الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 337
- بتاريخ: 18 - 12 - 1939
صاحب المعالي وزير المعارف
على ذكر مراقبة الثقافة العامة
عرفك الناس يا صاحب المعالي في جميع أطوار النهضة وأدوار الجهاد رجل جد وعزيمة، وصاحب رأي ونفاذ. ولعلك واحد الزعماء في حب الصمت وكراهية الإعلان وإيثار العمل. ولقد كان توليك أمور المعارف أمنية من أماني النفس المصلحة طالما هفت بقلبك وقلوب رجال الثقافة. فإن داء وزارة التعليم قد استفحل وأعضل حتى استيأس منه الطبيب والعائد، وأنت من الرجال القلال الذين عرفوا أن هذه الزَّمانة التي خزلت هذه الوزارة عن السير في عصر السرعة إنما هي الذبذبة في سياستها والفوضى في ساستها والتواكل في جنودها. وكنت تنظر إليها من بعيد وهي تمشي متخلجة متخلفة فترجو أن يتيح الله لها قوماً غير القوم فينفخوا فيها من روح العصر ونشاطه ما يساعدها على مسايرة النهضة ومواتاة الحاجة.
وهاأنت ذا قد أتاحك لها الله كما رجوت ورجا أنصارك، وقد استقر الأمر واتسق الحكم واستبان الطريق، وعلى رأس الدولة ملك ديمقراطي النزعة عُمَري الإصلاح، يريد أن يكون عهده السعيد عهد مصر الذهبي في العمران والعرفان والسلطان والمنَعة؛ وعلى رآسة الحكومة رجل قوي الإدارة نزيه السياسة حر الضمير، يود أن يكون حكمه حكم الأمة في إشاعة الخير، وتوخي المنفعة، وتعميم العدالة! ولك وكيل منطقي الرأي أصيل الثقافة يتساير هواك وهواه في الطريقة والغاية. فنحن إذن حريون أن نرى وزارة المعارف في عهدك شيئاً آخر يختلف عن هذا الشيء في روحه ونظامه وعمله وغرضه ومداه.
إن مراقبة الثقافة العامة يا معالي الوزير هي الناحية التي ستخرج منها الوزارة عن سياستها الديوانية التقليدية التي انحصرت إلى اليوم بين جدران المكاتب وأبواب المدارس فلم تتصل بالفكر العام اتصالاً مباشراً تغذيه أو تهديه أو تعاونه. في هذه الناحية الجديدة ستلتقي الوزارة بالشعب وترى بعينها أنها فرطت في جانب الثقافة العامة تفريطاً لا يسعها فيه عذر. فالأدب لا يزال ناقصاً في نوعه، قاصراً في بيانه، قليلاً في نتاجه، ضعيفاً في انتشاره. فهو ناقص في نوعه لأنه أنكر قديمه وجهل جديد الناس فلم يُغذِّه ماض ولم ينَمِّه حاضر، فبقي مُخْدَج الخَلْق لا هو ميت ولا هو حي. ولقد كان أدبنا القديم في حدود مراميه
اللسان العام لخوالج النفس الإنسانية في أكثر بقاع الأرض، فلم تكن هناك فكرة تجول في ذهن كاتب، ولا صورة تتمثل في خاطر شاعر، إلا وجدت في هذا الخضَم المحيط صدفة تستقر فيها. فلما تحولت عن مذاهبه الأنهار وجفَّت على جوانبه الروافد، عاد كالبحيرة الراكدة المحدودة لا يمدها إلا قطرات المطر ودفعات السيل من حين إلى حين. فالقارئ العربي الحديث لا يجد فيما أثر منه ولا فيما استجد فيه غذاء عقله ولا رضى شعوره، لأن المأثور منه ناقص لانقطاعه عن سير المدنية، والجديد فيه ناقص لخلوه من الآداب الأجنبية. والغريب أن المرء يقرأ أي نابغة من نوابغ العالم في أي لغة من لغات التمدن إلا في اللغة العربية! فالتركي مثلاً يستطيع أن يقرأ في لغته هوجو كله، وشكسبير كله، وجيته كله؛ ولكن العربي لا يجد في لغته لهؤلاء العالميين إلا كتاباً أو كتابين اختارهما مترجم على ذوقه ونشرهما على حسابه. فإذا أردنا يا معالي الوزير لأدبنا أن يتسع في حاضره كما اتسع في ماضيه، فليس لنا اليوم غير سبيل الأمس: نرفده بآداب الأمم الأوربية، ونصله بتيار الأفكار الحديثة. فإن لكل أمة مزيا، ولكل بيئة خصائص. ولن يكون أدبنا عالمياً ما لم يلقح بآداب العالم. والمحاكاة والاحتذاء من أقوى العوامل أثراً في الأدب.
والأدب العربي قاصر في بيانه، لأنه مقطوع الصلة بحضارة العصر، فلا يستطيع أقدر كتابنا أن يتحدث عما يستعمل من ماعون وأثاث، ولا أن يصف ما يركب من باخرة أو طائرة. ومجمعنا اللغوي ليس في مقدوره بحكم تأليفه وطريقة عمله أن يقدم إلى الناس معجمه العتيد إلا بعد جيل أو جيلين، حين يكون كل شيء في العالم قد تغير أو تطور، فيصبح معجمه في الجدّة يومئذ كمعجم لسان العرب اليوم! فلا بد لهذه الحال من علاجك الحاسم يا معالي الوزير، فإن اللغة الناقصة هي نصف البَكم إن لم تكن أكثر الجهل!
والأدب العربي قليل في نتاجه ضعيف في انتشاره، لأن الأدباء ينتج بعضهم ليعض؛ فهم الذين ينشئون وهم الذين يقرءون. أما الخاصة فلجهالتهم لا يفهمونه، والعامة لأميتهم لا يعرفونه. وإذا حرم الأدب تشجيع الخاصة لا يزدهر، وإذا لم ينل إقبال العامة لا ينتشر، وإذا لم يكن حاجة هؤلاء وهؤلاء لا يتنوع. وعلاج ذلك يا معالي الوزير تعويض الأدب من تعضيد الجمهور بالمكافآت والجوائز؛ فإنها تحفز القرائح للعمل، وتضمن الإجادة بالتنافس، وترفع المستوى بانتخاب الأجود. وبضعة آلاف جنيه من الخزانة العامة ينفق
أضعافها في تمهيد طريق أو تجميل بناء تخلق في الأمة أدباء عالميين، وتجمع لها من الأدب الصحيح ثروة.
