الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 336
- بتاريخ: 11 - 12 - 1939
سياسة السمك!
(إن الحرب الحالية ستزيل الدول الصغيرة من الوجود)
(هتلر)
يلتهم الدب الروسي الآن فنلندا كما التهم النمر الألماني من قبل بولندا! وما هذه وتلك - حفظك الله - إلا أكلة اليوم! أما أكلات الغد وما بعده فعلمها لا يزال عند هذين الوحشين اللذين ينقِّلان النظر المحمرَّ من أوربا الشمالية إلى أوربا الشرقية، ومن آسيا الصغرى إلى آسيا الوسطى؛ والدول الصغيرة ترى هذه العيون المتقدة والأفواه المتحلبة فترتعد فرقاً من الخطر المهاجم والعاقبة المبهمة. ولقد كان لهذه الدويلات الغريرة فيما مضى من الزمن السعيد حارس من سلطان الدين وحكم القانون وعرف السياسة، فكانت تعيش في ظلال الخلق الإنساني العام حرة آمنة لا تجد من جاراتها الكبرى إلا ما يجده الصغير من عطف الكبير، والفقير من عون الغني. فلما كفر النازيون والشيوعيون بشرائع الله وقوانين الناس أخذوا العالم بسياسة السمك التي تجعل الضعيف طعاماً للقوي، ففسد النظام وفقد السلام، واختل التوازن، واضطربت الحياة، وذل الحق، وأفلس المنطق، وأخذت جماعات السمك الصغير الرخو تضطرب اضطراب القلق والحيرة بين الحيتان الدكتاتورية التي لا تريد أن تبقي على سمكة، وبين التماسيح الديمقراطية التي لا تريد أن تُبقي على حوت
كان ضمان العيش والاستقلال للدول الصغرى ذلك النظام السياسي الذي وضعته الدول الكبرى وسمته (التوازن الدولي) وحمته بالقوانين والمواثيق والمعاهدات والمحالفات وعصبة الأمم، فجعلت من بعض هذه الدويلات حدوداً فاصلة، ومن بعضها الآخر أسواقاً مشتركة، حتى لا يبغي حد على حد، ولا تطغى قوة على قوة. ولكن هتلر رسول الشيطان ونبي الألمان وخليفة نيتشه، قضى بالموت على الدول الصغرى وقرر ألا يحكم الأرض غير دولتين: دولة ملكة هي ألمانيا، ودولة وزيرة هي إنجلترا كما كان رأيه بالأمس، وروسيا كما أصبح رأيه اليوم! فليت شعري ماذا تصنع هذه الدويلات وصغرها عمل من أعمال الطبيعة لا حيلة فيه لمحتال، كما يقصر شخص عن شخص، ويصغر شيء عن شيء؟ ليس لها الآن إلا أن تنضوي إلى الأمم الديمقراطية التي تجاهد في سبيل السلام والحرية والمدنية بجانب جهادها في سبيل نفسها؛ حتى إذا أنتصر الأحلاف على هذا
الطغيان المسلح الكافر الأثِر، نظرت هي في يومها وفي غدها فتعالج ضعفها بما تعالج به الطبيعة ضعف النمل والنحل والقرود: وهو التجمع و (التكتل) والتعاون، فيكون بين البلاد المتجاورة، كدول البلطيق وأمم البلقان وشعوب الإسلام، شبه ما بين الدول المتحدة في أمريكا من اتحاد السياسة الخارجية والدفاع العام والدستور المشرع والرئيس الحاكم. وإذن لا يبقى على الأرض أمة صغيرة يقوم على استعمارها النزاع، ويميل من جرّاها ميزان السلامة. واعتبر ذلك مثلاً ببلاد الوطن الإسلامي الأربعة عشر: مراكش وتونس والجزائر وليبيا ومصر والسودان وفلسطين وسورية والحجاز واليمن والعراق وتركية وإيران وأفغانستان إذا انتظمها كلها اتحاد كاتحاد الولايات الأمريكية الثماني والأربعين، وقدَّر في نفسك ماذا يقدم هذا الاتحاد القائم على صلة الدم أو على نسب الروح من الخير المتصل للعالم والضمان الدائم للسلام
إن الحلفاء الديمقراطيين المنتصرين متى جلسوا إلى مائدة الصلح سيذكرون ما صنعوا في فرساي من تقسيم الممالك وتمزيق الشعوب وتركها في حمى الضمير الإنساني والحق الأعزل دون أن يكون لها من شَرهَ الدول الكبيرة وشرها نصير ولا عاصم. وسيفكرون ثم يفكرون في هذا المخلوق العجيب الذي صوروه من مداد وورق ثم أسكنوه قصراً في جنيف وألزموه حماية السلام وجعلوا في خدمته قوماً من ذوي القبعات والقفازات والعصي، وقالوا له مرة: قف أمام الدتشي فانسرقت قواه؛ ثم قالوا له مرة ثانية: اثبت في وجه هتلر فارتهكت مفاصله؛ وهم يقولون له اليوم مرة ثالثة: خذ الطريق على ستالين؛ وأغلب الظن أنه لاستمرار الخجل وإلحاح الفشل وتتابع الخذلان لن يستطيع أن يتحرك.
نعم سيفكر المنتصرون فيما جنوا من (عصبة الأمم) ويقررون - إذا وفقهم الله - أن ينشئوا السلم العالمية الدائمة على قواعد من التركيب لا من التحليل، فيؤلفون من الأمم الصغيرة المتقاربة في الوطن والجنس والمنفعة اتحادات مستقلة تتحد في الرياسة والحكومة والدستور، وتشترك في الدفاع والسياسة والعمل، ثم يربطوا بين الدول العظمى والاتحادات الكبرى بروابط وثيقة من الاقتصاد العادل الذي يضمن لكل أمة سداد عوزها من خير الله وغلة الأرض.
على أننا الآن بسبيل الحرب لا بسبيل السلم، فلنَدعْ حديث الصلح إلى يومه، ولندْعُ الله
مخلصين أن ينصر جنود الديمقراطية على أعوان الطغيان والبغي. فإن أوربا تكابد محنة لا سابقة لها في التاريخ. وهي بالحق أو بالباطل رأس العالم اليوم، وقد قضى عليها جنون رجل واحد أن تصبح كلها مخزناً هائلاً للبارود والغاز؛ فأينما تسر في قطر من أقطارها أو على بحر من بحارها تر الموت مشتعلاً يتلظى، أو كامناً يترقب؛ فإذا قضى عليها جنون الرجل الآخر أن تنفجر فتنهار على شمشون وأعدائه، زُلزلت بانهيارها القارات الأربع، وأصبحت النكبة نكبة العالم أجمع
إن مصرع بولندا وفنلندا على هذه الصورة الأليمة الأثيمة إنذار من الله للدول الصغيرة في الغرب والشرق أن فوز النازية والشيوعية معناه فوز الوحشية التي لا تعترف بحق الحياة لفرد، ولا بحق الاستقلال لأمة.
إن الشرف هو معنى الإنسانية وخصيصتها في الإنسان. وهو الضمان السلمي لأداء الحق واطراد المعاملة؛ فإذا انتقى الشرف عن الكلمة بين الرجل والرجل، وعن المعاهدة بين الدولة والدولة، لم يبق لضمان الحياة والحق إلا القوة؛ والقوة لا تتيسر لكل حي في كل وقت وفي كل حالة
احمد حسن الزيات
كتاب الإمتاع والمؤانسة
مصالحة الأستاذ أحمد أمين
للدكتور زكي مبارك
لم يبق شك في أن الأستاذ أحمد أمين غضبان بسبب المقالات التي تجاوزت العشرين، والتي حرضت عليه بعض من خاصموه في مجلة المكشوف وأغرت بعض (أنصاره) في العراق، وأخرجته عن وقاره فشتمنا في مجلة الثقافة بأبيات جاهلية، سامحه الله وعفا عني!
وأقول اليوم إني استوحشت مما صنعت - والاعتراف يهدم الاقتراف - فمن واجبي نحو نفسي أن أقدم إلى الأستاذ أحمد أمين عملاً صالحاً يعطفه عليّ، ويرده إلى سابق عهده فيبدأني بالتحية حين يراني، ويذكرني بالجميل كما كان يصنع قبل أن أجترح في نقده ما اجترحت، وليس من الكثير أن أرجو عفوه، فقد عفا (أخٌ) له من قبلُ!
والأستاذ أحمد أمين يعرف أني رجل ممتحَن بعداوات الرجال، وقد عانيت من ذلك مصاعب لو صادفت رجلاً غيري لدحرته في أقصر وقت، فمن حقي عليه وهو صديقي وجاري، وزميلي كان في الجامعة المصرية، أن يتجاوز عن سيئاتي، إنه - ولله المثل الأعلى - غفورٌ رحيم!
ولكن كيف أتقرب إلى الأستاذ أحمد أمين وهو فيما يظهر أقسى من الجلمود؟
أتقرب إليه بالعلم الذي يقول إنه حارسه وراعيه، فأقدم إليه ملاحظات على تصحيح كتاب الإمتاع والمؤانسة الذي نشرته لجنة التأليف بتصحيح الأحمدين أمين والزين، كما صنعت يوم صحح هذان الفاضلان ديوان حافظ إبراهيم، فقد استدركت على الجزء الأول عشرين غلطة جوهرية اعترف بها الأستاذ أحمد أمين، ثم صرفتني الشواغل عن النظر في الجزء الثاني، ولعلي أرجع إليه بعد حين
ويجب قبل الشروع في سرد ملاحظاتي أن أقدم أصدق التحية إلي المصححين الفاضلين، فقد بذلا في إخراج الجزء الأول جهداً لا يعرف قيمته غير من عانى المصاعب في تحقيق بعض النصوص المخطوطة من الأدب القديم، جزاهما الله خير الجزاء.
ويجب أيضاً أن أنبه القراء إلى واجبهم في اقتناء هذا الكتاب، فهو تحفة أدبية قليلة الأمثال، ورواج مثل هذا الكتاب قد يشجع لجنة التأليف والترجمة والنشر على متابعة السير في هذا
الطريق؛ فتنشر من ذخائر الأدب القديم ما يعجز عننشره الأفراد
وقد يلاحظ بعض القراء أن الكتاب غالي الثمن، ولكنهم سيعرفون أن ثمنه معتدل حين يذكرون أن أمثال هذه الكتب تستوجب في تصحيحها ونشرها كثيراً من التكاليف
وأعود إلى الموضوع فأقول:
كان في النية أن أتعقب الجزء الأول كله، وهو يحتاج إلى عدة مقالات، ولكن كثرة الشواغل حالت دون ذلك، فوقفت عند (الليلة الثامنة) وهي من عيون الكتاب
1 -
جاء في ص 132 طريقة (الربانيين) ويقول المصححان الفاضلان: إن الأصل (الديّانين) ولكنهما لم يجداها في كتب اللغة بهذا المعنى
وتقول إن الديّانين جمع ديّان وهو الناسك، وهي كلمة قديمة في اللغة العربية، ولها شواهد في كتب التصوف، وهي كذلك من الألفاظ المألوفة عند التوحيدي، وقد استعملها في مواطن كثيرة سأدل عليها إن وجدت ما يوجب ذلك
والديان بمعنى الناسك كلمة عرفها الأدب الحديث: فقد رأيتها في مقال نشره الدكتور طه بك حسين في جريدة السياسة في صيف سنة 1926 وهو يقص حكاية ديكارت في السخرية من المرحومين علام سلامة ومحمد عبد المطلب
2 -
جاء في ص 123 (وإنما بودكم أن تشغلوا جاهلا) ويقول المصححان الفاضلان إن (بودكم) هي في الأصل (قولكم)
ونقول إن عبارة الأصل هي الصواب، ويؤيد هذا أن المؤلف قال قبل ذلك (لأنكم لا تقولون بالكتب) ولم يفطن المصححان لغرض المؤلف فأثبتا في مكان (لا تقولون) عبارة (لا تفون) وبهذا ظلما المؤلف في صفحة واحدة مرتين
3 -
وجاء في ص 119 (إذا حضرتَ الحلقة استفدت) ويقول المصححان الفاضلان إن (الحلقة) هي في الأصل (المختلفة) ولم يفهما معناها فغيراها إلى (الحلقة)
ونقول إن (المختلفة) كلمة يريدها التوحيدي، فمن الظلم تحويلها من وضع إلى وضع، والمختلفة هم طلبة العلم الذين يحضرون الدرس، وقد وردت بهذا المعنى في ص 129 إذ يقول المؤلف (وأحضرُ بركةً على المختلفة)
4 -
وفي ص 112 (فإن علم العالم مبثوثٌ في العالمَ بين جميع من في العالمَ)
ونقول إن السياق يوجب أن نقرأ (فإن علم العالمِ) بكسر لام العالم لا فتحها
5 -
وفي ص 109 يقول المصححان الفاضلان إن (المِصاع) من صاع الشجاعُ أقرانه إذا حمل عليهم، وهذا خطأ في التصريف والصواب أن (المِصاع) مصدر ما صَعَ بمعنى جالَد، فهو من فصل الميم لا فصل الصاد، والسرعة هي التي أوقعت المصححين الفاضلين في هذا الغلط
6 -
وفي ص 108 (بما حويناه من المنطق) ويقول المصححان الفاضلان إن (حويناه) هي في الأصل (جربناه)
7 -
وفي ص 115 (وإذا لم يكن لك بد من قليل هذه اللغة من أجل الترجمة) ويقول المصححان الفاضلان إن (الترجمة) هي في الأصل (التجربة)
ومن هنا نفهم أن المصححين الفاضلين ظلما المؤلف في موطنين: فالتجربة كلمة مقصودة يريدها التوحيدي بالذات. فيجب في الطبعة الثانية أن تبقى كلمة (جربناه) في ص 108 وكلمة (التجربة) في ص 115 فتصير العبارة الثانية هكذا:
(وإذا لم يكن لك بد من قليل هذه اللغة من أجل التجربة فلا بدّ لك أيضاً من كثيرها من أجل الترجمة)
8 -
وفي ص 111 (فما تقول في معان متحولة بالنقل من لغة يونان إلى لغة أخرى سريانية)
ويقول المصححان الفاضلان إن (متحولة) هي في الأصل (مملوكة)
ونقول إن الأصل صحيح وتغييره ليس إلا تحكُّماً في توجيه غرض المؤلف
9 -
وفي ص 110 (ليس كل ما في الدنيا يوزن، بل فيها ما يوزن وفيها ما يكال وفيها يُذرعَ وفيها يُمسح وفيها ما يُحزر)
ومن كلام المصححين الفاضلين نفهم أن أصل عبارة التوحيدي (وفيها ما يمسح ويحزر) وأنهما زادا عبارة (فيها ما)
وبذلك نعرف أن دقة المؤلف في التعبير خفيت على المصححين الفاضلين، وتعبير التوحيدي جيد جداً؛ لأن ما يُحزر داخل فيما يمسح فلا موجب لتخصيصه في التفريع
10 -
وفي ص 111 (الأغراض المعقولة والمعاني المدركة لا يوصل إليها إلا باللغة)
ويقول المصححان الفاضلان: (ورد في الأصل بعد قوله (إلا) جيم وألف وذال وهي زيادة من الناسخ والصواب حذفها)
ونقول إن المصححين الفاضلين لم يفطنا إلى أن كلمة (جاذ) محرفة، وصوابها (مجاز) ويريد المؤلف أن يقول إن اللغة مجاز أي مَعبَر نصل به إلى المعاني والأغراض
11 -
وفي ص 109 (الأسماع المصيخة والعيون المحدِقة والعقول الحادة والألباب الناقدة)
ومن كلام المصححين الفاضلين تعرف أن (المصيخة) كانت محرفة في الأصل، وأقول يجب أن تصير (مُصغية) ليمَ التزاوج بينها وبين (مُحْدِقة) ومن كلامهما نفهم أن العقول الحادة هي في معجم الأدباء العقول الجامدة، وأقول إن الحادة لا تتزاوج مع الناقد فيحسن أن نقول:(العقول الصامدة، والألباب الناقدة) والصمود له معنى يتسق مع مراد المؤلف ومع أسلوبه في إيثار الازدواج
12 -
في ص 106 (ومتى انفق إنسان بهذه الحِلية) ويقول المصححان الفاضلان: لعله الجِبلة، ونقول إن (الحلية) معناها الصفة، ولها شواهد في القرن آثار الثالث والرابع
13 -
وفي ص 115 (إنك في هذا الاسم والفعل والحرف فقير إلى وصفها وبنائها على الترتيب الواقع في غرائز أهلها)
ونقول إن (وصفها) محرفة، والصواب (رصفها) وهي كلمة معروفة في اصطلاحات الإنشاء.
14 -
وفي ص 116 (فلم يبق إلا أحكام اللغة) والسياق يوجب أن نقرأ (إحكام اللغة)
15 -
وفي الصفحة نفسها (قبل واضع المنطق) والصواب (قبل وضع المنطق) وقد وردت كذلك في موطن آخر من الحوار بين متَّى والسيرافي (أنظر ص 126)
16 -
وفي ص 117 (فهذا جهلٌ من كل من يدعيه، وخطلٌ من القول الذي أفاض فيه) والقول صوابها القائل، كما يشهد السياق
17 -
وفي ص 119 (فأما وهو يريغ أن يبرر ما صحّ له بالاعتبار والتصفح)
ومن كلام المصححين الفاضلين نعرف أن (يبرر) أصلها (يزن) ونقول إنهما أخطأ في التصحيح: لأن (يزن) هي الكلمة التي يريدها المؤلف، وهو قد نص عليها في بعض المواضع وكلمة (يبرر) بهذا المعنى لا تعرفها اللغة
18 -
في ص 127 (فاعتقد فيه أنه (صحيح وهو) مريض العقل)
ويقول المصححان الفاضلان إنهما زادا عبارة (صحيح وهو) وتلك زيادة يضيع بها غرض المؤلف لأنه يريد أن يقول: إن الكندي اعتُقِد فيه أنه مريض العقل حين جاز عليه التلبيس
19 -
وفي ص 134 (بَلل الريق، وغزارة النفث)، والصواب حرارة النفث
20 -
وفي ص 116 ضبط المصححان (مسكويه) بفتح الميم، وكذلك صنعا في ص 32 والصواب مِسكويه بكسر الميم، وقد نص عليها صاحب القاموس، وقال إنها على وزن سيبويه.
21 -
وفي ص 137 (ليس للعقل من شعره منال، ولا له في قرضه مثال)
ومن كلام المصححين الفاضلين نعرف أن (قرضه) هي في الأصل (عرصته) وأنا أفضِّل أن تبقى هذه اللفظة كما وردت في الأصل، ثم نقول (مثال) في مكان (منال) ونقول (مجال) في مكان (مثال) فتصير العبارة هكذا:
(ليس للعقل من شعره مثال، ولا له في عرصته مجال)
وهي أدل على المراد مما اختاره المصححان الفاضلان، أجزل الله لهما الثواب
22 -
وفي ص 138 (وكان عجبي منك دون عجبك مني، لو تقارعنا على هذا لفلجت عليك)
وكلمة (دون) صوابها (فوق) وتنقل الواو فتصير العبارة: (كان عجبي منك فوق عجبك مني، ولو تقارعنا على هذا لفلجت عليك)
23 -
وفي ص 139 (ولكنه يقرص فيحزّ، ويَشَمٌ فيهز) وكلمة (بَشَمٌ) من الغلط القبيح، والصواب (يَسِم)(من الوسم وهو الكيّ، بدليل قوله بعد ذلك (ويجرح فيُجهز)
24 -
وفي ص 141 (وأما النصيبي فدقيق الكلام) و (دقيق) خطأ، والصواب (رقيق) ورقة الكلام هي ضعف الدين بدليل قول المؤلف في النصيبي:
(يشكّ في النبوّات كلها) والعقيدة الصحيحة يسميها التوحيدي (الدين الثخين) انظر ص 133
25 -
وفي الصفحة نفسها (إلا أنه يأتي لابن عباد في سمته ولزوم ناموسه حتى خف عليه) والسياق يوجب أن نقول (تأَّتى) في مكان (يأتي) والتأتي هو التلطف.
