المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 334 - بتاريخ: 27 - 11 - 1939 - مجلة الرسالة - جـ ٣٣٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 334

- بتاريخ: 27 - 11 - 1939

ص: -1

‌خطاب العرش من الوجهة الأدبية

للدكتور زكي مبارك

أخي الأستاذ الزيات

أحب أن يتسع صدر (الرسالة) لموضوع لم يكتب فيه الباحثون من قبلُ: وهو نقد خطاب العرش من الوجهة الأدبية

وأسارع فأذكِّر القرّاء بأن هذا الموضوع لا يحتاج إلى تحفظ وإحتراس، لأن خطاب العرش ليس من إنشاء جلالة الملك، وإن كان يُلقى باسمه الكريم، وإنما هو إنشاء رئيس الوزراء، وهو الذي يحاسَب عليه أمام الشيوخ والنواب، بآية ما نشهد من تأليف اللجان البرلمانية للرد عليه، في حدود قد تصل أحياناً إلى الصرامة والعنف، وقد تعرِّض الوزارة إلى تعديل بعض النصوص أو تستقيل

ولعل هذا هو السرّ في أن جلالة الملك لا ُيلقى خطاب العرش بنفسه كما يصنع حين يتفضل بتوجيه الرأي والتحية إلى شعبه في فواتح الأعوام وفي المواسم والأعياد

وخطاب العرش في التاريخ الحديث يشبه العهود التي كانت تُكتب بأسماء الخلفاء في التاريخ القديم، ونحن نعرف أن كُتّاب (العهود) كانوا يُسألون عما يقع فيها من خطأ أو إسراف، لأنه كان مفهوماً أن الخلفاء لا يكتبون بأنفسهم تلك العهود، ولذلك تفاصيل يضيق عنها هذا المقال، وهي معروفة لجميع المطلّعين على تاريخ الحضارة الإسلامية

إن خطاب العرش من إنشاء رئيس الوزراء، ولكنه يُلقَى باسم جلالة الملك: فمن الواجب أن يكون صورة رائعة من الوثائق الأدبية التي تمثل عظمة مصر لهذا العهد، فهل كان كذلك؟

إن صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا من رجال مصر المعدودين، وهو في أنفُس خصومه أهلٌ للتبجيل، فمن حقنا عليه ونحن نؤمن بكفايته الذاتية أن نطمع في أن يمنح خطاب العرش عناية خاصة من الوجهة الأدبية ليكون في نَسَق مع مطامحهِ العالية في خدمة البلاد، وليكون في طراز مع الخطب الجيدة التي كان يلقيها يوم كان وزيراً للمعارف في سنة 1925

وقد يمكن الاعتذار عن خطاب العرش بأنهُ خلاصة لآراء تصل إلى الرياسة عن مختلف

ص: 1

الوزارات، ولكن تنوُّع المصادر التي تؤلف خطاب العرش لا يُعفي الرئيس من إنشائه بطريقة مُحكَمة تضعه في الصف الأول بين الوثائق الأدبية التي يعتز بها العهد الجديد: عهد فاروق بن فؤاد

ولكن ما هي المآخذ التي توجَّه إلى خطاب العرش من الوجهة الأدبية؟

نلاحظ أولاً أن فيه عبارات لا تقال في وثيقة رسمية كالعبارة الآتية:

(قد آن لنا أن نعمل وأن نلبي داعي الوطنية والإيمان، داعي الرجولة والتضحية والكفاح)

لأن الحكومة الجديدة ليست أول من يعمل حتى يشهد لها بذلك، وإنما عملُها حلقةٌ من سلسلة كونتها الحكومات المصرية من قبل، وقد شهد رفعة الرئيس بأن فيمن سبقوه رجالاً كانت لهم وطنية وتضحية وإيمان

وكذلك نقرأ في خطاب العرش:

(وقد فطن جدي الأعلى محمد علي الكبير إلى الصلة المتينة التي تربط الجيش الوطني القومي بفروع الإصلاحات والإدارة العامة: فما كاد الجيش المصري يظهر في الوجود حتى ظهرت في البلاد إدارة منظمة ومصانع ومعامل ومدارس لا عداد لها)

وليس هناك شكّ في أن المغفور له محمد علي الكبير نهض بمصر نهضة عظيمة، ولكن لا يقال إن عهد محمد علي كان أول عهد لظهور الجيش المصري في الوجود، فإن معنى ذلك أن مصر لم تكن أمة قبل أن تعرف محمد علي الكبير. والرأي الصحيح أن مصر كانت أمة لها وجود أدبي واجتماعي وسياسي، فلما جاء محمد علي عملت يداه في تنظيم ما كان في مصر من قوة أدبية ومعنوية فكان لها المكان الذي عرفته الأمم في التاريخ الحديث. . . كان محمد علي الكبير تركيّاً، وكان يسرهُ بالطبع أن تكون لغة مصر هي التركية، ولكنه رأى بثاقب الفكر المبدع أن اللغة العربية من أقوى مظاهر القومية المصرية فساعد على تقوية اللغة العربية ليتأصل حبهُ في القلوب المصرية، ومن كان هذا حاله لا يقال إن عهده كان أول عهد لظهور الجيش المصري في الوجود

وفي خطاب العرش أن مصر لذلك العهد ظهرت فيها مصانع ومعامل ومدارس لا عداد لها، وجملة (لا عداد لها) جملة يراد بها التفخيم، ولكنها لا تُقبَل في وثيقة مثل خطاب العرش، لأن هذا مقام يفضَّل فيه القصد في الإغراق

ص: 2

وماذا يريد الخطاب من العبارة الآتية:

(مصر مهد المدنية، وعلى يديها نهضت، ومنها خرجت وإليها تعود)

أيكون معنى ذلك أن المدنية خرجت من مصر إلى مَعاد؟

أيكون معناه أن المدنية يوم تعود إلى مصر ستفارق ما سواها من الممالك والشعوب؟

ويقول خطاب العرش:

(إن التفاتنا إلى الماضي لا يُنسينا الحاضر، والذكرى تبعث الذكرى)

فما معنى عبارة: (والذكرى تبعث الذكرى)؟ أيكون الحاضر أيضاً من الذكريات؟

ويقول خطاب العرش:

(ومما تطيب له النفس أن الأمة متعلقة بعرشها)

فهل يظن أن هذا مما يُنص عليه؟

إن تعلق الأمة بالعرش لا يحتاج إلى هذا النص، لأنه من البديهيات، ولأنه من موضوع الخطاب.

ويقول:

(كان لابدّ من السير بسفينة البلاد في يقظة وأمن وحذر)

فما موقع كلمة (الأمن) بين اليقظة والحذر؟ لعله كان يريد كلمة: (الإيمان) أو (العزيمة) أو (الثقة) ولم يسعفه التعبير بما يريد.

ويقول بعد أن أشار إلى وجوب العناية بإصلاح جميع المرافق:

(فلا يجدي والحالة هذه أن نعدد برامج الإصلاح في الوزارات القائمة).

فما معنى (الوزارات القائمة)؟ وبأي حق يكون تعدد برامج الإصلاح شيئاً (لا يُجدي)؟

إن خطاب العرش يريد أن يقول: إن المقام مقام إجمال لا مقام تفصيل؛ ثم ضاقت به العبارة عما يريد، فرأى تعديد برامج الإصلاح من الفضول!

ويقول في إعادة إنشاء المجلس الأعلى للتعليم: إن الغاية منه أن (تتحقق مصلحة البلاد العليا التي يجب أن تعلو على كل مصلحة أخرى).

فما موقع كلمة (كل مصلحة أخرى)؟ وما الموجب للنص عليها في هذا الخطاب؟

ويقول:

ص: 3

(وإن حرصنا على الدفاع عن أرض البلاد واستقلالها لا يحده حد ولا يدركه وهن).

وعبارة (لا يدركه وهن) لا تخلو من وهن!

ويقول:

(إن تعاوننا مع حليفتنا سيكون أكبر رائد لنا في العمل)

ونحن حلفاء الإنجليز، ولكن لا ينبغي أن نقول إن ذلك التحالف أكبر رائد لنا في العمل، لأن لنا إرادة ذاتية هي رائدنا الأكبر في السلم والحرب

بقيت مسألة على جانب من الأهمية وهي سكوت خطاب العرش عن الحياة الأدبية في هذه البلاد

العمّال موضع اهتمام، والفلاحون موضع اهتمام، والجنود موضع اهتمام، كل شيء في مصر موضع اهتمام في خطاب العرش إلا الأدب والأدباء، فكيف جاز ذلك، أيها الناس؟

إن خطاب العرش يتمدّح بما وصلنا إليه في توثيق الروابط الأدبية والثقافية بيننا وبين الأمم الشرقية

فهل يذكر خطاب العرش أن أدباء مصر هم الذين رفعوا القواعد من تلك الروابط؟

وهل يرى الشرق مصر إلا في مرآة الآداب والفنون؟

إن الأدباء هم سفراء الثقافة المصرية في الشرق، فكيف يكثر على منشئ خطاب العرش أن يشير إليهم بكلمة تشجيع وهو يتحدث عن صلات مصر بأمم الشرق؟

إننا نعتب على رؤساء الحكومات المصرية أشد العَتْب، فلكل هيئة من الهيئات حظ من الرعاية والتشجيع، إلا جماعات الأدباء والباحثين الذين يُقذون أبصارهم تحت أضواء المصابيح، فهم المنسُّيون، مع أنهم يحملون أكثر الأعباء، ويؤدون للأمة وللدولة أعظم الخدمات، وبأعمالهم تظهر خصائص الشعوب

أين حظ الأدباء من ألقاب التشريف ودعوات التشريف في المواسم والأعياد؟ وأين الوزير الذي يقترح رتبة لموظف أو غير موظف باسم المواهب الأدبية؟ بل أين من يعرف أن أدباء مصر رفعوا اللغة العربية مكاناً عليّاً لم تعرف مثله في عهد بني أمية وعصر بني العباس؟

إننا نرفع هذا الصوت إلى حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق الأول راجين أن يضع

ص: 4

سُنّةً جديدة في تشجيع الأدب والأدباء تضاف إلى مآثره الغُر في عهده السعيد

زكي مبارك

ص: 5

‌في مزارات الإسكندرية

مع الشيخ الخالدي

للدكتور عبد الوهاب عزام

لقيت الشيخ العلامة خليلا الخالدي في الأسكندرية، ففرحتُ بمقدمه إلى هذه المدينة، وكنت أحسبه لا يعرف كثيراً من مشاهدها وأخبارها. جلسنا نتحدث والشيخ إذا ترك لشأنه لم يتجاوز حديثه الكتب والمؤلفين ومعاهد العلم ودور الكتب. فلما تحدث عن خطوط العلماء الجيدة والرديئة - وقد ذكرت هذا في مقال سابق - قال: وكان الطرطوشي من أصحاب الخطوط الرديئة. فلما ذكر الطرطوشي وهو من علماء الإسكندرية نقلت الحديث إلى علماء هذه المدينة؛ فإذا الشيخ عالم بأخبارها خبير بمزاراتهم. ذكر من المحدثين والعلماء عبد الرحمن بن هرمز والسِّلفي والقاضي سند وابن المنّير. وذكر من الصوفية أبا العباس المرسي والبوصبري والأسمر وياقوت العرش. وتواعدنا يوماً نزور فيه هؤلاء الكبراء

وتلاقينا يوم الاثنين سادس رجب (21 أغسطس)، وكان معنا الأستاذان عبد الفتاح عزام وعبد الغفار الطنطاوي. فذهبنا صوب الميناء نسأل عن عبد الرحمن بن هرمز حتى وقفنا على مسجد صغير في أحد جوانبه حجرة يتوسطها قبر يقول الناس إنه لأبن هرمز، ورأينا لوحاً على الجدار كتب فيه أن هذا قبر عبد الرحمن ابن هرمز المتوفى سنة سبع عشرة ومائة. قال الشيخ: وهو ممن روي عن أبي هريرة: قلت: بل هو من واضعي علم النحو ومن تلاميذ أبي الأسود الدؤلي. قال ابن الأنباري:

وأما الأعرج فهو أبو داود عبد الرحمن بن هرمز الأعرج. وكان مولى لمحمد بن ربيعة بن الحارث بن المطلب. وكان أحد القراء عالماً بالعربية وأعلم الناس بأنساب العرب. وخرج إلى الإسكندرية وأقام بها إلى أن مات سنة سبع عشرة ومائة

ونقل السيوطي عن الزبيدي أنه كان من أول من وضع العربية. ثم سرنا إلى مسجد آخر فألفينا في حجرة متصلة به قبرين كبيرين كتب على أحدهما: أبو بكر محمد بن محمد بن الوليد النهري الطرطوشي المتوفى سنة 521. قال الشيخ: له كتاب البدع وهذا الكتاب وكتاب البدع لابن وضاح مأخذ كتاب الاعتصام للشاطبي صاحب الموافقات. قال وبين وفاة الطرطوشي وابن رشد الكبير شهران أو ثلاثة

ص: 6

أقول: هو أحد علماء المسلمين الأعلام ينسب إلى طرطوشة من بلاد الأندلس نشأ بها وطلب العلم في البلاد الأندلسية، أخذ عن أبي الوليد الباجي وابن حزم. ورحل إلى الشرق سنة ست وسبعين وأربعمائة وحج ولقي شيوخ العراق وأقام بالشام زمناً ودرس بها. وله مؤلفات أعظمها سراج الملوك

ونقل ابن خلكان عن كتاب الصلة لابن بشكوال أنه: (دفن في مقبرة وعلة قريباً من البرج الجديد قبليّ الباب الأخضر في الإسكندرية)

والقبر الذي بجانب قبر الطرطوشي كتب عليه أنه قبر محمد الأسعد. ولست أدري من هو

تركنا مسجد الطرطوشي لنزور اثنين من جلّة العلماء القاضي سند والحافظ السِّلَفي، فدُللنا على مسجد صغير جداً فإذا قبر بجانب جداًره الغربي علّق فوقه لوح كتب فيه أنه قبر القاضي سند بن عنان الأزدي المتوفى سنة 541 هـ. قال الشيخ الخالدي: وهو شارح المدونة في فقه الإمام مالك. وقرأت في حسن المحاضرة أنه (تفقه بالطرطوشي وجلس في حلقته بعده وانتفع به الناس وشرح المدونة وكان من زهاد العلماء وكبار الصالحين، فقيهاً فاضلاً مات بالإسكندرية سنة إحدى وأربعين وخمسمائة)

وسألت أين قبر الحافظ السلفي فأشار خادم المسجد إلى موضع بجانب سارية أمام المنبر وقال: قد سوّي القبر بالأرض ليتسع المكان للصلاة. قال الخالدي وكذلك رأيت في مساجد المغرب يصلي الناس على بلاطات تحتها قبور

والحافظ السلفي ولد في أصفهان حوالي سنة 475 وشغل بالحديث ورحل في طلبه وورد بغداد وأخذ اللغة عن الخطيب التبريزي. وقدم ثغر الإسكندرية سنة إحدى عشرة وخمسمائة وأقام بها أكثر من ستين سنة حتى توفى سنة 576. وقصده الناس من مصر وغيرها يأخذون عنه وذاع صيته في الآفاق. وبنى له العادل وزير الظافر الفاطمي مدرسة في الإسكندرية وبقيت تعرف باسمه زمناً طويلاً ودفن في مقبرة وعلة أيضاً

وكانت مقبرة وعلة مقبرة كبيرة بالإسكندرية دفن فيها كثير من العلماء. وسمعت من الشيخ الخالدي ثم قرأت في رحلة ابن رشيد رواية عن النجيبي: (وكان شيخنا الحافظ السِّلفي رحمه الله يقول لا أعلم في البلاد التي تطوفتها تربة جمعت قبور ثلاثة أئمة في ثلاثة مذاهب إلا التربة التي بمقبرة وعلة، وقبور الأئمة الثلاثة في الثلاثة المذاهب بالمقبرة

ص: 7

المذكورة متلاصقة: قبر أبي الخطاب الشافعي، وقبر أبي بكر الطرطوشي المالكي، وقبر أبي بكر محمد بن إبراهيم الحنيفي) (يعني الحنفي على عادة الأندلس في النسبة إلى أبي حنيفة)

وقرأت في رحلة ابن رشيد أيضاً:

(زرنا بالإسكندرية حماها الّله تعالى قبر الإمام الزاهد المحدث، آخر الحفاظ بقية المحدثين أبي الطاهر السلفي داخل باب الأخضر على مقربة منه وله سنام كبير عال، وعلى مقربة من قبر الزاهد الفقيه الإمام أبي بكر الطرطوشي رحمه الله، وعلى قبره مكتوب: توفى الإمام الزاهد أبو بكر محمد بن الوليد الفهري في جمادى الآخرة سنة 520

وبمقربة من الجدار الغربي قبر يقال إنه قبر عبد الرحمن ابن هرمز الأعرج رحمه الله اهـ

وسرنا بعد إلى جامع المنير فراقنا جمال هندسته ونقشه وتهللت وجوهنا وانبسطت أنفسنا لمدخله حتى قلت: حبذا جلسة طويلة في هذا المسجد الطويل. وزرنا ضريح الشيخ ابن المنير وهو في جانب من المسجد عليه قبة شاهقة

وابن المنير هو عبد الواحد بن شرف الدين بن المنير. قال السيوطي نقلاً عن ابن فرحون: كان شيخ الإسكندرية ويلقب بعز القضاة فاضلاً أدبياً عُمّر وانتفع به الناس، أخذ الفقه عن عمّيه ناصر الدين وزين الدين، وألّف تفسيراً في عشرة مجلدات) (لعله يريد تفسيره المسمى الانتصاف من صاحب الكشاف)

ولد سنة 651 وتوفى سنة 736

ثم قصدنا إلى زيارة الصوفية فزرنا أبا العباس المرسي، وقبره الآن تحت المسجد العظيم الرائع الذي تشيده وزارة الأوقاف الآن ويرجى إتمامه قريباً. وهو أبو العباس أحمد بن عمر الأنصاري من كبار الصالحين، وأكبر أصحاب أبي الحسن الشاذلي. توفى سنة 686

وعلى مقربة منه قبر العالم الكبير عثمان ابن عمر المعروف بابن الحاجب أحد أئمة العلماء المصريين في القرن السابع. ولد بإسنا في العقد الثامن من القرن السادس وتوفى بالإسكندرية سنة 646. وله مصنفات في الفقه والأصول. وأما مصنفاته في النحو فقد طبقت شهرتها الآفاق وعدت من أمهات كتب العربية. وحسبك في النحو الكافية وشرحها

ص: 8

وفي الصرف الشافية وشرحها

لم نستطع الوصول إلى قبره إذ حالت دونه العمارات القائمة في جامع أبي العباس. قال ابن خلكان: ودفن خارج باب البحر بتربة الشيخ الصالح ابن أبي أسامة

وخرجنا بعد زيارة أبي العباس فمررنا باثنين من كبار الصوفية: المكين الأسمر عبد الّله بن منصور الإسكندراني شيخ القراء بالإسكندرية في وقته. مات سنة 692

وقال ابن رشيد: (الشيخ المقري المجود مكين الدين أبو محمد عبد الّله بن منصور بن علي ويلقب بالمكين الأسمر أحد الصلحاء الفضلاء، وهو المتصدر لإقراء القرآن بالإسكندرية. قرأت عليه بدكان منزله - عمره الّله ببقائه - ضحا يوم السبت الحادي والعشرين لجمادى الآخرة من عام أربعة المذكور، جميع المجالس الخمسية السلمانية التي أملاها الحافظ أبو طاهر السلفي الخ.)