ومِلاك ذلك كله يا معالي الوزير أن تفكر مراقبة الثقافة العامة في أمرين جليلين: أحدهما إنشاء دار للترجمة تنقل الآداب الأجنبية نقلاً كاملاً صحيحاً، فلا تدع نابغة من نوابغ العالم في العلم والأدب والفلسفة إلا نقلت كتبه ونشرتها على حسب ترتيبها وتبويبها في طبعاتها الأصلية؛ والآخر تأليف مجمع للأدب يقوم على رعايته وتوجيهه وتشجيعه ونشره؛ ثم يكون لقرائح الشباب وهي في أول الشوط مناراً وحمى، ولعبقريات الشيوخ وهي في آخره أمناً ومثابة. والأستاذ المراقب الذي اخترته يا معالي الوزير أقدر من يحقق الرجاء في هذه المراقبة متى ظفر بتسديدك وتأييدك وعطفك.
أحمد حسن الزيات
الإنسان والحيوان والحرب
للأستاذ عباس محمود العقاد
حركة!
إذن هو الخطر بعينه!
وهل في موقف الحراسة من الميدان حركة لها أمان؟. . . كلا. بل هو الخطر جد الخطر على الحارس وعلى من يحرسهم، وهم مئات ألوف.
ثم حفيف بين العشب!
فهو الخطر إذن يقترب، وهو الانتباه أشد ما يكون انتباه، والاستتار أخفى ما يكون استتار!
وانبطح الحارس وانتظر، ولمعت عينان على مقربة، فإذا بالحارس كله عيون، لو قتل إنسان شيئاً بنظرته لمات صاحب تينك العينين في جنح الظلام!
وسدد الحارس الرامية، ومضت العينان تدنوان وتدنوان، وأوشكت القذيفة أن تنطلق لولا أن انطلاقها محظور لغير الخطر المحقق القريب، مخافة الانتباه من جانب الأعداء إلى موضع الحراسة وموضع المعسكر، فلا مناص من انتظار.
ثم بدا صاحب العينين برأسه وبشخصه:
الحمد لله. . .
هو كلب. . . وليس بإنسان!
تلك خلاصة قصيدة إنجليزية من قصائد الجنود في حرب الدردنيل الماضية.
حمد الشاعر ربه لأنه كان يحذر فصيلة الإنسان دون الفصائل جميعاً من عالم الحيوان، فهو من أخيه الإنسان على أخطر الخطر في ذلك الظلام. . . أما عالم الحيوان جميعاً، فهو منه في أمان!
لم أقرأ هذه القصيدة قط إلا ذكرت شاعرنا العربي حين يقول:
عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى
…
وصوت إنسان فكدت أطير
نعم. وأصدق ما يكون ذلك في مقام حراسة وفي ميدان قتال!
ثم قامت الحرب الحاضرة، فإذا ببطل من أبطال الحيوان، يعلو ذكره في كل ميدان، ويستوحونه القصائد والألحان!
ذلك توني المنسوف.
أو هو بالإنجليزية
أتعرفه؟
لم أزدك به معرفة على ما يظهر، فاعلم أنه قط من مشاهير القطط في الدنيا، أو هو الآن من مشاهيرها بعد أن لم يكن على بال أحد غير أصحابه وعشرائه قبل بضعة أسابيع.
كان يومئذ في سفينة إنجليزية أغرقتها الغواصات على مقربة من شواطئ السويد، وبصر به جندي في الماء فعاد إليه ونجاه ولم يحفل بما يصيبه من مكامن البحر (الملغوم) في سبيل هذه النجاة: نجاة توني المنسوف!
وضبطه رجال الميناء ميناء جوذنبرج فاعتقلوه، وقرروا إبادته في المحجر كما يصنعون بالحيوان من قبيله إذا خيفت منه العدوى أو احتاج أمره إلى الرقابة والتمحيص. وأين هي الحكومة التي تنفق على حيوان طريح من طرائح البحر حتى ينجلي الشك فيه، فإما سليم فيرسل، وإما مصاب فيباد!
يباد؟
إن الجنود الذين أنقذوه من الغرق لم ينقذوه من الماء ليقذفوا به إلى النار المحرقة أو إلى السم الزعاف.
فلن يباد توني المنسوف، وفي أولئك الجنود بقية من دماء.
واتصلت المشكلة بالصحيفة الوقور التي أسماها بعضهم بالدولة المستقلة، وهي صحيفة (التيمس) اليومية.
فكُتبت الحياة لتوني المنسوف!
وتقاطرت الهبات على ميناء جوذنبرج للإنفاق على ضيفها المضنون به على غير أهله، طوال مدة الرقابة الصحية وعدتها ستة شهور.
وجاشت قرائح المصورين وقرائح الشعراء.
فظهرت في الصحيفة صورة (توني) على لوحة تغوص وتطفو بين اللجج المزبدات، والحطام المتناثر من الأحياء والأموات.
وعلى رأسه طيارات، ومن حوله غواصات، وهو بينهن كأشجع ما يكون الشجعان من
البطولة والثبات!
وكتب شاعر تحت الصورة هذه الأبيات:
(المخلوق الضعيف القليل النصير في ألعوبة من ألاعيب الأقدار، يبدو أنها ختام قدّر له
من وجود.
(تولته صداقة (التيمس) فامتدت به حبال الأجل الممدود.
(ووثب من ذراعي الموت إلى أحضان الشهرة والخلود.
(لقد كان مجهولاً لا عنوان له بين قطط العالمين.
(فارتقى سلم الشهرة قفزة واحدة إلى مكانها المكين.
(مذكور الأحزان والأشجان بين الناس، معروف الشجاعة على كل لسان مبين، من
المادحين والمعجبين.
