون غيره؛ ويدل على قوة فكره، وتضلعه من اليونانية، وتلاعبه بالألفاظ والتصرف في التخريج وأول هذا التأويل تزلفاً من الناطقين بالضاد، واستمالتهم إليه، إذ كان في حاجة إليهم يومئذ، واسترضائهم في ذلك العهد، وليس للمسعودي أدنى خيال في هذه المسألة. فهو إذاً ناقل لا قائل، والمسعودي مؤرخ أمين وفي، لا يستحق أن يغمز غمزات هو بريء منها.
3 -
معالجتنا لهذا الموضوع قبل 35 سنة
وكنا قد عالجنا هذا الموضوع منذ أكثر من 35 سنة، فأدرجنا في المشرق (من مجلات بيروت) في سنة 1904 في مجلدها السابع ص 340 إلى 343 مقالة عنوانها:(العرب أو السَّرْحِيُون). ثم عدنا إلى البحث، فنشرنا في مجلتنا لغة العرب 7: 293 إلى 297 مقالاً وسَمْناه (السرحيون أو الشرويون)، وفي 7: 488 و 489 أيضاً. وعدنا إلى البحث رابعة فأصدرنا مقالة في لغة العرب المذكورة في 8: 584 وسمناها (الشرويّون)، وبينا أن (سراكينوي) هم الشرويون أو أهل الشراة، وهم اسم العرب الذين يقطنون الشراة، وهو صقع بالشام بين دمشق ومدينة الرسول، وكان من عمل جُند دمشق.
والآن نقول إن صحيح الاسم هو السراة بالسين المهملة، لا الشراة بالشين المعجمة
وأما كيفية تحول السراة إلى (سراكينوي) فظاهر من أن السراة، وهي تشبه سارة بعض الشبه إذا ما كتبت بحروف يونانية أو رومانية، كُسعت بأداة النسب عندهم، فصارت (سراكينوس) بالمفرد، و (سراكينوي) بالجمع. فانتهز هذه الفرصة الملك نقفور وأوَّل اللفظ بالوجه الذي نقله المسعودي.
هذا هو تأويل اللفظ اليوناني، وهذا هو وجه تحوله إلى ما تراه وتسمع به.
4 -
ذكر اللفظة غير المسعودي
أما قول الأستاذ العمودي (ص 1939 من الرسالة): (هذه الكلمة قد سجلها التاريخ في مطاويه منذ عهد عريق جداً، فالعرب لا تعرفها مطلقاً، إذ لم تشتهر في تاريخهم، وما وردت في نظمهم ولا نثرهم. فإذا كان المسعودي هو المؤرخ الوحيد الذي ذكرها، فلا شك أنها هبطت عليه عرضاً، واقتنصها اقتناصاً من أحاديث الروم. ومعنى هذا أنها غير مشهورة بين العرب، ولا جارية على ألسنتهم، فهم يجهلونها كل الجهل، جهلهم بأصلها)
فجوابنا هو: لا يمكن أن تكون هذه اللفظة معروفة عند العرب بهذه الصيغة المفلوجة المعوجة؛ إنما يقولون: أهل السراة أو السرويون. - وأما أن المسعودي هو المؤرخ الوحيد الذي ذكرها، فنحن لا نوافق عليه حضرة الكاتب الجليل، فقد ذكرها ابن الأثير أيضاً في تاريخه (1: 240 من طبعة الإفرنج) بصورة (ساراقيوس) ونقل عبارة نقفور عينها، فقال:
(وكانت الروم تسمي العرب سراقيوس (كذا)، يعني عبيد سارة بسبب هاجر أم إسماعيل. فنهاهم عن ذلك) اهـ
ومعلوم أن ابن الأثير جاء بعد المسعودي بنحو ثلاثمائة سنة، فلا جرم أنه نقل هذا الخبر عنه. وكنت قد قرأت في كتاب تاريخ قديم سبق المسعودي بنحو مائة وخمسين سنة، وهو لنصراني ذكر (الساراكينوي) فيكون هو أول مؤرخ عربي ذكرهم بهذا الاسم، فأخذ عنه سائر مؤرخي العرب، لكني لا أتذكر اسمه، ولا اسم كتابه.
وعلى كل فليس للمسعودي أدنى خيال في هذه الكلمة، فهو ناقلٌ، ثقةٌ، حجةٌ، ثبتٌ، يعتمد عليه.
5 -
لماذا سمي العرب سراكينوي أي سرويين
إن الأمة الواحدة، الوافدة على أمة ثانية، إذا اتصلت بها حديثاً وهي لا تعرفها، سميت المجهولة باسم تذكره لها الأولى، كما أنه إذا جاءك طارئ تجهل اسمه، فإنك تسميه بعد ذلك بالاسم الذي عرفَّك به، لا بالاسم الذي تضعه أنت له. فاليونان والرومان اتصلوا بعرب السراة أو السَرَوات منذ أقدم الأزمنة، فذكروهم بالاسم الذي تسموا هم به، ثم أطلقوه على العرب جميعهم من باب تسمية الكل باسم الجزء، كما أن الإرَميين لا يعرفون العرب إلا باسم (طائيين) لأنهم أول ما عرفوا منهم، كانوا من طَيء لمجاورتهم لهم، واتصالهم بهم، ثم أطلقوا هذا على العرب جميعهم وإن لم يكونوا من طَيء. ومثل هذه التسمية كثيرة الوقوع في التاريخ.
6 -
موافقة الساراكينوي للسرويين في جميع ما نقل عنهم
إذا حفظتَ في صدرك ما بسطناه لك، انجلتْ لك عرائس الحقائق بوجوهها الصبيحة. فقد نقل الأستاذ الفاضل من المعلمة الإيطالية:(إن هذه الكلمة أصبحت اليوم علماً خاصاً يطلق على العرب، فإن مفهومها قديماً كان على عكس ذلك؛ فقد كانت تدور في دائرة ضيقة من التعريف لا تطلق على الشعب العربي كله إنما كانت خاصة بقبيل معين يسكن على شواطئ خليج العقبة في الجزء الجنوبي لجزيرة سيناء يعرفه الإغريق بـ (ساراكيين) اهـ. فهذا داخل في أن هذا الجزء من سيناء هو من ملحقات السراة لا غير
وقول الأستاذ العمودي: (وأقدم ذكر جاء لهذه الكلمة في كتاب المؤرخ منتصف القرن الأول من ميلاد المسيح عندما وصف صمغ (المقل)، فقال: إنه ينبت من (شجرة ساركينية) اهـ. قول يحتاج إلى تصحيح فيقال: (وأقدم ذكر جاء لهذه الكلمة (هو) في كتاب الطبيب الشجار الإغريقي ذياسقوريذس العيْن زربى، من أبناء المائة الأولى للمسيح حينما وصف صمغ (المقل)، فقال:(صمغ شجرة تكون ببلاد العرب)(عن ابن البيطار في مادة (مقل) 2: 162 من طبعة مصر) وأحسن من هذه العبارة هذه الترجمة: (هو صمغ شجرة تكون في السراة أو في السروات)
وقال الأستاذ العمودي نقلاً عن معلمة الإسلام وإن لم يصرح به: (وذكر المؤرخ الروماني بلينوس الأكبر في كتابه (التاريخ الطبيعي)، وقد كان معاصراً للإغريقي السابق الذكر، هؤلاء (السراكين)، فقال:(إنهم من جملة القبائل العربية الثاوية في صميم الصحراء، والتي تتاخم بلادهم بلاد الأنباط) اهـ.
قلنا: ولو قيل: (إن السرويين أو أهل السراة هم من جملة القبائل العربية. . .)، لكان الكلام عين الصواب. لأن صفة البلاد التي وصفها بلينوس هي صفة ديار السرويين تماماً.
ومن مقال الأستاذ العمودي، وهو مقتبس أيضاً من المعلمة الإسلامية:(وجاء على أثر هؤلاء؛ المؤرخ بطليموس، في منتصف القرن الثاني للميلاد، فذكر بلاد (السراكين)(إنها تقع في بلاد العرب الحجرية وعيَّن مكانها بقوله إنها تقع في غرب الجبال السوداء (لعل الصواب السُود) التي تمتد - بناً على قوله - من خليج فاران إلى أرض اليهودية. . .).
قلنا: (وهذا يثبت ما ذهب إليه وُصاف البلدان من السلف أي أن السَرَوات تمتد من أقصى اليمن إلى الشام).
وأما قول الأستاذ العمودي: (ولم يكتف المؤلف بكلامه هذا، بل عاد ونقض قوله، فقال في وضع آخر من مؤلفه: (إن (السراكين) شعب يقيم في داخلية بلاد العرب (كذا. ولعل الصواب يقصد بذلك بلاد اليمن وزاد على ذلك فقال: إن الهضاب المرتفعة، وبالقرب منهم نحو الشمال والجنوب يوجد (السراكينوس) و (الثموديون) اهـ.
ثم قال الأستاذ العمودي: وهذه الفقرة الأخيرة من بطليموس بعيدة عن أفهامنا كل البعد إذ لا يصدق مطلقاً أن توجد قرابة في المسكن بين (السراكينوس) و (العاديين) مثلاً. فأولئك -
كما علمنا - مساكنهم حوالي جزيرة سيناء، وهؤلاء مثاويهم في جبال حضرموت، والمسافة بين البلدين طويلة لا تقاس) اهـ.
قلنا: إن حفظنا في ذاكرتنا السروات وأنها تمتد من أقصى اليمن، وفيها حضرموت، إلى الشام، فهمنا كلام بطليموس كل الفهم، وبلا أدنى صعوبة، من أوله إلى آخره، وأن ليس ثم أدنى مناقضة. فبعض المؤرخين من اليونان والرومان تكلموا على قسم من ديار السرويين، وآخرون على القسم الاوسط، وكثيرون على أقصى تلك الربوع، حسب احتياج الكاتب إلى ذكر قسم دون قسم آخر من السراة.
(للبحث بقية - بغداد)
الأب أنستاس ماري الكرملي
بين الإسلامية والعربية
صفحة موجزة من التاريخ
للأستاذ علي الطنطاوي
لما أراد الله أن يتم على العالمين نعمته، ويختم فيهم رسالته، وينزل عليهم (الكتاب) الذي ما فرط فيه من شيء، الجامع لكل ما يسعدهم في أولاهم وأخراهم، الخالد الذي تعهد عز وجل بحفظه وكفل حمايته، اختار الله لرسالته محمداً رجلاً من العرب لا من الروم ولا من الفرس، فأنزل عليه وحيه، واختصه بفضله وهو أعلم حيث يضع رسالته، وبعثه في (مكة) أم القرى، لم يبعثه في (روما) أم المدائن، ولا في (قصبة فارس) ذات الإيوان، وأمره أن يبدأ بقومه من قريش فيدعوهم، وبعشيرته الأقربين من هاشم فينذرهم، وأنزل عليه القرآن كتاباً عربياً لم ينزل بلغة روم ولا يونان، منة امتنها الله على العرب، ونعمة أفردهم بها. . . وكان العرب - على كريم خلالهم، وجميل سجاياهم، وأنهم لم تفسدهم الحضارة التي أفسدت غيرهم من الأمم - في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، وتنازع واختلاف، ذوي عصبية جاهلية يقاتل الرجل منهم أخاه على بكرة، ويزاحمه على قطرة، إن دعوا فإلى جامعة القبيلة ورابطة العشيرة، وإن نادوا فبيا لَتغلب ويا لَبكر ويا لَعبس ويا لَذبيان، ما نادوا قط: يا لَلعرب! فدعاهم صلى الله عليه وسلم إلى ما يحييهم: إلى طرح أصنامهم وآلهتهم، وعبادة الله إلهاً واحداً لا إله إلا هو، وإقامة الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وإيتاء الزكاة التي تصلح حال الأمة، وتؤلف بينها، وتحيي فقيرها بما لا يضر بذله غنيها، وصوم رمضان وحج البيت وشهادة المؤتمر الأكبر في عرفات، واستكمال مكارم الأخلاق، وطرح عصبية الجاهلية، واستبدال الخلاف والتنازع بأخوة في الله، ووحدة في الإسلام، فأجاب منهم من كتب الله له الحسنى، وأبى من سبق عليه الشقاء، فصار الناس فريقين: مؤمنين وكافرين، وصار القرآن ينزل بـ (يا أيها الذين آمنوا) بعد أن كان ينزل بـ (يا أيها الناس)، ولم يبق إلا نسب الإسلام نسب، وبطلت من دونه الأنساب، فغدا النبي صلى الله عليه وسلم يصلى تالياً شتم عمه الأدنى أبي لهب الهاشمي القرشي (تبت يدا أبي لهب وتب) ويقول عن سلمان الفارسي الأعجمي: سلمان منا أهل البيت. وتطوي بنت أبي سفيان رضي الله عنها الوسادة عن أبيها وتقول إنما أنت رجس، وقد كان رحمه الله يومئذ
على دين قومه، ويستأمر رسولَ الله في قتل شيخ المنافقين ولدُه الذي انحدر من صلبه، ويقول أبي بكر رضي الله عنه لابنه (وكان مع قريش): لو تراءيت لي في المعركة لقتلتك. لا تأخذهم في دين الله شفقة ولا رحمة، ولا يعدلون برابطة الدين رابطة ولا رحماً، ويؤيد الله المسلمين بنصره فينصرهم ببدر وهم أذلة، فيقتلون المشركين ولم يقتلوهم ولكن الله قتلهم، ويثبتهم في أحد ويرسل على الأحزاب ريحاً وجنوداً لم يروها، وينزل أعداءهم من اليهود من صياصيهم. ولبثوا على ذلك حتى أراد الله إكمال الدين وإتمام النعمة، فجاء نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجاً وعم السلام الجزيرة وألف بين أهلها (ولو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم) واجتمع المسلمون في حجة الوداع، وقام صلى الله عليه وسلم يخطب مبيناً ومودعاً ومبلغاً، فقال:
أيها الناس اسمعوا قولي، فإني لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً. أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من أئتمنه عليها وإن كل ربا موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم، لا تَظلمون ولا تُظلمون.
أيها الناس، إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبداً، ولكنه إن يُطع فيما سوى ذلك فقد رضى به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه دينكم.
أيها الناس، إن لكم على نسائكم حقاً، لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبيَّنة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهنَّ في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عوانٍ لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمات الله، فاعقلوا أيها الناس قولي فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما أن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، أمراً بيناً: كتاب الله وسنة نبيه.
أيها الناس، اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمنَّ أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم، اللهم هل بلغت؟
قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد.
وانتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وخرج المسلمون لينشروا دين الله، وينقذوا
العالم، فكانوا يعرضون على من يلقون خصالاً: أولاها أن يدخل في الإسلام فيكون واحداً منهم له ما لهم وعليه ما عليهم، لا يفرق بين المسلمين اختلاف لون ولا تباين لسان، ولا يفضلون عربياً على عجمي إلا بالتقوى؛ فإن أبى رحمة الله وكره دين الحق، عرضوا عليه الثانية وهي أن يدفع الجزية فيكون له ذمة الله وذمة رسوله وذمم المسلمين، ويكون في حرزهم وكنفهم، حقه محفوظ له، وحريته مضمونة ومعابده قائمة، وإن تعدى عليه مسلم انتصف له منه، ثم إن الجزية شيء لا يكاد يذكر، دراهم قليلة هي دون ما على المسلم من زكاة أو عشر أو غير ذلك، ثم إنها يعفى منها الصبي والشيخ العجوز، والراهب المتعبد، فإن أبوها فقد آذنوا بالحرب. وكذلك فتحوا البلدان، فلم تكن إلا سنوات حتى تغلغل الإسلام في أقاصيها. ولم يمض القرن حتى غدت بلاد العجم كلها مسلمة الدين، عربية اللسان، ونشأ من كل مدينة فيها علماء فحول كانوا أئمة الدين وكانوا أعلام الأدب وكانوا مصابيح الهدى، وحسبك بالبخاري والرازي والطبري والمروزي والتبريزي والجرجاني والأصفهاني والقزويني والفيروز آبادي ممن نشأ في بخارى والري وخراستان ومرو وتبريز وجرجان وأصفهان وقزوين وفيروز آباد. ممن كان من أصل عربي أو كان من أرومة فارسية كأبي حنيفة وسيبويه والحسن وابن سيرين والزمخشري، من العلماء أو من الأدباء كابن المقفع وبشار وأبي نواس وابن الرومي، ولم يكن فيهم من يرضى أن تقول له أنت أعجمي يخدم العربية، بل هم لا يرون أنفسهم إلا عرباً، ولا يجدون شتماً أبلغ من أن تقول لواحدهم (أنت شعوبي) قال الزمخشري أستاذ الدنيا جار الله في مقدمة مفصله:(الحمد لله على أن جعلني من علماء العربية، وجبلني على الغضب للعرب والعصبية، وأبى لي أن أنفرد عن صميم أنصارهم وأمتاز، وأنضوي إلى لفيف الشعوبية وأنحاز، وعصمني من مذهبهم الذي لم يجد عليهم إلا الرشق بألسنة اللاعنين والمشق بأسنة الطاعنين).