26 -
وفي ص 142 (إن كثيراً من الذين لا يكتبون ولا يقرءون ولا يحتجون ولا يناظرون ولا يُكرَمون ولا يفضَّلون خيرٌ من هذه الطائفة)
ومن كلام المصححين الفاضلين نعرف أن (لا يُكرَمون ولا يفضَّلون) أصلها (يلزمون ولا يتفضلون)
وأقول إن الصواب (ويلزَمون ولا يَفصِلون) والمعنى أنهم يُلزمون الحجة ولا يستطيعون الفصل، وهو الحكم والتمييز بين دقائق الأغراض
27 -
وفي ص 143 (وتَحِيلَ الحالَ به عند خوضك وفيضك)
كذلك ضبط المصححان عبارة (تَحيلَ الحال) والمعنى غير واضح، وأنا أحب أن تكون (وتُجيل المَحال)
والمحال بفتح الميم هو الحيلة، وهو يتسق مع المراد.
أما بعد فهذه سبع وعشرون ملاحظة قيدناها عند قراءة (الليلة الثامنة) من كتاب الإمتاع والمؤانسة، وفي هذا الفصل نفسه أشياء سكتنا عنها لأنها قليلة الأهمية
وهذه الملاحظات خليقة بأن تصلح ما بيني وبين الأستاذ أحمد أمين، فإن لم تكف للإصلاح فسأراجع الكتاب كله
ولكن أين الوقت؟
الوقت عند صديقنا الدكتور بشر فارس، وهو قد عزم على مراجعة كتاب التوحيدي، وأنا أنتظر أن يكون بحثه أوفى وأشمل، لأنه يملك من الفراغ ما لا أملك.
بقيت كلمة عن الأستاذ أحمد الزين وهو المسئول الأول عن تصحيح هذا الكتاب:
ألا يرى هذا الصديق أن بعض التصحيحات غلب عليها الارتجال؟
وإلا فكيف جاز أن يكون المصاع من صاع؟ وكيف جاز أن يكون الديان بمعنى الناسك أمراً غير معروف؟
وأمثال هذا الأغلاط تشهد بأن الأستاذ أحمد أمين لم يشترك في التصحيح بطريقة جدية، لأن من كان في مثل علمه وفضله لا يخطئ في هذه البديهيات.
وفي ختام هذا البحث أعتذر للقراء عن محادثتهم في شؤون لا يدركها غير من يملك نسخة من كتاب الإبداع والمؤانسة، فلولا الثقة بأنهم لن يضنوا على أنفسهم بنسخة من هذا الكتاب
لطويت عنهم هذه الملاحظات
وذلك إعلان ننشره في (الرسالة) بالمجان مراعاةً للتضامن الأدبي بين المؤلفين والناشرين، فهل يكون القراء عند الظن الجميل فيُقبلوا على اقتناء هذا الكتاب؟
إن ثمنه لا يزيد على ثمن أربع عُلب من السجاير المصرية، فأين من يفكر في متعة العقل كما يفكر في مُتعة الحس؟ سارعوا إلى اقتناء الكتب الجيدة لتعرفوا أن العرب لهم أذواق وعقول
زكي مبارك
البغاء في أوربا
للمستر إبراهام فلكسندر
بقلم الأستاذ عبد اللطيف حمدي
سندرس موضوع البغاء في الصحائف التالية على أساس التجارب العلمية في الأمم الأوربية. وسينصرف الجهد إلى تحقيق أنواع الدعارة ومدى انتشارها والأسباب التي تزيدها اتساعاً أو تضيق من مجالها، وإلى تحقيق الجهود التي تبذلها الهيئات المختلفة حيال هذه الرذيلة والوسائل التي اتخذت إما لمحاربتها وإما للإشراف على تنظيمها والنتائج التي أسفرت عنها هذه الجهود.
وسيضاف إلى هذه التحقيقات نتائج بحث شخصي وتحريات وملاحظات في المدن الكبرى من إنكلترا وايقوسيا وفرنسا وإيطاليا وسويسرا والسويد وألمانيا والنمسا والمجر وسائر الأقاليم التي يطلق عليها اسم أوربا الغربية والتي يشتد التشابه بين بعضها وبعض في حياتها الاجتماعية ومُثُلها الوطنية العليا ومعاهدها السياسية
ولكن القوانين في تلك الأمم نفسها ليست متجانسة المواقف حيال مسألة البغاء؛ ومن أجل ذلك اختلفت الآثار المترتبة على هذه القوانين بين بعضها وبعض اختلافاً بيناً، ففي البعض أدت إلى كبح قوي، وفي البعض الآخر أدت إلى زيادة انتشار الرذيلة نفسها. على أنه بالرغم من اختلاف هذه المظاهر فقرار هذه الرذيلة متشابه من حيث المنشأ بحيث تصلح الوسيلة المختارة للعلاج في رأي هذا الكتاب لجميع هاته الأمم، ولن نتجاهل في أثناء البحث وجوه الاختلاف وإن تكن وجوه الخلاف نفسها دالة على وجوب اتخاذ وسائل متوافقة لمناهضتها، فإن البحوث الحديثة أسفرت عن تطابق بين هذه الأسباب إلى درجة أكثر مما كان مفترضاً. فأمر البغاء ينطبق عليه المثل القائل (لا جديد تحت الشمس) أكثر من انطباق هذا المثل على أي أمر آخر. كما دلت الكتب التي خلفتها القرون الوسطى في شأن البغاء على تطابق عجيب في حالة هذه الرذيلة بين تلك العصور وبين العصور الحاضرة
وإن وجوه الخلاف التي سبقت الإشارة إليها في الأمم التي ذكرناها بشأن وجوه النظر فيها وإما في حالة انتشار المرض وأما في السياسة التي تتبع حيالها - إن وجوه الخلاف هذه
آخذة في سبيل الاضمحلال والتلاشي، فقد قرَّب ما بين مختلف الأمم انتشار الأفكار الديمقراطية وتوطد الحكم الديمقراطي. ولئن اصطحب ذلك تعديل في القواعد الخلقية، وبخاصة بعد أن شاع مبدأ التساوي بين الجنسين، فإن التأمل الحصيف يوجب سلوك مسلك متشابه بين هاته الأمم قائم على اعتبارات إنسانية أساسية، وإن الذي يدرس هذا الموضوع الخاص الذي نشتغل بدراسته الآن ليدهشه اتفاق المظاهر أكثر مما يسترعي نظره اختلاف البيئات المحلية أو الاعتبارات الأهلية في موضوع التحقيق الذي بدئ به في جلاسجو وختم في بودابست.
ومن أهم ما يلاحظه الناظر في هذا الموضوع عن بعد أن الدعارة في أوربا الغربية قد تطورت في مدى القرون القليلة الماضية على نظام واحد بين أممها المختلفة. وليس ذلك بدعاً، فإن مدى انتشار هذه الرذيلة مرتبط بمقدار اتساع المدن لأنه بعض ظواهر المدنية، وقد كانت المدن في أوربا الغربية في العصور الوسطى كلها مدناً صغيرة. أما المدن الكبرى في تلك العصور فقد كانت كلها إسلامية، فقد كان عدد السكان في كل من القسطنطينية وبغداد والقاهرة يربى على المليون. وكانت كل من اشبيلية وقرطبة تربو في عدد سكانها على نصف المليون في حين كانت باريس لا يكاد يصل عدد سكانها إلى 200. 000 وفينا 50. 000 ولوندرا 35. 000 وكولوتيا 30. 000 وهامبورج 18. 000 ودرسدن 5. 000. أما المدن التي لا تتصل بمواصلات مائية فلم يكن عدد السكان في إحداها ليزيد على25. 000. وكثير جداً من المدن التي تعتبر الآن ذات أهمية لم يكن عدد سكانها في القرون الوسطى يزيد على 5000. وما من شك في أن اتساع المدينة يؤثر في صبغة مدينتها ويكيف طبيعتها، فإذا نظرت إلى تاريخ الدعارة في أوربا في القرون الوسطى وجدت أن معظم مدنها إذ ذاك لم يكن إلا قرى يعرف بعض أهلها بعضهم الآخر، وكان كيان الأسرة لا يزال سليماً. ولقد يقال إنه كان في المدائن غرباء كالصليبيين والججاج والجيوش ولكن جموعهم لم تكن كثيفة وعلى أية حال فقد كان الغرباء معروفين كذلك كالأهلين. وكانت الدعارة في العصور الوسطى ذات نوعين أساسيين: نوع مستوطن ونوع متجول. أما الأول فيشمل العاهرات المقيمات أو المترددات على مساكن معدة للدعارة، وقد لا تكون الإقامة على صورة نظامية وهذه البيوت تدعى بالمواخير. وأما النوع
الثاني فكان من المتشردات اللواتي يلحقن على صورة غير رسمية بمعسكرات الجيوش التي كانت في تلك العصور كثيرة التجوال في القارة. أو اللواتي يلحقن كذلك على صورة غير رسمية بالطبع برجال الطوائف الدينية المجتمعين في تجوالهم الموسمي وفاء منهن لنذور نذرنها. ولكن على أية حال فإن العاهرة كانت امرأة موسومة في العصور الوسطى التي امتازت بقلة عدد السكان في مدنها وما كان لينتفي هذا الموسم سواء بين المستوطنات أو المتجولات. وحتى لو أن إحداهن كانت تزاول رذيلتها سراً فسرعان ما تتلوث سمعتها وتوصف بالخطر، وبخاصة إذا كانت محترفة لأنها في هذه الحالة تكون مميزة بشكل ثيابها ومظهرها ومسكنها وطبيعة حياتها الخارجية، وكان الفارق في العصور الوسطى شديد الوضوح بين المرأة الشريفة والمرأة الداعرة.
أما في العصور الحاضرة فالتناقض بَيِّنٌ من هذه النواحي فالمدن كبيرة وقد أضيفت إليها لأغراض عملية ضواح تقوم منها مقام الحواشي المزركشة، فالفرق المتعلقة بالكمية بين المدينة في العصور الوسطى وبين المدينة في العصور الحديثة قد رتبت فروقاً متعلقة بالكيفية في أمر البغاء.
في أواخر عهد بابل أصبح نظام الأسرة يسمح بأن يتصل بها ألوف من الناس تتفاوت درجات الصداقة بينهم كما يختلف الشعور بالمسئوليات نحوها وفيهم الفتيات والفتيان ومعظمهم في ظروف تقضي على الأخلاق بالانحلال
ولقد أصبحت المدن الكبرى في العصور الحديثة في حالة أشد تعقداً بسبب المهاجرة إلى باريس وبرلين ولوندرا إما للاتجار وإما للهو وإما للشغب.
أما في الأوساط الضيقة المحيط فإن كيان الجماعة فيه لا يزال على سذاجته، فإفراد هذا المجتمع معروف بعضهم لبعض ومطالبهم المشتركة ومثلهم الأخلاقية العليا تخضع لتقاليد واحدة أو متقاربة من شأنها أن تسيطر على الأعضاء الضعفاء من هذا المجتمع. وفضلاً عن ذلك فإنه مهما يكن وصف هؤلاء الأفراد فإن بعضهم معروف لبعض.
وأما في المدن الحديثة، وكل منها بابل عصرية وهي التي أتحدث عنها الآن، فإن الفرد فيها لا يعرف جيرانه الأدنين. وهنا تشتد وسائل الإغراض بقدر ما تضعف وسائل الكبح والمنع فالأحوال ليست تقف عند الحد الذي يقل فيه الشعور بالمسئولية بل قد تصل إلى حد
ارتفاع هذا الشعور.
ومن هذا يتبين أن مجرد زيادة العدد في مدينة من شأنه أن يقلل إمكان التقسيم بين رجالها ونسائها إلى طبقات من حيث العفة أو الرذيلة. ومن شأنه أيضاً تجهيل ماضيهم الخلقي وهذا فارق أساسي عظيم في موضوع الدعارة بين العصور الوسطى وبين العصر الحاضر، فقد كانت في العصور الوسطى محدودة واضحة وهي الآن لا بالواضحة ولا بالمحدودة
وثمت حقائق لها من الوجهة العلمية أهمية لا يستطاع جحودها فالمدينة التي فيها ثلاثون امرأة عاهرة وعدد سكانها 3. 000 تبدو كأن النسبة متجانسة فيها مع المدينة التي فيها من العاهرات خمسة آلاف وعدد سكانها نصف مليون. وذلك لأن النسبة المئوية في الحالتين هي واحدة في المائة. ولكن ضخامة العدد على الرغم من الاحتفاظ بالنسبة المئوية تؤدي إلى خلاف جسيم بين أمر الدعارة في المدينتين، فإن الإجراء الذي يتخذ لمناهضة الدعارة ضد ثلاثين عاهرة فينجح لا بد من حبوطه إذا هو اتخذ ضد خمسة آلاف عاهرة في مدينة كبيرة. وكذلك تتغير المسألة من النواحي الاقتصادية والإدارية والصحية إذا زاد العدد على حد معين
(يتبع)
ترجمة عبد اللطيف حمدي
الفروق السيكلوجية بين الأفراد
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
كان كاتل السيكولوجي الأمريكي الشهير معاصراً لجولتن ومن تلاميذه وأتباع مذهبه وقد بحث باستيعاب موضوع الفروق السيكولوجية. درس كاتل في معمل جولتن بلندن، كما درس علم النفس التجريبي على يد فنت الألماني في معمل علم النفس الذي أسسه في ليبزج وتأثر به.
وتعتبر تجارب جولتن وكاتل أول مجهود علمي بذل في موضوع الفروق الفردية. ويحدثنا البرفسور ثورنديك تلميذ كاتل عن أستاذه فيقول (هذب أستاذي كاتل من طرق جولتن التي استعملها في قياس الفروق السيكلوجية بين الأفراد، وحاز اعتراف العلماء بما ابتكره من مقاييس القوى العقلية المختلفة. وبذلك جعل دراسة الفروق السيكلوجية فرعاً مستقلاً من فروع علم النفس. وكانت أبحاثه في الفروق العقلية ومقاييسها أول حلقة من سلسلة حلقات البحوث التي توالت بعد ذلك في السنوات العشر الأخيرة من القرن التاسع عشر. وبذلك وضع كاتل مقدمة موضوع السيكلوجية الفردية ويعزى إلى كاتل أنه أول من وضع اصطلاح (المقاييس العقلية) وذلك في سنة 1890 حينما طبع ملخصاً لتجارب مقاييس الذكاء التي أجراها في معمله بجامعة بنسلفانيا
وكانت تجارب كاتل التي أجراها لمعرفة الفروق السيكلوجية منصرفة لقياس الذاكرة، والمخيلة، وحدة البصر والسمع، ومقارنة الألوان والمفاضلة بينها، والدقة في إدراك الأصوات والأوزان، والإدراك الزمني، ودقة إحساس الألم، وسرعة الإدراك الذهني، وسرعة الحركة ودقتها وتكييفها، وزمن الرجع أو رد الفعل
وأهم ما يوجه من انتقاد إلى هذه التجارب التي أجراها كاتل أنها أولاً: إنما تقيس فقط العمليات العقلية البسيطة كالذاكرة مثلاً، أو المخيلة، أو قوة الإدراك. وثانياً: إن الطرق الإحصائية التي استخدمت مع هذه التجارب لم تكن مضبوطة ومطردة بحيث تعطى نتائجها حكماً صحيحاً على ذكاء الأفراد. وإذا فلا يمكن الاعتماد عليها في معرفة الفروق العقلية
أثار كاتل باستخدامه زمن الرجع ضمن مقاييس الذكاء اهتمام معاصريه ومن تبعه من العلماء حتى أصبح زمن الرجع مقياساً لقدرة الفرد على التمييز والاختيار وسرعته فيهما.
وتستعمل لذلك آلة كهربائية خاصة يتصل بها مسجل الزمن ويجلس المختَبر أمام هذه الآلة، ويطلب إليه المختبِر أن يضغط على زر خاص في الآلة إذا رأى علامة خاصة كعلامة أو علامة مثلاً. ويثبت (مسجل الزمن) الفرق بين ظهور هذه العلامة وبين ضغط الزر، أي الزمن الذي استغرقه الفرد من حين رؤية العلامة إلى أن يحدث رد فعل منه (أو رجع) لهذه الرؤية بضغط الزر. ومثل هذه التجربة تجري في قياس زمن الرجع السمعي أو اللمسي، أي الذي تكون فيه العلامة شيئاً يسمع أو يلمس. وقد تكون التجربة أكثر تعقيداً فيطلب من المختبَر مثلاً أن يضغط الزر (1) إذا كانت العلامة المعروضة والزر (ب) إذا كانت العلامة وبذلك يكون على المختبَر أن يميز أولاً العلامة وأن يختار ثانياً الزر المناسب لها.
وبالرغم من شيوع تجارب زمن الرجع وتنوعها وتسجيل نتائجها لم يوجد بينها وبين الذكاء من التلازم الأطرادي إلا القليل بمعنى أنه لا يلزم أن يكون الذكاء أكثر كلما كان زمن الرجع أقصر. والواقع أننا لا نجد الآن بين مقاييس الذكاء الحالية مقاييس زمن الرجع التي استخدمها كاتل.
ويعود كاتل فيعترف بأن مقاييس زمن الرجع، ومقاييس الإدراك الحسي وغيره من الخواص الفردية ما قصد بها في الأصل قياس فروق الذكاء بين الأفراد، وإنما استخدمها لأنها ضمن موضوع علم (طبائع البشر) الذي كان معنياً بدراسته.
وعلى أية حال فقد كان لبحوث كاتل في الفروق الفردية أثر واضح في اتجاه التفكير العلمي. ففي سنة 1895 عينت (الجمعية السيكلوجية الأمريكية) لجنة لتعمل على إيجاد الصلات والتعاون بين معامل علم النفس الأمريكية لكي تجمع المعلومات الممكنة عن الصفات العقلية والجسمية المختلفة للأفراد، وتدرسها درساً علمياً إحصائياً. وكان كاتل عضواً في هذه اللجنة. وكذلك عنيت معاهد التعليم بمعرفة الفرق السيكلوجية بين الطلبة وقياسها ففي سنة 1899 أجرت جامعة شيكاغو تجارب لقياس ذكاء طلبتها وميولهم الخلقية لم تكن دراسة الفروق السيكلوجية بين الأفراد - بطبيعة الحال - قاصرة على إنجلترا وأمريكا، فإنا نجد في فرنسا عدة محاولات لمعرفة أثر كل من البيئة والوراثة في الفرد، كتلك المحاولات التي قام بها جولتن في إنجلترا، فقد ظهر عدد من الكتب حول هذا
الموضوع منها كتاب (تاريخ العلم والعلماء خلال القرنين الماضيين) درس فيه المؤلف حياة كل عالم وأسرته وبيئته والعوامل التي أثرت في تكوينه. وكتاب (العلاقة بين الوراثة وانتخاب الأصلح من البشر)، وكتاب (أصل عظماء الرجال، ورجالُ الأدب الفرنسي المعاصرون)
عالج كاتل أيضاً ما عالج من بحوث - أثر البيئة والوراثة في إيجاد الفروق بين الأفراد. ففي سنة 1906 كتب في مجلة (العلوم) موضوعاً تحت عنوان (بحث إحصائي في حياة رجال العلم الأمريكيين) ذكر فيه أماكن ميلاد ألف من العلماء البارزين وأماكن إقامتهم وعوامل الوراثة في حياتهم وعوامل البيئة وإنتاجهم.