(والآن تتلقى أنباءه أمواج الأثير، وهو قابع في المحجر مستقر أمين.
(يشرب اللبن ويستطعم الغذاء، ويلعب ويطرب ويستكين.
(وعلى ضفاف السويد من خليج بوهاس الجميل الموصوف.
(ينتهي منظر القصة المنظومة، وتبتدئ شهرة توني المنسوف.
(وتسري على (الكاتيجات) أنفاس الخضم، وآهات الخريف!).
اقرأ هذه القصيدة الظريفة وقل معي: يا لذلك القط من حيوان مجدود!
بل قل معي: يا للإنسان من حيوان مكدود منكود!
ولا تعجب أن تكون هذه عنايته بقط مسكين، وفي العالم حرب ضروس تنذره بهلاك الألوف أو الملايين.
أو إن عجبت فاعلم أنني لا أعجب مما أرى وأسمع من أشباه هذه الأنباء، ولا أراها أهون ولا أهزل من أن تشغلنا بعض الشغل في هذا البلاء أو عن هذا البلاء.
فأهون ما فيها أنها لا تيئس من العاطفة الإنسانية، وأنها تزيدنا علماً بسرائرنا النفسية، وأنها توازن ما في الحرب كلها من عداء، بما في ودائع القلب الآدمي من شغف بالمودة وحرص على الولاء، وشوق إلى الوفاء.
إن عداء الحرب لا يستنزف ما في النفس من ينابيع الرحمة بل ينبش عنها في الأعماق
فيرسلها على شتى الصور وأغرب المناسبات.
فكلما اشتد العداء كان اشتداده مدعاة إلى اشتداد البحث عن جانب المودة والرفق، وجانب الألفة والمعونة، وجانب الطمأنينة إلى ملاذ في قرارة الحياة.
ولهذا تعظم الحرب لأنها تشمل الملايين من أفراد السلالة الآدمية.
وتعظم إلى جانبها حادثة (توني) الضعيف لأنها تشمل نفس الإنسان، أو تشمل جميع بني الإنسان.
ونحن بصدد الحيوان والإنسان فلنختم هذا المقال بقصة طريفة من قصص هذا المقام.
على الصفحة الأولى من الصحيفة الإنجليزية المصورة (اللستراتد) رسم كبير لكلب من فصيلة (البول دوج) المشهورة بين الإنجليز وعلى رأسه قبعة من قبعات الجنود.
ومناسبة هذا الرسم أن (المذياع الألماني) أشاع في الشهر الماضي أن الغواصات الألمانية أغرقت (السفينة) كستريل وليست هي بسفينة ولكنها نقطة تدريب برية يختبرون فيها سلاح السفن ويتبعونها من أجل ذلك لوزارة الشؤون البحرية.
فلما شاع هذا النبأ المضحك بين جنود تلك النقطة نقله الجندي الذي يخلع قبعته على كلبها المحبوب إلى ذلك الكلب الغافل عن مذياع الألمان ودعوة الألمان، وقال له مازحاً:
أتدري يا بوللي أنك الآن في عداد الأموات وفي سجل الغرقى؟ هكذا يزعم جوبلز يأيها الميت الذي يدعي الحياة!
قال الراوي: فزمجر بوللي غاضباً: (ومن هو جوبلز؟).
والحق أن بوللي ليقولها ويقول ألفاً من قبيلها!. . .
نعم. . . ومن هو جوبلز؟
ولهذا السؤال ولا ريب معناه!
عباس محمود العقاد
إليك رجعت يا قلبي
(لكاتب من الكتاب)
ينم عليه أسلوبه
قلبي، ألم يأن لك أن تعفو وتصفح؟
أنت تعرف أني لم اقبل على التحرير والتأليف في شؤون الأدب القديم والحديث إلا طلباً للسلامة من ظلمك وعدوانك، ولم أشغل قلمي بوصف أوهام المجتمع إلا لأصرفه عن الشغل بأحلامك وأوهامك.
فهل تراني مع ذلك نجوت من شرك؟
أنت تعرف أني لا أرى الناس من وقت إلى وقت إلا رغبة في الانصراف عنك، فإن الخلوة إلى نَزَواتك وبدواتك تُشبه الخلوة إلى أوكار الأراقم، وملاعب الجنّ، ومساقط البراكين.
فكيف تريد أن أرجع إليك؟
إن لي عقلاً يعصمني من غيّك، فاصنع ما أنت صانع ألست أنت الذي أغراني بالتطلع إلى مشارق الأقمار والأزهار ومواسم الأفئدة والقلوب؟
ألست أنت الذي حدثني بأن النعمة الصحيحة هي جودة الفهم لأطاليب الوجود؟
فهل تراك صدقت فيما حدثت؟
وهل تراني أحسنت في الاطمئنان إلى وسواسك ونجواك؟
الدنيا في طاعتك ليست إلا مهالك ومعاطب، فكيف فاتني التوفيق فلم أتمرد عليك؟
ما رأيت إنساناً يعيش في سلام وأمان إلا حكمت بأنه يحيا بلا قلب.
ولا رأيت إنساناً مسلوب مَهْدود العافية، إلا عرفت أنه من أرباب القلوب.
فمتى أنجو من شرك يا قلبي؟
إن اشتباك المهلكات والمدمرات في المعارك البرية والبحرية والجوية ليست إلا صورة مصغَّرة لما يقع بيني وبينك حين أخلو إليك فمتى أنجو من شرك يا قلبي؟
وما يضمر الأعداء المتحاربون بعضهم لبعض، وما تضمر الغابة الشَّجراء في ظلام الليل، وما يستتر في جوف المحيط من غَدَرات وفَتَكات، كل أولئك أخفّ وأهون مما تعدّه
لمحاربتي أيها القلب!
إن الحرب بين الممالك والشعوب يسبقها النذير ليأخذ الرجال أهبتهم للصراع والقتال، والحرب بيني وبينك لا يسبقها نذير حتى استعد لمصاولتك ومغالبتك. فمن أنت بين المغتالين، أيها القلب؟
وقد دَرج المقاتلون منذ آماد طوال على الترفق بأسرى الحرب وأنت لا تعرف الرفق بأسيرك، أيها القلب!