وسبب ذلك أن الإسلام امتاز من سائر الأديان، بأنه دين وقومية جامعة، وأنه سياسة وإنه تشريع (ولما كان الإسلام ديناً وجنسية، وقد رفع الحدود بين الأمم اللاتي تدين به، وكره أن يدعى فيها بدعوة الجاهلية، وجعل أصحابها جميعاً إخواناً يؤلف مجموعهم كتلة واحدة لا فضل فيها لعربي على عجمي إلا بالتقوى، ولما لم يكن بد للمجموعات البشرية من رابطة تتعصب لها وتعتصم بعروتها، فإنه وهو دين التوحيد ودعوته للاتحاد. . . كان لابد
للمسلمين من وحدة عامة، وعصبية عامة، ولسان عام، وقد نبت الإسلام عربياً، وبعث على لسان رسوله العربي، ونزل قرآنه بلسان عربي مبين، فصح لهذا أن يمتزج الفرع بأصله، ولن يتحد الإسلام بالعربية، وأن يكون لسان شعوبها قاطبة، وقد نجحت هذه النظرية أتم نجاح، وأخلص المؤمنون العمل بها، فعمت العربية ذلك المنبسط الآسيوي والأفريقي إلى حدود جبال البرنة في أوربا، وذلك ما يعجب به علماء الاجتماع الآن).
فكان انتشار لسان العرب في هذه الأمم كلها واستعرابها قاطبة من عمل الإسلام الذي جعل العربية لسان العبادة بين العبد وربه. وأوجب على كل مسلم تعلم شيء منها يقيم به صلاته، وجعل فهم القرآن وهو غاية كل مسلم معلقاً على درس العربية وفهمها، وجعل حب النبي وقومه من أصول الإسلام، كما أوجب الحج لتكون هذه البقعة العربية القاحلة وهذا الوادي العاري غير ذي الزرع أحب إلى المؤمن من داره وبلده.
على هذا الأساس أنشئت الدولة الإسلامية الضخمة، وقامت تلك الحضارة الجليلة وبني الماضي العظيم، ولا صلاح لآخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
ثانوية (كركوك)
علي الطنطاوي
الفروق السيكلوجية بين الأفراد
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
(تابع)
كان - معلم البيان - بيئيَّ المذهب فكان يعتقد أن الفروق السيكلوجية بين الأفراد - وبخاصة العقلية والخلقية منها - هي من آثار البيئة. وكان يرى أن التربة تمحو هذه الفروق أو تقلل من أهميتها. وقد بني رأيه هذا على تجاربه في إعداد خطباء الجماهير. وهو يميل إلى أن التمرين قد يعوض على الفرد ما قد حرمته الوراثة. وهو يقول في كتابه (معاهد الخطابة) يأتي:
(على الوالد أن يفكر منذ ولادة طفله في أفضل مهنة يريد إعداده لها. لأنه بتفكيره هذا يكون قد وضع نصب عينيه الغاية التي يريد تنشئته لها، فينمو بذلك نشاطه، وتشحذ جهوده في تقويمه وتسويته من طليعة حياته. وإنه لزعم واهٍ أن يقال: إن قليلاً من الأفراد قد وهبوا الذكاء والقدرة على فهم ما يلقى إليهم، وإن الجمهور من الأفراد يَضيع جهدُه ووقته سدى بسبب قلة الذكاء وبطء الإدراك. فالحقيقة تناقض هذا الزعم. لأننا نجد السواد الأعظم من الأفراد قابلاً للإدراك سريع التعلم، ولأن سرعة التعلم ميزة من ميزات الإنسان. ونحن البشر خُصِصْنا بالنشاط والفهم الحكيم، لأن عقلنا قد نزل من السماء وقل من الأفراد من يولد غبياً أو غير قابل للتعليم، كما قل من الأفراد من يولد ممسوخ الخلق مشوه الشكل. ويؤيد رأيي هذا أنني أرى بذور الذكاء كامنة في نفوس الكثير من تلاميذي، وقد تموت هذه البذور بمرور الزمن. ومعنى ذلك أن ظهور الذكاء وتفتحه رهن بالعناية والتمرين لا بوجود المقدرة الطبيعية فقط. ولعلك تعترض فتقول إن تفوق فرد على آخر إنما هو لما امتاز به الأول من مقدرة طبيعية. وإنني أسلم ذلك، ولكن هذا التفوق لا يُعترف به إلا إذا كانت المقدرة الطبيعية عملية محسوسة منتجة، كما أنك تسلم معي أن من جَدَّ وجد. فعلى من اقتنع بصواب رأيي هذا أن يسارع بمجرد أن يصبح أباً، فيفكر في مستقبل ابنه، وماذا سيكون، فيعمل لذلك المستقبل بحرص وعناية ويقظة).
ونحن وإن سلمنا بأن كوينتليان من أنصار مذهب البيئة لا يسعنا إلا أن نثبت له أيضاً أنه يعترف بوجود الفروق السيكلوجية الموروثة بين الأفراد. فهو إذاً يقر بالفروق السيكلوجية
الفطرية، وبأن هذه الفروق يمكن إزالتها بالتربية والتمرين.
وفي عصر النهضة أخذت دراسة الفروق السيكلوجية بين الأفراد اتجاهاً جدياً في المدارس الايطالية، وعنى المعلمون بها في توجيه تلاميذهم إلى نوع العمل والدراسات التي تصلح لهم.
ويعتبر فيتورينو عاش في القرن الخامس عشر أول مدرس بيداجوجي بحق. كان ناظراً لمدرسته ومدرساً بها. وقد اهتم بمعرفة الفروق السيكلوجية بين تلاميذه واكتناه أسبابها، وكيفية استغلالها في تكوين شخصيتهم. درس ولاحظ ميول تلاميذه الطبيعية المختلفة، ومظاهر هذه الميول، وقدراتهم الفطرية. وكان يضع لكل تلميذ منهم طريقة للتدريس خاصة تتفق وقواه العقلية وذوقه. وهو يقول في هذا الصدد (ليس كل فرد صالحاً لأن يكون قانونياً أو طبيباً أو فيلسوفاً محترماً باقي الذكرى بين الجمهور، وليس كل فرد موهوباً نعمة الذكاء الطبيعي).
ونحن نجد مما سقنا عن فيتورينو أنه لم يكتف بمعرفة الناحية النظرية من الفروق السيكلوجية بين الأفراد بل طبَّق هذه المعرفة في مدرسته، بل لقد بالغ وأسرف في تطبيق نظرية الفروق السيكلوجية ونتائجها. فكان لا يتردد في أن يطرد من مدرسته أي تلميذ يرى أنه سيئ الخلق. كما كان في كثير من الأحيان يفصل البلداء، أو من تخلف ذكاؤهم بعد سبق.
وفي القرن الثامن عشر سادت أوربا حركتان عقليتان في فلسفة التربية: الحركة التعقلية التي تعزز من شأن العقل وحده وتدعو إلى الثقة بما يوحي به، والحركة الطبيعية وهي التي تجعل للميول والعواطف المحل الأول في شؤون التربية والاجتماع، والتي تدعو إلى أخذ الطفل بما يوافق طبائعه ويلائم ميوله ورغباته. وتدعو هذه الحركة إلى إعطاء الطفل أكبر نصيب مستطاع من الحرية لتنمية غرائزه الصالحة وقواه المنتجة النافعة. وزعيم هذه الحركة هو جان جاك روسو. وقد كانت رسالته في التربية (إميل) ثورة على نظريات التربية القديمة التي كانت تحول بين الطفل وبين نمو غرائزه، وتحدد من نشاطه العقلي وتقيده بآراء دينية واجتماعية تقليدية.
جاء روسو منادياً بتقوية الفردية وبتشجيع الغرائز على إظهار آثارها، وإزالة العوائق التي
تقطع عليها طريق الحرية الكاملة. وهاك اقتباساً من كتابه (إميل) يحث فيه على تنمية المواهب الفردية وتقويتها:
(لكل طفل استعداد عقلي خاص. ووفقاً لهذا الاستعداد يجب أن يوجه الطفل. وإذا أردنا نجاحاً في تربية الطفل وجب علينا أن نسير مع ميوله الطبيعية. كن حازماً وراقب طبيعة طفلك طويلاً، ولاحظه بحرص وحيطة من قبل أن توحي إليه بكلمة أو إرشاد. دع أولاً بذور طبيعته تترعرع، وأحذر أن تتدخل في نموها إلا قليلاً حتى ترى عم تتفتح براعمها) وإذاً فروسو وراثي المذهب، لأنه يرى أن الفروق السيكلوجية - وهي التي تكون الفردية - طبيعية وموروثة، وأن مهمة المربي هي أن يرعى ما في الفرد - أي الطفل - من قوى، ويراقبها، وهو يحث المربين والكبار على (أن يحترموا الأطفال، وألا يتعجلوا في الحكم على أفعالهم بالخير أو الشر. وإذا كان من بين الأفراد بعض الشواذ، فالأولى أن يتركوهم مدة من الزمن حتى تظهر نواحي شذوذهم، ثم يعالجوهم بما يصلح لها. دع الطبيعة - يعني طبيعة الطفل - تعمل وئيداً، واترك لها الزمن الكافي قبل أن تستعيض عنها غيرها، خشية أن تعطل وظيفتها النافعة).
وفي أثناء المراحل الأولى من نمو الطفل سيعرف الطفل نفسه بنفسه. ويرى روسو أنه (لا ضير أن يترك الطفل وشأنه يفعل ما يشاء، لأنه قد عرف قوة نفسه، ومن المستحيل أن يعمل شيئاً لا يقدر على عمله، ولأنه لا يمكن أن يعدو حدود قدرته الطبيعية، وهو يعرف تماماً ما هي).
ومعنى هذا أن روسو يترك للطفل كامل حريته حتى تنمو فيه الصفات المكونة لفرديته، والتي تميزه عن غيره. فالفروق السيكلوجية إذاً نتيجة للنمو الحر للخواص الطبيعية الموروثة عند الأفراد.
ولكن رجال التربية الحديثة لا يشاركون روسو في هذا النوع من التربية المطلقة، لأنهم لا يثقون بتعليم الطبيعة وقيادتها وحدها، ولأنهم يخشون إن تركت الغرائز الفردية والميول الطبيعية حرة، أن تسلك الطريق المعوج كما تسلك الصراط المستقيم. وهم يعللون ذلك المذهب البيداجوجي الذي اعتنقه روسو ونادى به بأنه رد فعل للروح الاجتماعية والتربوية التي كانت سائدة في عصره والتي قيدت النمو السيكلوجي الطبيعي للطفل.
وكل ما يهمنا من مذهب روسو في هذا البحث هو أن نُسجِّل أنه فطن كغيره من الفلاسفة والمربين الذين ذكرناهم في هذا المقال وسابقه، فطن إلى الفروق السيكلوجية عند الأطفال والى ضرورة تنمية الفردية وتربيتها عند الأطفال.
هذا وقد أصبحت الفروق السيكلوجية بين الأفراد من الحقائق المسلم بها بين المربين وعلماء النفس المعاصرين، وهم يوصون بأن تكون مناهج الدراسة وطرقها مختلفة باختلاف الأفراد، ولكن إقرار الحقائق شيء والقيام بتنفيذ مستدعياتها شيء آخر. ولا زالت هناك صعوبات مادية وعملية في سبيل تحقيق مستدعيات الفروق السيكلوجية بين الأطفال. ففصول الشواذ والمتخلفين وطرق التربية الفردية من الأشياء التي يشعر المربون بضرورتها وإن لم يستطيعوا تحقيقها بعد في كل معهد دراسي.
(بخت الرضا. السودان)
عبد العزيز عبد المجيد
الثقافة العسكرية وأناشيد الجيش
للأستاذ عبد اللطيف النشار
نشيد الأحزاب
من وضع السيد الرسول صلى الله عليه وسلم
الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر
الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا
وسبحان الله بكرة وأصيلا
الحمد لله وحده
…
صدق وعده
ونصر عبده
…
وأعز جنده
وهزم الأحزاب وحده
الله أكبر. الله أكبر. ولله الحمد
من من المسلمين لا يحفظ هذا النشيد؟
كلنا نحفظه، ولكن أكثرنا يرتلونه قعوداً بعد صلاة عيد الأضحى. ولا يزال في الريف من يرتلونه في موكب عند عودتهم من المسجد إلى القرية. أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يرتله في وسط كوكبة من الجند، ووراء الكوكبة جيش جرار على صدر كل منهم درعه، وعلى رأسه اللأمة، وفي يده السيف المسلول.
كانوا رضوان الله عليهم أجمعين يمشون مشية المحارب ويرتلون هذا النشيد الرصين الهادئ القوي على نغمات المسير. فهو إن أردنا تسميته بالمصطلح العصري (مارش الإسلام) هو النشيد الذي أعد لمسير الجيوش التي فتحت فارس ومصر بعد عقدين من الهجرة النبوية الشريفة.
الحمد لله وحده
…
صدق وعده
ونصر عبده
…
وأعز جنده
وهزم الأحزاب وحده
هذا الكلام البليغ ليس بالشعر، ولكنه قابل للتلحين. وقد حفظنا لحنه وأنشدناه ولا نزال
ننشده في كل عام. وكل الفارق بيننا وبين قائليه الأولين أنهم كانوا يرددونه وفي أيديهم السيوف ونحن نرتله وفي أيدينا المسابح، وأنهم كانوا يرددونه وهم يمشون إلى القتال ونحن نقوله ونحن سائرون إلى الديار لشرب مرق الأضاحي التي أمرنا بذبحها للفقراء فذبحناها لنأكلها نحن هنيئاً مريئاً، وأنهم كانوا يرتلونه وتنبض قلوبهم بشعور حي لأنهم يفهمون لكلمة (وهزم الأحزاب وحده) معنى غير الذي نفهمه نحن. . . هم يفهمون أن الأحزاب هم فلان وفلان الذين رأوهم في يوم كذا من شهر كذا يذبحون فلاناً وفلاناً من أقاربهم وقد هزمهم الله بأن مات منهم فلان وفلان وأسر منهم فلان وفلان وأسلم منهم فلان وفلان.
(وهزم الأحزاب وحده) كلمة بليغة نقولها نحن، ونغمة شجية نطرب لها نحن، ولكنها غير مشفوعة في خيالنا بالصورة الواضحة التي يترسمها القائل المجاهد، وغير مشفوعة في مشاعرنا بذكريات الأرحام الممزقة، والمودات التي استحالت إلى عداوة، والعداوات التي استحالت إلى أخوة.
ألفاظ نقولها ونغمة نعيها ونفهم معاني كل كلمة فيها ونعي النغمة أيضاً، ولكننا بعد ذلك لا نفهمها الفهم الكامل لأنها لا تستثير في نفوسنا ذكريات حية واشجة بحياتنا الشخصية ولا تعرض على خيالنا صوراً رأينا مثلها بالحس:
صدق وعده
…
ونصر جنده
وهزم الأحزاب
…
وحده
نفهم كل حرف من هذا ولكننا لم نر النبي كما رأوه وهو يرتعد ويقول: اللهم وعدك الذي وعدتني. ولم نسمع أبا بكر يجيبه كما سمعوه حين أجابه وهو يقول: إن الله منجزك ما وعدك. فالألفاظ واحدة ولكنها أدت لدى الكثرة منا معاني فحسب، وأدت لدى من قالوها لأول مرة معاني وصوراً وانفعالات. بل لو شئنا لقلنا إنها أطلقت من غددهم إفرازات اختلطت بدمائهم فكونت في عروقهم لوناً آخر من ذلك السائل الكيميائي غير الذي يجري في عروقنا نحن.
هذا النشيد إذن بتأثيره في سامعيه نشيد غير الذي ننشده نحن وإن لم تختلف ألفاظه، وما قيمة الألفاظ التي لا تنقل نفس الأثر؟
ولكن أحقاً أنها لا تنقل نفس الأثر؟
أحسب القول ذا إجابات تتراوح بين الإقرار وبين الإنكار، فإن الخيال والدرس والإيمان كل ذلك خلال تستبقي الأثر لكل لفظ قيل إذا تشابهت ظروف القول. وهذا النشيد ككل قول آخر ينطبق عليه قول أبي الطيب:
ولكن تدرك الأفهام منه
…
على قدر القرائح والعقول
ولقد كان الذين دفعهم إيمانهم إلى دراسة السيرة النبوية دراسة تربط الفهم بالوجدان - كان هؤلاء يتأثرون بهذا النشيد حين يسمعونه كما تأثر به أوائل من سمعوه إذا اتفقت لهم مثل الظروف التي قيل فيها. فطارق بن زياد في فتح الأندلس قال في وسط الجند:
الحمد لله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده.
قال لهم ذلك والسيوف في أيديهم ينقل إليهم مثل الإحساس الذي عالجه المهاجرون والأنصار وهم على أبواب المدينة في العام الثاني للهجرة والنبي واقف يقول إن المشركين قد اقتربوا من المدينة يريدون غزو المسلمين، وإنه يريد أن يخاطر بعض المسلمين بحياتهم فيذهبوا إلى حيث معسكر الكفار ليعرفوا مواقعهم ويبرزوا قوتهم ثم يأتوه بالأخبار.
سأل النبي أيهم يقدم على هذه المخاطرة، فتقدم منه الزبير يعلن استعداده لها.
