المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 335 - بتاريخ: 04 - 12 - 1939 - مجلة الرسالة - جـ ٣٣٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 335

- بتاريخ: 04 - 12 - 1939

ص: -1

‌جسومنا وعقولنا

بين الصحة والمعارف

إذا عجبت من أن تقوم فينا وزارة المعارف قرناً ونيفاً ثم يظل ثدرس في مانية أعشارنا أميين، فإن أعجب العجب أن تقوم فينا وزارة الصحة زهاء هذا العمر المبارك ثم لا يزال تسعة أعشارنا مرضى

ولا تحسبن ذلك لأن شعبنا بدع من الشعوب هواه في أن يجهل ومزاجه في أن يمرض؛ فإن الله لم يخلق إلى اليوم إنساناً يكره المعرفة ولا حياً يرفض السلامة. إنما السبب الأول في هاتين الظاهرتين الخاصتين بهذا البلد أن القائمين على ثقافة والمسؤولين عن سلامته قد حصروا همهم في الديوان، وقصروا جهدهم على الشكل، فلم يشغلوا ذرعهم إلا بالتعيين والنقل والترقية والميزانية والدرجات والامتحانات والتقارير والتجارب والدسائس، ولم يكلفوا أنفسهم النظر من نوافذ المكاتب الرسمية إلى هذا الشعب الذي يعيشون عليه ويعملون له، فيضعوا سياستهم على مقتضيات حالة، ويرسموا خطتهم على دواعي حاجته.

أما الحديث عن ماضي المعارف وخيبتها في كفاح الجهالة وتبعتها من هذه الخيبة، فقد جف من تكراره المداد والقلم، فلندعها في ذمة الرجلين العظيمين النقراشي والسنهوري، فعلى استقلالهما في الرأي يعقد الرجاء، وبإخلاصهما في العمل تناط الثقة؛ ولنمض في الحديث عن وزارة الصحة فقد رعانا أن يتخطفنا الموت احتضاراً وعلى حراستنا جيش من الأطباء له المستشفيات المنشأة على آخر طراز، والمعامل المجهزة بأحدث جهاز، والصيدليات المزودة بأندر الأدوية؛ وأصبحنا كلما رأينا القرى والقبور تكتظ بضحايا البلهرسية والأنكلستوما والطحال والملريا والبلغرا وداء الفيل ننكر الواقع ونفكر ونطيل التفكير، ثم نسأل ونكثر السؤال: هل في مصر وزارة للصحة؟ وهل في وزارة الصحة أطباء؟ وهل لأطباء الصحة ضمائر؟ ولا تكلفني الإبانة عن آراء الناس، فإنك تستطيع أن تسأل هذه الأسئلة فيكون لديك من الأجوبة عنها ألوف مختلفة الصيغ والأساليب في التألم والتهكم والالتهام والشكاية والزراية والضغينة واليأس. ثم تسمع عن المستشفيات الحكومية في حواضر الأقاليم شجوناً من أحاديث الإهمال والقسوة والفوضى وغير ذلك مما تمسك عن ذكره محافظة على ما بقي فيها من الثقة. ولكنني أحد اللذين جندوا في جيش الإصلاح

ص: 1

وفرض عليهم أن تكون أقلامهم عارية كالسيف، وأصواتهم عالية كالمدفع، وألسنتهم صريحة كالحق، فأنا أروي لك حالة قريتي في وراثة المرض، ونصيب قريتي من وزارة الصحة، وحظ قريتي من الأدواء والأطباء هو حظ كل قرية: هي جزيرة من الأكواخ والحضائر في مستنقع وخيم من مصافي المزارع؛ نمت على عفنها وأسنها جراثيم الأمراض المتوطنة فجعلت كل وجه في صفار الخوف، وكل جسم في هزال الجوع، وكل حي في همود الموت. وقطعت مراحل عمرها الماضي على هذه الحال الشديدة، لا يزهر فيها شباب ولا تثمر بها كهولة. ولم يكن لمصلحة الصحة يومئذ إلا شبه طبيب في المركز لا تراه القرية إلا إذا أنتشر وباء أو وقعت جناية. وعمله كله مع حلاقي القرى: يصرح لهم بدفن الموتى من بعد، ويكلفهم جلب المرضى إلى عيادته من قرب، وعلاجه قائم على البركة والتوكل: ماء من الترعة القريبة يشتمل على عقور مسهل. فلما صارت هذه المصلحة وزارة أرادت أن يكون لها كالوزارات عمل، فأنشأت المستشفيات الثابتة والمتنقلة، ودرست الأمراض الوافدة والمستوطنة، وقررت تطهير القرى بقتل الأمراض وردم المناقع. وكان من نصيب حضرتنا مستشفى، ومن حظ مركزنا طبيب. فأما الطبيب فقد عجز عن ردم البركة لأن مالكها الباشا لا يريد، وإذا لم يرد الباشا وجب ألا يريد الناس، لأنه يملك الخراف والسمن والفاكهة والكلمة المسموعة. وأما المستشفى فقد دعي القرويين إلى طبه فهرعوا إليه من كل طريق. وأنحني طبيبه على الأذرع الذابلة بالحقن العنيف، فخشع الداء، وتنبهت العافية، وشعر الفلاح أن في (الاسبتالية) رجاء وفي الطب منفعة، فأزداد وفود المرضى على المدينة حتى شرقت الشوارع وغص المستشفى وضاقت المساكن. فلما وثق الطبيب من الإقبال جعل منزله عيادة خاصة، وسلط أعوانه على المرضى ينفرونهم من المستشفى، ويرغبونهم في العيادة، حتى أشاعوا أن الطبيب يحقن هنا بالماء، ويحقن هناك بالدواء. وأخذ هو يقسوا في المعاملة ويهمل في المعالجة ويشتط في القبول، حتى أشتد على الناس الأذى، وخرجت بهم الأخرجة، وكثرت فيهم الوفيات، فانقطعوا في دورهم مفضلين الموت البطيء الهادئ على الموت السريع المضطرب. وعادت الجراثيم الطفيلية ترتع في الكلأ الآدمي المباح، فلم يبقى في القرية من لم يخامره داء. ثم أنتشر من استفحال البلهرسية داء الطحال فانتفخت البطون واصفرت الأطراف

ص: 2

وثقلت الجوارح، فمات به الأكثرون، ولاذ بعض الأقلين بالقصر العيني يرجون استئصال الداء بالجراحة؛ وقد سمعوا أن أساطين الطب من أساتذة الجامعة هم اللذين يتولون الفحص ويزاولون العلاج ويباشرون العملية، ولكنهم حين دخلوا لم يجدوا إلا أطباء كأولئك الأطباء، ونظاماً كذلك النظام، ومعاملة كتلك المعاملة. أما بقراط وجالينوس وأبن سينا فقد اتخذوا من (القصر) عنواناً ومن (الكلية) وظيفة. فهم يحضرون - إن حضروا - ساعة النهار، فيقابلون أطباء الامتياز، ويحادثون طلاب الطب، وغاية المقابلة أو المحادثة إشارة أو عبارة، ثم ينقلبون سراعاً إلى عياداتهم أو مستشفياتهم يعملون فيها بقية النهار وطرفاً من الليل بصبر الفقير إلى الناس، وعزم الكادح لنفسه.

هذه حال قريتنا في عهد من العهود وكل القرى المصرية على هذا الحال. وإن الناس لينسجون حول المستشفيات الرسمية من الحوادث والأحاديث ما لا يجرؤ القلم على روايته مهما شجع. ولعل في هذه الإشارة ما ينبه أولي الأمر في وزارة الصحة إلى شدة الحسابات ودقة المراقبة؛ فإن الاعتماد في كفاح المرض على التقارير والدفاتر والأرقام، أشبه بالاعتماد في كفاح العدو على رسم المعارك في الورق وكسبها بالكلام!

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌مع أبي العلاء في سجنه

للأستاذ عباس محمود العقاد

قال صديقنا الدكتور طه حسين في تبيين مقصده من كتابه هذا: وستقول فانك إن مضيت على هذا النحو لم تقدم إلينا كتاباً في البحث العلمي ولا في النقد الأدبي؛ وإنما تتحدث إلينا عن صديق! وهذا حق؛ فأني لا أقدم إليك كتاباُ في البحث العلمي عن أبي العلاء، ولا في النقد الأدبي لأبي العلاء، ولعلي قدمت إليك من ذلك ما فيه مقنع؛ وإنما أتحدث إليك عن صديق لا يرجى نفعه ولا يتقى شره؛ ولا يصدر المتحدث عنه إلا عن الحب المبرأ من الرغب والرهب ومن الطمع والإشفاق، أفتراك تكره مثل هذا الحديث؟ ألم تسأم هذه الأحاديث الكثيرة التي تمتلئ بالبحث العلمي والنقد الأدبي والتي تكتب ابتغاء لرضى الأصدقاء واتقاء لسخطهم. .؟)

وقد أحسن الدكتور القصد، وأحسن التعريف. فكتابه حديث المرء عمن يحب لمن يحب. واراه مذكري أحاديث الآباء عن أبنائهم الأعزاء: كيف يضحكون وكيف يبكون، وكيف يخطون وكيف يتعثرون؛ والسامع يرتاح إلى الإصغاء إن كان ممن يعنيهم أمر أولئك الأبناء، فأما إن لم يكن منهم فإلى غيره يساق الحديث، وليس من حقه أن يلوم المتحدث كما ليس من حق القارئ الذي يطلب الهندسة أن يلوم المؤلفين الذين لا يكتبون كتابة المهندسين

وأنا ممن يحبون أبا العلاء وممن أطالوا قرأته في أول عهد الشباب، وما أحسب أحداَ من الشبان المشغولين بالأدب لم تمض به فترة معرية في باكورة كفاحه حين تصطدم أحلام الصبا بمتاعب الدنيا وتجارب الأيام، فهناك يروقنا التشاؤم ويعجبنا من يعيبون لنا الحياة. ثم نخرج من هذه الربقة فنعاودها معاودة الحنين إلى تلك الباكورة المشتهاة، ونقرنها بذكرى الشباب وذكرى الأحلام، ونعطف عليها كما يعطف الرجل الجلد على بكاء طفولته وهي لا تستوجب بعض ذلك البكاء. فما زلت أعتقد وأزداد مع الأيام اعتقاداً أن بغض الحياة اسهل من حب الحياة، وأن الأدوات النفسية التي نلمس بها آلام الحياة اعم وأشيع وأقرب غوراً من أدوات النفس التي نلمس بها أفراح الحياة العليا ومحاسنها الكبرى. فالفرح أعمق من الحزن في رأيي ولا مراء! وليس الحزن قدرة بل هو انهزام أمام قدرة. . . أما الفرح فهو القدرة والانتصار. والدكتور طه لفرط حبه أبا العلاء يتهم نفسه بمحاباته فيقول: (قل إني

ص: 4

أوثر أبا العلاء وأحابيه وأرضى منه أشياء لا أرضاها من غيره فقد لا تخطى ولا تبعد، وأظنني نبهتك إلى ذلك في أول الحديث، وقلت غير مرة إني لا أملي كتاباً في البحث العلمي ولا في النقد الأدبي، وإنما أسجل خواطر أثارتها في نفسي عشرة أبي العلاء في سجنه وقتاً ما)

فمن المصادفات العجيبة أنني حابيت أبا العلاء على نحو قريب من هذا النحو، ولكني لم أسمها محاباة بل قلت إنها هي الإنصاف المعقول في قياس الأقوال بالقائلين، وعبت من نصحونا بأن ننظر إلى ما قيل لا إلى من قال، فكتبت قبل ثلاثين سنة في مذكراتي التي جمعتها باسم (خلاصة اليومية) أنها قاعدة لا يصح إطلاقها على كل حال. فالكلمة تختلف معانيها باختلاف قائليها، وكلمة مثل قول المعري:

تعب كلها الحياة فما أعج

ب إلا من راغب في ازدياد

يؤخذ منها مالا يؤخذ مما تسمعه في كل حين بين عامه الناس من التذمر من الحياة وتمنى الخلاص منها، لأننا نثق بأن المعري مارس الأمور الجوهرية في الحياة ودرس الشؤون التي تكون منها عذبة أو مرة، نكداً أو رغداً؛ ولم يسبر منها أولئك العامة إلا ما يقع لهم من الأمور التي لا تكفى للحكم على ماهية الحياة

فكلانا إذن يسمع القول من شيخ المعرة فيعجبه، ويسمع القول نفسه من غير الشيخ فلا يحظى عنده بذلك الإعجاب لكن صديقنا الدكتور يسميها محاباة ومجاملة لصديق، وأنا أجرى فيها على سنتي الغالبة في كل شيء من التوفيق بين الحجة والعاطفة فلا أبرح بالعاطفة حتى أقنع بها عقلي وأثبت له أنها جديرة بإقراره وترخيصه، فيعيش العقل والعاطفة معا في وئام، وأخلص بهذا مما يقع بينهما من ملام وصدام

وشيء آخر أخالف به الدكتور أو تخالف فيه طريقتي طريقته في صداقة أبي العلاء

فأنا لا أذكر أنني كرهت أحداً أحبه أبو العلاء، أو أحببت أحداً كان هو من كارهيه

أما الدكتور فيعلم ما كان في نفس صاحبه من الحب والإكبار لأبي الطيب ثم يقول: (أنا أقدر فن المتنبي وأعجب ببعض آثاره إعجاباً لا حد له، واعجب ببعضها الآخر إعجاباً متواضعاً أن صح أن يتواضع الإعجاب، وأمقت سائرها مقتاً شديداً، ولا تثير حياة المتنبي في نفسي إشفاقاً عليه ولا رثاء له، وإنما هو مغامر طلب ما لم يخلق له، وتعرض لما كان

ص: 5

يحسن أن يعرض عنه فانتهى إلى ما ينتهي إليه أمثاله المغامرون)

ترى ماذا كان المعري قائلاً للدكتور لو سمع منه هذا المقال؟ أخشى أن تكون وقيعة بين الصاحبين وأن كنت لا أخشى أن يعود الشيخ إلى استحسان قصيدة أبي الحسين التي مطلعها:

لك يا منازل في القلوب منازل

أقفرت أنت وهن منك أواهل

لأن الشيخ يعلم أن الدكتور لا يكره أبا الحسين كراهة الناقص للكامل ويستشفع له بشفيع من طيب النية وصدق الولاء والحق أنني أعجب لهذا النفور بين الدكتور وشاعرنا العربي الكبير، وما أنا ممن يستحسنون كل شعره ولا كل عمله ولكني أزن ما زاده في ثروة الآداب العربية وما زاده في شرور الحياة بسوء عمله وسوء خلفه فأعلم أن الحياة لم تفسد بفساد المتنبي وأن الأدب قد صل بصلاح شعره، وان لأصغر الهلافيت من خلق الله لسيئات أكبر من سيئات المتنبي بكثير واحتملتهم الدنيا مع ذاك. . . أفتحتمل الدنيا هذا من أصغر الهلافيت ولا تحتمله من الرجل الذي لو قبلنا حسناته بألف ضعف من سيئاته لكنا نحن الرابحين؟

هنا أيضاً أعود العاطفة والحجة واحسبني أقرب من الدكتور إلى وفاق الصداقة ببني وبين شيخ المعرة، واقرب إلى الإنصاف

أهذا كل ما أخالف به الدكتور من رأى أو هوى في حديثه عن صديقنا العظيم؟

كلا! بل هناك خلاف وخلاف، وأكثر من خلاف وخلاف هناك قول الدكتور تعقيباً على كلام الأديب الفرنسي بول فاليرى في المصور ديجاس (العجيب الذي لم أكن أتوقعه ولا أفترضه أن كثيراً من صفات هذا لمصور الفرنسي الذي كنت أسمع اسمه وأجهل من أمره كل شي تشبه ما ألفت وأحببت من صفات أبي العلاء. فشدة الرجل على نفسه إلى أقصي غايات الشدة، وشك الرجل في مقدرته إلى أبعد آماد الشك، وارتياب الرجل بأحكام الناس في أمور النفس، وزهد الرجل في الشهرة وبعد الصيت، في الثراء وسعة ذات اليد، وانصرافه عن الحمد الكاذب والثناء الرخيص، وتأجيله لذة الظفر بالفوز، وخلقه المصاعب لنفسه وبغضه للطرق القصار والأبواب الواسعة، وإيثاره الطرق الطوال والأبواب الضيقة - كل هذه الخصال التي يحدثنا بها بول فاليري عن صديقه وأثيره ديجاس قد حدثتنا بها

ص: 6

القرون والأجيال عن أبي العلاء، إلا أن الأول كان مصوراً رساماً والآخر كان شاعراً حكيماً. . .)

أفصحيح أن المعري وديجاس شبيهان في خليقة واحدة لأنهما على نفسيها صارمان؟

هنا قسوة، وهناك قسوة، وهنا تعذيب وهناك تعذيب، ولكن أين قلق الفنان في سبيل الخلق من قلق الناسك في سبيل الإحجام؟ أين تعذيب الجواد بالسوط لينبعث ويسبق من تعذيب الجواد باللجام ليسكن ويكف عن الوثوب؟ أين اللزوميات وهي قيود، من (الأمبرشنالزم) وهي انطلاق من القيود؟ أين رياضة الفقير الهندي المتقشف من رياضة الحسناء بالتقتير على جسدها في الشراب والطعام لتزداد جمالاً على جمال ونشاطاً على نشاط؟ أين الزهد في المال انصرافاً إلى الغني من الزهد في المال انصرافاً عن الدنيا؟ إن الفرق بين تعذيب وتعذيب ليبلغ أحياناً من السعة أبعد مما بين النعيم والعذاب، هكذا كان الفرق بين صرامة المعري وصرامة ديجاس

وثمة خلاف غير هذا الخلاف بيني وبين الدكتور في حديثه عن صديقنا القديم

فالدكتور ينقل شذرة من فصول المعري وغاياته يقول فيها: (يقدر ربنا أن يجعل الإنسان ينظر بقدمه، يسمع الأصوات بيده، وتكون بنانه مجاري دمعه، ويجد الطعم بأذنه، ويشم الروائح بمنكبه، ويمشي إلى الغرض على هامته، وأن يقرن بين النيروسنير حتى يريا كفرسي رهان)

ثم يعقب الدكتور على هذه الشذرة فيقول: (أما أنا فما أشك في أن أبا العلاء قد قصد بهذا الفصل خاصة إلى رأى من أشد الآراء الفلسفية الأبيقورية خطراً وهو إنكار العلة الغائبة وإثبات أن العالم كما هو لم يخلق لغاية من هذه الغايات التي نعرفها نحن ونزعم أن الأشياء قد خلقت لتحقيقها)

وعندنا نحن أن سماع الإنسان بيده أو شمه الروائح بمنكبه لا ينفي العلة الغائبة، لأن الوسيلة والغاية هنا موجودتان، ولم تختلف إلا الوسيلة التي تتحقق بها الغاية

وأصوب من هذا أن يقال إن رأى المعري شبيه برأي المعاصرين الذين يقولون: (إن الوظيفة تسبق العضو، وإن القوة تسبق الظاهرة)

فإذا وجدت الرغبة في الحركة أو في هضم الطعام وجدت الأعضاء التي تتكفل بأداء هذه

ص: 7

الوظيفة على اختلاف الأشكال والأوضاع في أجناس الحيوان

وللشاعر الإنكليزي (كولردج) على ما أذكر كلمة في مصور عظيم يقول فيها: (إنه لمصور ولو خلق بغير ذراعين) مريداً بذلك أن التصوير وظيفة قبل أن يكون عضواً من الأعضاء، فلو خلق المصورون بغير أذرع لخلقت لهم وسائل أخرى لإبداع مالا بد أن يبدعوه

وقال الدكتور يخاطب أبا العلاء:

(. . . أنت لا نعرف ما باريس وما أظنها قادرة على أن تصرفك عن حزنك وتشاؤمك، بل أنا واثق بأنك لو عرفتها لأمعنت في حزنك وتشاؤمك كشأنك حين عرفت بغداد. أما أنا فإن باريس تصرفني عن الحزن والتشاؤم وتثير في نفسي لذات عقلية ليست أقل من هذه اللذات التي أجدها في الحديث إليك والحديث عنك، وهي على كل حال تزعجني عن سجنك الذي كنت أود لو أطيل المقام فيه. ومن يدري لعلي أسأم لذات باريس فأفزع منها إليك من حين إلى حين. فليكن وداعي لك الآن موقوتاً ولأقل لك في لهجة المحب المشفق الوامق: إلى اللقاء)

فالدكتور واثق بان أبا العلاء لن يكون في باريس إلا كما كان في بغداد

فما باله أراد مني أن أجعل أبا العلاء يرى في باريس ما يراه السائحون، ويقول فيها ما يقوله أولئك السائحون؟

في هذه أنا أيضاً أقرب إلى وفاق الصداقة من الدكتور

أنا ذهبت إلى باريس بالخيال فأخذت إليها صاحبي بالخيال، والدكتور طه ذهب إلى باريس حسا وخيالَا فأبى على صاحبه المزاملة وهتف به:. . . إلى اللقاء؟

وما أردت علم الله أن أوغر صدر الشيخ على صديقنا الدكتور أو أن أظفر بنصيب من الحظوة عنده فوق نصيبه، ولكنني أحببت الحديث عن الشيخ ولم أحبب أن يكون تكريراً وإعادة تبطل بها متعة الحديث. فليكن خلاف وكان خلاف!! وإنما هو اتفاق في حب التحدث عن صاحبنا المحبوب

عباس محمود العقاد

ص: 8

‌أبو كلثوم الوفدي!