فمتى ينصرني الله عليك فأجزيك ظلماً بظلم وعدواناً بعدوان؟
أنت الذي جعل إيذاء الصديق للصديق من شرائع الوجود، أيها القلب.
فكيف أعاتب أصدقائي وأنت على قربك أول من أتلقى منه الطعنة الدامية؟
أنت تظلم وتغدر وتفتك، وما أسأت إليك في سر أو علانية، وليس بيني وبينك واش ولا نمّام ولا رقيب.
فكيف ألوم صديقاً يغدر أو يخون وبيني وبينه ألوف من المفسدين والمرجفين؟
عنك تلقيت درساً لن أنساه، أيها القلب، فعدوانك وأنت صديق لا تصل إليه الوشايات والسعايات دليل على أن الدنيا قامت على أساس منخوب لا يصلح للخلود.
لو كانت الدنيا أهلاً للجمال لكان من المستحيل أن تكون الأشواك أطول أعماراً من الأزهار والرياحين.
ولو كانت أهلاً للقوة لما جاز أن يقضي الأسد دهره وهو محموم.
ولو كانت الدنيا أهلاً للرفق والعطف لصار من العسير أن يفسد ما بيني وبينك، أيها القلب.
إن آهة الألم من الحيوان الفاتك هي التي تدل عليه الصائد المغتال حين يطرق الغابة بليل.
وزقزقة العصافير في الظلمات هي التي ترشد الثعابين إلى عشها الأمين.
ورحيق الأزهار هو الذي يسلط عليها خراطيم النحل.
والنور الذي ينبعث من مخدع آمن قد يعرِّض مدينة برمتها إلى غارة جوية.
فما الذي دلَّك عليّ، أيها القلب؟
دلتك القوة؟ دلَّك الرفق؟ دلَّك الضعف؟ دلك الشعر والخيال؟
أنا أعرف أني كتلة جسيمة من الأحلام والأوهام والحقائق والأباطيل، فمن أي جانب نفذت
إلي، أيها الغادر المغتال؟
تخلَّقْ مرة واحدة بأخلاق المحاربين الشرفاء، أيها القلب، وحدثني كيف استطعت النفاذ إلى ما أقمتُ من معاقل وحصون؟
أنت قوة خطرة مخوفة، أيها القلب، ومن حقك أن تَبغي وتستطيل، لأني سوّيتك بيدي، وطوفت بك في الشرق والغرب لأمدك بأصول القوة والعنف، وآية هذا العصر هي نكران الجميل، فلا عتب عليك ولا ملام إن بذلتَ في إيذائي كل ما زودتك به من جهد وعافية (ومَن غرس الرياح جنى العواصف)!
كل حرب إلى سلام، وكل شقاق إلى وفاق، إلا ما بيني وبينك، أيها القلب.
سيتعب أعدائي فينسحبون من ميدان القتال، ولن تتعب أيها القلب، لأنك جذوة من العواطف لا تخمُد ولا تبيد.
فهل تراني أتمنى لك الخمود وأنت صديق؟
الناس على دين زمانهم، أيها القلب، وأنت اصطنعت الغدر طاعةً لزمانك، فكيف لا أستبيح الغدر طاعةً لزماني؟
أتراني ألتفت إلى رعاية الجوار؟ وهل رعيت أنت الجوار ومثواك بين ضلوعي؟
المودّات في الدنيا أخذٌ وعطاء، فكيف تنتظر أن يكون أمري كله إليك، ولا يكون لي سلطان عليك؟
كيف تنتظر ألاّ أتقدم أو تأخر إلا بوحي منك وأنت لا تسمع دعائي مرة واحدة فتَصدِف عمن تسقيهم الشهد ويسقونك الصاب؟
أنت الشريك المخالف، أيها القلب، والشريك المخالف تعوّذ منه الآباء والأجداد. فكيف أسلم من شرك ولن يفرِّق بيني وبينك غير الموت؟
إن أمرك لعجيب غريب، أيها القلب، فأنت تغدر بي، ثم تفي لسائر أصدقائك وأصفيائك.
أنت والله لئيم، أيها القلب، فأنت لا ترعى عهدي لأنك وثقت بأمانتي ثقةً أبدية. وأنت تراعي غيري ممن أحببت لأنك تخشى أن ينقلبوا عليك. والاتجار بالصداقة من أخلاق زمانك، وأنت ابن زمانك، فشرِّق في مكايدتي وغرِّب، فسأبقى بجانبك يوم تنكشف لك أخلاق الزمان فتصبح بلا صديق.
أراك انزعجت، أيها القلب.
الحمد لله، فلا يزال في الدنيا إخوان يزعجهم العتاب. وبالرغم مني أن يرقّ الصخر الذي جعلتُه علامة القِبلة في أوقات الصلوات لا تجزع، يا قلبي، فلن أعاتبك في كل يوم، فلست بالصديق الذي يشوك أصدقاءه بالعتب في كل حين.
أراك غضبت.
اتق الله والحب، أيها القلب، فقد صبرتُ على تجنِّيك عدداً من السنين، وما يجوز لك أن تثور على من ينطق بكلمة الحق مرة واحدة بعد أن صبر على كلمة الزُّور ألوف المرات.
كنت أودّ أن ألقاك بالهجر الجميل، أيها القلب، كما تعودت أن ألقاك في الليالي الخوالي، ولكني رأيتك تعدّ سكوتي علامة من علائم العجز أو دلالة من دلائل الشُّبهات، فاسمع صوتي يا جاحد، لتعرف أني أملك الثورة عليك حين أشاء.
ومن العجز أن تظن أن التفريط في حق الصديق يمرّ بلا عقاب، كما مرّت حسنات الصديق بلا ثواب.
تلك أيامٌ خَلَتْ. فأعدّ نفسك العاشق الذي صحا وأفق.
ما هذا؟ ما هذا؟
أراك تبكي وتنتحب أيها القلب.