وقد أثارت النتائج التي وصل إليها عجب القراء. فقد وجد إن عدد العلماء في ولاية ماساشوستس 108. 8 في كل مليون من السكان، بينما هم 86. 9 في كل مليون في ولاية كونيكتيكوت، و 1. 4 في كل مليون في ولاية لويزيانا، و 1. 3 في ولاية ميسيسبي واستنتج من هذا الإحصاء (أن هذا التوزيع النسبي غير المنتظم لرجال العلم بين الولايات يدل دلالة قوية على أن الاستعداد العلمي ليس وراثياً كما قال جولتن وبيرسُنْ، وليس من المعقول أن ثمة فروقاً وراثية كبيرة بين الأسرات في الولايات المختلفة نتيجتها هذا الفرق النسبي الكبير بين عدد رجال العلم الذي قد يبلغ في ولاية مائة مرة عددهم في ولاية أخرى. صحيح قد يكون لجنس الزنوج أثر وراثي في ذلك، ولكن الإحصاء لا يثبت ذلك ويظهر أن العوامل الأساسية في المواهب العلمية والإنتاج الفكري هي الثروة، وازدحام السكان، الفرص الاجتماعية، والمؤسسات العلمية، والتقاليد، والمثل العليا للجماعات، وقد يمكن إرجاع كل هذه العوامل في النهاية إلى الوراثة الجنسية، ولكن هذا لا يمنعنا من القول بأننا إذا أخذنا أي جنس فإنه من الممكن بتسليط العوامل البيئية عليه أن تزيد في عدد ذوي المواهب العلمية، كما نشاء، وإن كان هذا ليس معناه أننا نستطيع تحسين هذه المواهب. إن الحقيقة المشاهدة هي أنه لا يوجد فرق كبير بين مقدرة العالم في هذه الولاية، ومقدرة العالم في الولاية الأخرى. ومعنى هذا أن الإنتاج العلمي هو أثر من آثار البيئة لا الوراثة). ثم يقول في مكان آخر (والرأي عندي أن أنواع المواهب والخلق إنما هي وراثية، أما الاتجاهات التي تأخذها هذه المواهب، فإنها خاضعة لتأثير البيئة)
وبالمقارنة بين مذهب كاتل ومذهب جولتن وبيرسن نجد أن الأول يرى أن الظروف والبيئة لهما أهمية كبرى في الإنتاج العلمي وأن عامل الوراثة فقط لا يكفي لتعليل النبوغ العلمي. نعم يعترف كاتل بالوراثة وأنها البذرة الأولى التي تحمل معها خواص الفرد، ولكنه يؤكد أن الفروق الفردية التي تظهر في الإنتاج والابتكار والخلق إنما هي من صنع البيئة
وفي سنة 1915 نشر كاتل بحثاً جديداً عنوانه: (أسرات العلماء الأمريكيين)، وأستخلص في بحثه هذا أن 43 ? من آباء هؤلاء العلماء كانوا من الموظفين وذوي الحرف غير اليدوية وأن 35. 7 ? من التجار والصناع، وأن 21. 2 من الزراع. ويعلق كاتل على هذا الإحصاء فيقول: لو أن ظروف الحياة الاجتماعية، والفرص التربوية خاصة، كانت متشابهة بين هذه الطبقات الثلاث لكان توزيع النسبة المئوية لرجال العلم متعادلاً، ولما وجد ذلك الفرق بين رجال طبقة وأخرى. ولا يمكن أن تكون الوراثة هي التي أوجدت هذا التوزيع، لأن معظم سكان القارة الأمريكية منذ كانوا منذ قرنين من مستوى واحد تقريباً جسمياً وعقلياً. ويؤيد رأي كاتل هذا إحصاء آخر عمل سنة 1932 ظهر فيه أن أقل الولايات علماء أكثرها تأخراً في التعليم.
وقد اقتفى أثر كاتل غيره من علماء النفس، فاستخدموا مقاييسه وأخرى شبيهة بها في معرفة الفروق السيكلوجية للأفراد ومعظمها لقياس الإدراك وسرعة الحركة والقدرة على تكييفها ومن هؤلاء العلماء جاسترو الذي انتهز فرصة معرض شيكاغو العالمي الذي أقيم سنة 1893 فأستأجر (كشكا) وجلس فيه يجري بعض الاختبارات على من يقدم إليه نفسه من زوار المعرض. وكذلك أجرى جلبرت بعض الاختبارات على بعض تلاميذ المدارس وطلبة الجامعات. فقاس الطول والوزن والقوة الرئوية ودقة الإحساس وزمن الرجع والذاكرة والتأثر بالإيحاء؛ وقارن نتيجة هذا كله بآراء المدرسين. ونشر في ذلك بحثين الأول سنة 1894 بعنوان (بحوث في النمو العقلي والجسمي لأطفال المدارس) والثاني سنة 1897 بعنوان:(بحوث سيكلوجية في أطفال المدارس وطلبة الجامعات)
(بخت الرضا) السودان
عبد العزيز عبد المجيد
كتاب (الدين الإسلامي)
عودة إلى الموضوع فيهما إيضاح لعلمائنا وبيان
للأستاذ علي الطنطاوي
أما والله لولا اعتقادي بأن شباب المسلمين هم أحوج اليوم إلى هذا الكتاب منهم إلى الخبز الذي يأكلونه والهواء الذي ينشقونه، ما عدت بعد إذ تكلمت فيه، ولا ألححت عليه (هذا) الإلحاح، بعد أن وجدت من علمائنا (ذلك) الإعراض. وإني لأومن بما أقول، لا أبالغ ولا أغلو، وإن بالهواء والخبز لحياة الشاب في هذه الدنيا، ولكن بهذا الكتاب حياته في الأخرى وما الدنيا في الآخرة إلا هباء، ولا يؤثر الفانية على الباقية إلا جاهل أو غافل. ولو أن علماءنا داخلوا الشباب وخالطوهم وأخذوا منهم وأعطوهم، لوجدوا الكثرة منهم تجهل المعلوم من مبادئ الإسلام وتنكر المعروف من أحكامه، ولوجدوا فيهم من لا يعرف إذا أراد الصلاة كيف يصلي، وفيهم من لا يفرق بين كلام الله والثابت من حديث رسوله، وشروح الأئمة المعتبرين، وبين كلام المشعبذين والدجالين، ويضع ذلك كله في سطر واحد فيقرؤه جملة أو يطمسه جملة، ثم لا يعمل بشيء منه، ولا يراه لازماً له في حياته، ولا مرافقه في غدواته وروحاته، ولا يدخله في عداد الأمور الجدية التي يوليها عنايته ويجعل فيها همه. . . وإذا تكلم أحدهم في الدين. صلته بالحياة أو مِساسه بالسياسة، أعاد ما حفظ من أقوال الأوربيين والنافخين في مزاميرهم من الشرقيين.
ولقد غدا من المفهوم المشهور الذي لا يحتاج إلى إيضاح أن هؤلاء الشبان لا يمكن أن يقرءوا كتب الفقه والتفسير والحديث ولو طبعتها لهم على ورق أبيض. فأخرجتها عما ينبزونها به من أنها (كتب صُفْر. . .) ولا يمكن أن يدخلوا المساجد فيستمعوا فيها درس العلم، أو يحضروا مجالس الوعظ، لأنهم نُفّروا منها وأبعدوا عنها، ولا يمكن أن يتعلموا علوم الدين في مدارسهم (النظامية) الرسمية، لأن القائمين عليها، في مصر والعراق والشام لم يقتنعوا إلى اليوم بأن للدين علوماً محترمة تستحق أن تضيع في درسها سبع ساعات في الأسبوع، ولم يروا في علوم الدين ما هو أهل ليعنى به كعنايتهم بالرسم والغناء، ونسوا أو هم لم يعلموا أن من الأوربيين من يهتم بهذه العلوم ويرفع من قدرها، ويعلي مكانها، وأن رجلاً جرمانياً أسمه (بِرتزِل) قدم علينا الشام منذ سنوات، فعرفنا بنفسه، وأرانا بطاقته وإذا
هو قد كتب عليها (فلان: متخصص بقراءة القرآن) يفخر بذلك ويعتز به، وسأل عن الذي طبع كتاب (النشر في القراءات العشر) فلما لقيه أكبره وعظمه، وعلمنا بعد أنه ملم بعلم القراءة عارف برواياتها، وقارئ للقرآن، ناشر لكتب في هذا العلم عدة، ومن شبابنا من لا يعرف ما الإدغام وما الإخفاء، وما المخارج وما الأداء، ويرى اشتغاله بذلك ذلة لأنه لا يشتغل به (على ما أفهموه. . .) إلا رجعي غير متمدن، وشيخ جامد. . . وأمثال (برتزل) أكثر من أن يحيط بهم حصر.
أصبحت الحملات على الإسلام منظمة مرتبة قوية، تأتيه من كل صوب، وتهاجمه من كل ناحية، من ناحية الأخلاق بنشر الفسوق والخمور، وتهوين أمر العرض، ونشر أدب الشهوة، وصورة العراة، ومن ناحية العبادات بصرف الناس عنها، والتزهيد فيها ومن ناحية العقائد بإدخال الشكوك عليها، ووضع الشبَه من حولها ومن ناحية العلم، بإبعاد الناشئة عن علوم الإسلام، بصرفهم عن كتبه، وتحقير علمائه في أنظارهم. فماذا فعل علماؤنا حيال ذلك كله؟
لا أشك في جلال العمل الذي قام به الشباب في مصر والشام ولا أبخسهم قيمتهم، ولا أهمل ذكر جهادهم؛ وإن للأخوان المسلمين في مصر، والشبان المسلمين في مصر وفي غيرها، ولشبان الأزهر، وشباب محمد، والتمدن الإسلامي في الشام:(دمشق وحلب وبيروت) وأمثالهم ممن اختصرت فلم أذكر، أو جهلت فلم أعلم، إن لهم بما عملوا لذكراً في الناس ومجداً، وثواباً عند الله وأجراً. . .
ولكن كلامي هنا عن (كبار العلماء) ماذا عملوا في رد هذه الحملات؟
أو أقل من أن يؤلفوا للشاب المسلم كتاباً يعرف به دينه إذا ألهمه الله الرجوع إلى الدين، وخلصه من كيد الشياطين؟
لقد فهمت من الرسائل الكثيرة التي جاءتني تبحث في فكرة تأليف الكتاب أن الذي يمنع العلماء من تأليف هذا الكتاب أن عندهم علوماً متميزة، وفنوناً متباينة، فهم لا يدرون أيجعلون الكتاب فقهاً أو حديثاً، أو أصول فقه، أو مصطلح حديث؟
وهذه إن تكن هي (العلة) فإن عندي (دواءها) الذي يشفيها بإذن الله:
يقسم الكتاب إلى ثلاثة أبواب كبار: باب العلم، وباب العمل، وباب الاعتقاد.
ففي (باب الاعتقاد) يبين للشاب كل ما يجب عليه الإيمان به بأسلوب (عصري) بيّن، بعيد عما أحدث من الخلاف، يعرض فيه عرضاً لأهم الشبه التي تتردد كثيراً فيجاب عنها جواباً حاسماً باتاً، ويكون (مقصد) هذا الباب تكليف الشاب بالإيمان بما لا يكفي أقلّ منه للنجاة في الآخرة. وهو الذي جاء في الكتاب والحديث المتواتر الذي يفيد العلم، أما ما لم يثبت بالتواتر كنزول المسيح، وظهور الدجال، ولا يفكر منكره، فلا يبحث فيه في هذا الكتاب.
وفي باب العلم يلخص له الأصول والمصطلح مع طرف من علوم القرآن، ويكون على فصول:
الفصل الأول: في الأدلة مجملة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وبيان منزلة العقل من الشرع، وأن الحسن ما رآه الشرع حسناً، وأن العقل شارح لا شارع.
الفصل الثاني: في القرآن: نزوله وجمعه ومكيّه ومدنيّه، ومحكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه (مع بيان أن النسخ الذي هو إبطال الحكم السابق وإلغاؤه بالمرة قليل جداً) وحكمة النسخ، وإعجاز القرآن، من جهة عجز فصحاء العرب (الفعلي) عن محاكاته، ومن جهة ألفاظه وأسلوبه، وعلاقته بالشعر والنثر العربيين، ومن جهة إخباره بالمغيبات، وإشارته لبعض نواميس الكون التي لم يكن يعرفها على عهد محمد بشر على ظهر الأرض، ومن جهة إحاطته بكل شيء وأن فيه الإيمان والعلم والقانون والأخلاق مع أنه ليس كتاب تاريخ ولا علم، وما أراد التقصي وإنما ضرب الأخبار أمثلة، وأمر بالنظر في نواميس الكون لإدراك عظمة الخالق، - والتفسير والمفسرين وطبقاتهم، والتلاوة والأحرف السبعة والقراءات السبع وأنها ليست هي الأحرف السبعة وإنما هي على حرف واحد، وعربية القرآن وترجمته، وأن ترجمته غير ممكنة لمكان المتشابه منه، ولأن الترجمة لا تمكن في بليغ الشعر فضلاً عن القرآن لأنها تفقده أحد عنصريه، وهو (موسيقية) الألفاظ - ثم تشرح آيات من القرآن.
والفصل الثالث: في الحديث، المتن والسند، ورجال الحديث وأقسامه المتواترة والمشهور والصحيح وما دون الصحيح، والمرفوع والموقوف والمرسل، وعن تدوينه وكتبه وما يوثق به منها، وتصح الرواية عنه مع شرح نماذج منه.
والفصل الرابع: في الاجتهاد، معناه وشروطه، وكبار المجتهدين، وأسباب الاختلاف بينهم،
وكون الاختلاف في تأويل آية أو فهم حديث، لا في الأصول، وحكم التنقل بين المذاهب
والفصل الخامس في الإجماع وفي شرح القواعد الفقهية العامة: كالموادّ التي في صدر مجلة الأحكام الشرعية التي يفهمها الناس على غير وجهها، فيحسبون أن قولهم:(لا ينكر تغيّر الأحكام بتغيّر الأزمان) معناه تبديل كل حكم، مع أن الحكم الثابت بالقرآن والسنة الصحيحة القطعية لا يمكن تبديله. وفي المجلة أيضاً أنه (لا مساغ للاجتهاد مع ورود النص).
والفصل السادس في ميزة الإسلام ونظره إلى السياسة والقوانين والإدارة والأخلاق.
و (مقصد) هذا الباب أن يعلم الشاب قارئ الكتاب كل ما ينبغي للمسلم أن يكون عالماً به باختصار ووضوح، وبعد عن المصطلحات العلمية على الأسلوب الذي يدعونه اليوم بتبسيط العلم أو تعميمه
الباب الثالث في الأعمال ويشتمل على فصول:
الفصل الأول: حقوق الله على العبد، ويكون تلخيصاً لباب العبادات من الفقه بشرط أن تذكر كيفية العبادة وفائدتها من غير تفصيل لسنتها وواجباتها وفرائضها ومكروهاتها ومبطلاتها، وأن تقرن بما ورد في الترغيب فيها والترهيب من تركها
الفصل الثاني: حقوق النفس، كنحو تحريم الانتحار والإقدام على التهلكة، وإضعاف الجسم، وفضيلة السمو بالنفس عن الأخلاق المنحطة، والأدواء الباطنة
الفصل الثالث: حقوق الأسرة، كنحو حق الوالدين والأولاد والزوجة والأخ وفقراء الأسرة.
الفصل الرابع: حقوق المسلمين، من نحو عيادة المريض منهم ومساعدة الضعيف، ونصيحتهم وحرمة غيبتهم والنميمة بينهم الخ
الفصل الخامس: حقوق غير المسلمين، من نحو إحسان معاملة الذمي وحفظ ماله ونفسه وضمان حريته التي هي له، والوفاء لذي العهد من المحاربين، واحترام المبادئ الإسلامية الإنسانية في الحرب.
الفصل السادس: حقوق الوطن، من نحو احترام المصلحة العامة، والاستعداد للجهاد في سبيل الله والذود عن الحمى، والتهيؤ للتضحية، وتعلّم الإيثار ونحو ذلك.
الفصل السابع: درجة الورع والصلاح، وبيان الصورة الكاملة للمسلم، وأنه يعمل للدنيا ولا
يجعلها في قلبه، ويعمل للآخرة ويستعد لها دواماً، وتضرب الأمثلة من أخبار الصالحين من طبقة الفضيل والسفيانين وأبن المبارك وابن حنبل ممن كان ورعاً وعالماً وعاملاً للدنيا في وقت واحد
فمن اطلع من علمائنا على هذا المقال، وكان قادراً على كتابة فصل من هذه الفصول، فلم يكتبه، ولم يمنعه منه مانع، فليعلم أنه يعين بسكوته أعداء الإسلام على ما هم فيه، وإن لنا معشر الشبان لموقفاً معه بين يدي أحكم الحاكمين، فنقول: يا ربنا سَلهُ لِمَ قدر على إرشادنا، فلم يرشدنا وهو يروي قول نبيك محمد (لأن يهدي بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)؟
فليهيئ لهذا السؤال جوابه. . . وهيهات!
(كركوك)
علي الطنطاوي
بين الأستاذين
أحمد أمين وزكي مبارك
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
قلت في مقالي السابق إن الدكتور زكي مبارك يجب أن يكون آخر من يدافع عن الأدب الجاهلي، وإنما قلت هذا لأنه هو وأستاذه الدكتور طه حسين لا يؤمنان بصحة ذلك الأدب، والدفاع عن الشيء لا يكون إلا بعد الاعتقاد بصحته، فقد ألف الأستاذ طه حسين كتابه (في الشعر الجاهلي) وكان أكبر جناية على أدب الجاهلية، إذ أنكر فيه صحة ذلك الأدب، وقلد في هذا الرأي أعداء الأدب العربي من المستشرقين، فلم يكن من الدكتور زكي مبارك إلا أن احتفل بظهور ذلك الكتاب، وعده فتحاً جديداً في الأدب العربي وقال في هذا من جريدة البلاغ الأسبوعي (3 ديسمبر 1926):(كان كتاب الشعر الجاهلي الذي ألفه أستاذنا الدكتور طه حسين فاتحة لعهد جديد في دراسة الآداب العربية، وحسبك أن ترجع إلى ما كتب في نقده من الرسائل المطولة، والأسفار الضخام، لترى كيف أثار ذلك الكتاب ما خمد من القرائح، وكيف أيقظ ما هجع من العقول)
والفرق كبير بين رأي الأستاذ طه حسين في الأدب الجاهلي ورأيي ورأي الأستاذ أحمد أمين فيه، فالأستاذ طه حسين يرمي في رأيه إلى الهدم والطعن في ثقة السلف ونحن نرمي إلى الإصلاح ونريد تقويم اعوجاج الأدب العربي، وهذه غاية نبيلة يكاد علماء الأدب يتفقون الآن عليها، لإجماعهم على أن الأدب العربي في حاجة إلى الإصلاح، وعلى أن إصلاحه يجب أن يكون من الناحية التي أشرنا إليها، حتى يكون أدب ألفاظ مزوقة ومعان خيالية لا طائل تحتها.