ولكن النبي أعاد السؤال فكان الزبير هو الذي أجاب، وأعاد النبي السؤال للمرة الثالثة فكان الزبير هو الذي أجاب. فقال عليه الصلاة والسلام إن لكل نبي حواريين وإن حواريَّه هو الزبير.
أجميلة هذه الصورة؟
جميلة بلا ريب. لكن أجمل منها ذلك الشعور النبيل الذي جاش بنفس النبي وجاش بنفس كل جندي من جنوده، هو الشعور بأن الأحزاب إن هزمت فإن الذي سيهزمها هو الله وحده، ومن الذي يستطيع أن يهزم الأحزاب غير الله؟
إن أحداً لم يعد النبي بالنصر غير الله. فالله سيهزم الأحزاب لأنه سبحانه وعد بذلك. والأحزاب عدد كبير، ولكن الله أكبر.
كذلك تدفقت من فم النبي هذه الأنشودة التي ظل يرتلها في كل غزوة والمسلمون يرتلونها معه:
الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر
الله أكبر كبيرا
…
والحمد لله كثيرا
وسبحان الله بكرة وأصيلا
الحمد لله وحده
…
صدق وعده
ونصر عبده
…
وأعز جنده
وهزم الأحزاب وحده
الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. ولله الحمد
وبعد فهذا أول (مارش) في الاسلام، ولم يكن بالشعر ولكن صاحب الرسالة التي تحدت الشعر بالفواصل الكريمة: فواصل القرآن قد تحدت الأناشيد العسكرية بهذا النثر الموسيقي الذي فتحت به فارس وفتحت به مصر وفتحت به الشام وفتحت به أفريقيا وفتحت به الهند وفتحت به الأندلس وفتحت به بلاد البلقان وفتحت به بلاد النمسا الجنوبية وبولونيا. ثم ماذا؟ كان يفتح به سائر العالم لو فهم المسلمون فهماً مشفوعاً بالشعور العميق معنى!
الحمد لله (وحده)، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده!
ولكن هل في هذا النشيد الهادئ القوي الرصين ما في أناشيدنا من الألفاظ الجوفاء كالنار والفداء والدماء؟
لا. لأن الجيش المحارب لا يستطيع الانتصار إلا إذا شعر بأنه من أجل الحياة يدافع، ومن أجل الرفاهية يهاجم، وأنه في سبيل الخير يتحرك، وأن الغرائز التي تستحثه هي الغرائز السامية لا شهوة الدم والنار.
عبد اللطيف النشار
في الأدب الإنجليزي الحديث
د. هـ. لورنس
للأستاذ عبد الحميد حمدي
الرجل كابن ومحب
قابل بول فتاة أحلامه، وشعر بقلبه يخفق نحوها، وحاول أن يتصل بها فما أمكنه ذلك، لأنه كان عشيق أمه وخلها الوفي، وفي الوقت نفسه كانت الفتاة التي قابلها وليدة العصر الحديث وثمرته، ترى في الجنس عدوها اللدود، وترى في الرغبة الجنسية الشر الذي لابد منه. وكثيراً ما صرحت لبول برأيها في العلاقة الجنسية، ومن ذلك قولها له:(إن الزواج لا بأس به، ما خلا هذه العلاقة فلولاها لكان نعيماً ليس بعده نعيم، ولكن ما قدر يكون وليس علينا إلا الإذعان).
وبدل أن يكون الحب مصدر سعادة البنت وينبوع هنائها، صار سبب آلامها وأساس عذابها، فصارت تقضي جل وقتها واجمة مطرقة، تفكر وتمعن في التفكير، وكلما فعلت ذلك تضاعفت آلامها وزادت.
أحب بول ميريام وهام بها لكنه كان يريد أن يحبها حب الرجل للمرأة، ولكنها ما كانت لتستطيع التفكير في العلاقة الجسمية، وحتى القبلات الحارة كانت تؤلمها أيما إيلام. كان بول يفهم ذلك من حبيبته فما حاول أن يؤلمها أو يعذبها، وفضل أن يكبت غريزته على أن يجرح فيها تلك النقطة الحساسة. أما هي فشعرت برغبته الملحة إلى جسمها حتى دون أن يبديها بكلمة. أدركت الفتاة ذلك فأعطته ما يريد، أعطته إياه وهي تشعر بثقل التضحية التي تقدمها له، وهبت له جسمها، لا كما تهب المرأة جسمها للرجل ولكن كما توهب الضحية للآلهة. لم تكن تريد هذه العلاقة الجنسية، ولكنها كانت تريده هو، ولا سبيل إلى الاحتفاظ به إلا إذا أعطته ما يريد. وهذا ما دعاها للخضوع لمشيئته والاستسلام لرغبته. وإن ينس بول فلا ينس ذلك اليوم الذي أسلمت فيه له نفسها. لقد راعه في بادئ الأمر جمالها، فرأى فيها مثال الجسم الناضج الصحيح، فشعر بالدم يتدفق حاراً في عروقه، وأحس بجسمه يحن إلى الاتصال بها، فتقدم منها خطوة واحدة ثم وقف في مكانه لا يستطيع حراكاً. لقد رآها
وقد رفعت يديها نحوه في حركة كلها توسل واستعطاف كأنما ترجوه أن يعفو عنها ويتركها دون أن يمسها بأذى أو مكروه. تطلع إلى وجهها فرأى عينيها الواسعتين ترقبانه في استسلام وخضوع وترجوانه أن يعفيها من هذه المهمة العسيرة. كانت كالذبيحة التي رقدت مستسلمة حتى يحين وقت تقديمها قرباناً للآلهة. . . فكان كل ذلك سبباً في برود كل عاطفة كان يشعر بها نحوها. . .).
وفضلاً عن ذلك كانت ميريام ابنة القرن العشرين، تؤمن بتلك النظرية المستحدثة التي تسوي بين الرجل والمرأة، والتي تقول بوجوب مزاولة المرأة لكافة أعمال الرجال، فبدلاً من أن تركز كان تفكيرها في حياتها المنزلية كانت تحن دائماً إلى ممارسة أي عمل من أعمال الرجال، وكثيراً ما كانت تقول:(أريد لو أتيحت لي الفرصة مزاولة عمل من الأعمال كما أتيحت لكثيرات قبلي. وهل كان ذنبي أنني خلقت امرأة، إن هذا أبعد ما يكون عن العدل).
ورغم أنها كانت تكره الجنس الآخر إلا أنها كثيراً ما كانت تتمنى لو خلقت رجلاً، وكان مقياس احترامها لأي شخص هو مقدار ما حصله من التعليم والدراسة.
وفي الوقت نفسه كان يشعر بول في قرارة نفسه أن حبه لأمه لا يترك له فرصة كي يحب امرأة أخرى غيرها، وكان يعرف أنه مهما أحب ومهما أخلص فحبه لأمه أقوى وأثبت. ومع ذلك كان يتمنى لو صادف المرأة التي تستطيع أن تحبه حباً جسيماً، حباً يستطيع أن يكسر تلك الأغلال التي تقيده بأمه وتربطه بها ولكن ما كانت ميريام أبعد ما تكون عن هذه المرأة، وكان هو يعرف عنها ذلك، فكان يحبها ويشفق عليها، ثم يعود يبغضها ويمقتها.
وأخيراً لم ير بداً من أن يطلب منها فصم تلك الصلة التي بينهما، فكانت الضربة القاضية التي هدمت حياتها.
ترك بول ميريام واتصل بكلارا، وعلى العكس من حبه لميريام، كان حبه لكلارا حباً حيوانياً لا غير، ففي أول مقابلاته لها نراه يسترق النظر إلى صدرها من تحت ثيابها منتهزاً فرصة انحنائها لاقتطاف زهرة، ثم نراه وقد انتقل ببصره إلى رقبتها وبقية جسمها، ورغم ذلك فقد باء حبه في هذه المرة بالفشل أيضاً نتيجة حبه لأمه، فعجز عن أن يهبها جسمه كله، فأعطاها جزءاً ومنع عنها الجزء الاكبر، وكانت كلارا امرأة ذات تجارب فلم
يفتها ذلك ولم تتردد أن قالت له في يوم من الأيام بعد أن اتصل بها مباشرة: (إني أشعر وكأني لم أتصل بك ألبتة، أشعر كأنك بعيد عني كل البعد).
وفي آخر الرواية ترى الأم مقدار الضرر الذي تلحقه بأبنائها نتيجة استئثارها بحبهم، وترى كذلك أنها مهما خدمتهم ومهما تفانت في هذه الخدمة فلن تستطيع أن تجعله يعدل عن حب امرأة أخرى. فيتحطم قلبها ويذبل جسمها وتسير في طريقها نحو القبر بخطوات واسعة.
ويرمز لورنس بموت الأم إلى مآل المرأة التي تسير في الطريق غير الطبيعي، ذلك الطريق الذي لم تخلق له.
ويرى في ميريام وكلارا نساء القرن العشرين، فكل منهما امرأة لا تصلح لشيء سوى حضور المراقص وإقامة الحفلات واستغلال أصحاب الأموال واستعبادهم. ونرى شخصيتيهما تتكرر في رواياته الأخرى تحت أسماء أخرى.
فنجد أميلي في (الطاووس الأبيض) وهيلدا في (ظل الربيع) وهيلينا في (المعتدي).
ويرى في بول الرجل الذي يفيض قلبه بالعاطفة التي أشعلتها فيه أمه، وهؤلاء يظلون عذارى داخل أقفاص من حديد، يتمنون حب امرأة ليجرف أمامه حبهم لأمهاتهم، وعبثاً ما يتمنون.
وتتكرر هذه الشخصية كثيراً في روايات لورنس المختلفة، فهو شربنزكي في (قوس قزح) وألفريد دبرانت في (بنات القسيس) وجورج في (الطاووس الأبيض) وبرتي ريد في (العميان).
أما مورل الأب فهو مثال لورنس الأعلى ورجله الكامل، خلع عليه كل صفات الرجولة ومميزاتها، ونجد له أشباهاً في الروايات الأخرى، فهو أنابل في (الطاووس الأبيض) وهو ميلورز في (عشيق لادي تشاترلي).
(يتبع)
عبد الحميد حمدي
خريج جامعة اكسترا بإنجلترا
الأسمار والأحاديث
للدكتور زكي مبارك
أخي الأستاذ الزيات:
بعد أيام يظهر كتاب (الأسمار والأحاديث)، وهو كتاب صورت به ما يصطرع في الجو الأدبي والاجتماعي من أحلام وأوهام، وحقائق وأباطيل.
وقد كتبت مقدمة ذلك الكتاب وأنا غضبان: فهجمت على أهل العصر بما أعتقد أنهم له أهل، وتوجعت من بعض ما عانيت من الأصدقاء والزملاء.
ومن حقي على مجلة (الرسالة)، وهي صديق، أن تنشر هذه المقدمة على ما فيها من قسوة وعنف، لأنها تصور بلائي بأهل زماني، ولأنها كذلك تؤرخ حياة باحث له بين قراء (الرسالة) أصدقاء لا يؤذيهم أن يفتن بنفسه وبأدبه أشد الفتون.
زكي مبارك
أيها القارئ:
هل تذكر ما يحدِّثك به مِراض القلوب إذ يقولون إني أُثني على نفسي في فواتح مؤلفاتي؟
أنت تذكر ذلك، ولا ريب، لأنهم يُعيدون هذه التهمة في كل وقت بغير حساب.
فهل ترى من حقي أن أدفع هذه التهمة في فاتحة كتابي هذا، لعلهم ينتهون؟!
إن الحاسدين والحاقدين لم يتركوا طريقاً إلا سلكوه لينفِّروك مني، أيها القارئ، ثم عادوا جميعاً خاسئين مدحورين، وتلك عاقبةُ البغي والعدوان.
لقد عابوا عليَّ أن أُفتن أشدَّ الفتون بما وصلتُ إليه من الظفَر بودادك، أيها القارئ، فهل كانوا ينتظرون أن يَغزُوا قلبك بعدْوَى الحِقد والضِّغن فأعيش في دنيايَ بلا صديق؟
إن ودادك، أيها القارئ، هو الذي أرهف قلمي، وصقل بياني، وهو العزاء عما أعاني في دهري وزماني من ظلم وعقوق. وما تذكرتُ حبك، أيها القارئ، إلا غفرتُ ذنوب الدهر وصفحتُ عن مكايد الزمان.
والآن - وقد رُفِع بيني وبينك الحِجاب - أَحِبُّ أن تعرف أني لم أسرق مودتك ولم أنهب ثقتك، وإنما غنِمتُ من مودتك وثقتك ما غنِمتُ بفضل الكفاح الموصول، وبفضل ما أنفقتُ من نور البصر تحت أضواء المصابيح، في زمنٍ تؤخذ فيه بعض المراكز الأدبية بالخداع
والتضليل، وبيع الضمائر والقلوب.
إليك، أيها القارئ، أَنفُض أحزاني وأشجاني. ولو شئت لدللتُك على فيالق من المؤلفين في المشرق والمغرب شكَوْا دهرهم كما شكوتُ، وتوجعوا من زمانهم كما توجعتُ، وعانْوا من غدر الأصدقاء والزملاء بعض الذي أعاني.
فأنا لم أبتكر شكوى الزمان، وإن كنتُ أشقى المكْتوين بغدر الزمان.
أنا ما سرقتُ ثقتك، أيها القارئ، حتى ينفق ناسٌ من أعمارهم ما ينفقون لينفِّروك مني، فأنت تعرف أني قضيت أكثر من عشرين سنة في خدمة اللغة العربية خدمةً صحيحةً صادقةً، يعجز عنها الرجال (الأفاضل) الذين يُحسنون حِياكة الأقاويل والأراجيف، والذين تشهد سرائرهم بأنهم لو كلِّفوا نسخ مؤلفاتي ومقالاتي وقصائدي لانقضت أعمارهم قبل أن ينسخوا تلك الألوف المؤلفة من الصفحات العامرة بالأفكار والمعاني.
المخلصون في زمانك قليل، أيها القارئ، وهم مع ذلك لا يخدمونك إلا في ميدان أو ميدانين، أما أنا فقد خدمتك في كثير من الميادين:
نظرتُ فرأيت اللغة العربية تتشوق إلى من يحدد مقاصد النقد الادبي، فألفت كتاب (الموازنة بين الشعراء) وقد طُبِع مرتين. ورأيت لغة العرب تنتظر من يحقق بعض المؤلفات القديمة فنشرت كتاب (زهر الآداب)، وتداركتُ في الطبعة الثانية ما فاتني تحقيقه في الطبعة الأولى، فجاء صورةً من الأدب المخدوم بجدٍ وعناية، ثم نشرتُ (الرسالة العذراء) مصحوبةً بدراسات وتحقيقات، ثم عاونتُ على إخراج كتاب (الكامل) في صورة تسرُّ الناظرين. وتلك جهودٌ بذلناها لوجه الأدب، ولم نر من منافعها المادية غير أطياف!
ورأيت القرن الرابع هو الفَيْصَل بين عهدين من عهود الإنشاء، فألفت كتاب (النثر الفني)، الذي يُعدُّ بحق خير كتاب في بابه منذ العصر العباسي إلى اليوم، والذي أرغم الحاسدين والحاقدين على الاعتراف بأن الرجل الذي كوى قلوبهم وكبُدهم لم يكن في حياته من العابثين.
ورأيت المجتمع المصري في حاجة إلى من يدُّله على هفواته الذوقية والأدبية والخلقية، فألفتُ كتاب (البدائع) الذي أقبل عليه القراء فطُبع مرتين، وألفتُ رسالة (اللغة والدين والتقاليد) التي أجازتها لجنة المباراة الأدبية برياسة مدير الجامعة المصرية.
وراعني أن يجهل الناس بعض مصادر التشريع الإسلامي، فنشرتُ رسالةً في تحقيق نسب كتاب (الأمّ)، وهي رسالة عدَّها السنيور ناللينو من الآيات، وسينتفع بها رجال الأزهر الشريف.
وعز عليَّ أن يقال إن شعراء أوربا قد تفرَّدوا بإجادة القول في الوجدانيات فألفتُ كتاب (مدامع العشاق) ليكون شاهداً على سَبْق العبقرية العربية إلى شرح مآسي الأرواح والقلوب، ومن قبله ألفت كتاب (حب ابن أبي ربيعة) الذي صور ملاعب الأفئدة في أيام الحجيج.
وساءني أن يقال إن راسين هو أعظم من شرَّح عاطفة الحب فألفت كتاب (ليلى المريضة في العراق)، لأقيم الدليل على أن في كتاب اللغة العربية من يتفوق أظهر التفوق على راسين.
ونظرتُ فرأيتُ أن الجمهور شغلته الشواغل عن الدراسات الفلسفية، فألفتُ كتاب (الأخلاق عند الغزالي)، وكتاب (التصوف الإسلامي)، وهما كتابان لن يجود بمثلهما الزمان. ولو قلت إن كتاب (التصوف الإسلامي) هو خير ما كان وما سيكون في التعبير عن العبقرية العربية لكنت أصدق الصادقين.