للدكتور زكي مبارك

ما كنت أنتظر أن أجد في (شبرا) ما رأيت هذه الليلة. فشبرا حي صخاب لا مثيل له في الحركة والضجيج بين أحياء القاهرة. هو في الأصل من الضواحي الهادئة الوادعة المجَّملة الشوارع بأشجار الجميز والتوت، ثم تحول في مدة قليلة إلى محلة مزدحمة بالتجار وأرباب الأعمال

كانت سهرة هذا المساء في منزل صديق عزيز يسكن تلك المحلة، وكانت السهرة مثقلة بالحديث عن مشروعات وزارة المعارف، فلم يكن فيها جانب واحد من جوانب الهدوء والصفاء

ومن عيوب رجال التعليم في مصر أنهم يحملون شواغلهم في كل مكان، حتى لتحسب أن تلك الشواغل هي كل ما يملكون من زاد الحديث في سهرات الأندية والبيوت. . . لطف الله بكم يا زملائي!

وزاد في عنف الجدل معالي النقراشي باشا كان تحدث مع جريدة المقطم في أشياء تفتح المجال للنظر والتأمل، وتقدم للمشتغلين بالتعليم فرصاً كثيرة لحركة الأفكار والعقول وأردت أن أخرج قليلاً من ذلك الميدان الذي كنت أركض فيه وقت الصباح، ونويت أن أخلص من شواغله وقت الليل، فاقترحت أن تتفضل (روحية) فتقرأ علينا حديث النقراشي باشا بصوتها الذي يشبه بغام الظباء، وأنا أرجو أن أحول تلك المعضلات التعليمية إلى مشكلات وجدانية

ولكن روحية تلحن حين تقرأ، واللحن من مثلها لا يغتفر: لأنها طالبة بإحدى كليات الجامعة المصرية، ومن البعيد أن أطرب لكلامها الملحون، فقد كان المقام مقام تعليم، ولم يكن مقام تشبيب، وإن كنت قصدت أن يفيض صوتها على ذلك الموضوع الجاف نفحةً من نفحات الوجدان

فهل غيرتني الأيام حتى صرت أعد اللحن من ذنوب الملاح؟!

معذرة، يا روحية، فأن عمك نقله الزمان من إلى أحوال! خرجت مكروب الصدر أفكر في أشياء وأشياء، ولكن القمر طالعني بوجه أصبح وهاج، فنظرت إليه برفق وحنان، وكدت

ص: 9

أنسى ما في الصدر من هموم وأثقال. . . والشعراء كالأطفال ينسون أشجانهم الفوادح في لحظات!

قال رفيقي: أين تقع هذه الليلة من الشهر؟

فنظرت في المقطم على نور القمر فرأيتنا في مساء اليوم الثالث عشر من شوال، فقلت: هذه ليلة البدر، يا رفيقي!

وما هي إلا لمحة حتى كان المذياع يصافح آذاننا بجلجلته من منزل بعيد فهرعت إليه وأنا مأخوذ، فجذبني الرفيق من يدي وهو يقول: إن لم يكن بد السماع فارجع بنا نسمع المذياع في البيت؟

فقلت: أريد أن أسمع مع قوم لا يعرفون وزارة المعارف، ولا يفكرون في المناهج، ولاتهمهم مصا ير التلاميذ!

وقفت أسمع كما وقف ابن عبد ربه يسمع منذ أكثر من تسعة قرون، ولم أخف مما وقع لابن عبد ربه؛ فقد طردوه بأسلوب قبيح حين رموه بجرة من الماء ليحرموا أذنيه ألحان الغناء! ثم نظرت فرأيت الدنيا حولي تذكر بمحلة الصدرية في بغداد هي والله محلة الصدرية بمنازلها المنثورة بلا نظام ولا ترتيب، وفي ثناياها نخلات طوال تخيلتها نقلت من هناك

قال رفيقي: إن المذياع في بيت ليس فيه ضياء

فقلت: إنه يغنى أهل البيت في لحظة صفاء

فقال: ألا يكون من الأدب أن نتصرف؟

فقلت: ومن الخير أن أرجع إلى داري لأكتب كلمة عن أبي كلثوم الوفدي، فقد تذكرته حين رأيت في شبرا صورة الصدرية في وطن الأهل والأحباب، إن بقي لي في الدنيا أهل وأحباب!

فمن هو أبو كلثوم الوفدي؟

هو أبو كلثوم: لأنه مفتون كل الفتون بأغاريد أم كلثوم، وهو يهذي بها في كل وقت

وهو وفدي: لأنه حقاً وصدقاً من أشياع الوفد المصري، وهو يهفو إليه في كل حين

فمن هو أبو كلثوم الوفدي الموزع القلب بين القاهرة وبغداد؟ هو الأخ العزيز الأستاذ محمد

ص: 10

باقر الشبيبي أحد الشعراء المجيدين في العراق

وما كان باقر الشبيبي أول من فتن بأغاريد أم كلثوم، فقد فتن بها الزهاوي والرصافي والبناء، ولهم في الهيام بأغانيها قصائد جياد، وربما جاز القول بأن أم كلثوم شغلت جميع شعراء العراق، فمن النادر أن تمر أغانيها هناك بلا تشوف. وقد زاد الاهتمام بأم كلثوم عند أهل العراق بعد أن عرفوا أن حنجرتها مسروقة من الحمامة الموصلية التي تقيم بإحدى نوافذ المنارة الحدباء

لم يكن باقر الشبيبي أول المفتونين بأغاريد أم كلثوم، ولكن هيامه بها قد اتصل بنزعة نبيلة هي الجزع من الانشقاق الذي وقع في الوفد سنة 1932 وخرج به على الزعامة ثمانية أعضاء

في تلك الأيام ذهبت أم كلثوم لزيارة بغداد فاستقبلها الشاعر بخفقة من القلب والروح وهو يهتف:

على الشاطئ صيداحٌ

هنيئاً لك يا دجله

سأرعَى النجم للصبحِ

وأحْي الليل في الحفله

فأهلاً ظبية النيلِ

ومَرحَى جارة الرمله

وبوركتِ على السيرِ

وهُنِّئت على الرحله

هنيئاً لكِ بغدادُ

فهذى أم كلثومِ

من الغِيد الأعاريبِ

أتتنا، لا من الروم

لقد أحيتْ لياليكِ

بتغريد وترنيم

فعذراً فرحة النفسِ

إذا قَّصر تكريمي

أعيدي السجعَ والصدحَ

غنِّينا إلى الفجرِ

فهذى الأنجمُ الزُّهرُ

مُطلاّتُ مع البدرِ

فغنِّى أروع الشعرِ

وصُوغيه من السِّحرِ

فمن نَحرك للثغرِ

ومن ثغرك للنحرِ

أطِلّي بنت فرعونٍ

على المسرح والملعبْ

ورفقاً ربَّة الصوتِ

بأحشائي أن تُنهبْ

ص: 11

فأنت الكاعبُ الرُّودُ

فما الظبيُ وما الرَّبرب

خذي روحي إلى مصرٍ

فمصرُ الوطنُ الأقرب

ثم تثور النزعة الوفدية في صدر الشاعر فيصيح:

سلى قلبي عن الحبِّ

فقد ذاب من الوجد

فكم لابَ على الروض

وكم حام على الورِدِ

سليني شاحبَ اللونِ

فمن سُهدٍ إلى سُهدِ

خذي قلبيَ للوفدِ

فأني في الهوى وفدي

ولم يكتف (وفديُّ الهوى) بهذه الزفرة، بل انتقل إلى انشقاق الوفد وهو يصرخ:

عجبنا أمَّ كلثوم

من الحادثة الكبرى

لماذا انقسم الوفدُ؟

ومن ذا بَيَّتَ الأمرا؟

أَلَا مَنْ يجمع الشَّملَ؟

ألا من يطرد الشرًّا؟

خُذِى حِذْرك يا مصرُ

ورُدِّي الكيدَ والمكرا

وتوجع الشاعر لما صار إليه سعادة الأستاذ محمد نجيب الغرابلي باشا فقال:

رأيت الخصمَ جذْلانَ

بما جَدًّ من الخُلف

أحقًّا فَصَلَ الوفدُ

(نجيباً) وهو في الصفَّ

فهذا الحادثُ البِكرُ

أرانا مواطنَ الضعفِ

إلى الوحدةِ يا مصرُ

إلى الإشفاقِ والعطفِ

نظمت تلك القصيدة في مثل هذه الأيام من سنة 1932 فهل كانت آخر زفرة من زفرات الأستاذ باقر الشبيبي في التشوق إلى أم كلثوم وإلى الوفد المصري؟

إليكم هذا الخبر الطريف:

في بواكير الربيع من سنة 1938 اجتمع نادي القلم العراقي بمنزل سعادة الدكتور فاضل الجمالي، وكانت الجلسة برياسة معالي الأستاذ محمد رضا الشبيبي، وكانت الكلمة يومئذ للأستاذ عبد المسيح وزير، فما الذي قال؟ أخذ يقرأ قصة من قصصه فاشتركت مع الأستاذ عباس العزاوي في السخرية من خياله الجميل!

وعند نهاية القصة طلبت الكلمة لأحاسب (القارئ)، ولكن معالي الأستاذ محمد رضا الشبيبي

ص: 12

خشي عاقبة الهجوم على الأستاذ عبد المسيح فاقترح ترك التعقيب، ثم قال أن عنده موعداً وانصرف

واستؤنفت الجلسة برياسة الدكتور الجمالي فقلت: إن معالي الرئيس أغلق باب التعقيب لأنه مشغول، وهو قد انصرف، فأنا أطلب الكلمة من جديد، ثم قلت: إن الغرض هو إلقاء محاضرة، لا قراءة قصة، فكيف جاز للأستاذ عبد المسيح وزير أن يحبسنا ساعة لنشهد طريقته في التلاوة؟ فقال الدكتور عقراوي: الأصل أن يلقى العضو محاضرة، ولكن ما الذي يمنع من أن يقرأ شيئاً من آثاره الأدبية؟ إن الأدب. هو الأصل والتعليق عليه هو الفرع، فالقصة كالقصيدة لون من الأدب الصرف

وقال الدكتور الجمالي: فليكن هذا تقليداً جديداً من تقاليد نادي القلم العراقي، ومن حق الشعراء من أعضاء نادي القلم أن ينشدوا بعض قصائدهم في الجلسة المقبلة، وستكون فرصة نسمع فيها صوت الدكتور زكي مبارك، فقد سمعت أنه شاعر، وله ديوان

فقال الدكتور عقراوي: ولا يشترط أن يكون الشعر جديداً، فالدكتور مبارك شاعر مقل، وعليه واجبات في دار المعلمين العالية قد تعوقه عن نظم قصيد جديد

وبهذا المحاورة نجا الأستاذ عبد المسيح من لساني، وما كاد ينجو، مع أنه أبو إيناس

أنا شاعر مقل؟

هذا صحيح، ولكن كيف ألقي نادى القلم العراقي بقصيد نظمته منذ سنين؟ وكيف أضيع الفرصة فلا أقرع أسماع بغداد بقصيد جديد؟ ومضيت وأنا أحاور شيطاني فنظمت قصيداً (في أحد عشر ومائة بيت) عنوانه:

(من جحيم الظلم في القاهرة إلى سعير الوجد في بغداد) وأنشدته في الأسبوع التالي بالرستمية. فقال معالي الأستاذ محمد رضا الشبيبي: كيف استجزت يا دكتور قتل هذه الشاعرية؟ فقلت: قتلها التأليف، وهو يشغل الفكر عن الغناء وصاح الأستاذ رفائيل بطي: أين الشاعر الذي يجيب الدكتور مبارك؟

فقال الدكتور الجمالي: سيجيبه الأستاذ باقر الشبيبي حين نجتمع في منزله بالزوية في الأسبوع المقبل، إن شاءت الشياطين!

واجتمعنا بالزوية في مساء مقتول النسيم ودجلة تصغي إلينا في تودد وترفق، والإخوان

ص: 13

ينتظرون قصيدة السيد باقر الشبيبي، فهتف البلبل:

وفاءً بعهدي أو نزولاً على وعدي

وقفت أُحِّي معشري وبنى ودي

وقفتُ أحِّي عُصبةً عربيةً

بها نستبين الرشد حقاً ونستهدي

فأهلاً بكم في روضة الحب والصفا

وأهلاً بكم عند المسرَّة أو عندي

وهيجني في الرستمية شاعرٌ

به مثل ما بي من أنين ومن سُهد

به من هوى ليلي رسيسٌ من الهوى

وبي لهب لا ينطفى من هوى هند

وما كاد يصل إلى هذا الحد حتى حدثني القلب بأنه سيتحدث عن أم كلثوم والوفد لأن القافية دالية، فقلت: أراهن أنك ستعلن انضمامك إلى الوفد! فضحك ضحكة كادت تزلزله من مكانه، ثم مضى يقول:

وذكَّرني عهد الصبا في نشيدهِ

سلامٌ على عهد الصبا في ربُا نجد

هواه على أجراف دجلة وافدٌ

وأما هوى قلبي فللنيل و (الوفد)

فصاح الأعضاء: صحت فراسة الدكتور مبارك في (الوفد) فهل تصح في (أم كلثوم)؟ فمضى الشاعر في النشيد:

فلا تحسبوه شارد اللب وحده

ولا تحسبوني سادراً في الهوى وحدي

صريعَ الغواني، لا تُلمني فإنني

صريع أغاني أم كلثومَ لا دعد

سلام على تلك الأغاريد إنها

أغاريد من وحي الصبابة والوجد

أما بعد فهذا حديث أبي كلثوم الوفدي، أعزه الحب ورضيت عنه العروبة المصرية والعراقية، فأن كنت فضحت هواه فلا يلمني (فإني في الهوى وفدي) وربما صرحت فقلت إني شيوعي في الحب: فلي صبابات تغرب فتصل إلى باريس ولو أحق باريس، وتشرق فتصل إلى بغداد ولواحق بغداد من حواضر العراق، وهل تركتني دمشق وبيروت بلا عقابيل؟

إن حالي لعجيبٌ

ما يُرَى أعجبُ منهُ

كلُّ أرض لِيَ فيها

غائبٌ أسأل عنهُ

زكي مبارك

ص: 14

‌أعرابي في المدنية

الأعرابي والشعر الحديث

للأستاذ علي الطنطاوي

أتاني منذ يومين (صلبي) فقال لي:

هل أنت من المعنيين بالشعر والأدب؟

قلت: نعم، فماذا عندك؟

قال: نعمة ساقها الله إليك، إن أنت أضعتها يوشك ألا تلقي مثلها يد الدهر

قلت: فاذكر لي ما هي، فأني أرجو ألا أضيعها

قال: أتعرف (السوالم)؟

قلت: نعم، جمع تكسير. . .

قال: ولا والله ما هم بجمع تكسير، إنهم أكرم من ذاك، هم والله جمع مبارك

قلت: إنما أردت الكلمة. . .

قال: كلمة ماذا؟ إنها قبيلة كانت متوارية في رملة من رمال (عالج) لا يدري بها أحد ولم يكشفها إلا حكم الإمام عبد العزيز أطال الله عمره، فعرفها العرب وعرفوا فيها العربية المبراة من العجمة، والبلاغة التي ما وراءها بلاغة، والنبرة الصافية التي إن سمعتها فإنما سمعت كلام سحبان، أو خالد بن صفوان. . .

قلت: ولكن ما أبعدك يا رملة عالج!

قال: بل ما أدناك يا شارع الحلبوني، ألا تعرف دار الباشا؟ قلت: القنصلية السعودية؟

قال: بارك الله فيك. إن شيخ السوالم نازل فيها وقد هبط دمشق ليلة دمشق، وهو أول (سالي) يهبطها بعد إذ فارقتها قبيلته قلت: متى فارقوها؟

قال: صبيحة الفتنة التي قتل فيها الوليد بن يزيد، الملك المظلوم الذي عبث خصومة بتاريخه، فقولوه ما لم يقل، ونسوا إليه ما لم يفعل، وروى هذا العبث مؤرخون هواهم عليه وميلهم مع أعدائه. . . وأدباء محاضرون لا يبالون ما يروون

قلت: إنك لنذكر تاريخاً قديماً!. . .

قال: هو ما قلت لك. غير أن (الشيخ) لا يحب أن يلقي أحداً، وقد حذروه قوماً يقال لهم

ص: 15

أهل الصحف، يفضحون الناس: ينشرون من أسرارهم ما يطوون، ويعلنون من أخبارهم ما يسرون، ليسلوا بذلك من يشتري منهم هذه الصحائف، فاحتل للقائه بحيلة. . .

قلت: وأني لي الحيلة؟

قال: سمعت أن هاهنا عالماً جليل القدر يقال له الشيخ بهجة البيطار، لو أقسم على (الإمام) لأبره، ولو قال لسمع منه، وما كان الباشا ليرد له طلباً، وأننا إن قصدناه أوصلنا إلى (الشيخ). أفلك به معروفه؟

قلت: لي به معرفة؟ أقول لك هو أستاذنا وصديقنا ثم إننا إذا لم نلقه سرت بك إلى من مكانته عند (الإمام) مثل مكانته أو أعلى، الزعيم العالم المصلح الشيخ كامل القصاب رئيس علماء دمشق، ومدير معهدها العلمي

قال: إنه رئيسكم الذي. . .

- فقاطعته وأنا أقول: رئيسنا، ولكني لست من العلماء!

- قال: ولمه؟ أو أنت إذن من الجهلاء؟

- قلت: إن علماءنا (يا صلبي) لا يقبلون فيهم من كان مثلي، مخلوع العذار، محفوف اللحية والشاربين، يمشي في الطرقات حاسراً، ولا يرون الرجل عالماً إلا إذا اتخذ عمة طواها ثلاثون ذراعاً، ولحية لا تقصر عن مد قبضة، وأتخذ جبة تسع معه اثنين آخرين، ويضع من كمها وحده جبة ثانية. . . - فضحك صلبي وقال: ولكن هذه الكتب ما ألفتها الأكمام ولا العمائم، وهذا العلم ما جاءت به اللحى. . . أفلا يعلم أصحابك هؤلاء أن العلم دماغ وقلم ولسان؟

وتفضل أستاذنا البيطار فسعى لنا بجاهه عند الباشا (القنصل) حتى جمعنا بـ (الشيخ) فإذا هو فوق ما وصف لنا، وإذا لسان مبين ولغة معربة وحديث كأنك تقرأ في البيان والتبيين أو في عيون الأخبار. ولقد خضنا معه كل بحر، وعرجنا على كل منزل، فسألته عن الشعر واستطلعت رأيه في جديده، وسأله أستاذنا عن مسائل من اللغة والنحو، وعرض عليه أشياء من تمحلات النحاة وغلاظاتهم، فأجاب بأسد جواب وأحكمه، فما كان أعجب من سؤال الأستاذ إلا جوابه، وما تقول فيهما إلا الأصمعي يشافه بلغاء الأعراب من أهل زمانه. . .

وأني مثبت هنا طرفاً من حديثه في الشعر، بكلامي أنا لا ببيانه هو، فما استطعت حفظ ما

ص: 16

قال بحروفه. ولعلي راجع يوماً فراوٍ حديث النحو، أو لعل الأستاذ البيطار يرويه بنفسه ليعلم القراء أننا نصف مجلساً قد كان حقا، ً لا نتخيل ولا نبالغ. . .

قلت له: كيف أنت والشعر؟

قال: أما ما قالت العرب فأني أرويه كل لا أخرم منه شيئاً، وأما ما قال المحدثون بعد إذ فشا اللحن في الأمصار وعمت (فيما بلغنا) العجمة فلا أعرف، ولا أرضى لنفسي روايته، لأن أصحابه أفسدوا على العرب ديوانهم، وجاءوهم بما ينكرون من القول

قلت: ولكنك رجل عادل حصيف، أفلا تسمع قول هؤلاء المحدثين قبل أن تحكم عليهم؟

قال: بلا والله أني سامعُ فأنشدني

فنظرت فكأن الله محا الشعر كله من قلبي إلا أبياتاً لأبي تمام في وصف الربيع نرويها للتلاميذ. فأنشدته إياها وفي ظني أنه لا يرضى عنها، بأنها ليست مما ألف، ولو أنشدته لغير أبي تمام أو أنشدته لأبي تمام غيرها، لكان ذلك أدنى إلى رضاه، ولكن ماذا أصنع وقد نسيت كل ما جاوزها من الشعر؟ قلت:

مطر يذوب الصحو منه وبعده

صحو يكاد من الغضارة يمطر

غيثان فالأنواء غيث ظاهر

لك وجهه والصحو غيث مضمر

فرأيته قد طرب لها طرباً لم يخفه وصفق يداً بيد من الإعجاب وتمايل فقلت وقد قويت نفسي: كيف سمعت؟

قال: لقد أحسن وجاء بما لم يسبقه إليه سابق، وما أحسبه يلحقه فيه فيدرك شأوه لا حق: لقد عرف الناس ثلجاً يذوب، فأذاب لهم الصحو حتى سال ماء، ثم عاد فجعل الصحو من طراوته كأنه يمطر، فلم يخلهم في المطر من صحو ذائب، ولا في الصحو من مطر. ثم أصل وفرع، فجعل من الغيث ظاهراً ومضمراً، وما يكون مضمر إلا وثمة ضمير، ولا ضمير إلا في حي، أفلا تراه كيف أسبغ الحياة على الجماد؟ قلت: هذا مذهب في الشعر يعرفه أهل زماننا ويحسبون أنهم ابتكروه. . . يعطيك صورة جميلة ولكنها ليست بنية الحدود ولا واضحة المعالم، فأنت تستمتع فيها بكشف المجهول، وهو لعمري أصل الآداب، وأقوى الغرائز، ثم تملأ فراغها بعواطفك وتجعل حدودها من أفكارك، فتكون كأنك صغتها لنفسك، وتفهم منها ما لا يفهم سواك.