ومن الغريب أن الدكتور زكي مبارك يؤمن أيضاً بذلك الإصلاح، ويدعو إليه في كتابه (النثر الفني) ولكنه ينسى ذلك في حب التغلب على الأستاذ أحمد أمين، ويأخذ عليه تهوينه من شأن التشبيه وما إليه من المعاني الثانوية، ومما جاء في ذلك الكتاب: ونحن نرى أن سر الفصاحة والبلاغة يرجع إلى ما في المعنى من قوة وروح، وقد تجد من الشعر ما تخلو معانيه وألفاظه من الروعة الظاهرة، ولكن قوة الروح تصل به إلى أسمى غايات الإبداع، ومثال ذلك قول حِطَّانَ بن المُعَلَّي يشكو فقره، وما وضع القدر في رجليه من قيود الأهل
والذرية:
أنزلني الدَّهْرُ على حكمه
…
من شامخٍ عال إلى خَفْضِ
وغالني الدهر بِوَفْر الغنى
…
فليس لي مال سوىِ عرضْيِ
أبكانَيِ الدهر ويَا رُبَّمَا
…
أضحكني الدهر بما يُرْضِي
لولا بُنَيَّاتٌ كَزُغْبِ الْقَطَا
…
رُدِدْنَ من بَعْضٍ إلى بَعْضِ
لكان لي مُضْطَرَبٌ واسعٌ
…
في الأرض ذات الطول والعَرْضِ
وإنما أولادنا بيننا
…
أكبادنا تمشي على الأرض
لو هَبَّتِ الريح على بعضهم
…
لامتنعتْ عيني عن الْغَمْضِ
فقوة هذا الشعر ترجع إلى الشاعر لا إلى اللفظ، ولا إلى الأسلوب. ومن ذلك يتضح أن من يزعمون أن القرآن ليس من جنس كلام العرب لم يفهموا شيئاً من أسرار الإعجاز، ولذلك نراهم يدورون حول الظواهر والمحسنات اللفظية، ويرجعون في ذلك إلى الناحية اللفظية أو الفنية، ونحن نرى غير ذلك، فنرى أن محمداً عليه السلام اجتذب العرب لأنه نبي، ولم يجتذبهم لأنه فنان، فالفن الكلامي لم يكن جديداً عند العرب، وإنما كان الجديد عندهم أن يأتيهم رجل منهم بأساليب من الفكر والعقل والوجدان غير التي كانوا يألفون، ومن العبث أن نظن أن البلاغة لا تخرج عن المناورات اللفظية، فإن هذا إسراف في تقدير الزخرف، وامتهان لصولة العقول، إن الألفاظ في مقدور كل شاعر وكل كاتب وكل خطيب، ولكن المعجزة حقاً هو الفكرة. وليس معنى هذا أننا لا نقيم وزناً للصناعة الفنية، ولكن معناه أننا نقرر أن الفكرة تجيء أولاً، ويجيء الورق ثانياً، كما يقول الفرنسيون)
وإنما أطلت النقل من كتاب (النثر الفني) لأقيمه دليلاً قاطعاً على أن الأستاذ زكي مبارك لا يؤمن بتلك الناحية الفنية التي أخذ على الأستاذ أحمد أمين تهوينه من أمرها، ويكاد يتفق معه في أن الشأن في ذلك لقوة الروح والفكرة، ومن الإنصاف أن نذكر أن الأستاذ زكي مبارك لا يفرق في ذلك بين قوة الروح في الخير والشر، ويرى أن الشاعرية روح يتمرد به الشاعر فيهز نفس القارئ أو للسامع هزاً عنيفاً يحمله على أن يؤمن وهو طائع ذلول بما يدعو إليه الشاعر من تزيين الإثم والبغي، أو تقبيح الغي والفسوق ومن الأول قول ديك الجن:
لمَّا نظرتِ إليَّ عن حَدَق المَها
…
وبَسمتِ عن مُتفتِّحِ النُّوارِ
وعقدتِ بين قضيب بانٍ أهيف
…
وكثيب رمل عُقْدَة الزُّنَّار
عفَّرت خدي في الثرى لك طائعاً
…
وعزمتُ فيك على دخول النار
ومن الثاني قول معن بن أوس:
لَعمْرك ما أهويت كفِّي لريبة
…
ولا حملتني نحو فاحشة رِجْلي
ولا قادني سمعي ولا بصري لها
…
ولا دلَّني رأيي عليها ولا عقلي
وأعلم أني لم تُصبني مصيبةٌ
…
من الدهر إلا قد أصابتْ فتى قبلي
ولستُ بماش ما حَييتُ لمنكرٍ
…
من الأمر لا يمشي إلى مثله مثلي
ولا مُؤْثر نفسي على ذي قرابة
…
وأوثِرُ ضيفي ما أقامَ على أهلي
ولكنا لا نحب للدكتور زكي مبارك أن يمضي في ذلك إلى حد التسوية بين روح الخير وروح الشر في الشعر، فيجعل قول ديك الجن مثل قول معن بن أوس بعد اتفاقهما في قوة الروح، لأنه يبقى بعد هذا شرف المعنى والغرض وهو مما لا بد من اعتباره أيضاً في المفاضلة بين شعر وشعر، أو كلام وكلام. ولا يمكن الدكتور زكي مبارك أن ينكر هذه الناحية في الموازنة الشعرية، فقد ذكرها في قوله تعالى:(وَلا يَجْرِ مَنَّكُم شَنَآنُ قَوْم على ألَا تَعْدِلُوا)، فجعل الفضل فيه لهذا النصح النبيل والمعنى الشريف والدعوة إلى إيثار العدل في جميع الأحوال، من غضب وسكون، وحب وشنآن، وإذا لم يكن للدكتور زكي مبارك بد من اعتبار ذلك أيضاً فإنه لا يكون بيننا وبينه فرق فيما ندعو إليه من ذلك الإصلاح، ولا يكون له حق في تلك الحملات القاسية التي تقف عقبة في سبيل غايتنا جميعا.
هذا وإذا كانت اقتصرت في أول هذا المقال على موقف للدكتور زكي مبارك من كتاب (في الشعر الجاهلي) فلأني أحببت الترفق به، ولم أشأ أن أذكره بمواقف له جارى فيها أستاذه في الجناية على الأدب الجاهلي، وذهب إلى الشك في صحته كما ذهب إليه قبله، وتلك هي الجناية على الأدب الجاهلي حقاً، لا ما ذهبنا إليه من ذلك الإصلاح، والله الهادي إلى الصواب.
عبد المتعال الصعيدي
من وراء المنظار
كرنفال!. . .
أبداً لا تقع عيناي أو لا يقع منظاري على هذا الذي أحدثك عنه إلا اعتلج في نفسي شعور من الهم والخزي يلازمني فترة طويلة بعد فوات المنظر، ويتجدد كلما تجدد في خاطري طيفه، وأنا أكتب هذا على أثر رؤية جديدة لذلك المنظر الذي أنكره أشد الإنكار، وما أزال أزداد إنكاراً له في كل مرة عني في سابقتها.
وإنما أكتب لأدعو القارئ إلى أن يغضب مني، فإن لم يغضب، ومر على هذا الذي أقول مر الكرام، فلا شك عندي أنه قوي الأعصاب جداً - على أحسن تعبير - قوة لا أدري أيحمد عليها أم يذم من أجلها؟!
على أني لا أشك في أن كثيراً من القراء غضبوا مثلما غضبت وسيغضبون كلما وقعت أعينهم على ذلك المنظر البغيض، منظر جنائزنا (البلدية) في أجمل وأعظم أحياء القاهرة العظيمة مهبط السائحين في الشتاء من إنحاء الغرب والشرق!. . .
وللقارئ أن يخطر في باله صورة لجنازة من هانيك الجنائز. . . فهناك في الطليعة أنماط من الناس منهم من يرتدون هلاهيل من القماش كانت من قبل جبباً وقفاطين، ويضعون فوق رؤوسهم ما يشبه العمائم، أو ما يصح أن يكون أبلغ صورة هزلية للعمامة، وكأنما يقول الواحد منهم (متى أضع العمامة تعرفوني) فهو كما أتخيل بل كما أكاد أعتقد يتخذ هذه الهيئة عن عمد ليكون جديراً بأن يظهر في الطليعة! وأنا أرى أبداً هذا الصنف من الخلائق على أشكال متقاربة في صورها.
ويندس بين هؤلاء (الفقهاء) الحمقى فريق من (الجدعان) من أهل الحي الذي خرج منه الميت وهم يخطرون جميعاً في جلابيبهم (البلدية)، وإنما رؤوسهم بأشكال من الطواقي و (اللاسات) وما شئت من أنواع (الكليوش) وألوانه. . .
وينطلق هؤلاء وهؤلاء في نشاط عجيب، وقد تأبط كل منهم ذراع جاره، ويطلقون حناجرهم بأفظع الأصوات وأنكرها، يستجمون لها كل قواتهم، ويمضون في ترديد عبارة حفظوها، أو يتغنون بورد من الأوراد، لا يفترون ولا تكل حناجرهم أبداً، كل أولئك وهم يتمايلون ويتسابقون في النعيق على صورة أجدر أن تكون فرحاً في موت هذا الذي
يحملونه من أن تكون حزناً عليه، وإلا فكيف يكون هذا الزعيق وهذا التهريج حزناً في أي وضع من الأوضاع؟!
ولو أن متفنناً في التهريج أراد أن يحشد (كرنفالا) من المهرجين لما تعلق خياله بأبلغ وأروع من ذلك الكرنفال الجنائزي
وتأتي بعد ذلك الآلة الحدباء يحف بها من رهبة الموت وجلاله ما لا يتفق مع هذا التهريج المنكر أمامها. . . ومن ورائها ذيل أسود طويل بغيض لعله أشد نكراً من الطليعة؛ هؤلاء النسوة الماشيات أو الراكبات عربات (الكارو)، ومنهن من تدور طرحتها حول عنقها كالحبل، ومنهن المصفقة كفاً بكف، والمشيرة بمنديلها إشارات عجيبة مزعجة معاً، والمولولة المترنحة ذات اليمين وذات الشمال؛ وأفظع من هؤلاء الصابغات وجوههن (بالنيلة) في شكل لا يمكن أن يتخيل معه أنهن ينتمين إلى بنات حواء. . . ولا أريد أن أزعج خاطرك - أيها القارئ - بوصف أصواتهن التي تجيء مع ذلك الزعيق في المقدمة نشازاً على نشاز، وشناعة على شناعة. . .
وبعد، فهل في هذا شيء يتفق مع الدين أو يجوز في عرف معقول أو يليق بسمعة أمة؟. . . ولشد ما يوجع نفسي أن أذكر وا أسفاه أني رأيت مثل هذا المنظر مرتين في أسبوع واحد أمام دار الآثار ساعة (انصراف السائحين)؛ فسألت نفسي والألم والخزي يحزان في صدري: ماذا عسى أن يقول هؤلاء عن حياتنا الاجتماعية إذا رجعوا إلى قومهم؟ وهل هم يرون (الأنتيكة) التي جاءوا ليروها داخل (الأنتيكخانة) حقاً؟ أم أنهم يرون ما هو أبلغ في معناه منها في شوارع العاصمة الكبيرة؟!
يا وزارة الشئون الاجتماعية. . . هذا والله في صميم الشئون الاجتماعية. . . شيعي هذا المنظر إلى حيث لا يعود، فهذا لعمري وعمرك خير من إنشاء ألف حديقة في هذه المدينة أو نشر ألف صحيفة من صحف الدعاية عن مصر والمصريين.
(عين)
الثقافة العسكرية
وأناشيد الجيش
للأستاذ عبد اللطيف النشار
في الثورة المصرية
ولقد مر بك أن (المتطوعين) المصريين في الحرب الكبرى لم يجدوا من يضع لهم أناشيد تعرب عن آمالهم، فوضعوا لأنفسهم تلك الأناشيد كما تخرج الأرض المهجورة زرعها (الشيطاني)، وكان بعض الذي وضعوه نظماً ولحناً مما يستحق الإعجاب لدلالته على خوالج نبيلة كالشوق إلى الوطن، وكالشكوى من تحكم السلطة العسكرية إذ ذاك في التجنيد باسم (التطوع).
ولقد قرأت في بعض الصحف الإنكليزية على أثر الثورة المصرية بحثاً ضافياً عن أسباب تلك الثورة، وقد عدَّ كاتب ذلك البحث مسألة (التطوع الإجباري) من أهم المسائل التي أدت إلى الثورة وأستدل على ذلك باللحن الذي أشرنا إليه في المقال السالف ونشره بلغته العربية بأحرف إنكليزية مع ترجمته إلى تلك اللغة، وهكذا كانت ترجمته:
والنص هو:
بلدي يا بلدي
…
والسلطة خدت ولدي!
ومن البديهي أن الذين كانوا يتغنون بهذا النشيد ليسوا هم الذين أخذت السلطة أولادهم، ولكنهم هم الأولاد المأخوذون
وكان المأخوذة أولادهم مقيمين في مصر، أما الذين يرددون هذا اللحن فكانوا بعداء عنها يتحرقون تشوقاً إليها بدليل البيت الآخر وهو:
يا عزيز عيني
…
وأنا بدي أروح بلدي
ولكن هكذا الشعر الذي ينال شرف السيرورة لا يمكن إلا أن يكون صادق التعبير عن البيئة التي صدر عنها.
وكان هؤلاء (المتطوعون) يعبرون عن مصر كلها لا عن الفريق المتطوع حينما وضعوا هذا اللحن الذي سار والذي استدل به الباحثون فيما بعد عن أسباب الثورة المصرية، كما يستدل الطبيب بالنبض على حركة القلب.
وكذلك الشعر لم يكن قط قلباً للأمة، ولكنه نبضها الذي يستدل به على حالة ذلك القلب. وهذه الحقيقة هي أساس النقد الحديث الذي يذعن له النقاد منذ وضع سانت بيف كتابه (تاريخ الحضارة الإنكليزية كما يظهر من خلال أدبها).
ولم يكن المتطوعون في الحرب الكبرى كلهم من طبقة واحدة ولا كان تطوعهم ذا صبغة واحدة، ولا كانت أغراضهم واحدة، ولكن كانت الكثرة كما تقدم وصفها، وكان فيها فريق تطوع بمحض الرغبة فراراً من الفتك الاقتصادي وطمعاً في القوت.
وكان هذا الفريق من لابسي (الهلاهيل)، وقد أبت طبيعة الأشياء إلا أن يسجل هذا الفريق من البؤساء على جبين الزمن شكواه من ذهابه للقاء الموت من أجل الكساء الذي يستر العورة ولم توفق مصر إلى شاعر من أبنائها يحس إحساس الفريق فيعبر عن مشاعره. فأعرب هؤلاء الرعاع عن مشاعرهم ولحنوها بأنفسهم (ولا الحوجة للشعراء والموسيقيين).
وهكذا كان في متطوعي السلطة في الحرب الماضية مصريون كالعراة ينشدون هذا النشيد:
(يا اللي رماك الهوى
…
حود على الكامبو
يقلعوك الهلاهيل
…
ويلبسوك البلطو)
ومن الذي تراه كان من شعرائنا أو موسيقيينا يستطيع أن يقول ذلك القول أو يلحنه؟
لقد كنا. . .
ولا تسل كيف كنا. . .
نتعاطى من الهوى ما نشاء. . .
كان شعراء مصر في ذلك الحين يشربون الكوكتيل أو الويسكي على الأقل!
هل تصدق أنني كنت في سنوات الحرب أتقاضى مرتبي من وظيفتي في الحكومة، وكان مضافاً إليه علاوة الحرب مماثلاً لمرتبي الآن؟ لقد ترقيت ترقية طبيعية في مسافة العشرين عاماً بين الحربين ولكن الترقية في مسافة عشرين عاماً لا تكاد تبلغ المائة في المائة التي كنا نتقاضاها علاوة حرب، وكان في الشعراء الآخرين من هو أيسر حالاً وأهنأ بالاً، والعلة
مقطوعة بطبيعتها بين شعراء مصر وبين لابسي الهلاهيل، فلم نضع ألحاناً لمسير المليون مصري الذين تطوعوا في الحرب الكبرى ووضعوها هم لأنفسهم. فإذا بعضها:
يا اللي رماك الهوى
…
حود على الكامبو
والكامبو هو الـ أي معسكر الجيش الإنكليزي
وانتهت الحرب الكبرى ونشبت الثورة المصرية وكان لها شأن آخر. كانت هناك قيادة للثوار واتحاد في الغرض والوسيلة، واشترك في المشاعر الثائرة أصحاب (الفراك) و (البونجور) و (الردنجوت) مع أصحاب الهلاهيل. ومن أجل ذلك كان هناك الأناشيد التي يضعها الشعراء للمسير والتي نالت شرف السيرورة لصدق تعبيرها عن عواطف البيئة.
قد لا تكون هذه الأناشيد مما يسميه الشعراء غروراً (بالشعر الخالد) ولكنها على كل حال ستظل باقية ما بقى لتلك الثورة ذاكر. وإذا شئت أن تدرس طبيعة تلك الثورة وتعرف أسبابها فإن أهم مرجع هو الذي يدلك عليه سانت بيف وهو الشعر الذي قيل فيها، هو تلك الأناشيد:
نشيد شوقي. ونشيد العقاد. ونشيد صدقي. ونشيد الرافعي. ونشيد صادق. ومائة نشيد ونشيد غير أناشيد هؤلاء. . . ولكن هل كانت الثورة المصرية خالية من الأوشاب؟ وهل كانت كل العواطف من طراز عواطف هؤلاء النبلاء! كلا. فقد كان في المتظاهرين من لا يقنعه (حيوا العلم!) ولا (مكانكمو تهيأ) ولا (فحيي فتاك شهيد هواك) ولا أمثال هذه الاتجاهات السامية
ولم يكن في الشعراء من يستطع الإعراب عن عواطف الذين يلقون بالأحجار على اللوحات الزجاجية فيحطمونها ولم يكن فيهم من يستطيع الإعراب عمن لا يجد تعبيراً أطيب من قلب مركبة الترام أو قطع خطوط التلغراف. وكان هذا الفريق من الأوشاب موجوداً بالفعل وكان لا بد له من الإعراب بالموسيقى عن عواطفه تلك. والإنسان برغم أنف المناطقة حيوان موسيقى وليس فقط بالحيوان الناطق، بل أستغفر الله فهو برضى المناطقة وعن طيب خاطر منهم حيوان موسيقى لأن النطق لا يمكن أن يتم إلا والموسيقى جزء منه.
ظهر في الثائرين أيام الثورة المصرية من يحطم اللوحات ويقذف بالطوب ولم يكن بينهم
شعراء من أمثال (فرلان) ذلك الوغد الفرنسي المتشرد الشاعر ليضع لهم نشيداً فوضعوا هم أناشيدهم نظماً وألحاناً ومن بينها:
مش عاوزين حد أبداً يحكمنا
…
وإلا إن غلطنا حد يلومنا
كان هذا الفريق أقل من أن يعقل (حيوا العلم) فلم يثر من أجل كرامة العلم ولكنه فقد النظام فأبى أن يحكم أبداً كما يقول
وبعد فيما شعراء الجيل هل تريدون أن ينال شعركم شرف السيرورة؟ إذن فانغمروا في كل وسط تريدون أن ينتشر فيه شعركم. أنتم (وأنا من بينكم) من رواد المقاهي فلن يروج شعرنا إلا بين رواد المقاهي
ويا وزارة الدفاع ويا وزارة الشؤون الاجتماعية ويا قيادة الجيش المرابط، هل تريدون ألحاناً للجنود تعرب عن روح عسكرية قوية وتدعم الروح العسكرية وتصل بين حاضرها ومستقبلها.