ورأيتُ الأدب العربي يحتاج إلى من يَعْرِض محاسنَه على العقول الأوربية فألفت كتاب:
'
ورسالة:
' ' '
لقد كان لهذين الكتابين صدىً في البيئات الأوربية والأمريكية عند من يهمهم الوقوف على ذخائر اللغة العربية. ورأيت جمهور أهل الأدب يظنون أن إمارة الشعر في السنين الخوالي لم يظفر بها غير أبي تمام والبحتري وابن الرومي والمتنبي، فألفتُ كتاب (عبقرية الشريف الرضي)، وهو كتابٌ رضي عنه قومٌ وسخط عليه أقوام، ولكنه سيبقى من غرر المؤلفات الأدبية ولو كره الحاسدون والحاقدون.
ورأيت الناس في الشرق يكادون يجهلون أسرار الحياة الأوربية فألفت كتاب (ذكريات باريس) وهو كتاب يشرح ما هنالك من صراع بين الرُّشد والغيِّ والهدى والضلال.
ورأيت الأمم العربية في شوق إلى من يحدِّد ما بينها من مختلف الصلات ومَن يعبِّر عما في ضمائرها من آلام وآمال، فألفتُ كتاب (وحي بغداد).
أترك ما شغلت به نفسي من الدراسات الأدبية في العوام الماضية، فالقراء يعرفون من ذلك أكثر مما أعرف، وإن كان يخفى عليهم أن لي مؤلفات جيدة تصدقتُ بها على بعض الأدعياء. وأنتقل إلى الحديث عن كتاب اليوم، وهو كتاب (الأسمار والأحاديث). فأقول:
هذا الكتاب جديدٌ من جميع نواحيه، ولن يحتاج إلى تزكية أحد من الأصدقاء، فهو حركة فكرية متوثِّبة تواجه القارئ في كل صفحة، بل في كل سطر، بل في كل جملة، إن لم أقل في كل حرف، وهو مجالٌ للتأمل والتفكر والتندر والاعتراض والاحتجاج.
في هذا الكتاب صور غريبة لعقول المصريين، وعقول من عرفت من الفرنسيين، وسيشقى به ناس، ويسعد ناس: لأنه سجِّل طوائف من أوهام العصر الحاضر أدق تسجيل.
أنا أعرف أن موتي يوم يحينُ سيكون فرصةً لقوم كدِّرت صفوَهم حياتي. ولكني مع ذلك راضٍ عما صنعتُ حين تصدقتُ فخلِّدتُ أسماءً لا تستحق الخلود من أمثال السادة: فلان وعلان وترتان! وهل في التصدق على الجاحدين من بأس؟ أولئك قومٌ مَنَّ الله عليهم بالوجود، وأمكنهم من النعيم بالأنوار والظلمات، وسمح لهم باستنشاق الهواء: فليس من الكثير أن أدعي أنهم يقرءون ويفكرون!!
في هذا الكتاب تنويه بأشخاص يوُّدون لو عميت عيونهم، وصمت آذانهم: فلا يرون وجهي ولا يسمعون أخباري، ولكنهم سيعرفون أني أكرم منهم وأشرف، لأني سجلت أسماءهم في كتاب سيغلِّف من جلود أحفادهم وأسباطهم بعد حين.
بقيت كلمة عن أسلوب هذا الكتاب:
وأنا أعتقد بلا زَهوْ ولا كبرياء أني وصلتُ باللغة العربية إلى ما كانت تطمح إليه من (البيان).
أنا أعتقد بلا استطالة ولا تزيُّد أني خلقت عذوبة الأسلوب في اللغة العربية، وقد صار البيان عندي طبيعة أصيلة لا يعتريها تكلف ولا افتعال، وما أذكر أني عرفت التسويد والتبيض فيما ألِّفت من الكتب أو نشرت من المقالات بعد زمن التمرين الذي سبق سنة 1916.
وما أعرف بالضبط ما هي خصائص أسلوبي: لأني أصدر فيه عن السجية والطبع، ولكني أعرف بالتأكيد أن الذي يقرأ مؤلفاتي ومقالاتي يشعر بأنه يرى الحياة وجهاً لوجه، ويشهد صراع الأحلام والأوهام، والآراء والأهواء، والحقائق والأباطيل.
تلك صفحات من أعمالي الأدبية، فيها القديم والحديث، فهل تراني تزيدتُ أو أسرفت؟
وأنت مع ذلك تعرف أني وقفت لأعداء العروبة والإسلام بالمرصاد فمزقت أوهام الخوارج على العروبة والإسلام شر ممزق، ودحرتُ من سولتْ لهم أنفسهم أن يتطاولوا على ماضي الأمة العربية، وكنت دليلك في التعرف إلى مآثر العرب في المشرقين والمغربين، وعاديت من أجل الحق رجالاً يضرون وينفعون، ويقدمون ويؤخرون، فكان اعتصامي بحبل الحق هو أقوى ما تدرَّعت به لاتقاء مكايد الناس ومكاره الزمان.
ولم أخدعك، أيها القارئ، فيما تعرضت لشرحه من الحقائق الأدبية والفلسفية: فلم أتهيب مساقط غضبك ولم أتلمس مواقع هواك، وإنما صدقت كل الصدق فرآني فريقٌ من الملحدين، ورآني فريق من المؤمنين، ونسبني قوم إلى المُجان، وعدني قوم من الصوفية، وما كنت من أولئك ولا هؤلاء، وإنما أنا سارٍ يبحث عن عَلَم الهداية في بيداء الوجود، وما بيني وبين الله لا يعرفه عدوٌ ولا صديق، وإنما عِلمُه عند علام الغيوب الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، وأنا أتقرب إليه بالصدق في درس شرائع الهدى وذرائع الضلال.
أيها القارئ!
أتراني أحسنتُ الدفاع عن نفسي؟
أترى أن الذين يضيِّعون أعمارهم في مناوشتي ومحاربتي لم يستطيعوا حرماني من ودادك؟ كمْ تألمتُ وتوجعت من مكايدة مَن أُعاصر من الرجال، وكنت في أحرج أوقات الضجر والغيظ لا أملك غير التعزِّي بهذه الكلمات:
(لِيَ قُرّاءٌ أوفياء في أكثر الأقطار العربية والإسلامية، وهم عَوْني على مصاولة الدهر، ومكايدة الزمان).
أما بعد فأنت الصديقُ الحق أيها القارئ، ولو شئتُ لقلت إنك أعزُّ عليَّ من سائر أصدقائي وأصفيائي لأنك تفهم عني أكثر مما يفهمون، وقد تفوقهم في رعاية العهد وحفظ الجميل.
أيها القارئ!
لم يبق لي بعد الله غير ودادِك وعَطفِك. ودنيا الأدب بدون حبك سرابٌ في سراب.
ولولا الثقةُ بك أيها القارئ لكسْرتُ قلمي ورجعت إلى صحبة الفأس والمحراث في سنتريس، إن كان سهر الليالي من أجلك أبقى لي من القوة ما أستطيع به الرجوع إلى صحبة الفأس والمحراث.
ويرحم الله الشباب الذي بَدَّدته في صحبة الكتاب والدواة والقلم والقرطاس!
زكي مبارك
بين المد والجزر
للأستاذ إيليا أبو ماضي
سيّرت في فجر الحياة سفينتي
…
واخترت قلبي أن يكون إمامي
فجرَت على الأمواج قصراً من رؤى
…
ملء الفضا، ملء المدى المترامي
وأقل منها البحر حين أقلَّها
…
دنيا من الأضواء والأنغام
ومشى الخيال على الحياة بسحرهِ
…
فإذا الهوى في الماءِ والأنسام
وإذا الرمال أزاهرٌ فواحةٌ
…
والشط هيكل شاعرٍ رسام
وإذا العباب مَلاعب ومراقصٌ
…
وإذا أنا من صبوة لغرام
أتلقّف اللذات غير محاذرٍ
…
وأعب في الزلات والآثام
لا أكتفي وأخاف أني أكتفي
…
فكأنما في الاكتفاء حمامي
وكأن هديي أن تطول ضلالتي
…
وكأن رِيي أن يدوم أُوامي
مرَّت بي الأعوام تتلو بعضها
…
وأنا كأني لست في الأعوام
كالموج ضحكي، كالضياء ترنحي
…
كالفجر زهوي، كالخَضم عرامي
حتى إذا هتف المشيب بلمتي
…
ودنت يد الماحي إلى أحلامي
صرخ الحجى بي ساخطاً متهكماً:
…
هذا الغنى شرٌّ من الإعدام
حتى متى تمشي بغير نظام؟
…
حتى متى تمشي لغير مرام؟
أسلمتني (للقلب) وهو مضللٌ
…
فأضرَّني وأضرَّك استسلامي
يا صاح نجَّ النفس من سجن الرؤى
أنا تائهٌ!
أنا جائعٌ!
أنا ظام!
وأراد عقلي أن يقود سفينتي
…
للشط في بحر الحياة الطامي
فطويتُ أعلام الهوى وهجرتها
…
ونسيت حتى أنها أعلامي
وحسبت آلامي انتهت لما انتهى
…
فإذا النهاية أعظم الآلام
وإذا الطريق وساوس ومخاوف
…
وإذا أنا من هبوةٍ لقتام
أبغي الثراء ولم يكن من مطلبي
…
وأرى الجمال بناظرٍ متعام
وأشيد مثل الناس مجداً زائفاً
…
وأشد حول الروح ثوب رغام
فإذا أنا - والأرض ملكي والسما -
…
قد صرت عبد الناس، عبد حطامي
فتضايق القلب السجين وقال لي:
…
يا أيها الجاني قتلت هيامي!
القفر بالأحلام روض ضاحكٌ
…
فإذا تلاشت فالرياض موامي
أين العيون تذيبني حركاتها
…
وتموت في سكناتها آلامي
وأطل من أهدابها السكرى على
…
ظلٍ وأنداءٍ وزهرٍ نام
لما عصاني أن أشب ضرامها
…
أعيا عليها أن تشب ضرامي
الخمر ملء الجام لكن قد مضى
…
شوقي إلى الخمر التي في الجام
أسلمتني للعقل فهو مضللٌ
…
فأضرَّني وأضرَّك استسلامي
أنظر ألست تراك في أوهامهِ
…
أشقى وأتعس منك في أوهامي
المال؟ من ذا يشتريه كله
…
منى بليل صبابة وغرام
يا صاح نجِّ النفس سجن النهى
أنا تائهٌ!
أنا جائعٌ!
أنا ظامي!
لا تسألوني اليوم عن قيثارتي
…
قيثارتي خشبٌ بلا أنغام!
إيليا أبو ماضي
رسالة الفن
دراسات في الفن
العيد فن الطفولة
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
إلى الذين أسعدوني في أعيادي والذين ودوا ذلك، والى الذين سعدوا معي فيها فطاب لهم ذلك كما طاب لي، والى الذين وددت لو أسعدتهم بعد ذلك. . . حقق الله رجائي. . .
إلى أيام البهجة والصدق. إلى أيام الغفلة والحب
إلى رصيف الإسكندرية ورصافتها
إلى كل ما كان. . . تحية اللوعة والوفاء. . . يا ليت ما كان دام لولا أن من عاش رأى. ومن يدري فربما ود من رأى لو أنه لم ير. من يدري؟ لطفك اللهم!
كان العيد عيداً
كنا نتهيأ لفرصته من رمضان أو شعبان فكانت أيامهما أعياداً. وكنا نحلم بأيامه فكانت أحلامنا أعياداً، وكنا نتحدث بأحلامنا فكانت أحاديثنا أعياداً. وكان العيد يجيء وكنا نستغرق فيه، وكان العيد يمر، وكنا نذكره فكانت ذكراه أعياداً. وكانت نشوة العيد تأخذ الروح من العيد إلى العيد حتى لم نكن نحسب أن بين العيد والعيد أياماً ليست أعياداً.
. . . حتى جاء عام فطنت فيه إلى أن بين عيد الفطر وعيد الأضحى شهرين وبعض شهر، وأنهما ليسا أسبوعاً متلاحقاً: الثلاثة الأيام الأول منه عيد صغير، والأربعة الأخر عيد كبير. فكيف فطنت إلى هذا؟ وكيف عرفت أنها حقيقة جديدة لولا أني لم أكن أراها قبل ذلك، وأني كنت لا أميز الأيام من الأيام؟ وهل أنا وحدي الذي كنت هكذا؟ لا يمكن. . . وإنما كان مثلي كل الأطفال فهذا هو طبع الطفولة. . . لا تريد أن تعرف من الحياة إلا المرح والبهجة والفرح والعيد. . . فهل لم تكن تنغص عليَّ الحياةَ آلامٌ؟ كانت آلام ولكن كانت معها دموع تغسلها فتنقي الروح منها ولا تعود تذكرها.
ثم تعلمت الجلد. والجلد صبر على الألم، والألم كدر. . . فتراكمت في النفس أكدار فوق أكدار لعلها اليوم من كثرتها لم تعد تصلح علامة لتمييز الأيام من الأيام. . . ولكنها صلحت
في الماضي كثيراً فقليلاً. . . فعرفت بها في البدء أن بين العيد والعيد أياماً لا زينة فيها ولا كعك ولا ضحية، ثم عرفت بعد ذلك أن هناك أياماً للمدرسة، وأن في المدرسة حساباً وعقاباً، ثم عرفت. . . ثم عرفت. . . حتى عرفت أن من الأعياد ما يقضى بين الجدران ووراء القضبان وكنت قد مررت قبل ذلك بسجن في عيد ولم أرض أن أفكر أن فيه ناساً يقضون العيد، ولم أطلب حتى لنفسي الرحمة من محنة كهذه المحنة.
كانت غفلة. ولكنها كانت سعادة. ولكنها كانت غفلة
فأي شيء نرجوك يا رب والسعادة تبدو كأنها من لوازم الغفلة. وأنت تكره الغافلين! نسألك العون على مرارة الفطنة. بل إنا نسألك الهدى إلى حلاوتها.
فكيف نكون إذا اهتدينا؟
فلنر إلى المهتدين
كان محمد يلعب مع سبطيه، وكان المسيح يدعو إلى ملكوت الأطفال، وكان في كل فنان من علامات الطفولة وإماراتها ما يشهد بأن في الطفولة ميزة لو أن الناس يحتفظون بها، ولا يجاهدونها بالستر والكبت والخنق، ولو أنهم يتركونها تنمو في حياتهم وتزدهر كما تنمو أبدانهم وتزدهر، لكبروا وكبرت هذه الميزة معهم واستطاعت أن تطبع حياتهم بذلك الطابع الذي تطبع به حياة الأطفال، وهو طابع السعادة. . . ولن تكون ثمة غفلة مادام العقل ينضج شيئاً فشيئاً، وما دامت هذه الميزة تهديه في نضجه فتحميه من الاتجاه إلى الخطيئة وتأخذه بالتصويب الحق الذي تأخذ به أهل الفن المهتدين. . . وإذا كانت الإنسانية قد غيرت في الماضي أهل الفن هؤلاء بشذوذهم عن أوضاع الناس المألوفة للزومهم هذه الطفولة والتزامهم منهجها فإنها إذا آمنت بها وانتهجتها هي أيضاً ستعرف أن محمداً لم يكن يعبث بوقته الغالي عندما كان يلعب مع سبطيه، وأن المسيح لم يكن يهرف حينما كان يلفت أنظار الناس إلى الأطفال ويؤكد لهم أنهم أقرب إلى الله والحق من الكبار وأشد به صلة، وأن موسى لم يكن مخطئاً حينما استنجده الذي من قومه وكان عدوه يضربه فلكم عدوه فقتله، فليس هذا إلا ما يفعله الطفل أو البدو وهم أطفال الشعوب بين حضارات البشر المكتهلة، وقد نجاه الله بعدها من الغم فلم تعد نفسه تنغص عليه حياته بالحساب والتأنيب والتعنيف. . .
فأي ميزة هي هذه التي في الأطفال تسعدهم وتبرئهم وتستنبت الفن فلي نفوسهم فإذا كبروا اجتزوها واستأصلوا الفن معها، وصاروا بعد ذلك هكذا كما نراهم. . .
إنها لاشك الميزة التي تبعث الفن، إنها الصدق في الحس، والصدق في الاستجابة له، والصدق في التعبير عنه. . . وهذا الصدق إذا صين في النفوس كبر الأطفال وهم لا يزالون أطفالاً، وأقبلوا على الحياة كما يقبل عليها الأطفال مطمئنين مبتهجين، ولم يكن لهم شغل في الدنيا إلا اللعب والغناء والطرب والبحث عن السعادة. فتصبح أيامهم عندئذ أعياداً. . . كما كان آدم وحواء في الجنة: لا تكليف ولا حساب، لأن التكليف والحساب لم يجبا ولم يلزما إلا فيما جد على الإنسان من حياة بعد الجنة، وفيما يجد على الفرد من حياة بعد الطفولة. . . تمهيداً لعودة الإنسان إلى الجنة، ورقيباً عليه وصوناً حتى يعود الفرد إلى طفولته الثانية وهي الشيخوخة، وفيها تضعف عند الإنسان قوة الكبت التي يضغط بها الصدق في نفسه فيطفو الصدق من جديد ولكنه يسرى عندئذ في أعصاب منهكة تراكمت فيها الأكاذيب وآثار الأكاذيب، فهو لا يحظى من سعادة الطفولة إلا بمقدار ما خلصت نفسه في حياته من الشر ودواعيه. فإذا كان قد عاش على الصدق والفرح فهو في طفولته الثانية كما كان في طفولته الأولى تملأ نفسه البهجة ولا تفزعها الوساوس، وإذا كان قد عاش على الغش والختل فيا ويله من طفولته الثانية! ويا ما أشد الذي يلقاه فيها من الصراع بين الصدق الذي طالت غمرته والذي يريد أن يفيض، وبين الكذب الذي طال تشبثه بنفسه ثم ضعف فهو لا يقوى على البقاء. . . ومع هذا فإنه يأبى أن يزول في هدوء.