ص: 17

قال: هذا شيء ما أعرفه لكني لا أعيبه، ولقد طربت لما سمعت منه. . . قلت: أفلا أسمعك من شعر أهل زماننا؟

قال متعجباً: وأن لأهل زمانكم لشعراً؟

قلت: ولم لا يكون؟ أسمع مقطوعة من حديث الشعر لشاعر أسمه فياض، قالها على لسان المتنبي أكبر شعراء العرب كأنه يعلمه بها كيف يكون القول

قال: هذا لعمري النبوغ فماذا قال؟ قلت: قال:

جسدي النازل من شهوته

سلم العار وروحي السامية

يا لعمر مشياً فيه معاً

فوثب كمن داس على جمرة، أو لسعته عقرب، فأمسك بفمي فسكت فزعاً فقلت: مالك؟

قال: ما هذا؟ قلت: شعر جديد!

قال: أعوذ بالله (جسدي النازل من شهوته)؟ وهل كانت شهوته جبلاً عالي الذرى، أو قصراً شامخ الدعائم حتى ينزل منها؟ وإلى أين ينزل؟ وهل بعد الشهوة منحدر، أو دونها منزل؟ وما (سلم العار)؟ هل هو جسده؟ فكيف صار سلماً؟

قلت: لعله أراد أن جسده ينزل على سلم العار، أي ينحط في درك العار بسبب شهوته التي ركبت فيه، فما استقام له طريق القول؟

قال: برئت من العربية إن كان هذا يفهم من كلامه، أننا نعرف (ينزل فلان) إذا كان عالياً وهبط، و (وينزل البلد) إذا سكنه، و (ينزل بالقوم وعليهم) إذا حل فيهم، و (ينزل من الجبل) إذا كان قد صعد فيه، و (ينزل إلى الوادي)، (وينزل على الدرج)، ولا نعرف (نزل السلم) إلا إذا قام فيه، كما يقيم المرء في المدينة، ثم أن السلم يصعد عليه من يكون على الأرض، فأين كان هذا حتى نزل على السلم؟ هل ولدته أمه على المنارة فنشأ فيها، ثم بدا له فنصب له (سلم العار) لينزل عليه؟

قلت: أو لا تسمع سائر المقطوعة؟ قال: لا والله

قلت: ولكنه ألقاها على ملأ من الأدباء والشعراء في سوق من أسواق الأدب في دمشق، كان أقامها أديب من أدباء تنوخ أسمه عزالدين بن علم الدين، فسمعوها وارتضوها وما رأينا فيهم من أنكرها عليه

ص: 18

قال الأستاذ البيطار: لقد كنت حاضر السوق وسمعتها ولكني لم أرتضها ولا ارتضاها صديقي أبو قيس

قال الشيخ: ومن أبو قيس؟

قلت: هو التنوخي الذي حدثتك عنه، وهذه كلها أسماؤه وله غيرها. قال: ما أكثر ماله من أسماء!

قلت: وما أكثر ما له من فضائل وحسنات، وكثرة الأسماء دليل على شرف المسمى

قال: هذا صحيح! قلت: أتحب أن أقرأ لك من شعر شوقي؟ قال: أسمع اسماً منكراً!

قلت: نعم، ولكن له شعراً معروفاً. إنه الذي يقول في الأزهر:

قم في فم الدنيا وحيَّ الأزهر

وانثر على سمع الزمان الجوهرا

واخشع ملياً واقض حق أئمة

طلعوا به زهراً وماجوا أبحرا

كانوا أجل من الملوك جلالة

وأعز سلطاناً وأفخم مظهرا

فاستوى جالساً، وقال: لا جرم أنه شعر معروف، هذا هو الشعر لا ما صككت به سمعي آنفاً، هذا هو الشعر. لقد أنطق أعظم ناطق وهو الدنيا، وأسمع أجل سامع وهو الزمان، وجعل مدح الأزهر جوهراً، وهذا لعمر الحق أكبر مما صنع امرؤ القيس حين وقف واستوقف، وبكى وأستبكى. . . ثم وصف أئمته بخير ما يوصف به علماء، سمو كالنجم ونور كالنجم، وهدى كهدى النجم، وعلم كالبحر وهم بكثرتهم كماء البحر، ولو شئت لكشفت عن خمسين معنى مستتراً وراء قوله (طلعوا به زهراً وماجوا أبحرا) زدني من قوله. . .

فمضيت في القصيدة حتى بلغت قوله: (يا معهداً أفنى القرون جداره) فترنح، طرباً، وأعجبته صورة هذا الجدار، وهو قائم في وجه القرون كالصخرة تريد عنه القرون كليلة عاجزة، ثم تفنى وتضيع كما الأمواج عن الصخرة ثم تذهب وتضمحل والصخرة راسية ولا اضمحلت.

واستزادني من شعره فأنشدته قوله وهو لم يبلغ العشرين:

صوني جمالك عنا إننا بشر

من التراب وهذا الحسن روحاني

أو فابتغي فلكاً كوني به ملكاً

لا تنصبي شركاً للعالم الفاني

فهزه الطرب هزاً وقال: إن الشعراء يقولون ولكن مثل هذا ما يقولون. إنهم وصفوا حسن

ص: 19

المرأة وجمالها، ولكن لم يستطيعوا أن يرفعوها فوق الناس وأن يجعلوها من طينة غير طينتهم، وأن يبرئوها من مادة التراب حتى تخلص لصفاء الروح ثم يجعلوها ملكاً يسكن السماء. أني لأعجب لكم!. . . عندكم هذا الشاعر ولا تفاخرون به شعراء الأرض؟

ثم قرأت عليه من شعر حافظ فأعجبه ولكنه قال:

هذا من عيار وذاك من عيار، وليست أسوى بينهما. إن الأول عبقري إمام، وهذا مقلد ذو بصيرة، وسباق ذو ثبات.

قلت: إن الناس كانوا يسوون بينهما أو يقاربون يوم كانا حيين، وللأحياء مقاييس من صداقة أو عداوة، ولهم صفات يحبون من أجلها أو يبغضون: كخفة الروح وبسطة الكف وحسن المجالسة. فلما ماتا ولم يبق إلا موازين الأدب بدأ الناس يدركون أن بينهما بوناً شاسعاً وأمداً بعيداً.

ثم أسمعته لكثير من الأحياء فلم يعدل (بأحمد محرم) و (بشارة الخوري) أحداً وفضلهما على كل من ينظم اليوم شعراً، وأعجبه غزل (رامي)، وأنس بجزالة شعر (البارودي) وحسن ابتكار (صبري). وقرأت عليه من أشعار الشاميين، فقدم (الزركلي) وأستقل شعره وعجب من سكوته الآن، لأن الشاعر عنده من ينظم أبداً لا ينقطع حتى ينقطع عن نفسه سيل العواطف ويجف منها معين الحس. ومن يقول مثل شعر الزركلي الوطني الذي يسيل منه الدمع، دمع القلب، لا يمكن أن ينضب ينبوعه. وقد كره قصيدته (العذراء) ورأى فيها ضعفاً في التأليف بيناً. وأعجبته جزالة شعر (محمد البزم) ولكنه رأى ألفاظه أجزل من معانيه ومفرداته أمتن من جمله، وأخذ عليه قوله:

إذا كان من أسدى لك الشر هيناً

فقل لي أبيت اللعن من أين تثأر

وقال إن العرب تقول أسدى إليه يداً ولا تنطق بها في الشر، أما قوله (أبيت اللعن) فإقحام لا معنى له، لأنها كلمة كان يخاطب بها ملوك الجاهلية وقد بطلت، فأي ملك من ملوك الجاهلية يخاطب؟ وأخذ على (مردم) قوله في نشيده:

سماء لعمرك أو كالسماء

ورآه سبكاً مقلوباً، وكان ينبغي أن يقول هم كالسماء بل هم سماء، وكره منه قوله في مطلع النشيد:

ص: 20

حماة الديار عليكم سلام

وقال بأن تنكير الإسلام يجعله أشبه بلغة مستعربة الروم يعني عمال الفنادق في الإسكندرية، وأعجبه شعر (مردم) الوصفي التصويري أما (الشعر الجديد) كشعر الرمزيين، والمهاجرين، فلم يفهم منه إلا بعض من مفردات من ألفاظه ولم يعدده شعراً ولا كلاماً عربيا! ً

وقد أستمر المجلس ساعات طويلة، ومال الحديث فيه على من يتلقى العربية على أبناء باريز، من أمثال الإمام اللغوي أبي جريجة الشيخ مارسيه أصمعي العصر. . . وكان مجلساً نادراً ما قمنا بمنه إلا ونحن كارهون. نتمنى لو أنه يمتد بنا أسبوعاً. . . وخرجنا وقد امتلأ وطابنا علماً وفوائد، هذا طرف منها وأنه (طبق الأصل) بشهادة أستاذنا الجليل الشيخ محمد بهجة البيطار.

علي الطنطاوي

ص: 21

‌من وراء المنظار

بيني وبين كتبي

ضقت بالكتب حتى لأخشى أن ينقلب هذا الضيق قطيعة ليس بعدها صلة. والحق أني حائر في تعليل هذا الضيق الشديد، وأنا الذي ظل الكتاب زماناً مبعث أنسي وبهجتي، فلا أمله إذا قعدت، ولا أدعه إذا خرجت، كأنما كان صار ضرورة كالهواء الذي أتنفسه، فلا تقوم حياتي إلا به، أو كأنه على أقل تقدير بعض ملابسي فلا أستطيع أن أبرح منزلي إلا وهو معي، بل كثيراً ما خيل ألي رفاقي - كما حدثوني - أني أستغني عن أي شيء ولا أستغني عن الكتاب، وإن لم أفتحه فيما بينهم إلا دقائق معدودات.

أيكون مرد هذا الضيق إلى ما تبعثه طول الألفة من السأم؟ أم يكون مرده إلى أن الكتب وقد صارت عندي درساً وملهاة قد شغلتني من متع هذه الحياة؟. . . فأنا أصدف عنها كيلا أنسى نصيبي من الدنيا فأحرم من زينة الله التي أخرج لعباده؟. . . ولكنني لا أرتاح إلى هذا التعليل ولا إلى ذلك. ففي نفسي مما يبغض الكتب إلى نفسي ما هو أعظم خطراً مما ذكرت!. . فلقد أستحوذ على لبي خيال، لا أدري إن كنت فيه مخطئاً أم مصيباً: وهو أن الكتب على طول صحبتي لها لم تعلمني شيئاً مما ينبغي لي أن اعلمه عن هذه الحياة، ولا يزال هذا الخيال يوسوس إلي أني إن لبثت بعد ذلك بين كتبي، فمصيري أن ينقطع ما بيني وبين هذا الوجود. . . ولا تحمل أيها القارئ كلامي هذا على المبالغة أو المزاح، فلو شئت لجئتك بألف دليل على أن لي العذر على فيما أقول. وحسبك أن الكتب قد بنيت لي كثيراً من أصول الفضائل وقواعد الخلق؛ فلما أتيح لي أن أتبين ذلك في سلوك من أخالط من الناس، وجدتني في حيرة مما تقول الكتب، وأنكرت أكثر هؤلاء الناس وأنكروني، ولا شك أنهم رموني بالغفلة والحمق كما رميتهم بالضلال والسفه. وحسبك أن كثيراً من ذوي قرباى ومن خلاني الأدنين، قد سخروا مني أكثر من مرة سخراً كان ينال من نفسي بعض الأحيان، حتى لأهم بالغضب منهم والثورة عليهم؛ فهم يتهمونني بالغفلة إذا جادلتهم في أمر كما أرى ذلك في أعينهم، وكما تفسره لي ابتساماتهم التي يعلقون بها على كلامي إذا خشوا أن يسيئوا إلي بألفاظهم. وكان مما يريد تبرمي بهم انهم يظنون بي الحمق بينما أعتقد أنا وفق ما علمتني الكتب أنهم هم بما يبدون من آراء أكثر الحمقى. ولقد يصارحني من يجد

ص: 22

نفسه في مأمن من غضبي - إما لكبر سنه، وإما لسمو مكانته عندي - أن عيبي الأساسي هو أني رجل خيال، أو بعبارة أصح رجل كتب لا أدري شيئاً مما تقوم عليه الحياة بين من يفهمون الحياة، وهو - كما ترى - سب ولكن على صورة (ذوقية) إن جاز اصطناع الذوق في السب، وإلا فما الفرق بين هذا وبين قولهم: إني جاهل غر مثلاً؟

وأكثر من ذلك لقد كان مرد كثير من أخطائي في معاملة من تربطني بهم صلة العمل الذي أكسب قوتي منه إلي جهلي بطباعهم، وأقل إلي جهلي بمبادئهم. ولطالما سبب لي ذلك كثيراً من العنت. . . فأنا على حق إذا تدبرت ما تقول الكتب، وأنا على باطل إذا قست ما يصدر عني بأقيستهم. وأنا لا أدري أأسير طوع الكتب فلا أفرغ من الخصام والحرب وإن أرحت ضميري بذلك، أم أسير وفق تعاليمهم فأكسب الهدوء والسلام. وكادت تقل ثقتي بنفسي لما رأيت شبه إجماع ممن أخالط على إنكار مسلكي، حتى لقد وقفت أحياناً أسأل نفسي: أأنا الغر حقاً، أم أنهم هم الإغفال الأغرار؟

لذلك طويت كتبي زمناً ورحت أتعلم مكر الناس لا لأمكر مكرهم، ولكن لآمن منهم فلا يكون سبب كثير من متاعبي. ونظرت من وراء منظاري ورحت أتدبر فزادتني هذه التجربة اعتقاداً بأن الكتب جنت علي بقدر ما قدمت من قواعدها إليّ. . .

وما لبثت أن رأيت منظاري يقع على كثير مما أصيب فيه الدرس، حتى لقد أصبحت أشبه نفسي بأولئك الفلاسفة الأقدمين الذين لم يأخذوا فلسفتهم من الكتب، وإنما أخذوها من الحياة!

وليت لي مثل بصير هؤلاء. . . إذاً لأفدت من العلم من وراء المنظار ما لم يأتيني من جميع ما في دار كتبنا العظيمة من كتب، ولكن لا ضير أن أنظر وأن أطيل النظر، وأن أدور بمنظاري هنا وهناك في المدينة وفي القرية، في القصر وفي الكوخ، في (الدواوين)، وفي الطرقات والمتاجر والمنتديات ودور اللهو، في الحقول على المصاطب وفي الأسواق، وفي غير ذلك جميعاً من نواحي هذا المضطرب الواسع، أو هذا المسرح الهائل الذي تمثل عليه الحياة. ولعل طول النظر وتنوعه يعوض على ما فاتني من العلم فيما تصرم من سني عمري بين أوراقي وكتبي

(شين)

ص: 23

‌الفروق السيكلوجية بين الأفراد

للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد

ذكرت في المقالين السابقين آراء بعض الفلاسفة والمربين ومعلمي البيان في الفروق السيكلوجية. وأشرت إلى أنهم طبقوا نظرية الفروة السيكلوجية في الحياة العملية. فقد بنى أفلاطون نظام التربية في المدينة الفاضلة على هذه النظرية، كما وجه فيتو رينو دافلتري تلاميذه إلى الدراسات التي يصلحون لها بطبعهم، وأوصى روسو أن تترك لأميل حرية اختياره العمل الذي يتفق وميوله الفطرية.

غير أن هؤلاء الفلاسفة والمربين قد استنبطوا آراءهم استنباطاً من الملاحظة العامة لتصرفات الأفراد وسلوكهم، فلم تكن إذاً هذه الآراء علمية مبنية على التجربة والبحث والإستقرائي، وذلك طبيعي لأن علم النفس ما أصبح علماً مستقلاً بالمعنى العلمي إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأعني بذلك أنه اتبع في دراسة موضوعاته التجربة والإحصاء والطريقة الخطوات الأربع:

1 -

ملاحظة الظواهر المختلفة للنوع الواحد في موضوع البحث

2 -

جمع المتشابه من هذه الظواهر.

3 -

اقتراح بعض الفروض لشرح هذه الظواهر وتعليلها

4 -

إجراء بعض التجارب لإثبات صحة الفرض أو الفروض المقترحة.

ولم يعتن علماء النفس بموضوع الفروق السيكلوجية إلا في الربع الأخير من القرن الماضي. على أن دراسة الاختلافات البشرية بين الأفراد دراسة منظمة، وقياس هذه الاختلافات، وتحديد آثارهم لم تنشط إلا في القرن العشرين.

ويعتبر فرانسيس جولتن أول من بحث في موضوع الفروق الفردية بطريقة منظمة مبنية على الإحصاء. ومن الحق أن نذكر أن دارون هو الذي مهد السبيل له - ولغيره ممن عنوا بموضوع الفروق السيكلوجية الفردية - بنظرياته البيولوجية كنظرية النشوء والارتقاء، ونظرية الوراثة في النبات والحيوان. وقد عاصر جولتن دارون وصدق بنظرياته. وكان دارون وراثي المذهب، وفي هذا يقول:(أن التربية أو البيئة لا تؤثر إلا قليلاً في عقل الأفراد ومواهبهم، وأغلب صفات الأفراد وخواصهم ولدت معهم) أعتمد جولتن على

ص: 24

نظريات دارون في بحوثه وبخاصة في علم إصلاح النسل البشري الذي لم يسبق جولتن أحد إلى الكتابة فيه. فهو أول من وضعه. ويعرف هذا العلم (بأنه دراسة العوامل الاجتماعية والبيئية التي يمكن ضبطها، والتي تؤثر بالإيجاب أو السلب في تحسين الصفات الجسمية أو العقلية للأجيال البشرية المقبلة) وتشمل هذه الدراسة دراسة الفروق السيكلوجية الموروثة، وأثر البيئة في هذه الفروق. ويمكن إجمال رأي جولتن في أسباب هذه الفروق في عبارته (لقد أصبح من المؤكد أن الإنسان إنما هو إنسان نتيجة لمؤثرين: أولاً لما به من الصفات الأبوية والجنسية الموروثة، وثانياً لما تحدثه فيه البيئة التي يعيش فيها)

وقد وقف جولتن حياته وجهوده على دراسة الفروق الفردية بين أشخاص بذواتهم، وأسرات بذاتها، وهو يقول في مقدمة كتابه المسمى (بحوث في القوة البشرية) ما يأتي:

(كانت غايتي فيما قمت به من بحوث أن أدرس القوى الوراثية المختلفة لأفراد مختلفين، وكذلك أدرس الخصائص المختلفة لأسرات مختلفات وشعوب مختلفة، وأن أعرف إلى أي حد يمكن أن نعوض عن النقص الوراثي بعناصر تربيوية، وقد فكرت في أن من الواجب أن نقوم بهذا التعويض بقدر ما تسمح جهودنا وظروفنا. وبهذه الطريقة يمكننا أن نعجل إصلاح الجنس البشري وتطوره حتى لا يقاسي من المتاعب ما يقاسي لو ترك وشأنه يسير في تطوره الطبيعي) وكان جولتن قد نشر سنة 1869 كتابه (النبوغ الوراثي) وبه كان أول عالم حاول دراسة أثر الوراثة في نبوغ الأفراد دراسة منظمة، وقد اتخذ في كتابه هذا منهجين علميين للبحث: أحدهما هو دراسة تاريخ الأسرة

طريق التلازم درس في كتابه هذا بعناية حياة أفراد 977 أسرة اشتهرت كل واحد منها بوجود نابغة فيها في ناحية: في الشعر أو الكتابة أو السياسة أو الخطابة أو العلوم أو الفلسفة الخ، كما درس أيضاً نوع المهن التي أحترفها كل واحد من هؤلاء الأفراد، وطبيعة هذه المهن، ومقدار إنتاج الفرد في مهنته، ثم عالج ما وصل إليه من معلومات بطريقة إحصائية لا حاجة لذكرها هنا. ولكنه استخلص من هذه الدراسات أن إمكانية وراثة النبوغ في الأسرة التي بها نابغة تبلغ 134 مثلاً لإمكانية وراثة النبوغ في أسرة عادية. ومن هذه النتيجة يرى أن المواهب العقلية عند الأفراد موروثة، وأن النبوغ الذي نجده بين عدد كبير

ص: 25

من أفراد بعض الأسرات لا يمكن أن يعزى إلى التربية والبيئة، بل لا بد أن يكون نتيجة الوراثة. ولا شك أن القارئ يلاحظ مما سقناه من جولتن أنه من الأنصار المتعصبين لمذهب الوراثة، وأنه ينسب إليها كل الفروق السيكلوجية بين الأفراد. ومما يؤثر عنه في كتابه (النبوغ الوراثي) قوله:(إن الأفراد الذين ميزوا أنفسهم في الحياة الاجتماعية لا يمكن أن يكونوا قد وصلوا إلى مراكزهم الممتازة إلا بالمواهب الطبيعية)

وليست قيمة أبحاث جولتن محصورة في النتائج التي وصل إليها، بل إن الطريقة العلمية التي أتبعها في أبحاثه تعتبر بنت أفكاره، فقد أستخدم الإحصاء والتحليل العلمي في طرق بحثه. وكانت نتائجه العلمية مبنية دائماً على عمليات رياضية ومقاييس حسابية دقيقة. وقد اقتدى به في طرقه العلمية هذه خلفه الأستاذ كارل بيرسن رئيس معمل جولتن بلندن الآن، والأستاذ تشارلس سبيرمان السيكلوجي الشهير.