أمن دعابة وجهتها إليك يتفجر حزنك وأساك؟
فكيف أكون وقد قضيت السنين الطوال في رأب ما يَصدَع الأصدقاء؟
كيف أكون ولي في كل يوم رفيق يغدر، وصديق يخون؟ أنا أثور عليك أيها القلب؟
وكيف وقد صفحت عن ذنوب قوم أسكنتهم في سوادك؟
أنا الأخير بين من تَعمَى عيونهم عن عيوب الصديق، أيها القلب.
وأنا الأخير بين من لا ترى عيونهم غير محاسن الصديق، أيها القلب.
فاغدر كيف شئت، وليغدروا كيف شاءوا، فأنا أحق من (الحجَر الأسود) بِحَمل الذنوب وسَتر العيوب.
ولن أنطق إلا يوم ينطق الحجر الأسود، فإن نطق فسأعتصم بالصمت.
أتراني أمنّ عليك، أيها القلب؟
أنت الذي تمنّ عليّ، لو شئتَ، وأنت تشاء لأن زمانك منّان، ولكني سأعفيك من رذيلة المنّ على الأصدقاء.
أنا أختلق المحاسن لأصدقائي، فكيف أبخل بالثناء عليك بما أنت له أهل؟ وكيف أجاريك في طمس محاسن الصديق وأنا أقوى منك؟
لا تنزعج من كلمة الحق، أيها القلب، فستسمع مني بعد ذلك ما يرضيك. أنا راضٍ عنك مع جهلك، لأن شعرنا يقول:
ولربما اعتصم الحليم بجاهل
…
لا خير في يُمنَى بدون يسارِ
وعقلي محتاج إلى جهلك، أيها القلب
…
أتذكر ما وقع في صباح اليوم؟
كنت في سيارة عمومية، وصعد زوجان إنجليزيان ومعهما طفل وطفلة، فوثب الطفل إلى صدري يسكن إليه، فنهرته أمه فغضب، وجذبه أبوه من يده فثار وجرى إلى باب السيارة لينزل وهي في جنون السرعة، وخاف والد الطفل فأشار إليه أن يتوجه حيث شاء، فأقبل الطفل على صدري من جديد، وأخذ يشير إلى أخته أن تصنع كما صنع، فقضيت المسافة وأنا أحتضن طفلين عزيزين في رقة الأزهار ونضارة الرياحين.
ونظر الأب والأم إلى هذا المشهد نظرة حنان وهما في عجب عُجاب، فقلت: لا تعجبا يا سيديَّ، فهذان الطفلان يعرفان بوحي الفِطرة أني رجل له قلب. . .
وشاءت ظروف عملي أن أنزل في منتصف الطريق فتشبث الطفل بي وهو دامع العين مكروب، فلثمت جبينه فاستراح، وأوى إلى صدر أبيه وهو جذلان.
وكان ذلك لأنك كنت في صحبتي، أيها القلب.
وأرادت إحدى الغوادر أن تنسى ما صنع قلمي في التشبيب بجمالها الفتَّان فدلت وتاهت، فأصليتها صدّاً بصد وإغضاءً بإغضاء، فهي منذ سبعة أشهر تترضَّاني برسائل تذيب الجلاميد وأنا ألقاها بصمت الأوثان، فهل كان يمكن ذلك إلا لأنك في صحبتي، أيها القلب؟
عندي ألوف من الشواهد على أنك المصدر الأصيل لما أملك من عنفوان القوة والعافية، فإن صح أنك أصل لما قد يساورني من ضعف فذلك دقة النصل في السيف الصقيل.
إليك رجعت يا قلبي، فارجع إليَّ كما رجعتُ إليك:
فاقد يُسعف الجريح أخاهُ
…
ويواسي الغريب في الأحزانِ
(كاتب من الكتاب)
فنلندا أو سوومي
أحدث أمة في أقدم أرض
للدكتور مأمون عبد السلام
تقع فنلندا بين خطي العرض 60 - 70 شمالاً وخطى الطول 19 - 23 شرقاً، فهي في أقصى المعمورة شمالاً، وجوها أدفأ من جو البلاد التي تقع شرقيها على نفس خط العرض بسبب تيار الخليج الذي يمر بها. فمتوسط الحرارة في أبرد شهور السنة خمس عشرة درجة تحت الصفر في لابلندا شمالاً، و5 تحت الصفر في المقاطعات الجنوبية، ومتوسطها في الصيف 17 مئوية في الجنوب و14 في الشمال. ويكسو الثلج الأرض نحو مائة يوم في الجنوب ومائة وخمسين يوماً في الوسط ومائتين وعرين يوماً في لابلندا شمالاً، ويتساقط على ساحلها الجنوبي خمس وعشرون بوصة من الثلج والمطر، ونحو أربع عشرة بوصة في داخليتها الجنوبية. وكثيراً ما يشتد البرد صيفاً فيتلف الصقيع محصولاتهم كما في صيف سنة 1867 إذ أتلف المحصول فمات مائة ألف مزارع في الشتاء والذي تلاه واضطر عدد كبير من الفلاحين إلى النزوح إلى المدن للاشتغال في المصانع ليدفعوا عن أنفسهم غائلة الموت جوعاً.
وفنلندا سابعة دولة أوربية من حيث المساحة التي تبلغ 150. 005 أميال مربعة. فهي أكبر من الجزر البريطانية بما فيها ايرلندا، وهذه المساحة موزعة كما يأتي:
11.
5 % بحيرات أي 16150 ميلاً مربعاً، وأكبرها بحيرة لادوجا التي هي أكبر بحيرة في أوربا، ويصب في هذه البحيرات نهيرات صغيرة تتكون منها تتكون منها شبكة نهرية في جنوب فنلندا كلها صالحة للملاحة ويتولد من تياراتها القوية كميات هائلة من الكهرباء.
و1 ، 6 % من الجزر في البحيرات أي 2385 ميلاً مربعاً.
و1 ، 3 % من الجزر في البحر أي 1968 ميلاً مربعاً.
والباقي وهو 85 ، 6 % عبارة عن أرض قارية.
و73. 6 % من أرض فنلندا تكسوها الغابات و6. 3 % أرض زراعية.