والآن. . . هل صحيح أن الطفولة تمتاز بالصدق؟ وهل صحيح أن الصدق مبعث الفن والفرح معاً؟
أما أن الطفولة تمتاز بالصدق فإنه من غير شك صحيح. لأننا إذا تتبعنا أكاذيب الناس رأيناها تنقسم إلى قسمين: قسم يراد به تحصيل نفع أو دفع ضرر، وقسم آخر يراد به التسلية والترويح عن النفس، والقسم الثاني يدخل من باب الفن لأنه تخيل يستكمل به صاحبه نقصاً يحسه، وهذا لا يؤذي صاحبه ولا غيره إن لم ينفع البشرية ويحضها على استكمال النقص الذي رآه صاحبه. وأما القسم الأول الذي يراد به تحصيل النفع أو دفع الضرر فهو من مستلزمات التكليف والحساب، فلو لم يشعر صاحبه بأنه مطالب بأداء عمل
من الأعمال وأنه قاصر عن أدائه لما لجأ إلى الكذب يستر به عجزه، ويموه به على صاحب الحق مدعياً أنه قام بما كلف به، وهو يريد من وراء ذلك أن ينجو من حساب صاحب الحق، وهذا شعور ينافي طبيعة الطفولة التي حررتها الأديان والقوانين الطبيعية والقوانين الموضوعة من التكليف والحساب، لأنها فعلاً لا تطيق التكليف ولا الحساب.
فالطفولة إذن صريحة صادقة بطبعها، والأطفال إذن يتعلمون من الكبار الكذب فيما يتعلمون من ألوان الكفاح والصراع في سبيل الرزق وغير الرزق من مطالب الإنسانية الجوفاء، والكذب الذي يتعلمه الأطفال له ثلاث شعب: هذه الشعبة الأولى التي رأيناها تأخذ تعبيرهم عن أنفسهم وتصبغه بصبغة الغش، والشعبة الثانية تلك التي تمنعهم من الاستجابة إلى إحساسهم الصادق فتقعد بهم عما يحبون، وتلقي بهم إلى حيث يكرهون متبعين في هذا اعتبارات ليست من الحق المطلق في شيء وإنما صنعتها هذه الحياة الملفقة التي اختلقت المذاهب، والمواطن، والعلاقات البشرية المتناقضة المضطربة القائمة على النفع العاجل والزيف. ثم هذه الشعبة الثالثة تقيم بينهم وبين الحق سداً منيعاً وتغلف أنفسهم عنه، فتعمي أبصارهم، ولا يعودون يرون الشيء على حقه، وإنما يرونه حسبما تشتهي أنفسهم الكاذبة، وشتان ما بين الحق وبين الذي يشتهيه الكاذبون.
ولكي يدرك القارئ مدى الحق فيما أقول أدعوه إلى أن يتصور صاحباً له ممن عرف فيهم الميل إلى الكذب وإدمانه، والتعلق بالغش والإسراف فيه، فإذا ما استحضره في ذهنه فإني أطلب منه أن يتابع حياته وأن يرى كم يقع هذا الكذاب الغشاش في أحابيل الكذابين الغشاشين؟
أما أنا فأعرف أمثلة عديدة لهؤلاء المساكين، وأعرف أنهم أسهل فريسة للكذب والغش مع تفوقهم في تدبير الكذب، وتمكنهم من حبك الخديعة. . . فإذا اتفق صاحب القارئ مع أصحابي في هذا جاز لنا أن نعتبرها قاعدة مطردة، وحق علينا أن نستقصي أسبابها. ولن يجهدنا السعي إلى أسبابها كثيراً أو قليلاً لأن ذكرها تقدم في الذي انبسط أمامنا من الحديث عن شعب الكذب. فالأصل في الإنسان أن يستطيع التمييز بين ما هو خير وبين ما هو شر، وإذا جاز للإنسان أن يعجز عن التمييز بين الخير والشر فيما اختلف عن نوعه من المخلوقات والموجودات فإنه لا يمكن أن يلم به هذا العجز في صدد الكائنات البشرية التي
هي من نوعه ومن طينته، فهو نفس أو روح، وبقية الناس نفوس أو أرواح، والتعارف بين النفوس والأرواح لا يحتاج إلى تعليم ولا تدريب، وإنما هو شيء يحدث بالسليقة والطبع كما يعرف الزيت الزيت فيسعى إليه ويمتزج به مهما فرق الماء بينهما. ونحن إذا تأملنا الأطفال عندما تجمعهم الظروف لأول مرة بإنسان نعرف نحن بالتجربة أنه خيِّر، أو بإنسان نعرف نحن بالتجربة أنه شرِّير وكان مظهر كل من هذين يشبه إلى حد كبير أو صغير مظهر الآخر. . . رأينا الأطفال يندفعون إلى الذي نعرفه خيِّراً، وينفرون من الذي نعرفه شريراً، وليس هذا إلا لأن الأطفال أطلقوا إحساسهم صادقاً يميزون به وحدة النفوس والأرواح بعضها من بعض، ولا يقيمون بعد ذلك وزناً للاعتبارات الأخرى التي نقيم لها نحن الأوزان، والتي نتأثر بها قليلاً أو كثيراً في إصدار أحكامنا على الناس فنصدرها أحكاماً اختلطت (حيثياتها) فبعضها من القانون الطبيعي الصحيح وأغلبها من قوانين أخرى وضعناها نحن، ووضعها الزمان، ووضعها المكان، وما أكثر هذه عند الكذابين الغشاشين، وما أشد تأثيرها في أحكامهم، وما أشد ما يبتعدون بها عن الحق في هذه الأحكام فيغشون أنفسهم كما يغشون الناس.
هذا من ناحية الإحساس وصدقه
والأصل في الإنسان أيضاً أن يستجيب لإحساسه هذا الصادق متى تمكن من نفسه، فإذا أحب اندفع إلى ما يحب، وإذا كره انقبض عما يكره، ونحن إذا تأملنا الأطفال رأيناهم يستجيبون إلى هذا القانون الطبيعي أكثر مما نستجيب له نحن الكبار، ومهما أخذنا على الأطفال الأنانية في مسلكهم هذا فإننا لا نستطيع أن نتهمهم فيه بالخديعة والغش، ثم إن هذه الأنانية نفسها التي نأخذها على الأطفال تنقحها الحياة الطبيعية شيئاً فشيئاً، وتمحوها شيئاً فشيئاً، فالطفل كلما كبر على سجيته أدرك العلاقات الحقيقية - لا الزائفة - التي تربطه بالمجتمع الذي يحيط به، ورأى نفسه مطالباً أمام نفسه - لا أمام غريب عنه صاحب حق مفروض وتكليف مصنوع وحساب مسلط - بأن يراعي حق هذا المجتمع عليه كي يراعي المجتمع أيضاً حقه عليه. . . وهذا شيء ملحوظ في مجتمعات الأطفال، التي تتألب بسرعة على الطفل الطاغية الذي يميل إلى قهرها وفرض سلطانه عليها زوراً، وهو ما تتحرج عنه مجتمعات الكبار وتحتار وتختبل وتتعثر في القيام به.
وهذا من ناحية الاستجابة للإحساس الصادق. ويجيء أخيراً التعبير الصادق عن هذا الإحساس الصادق بهذه الاستجابة الصادقة، وأظن أنه لا أحد من القراء يختلف معي في أن الأطفال يمارسون هذا التعبير على طول الخط، وأنهم لا يتحرجون من مواجهة صاحب العيب بذكر عيبه أمام عينيه وفي مواجهته لا يخشون اللوم، ولا يحسبون حساباً لهذه المجاملات المعقدة التي يحسب الكبار حسابها والتي تحملهم على ابتلاع العيوب. . . ثم ابتلاع المحاسن أيضاً. . . ثم التحكم في تقرير الحكم على الأشياء وفق ما يعرض لهم بناء على هذا الحكم من نفع يكسبونه، أو ضرر يمنعونه. . .
الأطفال إذن هم الذين يحسون بالناس - على الأقل - إحساساً صادقاً، وهم الذين يستجيبون لهذا الإحساس الصادق استجابة صادقة، وهم الذين في آخر الأمر يعبرون عن هذا الإحساس الصادق في هذه الاستجابة الصادقة تعبيراً صادقاً. . . والأطفال بهذا سعداء. وهم بهذا أحب إلى الله من الكبار الكذابين. . . فهل كل الكبار كذابون؟ لا. . . بل أغلبهم. . . ونجا من الكذب الفنانون، أولئك الذين تحرر احساسهم، والذين لا يمنعهم من تلبية هذا الإحساس مانع، والذين يعبرون عنه في صدق وتحرر كالأطفال لا يعنيهم أن يسخط الناس عليهم أو أن يرضوا. . . وهم بهذا أطفال الرجال، وحياتهم على الرغم من الشقاء الذي يظهر لنا فيها حياة سعيدة لأنها حياة طبيعية تجري على سنة الله الأولى وفطرته.
عزيز أحمد فهمي
رسالة العلم
لحظات الإلهام
في تاريخ العلم
بقلم مريون فلورنس لانسنغ
من الألياف إلى الثياب
لأحد الشعراء الإنكليز أبيات يقول فيها إن آدم كان فلاحاً يحرث الأرض وإن حواء كانت عاملة تنسج الغزل. ويتساءل هذا الشاعر أين كان أهل الكياسة والظرف في ذلك العهد؟
وإذا لم تكن حواء هي أو غازلة أو ناسجة فإن إحدى بناتها أو حفيداتها أو بنات الحفيدات كانت أول من فعل ذلك لأن فن النسج كان مما بدأت به الإنسانية في طفولتها، فقبل أن يصنع الرجل من الشماليين في العصور الأولى لنفسه ثوباً من فرو الحيوانات التي يصيدها كانت المرأة الجنوبية قد جدلت من النبات الطويل أو من ورق الأشجار المفتول أو من البوص سلالاً تحمل فيها من حاجاتها أكثر مما تتسع لحمله كفاها، وضفرت كذلك من هذه الأنواع حصيراً تغطي بها الأرض المرطوبة أو الصلبة في كهفها أو كوخها، وصنعت كذلك نوعاً من الثياب تستر به جسمها.
في العهد الذي أصبح فيه جوبال أخو توبال كين راعياً وأباً لكل الرعاة كانت أمه (آده) وزوجته وابنته إخصائيات في ضفر النبات والألياف لصنع الأغطية والحصر التي تصنع منها الخيام، وربما كانوا يفتلون الألياف لتصنع منها جدائل غير متقنة الصنع ويمرون هذه الجدائل بين ثقوب في قوائم الخيمة لربطها.
في هذه الأيام الأولى بدأت المرأة تهتم باللباس لها ولأسرتها كما تهتم بالطعام، وبدأت تزاول، بما كان بين يديها من الآلات الحقيرة، تلك الفنون الجميلة التي صارت فيما بعد من دواعي مجدها، لأنه لاشك في أن الغزل والنسج والصباغة من الفنون النسوية.
كانت المرأة أول من استخرج الألياف من نبات الكتان وصنع منه خيوطاً، وكانت زوجة أحد الرعاة الذين يقضون نهارهم البارد فوق الجبال. كانت تلك الزوجة أول من أخذ جانباً من صوف الغنم. ومنه صنعت ثوباً تدفئ به ابنها الطفل. وخطر ببال امرأة أخرى وهي
تغزل خيطاً طويلاً متيناً من ألياف الكتان أن تضع جانباً من هذه الخيوط على عصاً وأن تلف بعضها على بعض حتى يتكون منها خيط متين، فكان اختراعها هذا أول نوع من المغزل. وكان يدار باليد ثم صار يدار كعجلة الغزل. وكانت محبة الجمال هي السبب الذي جعل المرأة تمل من اللون الساذج البسيط للأصواف، فوضعت المرأة المادة التي تصنع منها خيوطها في أثناء العمل في عصارات بعض النبات لتغير من لونها.
كان هؤلاء النسوة اللاتي نتحدث عنهن من نسوة القبائل الرحالة. وفي ابتداء العهد الزراعي وعهد إنشاء المساكن أتيحت الفرصة للمرأة لتوطد هذه الصناعة. ولم تعد أمامها ضرورة تقضي بالاقتناع بالمواد الخشنة التي تجدها في الحقول بل أصبح في وسعها زراعة الكتان والقطن لتكون ثيابها أرق وأخف وزناً مما يصنع من الصوف. وأصبح عمل الراعي أهم لما صارت الحاجة إلى صوف غنمه مثل الحاجة إلى لحومها في السوق.
وفي الكتاب المقدس أقصوصة تدل على أن ميشا ملك مؤاب قد دفع لمولاه ملك إسرائيل الجزية صوفاً لمائة ألف جمل ومائة ألف سخل. وقد كان حذق النساء صناعة المنسوجات الصوفية مما جعل لها قيمة تجارية.
وفي سفر الأمثال من الكتاب المقدس صورة جميلة لامرأة متخيلة في عهد كان قبل سبعمائة عام من التاريخ المسيحي، وكان كل ما منزلها بحاجة إليه من الفنون خاضعاً لسلطانها. وهذا الوصف جاء على لسان ملك ليمويل الذي علمته أمه ما ينبغي أن تكون عليه المرأة التي تصلح زوجة له. وهذا وصفها:(هي التي تبحث عن الصوف والكتان وتعمل بيدها راغبة في ذلك وهي التي تصنع بالمغزل وتمسك بيديها النسيج وتمد يدها بالبر إلى الفقير والى المضطر وهي لا تخاف على منزلها من البرد لأن منزلها مفروش بالبساط القرمزي وهي التي تصنع أغطية من الدانتللا وترتدي ثياباً من الحرير والقماش الأحمر).
الأميرة الصينية وثوبها الحريري
إذا كنت فتاة صينية معهوداً إليها بتربية دود القز لأمك فإنك ستملين سريعاً من جمع ما لا يحصى من ورق التوت لإطعام هذا الدود الجائع. ولكنك إذا شكوت إليها فإنها ستقول لك: (إن كانت الإمبراطورة (هسي لنج شي) العظيمة المقدسة تتعهد بيدها دود القز، وهي فتاة، فلأي سبب لا تفعل ذلك فتاة عادية مثلك؟).
عند ذلك تطأطأ الرأس في خجل وتقول: (كلا يا أمي لن أمتنع عن هذا العمل بل سأؤديه في سرور).
ولكن عندما تنتهي الفتاة من عملها هذا فقد تطلب إلى أمها أن تعيد عليها قصة الإمبراطورة ودود القز. وهذه هي القصة التي ترددها الأم:
(منذ أجيال طويلة عندما كان كل سكان العالم همجاً كان الشعب الصيني وحده شعباً حكيماً، وقد حذق عدة أمور. وهذا هو عصرنا الذهبي الذي نزل فيه الإمبراطور الأصفر هوانج تي بين الخالدين وتولى بنفسه الحكم في هذه الأرض.
وكان هوانج حكيماً رحيماً في حكمه، واصطنع من أجل شعبه أموراً كثيرة فوضع للتجار قواعد الموازين والمكاييل والمقاييس لكي يعلم الفقير من الصينيين عندما يشتري الشاي أو الأرز مقدار الذي اشتراه فلا ينخدع عن الثمن. وعلم سكان الشواطئ النهرية كيف ينشئون السفن وبذلك أصبحت الصين متصلة بواسطة السفن التي تجري في الأنهار غادية رائحة.
وفي أثناء عهده الطويل استكشفت المعادن وصنعت الأطباق من الخزف لأول مرة، وأثرى الشعب الصيني كله في عهد هذا الإمبراطور الأصفر سليل الخالدين الذي عاش مائة عام على الأرض وباركها بحكمته.
ولكن مع أن هوانج كان أعظم العواهل فإنه بكل ما أوتي من حكمة وبكل ما بذله من جهد لم يفعل من أجل مستقبل البلاد ورخائها مثل الذي فعلته زوجته الجميلة الصغيرة هسي لنج شي التي استقرت بحديقة منزلها وأخذت تراقب دودة قبيحة الشكل في تلك الحديقة.
كانت حديقتها حافلة بأشجار التوت وهذا هو السبب في كثرة دود القز بها، لأن ذلك الدود يحب أوراق التوت كما تعلمين ذلك يا بنيتي.
وكانت تلك الإمبراطورة الصغيرة لا تزاول أي عمل فأتت لتستظل بأشجار الحديقة من حرارة الشمس.