وبجانب المكين قبر لياقوت العرش أحد الصالحين. وهو ياقوت بن عبد الّله الحبشي العارف تلميذ أبي العباس المرسي. وكان الناس يقصدونه للدعاء والتبرك. مات بالإسكندرية 732. قال الشيخ الخالدي: ذكره ابن عطاء الّله في تآليفه

وأما ابن عطاء الّله السكندري صاحب الحكم فهو أحمد بن محمد ابن عبد الكريم الجذامي الاسكندراني. كان صوفّياً على طريقة الشاذلية، جامعاً لعلوم شتى من تفسير وحديث ونحو وأصول وفقه، وأخذ عن أبي العباس المرسي، وأخذ عنه التقى السبكي، وله كتب منها كتاب الحكم وهو من أروع ما أثر من أدب الصوفية. وكتاب التنوير في إسقاط التدبير. وكتاب لطائف المنن في مناقب الشيخ أبي العباس، والشيخ أبي الحسن (أبي العباس المرسي وأبي الحسن الشاذلي)

ومات بالمدرسة المنصورية بالقاهرية سنة 709 ودفن بالقرافة

وعلى مقربة من ضريحي الأسمر وياقوت في الجانب الآخر من الشارع بناء جديد نقلت إليه بلدية الإسكندرية رفات جماعة من الصالحين كانت في قبور متفرقة في المدينة. وقد قرأت على الجدار من الخارج أسماء أحد عشر منهم. وأخبرنا الخادم أنهم تسعة عشر.

(للكلام صلة)

عبد الوهاب عزام

ص: 9

‌على هامش الأبحاث الفلسفية والنفسية

بين الفرض النظري والحقيقة الواقعة

للدكتور محمد البهي

- 1 -

للفيلسوف أن يفرض ما شاء من النظريات والمبادئ لإصلاح المجتمع وتهذيب الفرد، وللأخلاقي أن يتحدث عن كمال الإنسانية وفضائلها، وللواقع بعد ذلك أن يسطر حوادثه في سجل الوجود بأسلوبه الخاص وعلى النهج الذي ترتضيه الأيام ويضعها أمام الأفراد والجماعات

وضع أفلاطون (جمهوريته) وتكلم فيها عما يجب أن يتبع لقيام حكومة عادلة ونظام دائم يرعى مصلحة الفرد كما يحرص على نفع الجماعة. وأسهب في تفاصيل ذلك النظام وقسمه وفق طبائع الإنسان التي قدرها والتي يجب أن تسودها (العدالة) في نظره إذا قصد به إلى الكمال المطلق

وظن كثير من أتباع هذا الفيلسوف أنها أجود ما ينتجه عقل مفكر، وأن في نظامها خير ما تبغيه الإنسانية

إلا أرسطو - لأنه عاش بتفكيره في عالم الواقع ووجه عمله العقلي في أغلب الأحايين إلى إيجاد حلول لمشكلات وقته وأزمات شعبه - فقد تناول جمهورية أستاذه بالنقد مسترشدا بتجاربه ورد كثيراً من مبادئها لأنها قامت على الفرض الذي لا تمكن الأيام ولا طبيعة الإنسان من تنفيذه

كذلك شعّب كثير من علماء الأخلاق وجهات نظرهم فيما هو أسمى الفضائل التي تقرب الفرد والجماعة من (المثال الأعلى) وتضعهما في مستوى روحي يحول بينهما وبين الشقاء النفسي. وتحدثوا كثيراً عن العدل (المطلق) كتحديد لهذا الأسمى من الفضائل أو تقريب لمفهومه. وآمن رجال الدين بهذا المبدأ وبنوا عليه وعظهم الخلقي كما حاول المقنِّنون جعله غاية تقنينهم، سواء فيما يتعلق بنظام الحكم أو بمعاملة الأفراد بعضهم لبعض

ولكن الواقع أنكر هذا الإطلاق فيما مضى وما زال - وسوف - ينكره لأن ما يقع من

ص: 11

تصرف الإنسان مهما كان العقل مستقلاً - عن الغرائز - في إصداره، ومهما بدت الدوافع التي بعثت عليه في مظهر التجرد عن الغايات الشخصية لا يخلو من تأثره (بالميول). وهذه لاشك تضيِّق من دائرة العدل وتقيد عمومه. ولذا يميل البحث الواقعي للمسائل الخلقية إلى الإكتفاء بطلب العدل النسبي في الإنصاف بوصف العادل. وفي هذه النسبية يتفاضل العادلون

كذلك قرَّ في النفوس البشرية إما عن رغبة في حسم النزاع بين الأفراد في الأصل تحولت فيما بعد إلى عرف بينهم أو عن دافع فطري، أن (الكفاية) هي المقياس الصحيح للفصل في أفضلية فرد على آخر. وهي تختلف طبقاً لما تتطلبه ميادين النشاط المتنوعة في الحياة. فالكفاية الدينية غير الكفاية السياسية، وهاتان غير الكفاية العسكرية والاقتصادية مثلاً. وكانت في جملتها مقياساً صحيحاً لأنها تكشف عن عنصر القوة الذي يُهيئ للبقاء الصالح ويُعده للفوز في معترك الوجود، ولأنها أضمن لتوجيه نظام الجماعة للإنتاج الإيجابي والعمل المثمر في سبيل الحصول على رغد العيش، فضلاً عن أنها أدنى لتحقيق العدل في توزيع منافع الحياة بين الأفراد

ويندر لذلك عدم تقرير مبدأ الكفاية من الناحية النظرية في نظام الحكومات مهما اختلفت الأسس التي قامت عليها تلك الحكومات، ففي عصرنا الحديث نجد الدكتاتورية، برغم ما يبدو في طابعها من تحكم الصفات الفردية، تنادي بالكفاية كشرط أولى لإنتاج الأداة الحكومية. والديمقراطية طبعاً بحكم ما ترتكز عليه نظريّاً من أصل المساواة ورفع أي اعتبار آخر في التفضيل للتكليف بالأعمال العامة سوى الجدارة المحض، أشد إيماناً في مجال النظر بمبدأ الكفاية من أي نظام آخر من نظم الحكم الحاضرة

ولكن إذا قطعنا على الفكر متعته العقلية حين استعراضه الآراء المختلفة المتعلقة بنظم الحكم وحملناه على ملاحظة ما يجري فعلاً في التفضيل والاختيار؛ لاشك أنه سينغَّص، وسيمتد تنغيصه كلما كان أشد إيمانا (بالمثالية)

وإذا عجزت الملاحظة السطحية عن أن تقدم أمثلة كثيرة لما يحدث في ظل الدكتاتورية من مخالفة لهذا المبدأ - لدقة الرقابة على النشر - فسوف تلمس في الديمقراطية البرلمانية عنصراً آخر - وهو العصبية الحزبية - له السيادة المطلقة على مبدأ الكفاية في الاختيار

ص: 12

وإذا جاوزنا مثل هذه المبادئ الخلقية العامة التي لا ننكر ضروتها من الناحية النظرية في حياة الجماعة، والتي وجدت لها، منذ أن عرفت الجماعة البشرية النظام، أنصاراً مدافعين إلى حد التضحية بأرواحهم أو بمتعتهم الشخصية في هذه الحياة - إلى الصفات التي هي أقرب أن تكون مذاهب فردية، نجدها كذلك لا تنعكس على مرآة الواقع طبقاً للصورة التي صاغها العقل فيها

فالذي يدين بمبدأ الصراحة، إذا أراد أن يتخذها أساس تصرفه وقوام عمله، سوف يجد عنتاً في بيئته وسوف تعقد الأمور في طريقه لأن سبل الحياة نفسها ملتوية ورغبات الأفراد فيها مختلفة لا تنال إلا عن طريق إخفائها

والذي يقدر كرامته تقديراً مثالياً، ينفر أشد النفرة، مما يتوهم فيه جرح عزته والحط من مكانته، سوف يصطدم مع الواقع صدمات عنيفة لأن ما في الواقع منازع له ولغيره. والنزاع كثيراً ما يكون سبباً مباشراً في اعتداء أحد المتنازعين على الآخر، والاستخفاف بالمعتدي عليه أخص مظاهر الاعتداء

والذي ينزع إلى فهم الصداقة على أنها يجب أن تسود كل العلاقات الممكنة بين شخصين سوف تكون آلامهُ من جراء هذه الصداقة أكثر من سروره بها، لأن التنافس والعمل على تحقيق المصالح والرغبات الشخصية، وهما من الغرائز الفطرية في الفرد، مما يحول دون الوفاء بمقتضيات الصداقة على هذا النحو

فالمبادئ النظرية لم توجد بعد في الواقع كما حاكها العقل النظري، أو على حد تعبير (كانت) العقل الخالص، لا كما صورها الخيال

ولكن هذا لا يمنع من تأييد الفيلسوف إلى حد ما إذا دعا لمبدئه، ورجل الدين والأخلاق إذا نادى بالتقرب من المثل العليا لأن غاية كل منهما تقليل شرور المجتمع (وليس رفعها لأنها من طبيعة الإنسان)

وإنما على الذين عاشوا حتى الآن في حياة النظر، واسترسلوا في خيال الأمل وحددوا مصيرهم على فروضه ألا تدفعهم الرغبة في تقليد المثاليين (إلى طلب مثلهم العليا حقائق واقعة لأن المثل الأعلى لم يكن كذلك إلا لبعده عن تحديد المشاهدة - وما يشاهد قريب منه فقط -، عليهم أن يربطوا بين حياة النظر وحياة العمل حتى لا تكون خيبة الأمل فاجعة إذا

ص: 13

هالهم فرق ما بين الحياتين، وحتى لا يكون الانتقال من الأولى وهي حياتهم حتى الآن، إلى الثانية، وهي حياتهم الجديدة، قاسياً صعب التحمل. فكثير من الناس اعوّج سلوكه، وكثير من الناس صحبه التشاؤم في عمله وسيطر على حياته، وكثير من الناس لم يصبر على مشاق الحياة الواقعية - في نظره - فذهب ضحية اليأس والقنوط والتململ، لا لشيء سوى أنهم كانوا جميعاً شديدي الإيمان (بالمثالية) واستمروا حديثي عهد بالواقع.

محمد البهي

ص: 14

‌السراكينوي هم السرويون

للأب أنستاس ماري الكرملي

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

7 -

ما يحصل مما سبق الكلام عليه:

يحصل مما سبق الكلام عليه أن السراكين هم أهل السروات، وهم قبائل تقيم في داخل بلاد العرب من اليمن إلى ديار الأنباط، أو جنوبي اليهودية، بل إلى الشام

وأما (السكينتس) فليس اسم عرب، لا عند السلف ولا عند الرومان أو اليونان. وكيف يكونون كذلك والاسم يوناني معناه (أهل الأخبية) فقد يكونون من أبناءِ يعرب، كما قد يكونون من أبناءِ الغرب. فأهل الأخبية أو سكان الأخبية معناهُ: الرُحَّل، أو أهل البادية، الذين يثوون إلى الأخبية. فإذا علمتَ هذا، عرفت الحقيقة على ما هي بلا تناقض، ولا إشكال، ولا غموض.

وقال الأستاذ العمودي - وهو ينقل دائماً ما جاء في معلمة الإسلام، وإن لم يذكرها -:(أما (السراكينوي) فلم يُرْوَ لهم ذكر يذكر في هذه الأسفار السريانية ما خلا رسالة وصفها برداسانيس (؟ كذا) السرياني في بداية القرن الثالث للميلاد بعنوان: ' ذكر فيها الطائيين و (السراكينوس) بقوله: إنهما قبيلتان تمثلان أهم القبائل العربية الرَّحالة.) انتهى

ففي هذا القول نظر، لأن ابن دَيْصان لم يذكر السراكينوس في تأليفه - بل ألـ (سَرْقابي) أي العرب السروبين، وذكرها بأحرف إرَميَّة بالصورة التي ذكرناها في العربية. وأنت خبير أن اليونان والرومان ومن نقل عنهم ذكروا أبناء عدنان وقحطان مرة باسم العرب، وأخرى بالسروبين (أو الساراكين أو السرازين أو السراكينوي)، وطوراً باسم سكان جزيرة العرب، أو نحو ذلك ولم يسموهم باسم واحد

أما أن المسلمين عُرفوا بعد ذلك عند الغربيين بالسرازين، فلأن الإسلام نشأ وترعرع واكتهل في الحجاز، سُرَّة السروات وقلبها، ومنهُ امتد إلى ديار العالم. فمن الحق أن يسمى الغربيون المسلمين بالسروبين أو بأهل السرَوَات، وهي تسمية مأخوذة من مسكنهم، أو وطنهم، أو منشئهم الأول، كما أن المسيحيين سموا نصارى، جمع نصراني، وأصلها

ص: 15

ناصراني، نسبةً إلى الناصرة وهي المدينة التي طوى المسيح بساط أيامه أو معظمها فيها

إذن لا وَهْم ولا ضير في تسمية المسلمين: (سرويين) أما أن أبناء الغرب خصوا هذا اللفظ بالمسلمين الذين افتتحوا ديارهم، فلأنهم كانوا قد قدموا إليها عن طريق مصر وأفريقيا الشمالية

وأما أن الفرنسيين سموا العرب (سرازين)، أي الذرة السمراء، فهذا من رأي الأستاذ العمودي الخاص به، ونحن لا نوافقه عليه، ولم يقل به أحد. وذلك لأسباب منها: أن السرازين عند الفرنسيين، ضرب من القمح أو الحنطة أسمر اللون أو سوداؤه، وليس بذرة، واسمه بلغة علماء النبات ولم يعرف اللفظ (سرازين) في اللغة المذكورة إلا في المائة السادسة عشرة. أما (السرازين) بمعنى العرب، أو السرويين، أو المسلمين، فكان معروفاً عندهم منذ عهد الرومان واليونان

على أن الفرنسيين يسمون أيضاً سرازين ضرباً من الجاورس، يعرف عندهم أيضاً باسم أو وبلسان العلم فاسم النبات مأخوذ من اسم العرب لا العكس، كما ذهب إليه حضرة الأستاذ الفاضل

8 -

تفنيد آراء المخالفين لرأينا

ذهب بعضهم إلى أن (سراكينوي أو سرازين) مأخوذ من اسم قبيلة بعينهِ، وكان يطلق عليهِ؛ إلا أنهُ ليس في التاريخ ما يثبت هذا الرأي، فهو زائف لا محالة

أما أنه مأخوذ من (الشرقيين)، فقد ذهب إليه جمهور علماء الغرب، أو يكاد، إلا أن العرب لم يسموا أنفسهم بشرقيين حتى ينقل عنهم. فالحقيقة تمزق هذا البرقع المهلهل

أما أنه من (سرَّاقين) وأنه منقول عن العرب المتحضَّرين نابزين بهذا اللفظ الأعراب الرُحَّل، احتقاراً لهم فهو محتمل، لكن الأقدمين من الرومان واليونان يذكرون بلادهم، وأنها من أقصى اليمن إلى اليهودية أو إلى الشام، فليس الاسم من أسماء البادية المتنقلة، بل اسم عرب يسكنون دياراً معينة، ليس إلاّ

وأما أن الاسم منحوت من (صحراء ساكن)، فهذا من أسخف الآراء، ولا يقول به إلا جَهلة اللغة العربية، إذ لا يُقدَّم في هذه اللفظة المضاف إليه على المضاف، بخلاف اللغات اليافثية، أو الآرية

ص: 16

وأما أن الأنباط أطلقوا اسم (الشرقيين) على القبائل التي تناوحهم من جهة الشرق، فالتسمية سابقة لدولة النبط، كما لا يخفى على المطلع، وقد ذكرها اليونان والرومان في تواريخهم

بقي علينا أن نبيّن للقارئ معنى قول مؤرخي الكنيسة في القرن الرابع (إن (السارازين) انضموا إلى (الإسماعيليين) الذين كانوا يقيمون في صحراء قدش (لا قادش كما قال الأستاذ) في مقاطعة فاران) اه. فهذا معناه أن السرويين، وهم أهل الجبال، انضموا إلى الإسماعيليين، سكان السهول والصحارى ليكونوا كتلةً واحدة. وليس ثَمَّ غير هذا المعنى. ولم يعرف الهاجريون باسم السرازين، إلا لأنهم كانوا منضمين إلى أهل السراة العليا، أو سراة الأزد

وقد أحسن الأستاذ العمودي في تزييف من قال إن السراكينوي لا تزال سلائلهم ممثلة إلى اليوم في قبيلة (السواركة) تلك القبيلة البدوية الصغيرة التي تعيش إلى هذا اليوم على شواطئ البحر بين العريش وغزة، إذْ هذا حديث خرافة

فلم يبقَ لنا إلا القول بأن (الساراكينوي) أو (السارازين) أو (السرازين) هم (السرويون) أو أهل السراة أو السرَوات. وكانوا معروفين في صدر الإسلام بهذا الاسم. قال في التاج في مادة (س ر ى): (وكثيراً ما يذكر الدينوري في كتاب النبات عن السروبين أي من أهل السراة) اه

وفي الكامل للمبرَّد (2: 287 من طبعة مصر):

(. . . ومن اليمن من غيرهم، عبد الّله بن الطُفيل الأزدي ثم الدّوْسِيّ، ذو النُور، أعطاهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم نوراً في جبينه، ليدعو به قومهُ، فقال: يا رسول الله، هذه مُثلة، فجعلهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوْطهِ، فلما ورد على قومه بالسراة، جعلوا يقولون: إن الجبل ليلتهب، وكان أبو هريرة ممن اهتدى بتلك العلامة) هـ

فهذه شهادة بَينة على أن أهل السراة عرفوا الإسلام منذ عهد الرسول. فلا عجب بعد ذلك إذا عرف المسلمون بلفظ (السرويين)

وأخذ السرويون ينافحون عن دينهم، ويفتحون الفتوحات مع كبار القادة منذ نأنأة الإسلام. ففي تاريخ الطبري في أخبار سنة 14 للهجرة (1: 2217 من طبعة الإفرنج): فخرج سعد ابن أبي وقّاص من المدينة قاصداً العراق في أربعة آلاف: ثلاثة ممن قدم عليه من اليمن

ص: 17

السَّرَاة، وعلى أهل السروات حُمَيضة ابن النعمان بن حُميَضة البارعي، وهم بارق، وألمع، وغامد، وسائر اخوتهم في سبع مائة من أهل السراة وأهل اليمن ألفان وثلث مائة، منهم النخع بن عمرو، وجميعهم يومئذ أربعة آلاف، مقاتلتهم، وذراريهم، ونساؤهم)

وفي الأغاني (19: 54 من طبعة بولاق الأولى): (وذكر جرير بن عبد الله خبر إسلامه (إسلام أسد بن كرز)، حدث بذلك عنه خالد بن يزيد عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله، قال: أسلم أسد بن كرز ومعه رجل من ثقيف، فأهدى إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، قوساً فقال له: يا أسد، من أين لك هذه النبعة؟ - فقال: يا رسول الله، تنبتُ بجبلنا بالسراة. فقال الثقفي: يا رسول الله، الجبل لنا أم لهم؟ - فقال: بل الجبل جبل قسر، به سمى إبراهيم قسر عبقر. فقال أسد: يا رسول الله، ادعُ لي. - فقال: اللهم اجعل نصرَك ونصر دينك في عقب أسد بن كرز) اه

فهذه الأدلة وغيرها، وهي لا تعد، تبين أن السرويين دانوا بالإسلام منذ عهد الرسول، وسعوا في نشره. ولا جرم إذا سمى العرب جميعهم باسمهم أو سمى الإسلام باسمهم، وجرى عليه الأعاجم جميعهم

لكن لما كانت السراة أو السرَوَات ممتدة بامتداد جزيرة العرب من أقصى الجنوب إلى الشام، كان فيها قبائل عديدة مختلفة الأسماء، أطلق الأدباء من عرب وغير عرب اسم السرويين على كل عربي. أما أن هناك سروات مختلفة القبائل، فيشهد عليها من كان فيها، فمنها سراة الأزد، وسراة أَلْهان، وسراة بجيلة، وسراة بلد وادعة، وسراة بني علي، وسراة جُبلان، وسراة جنب، وسراة الحِجْر، وسراة خولان، وسراة دوس، وسراة الطائف، وسراة عُذَر وهِنْوَم، وسراة عنز، وسراة غامد، وسراة فهم وعدوان، وسراة قُدم، وسراة مذحج، وسراة المصانع، إلى غيرها. وبهذا القدر كفاية في هذا الموضوع

9 -

ملاحظاتنا

الملاحظة الأولى: رأينا بين مقال الأستاذ العمودي وما جاء في ترجمة من معلمة الإسلام مشابهة، وكان يحسن بحضرته أن يقول: إنه اقتبس أغلب كلامه من المعلمة المذكورة، حتى لا تبخس الناس حقوقهم، ولا تذهب أتعابهم سدى

الثانية: كنّا نود أن تكتب الأعلام على ما يرويها العرب لا الإفرنج، حتى لا يظهر للغير

ص: 18

أننا نقتبس شرقياتنا من أبناء الغرب. فكان يجب أن يقال ذيوسقوريذس العَيْن زربي، لا أن يكتب بحروف إفرنجية، وفي كتابتها ثلاثة أوهام، إذا ما قابلناها برواية معلمة الإسلام. وكذلك يقال عن كتابة سائر الكلم التي دونت بحروف إفرنجية فإن الغالب عليها الخطأ

وقال (ص 1940) برداسانيس. والمشهور ابن دَيْصان أو برَدْيصان، وقال (في الصفحة المذكورة): البيزانطيون. والسلف لم يقولوا إلا (البوزنطيون) وبوزنطية أي بالواو لا بالياء، لأن اليونانيين كانوا ينطقون بها هكذا كما ينطقون بها اليوم. وهذه شهادة تاريخية على كيفية النطق بالحرف اليوناني في أيام العرب الأول

الثالثة: كنا نود أن يتحرى أفصح الألفاظ في الكلام. فالعرب لم تسمّ ملوك الروم: المصفرة، بل بنو الأصفر. أما المصفرَّة فهم الذين علامتهم الصفرة. وملوك الروم ما كان هذا اللون شعاراً لها

وقال الجبال السوداء. والعرب تقول: الجبال السوُد، كما تقول الرجال السود والنساء السود، ولم يقل أحد منهم الرجال السوداء، ولا النساء السوداء. وقال: من جنوب وشمال إيطاليا. ونظن أن الصواب هو: جنوبي وشمالي إيطالية. لأن الجنوب يدل على الجهة لا على قسم الأرض. وكذلك الشمال

وذكر الأديرة. والفصحاء قالوا ديارات أو دِيَرة أو أديار أو غيرها، لكنهم لم يقولوا أديرة.