وتقع فنلندا بين بحر البلطيق والبحار المتجمدة الشمالية، وتحيطها الأراضي الروسية والسويدية وجزء بسيط من شمال النرويج، فهي أقصى جمهورية في شمال العالم. وتحتوي
على جزء كبير من لابلندا، وفي جنوبها الغربي على جزائر خليج فنلندا وأرخبيل ألاند، وبه ما لا يقل عن ستة آلاف جزيرة.
وأرض فنلندا عبارة عن عدة هضاب يرتفع بعضها إلى 3750 قدماً عن سطح البحر. وكان عدد سكانها في سنة 1751 نحو 429900 نسمة فارتفع إلى 832650 بعد خمسين سنة، ثم إلى 1. 636. 95 بعد مائة سنة، وإلى 2. 520. 437 بعد مائة وخمسين سنة، وأصبح 2. 712. 562 في سنة 1904. وقد بلغ الآن ثلاثة ملايين وسبعمائة ألف نسمة منهم 88. 7 % فنلنديون يتكلمون اللغة الفينية، و10. 1 % فنلنديون يتكلمون السويدية ثم ثلاثة آلاف من اللابلنديين.
وديانة الفنلنديين المسيحية ومعظمهم 96. 2 % بروتستانتيون لوثريون و1. 8 % روم أرثوذكس، والباقون وهم 2 % يتبعون ديانات مختلفة.
وفنلندا من أقدم أراضي العالم من الوجهة الجيولوجية. ونظراً لكثرة ما فيها من المستنقعات سماها أهلها بلغتهم سوومي أو سوومنما؛ وسماها السويديون فنلندا أي أرض الفِن (بكسر الفاء وسكون النون) بمعنى المستنقع.
وكان يسكن هذه البلاد في الأصل اللابلنديون، فغزاهم أسلاف الفنلنديين الحاليين وأجلوهم عنها فرحلوا إلى أقصى الشمال حيث لا يزالون يعيشون في بيوت يزرعون بجوارها مساحات صغيرة من البطاطس ويقتنون بعض البقر. وهم يحبون الحياة المنزلية الهادئة ويتمسكون بأهداب الدين، فإذا مات أحدهم يحفظون جسمه في صندوق إلى أن ينزل الجليد فيذهبوا به إلى أقرب كنيسة للصلاة عليه. وهم لا يهتمون بالسياسة وما تجره من الحروب، فإذا اعتدى أحد على أراضيهم تركوها له من غير حرب.
وتعيش العائلة في حجرة واحدة مع كلابها. وغذاؤهم السمك ولحم الرنة المجفف وقليل من البطاطس ونبات الخضر الوحيد الذي ينمو في بلادهم واسمه العلمي أنجليكا أركانجيليكا وهو من فصيلة الينسون وله طعمه ورائحته فيأكلونه نيئاً أو مطبوخاً. وهم مشغوفون بشرب القهوة المحلاة بالسكر الكثير؛ وقد ألفوا شرب لبن البقر، وكانوا في الزمن السابق يشربون لبن الرنة.
ويملك اللابلنديون نحو مائتي ألف رأس من حيوان الرنة يخص أغناهم منها نحو ألف
رأس، وهم يجمعونها في الشتاء ويطلقون سراحها للرعي في مايو فتسرح في الوديان للرعي وتذهب إلى العوالي في الليل هرباً من البعوض. ويعرف كل منهم قطيعه بما عليه من علامات الوسم.
وأول من اتصل بهؤلاء الناس راهب روسي اسمه تريفون في سنة 1550 فأسس دير بتشينجا فنشر الرهبان المسيحية بينهم وزرعوا الأشجار وربوا الماشية وشيدوا الكنائس على الساحل، وملحوا الأسماك وبنوا السفن وحفروا طلباً للمعادن وتاجروا مع أركانجل وأنقرس وأمستردام فكانوا يصدرون إليها أسماك السالمون الأحمر. وفي سنة 1589 أحرق السويديون الدير وقتلوا الرهبان، وبذا أصبحت بلاد اللابلنديين فريسة للطامعين من دانمركيين ونرويجيين وروسيين، وصارت مشاعاً للجميع، فكان الكل يطلبها والكل يرسل إليها عماله لجباية الضرائب من أهلها المساكين الذين كانوا يدفعون الضرائب للروسيا والنرويج والسويد في آن واحد.
وقد ورد ذكر الفنلنديين في التاريخ من سنة 2500ق. م وهم قوم من الفرع الأوجرو الفيني فهم بذلك طورانيون من العائلة الألطية الأورالية التي انتشرت في كل فنلندا ولابلندا ومقاطعات البلطيق المسماة أستونيا وليفونيا وكورلندا، وعلى ضفتي نهر الفولجا وبيرم وفولوجدا، وغرب سيبيريا بين جبال الأورال وبنيسي، وفي بلاد المجر فهم يمتون بصلة الدم؛ إلى الأتراك والبلغاريين والمجريين.
وقد كانوا في مبدأ أمرهم بدوا رحلاً يعيشون من الصيد فنزحوا غرباً واستولوا على ما هي فنلندا الآن في القرن السابع أو الثامن الميلادي، وكانوا يعيشون إذ ذاك في مجاميع مستقلة وفي قرى لا يربطها أي نظام حكومي. وكانت ديانتهم الوثنية إذ كانوا يعبدون القوى الطبيعية فجعلوا للرياح إلهاً سموه (أوكو) وآخر للغابات سموه (تابيو) وثالثاً للماء اسمه (أهتى). وكانت الشجاعة والإقدام من صفاتهم فسببوا متاعب شديدة لجيرانهم فقد هاجموا شواطئ السويد مدة طويلة فجرد عليهم ملك السويد أريك التاسع في سنة 1157 ميلادية جيشاً عرمرماً وبصحبته بطريق أوبسالا المسمى هنري الإنجليزي فغزا البلاد وأدخل أهلها في المسيحية ورجع تاركاً جزءاً من جيشه ليتمم غزو البلاد، والبطريق هنري وقساوسته ليعمد أهلها فقتل البطريق هنري بعد مدة وأصبح فيما بعد قديس فنلندا وشفيعها.