لن تكون تلك الأناشيد من وضع الجالسين على مكاتبهم في الدواوين ولكن أفسحوا المجال في المعسكرات في ساعات التدريب لطائفة من الشعراء.
تقول قيادة الجيش المرابط إنها تريد أن يتعلم الفلاح المشية العسكرية والنظام في الجلوس والقيام وحالة المعيشة العامة. هذا جميل كله، ولكن إذا استثنينا الأستاذ الشاعر عباس العقاد فمن من بين شعرائنا يمشي مشية عسكرية؟
أتمنى أن أرى في ساحات التدريب الأساتذة حسين شفيق المصري والدكتور زكي مبارك وشاعراً ثالثاً على الأقل وسيرى الجميع بعد أيام من التدريب كيف يمشي هؤلاء الثلاثة مشية غير مشيتهم الحاضرة. وإلى الملتقى في ميادين التدريب.
عبد اللطيف النشار
أحلام سوداء.
. .
للدكتور إبراهيم ناجي
رب ليل قد صفا الأفقُ به
…
وبما قد أبدَعَ الُلهُ ازدَهرْ
قد سرَى فيه نسيمٌ عبقٌ
…
فكأنَّ الليلَ بستانٌ عَطِرْ!
قلتُ، يا ربِّ، لَمِنْ جَمَّلتَهُ
…
ولَمِنْ هذِي الثُّرياتُ الغُررَ
فَخَليٌّ نائمٌ عنه القَدرْ
…
نام لم يَسعَدْ بِهاتيكَ الصُّوَر
وشجِيُّ القلبِ يشدو للذِّكَرْ
…
دامِيَ الألحانِ مجروحَ الوَتر
كل شيء مأتمٌ في عينهِ
…
لا الكرى طابَ، ولا طاب السَهر
غامَ وجهُ الأفقِ وأربدَّت به
…
سُحبٌ حامتْ على وجهِ القمر
كلما تقربُ تمتدُّ له. . .
…
كأكُفٍِّ شَرِهاتٍ تَنتظِر
قائماتٍ، كذئابٍ حُوّمٍ
…
جائعاتٍ مثلَ غربانِ الشَّجر
صِحْتُ بالبَدْرِ، تَنّبه للنُّذُرْ
…
أدْرِكِ الهالَةَ حُفَّتْ بالخطَر
لا تُبحْ مائِدَةَ النُّورِ لهمْ
…
لا تبحها لسوادٍ مُعْتَكِر
قهقَهَ الرّعدُ ودَّوى ساخراً
…
فكأنَّ الرعدَ عربيدٌ سَكِر
قمتُ مذعوراً، وهمَّتْ قَبضتي
…
ثم مُدَّت ثم رُدَّت، مِنْ خَوَر
لَهَف القلبِ على الدنيا، إذا
…
عجزَ القادرُ، والباعُ قَصُر
لَهَف القلبِ، على الحسن، إذا
…
قهقهَ الغربانُ والذئبُ سَخِر
تحتمي الوردةُ بالشوكِ فإنْ
…
كثُرَ القُطَّافُ لم تُغْنِ الإبَر
آهِ مِن غصنٍ غنيٍ بَالجنَى
…
ومِن الطامعِ في ذاك الثمر
آهِ من شكّ، ومن حبٍ، ومن
…
هاجساتٍ وظنونٍ وحَذَر!
كسَتِ الأفقَ سواداً لم يكن
…
غير غَيْمٍ جائمٍ فوقَ للفِكَر
طالما قلتُ لقلبي، كلما
…
أنَّ في جنبي أنينَ المحتضَر
إن تكن خانت، وعقَّتْ حُبَّنا
…
فأضِفْها للجراحات الأخَر. . .
كان طيفاً من ظنونٍ لم تَدُمْ
…
وسحاباً من جنون وعَبَرْ!!
ناجي
شريد!.
. .
للأديب محمود السيد شعبان
يا ليْل! هذَا شَريدٌ تائهٌ تَعِسٌ
…
يحوطه الصمت في واديك والغلسُ
حيرانُ. . . يُدلج في طخياء مظلمةٍ
…
تكادُ من خوفه الأنفاس تُحتبس!
لهفان. . . تحسبُهُ الأنظارُ واهمةً
…
إنساً من الجنِّ أو منِ جنةٍ أنِسوا!
أَسوان. . . تنشدهُ الأوهام ساخرة
…
لحْناً من البؤس فيهِ العيُّ والخرس
هَيمانُ. . . تَلقفهُ الاغلاسُ ذُاهلةً
…
كأنما هو في كفِّ الدُّجى قَبس!
ظمآنُ. . . يرتشفُ الظلماَء يَحبسها
…
كأساً من الدمع فيها الطهر والقدس
ندمانُ. . . يبحث عن ألف يُقاسمهُ
…
جوْبَ الغياهبِ ما في طبعه دنس
نهمانُ. . . يُطعمِه ما ليس يُطعمه
…
من السَّرابِ إذا ما لفَّه غلس!
أقولُ للنَّجم لمَّا لاح يرقُبُه:
…
كِلاكما في الدِّياجي حائِرٌ تعِس
علامَ لا ترقدانِِ الليلَ وحدَكما؟
…
والكون أغفى وكل الناس قد نعسوا
وفيمَ لا تهجرانِ الليلَ ويحكما
…
والليل للنفسِ ذات الشجو يفترس
أَأَنتَ يا ليلُ موجٌ ضلَّ غايتهُ
…
تطوى دياجيهِ من عاشوا ومن درسوا؟!
علامَ يا ليلُ لم تفرحْ بمنْ سعدوا؟
…
وكيف يا ليل لم تحزنْ لمن تَعسوا؟
وفيم يا ليل لم تحفِل بمن ضحكوا
…
ولا بمن فيك يا نبعَ الأسى عبسوا؟
سيَّانِ عنْدكَ من باتوا على أملٍ
…
فيه النعيمُ ومن الليلُ قد يئسوا. . .!
يا سائلاً عن شبابي كيف تُعجبهُ
…
تلك الأناشيدُ منها الدمع ينبجس؟
أقصِر بربكِّ!. . . فالآلامُ تَعرفُني
…
لأنها في فؤادِ الفذِّ تَنغرِسُ!
محمود السيد شعبان
حيرة!.
. .
للأستاذ أحمد فتحي
جهلتُ حقائقَ الآمالِ، لكن
…
قنعتُ بها من الزمن اللئيم
وحسبي من أعاجيب الأماني
…
رِضاها بالخسيسِ وبالكريم
تكفكفُ من مدامعِ كل شاك
…
وتحفِزُ هِمَّةَ الباغي الظلوم
ويزجيها خيالٌ كالليالي. . .
…
فلا هوَ بالصحيحِ ولا السقيم
فكمْ يهوى إلى قاعٍ سحيقٍ
…
وكم يسمو إلى هامِ النجوم
وكم يُغرى فؤادي بالدَّنايا
…
وكم يُغريهِ بالشَّأْوِ العظيم
وما ألقاهُ يأسو مِنِ جِراحي
…
ولا ألقاه يجلو من غيومي
ومن عجبٍ وصلتُ به حياتي
…
كما اتصلَ الشرابُ إلى النديم
إذا أزمعتُ مِنْ أملٍ فِراراً
…
فررتُ من الجحيم إلى الجحيم!
أحمد فتحي
رسالة الفن
دراسات في الفن
ملامح الأرواح
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- هل سمعت أن شارلس لوتون سيمثل هتلر للسينما؟
- قرأت ذلك ومن يومها وأنا مشتاق لمشاهدة لوتون في هتلر
- أظن أنه لم ينجح
- لماذا؟
- لأن لوتون طويل عريض، وهتلر ضئيل الجسم
- وأي شيء في هذا؟ إن الذي سيمثله لوتون من هتلر نفسه لا بدنه - ولكن هذه الصورة الحاضرة في أذهاننا والتي نعرف بها هتلر لا يمكن أن يمحوها لوتون بتمثيله، وسيذكر الناس عندما يرونه أنه ممثل يمثل، بل قد يرى بعض الناس أنه ممثل أغتصب دوراً ليس هو أهلاً له
- هذا يخيل إليك. وقد يكون الذي تقولين حقاً إذا كان الممثل ضعيفاً. . . ولكن لوتون. ألم تريه في هنري الثامن؟ لقد كان هو هنري الثامن
- لأنه يشبه هنري الثامن كثيراً في جسمه، وعلى الخصوص في وجهه. . .
- صحيح! فكيف رأيت هاري بور في بتهوفن؟ هاري بور طويل عريض هو أيضاً وكان بتهوفن ضئيل الجسم مثل هتلر، ومع هذا فلا أظن أحداً من النظارة أحس شيئاً من الكذب في بتهوفن الذي أخرجه هاري بور. . . اللهم إلا أولئك الذين يذهبون إلى السينما ليعرضوا على الناس أجسامهم وأزياءهم. . .
- قد يكون التوفيق أتيح لهاري بور في بتهوفن، لأن هاري بور ممثل وبتهوفن موسيقي، وليس عسيراً على الفنان أن يدرك الدخائل في نفس فنان مثله، فإذا حاكاه ومثله كان كمن يحاكي نفسه ويمثلها. . .
- والله إنها فكرة لم أكن أتوقع أن تجول في ذهنك، وإنها لجديرة بالتأمل والدرس، وإنك
لجدير بالمكافأة عليها. . . خذي هذه النكلة. . .
- شكراً. سأعلقها على باب البيت تعويذة وحجاباً دون إبليس. . .
- بل أعيديها فقد وجدت الرد. . . هات. . . إن هتلر أيضاً ممثل
- رحت في داهية! هل أنت ممن يؤمنون بهذا الذي يدعيه من أنه فنان؟!
- ليس هذا قصدي، وإنما الذي أقصد إليه هو أن الناس جميعاً يمثلون
- آه. هذه فكرة أخرى. ولكن ألا ترين أن فكرتك هذه لو كانت صحيحة لما ارتفع سعر التمثيل
في الدنيا، ولما كان أجر الممثل المجيد آلاف الريالات ومئات الجنيهات في الدور الذي لا يستغرق منه إلا الساعات القليلة. . .
- الحق معك
- إذن فرأيك غير صحيح. . .
- لماذا؟ أفلا يستطيع الحق أن يكون معك وأن يكون معي في الوقت نفسه؟
- يستطيع. قادر على كل شيء. . .
- ولا قادر غيره. . . والتوفيق بين الذي تقولين وبين الذي أقول يسير. فأما أن كل الناس ممثلون فهذا حق. وأما أن أندر الناس هم الذين يستطيعون أن يمثلوا فهذا حق أيضاً، فالناس كالأواني: كل آنية تصلح لأن تعبأ بما يملؤها، فإذا امتلأت لم تعد تصلح لأن تمتلئ مرة أخرى، إلا إذا فرغت. ومن الناس من يملك نفسه يملؤها ويفرغها وهؤلاء هم الممثلون المجيدون، ومنهم من امتلأت نفسه مرة فاكتظت وجمد حشوها فيها فلم يعد ميسوراً أن تفرغ وأن تملأ. ومن هؤلاء محمد عبد الوهاب فهو يمثل على نفسه وعلى الناس دور الأستاذ الموسيقار مطرب الملوك والأمراء والعظماء وقد (عقد) هذا الدور في نفسه فكلما مثل دوراً ظهر فيه بمظهر الأستاذ الموسيقار مطرب الملوك والأمراء والعظماء مهما تطلب منه هذا الدور الجديد شيئاً من البؤس، أو شيئاً من الخيبة، أو شيئاً من اليأس. زيدي على ذلك أن الصورة التي رسمها عبد الوهاب لنفسه في خياله صورة متكلفة ليس فيها من الحقيقة شيء، فقد عرف الناس هنا في مصر مطرباً كان الملوك والأمراء والعظماء يطلبونه حقاً ويسعون إليه ويكرمونه كل التكريم ولم يكن فيه شيء من هذه الأرستقراطية
التي يلبسها عبد الوهاب فيتعثر في أذيالها، ذلك هو المرحوم عبده الحامولي تؤكد الروايات أنه كان يأكل الطعام ويمشي في الأسواق
- وهل لا يأكل عبد الوهاب الطعام ويمشي في الأسواق؟
- حاشا لله. وإن أكل فتنازل، وإن مشى فكما كان يمشي هرون الرشيد
- إني لا أحب فيك هذا التعصب على عبد الوهاب. وإن الذي تأخذه عليه يمكن أن آخذه على شارلي شابلن نفسه، لشارلي أيضاً لوازم تبدو في كل أفلامه: قبعته وعصاه وشارباه ومشيته وحذاؤه وتلعيب فمه ومسحه الحذاء في البنطلون وهزة كتفيه.
- صحيح صحيح. . . ولكنك نسيت أن شارلي يمثل في كل أفلامه شخصاً واحداً هو ذلك المتشرد الحائر الذي يطارده المجتمع في أغلب الأحياء، ولا يعطف عليه إلا في أقل الأحيان. وروايات شارلي شابلن كلها يمكن أن توصل وأن تعرض على أنها حوادث حدثت لهذا المتشرد. وعلى هذا الأساس فإنه ليس عجيباً أن يلزم هذا المتشرد حركات وسكنات وإشارات خاصة هي هذه التي تقولين عنها
- طيب. ونجيب الريحاني الذي تشهد له بالتفوق. أليست له هو مواهب أيضاً لازمة لا تخلو منها رواية من رواياته هي هذه (المطة) التي يختم بها أكثر جمله وعباراته
- صحيح أيضاً. ولكنك أيضاً نسيت أن هذه (المطة) هي من آثار كشكش بك في نجيب الريحاني، فقد كان نجيب مثل شارلي يمثل شخصاً واحداً هو عمدة كفر البلاص، وكان هذا العمدة لا ينجو من مأزق حتى يقع في مأزق، وكانت الحيرة والدهشة و (اللخمة) تأخذه من أول الرواية إلى آخرها، وكان يستغيث، وكان يلوم، وكان يسترحم، وكل هذا يستدعي منه هذه (المطة) فلزمته ولكنه بدأ يتخلص منها فهي لا تعاوده الآن إلا نادراً
- ولم تلجأ إلى هذا التعسف ولا تقول إن لكل ممثل إسلوبه الخاص به
- لأن موضوعنا هذا لا صلة له بأسلوب الممثل. وإنما أسلوب الممثل شيء آخر
- هو الطريقة التي يتذوق بها الممثل الناس، والتي يعرض بها بعد ذلك هؤلاء الناس
- وكيف يتذوق الممثل الناس؟
- للأرواح ملامح كما للأجسام ملامح، ومن الممثلين من ينعم النظر في هذه الملامح حتى يحصرها كلها، ومنهم من يروعه بعضها فيقف عنده ولا يعود يرى غيره، أو يرى غيره
ولا يهتم به. والممثل بعد أن يشبع من التمعن في هذه الملامح الروحية يبدأ فيرسمها في نفسه هو، ويشكل روحه بشكلها ويكون تمثيله بعد ذلك إبرازاً لها، وأقدر الممثلين على هذا من لم تكن لروحه هو ملامح قوية ناتئة تستعصي تغطيتها على الماكياج الروحي، وهؤلاء الممثلون القادرون هم الذين تكون نفوسهم شديدة الشبه بنفوس الأطفال فهي بريئة صافية تعيش على الفطرة والحق، ولعلك قد لحظت أن الأطفال أقدر من غيرهم على تقليد الناس وتصوير نفوسهم والمظاهر الواضحة التي تنثرها نفوسهم على أجسامهم. . . ولو كان الناس كلهم يعيشون على الفطرة وعلى الحق لكثرت بينهم أوجه الشبه، بل ربما كانت أشكالهم تتوحد فلا يكون بينها خلاف، والذي يعزز هذا الرأي هو ما نراه من توحد أشكال الحيوانات التي من فصيلة واحدة - ولا أقول ألوانها - فهذا التوحد لا مرجع له إلا أن الحيوانات تسلك في حياتها المسلك الفطري الحق
- فكأنك تقول إن اختلاف ملامح الوجوه في الناس يرجع إلى اختلاف الملامح في أرواحهم
- هو هذا. وإن كنت لا أنكر آثار البيئة والوراثة وغيرهما
- ومعنى هذا أن الذي يسيطر على حياة الإنسان نفسه وليس بدنه وغريزته الجنسية كما يقول فرويد
- لو كانت الغريزة الجنسية هي التي تسيطر على حياة الإنسان لما اختلفت أشكال الناس، وإنما الغريزة الجنسية نفسها تخضع لذوق الإنسان والذوق عامل نفسي لا بدني
- ولكنك قلت مرة إن له مرجعاً يرده إلى كهرباء الجسم
- وقلت لك وقتها إني أستعمل كلمة الكهرباء حيث أريد أن أقول (الروح) وإني أختارها لأضمن ارتياحك وارتياح الناس إليها فهي عند أهل هذا العصر أقرب إلى العقل من كلمة الروح. . .
- فهل تريدني أن أعرف الروح على أنها كهرباء؟
- يصح ولكن على أن تكون كهرباء لها إرادة ولها عقل ولها عواطف ولها ذاكرة ولها أمل ولها صلة بالماضي ولها صلة بالمستقبل ولها كل ما للحياة من مميزات تسمو بها على الجمود والموت
- ملامح الأرواح التي تتحدث عنها هي ملامح هذه الكهرباء. . .
- ولم لا؟ فهناك إنسان قوته ألف شمعة، وهناك إنسان قوته خمس شمعات، وهناك إنسان كهرباؤه مائة فولت وهناك إنسان كهرباؤه عشرون. وهناك إنسان كهرباؤه مستقاة من دينامو، وهناك إنسان (ببطارية)، وهناك إنسان كهرباؤه صواعق، وهناك إنسان كهرباؤه شرر. . . وهناك وهناك. . . وكل هذا يحسه الممثل المجيد ويستطيع أن يقلده. . .
- فإذا قصرت قوة الكهرباء في الممثل عن قوة الشخص الذي يريد أن يمثله فماذا يصنع؟
- لا يمكن أن يحدث هذا إلا إذا أراد الممثل أن يقلد طفلاً صغيراً. . . وكلما كان أصغر كان تمثيله أصعب
- ومعنى هذا أن في الطفل كمية من الكهرباء أوفر مما في الكبير. . .
- لا. وإنما معناه أن درجة وضوح الروح في الطفل أكبر منها في الكبير. فالطفل إذا فرح ظهر عليه الفرح فياضاً جارفاً، وهو إذا غضب لم يمكنه أن يكتم غضبه وإنما أرسله قوياً عنيفاً وهذا شيء لا يقوى عليه إلا هو أو ممثل فيه من هذا الوضوح ما في نفوس الأطفال. وهذا الوضوح الذي يستوجبه التمثيل، وهذه البراءة التي تستلزمها المحاكاة هي التي تحول بين النساء وبين النبوغ في هذا الفن. . . إلا النادرات النوادر منهن. . .