هذا ما بدا لنا في أثناء المطالعة، ونحن مهتمون بأمور خارجة عن هذا البحث. ولعل خطأنا أكثر من صوابنا.

(بغداد)

الأب أنستاس ماري الكرملي

ص: 19

‌عقيدة النازي الدينية

للدكتور جواد علي

تنص المادة 27 والمادة 28 من منهاج الحزب الوطني الاشتراكي على الحرية الدينية لجميع الألمان وبحماية الديانة المسيحية في داخل المملكة الألمانية، وقد طبقت الحكومة الهتلرية فعلاً هذا النص في جميع أنحاء الريخ فجعلت ضريبة الكنيسة ضريبة إجبارية على كل ألماني وألمانية حضر صلاة الكنيسة أم لم يحضر؛ وقاومت حركة الإلحاد ونكران الديانة المسيحية فطردت كل موظف يجاهر بهذه الفكرة وحكمت على كل رجل ينادي بها أو يربي أولاده عليها بأحكام تناسب ظروفه ومنزلته، وأجبرت الأولاد في المدارس على حضور دروس الديانة بعد أن كانت مسألة اختيارية قبل الحكم الهتلري تتعلق بإرادة الوالد. وقد شددت الحكومة في المراقبة لأن الذين كانوا يجاهرون بهذه الآراء كانوا إما من الحزب الشيوعي أو من الحزب الماركسي أو من الحزب الديمقراطي الاشتراكي؛ وهذه الأحزاب الثلاثة هي من ألد أعداء هتلر، لذلك اختفت الحركة بسرعة طبعاً خشية التعرض لهذه التهمة

وحجة الوطنية الاشتراكية في ذلك هي أنها تقاوم المادية الصرفة البشعة التي تدعو إليها هذه الأحزاب وتدين بالمثل العليا وبالحياة الروحية وبقوة خارقة عليا يدعو هتلر ويشير في معظم خطبه إليها، ولكنه لا يصفها بالصفات أو ينعتها بالنعوت التي ترد في كتب الديانة واللاهوت. بل يراها كقوة مظلمة تشع أشعة مختلفة إلى النفوس حسب كفاية الأبدان التي يتمتع بها ذلك الشخص يظهر أثرها في الإرادة والعزم. والزعماء في نظره هم الذين يتمتعون بها أكثر من غيرهم ويمتازون على الأفراد بالعزم والإرادة. ويدعو ممثله ووكيله إلى هذه الفكرة في كتبه ومؤلفاته ويتوسع في نشر الديانة المسيحية الحقيقية لا الديانة المسيحية الحالية التي هي من مبتكرات اليهود على رأيه. وحاول كذلك دعاة النازي من رجال الكنيسة وعلى رأسهم رئيس أساقفة الريخ ملر توسيع دعوة هتلر ووكيله وتنقيح العقيدة المسيحية حسب التعاليم النازية؛ ولكنهم اصطدموا بمعارضة واسعة من البروتستانت بقيادة الباستور نيملر أسقف دالم في برلين الذي لا زال حتى الآن في السجن، ومن الكاثوليك بقيادة أسقف في إيبرك وكاردينال الراين

ص: 20

والنازية نفسها عقيدة دينية تحاول تنظيم حياة الأمة والفرد على أساس العنصرية والزعامة، وتتدخل حتى في الأحوال الشخصية للفرد لتكيف حياته وفق التعاليم الجديدة، وهذا ما يصطدم طبعاً والعقيدة المسيحية التي تراها الوطنية الاشتراكية عقلية يهودية رومية من مبتكرات سكان البحر الأبيض المتوسط، لا تلتئم أبداً مع العقلية الجرمانية الشمالية. وهذا النقد اللاذع للديانة المسيحية يرجع في الحقيقة إلى أدوار تسبق هتلر والنازية بكثير، يكفي أن نتذكر هجمات الفيلسوف فويرباخ الألماني عليها (1804 - 1872)، وكذلك الفيلسوف نيتشه (1844 - 1900) والفيلسوف هوستن جامبرليني (1855 - 1927) مؤسس الفلسفة الوطنية الاشتراكية والمؤثر القوي على هتلر، والذي كانت بينه وبين هتلر صلات

وعند تسلم الوطنية الاشتراكية زمام الحكم أصبحت هنالك مشكلة الديانة المسيحية مشكلة خطيرة جداً إذ أنها تصطدم مع أصول العقائد النازية، لذلك ظهرت هنالك عدة محاولات لحل المشكلة حلاً يتفق مع المبدأ النازي، وظهرت جماعة من بين صفوف الحزب أطلق على مؤسستها اسم (المسيحيون الألمان) لم تر إلغاء المسيحية ولا مقاومتها، ولكنها رأت تجريد الديانة المسيحية من كل أصل أو عقيدة يهودية أو أية فكرة تراها النازية غير جرمانية، إلا أنها سرعان ما اصطدمت بمشاكل ذات خطورة عظيمة وهي تعيين الحدود بين اليهودية وبين المسيحية والى أي حد يجب أن يبلغه الحذف والإخراج من هذه الديانة، وعلى أي أساس يكون ذلك، أعلى أساس أقوال هتلر وروزنبرك أم على أساس التاريخ. وهذا ما يتعارض مع عقيدة النازي التي لا تؤمن إلا بأقوالها فقط. (أنظر كتاب ? وكان في نفس الوقت هنالك حركة أخرى أوسع من هذه أطلق عليها اسم الإيمان الألماني انضم إليها بعض رجال الحزب مثلت نزعات مختلفة، فمنيت بالتفرقة كذلك؛ فهنالك من اعتقد بوجوب الاعتقاد فقط بقوة عظيمة هي وراء الطبيعة وفوقها يطلق عليها اسم الإله كما هو في المسيحية، ولا يتوسع بعد ذلك ولا توضع قواعد ومواد لاهوتية أخرى؛ مثل هذه الحركة كراف ريونتلو المشهور بآرائه الفلسفية والدينية، وبكتبه في بادئ الحركة النازية وإن لم يظهر اليوم اسمه عالياً في صفوف النازي. ومنهم من أراد الاعتقاد بالمسيح ولكن بمسيح جرماني تكون حياته حياة جرمانية وأوصافه جرمانية كذلك، ذي شعر أشقر

ص: 21

يميل إلى البياض، وعينين زرقاوين، طويل الجسم نحيف الوجه لم يخضع لإرادة أحد. وهذه هي آراء البروفسور مندل من جامعة كيل بألمانيا - وتطرف آخرون فقالوا بوجوب إلغاء الديانة المسيحية تماماً والاستعاضة عنها بالديانة الجرمانية القديمة، وإنشاء كنيسة ألمانية بحتة تمارس فيها الطقوس الألمانية؛ وقام بهذه الحركة -

وأخيراً اجتمع ممثلو هذه الحركة في شهر يولي من سنة 1933 في مدينة وار تبرك برآسة البروفسور هور ثم في سنة 1934 في تيبنكن حيث توصلوا إلى وضع الأسس التالية:

1 -

يجب أن يكون الإيمان الألماني مستمداً من الروحية الألمانية

2 -

إن النوع أو العنصر الألماني مستمد من الأزلية الإلهية، لذلك يجب إطاعة هذه الأزلية

3 -

على حسب هذه العقيدة يجب أن تنصرف أعمالنا وأقوالنا

وقد ظهر بعض الكتاب يحاولون إثبات أن المسيح لم يكن يهودياً بل كان يونانياً أي آري الجنس، ومنهم من أثبته رومانياً، ومنهم من حاول البرهنة على أنه يهودي وأن القديس بولس اليهودي الأصل هو الذي اخترع تلك القصص، أو أنه أدخلها من اليهودية وساقها إلى روما فأوربا حيث حاربت الديانة الجرمانية والأخلاق الجرمانية العتيدة وقضت على العنصرية الجرمانية التي كان يدين بها كل جرماني حتى القرون الوسطى

غير أن أقوى حركة في صفوف النازي هي حركة ألفريد روزنبرك الذي يحاول إرجاع الديانة الجرمانية القديمة عن طريق التصوف الألماني فهو يحمل على المسيحية بنوعيها الكاثوليكية والبروتستانتية، لأن الكثلكة ليست في نظره سوى الفكرة الإمبراطورية الرومية القديمة تتمثل في محاولة البابوات تكوين سيادة عالمية. أضف إلى ذلك أن الكنيسة قد جردت الجرمان في نظره من عناصر الحرية والاستقلال والعزة الوطنية الذاتية باستسلامها إلى الآراء العالمية اليهودية، وسقوط آلاف صرعى في سبيل الإمبراطورية الرومانية التي ورثها البابوات. ويرى في الكنيسة البروتستانتية كذلك تدخلاً في السياسة وفي الشؤون العامة للشعب وفي المبادئ النازية كما حدث في مجمع الأساقفة البروتستانت في عام 1937 في مدينة أكسفورد حيث حمل حملة شعواء على النازية ومبادئها

والطريقة الوحيدة التي يراها هي الرجوع إلى الروحية الألمانية القديمة التي نادى بها

ص: 22

المتصوف الألماني الشهير مايستر إيكهارت 1260 - 1327 أحد أساتذة الطريقة الدومينيكانية المسيحية وتلميذ اللاهوتي الألماني الشهير ألبرت فون بولشتيد ? 1206 - 1280 أحد رؤساء هذه الطريقة كذلك، وأحسن رجل اطلع على الفلسفة العربية اليهودية في زمانه، فقد درس اللغة العربية واللغة العبرية، وترجم كتب الفلسفة والطب والتصوف إلى اللاتينية، لغة العلم والدين إذ ذاك، وكان من أعظم المختصين بفلسفة ابن سينا. واليهودي ابن ميمون وقد تأثر به تلميذه هذا مايستر إيكهارت فمال إلى التصوف وصار الألمان يعتبرونه المؤسس لما يسمى بالتصوف الألماني

وقد أثرت آراء مايستر إيكهارت في عصره تأثيراً عظيماً ولاسيما في مقاطعات الراين حتى اضطرت الكنيسة إلى محاكمته بتهمة الهرطقة والخروج على الدين؛ وظل تأثيره مدة طويلة حتى عصر النهضة الأوربية. كان يرى أن المعرفة لا تكون بممارسة الطقوس الظاهرية؛ إنما تتم بالتفكير العميق، وخرق الحجب بالتأمل والتدقيق، بعبارته المشهورة (إن أردت اللب فعليك بكسر القشرة)، وكذلك بعبارته المشهورة:(تعميق البئر ينتج ماء أكثر) والمعرفة هي الوجود ذاته وبواسطة هذه المعرفة نتوصل إلى إدراك علة الوجود ولكن هذا الإله هو في كل مكان لم يكن شيئاً، فخلق نفسه بنفسه؛ خلق النفس وجعلها مساوية لنفسه تماماً فلا يستطيع أن يؤثر عليها أبداً إذ هي حرة طليقة؛ ومن هذه الروح وبواسطة الانهماك في معرفة الحقائق نستطيع الوصول إلى درجة الوحدة أو الاتحاد مع الله حيث تكون الروح كالمرآة بالنسبة لله تماماً، ويقول في ذلك:

(أحمل فيّ صورة الله: متى أراد رؤية نفسه نظر فيّ ولو أني مثله) والصلة بيني وبين الله هي المحبة وهي كذلك في جميع أجزاء العالم، والله نفسه يحب ذاته في مخلوقاته وأعماله، ولولا مخلوقاته هذه لما كان الله خالقاً بل ولم يكن الله موجوداً، فلولاي لم يكن الله، ويتصل شعاع الله بالقوى النفسية العلوية ? فيحصل من جراء ذلك إدراك الحقيقة والمعرفة

ويرى روزنبرك أن مايستر إيكهارت قد تكلم وعبر عن عقلية آرية جرمانية ومعتقد قديم، لذلك يريد إحياء تعاليمه هذه وبعثها على يد الوطنية الاشتراكية إذ لا طقوس ولا كنيسة كاثوليكية أو بروتستانتية، بل مبادئ صوفية يجب أن يخضع لها الجميع. وهذا هو خلاصة

ص: 23

الديانة المسيحية في نظره والدين الذي يجب أن ينتشر في كل ألمانيا. ولعل ما في نفسية هتلر من اعتكاف وغموض وانزواء في وكره، وكذلك ما في نفسية روزنبرك من اعتزال عن العالم وحب الانزواء، هما اللذان جرَّا هذين الرجلين إلى التصوف مع ما بين التصوف والوطنية الاشتراكية من تباين في النظر إلى الحياة والكفاح

والواقع أن هذا التصوف ولو حاول روزنبرك وغيره إسناده إلى الجرمانية القديمة فإن من الصعب إثبات ذلك لعدم وجود نصوص تاريخية تثبت ذلك ولأن هذا الرجل كان هو نفسه تلميذ المتصوف (البرت فون بولشتيد) الشهير المترجم للكتب العربية والمتأثر بذلك، ولأن أفكار (مايستر ايكهارت) واصطلاحاته عبارة عن نسخة طبق الأصل للفلسفة الإسلامية واصطلاحاتها. ولو كان روزنبرك من المستشرقين لغير رأيه تماماً. وروزنبرك نفسه ليس من الاختصاصيين في هذه الموضوعات بل هو كاتب عاطفي ساعدته الظروف على ذلك

ويظهر من هذه التعاليم أن التصوف وهو (التسليم) والتعمق في البحث بإعطاء النفس في العرف الألماني، ونظرية الإشعاع الإلهي واختلافه باختلاف الناس، ثم في سهولة توجيه الرأي العام الذي أخذ يميل بعد الحرب العظمى إلى درس المسائل الروحية هي التي دفعت بالوطنية الاشتراكية إلى إحياء فكرة التصوف والبحث عن دين جديد يتفق مع مبادئ الوطنية أو يكيّف على حسب آراء هتلر ومبادئه.

جواد علي

خريج جامعة هامبرك بألمانيا

ص: 24

‌الثقافة العسكرية وأناشيد الجيش

للأستاذ عبد اللطيف النشار

نشيد العودة

من وضع السيد الرسول صلى الله عليه وسلم

ولقد تتخيل عظم الفارق بين مسير الجيش ذاهبا إلى المعركة وبين عودته آيباً منها فهو يذهب بالأمل في النصر ممزوجاً بالخوف من الهزيمة. يذهب ليلاقي العدو، ويعود بالنشوة ظافراً ليلاقي الأهل والأحباب.

ومن أجل ذلك، جاشت بنفس النبي عليه الصلاة والسلام عواطف سامية حين عودته من غزوة الأحزاب المعروفة بغزوة الخندق في العام الرابع أو الخامس الهجري، غير تلك العواطف السامية التي اختلجت بنفسه عند ذهابه إليها. كلا النوعين من العواطف سام، ولكنهما في طبيعتهما مختلفان.

عاد النبي من غزوة الأحزاب وهو ينشد:

آيبون

تائبون

عابدون

ساجدون

لربنا حامدون

صدق الله وعده

ونصر عبده

وهزم الأحزاب وحده

أترى كيف تكون الخطوات العسكرية عند الأوبة، مخالفة لها عند الذهاب؟

أما عن اللحن، فيقول العلامة القسطلاني في شرح صحيح البخاري، تعليقاً على نشيد آخر، هو قول عبد الله بن أبي رواحة أنه عليه الصلاة والسلام كان يرفع صوته بالكلمة الأخيرة من ذلك النشيد:(أبيْنا) ويقول: أبينا، أبينا، مرتين. وسيأتي نص هذا النشيد.

ويقول العلامة القسطلاني أيضاً في التعليق على نشيد آخر، وهو الذي قيل في أثناء حفر

ص: 25

الخندق: إن النبي كان يقول فقرة ويرد عليه الصحابة بفقرة، (وظاهره أنهم كانوا يجيبونه تارة ويجيبهم أخرى).

ومعنى هذين التعليقين أن هناك نغمة لكل هذه الأقوال، أي أنها كانت ملحنة. وما لنا نستدل على الترتيل أو التنغيم بمثل هذا الاستدلال ونحن نرتل نشيد غزوة الأحزاب بلحن موسيقي عقب صلاة العيد الأكبر؟ ثم مالنا نستدل على أن القول كان ملحناً بألحان موسيقية، وهو لا يمكن أن يقال إلا مصحوباً بنغمة موسيقية؟

فأنت ترى أن هذا النشيد هادئ رصين، وقد قاله النبي لأول مرة بعد عودته من غزوة الخندق، ولكنه صار يقال بعد ذلك عند العودة من كل غزوة، وكان يقال والجنود سائرون، وكان يقال ملحناً على لحن السير؛ فهو وفقاً للتعبير العصري:(مارش)

وليس يغير من طبيعته أنه ليس بالشعر، فليس من الضروري أن يدخل كل قول موسيقي في دائرة عروضية من دوائر الخليل بن أحمد. وإن تحدي الشعراء بما ليس من الشعر وليس من النثر، كان صبغة اصطبغ بها هذا الجيل.

ولكن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكتف بألحان المسير، بل أعد أو أمر بأن تعد له ألحان للعمل أيضاً. ولقد تقدمت الإشارة في هذه الكلمة إلى لحنين رتلا في أثناء العمل بحفر الخندق وحمل التراب منه على المتون ليكون جسراً على الخندق. أما أحدهما فهو من جزأين: جزء يقوله النبي، وجزء يرد به الصحابة عليه. ويقول شارح البخاري:(وظاهره أنهم كانوا يجيبونه تارة ويجيبهم أخرى).