ولكن الفنلنديين دافعوا عن استقلال بلادهم ورفعوا نير السويد عنهم ثم ارتدوا إلى وثنيتهم الأولى إلى أن جاءهم في سنة 1209 مبشر إنجليزي آخر اسمه البطريق توماس فأعادهم إلى المسيحية ونجح في فصل فنلندا تقريباً عن السويد وجعلها مقاطعة تابعة رأساً للبابا.
وقد اضطرت السويد من جراء الحروب المتتالية بينها وبين الروسيا أن تحتل فنلندا فاحتلتها زهاء ستمائة سنة وأدخلتها ضمن مملكتها. وفي سنة 1323 جعلت حدود فنلندا هي الحد الفاصل بينها وبين روسيا. وقد نشر السويديون مدنيتهم وثقافتهم بين الفنلنديين فعلموهم الزراعة وشتى ضروب الفنون والصناعة، ومنحوهم نفس الحقوق التي يتمتعون هم أنفسهم بها.
وفي سنة 1528 أدخل جوستاف فاسا الديانة البروتستانتية في فنلندا التي رفعها الملك جون الثالث إلى درجة دوقية عظمى.
وقد خسرت فنلندا خسائر كبيرة من الحروب المستمرة بين السويد والروسيا والدانمارك.
وفي أوائل القرن السابع عشر أسس الملك جوستافوس أدولفوس مجلس النواب الفنلندي المسمى (ديات) وجعل أعضاءه من أربع طبقات: الأشراف ورجال الدين وأصحاب الأراضي والفلاحين. وقد شجع التعليم فأنشأ المدارس وأدخل الطباعة وشيد الكنائس.
وفي حكم شارلس التاسع (1692 - 1696) تحملت البلاد شدائد ومتاعب عظيمة من جراء ما حل بها من القحط والأوبئة فهلك في أبرشية (أبو) نحو ستين ألفاً في أقل من تسعة أشهر.
وفي سنة 1716 ضم بطرس الأكبر قيصر الروس فنلندا إلى أملاكه، ثم استردتها السويد بعد ذلك ولكنها تخلت عنها وعن جزر ألاند في سنة 1808 للروسيا، ونظراً لما رآه إسكندر الأول الروسي من شجاعة الفنلنديين فقد أبقى فنلندا كدولة شبه مستقلة وجعلها تحتفظ بقوانينها وعاداتها فاجتمع البرلمان الفنلندي ونادى به دوق فنلندا العظيم فأقسم على احترام دستور البلاد وديانتها وشرائعها وحريتها. واستمرت مدينة (أبو) عاصمة للبلاد حتى سنة 1821 ثم انتقلت إلى هلسنكي ولم يجتمع البرلمان بعد ذلك لمدة 56 سنة، ثم دعاه اسكندر الثاني في سنة 1863. وفي حكم اسكندر الثالث نقض الروس عهودهم وأنزلوا بفنلندا من ضروب الاضطهاد ما غرس بذور الحقد والكراهية لهم في قلوب الفنلنديين الذين
حاربوا من أجل استقلالهم، فازداد الروس قسوة وطغياناً وحاولوا فرض لغتهم وديانتهم وقوانينهم قسراً على الفنلنديين وملئوا البلاد بالجواسيس، فهب الفنلنديون للدفاع عن حريتهم وأعلنوا الإضراب العام في سنة 1905 واشتركت الأمة فيه على اختلاف طبقاتها في كافة أنحاء البلاد فتعطلت المواصلات والبريد والتلغرافات والتلفونات وأغلقت المدارس ودور الحكومة والمتاجر، واضطرت الحكومة الروسية إزاء اتحاد كلمة الفنلنديين أن تجيب طلباتهم بمرسوم إمبراطوري صدر في 7 نوفمبر سنة 1905. ولكن الروسيا حاولت ثانياً حد سلطة البرلمان، فثار الفنلنديون في سنة 1908 وسنة 1910 وقاوموا الروس بشدة ورفضوا أن يتجندوا في الجيش الروسي الممقوت ودفعوا 20مليون مارك سنوياً ليعفوا من الخدمة العسكرية.
ولما استقرت نيران الحرب العظمى أعلن برلمان فنلندا حياد البلاد فقطع بذلك كل علاقة بين فنلندا والروسيا. وقد أعلن الفنلنديون أنهم لا يحاربون إلا من أجل فنلندا.
ولما أُلفت الحكومة البلشفية في الروسيا اعتقد بعض الفنلنديين أن من مصلحة البلاد الدخول ضمن الاتحاد السوفيتي فقامت من جراء ذلك حرب أهلية بين الحمر الفنلنديين والبيض من أهل فنلندا بقيادة المارشال مانرهايم بطل فنلندا الذي استولى على هلسنكي وطرد البلاشفة؛ وهو بعينه الذي يحاربهم الآن.
وفي سنة 1919 نودي بفنلندا جمهورية مستقلة لأول مرة في تاريخها، فهي بذلك أحدث أمة مستقلة في العالم.
وفي سنة 1920 التحقت فنلندا بعصبة الأمم وتنازلت الروسيا بمقتضى معاهدة دوربات عن الجزء الضيق الذي فيه ميناء بتسامو لفنلندا، وبذا أخذت في إنشاء الطريق القطبي العظيم الذي لا مثيل له في العالم.
والعَلم الفنلندي مكون من اللونين الأزرق والأبيض رمزاً إلى زرقة السماء والماء وبياض الجليد.
والفنلنديون أقوياء الأجسام وهم في الأصل ربعون ذو رؤوس مستديرة وجباه منخفضة وجلود تضرب إلى السمرة وعظام خدودهم بارزة وشعر ذقونهم خفيف؛ وشعرهم أسود لامع طويل، وهذه من صفات المغول ولكنهم تزاوجوا مع من جاورهم من الأمم فدخل فيهم
الدم النوردي الأسوجي والصقلبي الروسي؛ فأصبح شعرهم بنيا أو أحمر أو أشقر، وتحسنت سحنهم عن أسلافهم.
ولا يزال الفنلنديون يحتفظون بعاداتهم البدوية التي ورثوها عن أسلافهم المغول، فهم كرماء للضيف محبون للحرية والاستقلال ميالون للانتقام، وهم أهل عفة وأمانة وطهارة وحسن خلق، يحبون وطنهم حباً يقرب من العبادة، لذلك لا يهجرون ديارهم إلا قليلاً.