- ولماذا؟
- لأن النساء لا يعشن على الفطرة مطلقاً وإنما كل منهن تمثل في حياتها دوراً خاصاً
- بل أدواراً
- لا. . . لو أن النساء كن يمثلن أدواراً مختلفة لقلنا إنهن قادرات على التمثيل، ولكن هذه الأثواب المختلفة التي تبدو عليهن إنما يلبسنها في دور واحد يظللن يمثلنه طول الحياة وهو دور حواء
- وهل سيطلب المسرح منهن أو السينما أن يمثلن دوراً آخر
- نعم، والمشكلة هنا أصلها أن الذين يؤلفون الروايات رجال، والرجل مهما ألم بنفس المرأة ومهما أحاط بها فهو لا يرضى أو لا يستطيع أن يظهرها في تأليفه على صورتها الطبيعية، وإنما يكتب لها عادة صورة أقرب إلى الروحانية من صورتها، وهذه الروحانية أمر صلة المرأة به صلة بعيدة ولذلك فإنها لا تدركها الإدراك التام ولا تخرجها الإخراج الصحيح
- فهو عيب الرجال الذين لا يطبقون أدبهم على الواقع. . .
- إنه العيب الذي ينزعون إليه بأدبهم وفنونهم محاولين به أن ينقذوا الحياة من شر الواقع. . .
- ولكن لماذا نقول إن صلة المرأة بالروحانية صلة بعيدة
- لأن المرأة تبدأ في صناعة التمثيل من سن مبكرة فالتمثيل عونها على الإغراء، وهو ستارها، وهو سلاحها. . . وكي أثبت لك ما أقول أسألك كم مرة مثلت النساء في السينما مريم العذراء وجان دارك مثلاً وكم مرة مثلت النساء في السينما كليوباترا؟ إن مريم العذراء لم تمثلها إلى اليوم ممثلة وجان دارك مثلتها ممثلة فرنسية لشركة باتيه منذ خمسة عشر عاماً على ما أذكر. . . أو أكثر. . . أما كليوباترا فقد مثلتها ممثلات كثيرات وفي أوقات مختلفة. . .
- وعلى أي شيء تستدل بهذا؟
- أستدل به على أن النساء أقرب إلى كليوباترا منهن إلى جان دارك ومريم العذراء
- ولكن لمريم العذراء قدسية لا تحب شركات السينما أن تمسها
- لقد مثلت شركات السينما المسيح نفسه. . .
- طيب. . . وجان دارك هذه لم تكن امرأة وإنما كانت رجلاً. . .
- إنها التي بذلت نفسها في سبيل وطنها. . . أنا معك لم تكن امرأة
عزيز أحمد فهمي
رسالة العلم
أرقام تتحدث وتنبأنا بقصة الإلكترون
للدكتور محمد محمود غالي
- 2 -
من تجارب ميلكان - رسالته الشائقة يطالعها في الطبيعة -
رقصة الإلكترونات وحركاتها الثابتة - مليكان كشامبليون في
تعرفه على اللغة الهيروغليفة - رقصة أخرى للجسيمات
بكشف عن مغزاها جان بيران
لا بد أن يكون قد أستشعر القارئ عظم المعنى الذي أدته هذه الرسالة، رسالة الجسيمات التي علقت بها الإلكترونات، ولا بد من أن يكون قد فطن إلى مبلغ الدقة الذي يُظهر جلال هذه التجارب الرائعة لمليكان التي ذكرناها في مقالاتنا السابقة، وهي التي حصل فيها على إلكترون حر واحد محمول على جسيم دقيق يتحرك في غرفة صغيرة، وما على القارئ إلا أن يستدرك في ذهنه أمراً سبق أن ذكرناه ليتأمل مقدار ضآلة الإلكترون الذي هو أصغر ما نعرفه من الوحدات المادية والكهربائية فيذكر أن ذرة الهيدروجين التي هي واحد على ألف مليون المليون من الجرام تكبر الإلكترون بحوالي ألفي مرة، وللقارئ بعد ذلك أن يتخيل مقدار صغر الإلكترون الذي يصعب استيعاب مبلغ ضآلته، ويذكر أن هذا الإلكترون بذاته هو الذي فصله مليكان وتحقق من وجوده حراً على هذا الجسيم طوراً يعلق به وتارة ينفصل عنه، ولا يسع القارئ مع دهشته إلا تصديق الحوادث بعد البراهين التي أدلينا بها والتي يثبت منها أنه كان يعلق بالجسيم إما قدر محدود واحدا أو قدران أو ما يزيد من الأقدار الصحيحة، ولكن لا يمكن أن يعلق به قدر ونصف القدر أو قدر وثلثان. كسور هذا القدر وأجزاء هذا الإلكترون غير موجودة، وهي حالة تشبه بالضبط تلك التي ذكرناها من قبل عن بعض المحال التجارية في باريس ولندره التي لا تبيع الأشياء إلا بأقدار معلومة هي ضعف أو أضعاف قدر أولى معين، فهي لا تبيع مثلاً إلا بخمسة فرنكات أو
مضاعفاتها.
وإلا فلماذا لم يحدث مرة واحدة في آلاف التجارب التي أجراها (مليكان) وأجراها العلماء من بعده أن أخذ الجسيم طيلة ارتفاعه تحت تأثير المجال الكهربائي فترة تقع بين فترتين من الفترات التي كانت يختارها الجسيم لذاته ويلاحظها مليكان؟ لماذا تخيَّر الجسيم في الصعود فترات معينة لا تتغير؟
ثمة مخرج واحد وتفسير وحيد للظاهرة المتقدمة، ذلك أن يفرض مليكان فرضين:
الفرض الأول: وجود جسيمات صغيرة كهارب يسمونها ألكترونات يستطيع أن يعلق بالجسيم واحد منها أو اثنان أو ثلاثة أو ما يزيد، ولكن لا ينقسم إلكترون منها ليعلق بالجسيم جزء منه.
الفرض الثاني: أن وزن هذه الإلكترونات صغير بالنسبة إلى وزن الجسيم الحامل لها، وهذا يفسَّر السرعة الثابتة التي يسقط الجسيم بها دائماً عند انعدام المجال الكهربائي، هذه السرعة تتغير متى أخذ الجسيم في الصعود تحت تأثير هذا المجال، بحيث إذ علق بالجسيم إلكترونان صعد بسرعة تعادل ضعف السرعة عندما يعلق به إلكترون واحد، وإذا علقت به خمسة ألكترونات صعد خمسة أضعاف هذه السرعة الخ
ولا يتسع المجال هنا لنذكر للقارئ الذي قصدنا معه التبسيط المعادلات السهلة التي استنتج منها مليكان شحنة الإلكترون، وذلك من حساب المجال الكهربائي وسرعة الجسيم وهذه المعدلات التي استعملها من قبله توسنذ وغيره من علماء معمل كافندش بكامبردج، ولكنا نكرر أن مليكان استنتج هذا القدر الإلكتروني بطريق سهلة يستنتج طالب المدرسة المبتدئ في الحساب العدد خمسة في مثال محلات باريس الذي ذكرناه في مقالنا السابق، على أننا نورد للقارئ أمثلة من تجارب مليكان الأولى منقولة عن نشراته الخاصة:
الزمن مقدر بالثانية الذي سقط فيه جسم معين المدى بين شعرتي المكروسكوب
الزمن مقدر بالثانية الذي صعد فيه الجسم ذاته المدى السابق
13.
6
12.
5
13.
8
12.
4
13.
4
21.
8
13.
4
34.
8
13.
6
84.
5
13.
6
84.
5
13.
7
34.
6
13.
5
34.
8
13.
5
16.
0
13.
8
34.
8
13.
7
34.
6
13.
8
21.
9
13.
6
13.
5
13.
4
13.
8
13.
4
المسافة بين الشعرتين 0. 5222 س. م
ويلاحظ أنه خلال صعود الجسيم لثالث مرة تغيرت فترة صعوده من 12. 4 إلى 21. 8 ثانية، وهذا يدل على أن هذا الجسيم ذا الشحنة الموجبة أكتسب ايوناً جديداً، ثم أكتسب بعد ذلك ايونات أخرى حافظ عليها طيلة صعوده للمرة الخامسة والسادسة وفقدها في المرة السابعة فعاد إلى فترة من فترات صعوده السابقة وهي 34. 6 ثانية وهكذا، وفي الجدول الثاني تتضح فكرة وجود الشحنات الكهربائية بحالة متقطعة بسبب وجود الإلكترونات.
ويحوي العمود الأول الشحنة المرصودة والعمود الثاني مقدار هذه الشحنات لو أننا استنتجناها نظرياً بضرب عدد ثابت قدره 34. 6 في الأعداد الصحيحة 1، 2، 3، 4، 5 الخ، وفي العمود الثالث الأعداد الصحيحة التي بضربها في عدد ثابت تنتج أرقام تدل على الشحنات المقيسة.
الشحنة الكهربائية المرصودة
الشحنة المشتركة (4. 917) مضروبة في عدد صحيح قدره 1 أو 2 أو 3. . الخ
العدد الذي يضرب في العدد الثابت (4. 917) فنتج الشحنة المتقدمة
4.
917
1
9.
834
2
14.
75
3
19.
66
19.
66
4
24.
60
24.
59
5
29.
62
29.
50
6
34.
47
34.
42
7
39.
38
39.
34
8
44.
42
44.
25
9
49.
41
49.
17
10
53.
91
54.
09
11
59.
12
59.
00
12
63.
68
63.
92
13
68.
65
68.
84
14
73.
75
15
78.
34
78.
67
16
83.
22
83.
59
17
88.
51
18
وليس أبلغ من هذه الأرقام التي تحدثنا عن قصة الإلكترون وتعطينا شحنته، إذ يرى القارئ أن ثمة عدداً ثابتاً قدره 4. 917 إن ضربناه في الأعداد الصحيحة 1، 2، 3، 4 حتى العدد 18 في الجدول السابق تنتج الشحنات الكهربائية المرصودة
وهكذا استطاع هذا العالم الكبير الذي يسرنا أن نسمع أنه سيزور مصر قريباً أن يقيس قدر الألكترون، وأن يحصل على جسيمات صغيرة سخرها لتجاربه وأبحاثه جسيمات استوثق بالدليل أن بعضها كان يحمل إلكتروناً حراً واحداً ولا يحمل سواه. وكأني بمليكان في المريخ استطاع وهو فيه أن يعد سكان الأرض من البشر دون أن يكون بحاجة لأن يراهم. ذلك أنه كان أمام أرقام تتحدث وحقائق لا تقبل الجدل، بل أنه كان أمام رسالة علمية عرف كيف يطالع رموزها ويستخلص منها أمراً خاصاً بقصة الوجود، وكان شأنه في ذلك شأن شامبليون الفرنسي عندما استطاع أن يطالع اللغة الهيروغليفية من مجرد معرفته للغتين الإغريقية والقبطية القديمة، وذلك عندما وجد نصاً مكتوباً باللغات الثلاث على حجر رشيد المعروف، وعندما استطاع أن يجد في إطار بيضاوي الشكل اسم (بطليموس) ذلك الاسم
الذي فَصَل شامبليون حروفه والذي بسببه قرأ الأسماء (برنيس) و (كليوبترة) و (اسكندر)، وتوصل منها إلى حروف أبجدية أولية ساعدته في معرفة اللغة المصرية القديمة بحذافيرها.
تُرى هل استوعب معنا أسطورة مليكان؟ وهل اطلع فيها على جانب من التطور العلمي وأدرك ناحية من نواحي البحث التجريبي؟ تُرى هل لمس القارئ أمراً خالداً تدل عليه تلك الأسطورة - أمراً في خلوده صورة من صور الأبد تختلف عن صور العاديات القديمة التي تبلى مع كر الزمن: الإلكترون المكون لنا - وجوده - قدره - كل ذلك نشهده في هذه التجارب الخالدة.
وعندما يتغير وجه المدينة، ويرقى الإنسان إلى المدنية أعظم شأناً، عندما ينمو فيه عقل أكثر رجحاناً من عقله الحاضر فتوجد جماعات تتسابق جميعها في سبيل تقدمه بدلاً من أن تتهالك أحياناً على تحطيمه، عندما يأتي عصراً تزدهر فيه دور الكتب والعلم، ويأتي إنسان أعظم، يطالع فيفهم ويتأمل فيُقِّدر، فإنه سوف يرى على ممر الأجيال أسطورة مليكان ويطالعها بين الأساطير البارزة التي يحفظها التاريخ، فإذا حصل هذا القارئ البعيد في الزمن على (بطارية) من صنع يديه، وصنع لنفسه مكثفاً كمكثف مليكان، وغرفة صغيرة كغرفة جهازه، وإذا وضع إزاء هذا ميكروسكوباً في اتجاه عمودي على خط الضوء الواقع على جسيمات دقيقة من الميسور الحصول عليها، استطاع أن يعيد رقصة هذه الجسيمات، واستطاع أن يراها تعلو وتهبط في فراغ الحجرة فيرى رقصات رذاذ الزيت كما تحددها للقارئ البعيد، يرى رقصة الأبد وهي بهذا ثابتة مهما كرَّ الزمن وأينما دارت الأرض، رقصة يلعب الراقصون فيها على أنغام ثابتة ويبدون في ذلك حركات لا يتغير شيء في جوهرها ولا يتعدل حدث في مسارها، وهي رغم الذي ذكرناه لم تكن الدليل الأول والأخير على وجود الإلكترون والتحقق من شخصيته ومن قدره. ثمة طريقة أخرى نلمس فيها هذا الكائن في ثوب جديد وبدليل يختلف عن دليل مليكان السابق.
ثمت شيخ بلغ اليوم السبعين حولاً لا يزال حياً يرزق، متوسط القامة ينتهي وجهه بلحية مدببة وخطها المشيب، قد تركت له الطبيعة التي تفني كل شيء شعره المنتشر كثيفاً على رأسه والذي يكسوه طوله هيبة وجلالاً. ولو أنك جلست ظهراً في أحد مقاهي الحي اللاتيني بباريس مر أمامك هذا الشيخ في تجواله كما يمر أي رجل من الشارع، وهو طوراً لا
يعرفه أحد من الجالسين وتارة يشير إليه أحدهم من بعيد قائلاً: (هذا هو (جان بيران) مكتشف شحنة الإلكترون ومحدد عدد - أوفوجادرو). وإذا تركت المقهى ودخلت إحدى المكتبات أمكنك أن تشتري صورته إذ تباع للجمهور كما تباع صور الملوك والفاتحين، ذلك أن بيران من العلماء المعروفين فقد توصل في الوقت ذاته الذي قام فيه مليكان بتجاربه السابقة إلى شحنة الإلكترون وإلى النتائج ذاتها من سبيل جديد يختلف جد الاختلاف عن سبيل مليكان، ويتميز بدقة الموضوع ومهارة الطريقة وبساطة التجارب وقوة الاستنتاج وعظمة الاستقراء، فأنم هو أيضاً أسطورة جديدة نأتي عليها لنكون قد أنصفنا العلم وأرضينا التاريخ، وهي الأسطورة التي وإن كانت تمت فصولها في سنتي 1907، 1908 منتي تجارب مليكان، إلا أن معهد السويد منحه عنها جائزة نوبل في سنة 1929.
تحضرني ليلة في السوربون إذ كانت الساعة التاسعة مساء دخل هذا العالم بعد نيله الجائزة المدرج الكبير ليحدث العلماء والجمهور الباريسي عن أسطورته الخالدة، وتمر بذاكرته الصور العديدة التي عرضها، والجمهور الغفير الذي استمع إليه، هذه الأسطورة أخط فيها على صفحات الرسالة مقالاً أو اثنتين وأعنونها (أرقام تتحدث) وهو العنوان الذي اتخذته لموضع مليكان، ولقد كان في الواقع (بيران) هو أيضاً أمام أرقام تتحدث إليه، وفهم حديثها، واستطاع أن ينقل هذا الحديث إلى الناس، وأن يسطره في حالة مفهومة ومعقولة للأجيال القادمة
لي من هذه الأساطير غاية لقراء الشرق، الأدباء منهم والعلماء والمطلعون، أطمع أن تتعدى الحدود العلمية التي أردنا منها هذا النوع من الكتابة في التبسيط، ذلك أن يستنتج القارئ فوق ما قصدناه من علم أن العمل العلمي ككل عمل سلمي هو حجر الزاوية في مستقبل الإنسان، وأنه خير لسكان هذه المعمورة عن كل ما عداه من الأعمال، فالعلم يحمل في طياته سر الوجود وعليه وعلى المتصلين به تترتب حركة التقدم، وغرضنا أن يدرك القارئ من وقت لآخر أننا مهما أصبنا في هذه الأزمنة من محن فإن أنصار الإنسان موجودون وموجودون دائماً. ثمة أناس حريصون على الميراث العلمي الكبير يشعلون دائماً شمعة المستقبل، وغايتنا أن يدرك القارئ أن الإنسانية تخطو دائماً خطوات جريئة إلى الأمام وأن يلمس شيئاً من هذه الخطوات على حقيقتها فيلمس أثر ما بلغته الفلسفة وما
وصل إليه الفكر.
هناك في السوربون استطاع بيران، كما استطاع مليكان في باسادينا وتومسون في كامبردج، أن يتعرف هو أيضاً بطريقته الخاصة الإلكترون، وفي هذه البيئة الجامعية، حيث الحسد أقل خطراً هناك منه عندنا، وحيث الهجوم الخفي لا يعرف طريقاً للدخول، وحيث الجميع يتعاونون على الخير وعلى رفعة حق الإنسان، رأينا (بيران) يحدث العلماء عن قصته مع الذرة والإلكترون في المدرج ذاته الذي رأى باستير وكيري وغيرهم.
من هذا الحديث الذي أصبح ملكا للبشرية، ومن هذه الذكريات العزيزة التي مضى عليها اليوم عشرة أعوام نستملي للقارئ مقالنا القادم الذي يرى فيه كيف عثر (بيران) على رقصة تشبه الرقصة السابقة، وكيف استنتج من طول ملاحظتها قصة خالدة من قصص الوجود، وكيف وضع بهذا حجراً أساسياً في بناء المعرفة.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة
من هنا ومن هناك
هتلر كما يراه علم النفس
(ملخصة عن (يوروب توفل) باريس)
كثر الكلام عن دكتاتور ألمانيا في هذه الأيام لمناسبة الحرب التي أشعلها في أوربا، والروح التي تسلط بها على البلاد الألمانية، وكثر القول في تحليل تلك العقلية الغريبة التي أورثت العالم كثيراً من النصب، وقد نشرت مجلة (أوروب نوفل) الباريسية حديثاً للعالم النفساني المشهور دكتور (كارل جنج) حلل فيه دكتاتور النازي من ناحية علم النفس فقال:(كان في العصور الأولى البائدة نوعان من الرجال الأقوياء الذين تخضع لهم الجماهير: الرئيس ويمتاز عن سائر رجاله بالقوة الجسدية، والعراف ويكتسب نفوذه عليهم بعقيدتهم فيه).
ولا شك أن بنية هتلر لا توحي بشيء من الصرامة الجسدية. وأكثر ما يلاحظ في أخلاقه هو ذلك المزاج الحالم العجيب، وتلك النظرات السماوية الرهيبة مما يجعلنا ندرجه في صف العرافين.
ولعل تلك النزعة الروحية في هتلر هي التي تحفزه إلى بعض الأعمال التي نراها بعيدة كل البعد عن المنطق والصواب لما فيها من الغرابة والشذوذ. وقد نستطيع أن نقول: إن تسمية الريخ الألماني بالريخ الثالث قد قصد بها إلى معنى روحي خاص. . . إن أحداً من الناس لم يفكر في تسمية إمبراطورية القيصر وليام الثاني: الريخ الثاني.
فاختيار النازي لكلمة (الريخ الثالث) لم يكن يقصد به معنى الكلمة في ذاته، وإنما اختارها النازي لأن كلمة (الثالث) لها معنى روحي يوحي في الباطن إلى القداسة المثلثة.