كان لجولتن أثر محسوس في إيقاظ الرغبة في بحث الفروق السيكلوجية بين الأفراد، كما كان ذا نفوذ علمي كبير في توجيه علم النفس التجريبي ومقاييس الذكاء. وذلك بواسطة الاختبارات التي أبتكرها لقياس قوة الخيال ودقة الإدراك الحسي. أبتكر جولتن مقياساً به نعرف دقة تمييز الأفراد للأثقال المختلفة اختلافاً بسيطاً، كما أبتكر الصفارة المعروفة (بصفارة جولتن) لقياس قدرة الأفراد المختلفة على سماع النغم العالي وتمييزه ووضع عدداً من الاختبارات لقياس قوة الشم والذوق واللمس وغيرها من الحواس.

وكانت هذه المحاولات من جانبه لمعرفة الفروق الحسية بين الأفراد ترمي إلى معرفة ما إذا كانت هناك علاقة تلازمية بين الذكاء وبين قوة الإدراك الحسي ودقته في نفس الفرد. ويؤيد ما نقول أنه كان دائماً يختار للبحث والقياس أفراداً بينهم تفاوت كثير في الذكاء. كان يختار عبقرياً وضعيف العقل ثم يجري عليهما تجارب في الإدراك الحسي ليعرف: هل هناك تلازم بين قوة الإدراك الحسي ودقته في الفرد وبين ذكائه أو غبائه.

غير أنه لسوء الحظ وبالرغم من مجهوده العظيم ومحاولاته الكثيرة لم يجد تلازماً يذكر بين ذكاء الفرد وقوة إدراكه الحسي. وبالرغم من هذا نجد أن بحوثه وطرقه العلمية كان لهم أثر عظيم في كل ما أجرى من تجارب سيكلوجية حتى نهاية القرن التاسع عشر حين ظهرت مقاييس الذكاء التي وضعها السيكلوجي الفرنسي الشهير ألفريد بينيه يقسم جولتن الأفراد

ص: 26

إلى أنواع وفقاً لقوة خيالهم الحسي. فعنده النوع الإبصاري وهو الذي يغلب عليه الخيال البصري، والنوع السمعي وهو الذي يغلب عنده الخيال السمعي، والنوع الحركي وهو الذي يغلب عنده الخيال الحركي الخ. فالنوع الإبصاري مثلاً يفكر باستحضار الأشياء المرئية، بينما السمعي يستحضر الصور الصوتية، على حين أن الشمي يستحضر الصور الشمية الخ، ولكي يعرف أن فرداً يتبع للنوع الإبصاري أو السمعي أو الشمي مثلاً كان يجري عليه تجربة كالآتية: -

تصور أنك جالس في الصباح على المائدة لتناول طعام الإفطار. تخيل بدقة المائدة التي جالس عليها. هل الصورة الخيالية المرئية واضحة أم غامضة؟ هل ألوان الأطباق والفناجين والأكواب والخبز واضحة أو غامضة؟ هل تستطيع أن ترى بمخيلتك جانبي الكرة في وقت واحد؟ هل تستطيع أن تتخيل بوضوح تقاطيع الوجه لأقرب قريب لك (زوج أو أب أو أم الخ)، هل تسمع بمخيلتك صوت السيارة تمر تحت نافذة منزلك؟ هل يمكنك أن تتخيل حركة الفم والأسنان واللسان حينما تنطق بكلمة (عجب) أو كلمة (وطن)؟ هل يمكنك أن تسمع بمخيلتك سقسقة العصافير فوق الشجرة؟ هل تستطيع أن تشم بمخيلتك رائحة البطيخ أو القهوة أو البرتقال؟ هل تستطيع أن تتخيل طعم الشكولاته أو الليمون أو الكفتة؟

وهكذا وضع جولتن سلسلة من الأسئلة في أنواع الخيال الحسي المختلف، وقسم الإفراد إلى الأنواع السابقة كما قسم النوع إلى درجات تختلف من (قوي جداً) إلى (ضعيف جداً) باختلاف قوة الفرد على التخيل.

(بخت الرضا)

عبد العزيز عبد المجيد

ص: 27

‌بين الأستاذين

أحمد أمين وزكي مبارك

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

لما قرأت المقالة الأولى للأستاذ أحمد أمين في جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي كان ذلك بحضرة الأستاذ الزيات صاحب مجلة الرسالة الغراء، فذكرت له أن الأستاذ أحمد أمين يرى في هذا ما سبقته إليه في كتابي (زعامة الشعر الجاهلي بين امرئ القيس وعدي بن زيد) وأخذت عليه أن يجعل الزهديات من أدب المعدة لا من أدب الروح، مع أنها أحق من غيرها بأن تكون من ذلك الأدب الذي ارتضاه، لأن اتجاه الزهاد إلى الروح من الأمور التي لا يجهلها أحد، وكل زهدياتهم تتجه نحو هذا الاتجاه، فلا يمكن مع هذا أن تكون من أدب المعدة.

وقد أنكر ذلك الرأي على الأستاذ أحمد أمين كما أنكر على قلبه، وكان ممن أنكره عليه الأستاذ زكي مبارك في مقالاته التي نشرتها له مجلة الرسالة، وقد سبق للأستاذ زكي مبارك أن أنكر علي أيضاً ذلك الرأي في نقده لكتابي (زعامة الشعر الجاهلي) بجريدة الأهرام، وكان مما ذكره في ذلك أنه لا يمكن القول بأن زهديات أبي العتاهية أبلغ في الشاعرية من خمريات أبي نواس، فرددت عليه بأن أبا نواس نفسه يشهد بتقديم أبي العتاهية في هذا عليه، وذكرت له ما رواه صاحب الأغاني عن هارون بن سعدان أنه قال: كنت جالساً مع أبي نواس في بعض طرق بغداد، وجعل الناس يمرون به وهو ممدود الرجل بين بني هاشم وفتيانهم، والقواد وأبنائهم، ووجوه أهل بغداد، فكل يسلم عليه فلا يقوم إلى أحد منهم، ولا يقبض رجله إليه، إذ أقبل شيخ على حمار بريسي، وعليه ثوبان دبيقيان: قميص ورداء قد تقنع به ورده على أذنيه، فوثب إليه أبو نواس، وأمسك الشيخ عليه حماره واعتنقا وجعل أبو نواس يحادثه وهو قائم على رجليه فمكثا بذلك ملياً، حتى رأيت أبا نواس يرفع إحدى رجليه ويضعها على الأخرى مستريحاً من إعياء، ثم أنصرف الشيخ وأقبل أبو نواس فجلس في مكانه، فقال له بعض من بالحضرة: من هذا الشيخ الذي رأيتك تعظمه هذا الإعظام وتجله هذا الإجلال؟ فقال: هذا إسماعيل بن القاسم أبو العتاهية فقال له: لما أجللته هذا الإجلال؟ وساعة منك عند الناس أكثر منه، قال: ويحك لا تقل، فوالله ما رأيته قط إلا

ص: 28

توهمت أنه سماوي وأنا أرضي.

ولا شك أن هذه بعينه تقسيم الأستاذ أحمد أمين الأدب إلى أدب الروح وأدب المعدة، فأدب الروح هو الأدب السماوي، وأدب المعدة هو الأدب الأرضي. وخلاصة ما ذهبت إليه في ذلك أن الشعر لا يصلح أن ينظر إليه على أنه ليس إلا ألفاظاً وأخيلة من تشبيهات واستعارات ونحوها، ولا يليق أن نعده من وحي الشياطين، فيكون لهواً وعبثاً في الحياة لا غير، وإنما يجب أن يكون الشعر إلهاماً شريفاً، ووحياً صالحاً، وعملاً نافعاً في هذه الحياة، يدعو إلى النهوض، ويجهر بالإصلاح، ويوقظ النفوس النائمة، ويحرك العقول الجامدة، وبهذا يكون الشعراء في الأمة رسل إصلاح، وأئمة هداية فينفعون ولا يضرون، ولا يكونون في هذه الحياة أبواقاً للشياطين.

وهذا الأدب الذي دعوت إليه وذهبت إلى تقديمه على غيره هو الأدب الذي دعا إليه الإسلام، وجاء به القرآن الكريم، فذم شعر الجاهلية في جملته، وقبح موضوعه وأغراضه، وذلك في قوله تعالى:(وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) وفي قوله أيضاً: (والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) وقد ذمه الني صلى الله عليه وسلم أيضاً فقال: (لما نشأت بغضت إلى الأوثان وبغَّض إلي الشعر). وقال أيضاً: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيئاً خير له من أن يمتلئ شعراً) ثم جاهد في إصلاح ذلك الأدب الجاهلي الضال جهاده في إصلاح عقيدتهم الضالة، وسلك سبيله في ذلك الخلفاء الراشدون فضربوا على يد كل شاعر أراد أن يستن في الإسلام سنة شعراء الجاهلية، فيجعل الشعر سبيلاً لجمع المال، ولا يعرف في ذلك إلا المدح والهجاء ونحوهما من تلك الأغراض التي وقف عندها الشعر الجاهلي، وجمد عليها جمود أهل الجاهلية على عبادة الأوثان، وقد حبس عمر الحطيئة في ذلك حتى أستشفع إليه بقوله:

ماذا تقول لأفراخٍ بذي مَرَخٍ

زُغْبِ الحواصل لا ماءٌ ولا شجر

ألقيتَ كاسبهم في قَعرِ مُظلِمة

فاغفر عليك سلامُ الله يا عُمُر

أنت الأمين الذي من بعد صاحبه

ألقي إليك مَقاليدَ النُّهى البَشر

ص: 29

لمُ يؤْثِروكَ بها إذ قدموك لها

لكنْ لأنفسهم كانت بك الخِيَر

فأطلقه عمر وهدده بقطع لسانه إن هجا أحداً، واشترى منه أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم. وكذلك فعل عثمان رضي الله عنه مع ضابئ البرجمي، وكان قد أستعر كلباً من بعض بني حنضلة يصيد به، فطالبوه به فامتنع من إعطائه فأخذوه منه قهراً، فغضب ورمى أمهم بالكلب وهجاهم بقوله:

فيا راكباً إما عرضتَ فَبلِّغَنْ

أُمَامَةَ عني والأمور تَدُورُ

فأُمَّكُم لا تتركوها وكلبكم

فإن عُقُوقَ الوالدين كبير

فأنك كلب قد ضَرِيت بما ترى

سميعٌ بما فوق الفراش بصير

إذا عَبِقَت من آخر الليل دخنةٌ

يبيت لها فوق الفراش هَدِيرُ

فاستعدوا عليه عثمان فحبسه وقال: والله لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حياً لنزلت فيك آية، وما رأيت أحداً رمى قوماً بكلب قبلك.

ثم جاء بنو مروان بعد الخلفاء الراشدين فعادوا بالشعر إلى سنته الأولى قبل الإسلام، وعملوا على تقديم الشعراء الذين سلكوا في الشعر هذه السنة من جرير والفرزدق وأضرابهما، وعقدوا لهم لواء الزعامة على غيرهم من الشعراء، وتأثر علماء الأدب الذين كان يقربهم أولئك الملوك بهم، فذهبوا في الشعر والشعراء مذهبهم، وقدموا من الشعراء من قدموهم على غيرهم، حتى أن الأصمعي رحمه الله كان يقول: إن الشعر لا يقوى إلا في باب الشر، فإذا دخل في باب الخير لان، وإنما طريق الشعر هو طريق شعر الفحول مثل امرئ القيس وزهير والنابغة، من صفات الديار والرحل والهجاء والمديح والنشبيب بالنساء وصفة الخمر والخيل والحروب والافتخار وما إلى ذلك، فإذا دخل في غيره مما دخل فيه بعد الإسلام ضعف ولان. ألا ترى أن حسان بن ثابت كان شديداً في الجاهلية والإسلام، فلما دخل شعره في باب الخير من مراثي النبي صلى الله عليه وسلم وحمزة وجعفر رضوان الله عليهما وغيرهم لان شعره

ولست الآن بصدد الدفاع عن ذلك الرأي في قياس الشعر بموضوعه وأغراضه قبل أن يقاس بألفاظه ومعانيه، وفي تقديم الشعر الجاد النافع في الحياة على ذلك الشعر الذي لا يعني إلا بالألفاظ، فالذي يهمني الآن أن أبين أن ذلك إذا كان جناية على الأدب الجاهلي،

ص: 30

فأن الأستاذ زكي مبارك يجب أن يكون آخر من يدافع عنه، وموعدنا بهذا المقال الآتي.

عبد المتعال الصعيدي

ص: 31

‌التاريخ في سير أبطاله

مازيني

(رسول الحرية إلى قومه، المجاهد الذي أبلى في جهاده مثل

بلاء الأنبياء)

للأستاذ محمود الخفيف

- 5 -

هكذا كانت حياة مازيني في لندن منذ رحل إليها عام 1837 حياة شقاء لم يكن يقوى على احتماله إلا من كان له مثل إيمانه، وظلت هذه حاله مدة أربع سنوات طويلة؛ وفي عام 1841 لانت الأقدار له بعض اللين، إذ أخذت يد الصداقة تخفف عنه بعض آلام الغربة والوحدة، وكان أكثر أصدقائه الجدد من الإنجليز، وقد حلوا في قلبه محل أصدقائه الأقدمين الذين نسوه وإن لم ينسهم والذين تركوه في غربته، وأنه ليغترب من أجل قضيتهم ويعاني من الآلام ما يعاني في سبيل تحريرهم.

وأعجب مازيني بأصدقائه الإنجليز وأعجبوا به، وكان يرى في صداقة هؤلاء القوم له ما يزيده تعلقاً بهم؛ فهو يحب إخلاصهم وصراحتهم ورقة آدابهم وظروف أحاديثهم؛ وود مازيني لو كان لديه من المال ما يكفي لأن يشتري الملابس التي تليق به ويدفع منه أجر تنقله من جهة إلى جهة ليتسنى له أن يكثر من الأصدقاء في هذا البلد العظيم، وكم آلمه وأحزنه فقره في هذه الغربة الطويلة

وكان ممن اتصلت بينه بينهم أسباب المودة والحب الفيلسوف الإنجليزي الشهير كارليل، فلقد أعجب كارليل بما انجلى لعينه البصيرة من معاني العظمة في نفس هذا المجاهد الغريب، وكانت قد ترامت إليه من قبل أنباء حركاته في سبيل بلاده؛ وكذلك كانت تربط قلبيهما دعوة كليهما إلى العناية بالجانب الروحي من حياة الإنسان ومحاربة النفعية والأنانية، ثم ذلك الحماس الذي كان يبث الحرارة والحيوية في كل ما يكتبان. وكثيراً ما كان مازيني يزور صاحبه في منزله، وقد اتصلت أسباب المودة كذلك بينه وبين زوج الفيلسوف الكبير، وأعجبت بخلاله وأكبرت مبادئه، حتى لقد كانت تجادل زوجها غالباً

ص: 32

وتأخذ جانب مازيني فيما كان ينشأ بينهما من خلاف في الرأي، فإن الأمر لم يخل من خلاف بينهما، إذ كان كاريل يرى أن مبادئ مازيني غير ممكنة في هذا الوجود، الأمر الذي كان يغضب له الزعيم أكبر الغضب فيؤدي إلى احتدام الجدال بينه وبين صاحبه.

وكان عليه من أول الأمر أن يعمل ليكسب قوته، ولم يكن أمامه ألا الكتابة، فراح يكتب على الرغم مما كان يحسه من كآبة وهم، وكان مما يضايقه أشد الضيق أن يرى نفسه مقيداً في اختيار موضوعاته بما يلائم الذوق الإنجليزي، وإلا ردها إليه أصحاب الصحف معتذرين من نشرها؛ فكان لذلك كثيراً ما يتناول من الموضوعات ما لا يحس في تناوله بما ينبغي من الارتياح واللذة، وقد كانت أكثر كتاباته في الأدب، فجال في ميدانه جولات موفقة، وتوثقت الصلة بينه وبين كثير من نابهي الكتاب من الإنجليز، وعرف فيمن عرف من كتاب فرنسا يومئذ لامنيه، والكاتبة الفرنسية الشهيرة التي اتخذت لقلمها أسم (جورج ساند)؛ فتبودلت الرسائل بينه وبينهما. وصار لمازيني في الواقع شخصيتان، فهو الزعيم السياسي الذي تعرفه الجمعيات السرية، وهو الأديب الكاتب الذي يذيع أسمه في الأوساط الأدبية.

ورأى الزعيم أن الأدب قد يصرفه عن السياسة كما أوشك أن يفعل ذلك من قبل في مستهل حياته العامة، فمال إلى السياسة وراح من جديد يوليها من عنايته إلى جانب الأدب؛ وقد عز عليه أن تموت جمعيته إيطاليا الفتاة. فأخذ يزيح الرماد عن هذه الجمرة لتظهر من جديد متوقدة مستعرة؛ فأكب على مراسلة أعضائها في إيطاليا وخارج إيطاليا. وشد ما كان يزعجه ويؤلمه ألا تقابل حماسته إلا بالفتور، وكان يعظم حزنه كلما آنس ذلك الفتور فيمن كانوا بالأمس يتحمسون أشد التحمس للجمعية ومبادئها، ترى ذلك في مثل قوله:(إني لأحس بالخجل حينما أكتب من أجل إيطاليا كما لو كنت ألجأ إلى الكذب).

وكان يخاف أن يموت دون أن يتم ما بدأه، كما كان يعتقد أن التراخي في الجهاد تفريط في كرامة الشهداء الذين جادوا بأنفسهم في سبيل وطنهم، وتفريط في حق الوطن الذي يتطلب من بنيه أن يموتوا كما مات غيرهم أو يهبوه الحرية والاستقلال. وكان يسأل نفسه ماذا عسى أن يصنع وحده وقد تخاذل الرجال وهانت الحرية على كثير من طلابها بالأمس؟ ولكن مثله لم يخلق له اليأس. ومتى كان اليأس من خلال الزعماء وهم الذين يبددون

ص: 33

بإيمانهم ظلماته؟ وهل صرف ما ألح عليه من المحن والشدائد عن وجهته؟ أم أن الشدائد قد زادته صلابة ويقيناً وإن كان جسمه كان يشكو من التعب وسوء الغذاء وغيرهما مما يكون نتيجة للعسر المالي؟

الحق أنه كان يزداد إيماناً فوق إيمانه كلما تصرمت الأيام. ولقد كان على بينة من أن جهاده لم يذهب سدى، وأن هذه البذور التي بذرها فسقتها دماء الأحرار لا بد أن تنمو وتؤتي أكلها، وأن تلك الجمرة التي يخفها الرماد لا بد أن يتطاير الرماد من فوقه إذا نفخ فيها الشباب من روحهم فتعود كما كانت وهاجة مستعرة ولا تقوى بعد على إطفائها الأيام. ولئن تخاذل الرجال عن دعوته فذلك لأنهم فقدوا الثقة في الثورات وفي الحرب الهمجية، أما مبادئ الوطنية والحرية فقد تغلغلت في النفوس واستقرت في أعماقها، ولسوف تكون هذه المبادئ في غد أكبر حافز لأبناء إيطاليا أن يقدموا أرواحهم رخيصة في سبيل وطنهم يوم يسيرون في حروبهم النظامية ليضربوا عدوتهم الكبرى، ألا وهي النمسا. ولئن تمت وحدة إيطاليا في غد بفضل مساعي كافور وبطولة غاريبلدي والبواسل الأشداء من رجاله، فإن التاريخ لن يستطيع أن ينكر أن دعوة مازيني كانت الروح المحركة في جميع هاتيك الخطوات، فهو الذي أعد الرجال وإن كان غيرهم ساقهم جنداً وهو الذي حشد من الأبطال ما لن يستطيع غيره أن يحصيهم عدداً؛ وفضلاً عن ذلك ففي حجر جمعيته ولد كافور وغاربيلدي فكان أحدهما رأس الحركة الوطنية وكان الآخر ساعدها.

دأب مازيني في غربته على العمل من أجل قضيته الكبرى؛ وما كانت الكتابة يومئذ إلا وسيلة لكسب قوته؛ ولئن لم يستطع أن يتصل بمواطنيه بإيطاليا إلا في مشقة شاقة، فقد أخذ يتصل بالإيطاليين في إنجلترا عامة وفي لندن خاصة ونشط في بث دعوة في قلوبهم؛ وكان يعني أكبر العناية بأن يقبل العمال على دعوته لأنه كان يقدر القوة التي يمكن أن تنبعث من صفوف هذه الطائفة.