لحن النبي:

لا هُمَّ إن العيش عيش الآخرة

فاغفر الأنصار والمهاجرة

لحن الصحابة:

نحن الذين بايعوا محمداً

على الإسلام ما بقينا أبداً

أما اللحن الآخر فقد كان يقوله النبي والصحابة جميعاً في أثناء حفر الخندق، وهو من وضع عبد الله بن رواحة أحد شعراء النبي وقائد من قواده، وهو:

ص: 26

لا همَّ لولا أنت ما اهتدينا

ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا

وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الذين قد بغوا علينا

إذا أرادوا فتنة أبينا

(أبينا)

وكان صوته يرتفع كما يروي البخاري عند كلمة (أبينا) التي كان يكررها عليه الصلاة والسلام.

وفي هذه الموقعة أيضاً كانت أناشيد صغيرة تنشد تارة في أثناء المعركة، وطوراً في أثناء القتال مثل قوله عليه الصلاة والسلام:

يا منزل الكتاب

سريع الحساب

اهزم الأحزاب الخ

وقد استوفت هذه الأناشيد كل ما يشترط في أناشيد المسير، فهي قصيرة الفقرات بحيث تصلح ألحانها أن تكون على قدر خطى الجنود. وهي معبرة عما في أنفس الجيش من العواطف تعبيراً خالياً من التغالي المثير. وهي سهلة الحفظ، يتوافر فيها شرط السيرورة

هذه هي أناشيد الجيش، وهل يحسب الشعراء والموسيقيون أن لا غنى للشعوب عنهم؟

إن الشعوب لا تستغني عن الشعر ولا عن الموسيقى ولكنها تستغني عن الشعراء والموسيقيين إذا ما تعالوا عليها وترفعوا عنها.

هي تؤلف لنفسها إن لم تجد من يؤلف لها.

إنها تفكر على قدر طاقتها إن لم تجد فلاسفة ومفكرين، وإنها كذلك تعيش معيشة على وجه ما إن لم تجد من يجمع شملها ويؤلف لها نظاماً، وإنها كذلك تضع لنفسها الشعر والموسيقى إن لم تجد شعراء وموسيقيين.

كذلك الأرض التي نحن منها إن لم تجد مزارعين ينظمون لها طرق الري والاستنبات،

ص: 27

فهي مخرجة من باطنها زرعاً غير منظم ولا منسق.

كذلك كانت الحال في مصر في الحرب الكبرى، فقد ألف الجيش الذي اشتغل في السلطة العسكرية لنفسه ألحاناً عبرت عما في نفسه وأنشدها بنفسه. فهل أنت من المخضرمين الذين حضروا الحرب الكبرى؟

لقد تذكر إن كنت من المخضرمين مسير المئات من الصعايدة المتطوعين وهم ذاهبون إلى حدود فلسطين وهم ينشدون:

يا عزيز عيني

وأنا بدي اروَّح بلدي

بلدي يا بلدي

والسلطة خْدِت ولدي

وهل تذكر لحن هذا البيت؟

في ذلك العهد لم تكن هناك قيادة للجيش المرابط ولا كانت السلطة الإنكليزية العسكرية تعنى بوضع ألحان للمصريين المتطوعين ولا كان هناك رجل كالشاذلي باشا يدعو الشعراء إلى تقديم أناشيدهم للجنة في وزارة الشؤون الاجتماعية، لجنة دائمة اسمها (لجنة الألحان)، ولا كان هناك قائد عظيم اسمه صالح حرب باشا يدعو الشعراء إلى وضع ألحان للجنود، ويعد بالمكافأة السخية. ولم يكن أمير الشعراء قد وضع لحنه (بني مصر مكانكمو تهيا) ولا كان أحمد رامي قد وضع نشيد الجامعة، ولا كان الأستاذ صادق قد وضع النشيد القومي.

لم يكن شيء من ذلك، ولكن كان مليون من المصريين في ساحات القتال في فرقة التشهيلات، وكانوا يسيرون، فكان لابد لهم من لحن عسكري. ولما لم يجدوا من يؤلفه لهم ألفوه لأنفسهم، ولحنوه بأنفسهم، فكان:

يا عزيز عيني

وانا بدي اروَّح بلدي

بلدي يا بلدي

والسلطة خدِت ولدي

ولكن ما رأيك في أن هذا النشيد لعذوبته ولصدق تعبيره بالنغمة الموسيقية عما في أنفس الجنود قد طغى على نشيد:

الإنكليزي فكان الجنود الإنكليز ينشدون في أثناء سيرهم:

يا أزيز إيني الخ. . .

ص: 28

ثم ما رأيك إذا كان نشيد يا عزيز عيني هذا أبلغ في نغمته وفي معناه وفي روحه من نشيد شوقي ومن نشيد الجامعة ومن النشيد القومي ومن نشيد الرافعي

أتحسبني أتجني؟

لا والله، ولكن أرى أن هؤلاء الشعراء الاماجد لم يتصلوا بالطبقة التي تجند منها السلطات على اختلاف ألوانها وأزمانها ولم يتصلوا إلا بالطبقات التي تقيم حول حياتها سوراً من الأرستقراطية المترفعة. لم يتصلوا بالشعب فهم لا يعبرون عنه. لذلك يحفظ شعرهم أمثالهم من طلبة المعاهد العلمية ولكن لا يصلح شعرهم للسيرورة بين العامة. وإنما يراد بالأناشيد وبخاصة العسكرية منها ما يصلح للعامة

ولقد ظهر اليوم من يكتبون للعامة ولكنهم لم يتقربوا بعدُ إلى العامة بفهم أرواحهم وبالمشاركة في عواطفهم وبتفهم أحاسيسهم وإنما تقربوا بهجر اللغة العربية وبكتابة الأزجال

(يا قاعد في دارك

والعالم في نار)

هذا كل مبلغ للتقرب للمجندين. والمجندون يفهمون اللغة العربية ولكنهم لا يفهمون التغالي في تصوير العواطف ولا يفهمون التكلف، ومن أجل ذلك سيضعون لأنفسهم ألحاناً جميلة مثل:

بلدي يا بلدي

والسلطة خدت ولدي

ويتركون أناشيد الشعراء ما لم يدرس الشعراء أنفسهم وسائل الاتصال بالشعوب فيقولوا مثل نشيد:

صدق وعده

الحمد لله وحده

ونصر عبده

وأعز جنده

وهزم الأحزاب وحده

فإن أعجزهم مثل هذا وهو معجزهم بالطبع ففي رسائلي التالية نماذج لأناشيد أخرى عربية ومترجمة وجديدة مؤلفة.

عبد اللطيف النشار

ص: 29

‌استطلاع صحفي

مدرسة المدفعية الجوية

كيف يتعلم الطيار تدمير أهدافه

لمندوب الرسالة

من المراحل الهامة في الطيران الحربي مرحلة القتال، فهي

الغاية التي استعملت من أجلها الطائرات في القتال، فأصبحت

أخطر الأسلحة وأشدها فتكا إذ لا تقف في سبيلها حصون ولا

تقفها اختراعات، فهي تصيب المحاربين والآمنين مهما ابتعدوا

منها.

خطوة أخرى

تكلمنا في مقالتينا السابقتين عن مدارس الطيران الحربي والميكانيكي والتصوير الجوي وهانحن أولاء نبر بوعدنا فنضيف حلقة أخرى من هذا الفن المتشعب الذي يقضي الطيار حياته في الهواء وهو يتعلم دروساً جديدة فيه. وموضوعنا هذه المرة هو مدرسة المدفعية الجوية.

فقد قرأنا كيف يتعلم الطيار قيادة طائرته وكيف يصلحها، ومزايا الاستكشاف والتصوير بها والآن ننتقل إلى مرحلة أخرى من أدق المراحل وأكثرها خطراً وأشدها حاجة إلى حسن التقدير والمعرفة.

فالمدفعية الجوية اليوم عامل من أهم عوامل الهجوم والدفاع. فتصور قواعد الطيران الإنجليزي وهي تبعد عن ميناء كييل الألمانية مئات الأميال ومع هذا فإن الطائرات تصل إليها وتصيبها بأهدافها فتسبب أضراراً فادحة للأسطول الألماني المرابط هناك.

كما تدمر المصانع والمعاهد العامة. وقد يكون الانتقال من ميناء بارموث الإنجليزي إلى كييل سهلاً بطريق الجو ولكن إسقاط القنابل الصائبة من أشق الأمور ويحتاج إلى خبرة

ص: 30

كاملة وتمرين طويل.

ولننتقل بالقارئ إلى مطار مصر الجديدة الحربي لنشاهد في غرفه وحظائره كيف يجب أن يتلقى الطيار مرانه وماذا يتحمل لإتقانه، فهناك في إحدى الغرف تجد مجموعة كبيرة من مدافع الفيكرز والبرن ونماذج القنابل بأحجامها المختلفة وأشكالها المتعددة وبعضها عملت فيه قطاعات عرضية وبعضها الآخر عملت فيه قطاعات طولية، فانكشف داخلها وظهر الفراغ الذي تحتوي الخلطات المختلفة من المواد المتفجرة والتي تساعد على الانفجار فإن تركيب القنابل الآن من المسائل التي تحتاج إلي التخصص سنوات طويلة، ويصل ثمن الواحدة من بعضها إلى 1500 جنيه

تنافس على الشر

فقد تنافس المخترعون في استنباط خلطات الصلب والنحاس وغيرهما من المعادن، وأصبح لكل دولة خلطة خاصة تنافس بها منافسيها وتحرص على التفوق عليهم بها. فهناك قنابل تنفجر بمجرد اصطدامها بجسم صلب، وهناك قنابل تنفجر بعد زمن معين، وهناك قنابل عملت خاصة لاحتراق طبقات الصلب ثم الانفجار. وهناك أيضاً قنابل تغوص في لجج الماء ثم تنفجر

كل هذه الأنواع وغيرها احتاج إلى مجهود عقلي جبار وسنين طويلة ليظهر إلى عالم الوجود، ولكل نوع منها مزاياه الخاصة. وتبعاً لهذه المزايا اختلف التركيب واختلفت المواد المستعملة، وجميع هذه المتفجرات يستعملها الطيار. فإذا جاز له أن يجهل دقائق تركيبها فلا أقل من أن يعرف مميزاتها وطرق استعمالها والمدى الذي تصل إليه ثم تأثرها بالعوامل الجوية إذا أطلقها أو إذا تركها بدون استعمال

قتال الطائرات

والقتال الجوي بالطائرات نوعاًن: الأول باستعمال المدافع السريعة الطلقات، والثاني بإلقاء القنابل ولكل منهما دروسه وتمريناته. وبعض المدافع يطلقها الطيار بالضغط على زر مثبت على عصا القيادة فينطلق المدفعان الجانبيان في وقت واحد، وهما يثبتان عادة في الطائرات المصرية فوق عجلتي الطائرة بحيث تتقابل طلقاتهما أمام مقدمة الطائرة وعلى

ص: 31

بعد 200 ياردة منها. فإذا أراد الطيار أن يهاجم عدواً ويطلق عليه مدافعه السريعة الطلقات فإنه يجب أن يحول مقدمة طائرته إليه. إذ لا يستطيع أن يتحكم في مدافعه بغير هذه الوسيلة

ولهذا كان استعمال هذه المدافع من الأمور الصعبة. وتزود طائراتنا عادة بمدفع ثالث خلف مقعد الطيار ويديره محارب خاص.

وهذا المدفع يتجه إلى عدة اتجاهات فيستطيع المقاتل أن يصوبه إلى الوضع الذي يلائمه. ويركب هذا المدفع على إطار مستدير حول مقعد العامل فيدور إلى الخلف وإلى الجانبين ولكنه لا يتجه إلى الأمام إذ في المنطقة الأمامية مقعد الطيار ويخشى أن تستولي حمى القتال على العامل فتنطلق من مدفعه رصاصة تقتل الطيار فتتحطم الطائرة ويهلك العامل أيضاً

1050 طلقة في الدقيقة

وتمكن الإنجليز في الحرب الحالية من تجهيز طائراتهم بثمانية مدافع سريعة الطلقات حتى أصبحت طائراتهم أشبه بقلاع جوية. ويجب على الطيار ألا يطلق هذه المدافع باستمرار عند اشتباكه مع طائرات الأعداء فبعض هذه المدافع يطلق 1050طلقة في الدقيقة فإذا استمر الطيار على إطلاق المدافع مدة طويلة فإن ذخيرته تنفد ولاسيما إن المدافع بعيدة عن متناول يده فلا يستطيع تعميرها. أضف إلى ذلك أن استمرار الضرب يرفع حرارة المدفع مما قد يؤدي إلى تلفه؛ ولهذا فإن الطيار يطلق مدفعه ثانية تقريباً ويستريح ثانية أخرى

ويجب على الطيار أن يدرس هذه المدافع دراسة جيدة حتى يستطيع إصلاح ما قد يطرأ عليها من خلل، ولهذا فإن كل طيار يعرف أنواع العطب التي قد تطرأ على كل منها ويعرف كيف يعالجها بسرعة. فإذا سألت أحدهم عن الخلل الذي قد يصيب مدفع البرن مثلاً قال أربعة وذكرها هي وطرق علاجها

مدفع التصوير

وللاقتصاد في النفقات يستعمل الطيار في تدريبه ما يسمى مدفع التصوير وهو لا يطلق رصاصاً ولكن يسجل على شريط تصويري مقدار إحكام الإصابة. ويثبت هذا المدفع عادة

ص: 32

على جناح الطائرة أو في جزئها الخلفي وهو عبارة عن آلة تصوير على هيئة مدفع فعندما يضغط الطالب على الزر الذي أمامه تنفتح العدسة وتسجل بعد الطلقة عن الهدف كما ترسم دوائر حول الهدف فتبين مدى الخطأ أو الصواب في الإصابة

ويحتوي كل مدفع على اثنتي عشرة صورة مربعة طول ضلعها ستة سنتيمترات، ويفضل استعمال هذا المدفع في التمرين على المدافع الحقيقية لسببين مهمين أولهما الاقتصاد في المال والذخيرة، وثانيهما أن يرى الطيار بنفسه مبلغ دقته في إصابة الهدف فيعرف الخطأ ويتعلم كيف يصححه. ويستمر على هذا التمرين مدة يتقن فيها استعمال المدفع. وتحفظ أشرطة هذا المدفع في إدارة المدرسة ليرجع إليها الطيار كلما احتاج إليها فتراها معلقة في أنحاء الغرفة الخاصة وقد كتب على كل منها اسم مطلقها

فإذا انتهت هذه المرحلة بنجاح انتقل الطيار إلى استعمال المدافع الحقيقية أولاً بذخيرة كاذبة وأخيراً بذخيرة حقيقية ثم يوالي مرانه في فترات السنة المختلفة للبرنامج المعد لذلك

ثلاثة أطنان في الطائرة

وينتقل الطيار بعد هذا إلى فترة تعليم إطلاق القنابل. وتختلف الطائرات في قدرتها على حملها والمكان الذي توضع فيه وهي غالباً في الطائرات المصرية تثبت تحت جناح الطائرة إلى حوامل مشدودة بأسلاك متصلة بلوحة أمام القائد. وبعض الطائرات تحمل ثقلاً يبلغ وزنه 660 رطلاً وهي طائرات صغيرة. وبعضها تصل حمولته إلى ثلاثة أطنان من المدمرات كما هي الحال في بعض الطائرات الإنجليزية التي تستطيع الواحدة منها أن تقطع مسافة 4500 ميل دفعة واحدة

وسبق أن بينا أن القنابل ذات أحجام وأوزان مختلفة يثبت منها الطيار ما يشاء بشرط ألا يزيد مجموع حمولته على الثقل المقرر تبعاً للأغراض التي يقصدها الطيار والأماكن التي يريد تدميرها

ولقذف القنابل شروط يجب أن يتقيد بها الطيار وإلا أفسد مجهوده، ففي الجو تيارات هوائية تؤثر على سير القنبلة عند سقوطها. أضف إلى ذلك سرعة الطائرة نفسها فإن القنبلة تأخذ سرعة الطائرة، ولهذا يجب على الطيار أن يحسب ويقدر هذين العاملين وما لهما من تأثير حتى تكون إصابته دقيقة أو تبعاً للاصطلاح العسكري أن يكون (نشانه

ص: 33

مضبوطاً) فقبل أن يسقط الطيار قنبلته يجب عليه أن يعرف سرعة الريح واتجاهه، وهل هو مضاد لاتجاه الطائرة أو متفق، وثانياً ارتفاع الطائرة عن الهدف، وثالثاً سرعة طائرته، ويعمل بعقله عملية حسابية شفوية فإذا وجد أن حسابه مضبوط وأن موقفه يساعده على إطلاق قنابله ضغط على الأزرار وإلا صحح موقفه بما يراه مناسباً

جحيم المدينة

والقنابل ثلاثة أنواع، الأول للتدمير وشكلها انسيابي ولها زعانف تضبط اتجاهها ولها مقدمة نحاسية ثقيلة متحركة تصطدم بالأجسام الصلبة فتضغط المواد الداخلية وتفجرها فترسل جحيمها لتدمر ما حولها، والنوع الثاني للحريق وهو نوعان نوع يوضع في أوعية كبيرة من الصاج توضع فيها عدة قنابل يفتحها الطيار فتتساقط القنابل فإذا لامست جسماً صلباً احترقت مولدة حرارة شديدة تشعل كل ما يجاورها، وعيب هذه القنابل صعوبة ضبط اتجاهها ولا تستعمل إلا في القرى والأماكن السريعة الاحتراق، والنوع الثاني وهو قنابل كبيرة تشبه قنابل التدمير ويسهل ضبطها وتطلق مثلها بالضغط على الأزرار

والنوع الثالث من القنابل هو قنابل الغازات السامة على اختلاف أنواعها، وبعضها يطلق في قنابل وبعضها تقذفه الطائرة على هيئة رذاذ ينتشر في جو الأماكن التي يراد إصابتها، وكما يدرس الطيارون طرق استعمال هذه القنابل فأنهم يدرسون أيضاً طرق الوقاية منها وأهمها طريقة إخفاء المدن أو الجنود والمصانع وغيرها من الأهداف التي تقصدها الطائرات، ويضيق بنا المقام عن سرد تفاصيلها ولكننا نرجو أن نحدث القارئ عنها في مقال آخر

إلقاء القنابل

يبدأ الطيار مرانه على القتال بالقنابل باستعمال آلة التصوير وبها يسجل قدرته على إصابة الهدف. وليكون التدريب أكثر نفعاً وأوفى عناية، شيدت إدارة سلاح الطيران الحربي بناء من طابقين يجلس الطيار في الأعلى منهما حيث تسلط عليه التيارات المشابهة لتيارات الجو، ويوضع في الطابق الأسفل منهما خريطة صغيرة متحركة عليها علامات يحاول الطيار أن يصيبها بقذائفه وتسجل الإصابات بواسطة ضوء أحمر

ص: 34

ومن وسائل التدريب المهمة استعمال القنابل الكاذبة الخالية من المتفجرات الضارة. فهذه الوسيلة أقرب إلى الحقيقة من سواها إذ يجلس الطيار في طائرته بعد أن يحمل حمولته المقررة من القنابل ثم يرتفع إلى طبقات الجو ومن هناك يسقط قنابله على الأهداف. فيستطيع بهذه الطريقة أن يتعلم دروسه العملية التي تعتبر المرحلة قبل النهائية. ففي الفترة الأخيرة يستعمل الذخيرة الحية

ولا يجوز للطيارين العودة إلى مطاراتهم والهبوط فيها إذا كانوا يحملون قنابل مستعدة للانفجار فيجب عليهم أن يهبطوا أولا في مكان منعزل حيث يتخذون بعض الاحتياطات الفنية التي تمنع حدوث انفجار هذه القنابل في حالة حدوث طارئ مفاجئ للطائرة عند هبوطها في أرض المطار كاصطدام جزئها الأسفل بالأرض مثلاً. وهذا الاحتياط ضروري للمحافظة على سلامة المطار وعماله ولتكون أرضه ممهدة صالحة لهبوط الطائرات.