وفي أحد الأيام وقفت في ظل شجرة وأصغت، لأنه كان يصدر عن تلك الشجرة صوت كأنه صوت تساقط ماء المطر. ذلك على أن الشمس مرتفعة في السماء. أصغت الإمبراطورة وراقبت ثم رأت أن الديدان الصغيرة التي كانت تراها من قبل متسلقة الأغصان والتي كانت تكرهها لأنها تأكل الاوراق، رأت تلك الديدان وقد كفت عن تناول
طعامها وأخذت تصنع لنفسها لوزات، وأخبرتها تابعتان أن هذه الديدان تستمر في صنعها اللوزات ثلاث ليال وثلاثة أيام وأنها تسجن نفسها في داخل هذه اللوزات وقاية من الهواء ومن الشمس وتنام شهراً كاملاً ثم تثقب في نهاية هذه المدة طرفاً من اللوزة وتطير، لأنه ينبت لها في مدة سجنها أجنحة وتتحول إلى فراشة جميلة.
وكانت هسي لنج شي لم تر إلى ذلك العهد فراشة تخرج من اللوزة فراقبت الدود ثلاثة أيام كان في أثنائها مكباً على عمله، فلما انتهت هذه المدة امتنعت الأصوات التي كان يحدثها بعمله وعادت الهداة إلى الحديقة وأخذت الإمبراطورة تعد الأيام التي يخرج الفراش في نهايتها من اللوزات.
ولما عاد البدر إلى الاكتمال مرة أخرى خرج من اللوزات مئات من المخلوقات الطائرة الرقيقة الأجنحة، ولكن الإمبراطورة لم تكن مهتمة بهذا الفراش بقدر اهتمامها بالنسيج الذي تنسجه الدودة حول نفسها، وكان على أرض الحديقة عشرات من هذه اللوزات الذهبية المصفرة، فالتقطتها وعكفت على دراستها وسحبت خيطاً رقيقاً هو الذي تصنع منه هذه اللوزات.
قالت في نفسها: (هذا الخيط البديع أرق من الخيوط التي نسجت منها ثيابي فليتنا نستطيع غزل خيوط بهذه الرقة
وأخذت هسي لنج شي تعبث متبلدة بهذه اللوزات مجربة الخيوط وقد لاحظت مبلغ قوتها ومبلغ رقتها، ثم خطر ببالها خاطر فجائي فسألت نفسها: لماذا تتمنى صنع خيط مشابه لهذا؟ ولماذا لا تأخذ نفس هذه الخيوط التي تصنعها الديدان وتنسج منها ثوباً لنفسها؟
ولما جاء الموعد التالي لظهور دودة القز ذهبت الإمبراطورة الصغيرة إلى الحديقة، ولكن عملها في هذه المرة لم يقتصر على المراقبة، بل كانت تأخذ اللوزة وتحاول حل الخيط على عكس النظام التي كانت تلفها به الدودة وذلك قبل أن تثقب الدودة جانباً منها لتخرج منه.
في البداية انقطع الخيط في يدها ولكنها سرعان ما علمت أنها إذا غمست اللوزة في ماء حار فإنها تقتل الدودة ويسهل حل اللوزة.
وكان مقدار الحرير الذي يستخرج من اللوزة قليلاً جداً ولكنها كلفت أتباعها جمع اللوزات
حتى أصبح لديها أكداس فوق أكداس منها. ولما وضعتها في الماء الحار جلست لتلف الخيوط على عصا لفةً فوق لفة حتى اجتمع لديها قدر كبير من هذه المادة الناعمة. ثم حملت هذه الخيوط إلى منسجها الذي كانت تنسج عليه التيل والصوف ونسجت قطعة صغيرة من هذا الحرير الذهبي اللامع.
من أجل ذلك نذهب كل عام يا بنيتي إلى المعبد في الوقت الذي تظهر فيه أوراق التوت ونصلي أنا وأنت وجدتك وأبوك وعمك - للإمبراطورة هسي لنج شي فهي إلهة الحرير لأنها بفطنتها وبعملها اليدوي قد استكشفت سر نسج الحرير ولقنت شعبها هذا السر.
وربما سألت الفتاة أمها هذا السؤال: (هل احتفظ كل إنسان بعد ذلك بدودة القز؟)
فيكون جواب الأم: (نعم لما سمعت سيدات القصر أن الإمبراطورة تحتفظ بهذا الدود رغبن جميعاً في محاكاتها، وقد اعتادت الإمبراطورة أن تخرج إلى الحديقة ومعها أدوات ذهبية لتقطع أوراق التوت وطبق من الذهب لتضعها فيه، وسمحت لهؤلاء السيدات بأن يخرجن إلى الحديقة بآلات وأطباق من الفضة لجمع هذه الأوراق، وقد رغب الشعب كله في أداء مثل الذي يؤديه أهل البلاط، فلم يمض عهد طويل حتى حذق الشعب تربية دود القز، ونسج حريره على المناسج ولبس كل الأغنياء ثياباً من الحرير. وكذلك صنعوا منها أحزمتهم وأغطية أثاثاتهم والحفتهم.
وقد تسأل الفتاة الصينية الصغيرة: (ولكن أليس كل إنسان في العالم يحتفظ بدود القز؟)
فتخبرها الأم بقصة الاحتفاظ بسر دودة القز وبسر نسج الحرير الذي تخرجه مدة ثلاثة آلاف عام في الصين.
السر المصون ثلاثة آلاف عام
هل تظن أن في وسع شعب كامل أن يحتفظ بسر ما مدة مائة عام أو مائتين؟
هل تظن أن نساء ورجالاً وأطفالاً يعرفون كلهم ذلك السر وأن الأجانب الراغبين في معرفة السر والآتين من بلاد بعيدة يمشون في الأسواق ويطوفون بالمدن متجسسين على هذا السر ولكن أحداً منهم لا يستطيع أن يكشفه؟
هذا هو الذي فعله الشعب الصيني بسر الحرير ثلاثين قرناً ثلاثة آلاف عام.
كان الصينيون في العهد الأول من إنتاج الحرير شديدي الزهو بالصناعة الجديدة التي
ابتكروها فكانوا من أجل ذلك شديدي العناية برعاية هذا السر. وأصدر الحكام قوانين تحرم على أي إنسان إخراج الحرير من بلادهم. ولتجار الأجانب أن يشتروا ما يريدون من الخزف والشاسي والأرز ومن المحاريث ومن المعادن المطروقة ومن كل ما تنتجه الصين من صناعة. ولكن ليس لهم من النسيج اللامع الحريري إلا أن ينظروا إليه بأعين طامعة فإن هذا الحرير لم يكن يباع.
وكانت قوانين التجارة لا تكفي لمنع التجار عن تهريب الأقمشة الحريرية من حدود الصين فخرج الحرير من الصين حتى في العهد الذي كانت فيه القوانين صارمة وزاد مقدار المهربات زيادة مطردة في القرن الأخير بازدياد الاتصال بالشعوب الأخرى.
وكان بين الصين وبين إيران طريق منقطع بين الجبال ويقول بعض الناس إنه أقدم طرق العالم، وقد بدأ ضيقاً بحيث لا يتسع إلا لمرور رجل واحد فمن أجل ذلك كانوا يمشون فيه صفاً، وعلى التدريج كانوا ينظفونه من الصخور والأحجار التي تعوق المسير فيه حتى أصبح أعظم طريق للقوافل في الدنيا القديمة، وهو الطريق ما بين الشرق الأدنى والشرق الأقصى، وهو الطريق الذي يسلكه أهل البلاد المجاورة للبحر الأبيض المتوسط للحصول على المصنوعات الجميلة من الصين ومن الهند.
ومن هذا الطريق كان التجار يهربون الحرير من الصين إلى الأغنياء في مصر وفي أشور وفي بابل وفي فينيقيا، ومع كثرة ما كان المهربون يهربونه من كميات الحرير التي تؤخذ سراً. أو تشترى علناً فإن تجار الفرس لم يعرفوا سر دودة القز.
وجاء الاسكندر الأكبر، وكادت فتوحاته تشمل العالم كله، وفي أثناء قيادته جيوشه في مناطق الشرق في القرن الرابع قبل المسيح رأى نبات القطن في الهند فنقله إلى اليونان، ورأى الثياب الحريرية يرتديها نبلاء الصين فأتى بشيء منها إلى بلاده وذهب إلى الأماكن التي يصنع فيها الحرير فلم يكتف بنقل كميات من المنسوج بل نقل كذلك أثقالاً من مادته الخام قبل نسجها، ولكنه مع ذلك لم يستطع أن يعرف من أين تأتي هذه المادة الخام.
هذا هو سر الصين الذي كتمته طول عمرها والذي لم يستطع معرفته حتى قاهر العالم الاسكندر.
وكان الرومانيون في بداية العهد المسيحي يختالون بقصورهم في ثياب حريرية اشتروها
من تجار الفرس، وقد بلغ بهم الأمر أن حلوا النسيج الصيني واستخرجوا خيوط الحرير وأعادوا نسجها على أنوالهم ولكن هذا العمل كان كبير النفقات إلى أقصى حد. وكانت القوانين في الإمبراطورية الرومانية تحرم لبس الحرير على غير النبلاء وقد رفض الإمبراطور أورليان (712 - 275 قبل المسيح) أن يلبس الحرير أو أن يسمح لزوجته بلبسه لأنه غال جداً، وكان يدعوه باسم (الهواء المنسوج) وذلك بالقياس إلى المواد السميكة الأخرى التي كان الرومانيون يصنعون منها ثيابهم وأخيراً أفشت سر الحرير أميرة صينية مخترقة بذلك حرمة القوانين: كانت مخطوبة لملك هندي حوالي سنة 120 قبل المسيح، وهذا الملك هو خوتان. وكان يعلم أن أميرات الصين اعتدن لبس الثياب الحريرية دون غيرها فبعث إليها بأن الهند وإن كانت قد اشتهرت بقطنها فإنها لا تستطيع أن تزودها بشيء من الحرير فخاطرت مخاطرة جسيمة عند سفرها إلى منزل زوجها فخبأت في زينة شعرها بذور شجر التوت وبيض دود القز وغادرت الحدود دون أن يشتبه في ارتكابها للجريمة التي عقوبتها الإعدام.
ولما وصلت إلى البلاد التي اختارتها وطناً ثانياً بدأت زراعة التوت وتربية دود القز.
ولكن سفراء الصين لدى بلاط زوجها رأوا ما فعلته ولم يكن في وسعهم أن يعاقبوها لأنها أصبحت ملكة على بلاد أخرى وكانوا لا يزالون يريدون الاحتفاظ بالسر، فأخبروا زوجها الملك بأنها تربي الثعابين السامة فأمر الملك بإحراق المكان الذي يربى فيه دود القز معتقداً أنه ثعابين.
لكن السر تسرب إلى الهند في بداية العهد المسيحي؛ ففي سنة 289 بعد المسيح ذهب أربع فتيات صينيات إلى اليابان لتعليم اليابانيين تربية الدود. لكن إلى سنة 500 بعد المسيح كان صنع الحرير لا يزال مجهولاً في القسطنطينية وهي إذ ذاك عاصمة العالم الغربي، وكان الإمبراطور جوستنيان الذي يتولى شؤون الإمبراطورية في القسطنطينية رجلاً ذا مشاريع كبيرة حاذقاً في تغذية التجارة، وكان كالاسكندر الكبير دائم البحث عن شيء جديد مما يصنع في البلاد الأخرى. وعاد اثنان من الرهبان الفارسيين ومن أصحاب العهد النسطوري المسيحي إلى القسطنطينية بعد أن عاشا في الصين سنوات كثيرة. وعلما لطول مدة الإقامة ما لابد أن يعلمه من طالت مدة إقامتهم هناك من سر هاتين الصناعتين: إنماء
شجر التوت وتربية الدود.
سمع الإمبراطور قصتهما فاشتد اهتياجه وحملهما على الوعد بأن يحاولا عند عودتهما إلى القسطنطينية في المرة التالية نقل شيء إليه من بيض دود القز. وفي سنة 555 عاد الرهبان وقد خبأه في تجويفي عصوين من الغاب. وقد اشتدت العناية في القسطنطينية بهذا البيض تحت إشراف الراهبين. وصنع الدود لوزاته وأخرج فراشه كما لو كان لم ينقل إلى مسافة تقرب من نصف طول العالم. وهكذا بدأ صنع الحرير بداية حسنة في عهد ذلك الإمبراطور.
وكانت كل هذه الإجراءات تعمل في داخل القصر وتحت إشراف الإمبراطور شخصياً بما في ذلك إقامة أنوال تشتغل عليها النساء في نسج الثياب بين جدران القصر وبملاحظة الإمبراطور.
لكنه لم يكن في الإمكان الاحتفاظ بسر في القرن السادس في الأستانة حتى ولو كان ذلك السر في البلاط الإمبراطوري كما كان ذلك يفعل منذ قرون في الصين. وعلى الرغم من أن جوستنيان قد احتكر صناعة الحرير ولم يكن يسمح لأحد بصنعه فسرعان ما تسربت هذه الصناعة إلى العالم الغربي. ومن البيض الذي كان في تلك العصا نشأت هذه الصناعة وازدهرت في جنوب أوربا وبخاصة بالقرب من البندقية مدة الألف والمائتي العام التالية. وانتهت أخيراً مدة السر المكتوم التي دامت ثلاثة آلاف عام.
(يتبع)
ع. أ
من هنا ومن هناك
لماذا اتفقت روسيا وألمانيا
(ملخصة عن مجلة (كرستيان ساينس))
اصبح العالم اليوم يشاهد روسيا وألمانيا تتمشيان يداً في يد على خريطة أوربا السياسية، وقد يكون في ذلك شيء من الغرابة، ولكن الأيام من قبل قد أرتنا مثل ذلك.
فقد عاد ستالين وهتلر إلى تلك السياسة التي ترمي إلى تقوية موسكو وبرلين ضد قوى أوربا الغربية المتحدة.
وليس هذا كل ما في الأمر، فقد رأى هذان الرجلان المختلفان في الرأي والمبدأ أن يخضعا المبادئ والآراء، لضرورة الظروف الواقعة؛ فاختلاف المبادئ لم يكن له أثر يذكر في توثيق العلاقات التجارية بين روسيا الغنية بالخامات وألمانيا الحافلة بالمصانع والآلات. كما أن اختلاف الآراء والمناحي السياسية لم يكن ليحول دون هذا الاتفاق، وقد كانت الصلات السياسية والحربية بين موسكو وبرلين مبنية على قواعد وأسس وطيدة الاركان، حتى ظهر هتلر، وأعلنت مبادئه في ألمانيا؛ فتغيرت الأحوال، وحل الشقاق محل الوئام، وتبادل كل من الدولتين الدعاية المزرية ضد الأخرى، وتعددت الإهانات من الجانبين.
فنحن حين نذكر الاتفاق الروسي الألماني، جديرون بأن نذكر كلمة قالها سياسي فرنسي عظيم في هذا الاتفاق:(لقد عجبنا ولكننا لم نفاجأ).
على أن ألمانيا وروسيا وإن اختلفتا في المبدأ، فإن بينهما أواصر من التشابه تجمعهما في سياق واحد. ونعني هذا التشابه في الوسائل لا في الفكرة ولا في الفلسفة، فكلتا الدولتين تنفذان إلى أغراضهما عن طريق القوة، وكلتاهما تستخدمان أشد أنواع الإرهاب للاحتفاظ بكيانهما، وكلتاهما لا تعبئان باحتجاج الرأي العام أو تقيمان له وزناً، وكلتاهما تخضعان لحكم الأقلية وتسيران وراء نظام حزب واحد، وتهزئان بالنظم البرلمانية والأوضاع الشرعية، وكلتاهما تضطهدان الأديان، وتناديان بنوع جديد من الوطنية. ونحن نرى أن من المبالغة وسوء تقدير الموقف أن نقول إن هذه الأمور من شأنها أن تؤدي إلى تحالف دائم موطد الأركان ولكنها ولاشك تؤلف نوعاً من الوحدة بين الدولتين فلا تلبثان أن تتحدا إذا اصطدمتا عند غرض واحد.
وليس معنى هذا أن الدولتين لا تختلفان من الوجهة العملية فنحن لم ننس بعد حملة الألمان على البلشفية، ولا ننس حملة البلشفيك على الالمان، ولا ما بين الدولتين من الاختلافات العديدة.
ولكننا إذا أردنا أن نتبين حقيقة الموقف بين روسيا وألمانيا يجب أن نقدر ثلاثة أشياء: وجوه الاتفاق بين الأمتين، ووجوه الاختلاف بينهما، ثم حكم الأمر الواقع. فهذه أمور يجب أن ينظر إليها بعين الاعتبار.
ولا يخفى أن رجال الجيش الأحمر لا يرضيهم ذلك الاتفاق بين روسيا وألمانيا، ويعدونه من مظاهر الضعف والخذلان، كما أن رجال (ليتفنوف) يؤيدونه ويعدونه من عوامل القوة ومظاهر الانتصار.
ومهما تختلف الآراء وتتباين الأغراض، فإن هناك مواضع عديدة للاتفاق بين الدولتين، فمن الواجب أن ينظر إليها بالحذر والاحتياط.
كيف أنشئ خط ماجينو؟
(عن مجلة (باربيد))
كان قواد الجيش الفرنسي في عام 1914 لا يهتمون كثيراً بفكرة التحصين. فكانت نتيجة ذلك أن الجنود الفرنسية دفعوا ثمن هذا الإهمال.
ولكن هذا الدرس لم يكن ليذهب سدى. فنحن نرى فرنسا اليوم تشيد نظامها الحربي على فكرة الحصون وتعتمد على قوة النيران ويعد خط ماجينو من الأمثلة العجيبة في قوة التحصين والدفاع.