ولم يحل الفقر بين هذا الرجل العظيم وأبناء وطنه في إنجلترا، فأنظر إليه على ما كان به من الفاقة كيف يفتتح مدرسة ليلية لتعليم أبناء إيطاليا الغرباء وتثقيف عقولهم حتى ينفذ إليها النور الذي يسعى به فيكونوا عوناً لبلادهم إذا رجعوا إليها ويكونوا عدتها غداً في كفاحها؛ ولك أن تتصور مبلغ ما عانى في سبيل جمع المال للإنفاق على هذه المدرسة، وهو الذي

ص: 34

فدحه الدين وتركته الفاقة رث الملابس مضعوف الجسم؟ ولكن المدرسة قد نجحت على الرغم من ذلك، وازداد مازيني بها قدراً في أعين الإنجليز وهم الذين يقدرون مثل هذه الأعمال حق قدرها؛ وزاد نجاحها على نجاح المدارس فبثت الروح الوطنية في قلوب أبنائها، وبثت فيها غير الوطنية عرفان الجميل وشكر المحسنين، فهذا غلام يعود إلى موطنه فيأبى عليه شعوره النبيل إلا أن يسافر إلى جنوة ليحدث أم الزعيم عن أبنها العظيم ويعبر لها عن امتنانه وحفظه صنيع ذلك الرجل الذي علمه وملأ قلبه حماسة وإخلاصاً.

ونشر مازيني صحيفة للعمال يحدثهم فيها عن حقوقهم وواجباتهم ويرفع بها مستوى مداركهم لأن العلم عنده من أكبر أسلحة الوطنية، ولقد كان لهذه الصحيفة في صفوفهم أثر بالغ وإن لم يكن يستطيع أن يذيعها فيهم إلا في فترات متقطعة لحاجته إلى المال؛ وكثيراً ما كان يهرب العمال أعداداً منها إلى إيطاليا فيكون لها في قلوب العمال هناك أكثر مما قدر لها من التأثير إذ كان يحس قراءها أن هذا الكلام كلام زعيم إيطاليا، وأنه فوق ذلك منبعث إليهم من المنفى. . . وكان الزعيم لا يفتأ يحدثهم عما يعانون من البؤس ويلاقون من الإهمال ويبين لهم أسباب ذلك، ويبشرهم بمستقبل سعيد تسود فيه الحرية وتقرر فيه حقوق الأفراد فينالون حظهم من التعليم والرقي والرخاء.

أنكأ مازيني على نفسه على الرغم من ضنى جسمه وقصر ذات يده؛ وكلما أشتد الموقف عليه لاذ بالأمل فبدد أمله أشباح اليأس. ولئن كبر على نفسه أن تضعف (إيطاليا الفتاة) فلقد كان عزاؤه فيما بثته مبادئها في قلوب الشباب والشيوخ من الحماسة والعزم؛ فكان العمال يتلقفون صحيفته الخاصة بهم على الرغم من يقظة الرقيب والبوليس، وكان شباب الجامعات يتهافتون على كتاباته ويتلونها كما يتلون الإنجيل فلها في أنفسهم مثل جلال الإنجيل ومثل سحر الإنجيل.

وكانت النمسا تضيق بها أشد الضيق، كما كان يضيق به أنصار الرجعية في القارة كلها. وأصبح اسم مازيني يقض مضاجعهم وينذرهم بالويل في المستقبل القريب. وكان مما تطيب له نفس ذلك الغريب المجاهد، أن يصبح وهو فرد مبعث خوف هؤلاء الجبابرة الحاكمين.

وترامت إلى مازيني في إنجلترة نبأ دعوة جديدة أخذت تتسرب إلى أذهان الإيطاليين، وهي

ص: 35

دعوة الإعتدال، ومؤداها الاقتصار في ذلك الوقت على المطالبة بالإصلاح الداخلي، حتى تتهيأ البلاد للاستقلال، فتكون وثبتها في غد وثبة قوية لا تخاذل بعدها. وكان أصحاب هذه الدعوة يتطلعون إلى ملك بيدمنت ليكون عوناً لهم في تحقيق آمالهم في الإصلاح. . . وغضب مازيني من هذه الدعوة وضاق بها صدره، إذ كان يرى النمسا أساس كل فساد. وكيف يتسنى للبلاد أي إصلاح وسلطانها مفروض على الأمراء ونفوذها متغلغل حتى الأعماق؟ أنه يرى أن سياسة المعتدلين قلب للوضع المعقول؛ فالوطنية هي الخطوة الأولى والثورة تأتي بعدها، ومن وراء الثورات المتلاحقة يأتي الغلب في النهاية، ويكون بعد الغلب الإصلاح كأسرع وأكمل ما يكون الإصلاح!

وإنه ليخشى أن يركن الناس إلى هذه الدعوة فتموت روح الوطنية في نفوسهم ويستطيع بعد ذلك المستبدون بهم أن يلهوهم عن غايتهم الكبرى ببعض مظاهر الرخاء المادي حتى تنحل عزائمهم وينسوا القبلة التي كانوا يتوجهون إليها، وتغرهم مطالع الدنيا فيصبح بعضهم لبعض عدواً، وقد كانوا بالوطنية والجهاد في سبيل قضيتهم المشتركة بعضهم أولياء بعض.

وأمض نفس الزعيم النازح أن يسفه بعض دعاة الاعتدال آراءه، وأن يهاجموا حركاته أقسى مهاجمة، فيتهموه بأنه يلقى بالشباب بين براثن الموت وهو بعيد، كل أولئك في غير جدوى، مرة بعد مرة. . . وأثارت هذه التهمة نفسه حتى لقد فكر أن يذهب إلى إيطاليا على الرغم من الحكم عليه بالإعدام، فيضحي نفسه في سبيل قضيته. فللموت أهون على نفسه من هذه التهمة، ولولا أن صدفة عن ذلك بعض أصدقائه لأقدم عليه في غير تردد. وكأنما أراد الغريب المناضل أن يرد عليهم بالعمل خيراً من القول، فأخذ يدبر ثورة جديدة يذيعها في طول إيطاليا وعرضها يكون مركزها هذه المرة الولايات البابوية، إذ كان قد علم أن وسط إيطاليا كان يزخر يومئذ بالمؤامرات السرية، وكان ذلك في عام 1843 واتصل مازيني بنبيلين ضابطين في بحرية النمسا، وهما أتيليو وإميليو من أهل البندقية، وأوعز إليهما أن يوقدا نار الثورة في وسط إيطاليا - ولكن البوليس - ألقى القبض عليهما بعد أن وثق من حركاتهما ومراميهما، فسيقا إلى الإعدام، وزادت دمائهما الزكية شجرة الحرية نماء وقوة. وعلم مازيني أن الحكومة الإنجليزية هي التي دلت عليهما، لأنها كانت تفتح رسائله

ص: 36

إليهما ورسائلهما إليه، فاستشاط الزعيم غضباً، وأطلع أحد النواب في مجلس العموم، وكان من أصدقائه الأدنين على الأمر، فأحتج النائب في المجلس على مسلك الحكومة الإنجليزية، وسرعان ما شاع في المجتمع الإنجليزي شعور الخجل مما فعلت الحكومة، حتى لقد حار وزير الداخلية عما يدافع به عن نفسه أمام المجلس حين وقف على تسائل بعض النواب، وكان بينهم ماكولي الكاتب الإنجليزي العظيم. . . وكتب كارليل في جريدة التيمس يسفه عمل الحكومة فكان مما قاله:(إن فتح الرسالة المغلقة مسألة جد خطيرة بالنسبة إلينا، لأن هذه الرسائل كما كنا نظن تحترم في مصلحة بريد إنجليزية كما تحترم الأشياء المقدسة. إن فتح الرسائل المغلقة على غير علم من أصحابها عمل قريب جداً من سرقة جيوب الناس).

ودافع كارليل عن صديقه مازيني في تلك الجريدة. فكان مما ذكره عنه: (مهما يكن من رأيي في نظرات هذا الرجل العملية وفي خبرته بشؤون الدنيا، فإني أستطيع في غير تحرج أن أشهد أمام الناس جميعاً أن هذا الرجل - إن كنت قد عرفت شبيهاً له - رجل عبقرية وفضيلة، رجل شجاعة صحيحة ورجل إنسانية؛ وهو كذلك نبيل الفكر، فهو أحد هؤلاء النوادر الذين ترى عددهم في هذه الحياة وا أسفاه قليلاً، أولئك الجديرون بأن نسميهم الأرواح الشهيدة؛ أولئك الذين يسيرون على التقوى في حياتهم اليومية، والذين يدركون في صمتهم، ويسلكون في الحياة مسلكا يتفق على ما يفهم من ذلك).

(يتبع)

الخفيف

ص: 37

‌هاتف من الحرب.

. .

للأستاذ محمود حسن إسماعيل

أَغَفى ربابُكَ لا شدْوٌ ولا طرَبُ

وجفَّ حانُكَ لا كأس ولا عنبُ

وزَّفت الريح، هل زفَّ النشيد لها

أم ظلَّ سأمان هذا اليأسُ التعِب

هذا الذي اهتزَّت الدنيا، وعازفُه

ساهٍ على ضَّفة الأحلام مُكتئب

نَشوانُ يَمَرح في دُنيا محلِّقةٍ

من الخيال ترامتْ دونها الشُّهُب

هزَّ الطموحُ جناحيْهِ وأَتعبَه

أنَّ الطريقَ إلى الآفاقُ مضطرب

وأنَّ أيامَهُ من طول ما رَتَعَتْ

بها النوائب أَدْمى فَجْرها العطب

تغدوا لجِراح مدِلاّت بشِقوَتها

مادام فيها لأمجاد العُلا نَسَب

وجرْحه راعشُ الآهات تحسَبه

هَشيمةً جُنَّ في تحريقها اللهب

ناشدْتُ لَوْعتَه السُّلوانَ فامتعضتْ

كيف الهدوءُ وأنفاس الوَرَى تَجِب؟

والأرض موْقد أعمار قد اشتعلتْ

في جمْره الناس لا الأعواد والحطب

كأنها رأسُ مجنونٍ قد احتدَمتْ

به الهواجس واستشرى به الغضب

ترتجُّ في راحة الطاغي كجمجُمةٍ

تحت القتام طوت أحلامها الكرَب

عَلا دُخانُ المنايا في سَماوَتِها

فزُلزلتْ رَهبةً من هوْله السحب

وكُبكِب الناس للميدان لا فَرقَ

من الحِمام، ولا خوْفٌ، ولا رَهَب

كأنما سئموا الدنيا وبَهجتَها

فراحَ يُغريهمُ للفتكةِ الهرب

الأرضُ أُمُّ رءُومٌ ما جفت ولداً

ولا تقطَّع مِنْ أرحامِها سَبب

تُقيتُ جائعَها حيّاً وتشرِبُهُ

وما تضنُّ بسترِ الهالِكِ التُّرب

فَما لَهمْ مَزَّقوا أوْصالهَا طَمعاً

وناهَشوا الوحشَ في الآطام واحْتربوا؟

ودوَّخوا كلَّ سَجواَء الظِّلالِ بِها

وكلّ عَزلَاَء فِيها السيفُ مُغترِب!

وكلَّ ناسكةِ الكفَّينِ في يدها

غصنُ السلام يتيم العود مرتهِب!

وكلّ شلَاَّء في الطُّغيان، باطِشةٌ

في الخَير في يَدها الرَّيحانُ والفُضُب!

زيتونةُ السّلم خلوْها مُعفّرةً

دمُ الضحايا عليها هاطلٌ سكِب

نوْحُ الليالي، وإعوال السنين على

ترابها جَوْقةٌ خرسَاءُ تَنتحب

ص: 38

وللثَّكالَى نَشيجٌ ردّ حرْقَتهُ

في كلِّ بيت تداعى مضجع خرِب

ولِلأجنةِ همسٌ حول مصرعها

كأفرخ فَتَّ في أكبادها اللغب

قد أعْجلتهْا يدُ الُفتاك مولِدَها

فَعمرُها قصة فوْق الثرى عَجب!

هزَّ الصَّباح لها مَهْداً، وأرضعَها

قطرَ النَّدى، وكساها ضوؤهُ القشِب

وفي الضحى نشقتْ آجالَها. . . وغَدتْ

عُمراً حديثُ الأسَى عن أمسِهِ كذب

ميْدانُ حربٍ هُنا!؟ أم تِلك مجزرةٌ

دمُ الحضارةِ فِيها رَاحَ يَنْسكِبُ؟

في البر، في البحر، في صدر السماءِ وغى

لمخْلب الوحش فيها النصر والغلب

أتتْ إلى غابهِ الأشْلاءُ صاغرةً

فعافها وتجافى نَتْنها السّغب

يا حان (عِزريل) إن الكرْم قد نضجت

به القطوفُ وحيَّا كأسهُ العنب

قمْ أتْرع الدَّنَّ. أوْ لا! فَهْي مترعةٌ

فاحبسْ خُطاك، عداها الأيْنُ والتعب

وادعُ الندامى، وقل للظامئين: هنا

نبعٌ من الموت بالأرواح يصطخب

هيَّا اشربوها على نخبِ الطُّغاةِ فهُمْ

من خمرِها في ليالي الحرب كم شربوا. . .

وكم تنادَى ضُحًى بالسِّلم عاهلُهم

فما دجى الليْل حتى راح ينقلب

وأرسل البغتةَ النَّكراَء صاعقةً

تدِفُّ من نارها الأرزاءُ والنُّوَب

الناسُ منها أعاصيرٌ مُزمجِرةٌ

يرتجُّ في يدها الفولاذ واللهب

والموتُ شاعرُ آجالٍ على فمه

ينعى النشيدُ، ويَرثى نفسه القصب

قد جُنّ فارتجلَ الأعمارَ قافيةً

مزمورُها من قلوب الناس منتهب

تُرى الحضارةُ ثكلى في مآتمهِ

ودمعُها من جِراح العصر مُنسرب!

يا قَومَنا وتُرابُ (النيل) ضجّ بنا. . .

أما كفانا عليْه اللهو واللعب!

أما كفانا كرىً في جنَّة سجدت

لها العصور وأحنت رأسها الحِقب!

وجاسَ (هاروت) يوماً في ظلائلها

فردّه سحرُها حيْرانَ يرتْعب

تَبكي الرُّقَى بين كفَّيهِ تمائِمها

بكاَء راجي الأماني خانه الطَّلب

وكيف؟ والسحرُ في أعتابها رصَدٌ

وحُسنُها بشعاع السحرُ منتقب

هذى المحاريب كم ريمت دفائِنها

فأقسمت أرضها لن ترفع الحُجب!

قد ختَّمتْ سرَّها الأقدار فانع لها

مَن راحَ مِن فمَها للسرِّ يرتقب

ص: 39

وكم تحَّطمَ جَبّارٌ على يَدِها

ودُكَّ باغٍ قوىُّ البطش مغتصب

شُطآنُها الخضر ألواحُ مقدَّسة

تنزيلُها عَجَزتْ عن حمله الكتُب

سمراءُ، مسكيَّة الأغراس طاهرة

وفيَّةٌ ما دَنتْ من عهدها الرِّيَب

كانت مصلَّى جبين الدهر في زمن

ملَّتْ قرابينَه الأصنام والنُّصب

والناس من نَزَق الفوْضى وظُلمتها

ماجوا من الجَهل كالقُطْعان واضطربوا

كلنا لهم قبساً (فرَعوْن) أشعلَه

كيْما تضِئ به للعالَم الشُّهُب

لولا شعاع سرَى من مَهدنا لغدتْ

أَجيالهم في ظلام الفكر تحتجب!

والنخل فيها كفرسان على كثَب

ترنَّحَ النصرُ فيهم بعدما غلبوا

ترجَّلوا، وشأت أعلامُهمْ، ومضتْ

رُءُوُسهْم بِفُروع الْغار تَعْتَصِب

إنْ هَزَّها الرِّيحُ خِلتَ الجيش صاح به

منْ بوق (رمسيس) صوتٌ صاخبٌ لجب

وإن سجتْ قلتُ عباد قد ابتهلوا

في مَعبد حفَّهُ الإجلال والرهب

والنيلُ جبار آبادٍ كم احتُضرت

بشاطئيهِ سنونٌ واختفت حِقب

الأسيَوُّيون حجوا فوق صفحته

وأُنسيتْ مَهدها في ظِّلهِ العرب

وأَقبلَ الغرب أَرسالاً متيَّمةً

كأنما عُلِّقت في زرْعه الصُّلُب

أمواجه هتفت بالناس: مِن زَبدى

ومن رَشاش هَديري ينبت الذهب

دعوا الغمامَ وشوْق الموَعدين به

فلجَّتي من سُفوح الخلد تَنسكب

كلَّت بأرضي خُطا الأيام من سفر

ما مسَّ خطْوي به يأسٌ ولا تعب

علا وقارُ الندى كفى فما افتخرتْ

على النزِيلِ بما تعطِي وما تهب

تَّسَّيْت كل غريب أهله، فغدا

من ذاقني مرّةً للنيل ينتسب!

يا شعبَ (مصر) وَعظْتُ اليوم فاستمعوا

فإنني لكُم يوْمَ الفَخَارِ أَبُ!

خلقتُ من أرضِكم للشمس رابيةً

عِطرُ الخلودِ بها رّيان منسكب

النورُ فوق مَجانيها وأغْصُنِها

متيَّمٌ شَفَّهُ الإغرادُ والطرَب

وحاملُ الفأس يسقيها حُشاشته

وحظه من جَناها البؤس والوَصب

من عهد آدم يَرعاها. . . وشِقْوتهُ

دمعُ السواقي لها غضبان ينتحب

الأسمَرُ القانعُ المسكينُ تحسبهُ

في الكوخ بينَ حماهُ والبلَى نسب

ص: 40

مُرُّوا بهِ مِثلما مَرّ النعيمُ بكم

فما لكم بِسوى أجدادهِ حسب!

وأنقذوا مِصر من خُلفٍ يكاد به

جَنانُها من صراع القوم يَنشعِب

كونوا لها صفَّ أبطالٍ على فمهمْ

نشيدُ مجدٍ بِلحنِ النار يَلتهب

فإن دعا هاتفٌ للحرب أو رجفتْ

من بوقها نذُرٌ بالشرِّ تقترب

هُبُّوا حُتوفاً وطِيروا أنُسراً وثِبوا

صواعقاً بالمنايا الحُمْرِ تصطخب

وفي دَمي النغَمُ الجبّارُ يلهمُكم

شجواً تعانقَ فيه السِّحرُ واللهب

والشِّعرُ دُنيا مِنَ الإعجازِ ساكنةٌ

لولا الأسى رقْرقَتْ أنغامَها الشهُبُ!

ص: 41

‌أنوار.

. .

(مهداة إلى الأستاذ خليل شيبوب)

للدكتور إبراهيم ناجي

طابتْ بكِ الأيام وا فرحتاهْ

أنتِ الأماني والغِنى والحياهْ!

قد وَجَدَ الضِّلِّيل نور الهدى

يا حُلمه يا نجمه يا سماه!

فليذهبِ الليل، غفرنا له

ما دام هذا الصبح عُقبى دُجاه

جمالك الطاهر عندي له

إيمان قلب في خشوع الصلاه

ولي إلى ذاك الجلال اتجاه

ولى بسلطانكِ عز وجاه!

قد طرق الباب فتى مُتعبٌ

طال به السيرُ وكلَّت خُطاه

نَقّل في الأيام أقدامه

يبغى خيالاً ماثلاً في مُناه

عندك قد حط رحال المُنى

وفي حِمى حُسنك ألقى عصاه

أينَ شقاءٌ صاخِبٌ في دمي

جرعني الضنك إلى مُنتهاه

له إذا دوّي به ساخراً

ضِحك التشِّفي وجنونِ الطغاه

شكراً لذات هَبطتْ من علٍ

تحدث النحس فَشُلَّت يداه

بأي كف طَعَنَتْ قلبه

فمات في قلبيَ حتى صداه!

قد هدأ الليل وران الكرى

إلا أخا سهد يُغَني شجاه

ناداكِ من أقصى الرّبى فأسمعي

لِمَنْ على طول الليالي نداه

نادى أليفاً نام عن شجوه

عَذْبٌ تَجَنبه عزيزٌ جناه

أحبك الحب وغَنّى به

عفّ الأماني والهوى والشفاه

وإنما الحب حديثُ العُلى

أنشودة الخلد ونحن الرُّواء

ناجي

ص: 42

‌رسالة الفن

دراسات في الفن:

اليد فاللسان فالقلب

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

- أأنت الذي قطعت أوتار هذا العود هكذا؟

- نعم

- وتقول بكل وقاحة (نعم)؟! لم أعد أطيق معك صبراً!

- وبهذا أنذر الخضر موسى. ومع هذا فقد أصر موسى على صحبته. . .

- الخطر وموسى؟ إذن حكمة في هذا الخبل يا سيدي الخضر الثاني. . .

- من غير شك. فالمحروس أخوك الصغير خلقه الله معبداً بالغريزة والسليقة، وقد كان هنا طول الأمس، فلو أنه عثر على العود مشدود الأوتار لأبى إلا أن يطربنا ويشنف أسماعنا بنشيد (العنزة والضفدعة) وأغنية (الجحش النجيب)، وغير ذلك من محفوظاته الرائعة. . . فقطعت أوتار العود، ونجونا بذلك من الكرب

- أما كنت تستطيع أن تخفيه؟

- كان يستطيع أن يجده!

- فإذا وجدته أما كنت تستطيع أن تنهاه عن العزف؟

- بل كنت أستطيع أيضاً أن أدعه يعزف فلا أمنعه، ولا أنهاه، وإنما ادعوا الله في قرارة نفسي أن تنقلب أوتار العود ألغاماً فما يمسها حتى تنفجر في وجهه فنرتاح ويرتاح. . .