فوزي الشتوي

ص: 35

‌التاريخ في سير أبطاله

مازيني

(رسول الحرية إلى قومه، المجاهد الذي أبلى في جهاده مثل

بلاء الأنبياء)

للأستاذ محمود الخفيف

- 4 -

على أن اليأس لم يعرف سبيلاً إلى قلبه الفتى حتى في مثل تلك المحنة؛ فراح بعد العدة لثورة جديدة يشعل نارها في بيدمنت، ثورة تأتي هذه المرة من الشعب وكان مازيني مختبئ في بيت أحد أصدقائه في مرسيليا إذ راحت الحكومة تطارده هو وأصحابه، فكان لا يخرج إلا تحت ستر الظلام متنكراً حتى لا يقع في يد الشرطة؛ ولما ضاق بسجنه هذا رحل إلى جنيف وأخذ يجمع المال في سويسرا لثورته الجديدة ولقد لاقى في سبيل ذلك من العناء ما لم يخففه على نفسه إلا شرف الغاية التي كان يسعى إلى بلوغها

وأعد في سويسرا من الرجال ألفاً وثمانمائة ليعبروا جبال الألب إلى بيدمنت، وكان يمني نفسه أن ينضم الناس في تلك الولاية إلى هؤلاء المغيرين فتشيع الثورة فيها وتتعداها إلى بقية الولايات، فيبرهن بذلك لشارل ألبرت أن جنده لم يهنوا من بطش أو يستكينوا إلى ما ضرب عليهم من ذلة، واختار لقيادة هؤلاء المجاهدين ضابطاً يدعى رامورينو حارب من قبل تحت راية بونابرت؛ ولكن رامورينو هذا قضى على الحركة بدل أن يسير بها إلى النجاح فلقد تلكأ في الحضور من باريس حيث راح يبدد المال الذي جمعه مازيني درهما إلى درهم؛ ولما حضر سار بجنده وإنه ليخفى في نفسه غير ما يبديه، وكان هؤلاء قد فترت الحماسة في قلوبهم لطول انتظارهم قائدهم، فما لبثوا أن ذهبت ريحهم وباءوا بفشل عظيم. . .

وأحس الغريب اللاغب بالهم والنصب يخترمان جسمه النحيل فسقط من الإعياء قوامه السمهري، وتمدد على فراشه أياماً كاد فيها المرض أن يودي بروحه فيطفئ ذلك السراج الوهاج ولما يؤد رسالته على تمامها

ص: 36

وتداركه لطف ربه فبرئ مما ألم به؛ وكانت تخفف عنه آلامه وتسري عن فؤاده سيدة أحبها فكانت له في شدته ملاك الرحمة وذلك من فضل الله عليه

ولم يكد يستعيد قوته حتى ألفى الحكومة تطارد أنصاره فتخرجهم من سويسرا بأمر من الدول المسيطرة يومئذ؛ وعز عليه أن يبرح تلك البلاد فيبعد عن إيطاليا وإنه ليحس أن قربه منها يشد عضده ويربط على قلبه، وهو لا يعرف له مستقراً إلا أن يكون ذلك في إنجلترا أو أمريكا ولكنه لا يطمئن إلى أولاهما لا يطبق البعد في الأخرى

لذلك لاذ المجاهد المكدود بالهرب فقضى سنوات ثلاثا مختبئ في منازل بعض محبيه؛ كأنما قدر عليه أن يحيا حياة السجناء وما هو بمجرم ولا مجنون؛ وتوالت عليه المحن وانتابته النوازل، فتمشى السقم في بدنه وتراءت الصفرة في محياه، ولاحت اللوعة في عينيه؛ ونفد ماله حتى لجأ إلى طلب العون من أصحابه وكانت أمه ترسل إليه ما تستطيع أن ترسله كلما كتب إليها يسألها المعونة ورثت ملابسه وأعوزته الكتب التي كانت عزاءه في غربته وسلوته في وحدته؛ وحيل بينه وبين أنصاره فبرم بالوحدة واستوحش الغربة، وألح عليه مرض أسنانه فكان يتناوب هو والهم جسده المضني

وأحزنه ما ترامى إليه من الأنباء عن تخاذل الناس وفتورهم في إيطاليا، كما آلمه أن يجد بعض المنفيين يعودون باللائمة عليه فيما أصاب حركتهم من فشل؛ ولقد أدى ذلك إلى أن يضيق بالناس فما يصطحب إلا قطة أحبها!

وهكذا يجتاز الزعيم الطريد فترة من أشد فترات حياته المريرة فترة البلاء التي ما خلت من مثلها فيما نعلم حياة زعيم؛ وخيم عليه ذلك الظلام الذي يسبق في حياة القادة النور الوهاج الذي يبدد بقوته كل ظلام

وإنما يكون هذا البلاء في حياة الزعماء وحيالهم يشعرهم بسمو الغاية التي يجاهدون من أجلها، فيزيدهم هذا الشعور تعلقاً بمبادئهم وحرصاً على بلوغ غاياتهم حتى ليصبح الألم محبباً إلى أنفسهم أن كان مبعث اليقين والصبر، وتلك ناحية تمتاز بها كبار النفوس من سائر النفوس

ولن يكون عظيماً من تتعاظمه الشدائد فتلويه عن وجهته، وإنما العظيم من يسير على القتاد مغالباً كل ما يعترضه، وعلى قدر ما يجتاز من الصعاب تكون عظمته ويكون الأثر الذي

ص: 37

تتركه في الناس حركاته، ومن هنا أيضاً كان ترحيب العظماء بملاقاة المكاره، ثم من هنا جاءت قيمة التضحية والفداء وولدت الزعامة

والألم فوق ذلك يمحص المجاهدين فيستخفون كل مرة بما يأتي بعدها من ضروبه حتى ليصير مألوفاً لديهم؛ وذلك ضرب من الغلب يأتيهم من بطلان سبب من أكبر أسباب الهزيمة

لذلك صبر مازيني، ومثله خليق أن يصبر وهو الذي جعل من مبادئ جمعيته التضحية والفداء والصبر على الآلام، بل والسعي إليها ومجابهتها، فلما كتبت إليه أمه تسأله أن يرجع عما هو بسبيله كتب إليها يقول: إنه كان يفعل ما تأمر لو أنه استطاع ذلك! فانظر إليه كيف لا يستطيع أن يبتعد عن المحن والآلام وخذ من رده هذا معنى من أبلغ معاني البطولة. . .

وكان له في وحشته نور من مبادئه ترى قبساً منه في قوله: (لقد جعلنا قضية الناس قضيتنا، ولقد حملنا على عانقنا باختيارنا آلام جيل بأجمعه؛ وقبسنا من الله الباقي شعلة، ووضعنا أنفسنا بينه وبين الناس؛ واضطلعنا بدور المحرر، وتقبلنا على ذلك الله)

وعلمه ما سبق من الفشل أن يصبغ مبادئه صبغة تجعل لها مثل قوة الدين، فتكون بذلك أسرع نفاذاً إلى القلوب، فإذا مستها علقت بها حتى ما تنتزع منها؛ لذلك جعل من تعاليمه الحث على المبادئ السامية التي بها تكمل الإنسانية؛ كأداة الواجب لذاته، ومحبة الناس جميعاً، والعمل لخير الإنسانية عملاً لا يبتغي المرء من ورائه جزاءً ولا شكوراً، والبذل والفداء في غير مَن، والصبر على المكاره في سبيل النصر

وراح يوحي ذلك إلى الناس بخيال شاعر ويقين نبي حتى أحيطت دعوته بروح مثل روح الدين، وأصبحت الكلمات التي لا تكون على لسان غيره أكثر من كلمات، قوة لها سحرها وفتونها على لسانه هو؛ وأصبح شخصه بين حوارييه وكأنما رفعته قوة خفية إلى مرتبة فوق مرتبة البشر وإن كانت دون مرتبة الأنبياء

وأصبحت وطنية الذين اتبعوه أكثر من أن تكون وطنية؛ فلقد ملأت قلوبهم الآمال واشرأبت نفوسهم إلى المثل العليا، وفي ذلك تتجلى رسالته الحق إلى الجيل، إذ قد جعل الناس يؤمنون أن في هذه الحياة غير الدين ما يستحق تضحية النفس في سبيله، ومن ذلك الوطن

ص: 38

والحرية والكرامة الإنسانية

وكان يشتد به الحنين إلى وطنه وهو في سويسرا حتى ليفعل به الحنين ما يفعل المرض؛ وإنه ليعلق خياله بتلك السحب التي تجتاز الجبال لأنها تسير إلى إيطاليا؛ وإنه ليمد بصره إلى أقصى ما يستطيع نحو وطنه وكأنه يستأنس بهذه النظرات فهو يطيلها أحياناً كما لو بات في غيبوبة

على أن الأنباء التي كانت تصل إلى مسمعيه عن أهل هذا الوطن كانت تزيده غماً على غم، فهذه الرجعية العتيدة التي تؤيدها النمسا تزعم خاطره وتؤلم نفسه، وهذا الخور الذي حل بالرجال يغيظه ويحزنه، حتى ليصل به الأمر أحياناً إلى أن يتدبر أهو على صواب فيما هو فيه من جهاد يجر عليه عذاباً كذلك العذاب الأليم؟

ولكن نفسه كانت تحدثه أبداً أنه مهما قل أنصاره، ومهما مسه من الضر أو أصابه من الهم، فلابد أن تكون العاقبة بحيث تستحق ما يلاقيه؛ وكان قلبه يوحي إليه دائماً أن مبادئه محققة في غد لا محالة على يده أو على يد غيره؛ وكثيراً ما أعانه هذا الأمل على التغلب على كثير من الصعاب؛ ولقد يشتد هذا الأمل عنده حتى فكأنه يرى المستقبل فهو يبشر أبداً بالفوز كأنما كان يوحي إليه به من وراء حجاب. فهل كان مرد ذلك إلى شدة يقينه وقوة حماسته أم إلى جموح خياله وقلة تجربته؟ ألحق أن خياله كان ذا سلطان كبير عليه، ولكن جانب اليقين في نفسه لم يكن أقل من جانب الخيال، بل لقد نستطيع أن نقول إن قوة خياله كان مبعثها قوة يقينه فلولا ما أيقنه واعتزمه ما طمع في شيء ثم ما تخيل شيئاً

وجمع مازيني في سويسرا حوله نفراً من أهلها وأوحى إليهم أن يعملوا للحرية وأغراهم أن ينشئوا جمعية على غرار إيطاليا الفتاة فتألفت بذلك سويسرا الفتاة، وأصدر أعضاؤها صحيفة تعبر عن مبادئهم وعاونها مازيني بقلمه، ولقد كان مازيني يبغي من وراء ذلك أن تنتشر الحرية في كل مكان في أوربا لتتألف منها قوة عظيمة تجرف أمامها الرجعية، وتقذف بها إلى غير رجعة؛ وانتشار الحرية في سويسرا من شأنه أن يؤدي إلى تسربها إلى جارتها، هكذا حدثته نفسه الوثابة وخيلت له روحه المتوقدة

ولكن الحكومة السويسرية تقرر نفيه من بلادها مخافة أن يبذر فيها بذور الثورة، وتجد في البحث عنه وتقضي في غير إبطاء على حركته هذه، وهي في مهدها، فيجد نفسه مضطراً

ص: 39

إلى الرحيل فيختار إنجلترا ويسعى إليها عام 1837 وهو في الثانية والثلاثين من عمره

وفي لندن يحيا حياة طليقة حرة فيظهر بشخصه في المجتمعات ولا يلجأ إلى الاختفاء ولكنه يضيق أول الأمر بجو لندن وحياتها الصاخبة وضبابها المقبض، ويذكر ما خلف وراءه من شمس منيرة وسماء ضاحية وفضاء رحيب منضور الجوانب مسكي النفحات، وهو بطبعه شاعر يهفو لجمال الطبيعة قلبه، فلا عجب أن تقبض صدره عيشة لندن التي أحس منذ وطأتها أقدامه أن المادية فيها هي أساس كل شيء، وأن الروحية فيها غريبة شريدة مثلما كان هو غريباً شريداً

ولئن منح حرية التجول والعيش السافر، فلقد وجد أمامه من دوافع العزلة والقبوع في داره ما لا يقل إيلاماً عن نوازع الرجعية والاستبداد وذلك هو الفقر؛ الفقر الذي تركه رث الثياب حتى ليتواري من الخزي عن الأعين، الفقر الذي جعله يرهن ما حمل معه من ضئيل المتاع ليقتات والذي اشتد به زمناً حتى لقد راح ذات يوم يرهن ملابسه من أجل بعض دراهم، وذهب مرة أخرى يرهن حذاءً له ليشتري به طعاماً لغده

وأخذ يبحث عن عمل يمسك من ورائه رمقه، فلم يجد إلا أن يكتب بعض المقالات في بعض الصحف، على أن أجره على ذلك كان ضئيلاً وكان المترجم الذي ينقل كلامه إلى الإنجليزية يحصل على نصيب من هذا الأجر

ومن غريب أمر هذا الطريد النازح أنه كان لا يبخل في غربته على غريب غيره بماله على قلته، فكلما اكتسب شيئاً منه أو أرسلت أمه شيئاً وجاءه أحد معارفه يسأله العون مدّ يده إليه بما تملك وهو في أشد الحاجة إلى من يعينه، حتى الملابس لقد كان يجود بما ترسله إليه أمه منها على الغرباء من بني وطنه لتقيهم غائلة البرد في لندن، وحسبه هو دفء قلبه وابتهاج نفسه بما تقدم يداه

وكان يستدين على ما كان في الدين من مذلة، ثم يحاول أن يسد دينه بقلمه فيفلح حيناً ويفشل أحياناً فأضاف ذلك إلى آلامه وأشجانه ما نعجب كيف أطاق احتماله!

على أن أعظم ما نال من نفسه بعده عن بلاده وقصر ذات يده عن مواصلة جهاده في سبيل تحريرها، ومخافته في هذا البلد النازح من أن تموت مبادئ جمعيته فتنحل وينساها أعضاؤها، وفي ذلك الطامة الكبرى والبلاء الذي لا يجدي معه صبر ولا تنفع فيه حياة

ص: 40

ومما قاله في هذا الصدد: (لن يستطيع رجل أن يعيش وحده، وهاأنذا لا أجد حولي من يدري ما أفكر فيه وما أبتغيه) ووصف ذلك العصر بقوله: (إنه عصر انحلال خلقي، عصر إنكار، عصر كذلك الذي مات فيه المسيح)

وكأنه كان بينه وبين الدهر ثأر فهو لا يأبى إلا يتيه بالمحن بعضها في إثر بعض، فلقد جاءه وهو في غربته نبأ وفاة أخته العذراء، وقد كان يحبها أشد الحب إذ كانت تكبر مبادئه وتعجب به من أجلها، وكان إعجابها هذا به يزيده حماسة وأملاً. وكيف نستطيع أن نصف مبلغ حزنه على أخته التي ذهبت فلن يراها أبداً وهو ذلك الشاعر الرؤوف العطوف الذي يهب حبه الناس جميعاً؟

وكان الأسى يرمض فؤاده كلما مر ذكر ما عسى أن يكون عليه حال أمه المحزونة، ويتضاعف حزنه إذا حدثته نفسه أنه كان سبب كثير من شقائها بما جره على نفسه من العذاب والغربة، ولكن شيئاً واحداً كان يخفف عنه بعض ما به، وذلك شعوره أنه يلقى ذلك كله من أجل وطنه ومبادئه.

(يتبع)

الخفيف

ص: 41

‌أنت.

. .

(مهداة إلى الدكتور إبراهيم ناجي)

للأستاذ خليل شيبوب

النورُ في عينيكِ أُنشودةٌ

تَروي عن البحر أعاجيبا

تُرقِصُ في هُدْبيْهِما ناظراً

كاللجِّ بالخضرة مشبوبا

قد أَسمعتْ عينيَّ ألحانَها

عيناكِ تنغيماً وتطريبا

خَدَّرَتِ النفسَ أهازيجها

واقتدحتْ في القلبِ أُلهوبا

فاختبطتْ في الصدْر أغوارُه

تهدر تصعيداً وتصويبا

لكِ ابتسامُ الصبحِ خطَّتْ به

مغازلُ الشمس أساليبا

من خَطَفاتِ السحر موهومُهُ

يُخالُ تفضيضاً وتذهيبا

أُحِسُ في النفسِ حفيفاً له

أَزهقَها حبَّاً وتعذيبا

وشَعْرُكِ المرسلُ نَبتُ الدُّجى

يموجُ تصفيفاً وترتيبا

ملتمعٌ من سافرٍ تحته

أضفى ضياَء البدر مسكوبا

رعاه قلبي حَلَكاً هادياً

يجلو عن النفس الغياهيبا

الحسنُ في الوجهِ وفي الشَّعرِ قد

سافر تشريقاً وتغريبا

جيدُك أَعيى الفنَّ لما بدا

في قَالَبِ الفتنة مصبوبا

لانَ لُجَيْناً وضياءً كما

قام عمودُ الصبح منصوبا

سطَّر فيه الحسنُ أَطواقه

دائرةً لم تكسُ مسلوبا

الحسنُ وُصفٌ لكِ والفنُّ قد

أضحى لأوصافكِ تلقيبا

جسمُكِ قدسُ الحبِّ طافتْ به

عبادةُ العابدِ مربوبا

في كل عضو منه أعلى الهوى

معابداً لي ومحاريبا

أعبُدُ فيها اللهَ مستشعراً

قُدرَتَهُ لا أختشي حوبا

وقفتُ عمري لكِ مستلحقاً

بصدر أيامي الأعاقيبا

عواطفي في الصدرِ مكبوتةٌ

أدبها حسبِّيَ تأديبا

لو أُطلِقَتْ لاندفقتْ مثلما

تَدَفَّقَ الغيثُ شآبيبا

ص: 42

أحْبَبْتُكِ الحبَّ جميعاً فهل

أعيشُ محروماً ومحروبا

يا هند لا يُغْضِبكِ حبي فكم

وَضْع صحيح بات مقلوبا

وإنني ما اخترتُه عامداً

بل هو شيءٌ كان مكتوبا

أَخْفَقْتُ في سعيي إليه ومن

أخفقَ في مسعاه ما عيبا

إن عاش بالآمال غيري فقد

أموتُ بالآمالِ منكوبا

أو صَدَقَ الحبُّ لغيري فقد

أعاد لي العمر أكاذيبا

(الإسكندرية)

خليل شيبوب

ص: 43

‌لحظة

للأستاذ حسن حبشي

آهِ ما أجْمَلَها مِنْ لحْظةٍ

حادَثتْ عَينيّ فِيها مُقْلتاكِ

لحظة مِنْ عُمُري خالِدَة

لامَستْ كِّفيَ فيها رَاحَتاكِ

وأضاءتْ لَيلَ قَلبِي بَسْمَةٌ

أطْلَعْتها كالأمَانِي شفتاك

فَصَحا القلب عَلى فِتْنتها

وهَفا منْ شوقِهِ نحو عُلاك

أنت يا مَولاي عُلْوِيُّ السَّنا

فاحبُني من نورك الزاهي شُعاعا

هاتِهِ أجْعلْ فُؤادي زوْرقاً

وضِياك الحُلوَ في اللجِّ شِراعا

عَلَّهُ يُنقِذُ روحاً حُرَّةً

سئمتْ في عالم الأرض الصراعا

وامضِ لا تَعبأ بِذيَّاك الورى

فالورى قد أحسنوا فيها الخداعا

يا نجيَّ القَلبِ في عُزلَتِهِ

رامَكَ القلبُ فهلاَّ تُشفقُ

لا تخلْ صمتي جحودا بالهوى

أنا إنْ أسكُتْ فَعيْني تنطقُ

أنتِ في هذي الدُّنا زَنْبقةٌ

عِطرُها الفوّاح فِينا يشرُقُ

عَطَّرَ الرُّوح فأمسى خاطري

بالَهَوى العَفِّ طروباً يَخفقُ

حسن حبشي

ص: 44

‌رسالة الفن

دراسات في الفن

مع هذه الأجسام

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

- اسمعي! إذا كنت تريدين زوجاً صالحا فعليك بهذا الشاب الذي مر الآن ونظر

- أيهم؟ فهم كُثر، الذين مروا ونظروا

- نعم هم كثر، ولكنه هو واحد، وقد عرفك وأنت عرفتِه، وقد حياك وأنت حييته. . . فلم التجاهل؟

- أأنا حييت أحداً الآن وحياني؟ متى كان ذلك؟ وكيف كان؟

- زعموا أن آنسة كانت جالسة على قارعة الطريق في مقهى وكان معها دلو. . .