وقد جرى العامة على تسمية هذا الخط (بحائط ماجينو)، وهذه التسمية في الحقيقة بعيدة عن الصواب. إذ أنها تمثله في صورة الأبراج المرتفعة إلى عنان السماء، والحقيقة أن هذا الحصن الفرنسي لا يرتفع عن سطح الغبراء. وقد صدق بعض الجنود في تسميته:(أديم الشرق).
ومما لاشك فيه أن ذلك الأديم العجيب، سيعد من أقوى وأعظم ما صنعته يد البشر في القرن الحديث.
حفر خط ماجينو في المدة من سنة 1929 إلى سنة 1936 في مساحة قدرها اثنا عشر مليوناً من الأمتار المربعة، ووضع فيه ما لا يقل عن 50. 000 طن من الصلب، ويحتوي هذا الخط على كهوف وأنفاق تمتد من باريس إلى ليج في خط واحد، وبلغ عدد المشتغلين في بناء هذا الخط 15. 000 نفس، ومقدار ما أنفق عليه سبعة آلاف مليون من الفرنكات. ولم يقف العمل في هذا الخط إلى اليوم.
ومن المؤكد أنه لا يتسنى لقوة أية كانت أن تخترق هذا الحصن المكين، ولما كانت حصون ليج ونامور وانتورب في عام 1914 لم تقو على صد هجمات الخصوم لضعف مادتها، بينما أعيت حصون فردان المدافع الثقيلة، فلم تعد منها بطائل - فقد عرضت مادتها على هيئة من كبار المهندسين الفرنسيين فحصاً جيداً، ومعرفة ناحية المقاومة فيها للائتناس برأيهم قبل اختيار المادة التي يصنع منها خط ماجينو العتيد. وبعد التجارب المضنية التي قام بها خاصة الخبراء والمهندسين، قرروا أن يصنع الخط من مادة قابلة لاحتمال ثلاث قذائف متوالية على مكان واحد.
أما فيما يتعلق بالغازات السامة، فقد أعدت آلات كهربائية داخل الخط، ومن شأنها أن تجعل الضغط الجوي في الداخل أعلى من الضغط الخارجي، فيمتنع تسرب الغازات السامة داخل الخط وقد أعدت المدافع والبنادق لمطاردة الطيارات.
ولا تقف مهمة خط ماجينو على الدفاع، فلا يكفي المحارب أن يكون آمناً، فالدفاع هو الناحية السلبية في الحرب، أما الناحية الإيجابية، فهي الهجوم، وكلاهما ضروريان في الحرب.
ويستطيع الجنود في خط ماجينو وهم آمنون أن يسدوا وجه الأفق بطبقة من النيران تلتهم ما أمامه وما خلفهم.
كيف نصل إلى الله
(عن مجلة (سيكلوجي، ريلجن هلت))
العبادة فن. ولكي نعبد الله عبادة مقبولة يجب أن نعبده عبادة صحيحة، من الواضح أننا لا نستطيع في يوم من الأيام أن نصعد على خشبة المسرح ونتناول القيثارة، ثم نعزف عليها
الأغاني والأناشيد دون أن نتعلم كيف نحمل القوس ونستعملها استعمالاً صحيحاً. فهل العبادة أقل خطراً من العزف؟ هل الحياة الروحية أقل أهمية من حياة اللهو؟ لاشك أن عبادة الله تحتاج إلى كثير من الجد والتأمل والمران الطويل.
يشكو الكثيرون الخمود في حياتهم الروحية. ويزعمون أنهم يخفقون كلما حاولوا الاتصال بالرفيق الأعلى. فهل حان لنا الوقت لنسأل أنفسنا عما إذا كنا نسلك الطريق الصواب في محاولاتنا الاتصال بالله؟ إن العبادة ككل شأن في الحياة لها طريقها الخطأ وطريقها الصواب.
ولا يفهم من كلامنا أننا نريد أن نقول إن الإنسان لا يستطيع أن يتصل بالله إلا إذا عرف طريق العبادة فهذا ما لا نرمي إليه، ولكننا نستطيع أن نؤكد هنا شيئاً واحداً وهو أننا لا نستطيع أن نصقل قوانا الروحية ونصل بها إلى غايتها العليا. إلا إذا عرفنا ما يجب عن الله جل شأنه، وما يوجبه علينا من الفروض في هذه الحياة، ونعد أنفسنا لطاعته على الدوام.
إن العبادة أمر طبيعي في الإنسان. فنحن في بداوتنا أو حضارتنا، إذا أصابتنا ملمة نفكر دائماً في تلك القوة التي تقينا شر العوادي، ونصور بألسنتنا أو قلوبنا ذلك الإحساس العميق نحو الخالق الذي بيده كل شيء. فبعضنا يلجأ إلى الرقي والتعاويذ وبعضنا يلجأ إلى الخلوات وبعضنا يتوجه إلى الكنائس وبعضنا يذهب إلى المساجد وبعضنا يجأر إلى القوة الإلهية مستصرخاً من شر ما يلاقيه، ومهما تتعدد الوسائل وتختلف الأسباب، فكلنا نتجه إلى قوة نسألها العون في جميع المطالب.
إن عقائدنا تصور نفوسنا. فمن الواجب أن نعرف الرأي السديد في معرفة الله إذ أن حياتنا وأخلاقنا يسيران خطوة خطوة وراء هذا الرأي.
نحن حين نعبد الله نعبد صفات. فماذا ترى أن تكون صفات الله. إن عبادتنا تتوقف على معرفة ذلك. فإذا عرفنا الله معرفة خاطئة لا يقبل عبادتنا. فلا يصح مثلاً أن نطلب إلى الله أن يقسو على أعدائنا، أو نطلب إليه تحقيق رغبة من الرغبات التي تبعثها الأنانية الشخصية، لأن الله له صفات فوق كل ذلك.
يجب أن ننظر إلى الله عن طريق الحق والجمال وحب الخير، وأن نعتقد بأنه منزه عن كل
ما يخالف هذه الصفات.
البريد الأدبي
في كلية الآداب
1 -
جاءني صديق يدرس علماً من العلوم العقلية في كلية الآداب، جاءني يشكو. وهذا الصديق كان زميلي أيام التحصيل في جامعة باريس.
قال صديقي: أتدري ما يجري عندنا؟ قلت: خيراً! قال: إن أحد المدرسين من الأجانب لا يقنع بما تم له في جانب التدريس بفضل سعي مستشرق كبير، فها هو ذا يتلطف ليظفر بإدارة شؤون مكتبة الجامعة. وأعجب من هذا أنه يتلمس من الكلية استقدام زميل له شاب من أوربة، فيقول إنه من ذوي البسطة في اللغة العربية ومن أهل النظر في الاستشراق، وإنه لا غنى للكلية عنه في تلقين الطلبة (مناهج البحث في المشرقيات). ومما يورث الأسف أن آذان (قسم اللغة العربية) في الجامعة قد نشطت إلى هذه الأقوال. ولو تدري يا صديقي أن هذا العالم الشاب - واسمه سلومون بينيس - قد عرفناه في باريس قلت: لا أذكره. قال: إنه ذلك اليهودي اللتواني، وفي منطقه عِي. قلت حقاً لا أذكره؛ ألا تخبرني عن كفايته؟ قال: إنه لا يحمل سوى شهادة الدكتوراه من ألمانيا، وأنت تدري أن الدكتوراه الألمانية ليست بشيء يذكر إذ المعول عليه هنالك شهادة (الهابليتاتسيون)، وما الدكتوراه إلا في مرتبة (الليسانس) الفرنسية. قلت: هل ألّف الرجل شيئاً فنُعظم فهمه ونكبر عرفانه؟ قال: إنه صنَّف رسالةً في الفلسفة الإسلامية لم يشقَّ بها أفقاً ولم يكشف عن سر، فهو ممن يجري ويُجرى مَعَه. بالله خبِّرني: أكلُّ من خطر له أن يسقط إلينا يصيب الأذرع إلى العناق مشتاقة؟ ثم ماذا أقول عن هذا، وماذا يقول إخواني وجلُّهم من زملائي الباريسيين أو البرلينيين؟ إنَّ في مصر غير واحد ممن حصل في أوربة فن الاستشراق ومارسه وألَّف فيه وظفر برضا أهله وإعجابهم، وذلك فضلاً عن أن العربية لغتنا فقدُمنا فيها أثبت وبصرنا بها أعلى).
إني أنقل شكوى الزميل، وأملي أن يكون حديثه وهما من الأوهام.
2 -
في كلية الآداب (معهد الدراسات الإسلامية) وهو اسم واقع على شيء غير موجود، بل على خزانة كتب (وهي غير وافية فلقد شكا إلى بعضهم أن ليس فيها (كتاب الشعر) لأرسطو، ترجمة أبي بشر متي بن يونس).
وقال لي قائل: إن الوزارة السابقة وقفت دون إخراج هذا المعهد من جانب القوة إلى جانب الفعل، وذلك دفعاً لفتنةٍ قد تقوم بين كليتين في هذا البلد. فانظر كيف تُفسد السياسة مسالك العلم.
إن معهداً للدراسات الإسلامية مما لا معدِل عنه لمصر. وقد فصلت ذلك في العدد الخاص لمجلة (المكشوف) البيروتية (10 يولية 1939) فلا أحب أن أعود إلى ما جاء هنالك. غير أني أذكِّر بعضهم أنْ ليس في مصر - وهي مصر - مجلة محض علمية موقوفة على مسائل الإسلام وشؤون العرب، على حين أن في بيروت مجلة (المشرق) وفي دمشق (مجلة المجمع العلمي العربي). وأما أوربة وأمريكة فمجلات الاستشراق تزيد فيها على الثلاثين. وأغرب من هذا أن للفرنجة في مختلف البلدان الإسلامية مجلات رفيعة الشأن، وقد ذكرت بعضها في (المكشوف).
3 -
منذ تسعة أشهر أو نحو ذلك أُلِّفت في كلية الآداب لجنة لوضع المصطلحات الفلسفية باللغة العربية. وأعضاء هذه اللجنة طائفة من الأساتذة والمدرسين من مصريين وأجانب. واللجنة على قسمين: قسم للتحرير وآخر للعمل. وهذا القسم الثاني على شعب، وإحدى هذه الشعب إنما همها منصرف إلى تأليف معجم المنطق من طريق استخراج المصطلحات فالتنقيب عن أصلها اليوناني ثم الاهتداء إلى نظائرها في اللغات الإفرنجية الحديثة. ومما نوته هذه الشعبة طبع منطق كتاب الشفا لابن سينا طلباً للوصول إلى مصطلحاته وبذلها للمراجعين. هذا وأعمال سائر الشعب على ذلك النحو.
ولاشك أن مثل ذلك السعي محمود، فمن ورائه تُسد حاجات التعبير الفلسفي بقواعد صحيحة. ولاشك في أن جُل رجال تلك الشعب أهل اطلاع ومعرفة، وإن نُحِّيَ عنهم غيرهم من المشتغلين بمصطلح الفلسفة الإسلامية.
غير أن أعمال تلك اللجنة لا تزال حديثاً يُتناقل في أندية الثقافة العليا، وإن كان حديث صدق. مصداق ذلك أن شعبة معجم المنطق لم تقم في أثناء تلك المدة إلا بتصوير منطق كتاب الشفا وهو مخطوط. وهذا البطء في الإنجاز قد دعا بعض المستشرقين المتصلين باللجنة إلى أن يكتب إليها يستخبرها الخبر على ما انتهى إليَّ.
فعسى أن تمنع اللجنة الناس أن يقولوا إن مجمع فؤاد الأول للغة العربية أوفر نشاطاً من
لجنة وضع المصطلحات الفلسفية في كلية الآداب.
بشر فارس
أعجب العجب
صديقنا الدكتور بشر فارس لا يسره كثيراً أن يعترف بالحق: فهو ينقل الجدل من ميدان إلى ميدان ليُنسيَ القراء موضوع الخلاف.
هو يقول بوجوب إلقاء الشعر كما يُلقى النثر، وأنا أقول إن الوزن من العناصر الأساسية في الشعر، ومن الواجب مراعاة ذلك عند الإلقاء.
هذا هو أصل الخلاف، فكيف استباح أن يعيد على سمعي مسألة بديهية تقرر أن الشاعر خير من الوازن؟ وهل يظن أن (زميله الباريسي) ممن تخفى عليهم البديهيات؟
ويقول: (إن الطرب لا يأخذ النفس اللطيفة من طريق الحس الظاهر) وهو في هذا الحكم من المخطئين: فالحواس هي أدوات النفس، ولكل صورة وجدانية أصل من الصور الحسية، وهذا بحثٌ مسهَب أودعته كتاب (التصوف الإسلامي) فلا أعود إليه: لأني أبغض الحديث المعاد، ولأني لا أحب أن أعود إلى درس هذا البحث من جديد، ولأن لمجلة (الرسالة) شواغل أهم من درس الموضوعات التي دُرست من قبل.
وأراد الدكتور فارس أن يداعب (زميله الباريسي) فسأله عن صحة (ليلى المريضة في العراق).
وأقول إن (ليلى) فوق التهكم والسخرية يا دكتور فارس فاتق الله في رأسك فقد يطيح في لحظة غضب إذا توهمت أنه يجوز المزاح مع الحب.
وتقل إني أردت أن أذيع فيكم أني مفتون بالجمال
فماذا تريدون! أتريدون أن أُفتن بالقبح كما تُفتنون؟
إن القاهرة لم تخلق فيكم شاعراً يصف أيامها الغُرِّ ولياليها البيض، وليس فيكم من تحدث عن شارع فؤاد كما تحدث طبيب ليلى المريضة في العراق، وهل ألهمتك باريس ما ألهمتْ صاحب كتاب (ذكريات باريس)؟
أحبك يا ليلى، وأحب من أجلك جميع اللائمين والعاذلين. ذكَّرتني يا بِشر بليلاي، فمتى
أرى ليلاي؟ ومتى يهديك الله، أيها العذول؟!
زكي مبارك
1 -
الروحانية، والفكرية
2 -
اللفظة الإغريقية
1 -
مما يُروى حاشية لمقالة المِعَن المِفَن الدكتور زكي مبارك الأديب المشهور في نعيم الجنة التي وُعد بها في الغد لا اليوم المتقون - خبر فرقة اسمها (الروحانية، الفكرية) تعجلت في الدنيا لذات وطيبات في الأخرى ولم تتمهل و (من طلب الشيء قبل أوانه مُنِي بحرمانه) وقد ذكر تلك الفرقة المستعجلة. . (أبو الحسين محمد بن أحمد الملَطي المتوفى سنة 377) في منصفه (كتاب التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع) وهو من الكنوز العربية التي أظهرها العربانيون - لا العربيون - منذ ثلاث سنين. وفيه من أخبار النحل ما فات كتبها المشهورة مثل مقالات الإسلاميين، والفِصَل، والملل والنحل، والفَرْق بين الفرَق.
قال الملطي: (ومنهم الروحانية وهم أصناف، وإنما سموا (الروحانية) لأنهم زعموا أن أرواحهم تنظر إلى ملكوت السموات وبها يعاينون الجنان، ويجامعون الحور العين، وتسرح في الجنة، وسموا أيضاً (الفكرية) لأنهم يتفكرون - زعموا - في هذا حتى يصيروا اليه، فجعلوا الفكر بهذا غاية عبادتهم ومنتهى إرادتهم، ينظرون بأرواحهم في تلك الفكرة إلى هذه الغاية، فيتلذذون بمخاطبة الإلهية لهم، ومصافحته إياهم، ونظرهم إليه - زعموا - ويتمتعون بالحور العين ومفاكهة الأبكار على الأرائك متكئين ويسعى عليهم الولدان المخلدون بأصناف الطعام وألوان الشراب، وطرائف الثمار. . . ولو كانت الفكرة في ذنوبهم الندم عليها والتوبة منها والاستغفار لكان مستقيما. وأما هذه الفكرة فبوبها لهم الشيطان لأنه لا يتلذذ بلذات الجنة إلا من صار إليها يوم القيامة، وهكذا وعد الله عباده المؤمنين والمؤمنات).
وذكر ذلك الكتاب صنفاً آخر (من الروحانية) أغرب من الصنف الأول وأنكر. . . قال: (ومنهم صنف من الروحانية - زعموا - أن حب الله يغلب على قلوبهم وأهوائهم وإرادتهم
حتى يكون حبه أغلب الأشياء عليهم. فإذا كان كذلك عندهم كانوا عنده بهذه المنزلة ووقعت عليهم الخلَّة من الله؛ فجعل لهم السرقة والزنا وشرب الخمر والفواحش كلها على وجه الخلة بينهم وبين الله لا على وجه الحلال ولكن على وجه الخلة كما يحل للخليل الأخذ من مال خليله بغير إذنه، منهم رباح وكليب كانا يقولان بهذه المقالة، ويدعوان إليها. . . كذب أعداء الله وكيف يكون ذلك؟!).
إنه البشر حائر كيف يدين، حائر كيف يكون - لازال في حيرته! - وفي هذا الوقت في هذه (الكرة الأرضية) في هذه الاريضة الضيقة الضئيلة الحقيرة التي هي من ذنبات الشمس - أكثر من أربعة آلاف نحلة كما يقول جيو في كتابه ? ' (وكل يعظم دينه) ويقول: إن الحق عندي، والحق يسخر منهم.