- يا حفيظ! ولماذا لم تفعل هذا يا سيدي الخضر فكنت ترينا كرامة من كراماتك؟

- لا يفعل هذا إلا من كان إيمانهم أضعف الإيمان

- الكرامات لا يفعلها إلا ضعفاء الإيمان؟ ما هذا؟ إنما الكرامات للأولياء. . .

- الكرامات للأولياء، وما أكرمه على الله عبده الذي يلهمه الصواب ويوفقه إلى فعله بيده. . . أتظنين أن هذا شيء يسير؟ هذه هي الكرامات، وأولياء الله هم الذين يفعلون الصواب ويقيمون الحق بأيديهم. . . والحق من الله. . .

ص: 43

- كنت أحسب للأولياء آيات

- إن لهم آيات. بل أن الذين أقل منهم آيات أيضاً. . . بل إن في كل الذين ترين وتسمعين من هذا الوجود آيات. . .

- ما هذا التناقض؟ تنكر عليهم الكرامات، وتشهد لهم بالآيات، بل تمضي فتشهد لمن هم دونهم بها. . . ثم تذوب آخر الأمر في هذا الوجود الذي لا يمكن أن نحصره فتقول إنه كله آيات في آيات، فما الذي تحب أن أفهمه من هذا كله؟

- إذا استطمت فافهميه كله، ولكي تفهميه كله اذكري الحديث الشريف من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فأن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وهذا أضعف الإيمان. واذكري إلى جانب هذا الحديث قصة الخضر وموسى، واذكري مع هذا وذاك أن القرآن يروي عن حوار دار بين الكفار وبين النبي (ص) طلب فيه الكفار منه آيات ومعجزات فأوحى إليه الحق الجبار أن يقول لهم إن الوجود ملؤه الآيات والمعجزات. وأعذريني إذا كنت لا أحفظ نصوص الآيات فقد استعصى عليَّ الحفظ بفضل الطرق التي كانوا يحفظوننا بها في المدارس. . .

- إني أذكر هذه الآيات ولكني مع هذا لا أستطيع أن أخلص من جمعها إلى الحديث الذي ذكرته، وإلى قصة الخضر بشيء مما تريدني أن أخلص به. . .

- هذه هي عادتك. . . فلو كان ما نناقشه حسبة فستان وروائح ومساحيق لخلصت منها كالجن بالذي تريدين. . . وأكثر! لا بأس فلنبدأ معاً. . . أنت تعلمين أن كل ما في هذا الوجود يتبع في حياته قانوناً خاصاً به. وأنه لو حاد عن هذا القانون أختل وأضطرب وفسد وقد يفقد الحياة. وأنت تعلمين إلى جانب هذا أن كل القوانين التي تخضع لها كل الخلائق لها هي أيضاً قانون تخضع له هو قانون التطور والارتقاء الناهض إلى الكمال والموصل إلى الله وأسمه الآخر، تباركت أسماءه. والخلائق متنوعة: منها ما يبدوا لنا بإدراك، ومنها ما لا يبدو له إدراك، ومن الخلائق التي لها إدراك الإنسان، وله إلى جانب الإدراك أو بهذا الإدراك إحساس وإرادة وعقل، ثم إن له آخر الأمر قدره على الإنتاج. وحياة الموجودات في مجموعها حين تنزع إلى الارتقاء والكمال لا تزحف بالتساوي ولا تتماسك في صف واحد، والذي صنع بها هذا هو تشابك القوانين المؤثرة فيها وتعقدها وتكاثر الظروف الفعالة

ص: 44

فيها وتباين أصولها وأتجاهاتها، وهذا التشابك وهذا التعقد وهذا التكاثر وهذا التباين. . . كل هذه حين تتفاعل تغلي بالوجود غلياناً، وفي هذا الغليان تتناثر بعض الموجودات فتخرج عن محيط أخواتها متطايرة متطيرة، فأقوى ما في الموجودات هو الذي يستطيع أن يرد هذه الشاذة إلى مرجل الحياة بالدفع أو بالجذب، وأقل قوة من هذا هو الذي يدعوها بالكلام عسى أن تقتنع أو تعود إذا كانت مما يفهم الكلام. . . والأقل قوة من هذين هو الذي ينظر إلى هذه الشاذة نظرة العارف بمروقها والآسف لهذا المروق والراغب في عودتها، والعاجز عن إعادتها بالفعل أو القول. وهذا الذي وصفه النبي (ص) بأنه أضعف الإيمان، وليس الإيمان - كما لعله وضح - إلا الخضوع بالرضى لقوانين الحياة الساعية إلى الله، ومن أقوى هذا الخضوع ما لم يشبه التردد وما صاحبه الإدراك، كخضوع الخضر، ومن أضعفه الخضوع الذي لا إدراك فيه وهو خضوع الجماد والتراب، وبين هذا وذاك درجات للإيمان.

- والآيات. . .؟

- الآيات هي البراعة في هذا الإيمان. . . إن في تتابع الليل والنهار آية، لأن هذا التتابع بارع، فهو ماض منذ كان إلى ما شاء الله لم يضطرب يوماً ولم يتأخر يوماً، ولم يحدث أن تعاقب نهاران أو تلاحقت ثلاث ليال من غير أن يتوسطها نهاران.

- في القطب يطول النهار شهوراً. . .

- نحن نتحدث في التتابع لا في الطول والقصر فلهذين قانون آخر هو أيضاً آية لأنه أيضاً بارع

- طيب. . .

- وكما أن للشمس والقمر براعة في إيمانهما تحتم أن يكون للناس براعة في إيمانهم ما دام الناس هم أشرف المخلوقات. وقد حدث هذا. فإن من الناس من هم بارعون في إيمانهم براعة هي آية. . . فالخضر الذي ثقب سفينة الفقراء لينقذها من اغتصاب الحاكم الطاغية الذي كان يأخذ كل سفينة غصباً إذا أعجبته، ولا تعجبه المثقوبة، كان في عمله هذا من أولياء الله، أي من ملازمي الحق، أي من الناس البارعين في خضوعهم لقوانين الحياة الصحيحة التي كان جديراً بالأفراد جميعاً أن يتبعوها فلا يعتدي منهم إنسان على ملك

ص: 45

إنسان، أو على جهد الإنسان، والخضر - فيما يروي كتاب الله - كانت له أفعال كثيرة كهذه، وعلل بعضها لموسى حين ألح في سؤاله إياه عنها، وهذا التعليل يدل على أنه كان يستطيع التمييز بين الخلائق والحوادث المنتظمة في النهج الصحيح للحياة - أو بعض ذلك - وبين الخلائق والحوادث الأخرى التي تشذ عن هذا النهج الصحيح - أو بعض ذلك - وبراعة الإيمان في الخضر ليست هي مجرد الإحساس بهذا وإدراكه، وإنما براعة إيمانه في أنه يرد الحق إلى نصابه. . . وهذا فعلاً هو الأمر الجلل الذي لا يستطيعه كل إنسان. . . فنحن في كل يوم نرى عيوباً وشذوذاً عن الحق يصاب بها الناس وتصاب بها الأشياء، ولكن أكثرنا يتشاغل عنها بشئونه هو كأن شئونه لا تتصل بشئون الكون. وقليلاً جداً من الناس هم الذين يلفتون الناس بالكلام أو بوسائل أخرى من وسائل التنبيه تشبه الكلام إلى هذه العيوب ويطلبون منهم أن يصلحوها، وهؤلاء هم الفنانون فهم أيضاً من ملتزمي الحق أي من أولياء الله، ولكنهم ليسوا كالخضر إيماناً ولو كانوا مثله لتحولت فنونهم هذه إلى أفعال يؤدونها بأيديهم؛ فيقيمون بها الحق ويقومون بها المعوج بدلاً من الكلام وما يشبه الكلام، ولكنهم على أي حال أقوى إيماناً ممن لا يفعلون ولا يقولون وإنما ينظرون ويدركون ويأسفون ويعجزون. . . وحتى هؤلاء أصلح حالاً مما ينظرون فلا يدركون، ولا يأسفون ولا يحزنون!. . . وما أسعد الجمهور من الناس الذي يتولى أمره نفر من هؤلاء المؤمنين، أولئك الذين يقومون العوج بأيديهم. . .

- وما حال الجمهور الذي يتولى أمره الفنانون؟

- الفنانون فيهم عيب، وهو أنهم يقولون ما لا يفعلون. . . وقد وصف القرآن الشعراء بهذا. . .

- هذا صحيح، ولكن لماذا؟

- ألم نقل إن درجات الإيمان تختلف في الخلائق، وأن اختلافها يظهر في مدى خضوعها لقوانين الحياة المرتقية إلى الكمال بمظهر القوة على رد غيرها إلى مرجل الحق بالدفع أو الجذب، ثم بعد ذلك بالنداء أو الكلام ثم بعد ذلك بالأسف. . . إلى آخر هذا الذي قلناه

- هيه. . .

- الفنانون إيمانهم من الدرجة الثانية أو ينتجون من الفنون ما يشبه القول، وتنظرين بعد

ص: 46

ذلك إلى أعمالهم فترين فيها ما قد يتناقض مع أقوالهم. . .

- أو لا يستطيعون أن يصلحوا من أنفسهم؟

- يستطيعون. . . فالله لا يمنع الرقي عمن أراد، وقد علمنا في القرآن وفي الإنجيل وفي التوراة أن نناديه وأن نطلب منه الهداية إلى الطريق المستقيم، وليس هذا الذي علمنا إياه عبثاً، وهو لم يقل لنا:(أدعوني أستجب لكم)، وفي نفسه ألا يستجيب. . . إنما هو الرحمن يريد أن يستجيب، ويطلب منا أن ندعوه ليستجيب. . . ففي يد كل إنسان إذن أن يطلب من الله ما يريد على أن يكون الذي يريده شيئاً مما يعطيه الله الذي هو الحق والذي هو الرحمن والذي هو العادل، والذي هو الهادي. . . فالهداية إذن بابها مفتوح. . . إنما علينا أن نطلبها. . .

- علمني كيف أطلبها لعل الله يهديني فأكون من أولياء الله الصالحين. . .

- أظن ذلك يكون بأن تعدي لها نفسك أولاً. . . أنت تريدين أن تهتدي للحق، فمهدي نفسك للحق. . . ثم اعرفي الحق ثم ابذريه في نفسك، ثم تعهديه بالحفظ والصون، ثم غذيه واسقيه حقاً وحقاً. . . عندئذ لا بد أن يثمر الحق في نفسه حقاً هو أزهى الحق وأزكى الحق. . . وسترين نفسك بعد ذلك، وتقولين الحق كما يفعل الفنانون، ثم إذا رضي الله عنك رأيت نفسك تفعلين الحق بيدك كما يفعله أولياء الله الصالحون رضي الله عنهم. . . أظن أن هذا هو الطريق. . . بل إنه الطريق

- فلماذا لا يمضي الفنانون في طريقهم هذا إلى نهايته؟ ما دام يستطيعون؟

- لعل إعجابهم ببراعتهم في إيمانهم يستهويهم.

- هذا الإيمان الشفوي الذي لا غناء فيه، والذي لعنهم القرآن من أجله. . .

- ليس إيمان الفنانون شفوياً يا هذا، وإن القرآن لم يلعنهم يا تلك. . . بل إن القرآن وصفهم بأنهم يقولون ما لا يفعلون وهذا حق لأنهم هكذا، وقال عنهم القرآن إنهم يتبعهم الغاوون وهم الذين يستهويهم كلام الشعراء وفنون غيرهم من الفنانين، ويهيمون ورائهم في دنيا كلها خيال تريد الكمال ولكنها لا تطلب الكمال إلا بالكلام، بينما الكلام لا يحقق هذا الكمال، وإنما تحققه الأفعال. . . فالفنانون هم حقاً لا ينتجون إصلاحاً. . . ولكن دعوتهم إلى الإصلاح والكمال لا بد أن تصادف مؤمناً ممن يستطيعون أن يفعلوا بأيديهم فيحقق بهذا

ص: 47

الإيمان الذي يستقيه منهم وبإيمانه الذي يهديه إليه الله. . . ذلك الكمال أو جانباً مما كانوا ينشدون. . . وحين وصف القرآن الشعراء بهذا الوصف الذي لا شك أن فيه كثيراً من التعبير كان الإسلام في حاجة إلى الذين يبذلون الأرواح والأجسام في تقويمه وتثبيته، ولم يكن في حاجة إلى من يقول شيئاً، لأن الله عندئذ كان هو الذي يقول. . .

- أذن فليسوا الآن ضالين. . .

- ولم يكونوا يوماً ضالين ما استوحوا الحق فنونهم، وإنما كان على أنوارهم أن تسجد لنور الله حين تجلى الله بنوره على محمد سيد العالمين. . .

- ولكن دفاعك هذا كله عنهم لا يزال عاجزاً عن رفع إيمانهم منزلة على الإيمان الشفوي كما أقول. . .

- أعوذ بالله منك ومن اللوغاريتمات. . . إن لإيمانهم هذا المظهر الشفوي الذي تقولين عنه لأن تعبيرهم عن هذا الإيمان يكون بالكلام، أو ما يشبه الكلام، ولكن إيمانهم نفسه ليس كلاماً ولا شيئاً يشبه الكلام. وإنما هو إحساس وفهم وإدراك وتمييز واهتداء إلى الحق. هم يشعرون بأنفسهم، ويشعرون بما يحيط بهم، ويشعرون بالحق في بعض هذا، وبالشذوذ عن الحق في بعضه، وهم يشعرون بالحق واتباعه خير من الشذوذ، فيرجوا أن يحدث هذا الحق، ويتصورون أنه قد حدث فعله لأنهم يستطيعون بعقولهم أن يرتبوا النتائج على المقدمات، ومتى اهتدوا إلى علاج للعيب الذي يرونه فإن أنفسهم تخيل إليهم أن هذا العلاج قد تم بالفعل وأن الخلائق قد صلحت بعد ذلك واتبعت قوانين الحياة الصحيحة. . . وهم يصفون هذا كله بفنونهم: يصفون رجاءهم، ويصفون علاجهم، ويصفون آثار هذا العلاج ويصفون قبل هذا وذاك الأشياء التي يرونها على ما هي عليه بما فيها من خير وما فيها من شر. . . ولوا أنهم عدلوا عن هذا الوصف إلى الإصلاح باليد لما قلت عنهم أن إيمانهم شفوي، وإنما الذي يسحبك إلى هذا المغالطة هو المظهر الشفوي لإيمانهم. وحرام عليك هذه القسوة

- ولكن من الفنانين عابثين، وإن منهم داعرين. . .

- ليس هؤلاء فنانين، وإنما هم حيوانات يتفننون.

عزيز أحمد فهمي

ص: 48

‌رسالة العلم

أرقام تتحدث

وتنبئنا عن قصة الإلكترون

للدكتور محمد محمود غالي

- 1 -

لم يتطرق إلى ذهني أي وهن يمنعني عن متابعة الكتابة لقارئ (الرسالة) الذي وعدته المرة بعد المرة بأني منبئه بقصة الوجود، مطلعه قدر المستطاع على حلقة التفكير الإنساني في أحدث صوره، مستعرض أمامه مبلغ ما وصل إليه من السمو، مطلعه على الطفرة التي بلغتها العلوم الطبيعية والذروة التي ارتقى إليها العلم التجريبي محدثه في الأسباب التي دعت العلماء إلى الأخذ بفكرة معينة والإعراض عن أخرى. ولكن تطرق إلى جسمي نوع من الوصب ظننته بادئ الأمر وصباً دائماً، وحل بهذا التركيب الجسماني مرض عاقني عن الكتابة شهراً، أختل خلاله توازن الجسم ووصل الاختلال إلى العينين، فغير المرض فيهما معامل الانكسار ومنعني هذا عن المطالعة وأبعدني عن الكتابة. ولم تكن مقالاتي بالتي أستطيع أن أمليها على أحد، فأستطيع الاستمرار في الكتابة، إنما من الضروري مراجعة بعض المصنفات والاطلاع على بعض الجداول، نتاج البحث التجريبي وعماد الفلسفة الحديثة. وكان من اللازم تصفح عدد من النشرات العلمية لأستطيع أن أكون للقارئ هيكل موضوعاتي وأحدد معه مجمل مقصدي

وهكذا شاءت الظروف أن أحتجب عن الكتابة على غير إرادتي، وأبتعد عن القراءة على غير رغبتي، ولكن الاختلال أخذ طريقه في الزوال، والمرض بدأ يتضاءل، والعينين بدأتا عملهما كسابق عهدي بهما، فكان أول همي أن أتصل بالقارئ وأول أغراضي أن أتم له حديثي وليكن ذلك من حيث انتهينا آخر مرة. حدثنا القارئ عن الإلكترون الوحدة المكونة للكهرباء، هذه الشخصية التي هي أصغر ما نعرف في المادة يعتبرها فريق من العلماء جسيما ضئيلاً ويعتبرها البعض الآخر اتحاداً بين جسيم صغير وموجة مستصحبة لها. ووصفنا التجارب الشهيرة التي قام بها مليكان في خريف سنة 1909 التي استطاع بها أن

ص: 50

يقيس شحنة الإلكترون، هذه التجارب التي فصل فيها هذا العالم جسيماً حاملاً إلكتروناً حراً واحداً، وقد وضعنا جهاز مليكان وشكله في مقال سابق، ويتكون من بخاخة تنشر رذاذاً رفيعاً من الزيت في غرفة عليا يسقط فيها هذا الرذاذ ويمر بعد سقوطه في غرفة سفلي فضاؤه صغير يبلغ ارتفاعه 15 ملليمتراً وواقع بين كفتي مكثف كهربائي. هذا الرذاذ مكهرب بسبب احتكاك جسيماته بعضها ببعض بحيث أن كل جسيم منه يحمل فريقاً من الشحنات الكهربائية بعضها سالب وبعضها موجب، ويمكن كهربة هذه الجسيمات بتسليط أشعة راديومية عليها تخترق الغرفة التي تحويها فتكسب هذه الجسيمات شحنات كهربائية، وترى هذه الجسيمات الميكرسكوبية بتسليط حزمة ضوئية عليها بشرط أن نراها في اتجاه عمودي على مسار الحزمة، عندئذ تبدوا كالكواكب اللامعة في فضاء الغرفة الصغيرة

ولا يجوز أن يختلط الأمر على القارئ فيظن أن هذه الجسيمات المتناهية في الصغر هي الإلكترونات التي نتحدث عنها ويعتقد بهذا أن مليكان رأى الإلكترون، والواقع أن هذه الجسيمات مهما صغرت كبيرة بنسبة الإلكترون، فهي عليها كالإنسان على الأرض أو كمخلوق على كوكب المريخ - إننا نستطيع في الليل أن نرى المريخ ينتقل في أبراجه السماوية ونتحقق بالمنظار من دورانه حول نفسه، ودورانه حول الشمس، ونرى ما يحيط به من سحب وما يعلوه من جبال ويكتنفه من هضاب ووديان، ولكننا لا نستطيع بما أوتينا اليوم من علم أن نرى رأى العين ما قد يعيش من حيوان أو نبات - كذلك الحال في تجارب مليكان. رأى جسيماً يحمل إلكتروناً أو بضعة إلكترونات أو عدداً عديداً منها، وكان على ثقة في كل حالة من وجود الإلكترونات على هذا الجسيم المضيء السابح في جو الغرفة الصغيرة كما يسبح المريخ حول الشمس وكما تسبح هذه في المجرة وكما تسبح المجرة في الكون المحدود، ولكنه لم يرى الإلكترونات بذاتها

على أني أزيد القارئ شرحاً: لو أننا استطعنا يوماً أن نتحقق من وجود مخلوقات في المريخ فلا يتحتم أن نرى هذه المخلوقات لنعرف عددها، ثمة وسائل أخرى يصح أن نجيل فيها النظر فإنه يكفي أن تتبادل هذه المخلوقات معنا رسائل مفهومة يستطيع هؤلاء فيها أن يوافونا بإحصاء عن عددهم، عند ذلك نقول: إن المريخ يسكنه كذا من المخلوقات الأذكياء دون أن نكون في حاجة لنرى أياً منهم.

ص: 51

كذلك كان الحال في تجارب مليكان الخالدة التي يجذبني هيكلها الرائع منذ تجولت فيه بالمطالعة والدرس والذي أبسطه للقارئ قدر المستطاع - كان في استطاعته أن يرى الجسيم الزيتي المتناهي في الصغر، وكان يعرف عدد ما يحمله من الإلكترونات وهي جسيمات أصغر من الرذاذ المادي كما أن المخلوقات الفرضية في المريخ أصغر بكثير من الكوكب الحامل لها وكان مليكان يعرف عدد ما يحمله الجسيم المضاء من الإلكترونات عدد ما تحمله الأرض من مخلوقات بشرية، وليست ثمة فارق بين معرفتنا هذه ومعرفة مليكان إلا أننا لا نستطيع أن نعرف على وجه التدقيق عدد الأحياء من البشر في لحظة معينة، وتواجهنا في ذلك مصاعب يتفق القارئ معنا فيها، منها أننا لم نكتشف الأرض كلها ومنها أننا لا نستطيع في بعض الشعوب الاعتماد على وسائل الإحصاء الصحيحة بيننا نستطيع أن نعرف على وجه التحقيق عدد المخلوقات الإلكترونية التي يحملها كل جسيم، ولم يتطرق إلى ذلك أي خطأ

كيف تسنى لمليكان التحقق من وجود هذه الشخصيات التي لا ترى، هذه المكونات الأولى للخليقة؟ - كيف استوثق من عددها؟ - أمور أحدث عنها القارئ في الأسطر الآتية واحتاج في ذلك إلى بعض الشرح.