- دلو؟

- أي نعم. . . بمعنى رجل. . . وهو عند المرأة هكذا لأنها تلقي به حيث شاءت، وتملؤه بما يطيب لها، و (تدفقه) أينما أرادت، وتأخذ منه كل ما يحتويه فتختص به نفسها أو توزع منه على من تحب. . . فإذا انثقب رقعته، فإذا انكسر جبرته، فإذا تحطم حرقته واستدفأت بحطامه. . .

- يا له من ثأر بينك وبين المرأة. . .

- أنا؟ أنا ما بلغت إلى اليوم منزلة الدلو. . . مهما أكن فلن أزيد على لوح من ألواحه فلا يمكن أن يكون بيننا ثأر

- يا للفضيحة. . . ما علينا. . . أتمم قصتك. . .

-. . . وكان الدلو يتحدث إلى الآنسة بكلام تافه سخيف لا غناء فيه لأنه يدور حول أسرار الوجود. . .

- وهل يقال عن الحديث الذي يدور حول أسرار الوجود إنه تافه سخيف؟ فما الحديث الجليل الخطير؟

- هو عندكن ما يدور حول هذه الجثث التي هي أنتن، وحول هذه الخرق و (الهلاهيل)

ص: 45

التي هي ثيابكن أو دروعكن وما أشد التباين بينها وبين دروع الرجال، فهم يتدرعون بما يقيهم الهجمات، وأنتن - يا ويلي منكن - دروعكن مغامز ومطاعن تكشفنها كشفاً، وتظهرنها عمداً ليسهل افتراسكن على الجرذ الضئيل كما يسهل على الأسد الضرغام

- يا أخي! أما تُتم قصتك وتدع هذه المهاترات. . .

- فلندعها. . . ومر بالآنسة وصاحبها. . . آخر. . . عريض المنكبين متين الألواح. . . طفت رجولته على جلده ولم يعد منها شيء في داخل نفسه. فلما رأى الآنسة، تجمعت قواه في عينيه، ثم انبثقت القوة تياراً، وانطلق التيار جارفاً قوياً، فصدم الآنسة في عينيها، وفيما بين عينيها، وفيما حول عينيها، فآلمتها الصدمة، فرفعت يدها إلى رأسها تحول بين رأسها وبين هذا التيار الذي لو ثقل عليها لتراخت وتخاذلت وتساقطت، ولنتحسس بيدها أيضاً مكان الصدمة تختبرها وتتعرف مداها، كما نصنع دائماً عند كل صدمة، ولكنها فطنت إلى أنها بين جماعة من الناس قد يكون فيهم من يتتبع حركاتها، فمررت يدها سريعاُ من جبهتها إلى شعرها حتى يظن الذي يراها أنها إنما رفعت يدها لتصلح من شعرها، لا لتتقي تياراً، ولا لتشد أعصابها. . . وجازت هذه الحركة على كل من رأوها. . . وصاحبها أولهم

- وما لنا وهذه الحكاية؟

- هذه الحكاية حدث الآن ما يشبهها، وكل ما في الأمر أني أردت ألا تفوت من غير أن ألفتك إليها لعلك تستغلينها، وتربطين إليك بسببٍ صاحبك هذا الذي مر، وهو فيما يظهر ممتلئ. . . رجولة وغروراً، ومالاً أيضاً. . .

- ولكن هذا أجنبي

- إذن فانتظري الذي ليس أجنبياً، والذي يؤثر فيك هذا التأثير، واعلمي أنه هو الأهل لك

- ولكن رجالاً كثيرين. . . كثيرين جداً يفضلون السحلب على (المغات). . .

- نعم لأن الكاكاو أطيب طعماً من جوز الهند

- عدنا إلى الخلط؟

- لقد مشيت معك. . . كنا نتحدث عن الرجال والنساء فانتقلت أنت إلى العطارة، فآثرت أن أجاملك وأن أمضي معك حيثما تريدين. . . فهل نعود إلى ما كنا فيه وتقولين لي مالهم الرجال الكثيرون الذين كنت تريدين أن تتحدثي عنهم. . . أو الأحسن أن ندعهم ونتحدث

ص: 46

في الحمص وغزل البنات؟ مالهم الرجال الكثيرون. . . مالهم؟

- فأنت مصر على أن تهتك نفسي؟

- مهتوكة يا آنستي نفسك وكل نفس ما دامت الأنفس في الأجسام!

- إذن، فليست الأجسام حجبا كماً قلت مرات؟

- إنها حجب، وليست حجباً، كالنور يبصر فيه البلبل ويمشي فيه الخفاش. . .

- أو كالظلمة تبصر فيها البومة ويعمى فيها الطاووس. . . فهل أنت طاووس أو أنت بومة؟

- ولم لا أكون البلبل وأنت الخفاش؟

- لم أسمعك يوماً تصدح. . .

- لأنك تسهرين الليل وتنامين النهار. . . عيناك لهما الظلام ونفسك اطمأنت للسواد!

- قسمتي!

- ولماذا ترضين هذه القسمة وهي مما لم يكتبه الله على الناس فما كتب على المبصرين العمى، ولكنهم هم الذين يضعون أصابعهم في أعينهم كمن يخشى أن يرى، وكمن يجب أن تزل قدمه ليسقط فينهار! افتحي عينيك، وانظري، وابصري، وافهمي، والله لا يتعاطى من عبيده أجراً على ما يعلمهم، ولا هو يتقاضاهم رسوم الألعاب.

- وماذا تريد مني أن افعل؟

- ترقبي حركاتك، وترقبي دوافعها في نفسك، ثم ترقبي حركات الناس، تعرفي دوافعها في أنفسهم.

- وهل كل الناس يتشابهون؟

- من غير شك، هم يتشابهون في مقومات الإنسانية وأصولها كما تتشابه الأسود في مقومات (الأسدية) وكما تتشابه الأبقار في أصول (البقرية). . . وكل ما بين أفراد الناس من خلاف، فإنما يتناول الفضول والزوائد ولا يتعداها، فالأمير إذا مات وحيده حزن وبكى ومسح دموعه في منديل، والخفير إذا مات وحيده حزن وبكى ولكنه يمسح دموعه في ذيل ثوبه، وكل من المنديل وذيل الثوب، لا صلة له بالحزن ولا البكاء. . . أنت تضحكين فتكتمين صوتك تحشما، وأنا أضحك فأفزع الناس بقهقهة كالرعد ولكننا مع هذا نتساوى في

ص: 47

أننا نضحك وإن كنت أنت تضحكين بقدر، وأنا أضحك بكل القوة التي في القدر والقضاء. وبهذه المراقبة يا آنستي تستطيعين أن تفهمي الناس، وتستطيعين بعد ذلك أن تكتبيهم وتصوريهم أو تعزفيهم أو تغنيهم أو تلعبي بهم ما شاء لك الفن. . . ولكن عليك - كما رأيت - أن تعرفي نفسك أولاً، وأن تحكمي عليها دائماً مهما آلمك هذا الحكم، وإذا كنت تكرهين الألم فحاولي أن تصلحي نفسك بالحق، واحذري أن تخدعيها بالباطل لأن الباطل يتلفها فلا تعود تصلح مقياساً للحق الذي تنشدينه، فالحق مستقيم، ولا يقيسه إلا ما استقام، ولا يمكن أن يحصره حلزون. . .

- وكيف تعرف الحق؟

- الحق معروف، هو ما فطر عليه الناس لا ما اصطنعوه، الله خلق الخلق بالحق. . . فالحق فيهم، وهو إلى اليوم على رغم ما جاهدوه طويلاً لا يزال فيهم، ونحن نعرفه في البشر بذيوعه بينهم على اختلاف ألوانهم وأجناسهم. فالموت حق لأنه يتناول الناس جميعاً، والحب حق لأنه يتمكن من قلوبهم جميعاً، والفن حق لأنهم يطربون جميعاً. . . هذا هو الحق. . .

- هذا حسن. فكيف تريدني أن أبدأ في تفهم هذا النوع من الحق الذي تدعي حدوثه بين الأجسام، والذي يخيل إلي أنك تجعله كتيار الكهرباء. أنظر مثلاً: هذا رجل ممتلئ رجولة، هو أيضاً كذلك الذي رأيناه في البدء، وهو ينظر إلى هذه السيدة ولكنها تتحسس رأسها من الخلف لا من الأمام، فهل حركتها هذه هي أيضاً تدل على أن تياراً أنبثق منه نحوها، وأن هذا التيار أثر فيها إلى آخر هذه الدعاوى التي تدعيها. ليست المسألة إلا ارتباكاً فقط

- ما الذي قلناه شك. وكل ما في الأمر أن هذه السيدة أنضج أنوثة من الآنسة الأولى التي هي أنت، وعينها أشد تبجحاً من عينك، وحيلتها أوسع من حيلتك، وأعصابها أقوى من أعصابك. . . لقد رفعت يدها لتمر بها على جبهتها مثلما صنعت أنت، ولكنها أفاقت ويدها في منتصف الطريق فبدلاً من أن تضع يدها على موطن (النغزة) في جبينها الفت بيدها إلى قفاها. . . وهذه هي الدرجة الثالثة من درجات الصد

- وهل للصد درجات. . . غير ما فعلتُ وما فعلتْ؟

- نعم. . . أولى درجاته هي ما يلجأ إليها الأطفال عندما يهاجمهم مهاجم بعينيه ونظراته. .

ص: 48

فهم يرفعون أيديهم ويغطون بها أعينهم ويمسكون بها رؤوسهم، وهذه حركة من حركات الصد المكشوفة التي لا يلجأ إليها الواثق من ضعفه. . . وهي تشبه الجري والهرب. . . والدرجة الثانية هي هذه الحركة التي بدرت منك، والدرجة الثالثة هي هذه الحركة التي بدرت من هذه السيدة. . . والدرجة الرابعة هي الصد بالنظر. . . تيار ضد طيار. . . والفوز لمن غلب، والفشل لمن أرخى عينيه. . . ومن الناس مخادعون. . . يريد الواحد منهم عند الهجمة أن يغطي عينيه أو أن يغطي رأسه؛ فإذا رفع يده خشي أن ينكشف فعبث بعنقه أو بأذنه أو بأنفه. . . ألم تلحظي شيئاً من هذا. . . وبهذه المناسبة أريد أن أسألك سؤالاً لعلك تجيبين عنه. . . بعدما استنار لك الطريق

- اسأل. . . ولكن اجعل سؤالك خفيفاً فأنا لا أزال في السنة الأولى معك. . .

- ليتني أبلغ السنة الأولى أنا اسمعي، ألا تستطيعين بناء على ما تقدم أن تستنبطي للتحيات التي يتبادلها الناس منطقاً؟. . .

- وماذا تقصد بالتحيات؟

- التحيات. التحيات. رفع اليد إلى الرأس. أليست هذه تحيات؟

- الناس يحيي بعضهم بعضا لأنهم مؤدبون، والصغير يبدأ الكبير، لأنه مطالب باحترام الكبير. . .

- ليس لي شأن بهذه المطالبات. إنما أنا أريد التحيات الطبيعية التي لا يلحظ الناس فيها الفروق الصناعية. . . حتى فروق العمر والسن يجب أن تعلمي أنها ليست طبيعية في هذا الصدد فهناك صغار نفوسهم أقوى من نفوس الكبار. . . هاأنذا وضعت لك الأساس

- وبهذا الأساس زدتني اضطراباً. . .

- لا بأس. . . قوي وضعيف التقيا. . . يرفع الضعيف يده إلى رأسه بالتحية في هذا الزمن، ولكنه في الأصل كان يغطي عينيه ورأسه. . . والكبير يرد عليه بعد ذلك من باب (جبر الخاطر) لأنه في الواقع لم يشعر بالدافع الطبيعي الذي يحمله على أن يرفع يده إلى رأسه. . . ويلتقي القويان فيرفع أحدهما يده إلى رأسه في الوقت الذي يرفع الثاني يده فيه. . . وهكذا يفعل الضعيفان. هذا هو منطق التحية الذي أطلبه. . . والآن. . . وبعد هذا المثل. . . هل تستطيعين أن تستنبطي منطق التقبيل؟

ص: 49

- وهل للتقبيل هو أيضاً منطق؟ إن التقبيل استجابة لعاطفة، والعواطف لا منطق لها. . .

- من الذي قال لك هذا؟. . . كل ما في الطبيعة له منطق وقانون حتى المفاجآت والمصادفات. . . وإن الذي نثر الكون في هذا الفضاء وحفظه هذه الدهور وهذه العصور لا يمكن إلا أن يكون حكيماً له سنن هي الحكمة. . فكري معي قليلاً. . .

- طيب! قل لي من أين أبدأ؟

- من حيث تشائين. ابدئي بالقبلة التي يطبعها الأب على جبين الابن. . . لماذا يختار لها الجبين؟

- لماذا؟

- ليعطيه شحنة من الكهرباء القوية في هذا الموطن الذي هو أصلح مكان في جسم الإنسان لاستقبال الكهرباء. . . والجبين هو المكان الذي يسلطون عليه الكهرباء في أجسام الذين يعدمونهم بها في أمريكا. . . أو هو المكان الرئيسي لهذا. . .

- كأنه معقول. . . والابن يقبل يد أبيه. . . ثم إنه يضع يد أبيه على جبينه. . . فلماذا؟

- الابن يقبل يد أبيه فيمتص شحنة من كهرباء أبيه، واليد من أطراف الإنسان التي تشع منها الكهرباء باستمرار وبسهولة. . . والمنوم المغناطيسي يستعين بيديه على تنويم وسيطه إلى جانب القوة التي تنبعث من عينيه. . . والابن يضع يد أبيه على جبينه لأن الجبين كما قلت لك من أطيب المواطن في الجسم لاستقبال الكهرباء

- والأخَوان؟ يقبل كل منهما الآخر في خده، أو يمسح الواحد منهما وجهه في وجه الآخر. . .

- ذلك لأن المفروض في الأخوين أن يكونا متساويين في كمية الكهرباء التي شحن بها كل منهما. . . فالواحد منهما لا يريد أن يكسب من الآخر شيئاً، ولا أن يعطي الآخر شيئاً ولذلك فأنهما يلتفان كل منهما حول الآخر ولا يتعاطيان. . .

- والعاشقان؟. . . يتبادلان القبل من الشفاة

- لأنهما يريدان أن يتعادلا. . . فمن كان منهما قوياً أعطى الآخر الفضل من قوته. . . حتى يتم التعادل. . .

- عجيبة. . . ولكن غاب عنك شيء يا سيدنا. . . إن القبل ليست شائعة بين البشر

ص: 50

جميعاً. . . وهي أقرب إلى العادات المكتسبة منها إلى الأفعال الطبيعية. . .

- إذا كانت القبل على هذه الصورة التي نعرفها ليست شائعة بين البشر جميعاً، فللذين لا يعرفونها من البشر قُبَلٌ ولكن على صور أخرى. . . فمنهم من يحك أنفه في أنف صاحبه ومنهم من يحك رأسه في رأس صاحبه. . . وبالملاحظة نرى أن من يفعلون هذا هم المتأخرون من الشعوب الذين لم يهتدوا إلى القُبل. . . وهم بتقبيلهم أقرب إلى ما يصنعه الحيوان. . . والإنسانية تتفتق عن الجديد كل يوم. . . والذين رأوا القُبل من هؤلاء المتأخرين مارسوها واطمأنوا إليها. . . ولا تخشى أن في هذا تنكراً على الطبيعة وإنما هو ارتقاء بها. فإنه لا يزال في الدنيا ناس يعيشون على الأشجار. . . وهؤلاء إذا عرفوا الحياة على الأرض اطمأنوا لها وعاشوا عليها كما يعيش بقية الناس لأنها الطور من أطوار الحياة الذي يتلو ذلك الطور الذي عاش فيه الناس على الأشجار. . .

- كأنه معقول. . .

- أنا أعرف أنه لن يكون كلامي معقولاً إلا إذا كان مترجماً أو منقولاً، وكي تطمئني يا آنستي اعلمي أني أخذت هذا الكلام عن الأستاذ وهو أستاذ مشهود له في أوربا وأمريكا وآسيا وأفريقيا واستراليا وهوتولولو أيضاً

- على أي حال إن كلامه لذيذ. ألم يقل شيئاً غير هذا؟

- يا ما أكثر الذي قال. . . ولكني أنسى كثيراً مما يقول. انظري. . . ألم تري. . .

- ماذا؟ هذه الفتاة الجالسة في الركن؟

- نعم. . . لقد نظرتُ إليها فماذا صنعت؟

- هل تريد أن تقول إنها رفعت يدها إلى رأسها فتستدل بهذا على أنك رجل قوي الكهرباء. . . لا يا سيدي لقد رأيتها وكنت مثبتة نظري عليها. . . هي لم ترفع يدها. . . ولم ترفع يدها. . .

- ولكنها فعلت ما هو أحلى من رفع اليد

- ماذا؟. . . كل ما كان منها أن أطلت بلسانها من فمها فمرت به بين شفتيها. . .

- علامة على أي شيء. . .

- إذا كان وراء هذا معنى، فلا معنى له إلا أنها تخرج لك لسانها استهزاء بك. . .

ص: 51

- يصح هذا. . . ويصح شيء آخر. . . وهو أن يكون إخراج لسانها ترطيباً لشفتيها اللتين جفتا على أثر انطلاق التيار الكهربائي منهما، وهذا التيار لا ينطلق إلا في حالة التقبيل شوقاً إلى الازدواج. . . فهي قد شيعت لي قبلة في الهواء. . .

- كده؟ لقد اشتد البرد في هذا المكان. . . قم بنا. . . ألست تريد أن تدرك السينما من أولها. . .

- والله إني أفضل هذا (التياترو). . .

- وهذه الفتاة القبيحة التي تشيع للناس القبل في الهواء. قم. قم.

- قمنا. . .