وقد أخذ الألمان يحيون نوعاً من التقليد تحت اسم (وتان) فما هو وتان؟ هو ألم الريخ، وقد أنشئوا بعض الكتائب تحت اسم كتائب (العاصفة النازية) يعنون العاصفة التي تتسلط فيها الرياح فتقتلع الأخضر واليابس وهي رمز الشر عند البوزيين.
فهذه الرموز والأسرار التي ابتدعها الريخ الثالث قد ساقت الألمان ونبيهم المزعوم تحت لواء الرياح ووراء تلك الشارة التي ترمز إلى معنى الزوبعة بغير وعي لا تعقل نحو ذلك الموقف الدقيق الذي لا يعرف نتيجته أحد.
ويعد هتلر مرآة لما هو مطبوع في نفوس تابعيه، فكأنه الصوت المكبر لما يجول
بخواطرهم، وهو يستمد قواه من عقله الباطن الذي يتحول إلى عقل واع يسيطر عليه ويسوقه كيف شاء.
نحن نعرف عقلنا الباطن ولكننا لا نطيعه، ولكن هتلر يصغي إليه ويطيعه طاعة عمياء.
إن الألمان في موقفهم الحالي كاليهود في العهد القديم. فمنذ اليوم الذي هزموا فيه، وهم ينتظرون مسيحاً. فلما وجدوا هتلر تعلقوا به وألقوا إليه القياد. وقد جعل رسالته إليهم أن يوجد بينهم ويقودهم إلى الأرض الموعودة. ومن هنا نستطيع أن نعرف السبب الذي من أجله يحارب النازي كل ديانة لا تتفق ومبدأه.
الألمان قوم وجدانيون، يندفعون في كل شيء نحو غاياته. وقد كان يسرهم أن يظهروا في ثوب (الجنتلمان) الإنجليزي فنادى بهم هتلر: لقد آن الأوان لنكون ألمان. . .
إن هتلر كاهن وعراف، فإذا بحثنا عنه كرجل فقد لا نجده في الواقع. هو شتى أحلام وأحوال تكونت جميعها فأوجدت رجلاً
الغازات السامة منذ الإغريق
(عن (لارفي بلج))
قال أحد مؤرخي الإغريق الأقدمين في سفر من مؤلفاته: (إن الأعداء في أثناء حصارهم لمدينة (ميجارا) عام 470 قبل الميلاد حاولوا أن يغزوا المدينة ويستولوا عليها بتسليط الدخان، فحفروا حولها الأسوار وملئوها بالحطب والكبريت والقار؛ ثم أشعلوها حول المدينة، ولكن الدخان ارتد إليهم لتغير في مجرى الرياح فأضطرهم إلى الهزيمة والفرار.
ولكنهم أعادوا هذه التجربة في حصار (بلاتا)، وفازوا في هذه المرة بالاستيلاء على المدينة إلا أنهم ما كانوا ليدركوا أن أكسيد الكربون هو الذي ساعد على نجاحهم لا مجرد الدخان.
وقد استخدمت هذه الطريقة نفسها في العصور الوسطى؛ ويقال: إن أحد الأعداء كان يسكن في برج عال، فوصل إليه الدخان في قلعته وقضى عليه. إلا أن هؤلاء الذين كانوا يستخدمون هذه الوسيلة لم يدركوا أن الموت كان متسبباً عن أكسيد الكربون وكانوا يفضلون أن يدسوا في نيرانهم الكبريت والنا وهما يلتهبان حتى في الماء ويسمونها (نار الإغريق)، وكانت (نار لإغريق) هذه معروفة في عهد الإمبراطورية الرومانية،
والإمبراطورية البيزنطية، والعصور الوسطى، وعصر النهضة.
وقد أشار أحد مؤرخي العرب في القرن الرابع عشر إلى إحراق الأفيون وإضعاف العدو بما ينبعث منه من الأبخرة السامة وقد وجد في مكتبة المواد السامة في برلين كتاب مؤرخ في سنة 1437 يعطي فكرة عن صنع القنابل السامة المحتوية على الزرنيخ. وقد أدرك المتقدمون أن بعض الغازات تحوي ثقلاً أخف من الهواء، ورأى العالم اللتواني (سيمونكسيس) في أواسط القرن السابع عشر أن يجعلها في ثقل الدخان الذي ينبعث من الحشائش المحترقة، ويزعم أنه بذلك يستطيع أن يخلق جواً ساماً لا ينجو منه إنسان.
وإلى هنا تنتهي المرحلة الأولى من تاريخ الغازات السامة، وإذا كنا لم نر أحداً أقدم على استعمالها حتى عام 1914 فليس ذلك لأن العاطفة الإنسانية هي التي وقفت دون ذلك، ولكن المحاربين كانوا يخشون عند إلقاء القذيفة السامة، أن يصيبهم دخانها كما يصيب أعداءهم وقد قدم كيميائي إنجليزي إلى نابليون اختراع قنبلة سامة فلم يوافق عليه. ثم كثرت المخترعات التي من هذا النوع وتعددت في القرن التاسع عشر، وفي سنة 1912 أجمعت جميع الدول في مؤتمر لاهاي على عدم استعمال الغازات السامة، ولم تسمح باستعمال شيء منها على الإطلاق، وقد أباحت استعمال الغازات التي تسيل الدموع لأنها لا تسبب للإنسان علة يعسر شفاؤها
ولكن ألمانيا استعملت الغازات في أواخر أكتوبر سنة 1914 مناقضة بذلك تعهدها في مؤتمر لاهاي. إلا أن القذائف التي استعملتها لم تف بالمرام، فقد كانت ضعيفة القوى سريعة الزوال فعدلت عنها بعد عدة محاولات، ولكنها عادت إلى استخدامها في فبراير 1916.
وقد أحرقت ألمانيا في ثلاث سنوات ونصف 75. 500 طن من الغازات السامة، وقد بلغ عدد الذين أصيبوا من الجنود الفرنسية بهذه الغازات 507. 000 جندي، وقد ثبت أن 27 % من الجنود الذين فقدتهم الحملة الأميركية في الحرب ماتوا بالغازات السامة
دراسة التوأمين
(ملخصة عن مجلة (بارييد))
بدأت في أمريكا في السنين الأخيرة دراسات وأبحاث جديدة في علم النفس، وقد بذل الباحثون مجهوداً عظيماً في تحليل نفسية التوأم، واكتناه ما فيها من الأسرار والعجائب. وهي نفسية معقدة حار فيها الكثير من العلماء الذي قضوا حياتهم في دراسة الطفل. إذ أن حياة التوأم تختلف من الناحية العقلية والنفسية عن سائر الأطفال.
وتنقسم التوائم إلى نوعين، التوائم المتشابهة وهي التي يتشابه فيها التوأمان حتى يصعب على الإنسان التفريق بينهما، وهذان التوأمان يتكونان في الرحم من بويضة واحدة. تنشطر بعد أن يدركها النمو، إلى شطرين كل منهما يكون إنساناً منفصلاً عن أخيه
أما النوع الثاني فلا تكون المماثلة فيه بين التوأمين، إلا كما تكون بين سائر الأخوة الذين يولدون لأم واحدة. وهما على هذه الحال يتكونان من بويضتين منفصلتين تنموان - كيفما كانا - في وزن واحد.
وقد وضع الأسس العلمية لدراسة التوائم سير فرنسيس جالتون (1822 - 1911) واضع علم الوراثة، وقد أمد بمباحثه القيمة في الانتقال الوراثي، من جاءوا بعده بالحقائق الهامة، التي استطاعوا بواسطتها أن يجنوا أحسن الثمرات.
ومن الحوادث التي تسترعي الأنظار في هذا الباب: أن أختين توأمين إحداهما تعيش في باريس والأخرى في مرسيليا، أصيبت الأولى بتدرن في موضع في الرئة فأرسل الطبيب إلى زميل له ليكشف على الأخت الأخرى، ولشد ما كانت دهشة الطبيبين حينما تبين لهما أنها أصيبت بالتدرن في نفس الموضع الذي أصيبت به الأولى. فكان الأختان توأمين متشابهين، وقد أثبتت التجارب أن التوائم المتشابهة تصاب بالتدرن الرئوي والتهاب الأذن والحمى القرمزية في وقت واحد. . إلا أن هذه الحالة كانت أولى ما عرف في اتفاق التوأمين في موضع الإصابة وفي الوقت الذي حدثت فيه.
وقد يتفق التوأمان (المتشابهان) في الاتجاه الإجرامي إذا كانا من المجرمين، فيأتي أحدهما بنفس الجريمة التي يأتيها الآخر وقد يكون في معزل عنه منذ أمد بعيد، وقد أثبتت التجارب وقائع كثيرة من هذا النوع.
ومن التجارب النفسية المعروفة اختبار الورقة والحبر، فيلقى بقليل من الحبر على الصفحة من الورق وتطوى ثم تفتح. ويسأل الشخص الذي يراد اختباره عما قد تذكره به فيفسرها
كل إنسان تفسيراً يختلف عن الآخر، فبعضهم يقول مثلاً إنها تشبه الثعبان، والبعض يقول إنها تذكر بالطائر أو المنزل أو الإنسان أو ما إلى ذلك. ولكن التوأمين المتشابهين، يجيبان في الغالب إجابة واحدة. فبقعة الحبر المرتسمة تثير في رأسيهما صورة واحدة في غالب الأحيان.
البريد الأدبي
خطة إعداد النشء
كنا ضيفاً على بحر الروم، وكانت (للنيل) موضع رعاية الأمواج البيض القِصار وهُنَّ صواحب بطشٍ في غالب الأمر وأكثر الحال
جلس قوم بعضهم إلى بعض يتحدثون عند صدر الباخرة (أو مَرنَحتِها، كما كانت العرب تقول)، على عادة الذين يجتمعون في رحلة: معرفة مستطرفة أو لقاء على غير وعد. وانطلق الحديث في شؤون مصر؛ وركزه من ركَزَه في وجوه الإصلاح، حتى انساق إلى قصة التعليم وتنشئة أبناء الأمة. وإذا رجل، خافض صوته، قاصد في الإشارة، يندفع في حديث انعطفت إليه أذني. قال:
(ما أظن أحدكم يشك في أنّ وجهة التعليم الغالبة عندنا إنما هي إخراج كتبة وموظفين. وأما علة ذلك فكذا وكذا من الأمور المتصلة بالسياسة المفروضة أول الأمر، يوم كنا لا نملك لأنفسنا من النفع شيئاً. ثم ذهبت العلة الأولى، ولكن الآثار بقيت من طريق تسلط العادة وتجمد المنهج. ومن هنا اختل التوازن: تكسرت القيود الاجتماعية، فانفسحت مسالك الحياة وانبسطت مرافق العيش - والمدارس لا تنفك تخرج طوائف متماثلة من بغاة الرزق الهيِّن، لفتور في عزماتهم، وقصور في مداركهم. ذلك الرزق الذي تناله وأنت جالس إلى منضدة عليها ركام من الملفات والأضابير، فلا طموح ولا اعتماد على النفس ولا رغبة في التميز عن النظراء باقتحام باب من أبواب الاحتراف الصعب، وشق أفق من آفاق الارتزاق. . .
(بقيت هذه الآثار، على سعي أولى الأمر في محوها. وسبب ذلك أن الإصلاح، في مثل هذه الحالة لا يكون من باب التصور والتخيل. وشتان ما الإزماع والإنجاز. فعلى المشرف على التعليم أن ينظر في وجوه الحياة ويتتبع موارد الكسب. والحياة تقوم، أول ما تقوم، على المادة؛ وموارد الكسب إنما هي السوق على تفاريقها وتفاريعها. وهكذا تصح الوجهة إذ تعلم المقصد.
(وإذا قلت السوق عنيت التجارة والصناعة والزراعة، وما ينطوي تحتها جميعاً أو يأخذ مأخذها. والمدارس المصرية التي تعلِّم هذه الفنون الثلاثة قليلة، ونسبتها إلى المدارس التي تخرج الكتبة والموظفين حقيرة. ومن هنا ترى أن التوظف في مصر سيعاني ما يقال له:
(التضخم) من وجهٍ، ويعجز عن ضم جميع طلابه من وجهٍ آخر. وينشأ عن هذا أمران: الأول بقاء سلطان الموظف البليد الحركة، والثاني البطالة. وينضاف إلى كل ذلك أن مرافق الحياة الاقتصادية مصيرها الانحلال أو تخرجَ من قبضة المصري إلى الأجنبي، بل قُلْ: أو تبقى في قبضة غير المصري.
(ثم إنه يحسن بنا أن نفسح من مجال السوق نفسها، فنشق سبلاً جديدة ثم نُعدّ لها الناس في المدارس؛ ولا يكون إلا بمعاونة وزارة المالية ووزارة التجارة والصناعة. وعلى هذا النحو نمطّ دائرة الحياة الاقتصادية ونوزّع همم النشء، فلا تنحصر وجوه النشاط في مصارف معلومة مربوطة، ولا تنقلب المنافسة إلى مناوأة. وفي ذلك كله أسباب غنى للبلد فضلاً عن استغناء.)
قال الرجل مقاله السديد، ثم نهض ونهضنا إلى الغداء فملت إلى صديق لي فسألته: من الرجل؟ فقال: الدكتور السنهوري. واتفق لي أن جلست إليه بعد ذلك، فإذا هو على أوفر علم وألطف أدب.
وجمعني بالسنهوري بك مجلس جِد، لأسبوعين مضيا. وجرى الحديث على خطّة وزارة المعارف في التعليم. فنطق الدكتور السنهوري - وهو الآن وكيل الوزارة - بما كان نطق به و (النيل) تحملنا إلى شواطئ أوربة. فأيقنت أن هذه الخطة مما ظفر بالرؤية والتثبت؛ فما هي بالمرتَجلة ارتجالا ولا المبتدعة بحكم العمل.
وقد بدا لي أن أسأل وكيل الوزارة في شأن الثقافة، وما تكون حالها إذا هو صرف همه إلى وجوه الحياة الاقتصادية. فقال: إني أدرك ما وراء سؤالك من القلق لأحب الأشياء إليك وأعلاها عندك. فلا عليك، لا عليك! إن الثقافة لا تزال موضع عناية. على أننا لابد لنا من السهر على مستقبل العيش من بسط مرافق الحياة المادية وإعداد النشء لها. هنا سهر وهنالك عناية؛ والتفاوت بينهما في الدرجة، لا في المرتبة، على قول الفلاسفة
قلت: لأهل الثقافة إذن أن يرقبوا الإصلاح هنالك. فهل تنظر الوزارة في إخفاق المعهد الملكي للموسيقى العربية، وتراجع طريقة إنشاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية، وتسال كلية الآداب عن صحة ما يقال فيها، وتردّ بعض كبار موظفيها عن الاستبداد بتقرير الكتب، وتجعل لتصرّف بعضِ موظفيها من الأجانب حداً واجباً (فلا تعود قصة (نفائس دار الآثار
العربية): (الرسالة) رقم 304 و 306، ولا قصة المدرس الفرنسي: مازويل الذي نال - فيما قيل لي - شهادة الدكتوراه في الآداب من جامعة باريس على حساب الحكومة المصرية)
ذلك قليل من كثير. وأجلّ من ذلك شاناً أن تصلَح طرائق التلقين فيخرج النشء للقراءة والتطلع والتفكير والمرح، لا للكسل والبلادة والتقبض. واظنني فصّلت ذلك في بحث نشرته (مجلة الدراسات الإسلامية) في باريس (1936)؛ ولا حاجة بمثل عبد الرزاق السنهوري بك إليه.
بشر فارس
النقد الأدبي
قراء (الرسالة) يذكرون مقالي في نقد خطاب العرش من الوجهة الأدبية، ويذكرون أن بعض الجرائد والمجلات قالت إني تخطيت الجانب الأدبي إلى شؤون وطنية ودستورية وتاريخية، ومن الصحفيين من أشار إلى أني موظف بوزارة المعارف، وهي إشارة لها مدلول!
فهل أستطيع أن أدافع عن نفسي؟
هل أستطيع أن أقول إن النقد الأدبي لا يُقْصَر على المفردات اللغوية كما قالت إحدى المجلات؟
النقد الأدبي هو درس الصلات بين التعابير والأغراض، فلو درست نصاً فقهياً لكان من واجبي أن أنظر إلى المعنى من ناحية فقهية، ولو كان النص فلسفياً لكان من واجبي أن أنظر إليه من ناحية فلسفية، ومع ذلك أظل في حدود النقد الأدبي
وخطاب العرش بطبيعة موضوعه يتعرض لشؤون وطنية ودستورية وتاريخية، فنقده من وجهة أدبية يستوجب أن ننظر فيما احتواه من هذه الشؤون، فكيف يستجيز بعض الناس أن يقول إني اتخذت من النقد الأدبي ستاراً لأغراض سياسية؟ ومعاذ الوطن أن أتبرأ من قول الحق، ولكن يجب أن أنصف نفسي فأقول إني لم أتجاوز الحدود الأدبية في نقد خطاب العرش، فمن طاب له أن يقول إني موظف بوزارة المعارف ليحدَّ من حرية الفكر فليمض
في طريقه وهو مغفور الذنوب، لأنه على كل حال مواطنٌ عزيز.
وهنا مسألة يجب النص عليها لأهميتها من الوجهة القومية:
إن مقالي في نقد خطاب العرش مرَّ على الرقابة بوزارة الداخلية فأجازت نشره وهي تعرف أني موظف بوزارة المعارف، فما معنى ذلك؟
معناه أننا في مصر وطن الرأي والحرية ومَشرِق النقد الأدبي
فإن قيل إن هذه أول مرة يُنقد فيها خطاب العرش من الوجهة الأدبية فسيقال أيضاً إن هذا تقليد يصدر أول مرة عن وطن مصطفى كامل ومحمد عبدة وسعد زغلول.
والصحفيون الذين أرادوا أن يعدّوا هذا المقال من ذنوبي قد
نسوا أني زميل قديم، له عليهم حقوق، وفيهم من يذكر أن
(الموظف) هو أيضاً وطنيٌ له أهداف سامية، وبعضهم يحفظ
الآية الكريمة: (ولا يَجرِ منَّكم شَنَآنُ قوم على أن لا تعدلوا)
زكي مبارك
في كلية الآداب
في منذ أسابيع أقرأ (الرسالة) الغراء حملة على مدرس في كلية الآداب، حمل لواءها أول من حمل صديق للدكتور بشر فارس على لسان الدكتور بشر، وتلاه من بعد (جامعيان) آخران. ولا يعنيني من هذه الحملة إلا أن أراجع الوقائع التي سردها الدكتور بشر فارس نقلاً عن صديقه، ثم ما ذكره الآخران من وقائع أخرى. وإلى الدكتور بشر أولاً أسوق الحديث:
ذكر في حديثه عن هذا المدرس مسالتين: الأولى تتصل بمكتبة الجامعة؛ والثانية تتصل باستقدام الأستاذ الدكتور سالومون بينس
أما المسألة الأولى وما ذكره في شأنها من أن هذا المدرس (يتلطف ليظفر بإدارة شؤون مكتبة الجامعة) فلعله قد اقتنع من الحديث التليفوني الذي ساقه إليه أحد كبار الأساتذة في كلية الآداب، وهو ولي الأمر فيما يتصل بشؤون مكتبة الجامعة الخاصة بكلية الآداب، إن
هذا (التلطف) نفسه لا أساس له من الواقع، وإنه من اختراع مخيلة صديقه الخصبة الجريئة. بل إن المسألة على العكس من ذلك تماماً. فإن صلة هذا المدرس بمكتبة الجامعة صلة يجب أن نشكره عليها كل الشكر، فقد أدى لمن يريدون البحث في المسائل الإسلامية أجلّ الخدمات دون أدنى مقابل. ويكفي أن تعلم أنه خلق قسماً خاصاً في المكتبة يجمع كل ما تحتويه من كتب إسلامية عربية أو غربية، وأنفق جهداً ضخماً في مساعدة القائمين على شؤون هذا القسم من موظفي المكتبة من حيث جمع الكتب وتبويبها ووضع الفهارس لها والإرشاد عن مظان المسائل الإسلامية المختلفة. كل هذا الجهد الهائل قد بذله دون أن يؤجر عليه، على أي نحو من الأنحاء. فصلته بالمكتبة إذاً صلة فضلٍ عليها لا صلة فضول، صلة يجب أن يسجل له الباحثون في المسائل الإسلامية من أجلها أعظم الشكر
وفيما يتصل بالدكتور سالمون بينس يجب أن تقرر أولاً أن هذا المدرس في كلية الآداب لم يقترح مطلقاً على الكلية أن تستقدمه. بل إن صلته بالدكتور بينس منقطعة منذ أكثر من سنة ونصف، وليس أدل على تهافت كلام صديق الدكتور من ذكره أن قسم اللغة العربية قد نشطت آذانه لسماع اقتراح هذا المدرس. فمثل هذا الاقتراح لا يتعلق بقسم اللغة العربية، وإنما بقسم الفلسفة، لأن الدكتور بينس يشتغل بالفلسفة الإسلامية فحسب، وليست له مشاركة في أية ناحية أخرى من نواحي الاستشراق؛ فإذا استقدمته كلية الآداب، فذلك لكي يكون مدرساً للفلسفة الإسلامية بقسم الفلسفة.