في باريس محلات للبيع يسمونها أي (أثمان موحدة) تشبهها في لندن محلات أسمها (ولورث) تدخل إليها فتجد فيها كل شيء، تجد جميع الأصناف من المأكولات فتجد الشكولاته كما تجد علب الأناناس والفواكه المحفوظة، كذلك ترى أطباقاً ساخنة للأكل تغنيك وأنت في عجلة عن الغذاء أو العشاء يسمونها (طبق اليوم) وترى أطباقاً باردة تقوم مقام (الساندوتش) وترى الأنواع المختلفة من لعب الأطفال أو أدوات النجارة والبرادة، وفي هذه المحلات توجد الملابس بجانبها الأدوات الكهربائية من مصابيح إلى أجراس وخلافه، وتوجد الأقمشة والأحذية بأنواعها؛ وتوجد أدوات الزينة للسيدات وأدوات الحلاقة للرجال، وطل ما يعوزنا نجده في المحلات من أدوات الحديقة إلى أدوات الحمام من المأكل إلى المشرب إلى كل ما يطرأ على بالنا من الحاجيات، وقد حددوا الأثمان فيها فجميع ما فيها يباع مثلاً بخمسة فرنكات أو بأعداد مضاعفة للخمسة مثل 10 أو 15 أو 25.

ثمة غاية لنا من وصف هذه المحلات يراها القارئ فيما بعد، ونكرر القول أن المعاملة في

ص: 52

مختلف أقسام هذه المحلات تجري بخمسة فرنكات أو أضعافها، فإذا دخلها في اليوم الواحد ألوف من الجمهور فأننا على ثقة بأن كل شخص أشترى بضاعته بخمسة فرنكات أو بعدد منها، ثمة رجل أشترى بمبلغ 20 فرنكاً وآخر بمبلغ 35 وثالث بخمسة ورابع بمائة أو مائتين ولكنه لا يوجد متردد واحد أشترى بضاعة ثمنها 37 فرنكاً أو 102 من الفرنكات لسبب واحد، ولكنه سبب رئيسي، ذلك أن هذه البضاعة غير موجودة ولا يجوز شراءها بهذا الثمن.

ولو أننا الآن عرضنا على أحد الطلبة المبتدئين في الحساب الجدول الأتي من الأثمان المختلفة التي أشتري بها عدداً من الجمهور الباريسي. 10، 35، 45، 5، 105، 80، 60، 75، 65 وسألناه عن العدد الذي يقسم كل هذه الأعداد لأجابنا على الفور 5، ومعنى ذلك أن كل عدد من الأعداد السابقة يقبل القسمة على 5 فالعدد الأول يحوي أثنين منها والثاني 7 والثالث 9 والرابع 1 والخامس 21 الخ. هذه المسألة البسيطة التي يسميها المعلمون في المدارس القاسم المشترك الأعظم الذي هو 5 في المسألة السابقة، كانت المسألة الوحيدة التي أستنتج منها مليكان شحنة الإلكترون وتثبت من وجود عدد الإلكترونات الحرة المحمولة على كل جسيم كان ينظر إليها في الغرفة الدقيقة السابقة. وإلى القارئ كيف حدث ذلك: ترك العالم المعروف (مليكان) رذاذ الزيت يسقط في الغرفة الأولى، وتتبع بالميكرسكوب ما يمر من هذه الجسيمات الصغيرة في الغرفة الثانية، وكانت تسقط تحت تأثير جاذبية الأرض كما يسقط كل جسم عليها، وكان يراها كالكواكب تتألق ساقطة جميعها من أعلى إلى أسفل بين كفتي المكثف المكون لسقف وأرض الغرفة الصغيرة الثانية، وكان من الميسور باستعماله ساعة ثوان أن يقيس الزمن الذي يمر على أحد هذه الجسيمات لتقطع مسافة معينة، هي المسافة التي بين شعرتي عدسة المكرسكوب، مسافة تبلغ في تجارب مليكان خمسة مليمترات.

على أني ألفت نظر القارئ إلى أن كل جسيم يسقط في الفضاء بعجلة معروفة أي أن سرعته تزداد كلما أقترب من الأرض بمعدل في الزيادة معروف يسمونه (العجلة) بمعنى أننا لو تركنا كرة تسقط من أحد الأدوار العليا في منزل مرتفع فإن سرعة هذه تزداد كلما اجتازت الكرة الأدوار التالية حتى تبلغ أقصاها عند اقترابها من الأرض: أمر آخر يدخل

ص: 53

في محل الاعتبار عند سقوط هذه الكرة، ذلك أن للهواء كما لكل سائل مقاومة للأجسام التي تتحرك فيه، وتزداد هذه المقاومة أيضاً كلما ازدادت السرعة بحيث تتعادل بعد فترة معينة هذه القوة المقاومة مع قوة جاذبية الأرض للكرة، عند ذلك تسير الكرة بسرعة منتظمة لتعادل القوتين، ويسمي العلماء هذه المنطقة (المنطقة ذات السرعة المنتظمة) ولقد كانت المنطقة المحددة بامتداد شعرتي الميكرسكوب والعين من هذه المناطق التي تسير فيها الجسيمات بسرعة منتظمة بالنسبة للجسيمات الكروية الصغيرة التي أستعملها مليكان، وقد أعطى (ستوكس) القانون الذي يمكن أن تحسب منه سرعة هذه الكرات من كتلتها أو بالعكس، وهو معادلة تجد في أحد طرفيها ثقل الكرة في السائل وفي الطرف الثاني مقاومة السائل للكرة ويحوي هذا الطرف الثاني سرعة الكرة أيضاً.

راقب مليكان سرعة أحد هذه الجسيمات الساقطة والمتناهية في الصغر بملاحظة الوقت الذي يمر على الجسيم لكي يقطع المسافة بين شعرتي الميكرسكوب، عند ذلك أوصل التيار الكهربائي بين كفتي المكثف، وشاهد أن هذا الجسيم الساقط بدأ يرتفع في جو الغرفة الضيقة المحدودة بكفتي المكثف - ذلك لأن الجسيم يحمل عدداً من الإلكترونات كما قدمنا أي أنه مكهرب، وطبيعي أن تجذبه الكفة العليا إليها، لأنها مكهربة من نوع من الكهرباء يختلف عن الكهرباء الموجودة على الجسيم - عند ذلك قطع مليكان المجال الكهربائي الموجود بين الكفتين، وفي هذه اللحظة ذاتها بدأ الجسيم في السقوط مرة أخرى تحت تأثير المجال الأرضي؛ فإذا أوصل التيار الكهربائي عاد الجسيم إلى الصعود وهكذا.

وقد لاحظ مليكان أن الوقت الذي يسقط الجسيم فيه المدى الواقع بين الشعرتين واحد لا يتغير - إلا في حدود الخطأ التجريبي - وأن الزمن الذي يمر لكي يصعد الجسيم فيه المدى عينه يتغير من وقت إلى آخر، ويتخذ فترات مختلفة إلا أنها فترات تتكرر دائماً أو تتكرر مثيلاتها؛ وهي كلها مضروبة في عدد واحد يقسمها جميعاً، بمعنى أن يسقط الجسيم مثلاً في 13. 6 من الثانية ولكنه يرتفع دائماً إما في 12. 5 ثانية أو 21. 8 أو 34. 8 أو 84. 5، ومهما أعاد التجربة على الجسيم ذاته فإنه يسقط دائماً تحت تأثير المجال الأرضي في 13 ، 6من الثواني، ولكنه يرتفع تحت تأثير مجال كهربائي ثابت في عدد الثواني هو حاصل ضرب عدد معين يقسم الأعداد جميعاً

ص: 54

لم يكن هناك إلا فرض واحد لتفسير الحادث الواضح لحركة الجسيم في المجال الأرضي وحركته في المجال الكهربائي، ذلك أن الجسيم يحمل باحتكاكه في الهواء أو بالتأثير الراديومي فيه كميات كهربائية ذات شحنات مختلفة إلا إنها لا يمكن أن تختلف بعضها عن بعض إلا بقدر معلوم

(يتبع)

محمد محمود غالي

دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السربون

ليسانس العلوم التعليمية. لسانس العلوم الحرة. دبلوم

المهندسخانة

ص: 55

‌من هنا ومن هناك

السياسة والأخلاق

(عن (نشرة اكسفورد في الأحوال الحاضرة))

منذ عرف الإنسان السياسة لم يجد سبيلاً للتوفيق بينها وبين المثل الأخلاقية العالية. فهو أما أن يهجرها ويصد عن سبيلها كما يفعل رجال الدين في كل العصور، أو يشتغل بها ويواجه كل مواقف بما هو أهل له، فيرد ما لقيصر لقيصر كما يقول المثل المعروف. والسياسة لا تعرف غير الحقائق الواقعة، فليس من السهل أن نسألها العطف أو الرحمة أو الأناة أما إلى ذلك من الخلال التي نعرفها في حياتنا العامة.

ولعل من أهم الأسباب التي تجعل للسياسة هذا اللون، أنها تدين في الحياة للقوة، والقوة سلاح خطر، وإن كانت في ذاتها شيئاً لا هو من الخير ولا هو من الشر، شيئاً لا لون له ولا صفات فمرجعها في الحقيقة إلى الغاية التي تستخدم في سبيلها والوسائل التي تلتمس لها.

وقد واجه الحكماء والمحكمون هذه الصعوبات منذ عرفت السياسة. إلا أن ظروف العالم الحاضرة اليوم قد أمدتهم بشيء من الصرامة والتأييد. ويرجع ذلك إلى سببين: السبب الأول هو أتساع نطاق الحياة السياسية باشتباك الصوالح الدولية، فكثير من أحوال السياسة اليوم لا يرجع أمره إلى المصالح والأغراض الوطنية كما كان بالأمس، فللشئون الدولية أهميتها الكبرى في هذه الأحوال، ومن هنا يصير الاعتماد على القواعد الأخلاقية أشد صعوبة مما كان عليه في العهود السالفة.

أما السبب الثاني فهو أشد عمقاً من السبب الأول: وذلك أن الشعوب في هذه الأيام لم تعد تهتم بالدعوة الأخلاقية في العالم السياسي، لأنها غير واثقة من كيانها الأخلاقي نفسه.

لقد كانت الدول الأوربية منذ خمسين عاماً، بل - منذ عشرين عاماً كذلك - يربطها وثاق متين من الأخلاق المسيحية

- ولا أقول إن الحياة في تلك العهود قد وصلت إلى مستوى الأخلاق المسيحية السامية - ولكن هذا الباب كان مفتوحاً على كل حال. ولكنا اليوم نرى فجوة واسعة في العلاقات الدولية فلم يعد يصل ما بينها ذلك التعاون القديم الذي تقلصت ضلاله ولم يحل محل شيء

ص: 56

على الإطلاق، وقد أصبحنا نرى على الصهوة رجالاً متعلقين بعنان القوة، وهم لا يخشون شيئاً غير الهزيمة، ولا يخجلون من شيء غير الانحدار. فهل من الغريب مع هذا أن تنحط القوى الأدبية والمعنوية في العلاقات بين الدول الأوربية إلى الحضيض الذي لم تنحدر إليه في عهد من العهود؟

نحن اليوم أمام موقف يدعونا إلى بعض التأمل. ومما يدعو إلى الأسف الشديد أن نرى الحالة السياسية والفكرية والأخلاقية يعروها هذا الجمود.

وإذا كنا هنا بصدد الكلام عن الأخلاق، فمن الواجب أن نقول: إن حكام ألمانيا الحاليين قد أساءوا استعمال القوة التي في أيديهم، فزادوا إلى ويلات الإنسانية بلاء لم يعهد له مثيل؛ ومن الحق أن نحملهم وزر ما جنوا على العالم الإنساني، ونجعل الدفاع عن الأخلاق من الواجبات العامة التي ينشدها الجميع لخير الإنسانية العام.

إن الدول الدكتاتورية ما زالت تعتقد أن القوة هي سيطرة الإنسان على الإنسان، لا سيطرة الإنسان على الطبيعة، وترى في الجار عدواً يجب أن تتحين الفرص لهلاكه. فالجار والجار عدوان على الدوام.

وتستبيح لنفسها الاعتداء على كل أمة وهبتها الطبيعة شيئاً من خيراتها، وهذه حالة ينهار معها كيان الشرف والأخلاق.

نحن نحارب لأجل المدنية

(نقلا عن مجلة بكشرز يوست)

نحن اليوم في حرب، فماذا نحارب من أجله؟ أنحارب لأجل بولندة؟ أجل، نحن نحارب من أجل بولندة، لا لأن في بولونيا شعباً ضعيفاً معزولاً هوجمت بلاده دون إعلان سابق للحرب، ولكن لما هو أكثر من هذا، وهو أنا منحنا هذا الشعب كلمتنا.

- وهي الكلمة البريطانية. . . ولكننا كذلك نحارب من أجل حياتنا. فنحن نعلم أن انتصار النازية ليس في الحقيقة انتصاراً على بولندا واستراليا وتشيكوسلوفاكيا فحسب، تلك البلاد التي وجدت وذاق أهلها أشد أنواع العسف في العصر الحديث. نحن نحارب لهذه الأسباب - ولا شك - ولكن هناك اعتبار أعظم وأسمى من تلك الاعتبارات، وهو أنا نحارب لأجل

ص: 57

المدنية، فما هي المدنية؟ ليست المدنية لبس القبعة الحريرية، أو المعرفة بفن وجنر، أو الاضطلاع بعلم الكيمياء. ولكن المدنية هي معرفة فلسفة الحياة الحقة، هي أن تدرك تماماً أن القوة ليست الطريق إلى المجد، وأن المادية العمياء ليست كل شيء في الحياة، وترى راحتك في عمل الخير للصالح العام. إن الألمانيين ولا شك أكثر انهماكاً في دراسة الكتب من البريطانيين، ولكنهم لم يدركوا هذه الحقيقة، فهم أذن بعيدون كل البعد عن المدنية.

يقول بعض المتشائمين: إن كل شيء في الحياة قد تناولته يد الفساد فما أجدرنا بأن نهدم بيدنا كل شيء ونبني حياتنا من جديد! وما أجدرنا بأن نقتدي ببساطة ذلك الهمجي النبيل ولكن الهمجي النبيل ليس إلا أسطورة في خيال ذلك القائل المسكين، إن أهالي الشعوب الهمجية على ما عرف عنهم من الخرافات الكثيرة ليسوا بسطاء، فهم يطوون قلوبهم على الشحناء ويجدون فخارهم في الحروب.

إن الحياة ولا شك لم تصل إلى الغاية التي يستريح فيها كل إنسان، وعلى الأخص الفقراء، ولكن حالة الفقير اليوم خير منها بالأمس والعالم بمختلف طبقاته اليوم أكثر اتجاهاً إلى البر والإحسان والاعتراف بحقوق الفقراء مما كان عليه منذ مائة عام. لقد أخذت الشعوب تجني ثمار الراحة والرفاهية نتيجة جهادها الجهل والقسوة مئات السنين. ونحن مطالبون اليوم بأن نحارب تلك الدعاوى الباطلة التي غرس بذورها هتلر ولينين، ضناً بتلك الثمار النقية من الفساد

وإن بريطانيا وفرنسا لتزهيان بقيامهما بواجبهما في سبيل الدفاع عن المدنية، ضد هذه الحالة التي ترجع بالعالم إلى عصور الهمجية الأولى، ولا تختلف عنها إلا في استعمال الطائرات قاذفة القنابل والمدرعات الحربية بدلاً من القوس والنبال.

إن الكفاح العظيم الذي نراه اليوم قد أوجد بيننا نوعاً جديداً من الوئام والارتباط، ونحن نرى روح التعاون اليوم يشع نورها في كافة الأنحاء، ومن واجبنا إذا انتهت الحرب أنعمل على دوام هذه الروح، ومن واجب وزارة الخدمة العامة ألا تغلق أبوابها إذا دقت الأجراس مؤذنة بانتهاء الحرب ليدوم هذا التعاون الجميل لمكافحة الجهل والفقر والمرض.

ص: 58

‌البريد الأدبي

في المسرح

1 -

فجع المسرح الفرنسي بل العالمي في الإخراج والتمثيل بوفاة جورج بيتويف وقد شارك بيتويف المجددين من المخرجين الفرنسيين في فك قيود المسرح. فأتم هو وجوفيه ودولان وباتي مسعى كوبو (ومن قبله: في مسرحه الذي ثار فيه على الأوضاع المربوطة وأسم المسرح - والذي أحدثه هؤلاء النفر أنهم أنزلوا نص المسرحية في المنزل الأول فجعلوه كالصورة المنصوبة، وأخذوا هم يسلطون عليه الضوء من هنا والظل من هنا، من طريق الإخراج والتمثيل، حتى يبرز للعين وخصائصه تكاد تجسدها اليد، ودفائنه تتعلق بها البصيرة فتتصورها الحواس. وقديماً كان النص كالعجين يعجنه المخرج والممثل على أهوائهما. ومزية بيتويف أنه ذهب في الطريقة المستحدثة أبعد مذهب، وأشتهر بالبساطة بل بالسذاجة، وقد كنت أمل أداءه أو الأمر حتى فطنت إلى قوته المستترة وجلاله المتواري، فأدركت كم يجتهد الرجل (وزوجته أيضا: في ساعات التدريب حتى يبرز للنظارة كأنه غائب عنهم أو كأنه شبح يذهب ويجيء في عالم ثان. وكان بيتويف يختار من المسرحيات أبعدها غاية وأدقها لمحة وألطفها وضعاً. فأدى فيما أدى مسرحيات لأندرييف وتشيكوف الروسيين وإبسن النرويجي وشكسبير، وأقدم على بيرندللو الإيطالي فأقام باريس وأقعدها إذ أدى (ستة أشخاص يفتشون عن مؤلف) ثم أقدم على رابندرانات تاغور فأدى (رسالة أمال). فشق بتلك المسرحيات الدخيلة كوى ونوافذ في المسرح الفرنسي. وكان اعتماده على الجمهور المثقف، على الخاصة، وكثيراً ما راعتني قلة النظارة في مسرحه، ولكنه الفن الخالص، وبيتويف وأحزابه خدامه وسدنته. حتى أن الرجل كان يؤدي المسرحية الواقعية البينة المعالم في أسلوب يغلب عليه اللطف، رغبة في الإيحاء والإيهام؛ وهل المسرح سوى هذا؟

2 -

وأما الفرقة القومية عندنا فلا تزال تقول: إن جمهورنا يريد كذا أو لا ينشط لكذا. بالله لم أنشئت الفرقة: ألتسلي الناس أم لترفع قدر المسرح وتستدرج النظارة إلى تذوق الفن الدقيق؟ إن في مصر عدداً من المسارح القائمة للتسلية وللترويج عن النفس، والربح من وراء ذلك. وإن كان هذا غرض الفرقة فلتهجر دار الأوبرة ولتقصد إلى شارع عماد الدين

ص: 59

تنافس فيه ما تشاء. وإنا لنبرأ بالفرقة أن يستهويها مثل هذا. ولكن ماذا نصنع وهي تمنينا كذا وكذا ولا تصنع شيئاً. فإذا أصرت على أنها خرجت إلينا بأموالنا لتخدم الفن فهل راجعت ما هي عليه سائرة؟ هل نظرت في أمر لجنة القراءة التي تأذن في تأدية مسرحيات موضوعة قد نفض لونها وأختل أتساقها؟ هل جعلت لجنة من أهل الإطلاع والمعرفة تختار من المسرحيات الإفرنجية ما له شأن؟ هل عزمت على أن تطلب المدد ممن وقف حياته على فن المسرح؟ هل فطنت إلى إرضاء الخاصة؟ هل ذكرت أن في أوربة ما يقال له: (تأدية الشعر) وهي أن ينشد رجال الفرقة الحين بعد الحين قصائد ومقطوعات في كذا وكذا من الموضوعات؟

أن في رجال الفرقة وفيمن أقصوا عنها بغير حق من يقدر على معالجة الفن الخالص. فقد شهدت من سنوات (أهل الكهف). ثم شهدت أو من أمس (تحت سماء إسبانيا)، فرأيت إخراجاً حسناً وتمثيلاً صحيحاً؛ ولن أنسى مشهداً أجتمع فيه زوزو الحكيم وعلام ومنسي فهمي وعباس فارس فتجلى الصدق في الإحساس والتعبير، ومن وراء ذلك فتوح نشاطي. إلا أن المسرحية نفسها ليست بآية، وهي أقرب إلى رواية سينمائية منها إلى مسرحية، وذلك لما فيها من التأثير المباشر والحوادث النفاضة فكيف يكون السبيل إلى التلطف في الإخراج وبث الأوهام؟ ولم أر اسم المؤلف ولا عنوان المسرحية في لغتها على صفحات البرنامج الذي دفع إلي وأنا أدخل إلى دار الأوبرة، وهذا غريب. وعلى كل حال فإن في المسرحيات الإفرنجية ما هو خير وأعلى

وبعد فقد كتبت (الرسالة 332) أن إدارة الفرقة (وغيرها) تسرف في بذل تذاكر الدخول لهذا ولذاك على حين أنها تضن بها على الكتاب المقدمين والنقاد البصراء، فسألت من سألت أن يتدارك الأمر. وبلغني بعد ذلك أن وزارة الشؤون الاجتماعية جعلت للإسراف حداً عنيفاً. على أن التشديد هنا كالترخص؛ أفلا نطلب الاعتدال؟ والوجه أن تعمل قائمة تدون فيها أسماء الذين يدعون في الليلة الأولى وفيهم النقاد والكتاب. أما الممثلون فلهم أن يظفروا بعدد من التذاكر على ألا يدعوا حلاقهم وطباخهم وبقال الناحية. . . إلا إذا كانوا من طلاب الفن. ومتى أقول الفن الخالص؟

بشر فارس

ص: 60

لغة الأدب ولغة العلم

من تقصى محققاً كما يتقصى الفاضل الباحث (الدكتور بشر فارس) الأديب العربي المشهور علم (أن اللغة لا تنحصر في الإنشاء الأدبي فثمة الإنشاء العلمي، وله أن يجري إلى جانب الإنشاء الأدبي: هذا في شعب وذاك في شعب، وفي تاريخ آدابنا ما يؤيد هذا. . .)