عزيز أحمد فهمي

ص: 52

‌رسالة العلم

لحظات الإلهام في تاريخ العلم

بقلم مريون فلورنس لانسنغ

اختراع الألوان

تتعلق قصتنا التالية بالعصور الحديثة فقد حدثت في المائة والخمسة والسبعين عاماً الأخيرة. لكنه للوصول إلى مصدر هذه القصة يجب أن نعبر جسراً ضيقاً من الزمن يمتد إلى ألف عام

وكان في خلال هذه المدة فنان يتدرجان في سبيل التطور كلاهما يصلح للاستخدام في تهيئة الثياب للحالة التي هي عليها اليوم

أما أحد الفنيين فهو فن الصناعات الآلية فإن اختراع الآلات الميكانيكية في القرن الثامن عشر قد أفسح المجال للحذق في فن النسيج. وإذا أردنا أن نحدد تاريخ بدايات العهود لصناعة القماش وجدنا أنه من فجر التاريخ أي في القرن الرابع عشر قبل الميلاد كانت عناصر النسيج في كل العالم بسيطة أولية هي المغزل بأنواعه ومنها المغزل الصيني للحرير والمغزل الهندي للقطن. ولم يكن أهل القرون الوسطى في أوربا قادرين على إحداث تغيير عملي كبير في صنع ألوانهم

فظل النسيج إلى منتصف القرن الثامن عشر على طريقته القديمة طريقة عجل النسج والنول الذي يدار باليد. وكان هذان العنصران هما كل ما لدى الغزالين والنساجين في إنكلترا من أدوات هذه الصناعة. لكن الناس كانوا قد بدءوا يسائلون أنفسهم: أليس من الممكن اختراع وسيلة يمكن بها أن تظل عجلة النسيج دائرة وأن تظل الوشيعة (المكوك) تتحرك فيصبح النسج أسهل مما كان بواسطة اليدين؟

وكان أحد الضباط البحريين في فرنسا في القرن السابق واسمه (دي جانس) قد اخترع آلة لصنع الأقشمة التيلية لا تحتاج إدارتها إلى عامل ولكن فكرته في الاختراع لم تنجح عملياً. وفي سنة 1733 اخترع جون كاي في مدينة بوري في مقاطعة لانشستر نوعاً جديداً من الوشائع وقد سمي باسم (مكوك الذبابة) لسرعته في الحركة سرعة خارقة للعادة

ص: 53

وبعد اثني عشر عاماً صنع بالاشتراك مع جوزيف ستيل نولاً وصفه بأنه (يشتغل باليد أو بالماء أو بأية قوة أخرى) وكانت لحظة أحق بالذكر في تاريخ العلم الصناعي تلك اللحظة التي جاءت في سنة 1764 إذ اخترع (جيمز هارجزيفر) دولابا. وهو نساج يشتغل على النول وهو في الوقت ذاته نجار. وكان يقيم في بلاكبيرن. وقد قبل أن الفكرة قد أُوحى إليه بها عندما رأى عجلة المغزل يقلبها أحد أبنائه فرأى عند ذلك أنها استمرت تدور أفقية وأن المغزل ظل يدور عمودياً

وبواسطة هذا الدولاب صار في الإمكان غزل عشرين أو ثلاثين خيطاً في وقت واحد بنفس السرعة وبنفس السهولة التي يغزل بها خيط واحد

ولما عرفت هذه الحقيقة لدى زملاء هاجريفز انزعجوا خشية أن تكون نتيجة الاختراع تخفيض أجورهم وكثرة العاطلين بينهم فهاجموا بيت المخترع في أحد الأيام وأتلفوا جهازه

وكانت الخيوط التي يخرجها النول قبل أن يبدأ النساج عمله تعرف باسم السدى. أما الخيوط التي يخرجها المكوك فتعرف باسم (اللُحمة) لكن الخيوط التي يخرجها دولاب الغزل كانت كلها من نوع اللحمة فليست متينة ولا قوية مثل السدى الذي يمتاز بالطول وبالقوة

وجاءت لحظة أخرى من اللحظات العظيمة في تاريخ الصناعة عندما قدر أن يؤثر رجل آخر في حياة الملايين من زملائه، وهذه هي قصة صبي الحلاق الذي مات وهو حامل للقب ورتبة فارس وأصبح من كبار الأغنياء

كان رتشارد اركرايت (1732 - 1792) أصغر الأبناء في أسرة عدد أبنائها ثلاثة عشر. وكان أبواه فقيرين فلم يستطيعا تعليمه إلا إلى الحد التافه فاشتغل رتشارد صبياً لحلاق؛ فلما بلغ العشرين من العمر أنشأ لنفسه حانوت حلاق في بولتون ولم يكتف بأن يحلق لعملائه، ويمشط لهم الشعر المستعار بل كان يبيعهم شعوراً مستعارة مصبوغة على طريقة ابتكرها. وبهذه الوسيلة أدرك ثروة وصار في وسعه بعد ذلك أن يترك حرفة الحلاقة، وأن تنصرف عنايته إلى غزل القطن، وكان قد اهتم جد الاهتمام بدولاب الغزل فأخذ يجري تجاريبه ليعرف هل في وسعه أن ينشئ دولاباً من هذا النوع يخرج خيوطاً قوية تصلح للسدى، وقد استعان برجل اسمه جون كاي (وهو غير جون كاي مخترع المكوك السريع وربما كان من

ص: 54

أقاربه) فصنعا دولاباً كان لأول مرة في تاريخ النسيج يخرج الخيوط القوية اللازمة بطريقة آلية

وكان أول مصنع أنشأه اكرابت في نوتنجهام سنة 1768 وكان يديره بواسطة الخيل. وبعد ثلاثة أعوام أنشأ مصنعاً في كروفورد في دربشابر، وكان يدار بالماء. وقد تعرض أيضاً لسخط الجماهير وتحطمت مصانعه أكثر من مرة بسبب غضب الجماهير

ولكنه عاش العمر الكافي للانتصار على كل المصاعب ولإنشاء مصنع بخاري للنسيج في نوتنجهام سنة 1790

وجاءت لحظة أخرى من اللحظات العظيمة في تاريخ الصناعة وهي قصة قسيس أديب هادئ هو الأب أدموند كارترايت وقد تغير كل نظام حياته بسبب زيارة زارها لمصانع السير رتشارد اركرايت

اخترع هذا القسيس في سنة 1785 نولاً آلياً كان على الرغم من كل عيوبه بشيراً بالنول الذي يستعمل اليوم. واشتد به التحمس للفكرة فأنشأ مصنعاً في دونكاستر وآخر في مانشستر، ولكن الرعاع المتسخطين الذين يرون في هذه المعامل عدوّاً لهم قد حطموها

على أن كاراترايت استمر على خطته وتحول من القطن إلى الصوف وعكف على دراسة مباحث وتجاريب كان يجريها مهندس أرلندي متأمرك اسمه روبرت فولتون، وهو أول من أدخل قوة البخار في الملاحة

ومع أن اختراعات كارترايت لم تعد عليه شخصّياً بالنفع الطائل فانه لم يمت قليل الاعتبار ككثيرين من المخترعين لأن البرلمان كافأه بمبلغ (10. 000) جنيه في سنة 1809

وآخر قصة نرويها هنا عن تطور الصناعة الآلية لنسيج القطن والصوف في إنكلترا هي قصة العازف على الكمان الذي استكشف طريقة جديدة لصنع القماش. وهو من أهل لانكشاير مثل هارجريفز اركرايت وهو مثلهما من الأوساط الوضيعة

اسم هذا الرجل صموئيل كرمبتون وقد ولد في فايروود بالقرب من (بولتوف أن ذي مورز) في سنة 1753 وقد مات أبوه وهو طفل؛ وكانت أمه الأرملة تشتغل بالغزل فساعدها على ذلك

وبعد قليل اشتغل عازفاً على الكمان في مسرح بولتون. وكان يقسم وقته بين العزف وبين

ص: 55

الغزل. وكان يغيظه أن الغزل الذي يصنعه تتهدل أطرافه وخطر له أنه قد يستطيع تحسين عمله على طريقة دولاب هارجريفز فيمتنع هذا التهدل. واستمر خمسة أعوام يعمل على هذا التحسين. وفي نهاية هذه المدة اخترع آلة تغزل خيوطاً رقيقة ناعمة تصلح لنسيج الشاش

أراد أصحاب المناسج أن يعرفوا سره فحاصروا منزله ولما كان المبدأ الذي بني عليه عمله في نهاية البساطة بحيث يستطيع أي خبير بالصناعة أن يعرفه في لحظة فإن هذا المخترع المسكين قد اضطر إلى استئجار حرس حول المنزل طول الليل والنهار، وأخيراً أفشى سره لأحد أصحاب المصانع في بولتون. ومما يدعو إلى الأسف أنه لم يكافئه المكافأة التي وعده بها

وأطلق في إنكلترا وفي إبقوسيا على تلك الآلة اسم بغلة النسيج. وتشجع كرمبتون بما بذله البرلمان الإنكليزي من المكافأة لكارترايت، فاستجمع الأدلة على كثرة ما استُعمل من الآلة التي اخترعها في أنحاء البلاد، وطلب معونة الدولة فمنحه البرلمان ما يعدل نصف المكافأة التي منحها زميله المخترع القسيس وعاد كرمبتون المسكين إلى بولتون وهو يشعر بالخيبة والمضاضة

من الاستكشافات التي استكشفها هؤلاء الأربعة الحاذقون الموهوبون نشأت المراكز الصناعية للصوف والقطن في لانكشاير ويوركشاير وإبقوسيا، وأصبحت هذه اللحظات الهامة في أعمارهم حلقات في سلسلة متصلة في صناعة النسيج الآلي تربط مصانع اليوم بالغزل والطارة اللذين كانا يستعملان في أقدم العصور

وكان على الكيميائي أن يشترك بقسطه الوافر في صناعة القماش، فنشأ كيميائي في السابعة عشرة من العمر كان يشتغل في لندن، واستكشف في سنة 1856 استكشافاً يستحق أن بعد أوانه من اللحظات العظيمة العلمية في تاريخ العالم الحديث

ومن الغريب أنه بينا كان التقدم مطرداً في غزل الأقمشة العظيمة ونسجها كان فن الصناعة يكاد يكون من الوجهة العلمية واقفاً تمام الوقوف

كانت المواد النباتية مثل النيلة والفوة والمواد العشبية كحشيشة البحر والمواد الحيوانية كدودة القرمز والمعدنية مثل الدارصيني، كانت هذه المواد التي تستعمل في الصناعة إلى

ص: 56

أن انقضى عهد ليس بالقصير من القرن التاسع عشر، وبهذه المواد المحدودة الناقصة التأثير كان النساجون في أوربا يلونون منسوجاتهم تلويناً بديعاً كما نرى في الحرير والشيت والقماش المطبوع الذي يوجد الكثير منه في المتاحف

ولكن لم يظهر إلى ذلك العهد ذهن عبقري من المخترعين يكشف أن مزج مادتين كيميائيتين يمكن أن يؤدي إلى استخراج ألوان كثيرة أخرى.

(يتبع)

ع. ا

ص: 57

‌من هنا ومن هناك

ثروتنا تكسب الحرب

(ملخصة عن (الأوفر))

كانت ألمانيا عام 1914 تعتقد أنها ستمحو فرنسا في أسابيع معدودات. ولكن الحرب مع ذلك دامت أربع سنوات. وقد تكون الحرب الأسبانية أكثر دلالة على أن الحروب العصرية ليست من الحروب القصيرة المدى، وإن تفوقت الدول المحاربة في التسلح. لذلك نستطيع أن نقول إن الحرب الأوربية الحالية ستكون حرب اجتياح

وتدل الجهود المضنية التي تبذلها ألمانيا في سبيل إصلاح حالتها الاقتصادية، على أن الدول الدكتاتورية لن تجد الفرصة المواتية في مثل هذه الحرب

ويقول (ميجر - جنرال توماس): أن القوة الاقتصادية في الحروب الطويلة لها شأن أعظم من القوى الحربية، وقد برهنت الحرب العظمى عام 1914 - 18 على صدق هذا القول. وهو في الأيام الحاضرة يزداد صحة وتأييداً

إن نظام ألمانيا الاقتصادي يقوم منذ زمن طويل على أسس واعتبارات حربية، وتدل محاولاتها في غرب أوربا على حاجتها الملحة إلى الحنطة والبترول

ولا مفر من الاعتراف بأن ألمانيا أقل استعداداً للحرب من الناحية الاقتصادية مما كانت عليه سنة 1914. فالثروة الألمانية أقل مما كانت في ذلك العهد. والألمان لا يستطيعون أن يقوموا بإنتاج الأطعمة والسلع التي تسد حاجتهم أيام الحرب، بل لا يستطيعون كذلك أن يحافظوا على التوازن اللازم بين الصادر والوارد. فهم إذن إما أن يثقلوا كاهلهم بالديون أو يلجئوا إلى الاحتياطي الضئيل الذي لديهم من الذهب فينفقوه

ويعتقد (بول إبنزج) الاقتصادي الإنجليزي المشهور أن الاحتياطي الذهب سيكون له الشأن الأول في هذه الحرب دون سائر الشؤون الخاصة بالحرب. ومما لاشك فيه أن ألمانيا لم تكن في عهد من العهود أكثر استعداداً من الناحية الاقتصادية مما كانت عليه سنة 1914، ومع ذلك فقد ضاقت بها سبل الاقتصاد، ومن الحق أن يقال إنها جاءت وتسلحت، ولا يستطيع شعب من الشعوب أن يجابه الجوع والضغط أربع سنوات، تزداد حالته فيها سوءاً يوماً بعد يوم، ومن البديهي أن هتلر إذا استطاع أن ينال بعض الموارد عن طريق

ص: 58

الاغتصاب، فإن هذه الموارد لا يمكن أن تزيد على موارد ألمانيا في الحرب السالفة؛ وهي مع ذلك لا تكفي لإقامة نظام اقتصادي ثابت يضمن لبلاده المال الاحتياطي الضروري لها عند الأزمات.

يقول الدكتور (فرد نزبرج) الأخصائي الألماني: إن ألمانيا تحتاج من البترول في زمن الحرب إلى ما يتراوح بين خمسة عشر وعشرين مليوناً من الأطنان كل عام، ولا يزيد ما يستخرج منها على ثلاثة ملايين في العام. وبقدر محصول رومانيا من هذه المادة بثمانية ملايين من الأطنان على أكبر تقدير، وإذا وجهنا نظرنا نحو الدول الديمقراطية، وجدناها أكثر استعداداً اليوم منها سنة 1914. فاحتياطي الذهب في إنجلترا وفرنسا يزيد خمسين ضعفاً على الاحتياطي الموجود بألمانيا الآن، وللدول الديمقراطية موارد أخرى فيما وراء البحار تستطيع أن تزودها بما يكفيها عند الحاجة. ولا ننس هنا أن أمريكا على استعداد لتمونها بما تحتاج إليه دون أن يؤثر ذلك في مركزها الاقتصادي العتيد.

من هنا يتبين أن الميزان الاقتصادي راجح في ناحية الدول الديمقراطية، ولا تجهل ألمانيا ذلك، ولكنها تمني نفسها بفكرة الهجوم السريع، ولكن الحرب في أوربا اليوم لا تعرف القصر

نشرة نازية!

(من بنك التوفير العام ببرلين)

حدث بعد إقالة دكتور شاخت من رآسة بنك الريخ تغيير كبير في سياسة ألمانيا المالية. فقد كانت أثمان الأطعمة والملابس حتى ذلك العهد تزداد زيادة لا تصل بها إلى حد التضخم، فقد علمتنا الأيام أن تضخم الأسعار يبدأ بزيادة الأثمان كل شهر، وتعلو ثم تعلو حتى تصير في كل أسبوع، ولا تنتهي حتى يصبح المبلغ الذي يدفع في يوم الجمعة لا يساوي شيئاً في يوم الاثنين الذي يليه. وقد تبين في عام 1938 أن إيراد الضرائب لا يكفي لسد ما تنفقه الحكومة في التسليح، فعمدت إلى سد هذه الثغرة ببعض القروض، ولكنها وجدت في عام 1939 أن تلك القروض لم تكن لتكفي لإمدادها بالمال الذي تريده. فلجأت إلى فرض الغرامة اللازمة على الأمة. وكانت حتى ذلك العهد مترددة بين أمرين: إما أن ترفع

ص: 59

الضريبة، أو تزيد في عدد الأوراق المالية. وكان من رأي دكتور شاخت زيادة الضرائب. ولكن رجال المال وأصحاب الأعمال أشاروا على الحكومة باجتناب هذه الطريقة لأن ماليتهم لم تعد تحتمل زيادة في الضرائب على الإطلاق. وعلى ذلك فقد لجأت الحكومة إلى توسيع دائرة الأوراق المالية مع فرض بعض الضرائب. وكان من البديهي بعد ذلك أن ينحى دكتور شاخت عن منصبه، إذ لا يتسنى للحكومة أن تترك مالية الدولة في يد رجل رفع عقيرته بالاحتجاج عليها صراحة حين اعتزمت زيادة الأوراق المالية المتداولة

نحن لا نستطيع أن ننكر بحال من الأحوال أن السياسة المالية الجديدة قد جعلت المصارف على حافة الخطر، وعلى الأخص مصرف التجنيب (التوفير)

إننا لا نشك في فائدة التسليح، ونود أن يكون لألمانيا استعداد حربي يفوق كل أمة على وجه الأرض، ولا يمكننا أن ننصح لأصحاب الأموال بأن يسحبوها من المصارف إذ يصير من المتعذر على الحكومة أن تعقد قروضاً جديدة بعد ذلك، ولكننا على العكس قد أصبحنا مضطرين تحت ضغط بعض الظروف والاعتبارات أن نمنع سحب الأموال من المصارف لتبديدها بغير وعي في شؤون الرفاهية والأهواء. فحياة الدولة كما يقول الفوهرر في ثروتها. ونحن نعد أموال عملائنا من مالية الأمة ومرافقها العامة. فهي العمود الفقري لتسليح البلاد. لذلك نستطيع أن نقول لكل إنسان في ألمانيا دع أموالك لبنك التوفير

ألم الشعور بالوحدة

(عن (يور لايف الأمريكية))

في الحياة آلام كثيرة، ومن أقسى تلك الآلام الوحدة

والوحدة التي نعرفها بالانفراد، نختلف كل الاختلاف عن شعور الإنسان بأنه وحيد، كل إنسان يميل أن يكون وحيداً في بعض الأحيان. وقد يثير نفسه ويضجرها أن يكون قريباً منه أحب الناس إليه. والمرء ينشد الهدوء والعزلة في بعض الأوقات ليفكر ويستريح، ويبني قصوراً في الفضاء. إلا أن الوحدة تثلم القلب وتؤذيه وتؤدي إلى الكآبة، وتحرك في النفس أفكار السوء. والنفس الوحيدة تشعر على الدوام بأنها غريبة عن العالم مجفوة من بنيه، ومن العجيب أن صاحبها يشعر بالوحشة وهو في المدينة تعج بالملايين من السكان

ص: 60

المحيطين به المجاورين لداره، كما لو كان وحده وسط صحراء قاحلة لا صديق فيها ولا أنيس

ومما يثير في نفوسنا شعور الوحدة، كبت بعض الغرائز التي تريد الظهور، ففي كل إنسان غريزة تدعوه إلى البحث عن رفيق من الجنس الآخر. وكبت هذه الغريزة يسبب له كثيراً من الآلام

من الطبيعي ولاشك أن يكون الإنسان وحيداً، ولكن الوحدة ليست من الأمور التي تؤخذ بالوراثة، ولا من الغرائز التي لا يمكن التغلب عليها وتغييرها. فنحن لم نخلق في هذه الحياة بهذا الضعف، إن الظروف هي التي جعلتنا كذلك، وفي وسعنا أن نغير هذه الظروف فلا نعود إلى احتمال آلام الوحدة بعد

ويختلف علاج الوحدة بالوحدة باختلاف الأشخاص والأحوال، فبعضنا يعاني آلام الشعور بالوحدة حتى يتزوج، وبعضنا يعاني الوحدة حتى يكون له أبناء، وبعضنا يؤنسه كلب صغير أو طائر جميل. وقد كان للمذياع فضل كبير في معالجة هذا الداء عند الكثيرين، كما أن للقراءة والأفلام المصورة فضلا يذكر في هذا الشأن.