هذا هو الواقع في مسألة صلة هذا المدرس بالدكتور بينس وما قيل عن اقتراحه المزعوم.
أما مسألة استقدام الدكتور بينس فهي في ذاتها أمنية تجيش في نفوسنا نحن المدرسين المصريين المستقلين بالفلسفة الإسلامية وليس أدعى إلى اغتباطنا من أن يأتي إلى الكلية مدرس في تدريسه أعظم الفائدة للطلاب، ونهوض بمناهج الدرس للفلسفة الإسلامية. في كلية الآداب نهوضاً كبيراً. فالدكتور بينس مستشرق ممتاز، وقطب من أقطاب الجيل الذي بدأ يتبوأ مركز الصدارة في حركة الاستشراق بعد أن انقضى الجيل السابق من المستشرقين أو كاد بعد موت المرحوم نلينو. وأن أعجب لشيء فعجبي لجهل الدكتور بشر فارس بمكانة بينس مع أن الدكتور بشر فارس ممن لهم إلمام بحركة الاستشراق غير قليل، وأغلب الظن أنه إنما تجاهل بينس - ولم يجهله - حرصاً على إرضاء شهوة الصديق أن
ينال من هذا المدرس في كلية الآداب. فيكفي أن يذكر المرء من أبحاث الدكتور بينس (رسالته في مذهب الجوهر الفرد عند الإسلاميين) فهذا البحث من أحسن البحوث التي كتبها المستشرقون في الفلسفة الإسلامية على الإطلاق؛ وسيرى ذلك قراء العربية حينما ننتهي من طبع ترجمتنا لهذه الرسالة. هذا ولم نذكر مقالاته العربية التي تظهر في مجلات المستشرقين وخصوصاً في مجلة (الحضارة الإسلامية) التي يصدرها بعض الهنود المشتغلين بالدراسات الإسلامية وهذه الأبحاث التي كتبها بينس تمتاز بالطرافة في النتائج التي يصل إليها، والاستقامة في مناهج البحث الفيلولوجي والعمق في فهم المذاهب الفلسفية الإسلامية وغير الإسلامية
فاستقدام الدكتور بينس للتدريس في كلية الآداب فائدة كبرى، وأمل اعز ما نرجوه من أجل مصلحة الدراسة في الكلية أن نراه عن قريب وقد تحقق.
ومن هذا كله يتبين أن الحال في المسألتين اللتين ذكرهما صديق الدكتور بشر ليست كما زعم الصديق. بل هي على العكس من ذلك تحملنا على تسجيل الشكر لهذا المدرس في كلية الآداب أما المسائل التي ذكرها الجامعيان الآخران فلا تستحق منا أن نرد عليها بأكثر من قولنا إن ما ذكر باطل كله. فالمرتب الذي يتناوله هو المرتب العادي الذي يتناوله أصغر المدرسين الأجانب بالكلية، وقصة الخمسمائة الجنيه قصة أقل ما تستحقه هو السخرية لبطلانها، وفي هذا فليرجع إلى كلية الآداب من شاء.
وأخيراً أقول لمن تحدث عن الحق منهم كما أقول لزميليه الآخرين: اتقوا الله في الحق أمام ضمائركم، قبل أن تدعوا اتقاءه فيه أمام الناس حتى لا تضطروا إلى الدفاع عن أجنبي مواطناً لا يؤذيه شيء قدر أن يلجأ إلى الدفاع عن أجنبي بازاء مواطنين
عبد الرحمن بدوي
المصريون في ميدان الثقافة
اطلعت في مجلة الرسالة بالعدد 333 على كلمة قوية على هدوئها للدكتور بشر فارس تحت عنوان (في كلية الآداب) أثار فيها مسائل هامة تمس الحياة الثقافية عندنا. واطلعت بعد ذلك في مجلة (المصور) تحت عنوان (النبوغ في مصر. هبوط سعره في بورصة
الحكومة) على بيان للأستاذ فكري أباظة ذكر فيه حقائق خاصة بضياع حقوق الجامعيين من الشباب المصري. وقد تلت كلمة الدكتور بشر في الرسالة كلمة أخرى لزميل (جامعي) بيَّن فيها كيف يحظى المدرس الأجنبي بما يعز على المدرس المصري في بلده، ثم كلمة ثانية تعززها بقلم (جامعي آخر).
ولقد سمعت - حين كنت بباريس - أن بعض أولئك الأجانب - وكان قد قضى بمصر سنوات - لما سمع لأول مرة قدر المرتب الذي عرض عليه لم يصدق أذنيه؛ فلما رأى كشف المرتبات كاد لا يصدق عينيه! ومما لا نشك فيه أنه لو عرض على أمثاله نصف المرتب لقبلوه ولكانوا هم الفائزين. هذا مع العلم بأن في المدرسين والأساتذة الأجانب نخبة لا ينكر فضلها وعلمها عندنا جميعاً.
كيف يرفع المستوى الاجتماعي والأدبي عندنا وبين قادة الثقافة من ينتقص من أقدار مواطنيه وينظر إلى المتعلمين الأكفاء منهم كأنهم من طينة دون طينة الأجنبي إطلاقاً. . . أما تعلَّمنا لغة الأجانب على طول الاحتكاك بهم، أعني لغة الوطنية الصحيحة لا لغة الكرم والضيافة والدعاوى العريضة التي لا تجدي؟
ثم لِمَ تنفق أموال الدولة على أعضاء البعثات الذين يقضون في الخارج سنين أكثر أيامها جهد وكد، فإذا عادوا إلى الوطن أشد ما يكونون حماسة لخيره وتلهفاً إلى العمل لخدمته، رأوا زملاءهم الأجانب أوفر حظاً.
رحم الله شوقيَّاً إذ قال:
إحرام على بلابله الدو
…
ح حلال للطير كل جنس؟
جامعي ثالث
حول المصحف المحرف
جاءنا من الأستاذ شيخ المقارئ ما يأتي:
اطلعت على الكلمة المنشورة بالعدد رقم 334 من الرسالة
الصادر في 27 111939 بشأن أخطاء في مصحف يسمى
(التنزيل الرباني): طبعه عبد الرحمن أفندي محمد - ورداً
عليها أفيد أن المصحف المذكور قام بطبعه ونشره ذلك الملتزم
بدون مراجعة ولا إذن. وقد سبق لنا رفع أمره إلى مشيخة
الأزهر في شهر يناير سنة 1939، وطلبنا منها إلزام ناشره
بإصلاح أكلشيهاته ونسخه التي طبعت عليها مع منعه من
الاتجار بها بدون إصلاح. وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.
الضباع
شيخ المقارئ
شمال أفريقيا والأستاذ الحصري
يقول الأستاذ الحصري في مقاله (بين الوحدة الإسلامية والوحدة العربية) الرسالة 328 - (إن العالم الإسلامي يشمل الأقطار العربية وتركيا وإيران والأفغان وتركستان مع قسم من الهند وجزر الهند الشرقية وبلاد القفقاس وأفريقيا الشمالية مع قسم في أفريقيا الوسطى)
فالأستاذ الحصري يوهم أن الأقطار العربية هي فقط مصر والشام والعراق والحجاز واليمن أما أفريقيا الشمالية التي تبدأ من تونس وتنتهي بمراكش فهذه عنده بلاد إسلامية وليست بعربية. فهل هذا هو الحق يا سيدي الأستاذ؟
لقد انصرم أكثر من اثني عشر قرناً على تعريب أفريقية الشمالية ودلت الحوادث على أن جريان الزمن لا يزيدها إلا تمسكاً بعروبتها وقوميتها؛ ولكن بعض إخواننا في الشرق ينكرون - عن غير عمد - هذه الحقائق البسيطة.
والأستاذ الحصري نفسه زار شمال أفريقيا منذ أشهر قلائل ووصل إلى المغرب فتطلعنا لرؤيته ورجونا خيراً من زيارته للقطر العربي الذي تجهله الأقطار العربية وبحثنا عنه في كل مكان فما أسعدنا الحظ بلقياه.
سلوه هل زار كلية القرويين وشاهد مكتبتها العربية؟ سلوه هل طاف بمدارس فاس الأثرية
وشاهد ما تركته يد العرب بجدرانها؟ سلوه هل زار قصور إسماعيل بمكناس ومنارة الكتبية بمراكش ودار الآثار العربية بفاس وهو مدير لمثل هذه الدار ببغداد إن لم تخطئني الذاكرة.
سلوه بالله ماذا أفاد من رحلته إلى (مجاهل!) أفريقيا الشمالية كان يمكنه أن يعلم شيئاً كثيراً عن عربية هذه البلاد لو اتصل بعلمائها وأدبائها واختلط بالشعب الذي يود التعرف بأمثاله من نبهاء الشرق.
وعلاوة على ذلك فإن المغرب وهو جزء من أفريقية الشمالية يمتاز في عربيته بوحدة دينية مذهبية لا تجدها في غيره من الأقطار العربية كمصر أو سوريا أو العراق؛ فليس في المغرب أقليات دينية سوى أقلية ضئيلة من اليهود الذين يتكلمون باللغة العربية. وسوى أقلية تافهة من الأجانب الذين نزلوا المغرب بعد الحماية
أما الوحدة المذهبية فالمغرب من أقصاه لأقصاه على مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس، وليس فيه طوائف دينية كالرافضة أو الأباضية أو غيرهما من بقية الفرق الدينية التي توجد كثيراً في بلدان الشرق العربي والإسلامي.
الحق أن النزعة القومية المتأصلة في دمائنا هي التي تضطرنا أحياناً لإصلاح أغلاط إخواننا العرب فينا، فمتى يكون بين البلاد العربية سفراء سياسيون وثقافيون يقومون بربط العلاقات الثقافية والسياسية بين أبناء البلاد العربية؟
(فاس)
أبو الوفا
الاحتفال الرسمي بضريح أبي العلاء
روت صحف سورية أنه احتفل بالمعرة بوضع الحجر الأساسي لضريح الفيلسوف الشاعر أبي العلاء المعري؛ وقد حضر هذه الحفلة رجال الحكومة وافتتحها السيد طالب الحراكي بكلمة ترجمها إلى الفرنسية السيد زكريا شكري وقد تقدم رئيس المديرين والمسيو هوتكلوك فوضعا الحجر الأساسي وألقى رئيس المديرين خطاباً تكلم فيه عن عبقرية أبي العلاء وأن الأمة التي أنجبته تنجب مثله ما دامت مياهها مياهها وسماؤها سماءها، ثم شكر رجال فرنسا والمندوبين وكل من شجع الحكومة بحضور هذه الحفلة. ثم وقف المسيو هوتكلوك
فألقى خطاباً أعرب فيه عن سروره باشتراكه في الحفلة وذكر شهرة أبي العلاء وأنه كان أبدع مظهر للذكاء العربي، وأسهب المندوب في الكلام عن شعره، ثم شكر باسم المفوض السامي وباسمه الذين قاموا بهذا المشروع وهنأ المعرة وتمنى أن تحذو البلاد السورية حذوها.
جائزة مختار للنحت لعام 1940
تقيم جمعية أصدقاء مختار في هذا العام مسابقة في فن النحت إحياء لذكرى المرحوم المسيو فيس صديق المرحوم مختار الذي ساهم بقسط وافر في نهضة الفنون الجميلة بمصر وظل لآخر لحظة من حياته عضواً عاملاً في جمعية أصدقاء مختار.
وجائزة هذا العام قدرها خمسة وأربعون جنيهاً مقدمة من حضرة صاحبة العصمة السيدة الجليلة هدى هانم شعراوي. وهذه الجائزة على ثلاث درجات: الأولى 20ج والثانية 15 ج والثالثة 10 ج
وموضوع المسابقة (الحرف الجوالة) وللمشتركين في المسابقة الحرية في اختيار نوع الحرفة ووضع المحترف الجوال كأن يختار واحداً من هؤلاء:
بائع العرق السوس. قرداتي. مسحراتي. حاوي. نبين زين. سن السكين وسن المقص. بائعة اللبن. بائعة علي لوز. السقا. غزالك ربَّع. يا جابر. بخور عاشوراء. حب العزيز. . . الخ
وآخر موعد لقبول الاشتراك في هذه المسابقة هو 29 فبراير سنة 1940 ويجب أن يقدم المشتركون في المسابقة تماثيلهم قبل نهاية يوم 25 مارس 1940 بصالة العرض التي سيعلن عنها في الوقت المناسب
والمرجو من حضرات الفنانين الراغبين في الاشتراك في هذه المسابقة أن يقدموا طلباتهم إلى سكرتير (جمعية أصدقاء مختار) جبرائيل بقطر أفندي بشارع الأنتكخانة رقم 6 بالقاهرة ت 52947
رواية (الأمل) على مسرح الأوبرا
حسبك من هذه الرواية أنها تدعو الجيل الجديد للتحرر مما يرسف في أغلاله الجيل القديم
وأنها تفتح عيون الشباب على حياة جديدة بهم
أما أنها تعبر أو لا تعبر عن الروح المصرية فهذا ما ندعه جانباً إلى حين، وحسبنا أن المؤلف (هنري برنشتين) كان فيها إنساناً أكثر من مواطن فرنسي، فهو لم يعبر عن حالة معينة في الخلق الفرنسي والبيئة الفرنسية وإنما أراد أن يرسم للشباب كله - الذي خرج من الحرب منهوك القوى محطم النفس. مندفعاً بكل قواه إلى الملذات والمباهج - حياة جديدة، وأن يدعو إليها طالباً منه أن تكون لديه الشجاعة الكافية للانتفاض على الجيل القديم وتقاليده وما عرف عنه من الاستسلام للأمر الواقع وانتظار حكم الزمن. . .
أما ممثل الشباب فإنه كان قوياً بحيث لم يخش الفضيحة وألسنة الناس وهو يسترد كلمة أعطاها ووعداً ارتبط به مع فتاة عابثة ليعطي كلمته فتاة جديرة بحمل اسمه، هي أخت الأولى ومن لحمها ودمها.
ولم يستطع ممثل الجيل القديم أن يكون الإنسان الذي يدافع عن سعادته وهناءته العائلية واكتفى بأن يكون سلبياً في انتظار حكم الزمن، أما ممثل الجيل الجديد فقد أصدر حكمه بنفسه وفي الحال، فآب الأول بحياة كسيرة وفاز الثاني بحياة حافلة بشتى ضروب السعادة والهناء.
وبعد فإن مقتبس الرواية أو على الصحيح اللذين قاما بترجمتها وتمصيرها قد فعلا القليل في هذا السبيل. ارتفعا بأشخاص الرواية إلى الطبقة الأرستقراطية كما يبررا هذه الحياة الأجنبية التي تحياها هذه الطبقة عندنا، وقالا في برنامج الرواية:
(وأن تفتح عينيها - أي الزوجة العابثة - على حقائق الحياة المصرية فتعلم أن التقليد الأعمى لعوائد الغرب إنما ينقلب في جونا الشرقي وبالاً وشقاء على الأسرة) فالمقتبسان على ذلك يأخذان الصورة كما هي بنصها وفصها ليكون لهما مجال للتنديد بهذه الطبقة الأرستقراطية التي تقلد تقليداً أعمى عوائد الغرب. على حين أن الرواية لا تقصد إلى شيء من هذا وإنما ترمي إلى ما هو أسمى وأعم نفعاً وأوسع مدى من هذه الفكرة المحلية، فهنري برنشتين يرى أن خضوع رجل الزوجية العابثة يفقده هناءه العائلي ويحطم كيان أسرته؛ وفرق كبير بين هاتين الفكرتين. وما دعا المقتبسين إلى الركون إلى ذلك إلا مخافة أن يقول النقاد إن أشخاص الرواية ليس في مصر من يشبههم، كما قالوا - أي النقاد - في
رواية لهما من قبل هي (الزوجة الثانية)
وهذه الرواية هي الثانية التي يخرجها الأستاذ فتوح نشاطي. فأما الرواية الأولى (تحت سماء أسبانيا) فقد كان نجاحه فيها شاملاً. سيطر على المجموعة سيطرة تامة فنال عن طريق ذلك الفوز المبين. أما في هذه الرواية فقد أفلت منه البعض برغمه؛ فما يستطيع أن يقوم اللسان المعوج أو العود المائل اللذين لم يقومهما الزمن، ومع ذلك فقد نجحت الرواية. وقد كان بارعاً البراعة كلها في ترتيب وتنظيم المنظرين اللذين ظهرا في الرواية، فقد نثر الأثاث في ظرف وأناقة بحيث لا يعوق الممثلين ولا يقصر عن حاجتهم، وكانت الحوائط قد زانتها الصور والمرايا في تناسق مثير وأناقة بالغة؛ وكأني بالمخرج ينظم عشه ويجمل الإطار الذي يعيش فيه.
أما التمثيل فقد كان موفقاً في أغلب المواقف. وليس يعاب على البعض إلا تعثره في الكلمات التي لم تعها الذاكرة الكليلة؛ وبالتالي إخفاقه في إنجاح المشاهد التي تعثر فيها. وعلى أي حال فلا بد من التنبيه إلى أن أول ما يعنى به الممثل هو حفظه دوره حفظاً تاماً فإذا لم يفعل فليس غريباً أن يخفق مهما كان فاهماً لدوره
وبعد فقد نجحت الرواية نجاحاً حد منه أنها خرجت بغير ثوبها الأصلي، فإن من رأينا ألا تمصر الروايات وأن يكتفي بترجمتها وإخراجها كما هي منسوبة إلى مؤلفيها دون سواهم. ومن رأينا كذلك أنه إذا عن لبعضهم أن يقتبس فكرة من رواية فليؤد معنى الاقتباس أداء دقيقاً وافياً فيأخذ الفكرة ويخضعها للبيئة التي ينقلها إليها ثم يكتب روايته من جديد غير ناظر إلى الرواية المصرية، فلا ينقل منها حواراً بنصه بل بروحه حتى يكون له فضل التأليف لا فضل النقل.
فرعون الصغير