ولي شيء كنت قلته في تضاعيف كلام في خطبة طويلة منذ ثلاثة عشر سنة - يعضد المعنى الذي غزاه (أي قصده) الدكتور المفضال، وقد رأيت أن أشيع مقالة (الفارس) - وإن لم تفتقر إلى تقوية - بأن أروي اليوم في (الرسالة الغراء) ذاك الكلام:

. . . لا تلوموا العربية ولوموا أمة ركضت إلى الدعة (قبح الله الدعة) ثم قعدت

ليس المروءة أن تبيت منَّعما

وتظل معتكفاً على الأقداح

ما للرجال وللتنعم، إنما

خلقوا ليوم كريهة وكفاح

والحركة - كما قالوا - ولود والسكون عاقر، وقد قال أبيقور: أي معنى للكون بالسلم بفقدان الحركة؟ ولام هذا الحكيم هومير حين سأل الآلهة أن تصطلح كي تزول الحروب

إذا المرء لم يغش الكريهة أوشكت

حبال الهويني بالفتى أن تقطعا

وأبن نتشه يرى أن عمل الرجال إنما هو القتال، وعمل النساء هو تمريض الجرحى. وليس القصد (يا بني) أن تغلب أو أنتغلب بل القصد أن تكون حرب، أن تكون حركة. . .

. . . فليست اللغة العربية (والحالة في تلكم العصور كما سمعتم عنها) بمستأهله أن تلام وأن تعاب، فإنها لا بست ضعفاء فلبست كساء ضعف، وعاشرت وضعاء فارتدت شعار ضعة، وما الضعف وما الضعة (والله) من خلائقها. ولو استمرت تلك القوة، ولو استمرت تلك المدنية، ولو لم يكن ما كتب في اللوح أن يكون - لملأت بدائع العربية الدنيا، فإنها معدن البدائع، ومنجم كل عبقري رائع.

على أن لغة العلم في العربية، وللعلم لغة وللأدب لغة، لم تضم ضيم أختها، وما المقاصد والمواقف وشرحاهما، وأقوال أبن الخطيب ومقدمة أبن خلدون، وكلها في العصور المتأخرة، بالتي تذم (في أسلوب اللغة العلمي) جملتها. . .

ص: 61

(ن)

أصدقاء المؤلف!

أخي الأستاذ الزيات

يجب أن تصدق ما أقصه عليك:

هل تعرف أن مؤلفاتي ستضيع أصدقائي؟

هو، والله، ذلك: فكل صديق ينتظر أن أهدي إليه مؤلفاتي، فإن لم أفعل فأنا عنده من أهل العقوق!

وهل يصدق قراؤك ما أقص عليهم؟

ليسمعوا، إن شاءوا:

إن صداقتي لمجلة الرسالة لا تخفي على أحد، وقد بذلت في خدمتها ما أطيق، وجهد المقل قليل، ومع ذلك رفضت أن ترسل ألي هديةً، فأنا أشتريها من السوق كما يصنع سائر القراء، وكذلك حالي مع جميع الجرائد والمجلات، إلا ما يتفضل به كرام الصحفيين في مصر ولبنان والحجاز وسورية والعراق

وكانت حجتي يوم رفضت هديتك أني حين أشتري الرسالة أحس أني أقول: (صباح الخير، يا صديقي الزيات) وقد أشترى العدد الواحد مرتين أو ثلاثة مرات ليشعر الباعة الذين يعرضونها عليّ بأن الأدب شيء مقبول، وله أنصار أوفياء. هذا، وقد كان من عادتي أن أهدي مؤلفاتي إلى محرري الجرائد والمجلات ليؤدوا واجب النقد الأدبي في التنويه بالمؤلفات الحديثة، ولكني لاحظت أنهم يفرطون في هذا الواجب بحجة أني أقدم إليهم عدة كتب في العام الواحد وهم لا يستطيعون أن يتحدثوا عني في كل عام عدة مرات!

أفلا يكون من الذوق أن أعفى أولئك الأصدقاء من هذا الواجب؟!

قد أعفيتهم، فهل يعفونني من العتاب حين أبخل عليهم بمؤلفاتي وأنا أنفق عليها من رزقي وأرزاق أطفالي؟

وفي ختام هذه الكلمة أراني مضطراً إلى التنويه بفضل الأستاذ خليل بك ثابت فقد كان دائماً مثال الرجل الحريص على الواجب. أما الأستاذ حافظ محمود فقد حفظ لمؤلفاتي مكاناً في

ص: 62

السياسة الأسبوعية، وأما الأستاذ المازني فهو من المعتوب عليهم. وهذا آخر العهد بإهداء مؤلفاتي إلى أصدقائي، ولا أستثني الأستاذ الزيات ولا الدكتور طه حسين ولا الأستاذ أحمد أمين!!

زكي مبارك

في كلية الآداب

أشار (جامعي) في العدد السابق من الرسالة إلى حوادث تدل على مقدار كبير من المحاباة يتمتع به أجنبي يدرس الآن في كلية الآداب، وعلى أنه يحظى برعاية لا يصيبها مصري أحق منه. وجاءت هذه الإشارة عقب كلمة الدكتور بشر فارس في العدد الذي سبقه وهي الكلمة التي كانت لها فضل كبير في تنبيه الأذهان إلى مدى الخطوة التي يجود بها بعضنا على الغريب على حساب دافعي الضرائب المصريين، فيطمع في المزيد منها ولو كان في ذلك حرمان للمصري. ولا شك أن كثيراً من شباب مصر الذي نبغ في معاهدها، ثم نال من الإجازات من معاهد أوربا أكثر مما نال هذا المدرس الأجنبي، ثم لا يجد بعد طول التحصيل عملاً يفيد به الأمة - يشكر للدكتور بشر فارس صراحته وشجاعته. وأني لأعرف بينهم من يود إعلان تأييده إياه وبسط شكواه من الواقع لولا خشية الذين يضرون وينفعون.

وإني أرجو أن تتفضل (الرسالة) بإفساح صدرها لشرح حقائق أخرى تضاف إلى حساب هذا الشاب الأجنبي الذي عين في كلية الآداب بمرتب يزيد على مرتب أثنين من المصريين الذين أتموا من الدراسة والتحصيل ما لم يتم، وحصلوا من الإجازات على ما لم يحصل عليه.

أن الرجل عين في مصر بسعي مستشرق فرنسي كبير ذي نفوذ واسع وكلمة نافذة في بعض الدوائر المصرية، وذلك بعد أن رفضت وزارة المعارف الفرنسية تجديد عقده الذي كان يمنحه سنوياً في باريس مبلغاً يقل بكثير - على حسب سعر العملة اليوم - عن مرتبه الشهري في مصر؛ وقد فعلت هذا حكومة فرنسا الغنية ابتغاءً للاقتصاد. وتم تعيينه عندنا في عام 1936. وفي عام 1937 منحته كلية الآداب مكافأة لتمضية العطلة الصيفية في

ص: 63

فرنسا وفعلت مثل هذا في عام 1938. والمتداول عندنا أن المكافأة الثانية صرفت من الاعتماد المخصص لمكافآت الطلبة. ثم أن الكلية ذهبت في سخائها الحاتمي إلى زيادة مرتبه مرتين، وقررت أيضاً منحه مبلغ خمسمائة جنيه مصري إعانة له على طبع رسالته التي يتقدم بها أمام جامعة باريس لنيل الدكتوراه في الآداب. كل هذه الألوان المتعاقبة من المحاباة نفذت في زمن قصير بتوصية المستشرق الكبير الذي سبقت الإشارة إليه.

وأني لأعرف أديباً مصرياً مشهوراً طلب إلى كلية الآداب منذ عشرة أعوام أن تعينه على طبع رسالته للدكتوراه أمام جامعة باريس فلم يجد أذناً مصغية، وكان هذا الأديب في حاجة إلى الإعانة وقتئذ، إذ لم تجر عليه كلية الآداب راتباً شهرياً بل كان يجاهد بقلمه ليعيش أثناء إقامته للتحصيل في العاصمة الفرنسية. ولعل هذا الأديب يقرأ هذه الكلمة فيزكي هذه الذكرى بقلمه لينصف حقاً من حقوق الأمة.

وأني أتمنى أن يجرؤ كل عارف لمثل هذه الحقائق على نشرها ليمتنع حصول مثلها. وهذا أبر بالشعب من محاربة بعضنا لبعض واضطرار الكثير منا إلى الالتجاء إلى الأجنبي يشتري عونه وحمايته بأموال مواطنيه، وهو لا يبيعه العون والحماية إلا ليثبت مصلحة له يعلم من يعلم مقدار خطرها.

جامعي آخر

إلى الأستاذ الجليل (النشاشيبي)

كثير الجدال في صحة نسبة نهج البلاغة وتقارعت الأدلة. فمن يرى أنه للشريف الرضي لا للإمام عليّ يقول أن أسلوبه أسلوب العصر العباسي لا أسلوب الصدر الأول، ومن قابل بينه وبين آثار العصرين، والثابت من مأثور العهدين، وكان من نقدة الكلام وجهابذة القول حكم بإحالة صدوره عن الإمام. وإن فيه من الطعن على الصحابة ما ينزه عنه أبو الحسنين ويناقض ما روي عنه (بالتواتر) من الثناء على الشيخين ومبايعتهما والرضا باتباعهما، وإن فيه أشياء من مصطلحات أهل العلوم التي لم تكن قد وضعت على عهد الإمام أصولها، ولا أصطلح على تلك الألفاظ فيها، وإن فيه ما يخالف (طبائع الأشياء). فقد كان الإمام مدة خلافته كلها في حروب ومشاكل لا يفرغ معها ولا يجد داعياً ولا مجالاً لإلقاء خطبة طويلة

ص: 64

في وصف الطواويس وأنواع الخلق أو البحث في فلسفة اللاهوت - هذه الحجج لمن ينفي، ولمن يثبت حجج دفاعية (يرونها) مقنعة - وقد كنا في مجلس (هو واحد من مئات أمثاله) أشتد فيه بيننا الخصام وامتد الجدال، ثم اتفقنا على تحكيم أعلم الناس بمراجع هذا البحث وأوسعهم اطلاعاً عليها، ومن قوله فيها القول، فوجدنا هذا الشرط في حجة الأدب النشاشيبي

فهل لك يا أستاذنا الجليل أن تقول (كلمة الفصل) في هذا الموضوع فتخدم بذلك الحقيقة ولأدب وأهلهما؟

(العراق)

(سائل)

اليونان والبلاغة العربية

ذهب الدكتور طه حسين بك في بحثه الذي صدر به كتاب نقد النثر لقدامة إلى أن قواعد البلاغة إنما أسست على ما وضع أرسطو، ونقله العرب عن اليونانية، وشايعه على ذلك الأستاذ البشري (الهلال يناير 1936) وقد وجدت في المثل السائر لأبن الأثير وهو من أشهر كتب البلاغة وأجودها كلمة في هذا الموضوع، رأيت أن أطرف بها من لم يطلع عليها من القراء قال:(. . . فإن قلت إن هؤلاء وقفوا على ما ذكره علماء اليونان وتعلموا منه، قلت لك في الجواب هذا شيء لم يكن (إلى أن قال): وهذا باطل بي أنا، فإني لم أعلم شيئاً مما ذكره حكماء اليونان ولا عرفته، ومع هذا فأنظر إلى كلامي (إلى أن قال): ولقد فاوضني بعض المتفلسفين في هذا وانساق الكلام إلى شيء ذكره لأبي علي بن سينا في الخطابة والشعر وذكر ضرباً من ضروب الشعر اليوناني يسمى اللاغوذيا (؟) وقام فأحضر كتاب الشفاء لأبي علي، فوقفني على ما ذكره، فلما وقفت عليه استجهلته فإنه طول فيه وعرض كأنه يخاطب بعض اليونان، وكل الذي ذكره لغو لا يستفيد منه صاحب الكلام العربي شيئاً)

ولست أنقض ما رآه الدكتور طه حسين ولا أثبته، ولكنني أردت إطراف القراء

(ع. ط)

ص: 65

يوميات نائب في الأرياف بالفرنسية

وقع تساهل في ترجمة الفقرة الأخيرة من مقال مجلة مريان الفرنسية عن هذا الكتاب الذي نشرناها في العدد الماضي، فقد ورد فيها:(أنه يكتب لمجرد الرغبة في الكتابة). والأقرب إلى الصواب: (أنه يكتب لأنه يجد لذة في الكتابة).

ص: 66

‌الكتب

الحكم في أصول الكلمات العامية

للدكتور أحمد عيسى

من العجيب أن الذين أجدوا على العربية وخدموها أجل الخدمات، ليسوا من أولئك الذين ربطوا أنفسهم بدراستها، وأفنوا أعمارهم بحثاً في أصولها وفروعها، ونحوها وصرفها، ولكنهم جماعة ابتدءوا حياتهم بدراسة لعلها آخر ما يتصل بالثقافة اللغوية، ثم دفعتهم الرغبة النفسية الخالصة فخاضوا لجج البحث اللغوي، وأمعنوا في دراسة فقه العربية وأصولها ومفرداتها فخدموا لغتهم وأمتهم خدمة أقل ما يقال فيها أن مجمع اللغة بجاهه وماله لم يبلغها في شيء. ولعل في طليعة أولئك الباحثين الهواة (كما يقولون) الدكتور أحمد عيسى بك، فهو طبيب نابه في مهنته، ثم هو باحث معروف في اللغة، وقد أخرج في خدمتها مؤلفات قيمة، آخرها ذلك الكتاب:(المحكم في أصول الكلمات العامية)

ووضع الدكتور الباحث كتابه هذا ليثبت به كما يقول: أن اللغة العامية التي نتكلمها الآن في مصر ليست بعيدة كل البعد عن العربية الفصحى، وهو تبتعد عن الفصحى في شيئين: الإعراب وتركيب الحروف، على أن أكثر الكلمات العامية التي ينفر منها الذوق الآن ويستنكرها الحس إنما كانت من أفصح الألفاظ العربية، وإن كثيراً منها قد استعملت فيه المجازات اللطيفة والاستعارات المستملحة التي تعد من أرقى أساليب الفصاحة في الكتابة والكلام.

ولا شك أن المؤلف قد استطاع أن يحقق رأيه بما جمعه وشرحه من المفردات العامية وردها إلى أصولها وبيان ما اعتورها من التحريف، وقد رتب سردها على حسب الحروف الهجائية، بذكر اللفظ العامي وبجانبه تفسيره عند العوام، ثم يأتي بالأصل الفصيح مبيناً ما فيه من الحقيقة والمجاز.

والمؤلف طبعاً لم يجمع كل الكلمات المستعملة في لغة العامة ولكنه قد جمع منها ما استطاع أن يرده إلى أصوله في اللهجات العربية، ومنها ما رده إلى أصله في الفارسية واللاتينية والتركية والسريانية وغيرها من اللغات التي دخلت على لهجات المصريين. وقد قدم لذلك كله ببحث وافٍ في أسباب التحريف في اللغة وتعدد اللهجات والفصيح منها والمرذول،

ص: 67

ومخالطة العرب الأعاجم وتحديد الصلة بين العامية المصرية واللغة العربية، وكل هذا بأسلوب سهل مهذب، ودقة علمية فاحصة فجاء كتابه نافعاً لا للمعنيين باللغة فحسب! بل لكل أديب وطالب وقارئ.

تاريخ الطب في العراق

للدكتورين هاشم الأثري ومعمر خالد الشابندر

أشترك في تأليف هذا الكتاب الدكتور هاشم الأثري عميد الكلية الطبية العراقية من قبل، والدكتور معمر خالد الشابندرالمتخرج في تلك الكلية، وهو بحث تاريخي متصل، يتناول سير الثقافة الطبية، والأدوار التي اجتازتها في ربوع الرافدين منذ أيام العباسيين حتى تأسيس الكلية الملكية في العصر الحاضر

والكتاب في موضوعه لا يقف عند الناحية الطبية، ولكنه صورة رائعة لتاريخ العراق العلمي والعمراني، فقد قسم المؤلفان كتابهما إلى ستة فصول: الفصل الأول في الكلام عن موقع بغداد التاريخي، وما كان لها من جد ومجد، وما انتابها من الحوادث والكوارث؛ والفصل الثاني عن اتصال العراق بالثقافة الطبية ومدى ما بلغته في ذلك؛ والفصل الثالث يتناول الأحوال الطبية في العهد التركي؛ والرابع في توحيد المستشفيات والمعاهد الصحية وتوسيع المستشفى الملكي وتقدمه؛ والفصل الخامس في مشروع الكلية الملكية والفكرة في إنشاءها؛ والفصل السادس في تأسيس الكلية ومنهاجها وأساتذتها ونواحي الدراسة فيها

ولقد اعتمد المؤلفان الفاضلان في سرد الوقائع التاريخية على المراجع الصحيحة، والروايات البعيدة عن زيف الشكوك والأوهام، والمشافهة من الشيوخ الثقاة، وقد حرصا على الترجمة لأشهر أطباء والمترجمين العرب الذين أقاموا أساس الطب في العراق، والتعريف بكثير من المدارس والمعاهد والمستشفيات، كما حرصا على نشر كثير من الصور والرسوم للمعالم والشخصيات فجاء بحثهما وافياً من جميع جهاته، وخدمة جليلة نحو وطنهم ونحو بغداد العظيمة جنة الدنيا في القديم، ومحط العلم والعرفان، ومجمع العلماء والدارسين من أقطار الأرض وأقاصي المعمور.

ساعات في الجحيم

ص: 68

للأديب يوسف عيسى البندك

(هذه شعل من اللهب الأحمر، فيها وصف لرجعية المجتمع الشنيعة، وفيها نقد لنظم الحياة الوحشية، ثم فيها تصوير لآلام الجماهير التي تقاسي أهوال الاستبداد والظلم، وتهرق دماءها جزافاً إرواء الجشع الرأسمالية المكتم أن تغرق الإنسانية في طوفان من النار)

بهذه الكلمات قدم الأديب يوسف عيسى البندك كتابه (ساعات في الجحيم)، وأنها لكلمات تحمل في أطوائها الفكرة التي عالجها المؤلف الفاضل بشعور ملتهب، وعاطفة فياضة، وثورة عنيفة على النظم المرهقة التي يدعمها الاستعمار والرجعية والجمود والتعصب، ولقد حاول المؤلف أن يسوق أفكاره مساق القصة، وأن يمزج الحقيقة بالخيال حتى تكون قريبة سائغة، ولكنا لا نستطيع أن نقبل كتابه على أنه قصة لها خصائصها ومميزاتها، إذ تنقصه الحبكة الفنية، وقوة الحوار والسرد القصصي

وأسلوب المؤلف أسلوب ملتهب، أسلوب أديب تفيض نفسه بحب الطبيعة وحب الحرية، على أنه يتهاون كثيراً بحق اللغة، وهو حق تجب العناية به، فإن الفكرة لا يمكن أن يتميز بها الفنان إلا إذا أظهرها في لبوس فن له روعته وله تأثيره

البلبل

للأديب حسين عفيف

هذه قصة، أو كما يقول المؤلف (شبه قصة) في مقطوعات غرامية من صنيع الخيال. ومؤلف هذه القصة الأديب حسين عفيف كاتب له أسلوب شعري يفيض بالموسيقى والعاطفة، وله قراء يتلهفون عليه، ويطيرون به

وأسلوب المؤلف أسلوب يشيع فيه التقديم والتأخير، ويقول حضرته:(إنه يلتزم ذلك وفقاً لما تقتضيه رغبة إشاعة النغم فيه) والواقع أن للبلاغة العربية قواعد مقررة، وهذه القواعد تحتم على الكاتب مراعاة الدقة في الأداء، ولكن هذه الدقة لا اعتبار لها في تقدير المؤلف، فكثيراً ما يغرق في تقديمه وتأخيره حتى من غير أن يكون هناك نغم ينشده، بل كثيراً ما يخل بقواعد العربية في سبيل ذلك فيقدم الصفة على الموصوف!

إن الكاتب الأسلوبي يجب عليه أن لا يكتب للإفهام فحسب، بل للتأثير الذي هو غاية

ص: 69

البلاغة وروحها، ولن يكون التأثير إلا بمراعاة الدقة والقوة والجزالة؛ فإذا كان المؤلف الفاضل يريد أن يظهر بين الكتاب بأسلوبه، فليؤد له ما يجب من قوة الأداء، ودقة الصياغة، وسلامة التعبير، حتى يتم له الكمال، والنغم ليس كل ما هنالك من خصائص الأسلوب، كما أن الدنيا ليست كلها أشجاناً وآلاماً، فلا ينبغي أن تكون أنغام قيثارته كلها على هذا النحو.

م. ف. ع

ص: 70