من هنا يتبين أن علاج الوحدة يختلف باختلاف الظروف والبيئات. فقد يكون لعصفور صغير فضل كبير في معالجة إنسان من هذه الحالة، وقد يكون للطبيعة فضل في معالجة إنسان آخر. وقد يأنس بعضنا بمشاهدة حفلات الرقص، وقد يأنس البعض بمشاهدة بعض المباريات الرياضية والاندماج في غمار الناس

ومن واجب الشخص الوحيد أن يتعلم كيف يتصل بالناس، وألا يضيق على نفسه كثيراً في اختيار معارفه، فإن الأمور يؤدي بعضها إلى بعض

ونحن نستطيع أن نقهر الظروف وان نحكمها، إذا قوينا غرائزنا وأفسحنا لها الطريق المران. فإذا أخذنا بهذه الأسباب أتيحت لنا الفرصة للتغلب على أحوالنا، فأصبحت تأتمر بما نريد.

البريد الأدبي

تاريخ الآداب العربية لبروكلمن

سبق لي أن وصفت الجزء الأول والثاني والثالث لذلك الكتاب من غير توسع ولا إفاضة

ص: 61

في الفحص عن المسائل المتناولة والتفصيلات المتفرقة في البحث. واليوم أعدل عن الوصف المجمل إلى تعقب الفقر بعض التعقب. وقد وعدتُ الأستاذ بروكلمن نفسه بذلك، ولا أدري هل يصله هذا العدد من الرسالة وقد انقطع حبل البريد بين مصر وألمانية

يجري الكلام في الجزء الرابع على النثر في مصر. وإليك أسماء الذين نظر المؤلف في آثارهم: فرح أنطون، محمد إبراهيم المويلحي، المنفلوطي، محمد حسين هيكل، منصور فهمي، محمد عبد الله عنان، شبلي شميل، سلامة موسى، يعقوب صروف، فؤاد صروف، محمد تيمور، محمود تيمور، نقولا الحداد، محمد فريد أبو حديد، خير الدين الزركلي، الهلباوي، حسين شفيق المصري، عبد الله حبيب، عبد العزيز عمر الساسي، توفيق الحكيم، طاهر لاشين، حسين فوزي. ثم عاد المؤلف إلى الكلام على أحدث ما أخرجه العقاد ومحمود تيمور بعد أن تناول هذا في صدر الجزء الرابع وذاك في الجزء الثالث. وهنالك طائفة من الكتاب لم يتمهل المؤلف عندهم بل قنع يذكر أسمائهم وإثبات كتبهم وتصانيفهم، والحق أن بعضهم، مثل إبراهيم المصري، يستحق فوق هذا، وكان أولى به أن يشغل المحل الذي ظفر به بعض صغار الكتبة (أنظر مثلاً ص241)

ولن أناقش هنا آراء المؤلف في كتابه، فقد قلت من قبل إني مرجئ هذا حتى تخرج الأجزاء كلها فينتظم سلك المناقشة وينبسط على ما تقدم وما تأخر. وإنما هي اليوم التنبيه على بعض الأوهام حتى يتمكن المؤلف من مراجعة ما فاته في المستدرك الذي أخبرني بأنه صانعه:

1 -

رسم الكلمات العربية بالحروف الرومانية ورسم الأعلام الإفرنجية

ص 193: سياحة في أرز لبنان - لا: عرز لبنان - ابن الشَعب - لا: الشِعب

ص 214: مُقدمة السوبر من - لا مَقدمة

ص 217: أساطين العلم الحديث (لفؤاد صروف)، لا: أساطير

ص 220: مَهْزَلة الموت - لا مُهْزِلة

ص 226، 228: مسامرات الشَعب، لا: الشِعب

ص 228: مرقص فهمي، لا: مَرقوص

ص 233: محمد عَوض، لا: عِوض

ص: 62

ص 234: شِحاته عُبيع، لا: شحّاته

ص 236: مصطفى الهِلباوي، لا: الهُلباوي

ص 241: لا: (وكان من المدرسين الإنجليز في كلية الآداب عندنا)

ص 243: لا: (وهو المؤلف المسرحي الفرنسي لهذا العهد)

ص 243: لا: (وهو الذي نقل إلى الفرنسية (شهرزاد) لتوفيق الحكيم)

ص 243: صلاح الدين ذُهني، لا: ذِهني

ص 248: كوم حمادة، لا: حمّادة

ص 266: رواية قَصصية، لا: قِصصية

2 -

بعض الواقعات

ص 215 و 217: يجعل المؤلف لفؤاد صروف لقب دكتور ويقول إنه ابن يعقوب صروف، والوجه أن صديقي الأستاذ فؤاد ليس بدكتور وأنه ابن أخي يعقوب صروف

ص 235: أدخل المؤلف خير الدين الزركلي في كتّاب مصر باعتبار الإقأمة، وهو من أدباء الشام أصلاً

ص 240: جعل المؤلف أحدهم مهندساً في مصلحة السكة الحديدية وهو موظف صغير فيها

وبعد، فهذه مآخذ حقيرة الشأن لا تضير عمل الأستاذ بروكلمن وهو جليل، ولو كان الأستاذ يعيش بين ظهرانينا ما فاته مثل هذه الهفوات، إلا أنه بعيد عن البيئة التي يكتب فيها، أجنبي عن أهلها

بشر فارس

رجع

أقول لصديقي الدكتور زكي مبارك إني لم أقل (بوجوب إلقاء الشعر كما يلقى النثر). فليراجع كلمتي الأولى والثانية (الرسالة 330، 332) يقرأ ما حرفه: (فإن الشعر لعهدنا هذا في أوربا (وعنها نأخذ فن التمثيل) يلقى على المسرح كأنه نثر (إذاً: في أوربا وكأنه). وسبب ذلك أن القصيدة تقوم بمعانيها وألفاظها لا بتفاعيلها. . . وخير من إنشاد البيت

ص: 63

بتقطيعه وفصمه مصراعين والضغط على القافية الراجعة أن يُنشَد على حسب انسياب المعنى في تضاعيفه) ثم (ومما يحق على الوزن أن ينتشر خفية في تضاعيف البيت). وعلى هذا فبيّن أن المحل الأول عندي في إلقاء الشعر على المسرح للمعنى واللفظ وأما الوزن فليكن كالنغم الخفي يذهب ويجيء من وراء ستار رقيق. وأظنني بينت الأسباب التي من أجلها أغلِّب إلقاء الشعر بحسب المعاني والألفاظ على إلقائه بحسب التفاعيل. فهل أعود إلى التبيين؟

وأما تهديد الصديق إياي من أجل ليلاه - حَفِظت لطبيبها العهدَ! - فمما أنشط له. ألا أعِدْ عليَّ يا زكيُّ صروف ليالي باريس ومحن أيامها، فقد لعمري سئمت حياة الطمأنينة ومصر كلها اطمئنان. ألا (أطمح رأسي عن كتفي) ولا تخشَ بأساً فلا ليلى لي فتنوح علي. وهل تكون ليلى، على مرضها، إلا لمثلك. يا للجمال والفتنة ووسوسة الشياطين! وأعوذ بالله من شيطان غير رجيم. . .

ب. ف

إلى مشيخة الأزهر فمشيخة المقارئ

ظهرت طبعة جديدة للمصحف الشريف بعنوان (التنزيل الرباني بالرسم العثماني) قام بطبعها ونشرها عبد الرحمن محمد الكتبي بشارع الصنادقية بميدان الأزهر

وقد وقع في يدي مصحف من هذه الطبعة، فسأني أن أجد بكتاب الله أخطاء منشؤها التهاون في التصحيح والإهمال في المراجعة، كما سرني أن أعلن للناس عنها، ليصلحها كل من كان عنده مصحف من هذه الطبعة ذات الحجمين وإليك البيان:

ص 9 س 4: ـم والصواب: نم

ص 64 س 13: الغيتوالصواب: العنت

ص 87 س 7: حاءتهموالصواب: جاءتهم

ص 97 س 4: ادكر والصواب: اذكر

ص 112 س 10: ـطعمهاوالصواب: يطعمها

ص 112 س 10: نشاء وزعمهم والصواب: نشاء بزعمهم

ص: 64

ص 198 س 2: فيضلَّوالصواب: فيضلُّ

ص 249 س 15: يومئدوالصواب: يومئذ

ص 254 س 13: ءاينيوالصواب: ءايتي

ص 255 س 10: أتنا والصواب: أتينا

ص 258 س 1: أتوالصواب: أنت

ص 258 س 14: ميهاوالصواب: فيها

ص 260 س 11: ـجدلوالصواب: يجدل

ص 292 س 15: علهوالصواب: عليه

ص 302 س 1: ضللهموالصواب: ضللتهم

ص 309 س 16: من مضلهوالصواب: من فضله

ص 311 س 2: ـالحسنةوالصواب: بالحسنة

ص 312 س 12: ميهموالصواب: فيهم

ص 314 س 9: هده والصواب: هذه

ص 320 س 13: حلقكمموالصواب: خلقكم

ص 424 س 9: ولا حانوالصواب: ولا جان

هذه هي الأخطاء التي استرعت نظري. ولا أقول إنها كل ما في المصحف، بل هي ما عثرت عليه في فترات متقطعة. وكل ما نريده أن تتخذ مشيخة المقارئ وذوو الشأن إجراءات لتصحيح هذا الخطأ وتلافي ذلك الأمر

عبد الحفيظ أبو السعود

في كلية الآداب

قرأنا كلمة الدكتور بشر فارس في العدد السابق من الرسالة تحت عنوان (في كلية الآداب). ولا ريب أن هذه الكلمة أصابت الهدف ونبهت الأذهان إلى أشياء إن كانت معلومة عند أغلب الجامعيين إلا أنها خافية عن الجمهور الذي حقه أن يكون مطلعاً على ما يجري في دوائر العلم والثقافة

ص: 65

وبهذه المناسبة يحضرني أمران عن ذلك المدرس الأجنبي الذي قال فيه الدكتور بشر أنه (يتلطف ليظفر بإدارة شؤون مكتبة الجامعة). الأمر الأول يتلخص في أن كلية الآداب كانت قد أخذت صورة فوتوغرافية للترجمة العربية من كتاب (الارغانون)(منطق أرسطو) وهو مخطوط في المكتبة الأهلية في باريس. فلاحظ بعضهم أن الهوامش غير واضحة في الصورة وكذلك كل ما هو مكتوب بالمداد الأحمر. فكلفت الكلية ذلك المدرس الأجنبي بان يراجع الهوامش ويتمها في باريس في صيف 1938 وصرفت له أجراً كبيراً لذلك، والذي حدث أن هذا المدرس عاد من باريس بدون أن يقوم بما كلف به، والدليل على ذلك هو أن كتاب أرسطو كان طول مدة صيف 1938 - أي أثناء وجود ذلك المدرس الأجنبي في باريس - بين يدي عالم مصري عاد من باريس في نهاية الصيف

أما الأمر الثاني فهو خاص بإعادة طبع كتاب (كليلة ودمنة)، وتفصيل ذلك أن مطبعة المعارف كانت قد عزمت على إعادة طبع هذا الكتاب ورأت أن تعهد بمراجعته إلى لجنة مكونة من بعض كبار رجال وزارة المعارف. فسألت في ذلك الدكتور بشر فارس فكان من رأيه أن تعهد بهذا العمل إلى رجال الجامعة لأنهم أدرى بفن مقابلة المخطوطات ومراجعة المصادر في السريانية والفارسية ثم اللغات الحديثة واقترح للعمل أسماء: الدكتور طه حسين لكتابة المقدمة والمراجعة الأخيرة للأصل العربي والأستاذ عبد الوهاب عزام للمخطوطات الفارسية، والدكتور مراد كامل للمخطوطات السريانية فضلاً عن استشارة المصادر الحديثة وبخاصة الألمانية. والذي حدث بعد ذلك أن المدرس الأجنبي حل محل الدكتور مراد كامل وأن كان الدكتور مراد كامل هو الذي يدرس اللغات السامية ومنها السريانية في كلية الآداب فهذان أمران يدلان على أن ذلك المدرس الأجنبي يحظى برعاية خاصة قد لا يحضي بها مدرس مصري

(جامعي)

يوميات نائب في الأرياف للأستاذ توفيق الحكيم

نقل هذا الكتاب إلى الفرنسية الأستاذان جاستون فيت وزكي محمد حسن، وقدم له صاحب السعادة الدكتور حافظ عفيفي باشا ونشرته (مجلة القاهرة) الفرنسية، وقد كتب عن الناقد

ص: 66

الأدبي لمجلة (مريان) في أحد أعدادها الأخيرة ما يأتي: (قرأت في سرور عظيم (يوميات نائب في الأرياف) للسيد توفيق الحكيم. وهي صورة حية للريف المصري تغلب على أكثرها الفكاهة وتظهر في بعضها القسوة. رسمها رجل من رجال الضبط القضائي الذين لا يستطيعون أن يقفوا عند الألفاظ بحكم وظيفتهم. فبرز هذا العالم الصغير على صفحات الكتاب في خفة عجيبة وجلاء باهر. وفي الغالب ينسى القارئ الفكرة الإصلاحية التي حركت الأستاذ توفيق الحكيم حتى ليتمنى أن يبقى كل شيء في هذه المجموعة الإنسانية على حاله ما دامت الإمتاع والغرابة. ولكن من المؤكد أن كثيراً منها سيتغير.

إن المؤلف إذا لم يقنع بالألفاظ فانه لا يمضغها أيضاً. ومع ذلك فإن الذي يبقى في ذاكرة القارئ هو شعبية الحادث وطبعية الملاحظة واطراد السياق. إن الأستاذ توفيق الحكيم هو لا شك كاتب مطبوع. وهو يكتب ليرشد ويكتب وينقد ويعلن، وليسامحني إذا أضفت إلى ذلك أنه يكتب أيضاً لمجرد الرغبة في الكتابة)

حول الأمير شكيب أرسلان

. . . قرانا ما نشرتموه في الرسالة عن عطوفة مجاهد الإسلام الكبير الأمير شكيب أرسلان نقلاً عن إحدى الصحف اللبنانية. والصواب هو أن الأمير يقيم في جنيف وقبلها في لوزان منذ أعوام كثيرة يدافع عن الإسلام والأوطان العربية، ولما عاد إلى سويسرا بعد زيارته لمصر اقتضت ظروفه أن يزور ألمانيا لشأن يتعلق بمنزل يمتلكه في برلين منذ عشرين سنة، والبيت مرهون الآن ومحجوز عليه. وبعد أن سوى مسألته على وجه عاد إلى جنيف ليصوم رمضان في بيته بين عائلته. وأخر أخبار الأمير الجليل أنه كان في أواخر رمضان في مدينة زيورخ السويسرية لزيارة صديقه القديم صاحب المقام الرفيع عزيز عزت باشا، وقد بلغنا أن الأمير يفكر في ترك أوربا والسكنى في الحجاز إلى أن تنتهي الحرب والسلام عليكم.

عربي

صدى صوت من ألف عام

أشكر للأستاذ النجار نصحه وتنبيهه، فقد دلَّ في استهلال حديثه على براءة نقده ونزاهة

ص: 67

قصده. أما ما نشرت من شعر الأمير تميم في مساجلة ابن المعتز العباسي، فما كان يسعني، وأنا أنشر الأنواع المختلفة من شعر تميم أن أهمل نوعاً منها، لأنه يتناول خلافاً سياسياً لا وجود له عند أحد من الناس، ولا عند الأستاذ النجار أيضاً.

وقد نشرت في هذا العصر عشرات الكتب وفي طليعتها عصر المأمون وبهذه المطبوعات الحديثة شعر يؤيد العباسيين وشعر آخر في هجائهم والطعن عليهم، فلم يوجه مثل هذا النقص الذي لو وجه إلى كل مؤرخ لبطل التاريخ من أساسه، أو اتهم المؤرخ على الأقل بإثارة الفتنة أو انتحال دين الأمة التي يؤرخ لها وقد تكون وثنية. وأنا حين أكتب عن الفاطميين لا أستطيع أن أهمل شأناً من شؤونهم، فلسنا في عصرهم ولا في عصر منافسيهم. وكتمان الحقائق العلمية خوفاً من فتنة موهومة من شأنه أن يطمس آثار العلوم ويضلل الأذهان ويترك باب الفوضى مفتوحا للأراجيف الباطلة التي شاع بسببها سوء الظن وانتشرت دواعي الفرقة بين شعوب الإسلام لجهل بعضهم ببعض.

ثم إني أعتب على الأستاذ تناوله موضوع الأخوة الإسلامية في موضوع كتبته أنا بصفتي الشخصية، ولم أذكر فيه الجماعة، ولا أني أحد أعضائها. فأرجو أن لا يغيب عن الأستاذ ولا عن غيره أنني حين أتناول الأدب أو التاريخ أو الفلسفة لا أكتب لحساب الجماعة ولا لغيرها، بل أكتبه للحق وللواجب.

محمد حسن الأعظمي

مصر في أفريقيا الشرقية للدكتور محمد صبري

الدكتور محمد صبري مدير الثقافة والنشر علم من فقه التاريخ وأصول الأدب. شغل الأذهان وملأ الأسماع حيناً من الدهر بمؤلفاته ومقالاته وبحوثه. ثم اعتكف منذ أعوام في دور الكتب ودواوين السجلات في مصر وفي أوربا يجمع النصوص، ويطلب الوثائق، ويستخرج الدفائن، ويسأل الآثار، حتى اجتمع له عن تاريخ مصر في القرن التاسع عشر ما لم يجتمع لغيره. ثم توفر على تحرير هذا التاريخ في عمومه وخصوصه بعدة المؤرخ الموهوب والقارئ المتتبع والكاتب المحلل؛ وهو في أثناء ذلك يفرد النقط المهمة بالتصوير الخاص بالتصوير والنشر المستقل جلاء لغامض أو تحقيقاً لفرية أو استنباطاً لعبرة. ومن

ص: 68

تلك الموضوعات الخاصة التي أراد الأستاذ أن ينشرها تحديداً للذكرى (التي تنشر الأمل وتحفز الهمم وتجرف قوى الاضمحلال البادي في وجه الدولة وفي كل عضو من أعضائها) كتاب مصر في أفريقيا الشرقية: هرر وزيلع وبربرة.

وهو كتاب لطيف الحجم أنيق الطبع رائق الأسلوب، ألم فيه الدكتور بتاريخ هذه البلاد واستعمار إسماعيل لها وتاريخ الحكم المصري بها، معتمداً في ذلك على ما لم ينشر من مخطوطات قصر عابدين ومحفوظات وزارة الخارجية الإنجليزية وعلى ما نشر من المطبوعات الأوربية فجاء الكتاب حقيقياً بعبقرية الكاتب خليقاً بثقة القارئ

الطفل من المهد إلى الرشد للأستاذ محمد خلف الله

هو كتاب جديد في العربية، يتناول موضوعاً طالما شعر الآباء والمعلمون والمشتغلون بشؤون التربية عامة بحاجتهم إلى كتاب في العربية يتناوله على أسلوب من البحث العلمي يكشف لهم السبيل ويحدد لهم النهج في دراسة الطفل دراسة نفسية تعينهم على ما هم بسبيله من شؤون التربية

وإذا كانت أكثر المصادر في مذاهب التربية وعلم النفس أوربية لا يتأنى لغير الدارس المتخصص أن يلم بها إلماماً يعينه على القصد؛ فإن لنا أن نزعم أن كتاب (الطفل من المهد إلى الرشد) هو محاولة موفقة لتعريب هذا الفن

على أن فائدته إلى ذلك لا يستغني عنها أحد من رجال التربية، فإن فيه جهداً شخصياً يطبعه بطابع مؤلفه ويرفعه منزلة فوق كثير من الكتب المنقولة إلى العربية في هذا الفن. وحسب القارئ أن يعلم أن مؤلفه وضعه أول ما وضعه بالإنجليزية بعد دراسة تسع سنين وتقدم به إلى جامعة لندن فمنحته به درجة الأستاذية في علم نفس الطفل

ص: 69