ألَا (إن الدين عند الله الإسلامَ) الصحيح.
2 -
مقالة الباحث المفضال (الأستاذ محمد عبد الله العمودي) في الجزء (327) من (الرسالة الهادية) - مكتز بالفوايد، كشاف عن حقائق وسؤال منشيه حاذقي الإغريقية واللاطينية عما لا يدريه ولا ندريه من براهين فضله.
وقد تعديت في (كلمتي) السابقة البحث عن تلك اللفظة الإغريقية، وتركت مجادلة النابز في نبزه - إن كان يعني ما يعني - لأني إنما قصدت أن أبث ما بثثته، وأشكو - وقد ضيم العرب في كل إقليم - إلى سيدي (رسول الله) ما شكوته.
وأقول في هذا المقام في حكاية ذلك النبز: إن العربية الحرة ما أَمَت أو تأمت في حين. وإن لم تكن - يا أخا العرب - عِزوةٌ من العِزَواتُ التي خطها مؤرخون ولم يُحقها باحثون؛ فإن عربية محمدية إليها ننتمي لتتضاءل بل تضمحل قدامها في الكون كل نسبة.
(ن)
جوائز نوبل لسنة 1939
منحت جائزة نوبل الأدبية لسنة 1939 إلى الكاتب والأديب الفنلندي فرانز إميل سيلانبا.
ونالها في الطبيعة البروفسور أرنست أورلاندو لورانس الأستاذ بجامعة كاليفورنيا، مكافأة له على اكتشاف السيكلوترون وتحسينه والنتائج التي أمكن الحصول عليها بواسطته،
وخاصة فيما يتعلق بالعناصر الصناعية في محطات الإرسال الأثيرية.
أما جائزة نوبل للكيمياء في سنة 1939 فقد نالها الأستاذان بوتناندت الأستاذ بجامعة برلين، وروزيسكاتوف الأستاذ بجامعة زوريخ.
وقد كانت جائزة الكيمياء لسنة 1938 مؤجلة، فمنحها في هذا العام البروفسور كوهن الأستاذ بجامعة هيدليرج.
وقف دور انعقاد مجمع فؤاد الأول للغة العربية
أصدر حضرة صاحب المعالي وزير المعارف القرار الوزاري الآتي:
بعد الاطلاع على محضر الاجتماع الذي عقد في يوم 2 نوفمبر سنة 1939 من بعض أعضاء (مجمع فؤاد الأول للغة العربية) بشأن دور الانعقاد في هذا العام.
وبعد نظر المادة التاسعة من المرسوم الملكي الصادر في 14 شعبان سنة 1351 (13 ديسمبر سنة 1932) بإنشاء (مجمع ملكي للغة العربية).
من حيث أنه يتبين من مجموع الكتب الواردة في هذا الصدد من الأعضاء الأجانب أنه لا ينبغي الاطمئنان إلى توافر العدد الذي يكفل عقد جلسات المجمع في هذا العام.
ومن حيث أن التوجه بالدعوة مع ذلك إلى هؤلاء الأعضاء على وجه خاص، من شأنه أن يجشمهم مشقة السفر والتخلي عن الأعمال التي يعالجونها في بلادهم لو قدر لهم القرار فيها في هذه الفترة. هذا على حين لا يكفل عقد جلسات المجمع، لقلة العدد أو على الأقل انتظامها على فرض اكتمال الحد الأدنى الذي أوجبه المرسوم لصحة الانعقاد
المادة الأولى: وقف دور الانعقاد (لمجمع فؤاد الأول للغة العربية) هذا العام (1939 - 1940).
لمادة الثانية: على رئيس (مجمع فؤاد الأول للغة العربية) تنفيذ هذا القرار.
الأمير شكيب أرسلان في برلين
قالت جريدة (النهار) البيروتية:
اعتاد المذيع العربي في راديو الشرق أن يرد على أكاذيب المذيع العربي في راديو برلين على أثر تلاوة نشرة الأخبار المسائية. وقد تولى مساء الأربعاء تفنيد مزاعم راديو برلين
التي طلعت بها على العالم العربي لمناسبة وصول الأمير شكيب أرسلان إلى العاصمة الألمانية والحفاوة التي قوبل بها.
وقد علقت الصحف السويسرية على زيارة الامير، فقالت إن رئيس الدعاية النازية اقترح منح الأمير شكيب لقب مواطن شرف الريخ، ولكن هتلر رفض العمل بهذا الاقتراح بحجة أن الزائر من الجنس السامي ولا يجوز أن يمنح لقباً يجعله في مستوى أبناء الريخ.
وإزاء إلحاح رئيس الدعاية رضي هتلر بمنح الأمير لقب مواطن شرف على أن يرأس الحفلة رجل غير آري فوقع الاختيار على البارون اليهودي اربنهايم الذي كان يرأس دوائر الاستخبارات في البلاد العربية في الحرب العظمى.
حول صوت من ألف عام
حمدنا الأستاذ الاعظمي قيامه ببعث ديوان الأمير تميم وإمتاع الناس به وإتحاف قراء الرسالة ببعض شعره، ولكن هل كان أفضل شعره ما عرض فيه للعباس وعبد الله بن عباس في قصيدة الرد على ابن المعتز؛ وهل ثم ضرورة داعية إلى هذا وشعر ابن المعتز في هذا الوجه لا يكاد ينتبه إليه أحد لإعراض الناس عن هذه المفاضلات السياسية التي كانت لها مناسبات درست؟ ولقد كان العباس وعبد الله بن العباس وعلي والحسين أسرة واحدة وبينهم من الحرب والتناصر ما التاريخ ممتلئ به، فما بالنا اليوم نثير فتناً حمدنا الله على موتها؟ والعجب أن الأستاذ الاعظمي قائم على جماعة الأخوة الإسلامية والدعوة لها، فهل تقوم الأخوة على تذكير الناس بهذا الجانب الطائفي من الماضي السحيق؟
محمد علي النجار
مدرس بكلية اللغة العربية
رسالة النقد
في سبيل العربية
تصحيح نهاية الأرب
جزؤه الثاني عشر
بقلم الأستاذ عبد القادر المغربي
الأغلاط التي عثرنا عليها في هذا الجزء قليلة جداً، وقد يكون معظمها مما يسمونه خطأً مطبعياً، ومع هذا فسنذكر هنا هذه الأغلاط لتكون كاللحام يصل بين طرفي سلسلة التصحيحات التي خدمنا بها هذا الكتاب النفيس منذ أول صدوره ونشرناه على التوالي في أجزاء مجلة مجمعنا العلمي الدمشقي. وإذ قد توقفت مجلة هذا المجمع عن الصدور رأينا أن ننشر تصحيح الجزء الثاني عشر وما يليه في مجلة (الرسالة) وذلك لسعة انتشارها، ولأن معظم قراء مجلة المجمع الدمشقي من قرائها وهاهي ذي تصحيحات الجزء الثاني عشر.
ص 63 س 8 قوله: (ويؤخذ من السُكُّ الأصفر الطوامير مثقال) السُكُّ طيب ذكره المؤلف ووصف أنواعه. و (الطوامير) جمع طومار وهو الصحيفة. وفي اصطلاح كتاب الدواوين قديماً صحائف ذات شكل خاص تطوى طياً خاصاً. قال كعب بن زهير في وصف ناقته من شعر (طُمِّرت تطميراً) أي كأنها طويت طيِّ الطوامير. فكلمة الطوامير إذن لا تصلح أن تكون صفةً أو بدلاً من كلمة (السُك) فلعل صوابها (الطواميري) بياء النسبة. ويكون معنى نسبة السك إلى الطوامير أن ذلك السك مما يحفظ في الطوامير لا في أوعيةٍ أو ظروف أخرى، أو المعنى أن لون السُك الأصفر فاتح أو قاتم كلون الطوامير.
وقد تتبعنا ما قاله المؤلف في طريقة اتخاذ السُك فلم نجد ما يساعدنا على معرفة المراد من وصفه بالطواميري.
ص 90 س 5 قوله: (طبيخ ألبان بالأفاويه مع الماء أقوى له) الصواب أن يكون (طبخ) بصيغة المصدر إذ أن سياق الكلام والإخبار بقوله: (أقوى) يقتضيان هذا.
ص 121 س 2 قوله: (ثم دُقه بشيءٍ من ماء التمر) الضمير في (دقَّه) يرجع إلى الآس الذي دُقَّ دقاً جريشاً ثم عُجن بماء التمر إلى أن قال: (ثم دقه الخ). ولا يخفى أن قوله:
(دقّه) بالقاف المشددة محرف أو مصحف وصوابه (دُفهُ) بالفاء الساكنة أمر من فعل داف يدوف. قال في (الأساس): (داف المسك بالعنبر خلطه به. وداف الزعفران أو الدواء خلطه بالماء ليبتل) ولا ريب في أن ماء التمر لا يتصور أن يدق به شيء من الأشياء وإنما يداف به ويخلط. وفعل (الدوف) استعمله المؤلف في غير ما موضع. ففي ص 132 س 5 (ويُدافان بالطلاء الريحاني) وفي ص 135 س 10 (الزعفران والمسك المدافين بدهن البلسان).
ص 128 س 10 قوله: (وصعده على هبال الماء) ضمير (صعده) يرجع إلى المسك المدوف بماء الورد (التصعيد) كما في القاموس وشرحه الإذابة ومنه قيل خلَّ مصعَّد. ويقال شراب مصعَّد إذا عولج بالنار حتى يحوَّل عما هو عليه طعماً ولوناً اهـ. وهبال الماء بخاره الساخن الصاعد عنه وهو على النار. وهي كلمة عامية كانت شائعة على ما يظهر في عهد المؤلف كما لا تزال شائعة في بلادنا الشامية غير أنا نلفظها نحن الشوام (هبلة) لا (هبال) على أن (هبال) قد تكون جمعاً لهبلة فإن (فعلة) تجمع على (فعال) قياساً نحو قصعة وقصاع. واليسوعيون في معجمهم العربي الفرنسي فسروا الهبلة ? وضعوا أمامها العلامة التي تدل على أن الكلمة ليست فصيحة وإنما هي مستعملة في اللغة العامية. وأذكر أن بعض العارفين باللغات السامية عدَّ كلمة (الهبلة) في جملة الكلمات الباقية في العامية الشامية من اللغة السريانية. ولا يخفى أن مؤلف (نهاية الأرب) يتسامح في استعمال الكلمات الدخيلة الجارية في لهجة عوام زمانه: فهو يقول (شوابير) ويريد بها القطع أو الفتائل المجعولة على طول الشبر. ويقول (الريم) ويريد به الزبد أو الرغوة التي تعلو المائعات وهي تغلي على النار فتلتقط وترمى. والكلمتان عاميتان شائعتان في مصر والشام إلى زماننا هذا. فلا حاجة إذن إلى جعل (الهبال) الواردة في كلام المؤلف محرفة عن كلمة (الهباء) بالهمزة وهو ما ارتفع من الغبار وأن المراد بالهباء حينئذ البخار الساخن مجازاً.
ص 144 س 2 قوله (ويغلى بزيت مغسول) لعل الأفصح في استعمال هذا الفعل هنا أن يقال (يُقلى) بالقاف لا (يُغلى) بالغين: فإن ما يطبخ بالزيوت والادهان من دون إضافة ماء يستعمل فيه فعل قلاه يقلوه وآلته (المقلاة). وإذا طبخ الطعام بالماء مع زيت أو دهن أو من دونهما ثم بقبق قيل إن الطعام يغلي غلياناً، وإن الطاهي أغلاه وطبخه لا قلاه وحمصه.
على أن الغليان في عبارة المؤلف قد يكون له معنى ولكننا نستبعد أن يكون مراداً للمؤلف فهو في الراجح من تصحيف النساخ.
ص 160 س 10 ذكر المؤلف عقاقير سُحقت ونُخلت وعُجنت بعسل، ثم قال:(وتُبسط على جامٍ وتقطع وتستعمل) ثم قال في ص 161 س 6 (ويبسط على جام الخ) واستعمال الجام في الموضعين صحيح فصيح فلا حاجة إلى تصحيح الجام بكلمة (الرخام) وإن كان بسط الأدوية والطيوب على رخام كثير الوقوع، غير أن بسطها على الجام أقرب تصوراً وتعقلاً. وبيانه أن للجام معاني ثلاثة تختلف باختلاف اللغات الثلاث العربية والتركية والفارسية فالجام في العربية معناه الإناء من فضة، وقال علماء اللغة إنه بهذا المعنى عربي فصيح. والجام في التركية لزجاج كزجاج الشبابيك والمرايا. والجام في الفارسية القدح الذي يشرب به الشراب في الأكثر وغير الشراب في الأقل.
ولا يمكن أن يكون المراد من (الجام) في عبارة المؤلف هذا المعنى الفارسي أي القدح؛ وإنما الممكن أن يكون المراد الإناء من فضة (بالمعنى العربي) أو لوح الزجاج (بالمعنى التركي)، فإن بسط العقاقير ومعالجة تركيبها عليه أكثر الشيوع وشد ما رأيناه في الصيدليات. ولا سيما إذا لاحظنا أن طائفة من علماء اللغة قالوا إن (الجام) هو (الفاثور) وفسروا الفاثور بالطست يكون من رخام أو فضة. وخص الأزهري فقال: إن أهل الشام يتخذونه من رخام. فإذا كان الجام قد يتخذ من رخام فلا حاجة إذن إلى تصحيحه بالرخام. والفاثور أيضاً قد يكون بمعنى قرص الشمس وقد سموا قرصها بالفاثور على التشبيه. وهذا يدل على أن الفاثور الذي يسمى الجام لا يكون له حروف قائمة حواليه حتى قال في (الروض الأنف): (الفاثور سبيكة الفضة) والسبيكة لا حروف لها كما لا يخفى. ويؤيد هذا ما جاء في كتاب (الألفاظ الفارسية المعربة) من أن (فاثور) معرب (بتر) وهو كل ما صفح من ذهب وفضة ونحاس. ثم نقلوه إلى الآنية المعدنية التي لها شكل الصفائح كالخوان والطست وقرص الشمس، ثم شبهوا به صدر الحسان وخاصة صدر بثينة الذي قال فيه جميل:
سبتني بعيني جؤذر وسط ربرب
…
وصدر كفاثور اللجين وجيد
وبالجملة فإن استعمال المؤلف لكلمة (جام) بمعنى الإناء أو الزجاج صحيح ولا حاجة إلى
تصحيحه بالرخام وإن كان استعمال الرخام في هذا المقام ممكناً.
ص 169 س 6 قوله: (ويؤخذ ماء الصِلق المعتصر) الفصيح في (السلق) وهو الخضرة المعروفة أن يكون بالسين كما ورد في معاجم اللغة. لكن لما كان المؤلف يتسامح في استعمال الكلمات العامية كما قلنا وكان (الصلق) بالصاد مما ينطق به عامة زمانه كما ينطق به عامة زماننا - لما كان ذلك كذلك حَسُنَ الإبقاء على (الصلق) الواردة في عبارة المؤلف بالصاد ولا حاجة إلى تصحيحها بالسين، وهذا كما أبقينا على كلمة (ملو) بالواو وهي عامية مكان (ملء) بالهمزة في عبارة المؤلف (ص 140 س 5) وهي قوله:(ويكون العصير أقل من ملو القارورة) وقد أحسن المصحح الفاضل صنعاً في قوله: (أبقينا (ملو) على حاله حرصاً على استعمال المؤلف) وكذلك نبقي كلمة (الصلق) بالصاد على حالها حرصاً على استعماله: فإن في هذا الإبقاء على الكلمات العامية الواردة في عبارات علمائنا وكُتابنا الأقدمين - غرضاً له قيمته في معرفة تطور الألفاظ وتاريخ اللهجات كما لا يخفى.
ص 162 إلى 177 وصف المؤلف خلال هذه الصفحات أدوية مركبة من عقاقير لتنمية (القوة الجنسية) وقد ذكر في عنوان ثلاث (وصفات) منها أنها (تسخِّن الكلَى) بالخاء وفي ثلاث وصفات أخرى أنها (تسمِّن الكلى) بالميم، فإذا كانت كلتا الكلمتين صحيحتين غير محرفتين كان ذلك من أسرار الطب القديم، وإلا فإن طبيباً من فضلاء أطبائنا قال:(بعد أن اطلع على نصوص الكتاب) إن إحدى الكلمتين (تسخن وتسمن) محرفة عن الأخرى وأن الصواب في ظني هي (تسخن) بالخاء دون (تسمن) بالميم، واستدل على ذلك بأن المؤلف وصف هذه العقاقير بأنها (كثيرة الحرارة)، ولا ريب أن كثرة حرارتها تحدث حرارة في البدن عامة وفي الكُلية خاصة، قال: وهذا ما وقع لي مذ كنت في السودان فقد دعاني شيوخها إلى وليمة أكثروا في طعامها من الفلفل الحار فأدى ذلك إلى حصول التهاب ونزيف دموي في كليتي. فلا جرم أن يكون المؤلف في وصفاته إنما أراد أن العقاقير تسخّن وتحدث حرارة لا تسمّن الكلية وتضخمها. وفوق كل ذي علم عليم.
المغربي