والفلاح الفنلندي مجد صبور يجهد نفسه في استغلال أرضه. ويكون الفلاحون 87 % من الأمة الفنلندية. وألد أعداء الفلاح الصقيع الذي ينزل في يونيه فيتلف محصولاته الجذرية.
وقد ازدادت مساحة الأراضي المزروعة ولكنها ليست متصلة في مساحات شاسعة بل هي حقول منفصلة تتخللها غابات ومستنقعات. وتبلغ المساحة المزروعة نحو 6. 3 % من المساحة العامة. وتعمل الحكومة على إكثارها بتجفيف المستنقعات وإصلاح أرضها. ولكنها لن تبلغ أكثر من 12 % من المساحة العامة على أكبر تقدير. وتوزع الأراضي الزراعية بالنسبة المئوية الآتية:
52.
1 ملكيات فردية
39.
7 ملك الدولة
6.
5 ملك جمعيات تعاونية
1.
7 ملك جمعيات أخرى
ومحصولات فنلندا محدودة؛ فهي تقتصر على الغلال كالقمح والشعير والزمير والجويدار وبعض المحصولات الجذرية كبنجر السكر واللفت والبطاطس ونباتات العلف. وتزرع هذه المحصولات بالنسبة المئوية الآتية:
50.
7 نباتات علف
18.
9 زمير
9.
6 جويدار
5.
4 شعير
3.
3 بطاطس 12. 1 محصولات أخرى كالقمح والبنجر والكتان
وفنلندا غنية بنباتاتها، وقد درست الفلورا الفنلندية دراسة مستفيضة فقسم النباتيون البلاد
إلى 28 مقاطعة بحسب ما فيها من أنواع النبات. وقد بلغ عدد الأنواع النباتية الفنلندية 1132 نوعاً موزعة كما يأتي:
318 -
400 نوع في لابلندة
508 -
651 في كاريليا
752 في فنلندا الأصلية
ولا يوجد في فنلندا نباتات ألبيه ولكنه يوجد منها في شبه جزيرة كولا 32 - 64 نوعاً.
وتبلغ مساحة الغابات في فنلندا نحو 63 مليون فدان، منها نحو 35 مليوناً ملك للدولة. وقد حصروا أشجار هذه الغابات فوجدوا أن مكعب جذوعها النامية يبلغ 57214 مليون قدم مكعب من الخشب. ومنها 60. 7 % من الصنوبر البري و28. 1 % من شجر الأسبروس و11. 2 % من خشب البيرش. ومن أشجار الغابات المهمة عندهم شجر البيرش القصير، والحور، واللارش السيبيري الذي أدخلوه في القرن الثاني عشر. ويبلغ مقدار ما يقطعونه من الأشجار سنوياً نحو ستة ملايين شجرة يلقونها في مجاري المياه المتدفقة التي يبلغ مجموع طولها في فنلندا نحو 65 ألف ميل فتعوم إلى أن تصل إلى الآلات الخاصة بقطعها ونشرها بالتيار الكهربائي المتولد من مساقط المياه استعداداً لتصديرها وصنع لب الورق ومشتقات الأخشاب منها.
ويوجد في فنلندا خمس مدارس للغابات، مدة الدراسة فيها سنتان. وتعطي جامعة هلسنكي دراسة في الغابات مدتها ثلاث سنوات. ويمكن للطالب أن يحصل منها على درجة الأستاذية والدكتوراه في الغابات. ولجامعة فنلندا غابات للتمرين. وقد أنشئت من ثلاثين سنة مضت جمعية للغابات يتبعها معهد للبحوث تديره الحكومة وتدرس فيه علوم الغابات ويتبعه عدة غابات للتجارب ولتدريب عمال الغابات. وتطبع هذه الجمعية ثلاثة أنواع من النشرات. وتنفق الحكومة الفنلندية على أبحاث الغابات مليونين من الماركات سنوياً.
وجميع مزارع فنلندا وطرقها تصرف في مصارف وخنادق عميقة. وأرضها غنية بالدبال، ولدفء جوها في الجنوب ينمو الخشخاش والبانزي والفوشيا وتكثر المزارع والحقول والضياع بما فيها من المناحل وأكوام الدريس والأخشاب المقطوعة.
ويشكر الفنلنديون الله على استقلالهم. فقد مكنهم من أن يمتلكوا أراضيهم إذ كان ذلك
مستحيلاً تحت الحكم الروسي، ولكنه أصبح من الممكن في أوائل القرن العشرين أن يمتلك المزارع الفنلندي الأرض التي يزرعها فبلغ ما ملكه الزراع في سنة 1901 نحو 40 % من الأرض الزراعية والباقي أراض محكرة ولم تأت سنة 1929، حتى أصبح 90 % من أرض فنلندا ملكاً لفلاحيها. ويرجع الفضل في ذلك إلى قانون ليكس كاليو الذي صدر في سنة 1922 نسبة إلى كيوستي كاليو زعيم الحزب الزراعي الفنلندي. وبمقتضى هذا القانون أجبر كبار الملاك على بيع أراضيهم الواسعة بأثمان زهيدة جداً لصغار الزراع، فترتب على ذلك وجود طبقة وسط من صغار الملاك فأصبحت فنلندا في مأمن من انتشار الشيوعية. وتمد الحكومة صار المزارعين بالنصح والإرشاد والمساعدات المالية.
ويحصل المزارع من أرضه على جزء بسيط من غذاءه وغذاء عائلته، فهو يعتمد إذن في معيشته على ألبانه ومشتقاتها، وعلى ما يتقاضاه من الأجر من قطع الأخشاب وما يستعمله منها في بناء بيته وفي وقوده، فمن ذلك ترى أن فنلندا لا تقوم كقطر زراعي بحاجة سكانها.
ومعظم مزارع فنلندا صغيرة. ولا تزال مزارع شرق كاريليا وشمالها في حالة أولية محضة، ولكن المزارعين يقبلون على المستحدثات الزراعية بشغف، فترى كل جماعة منهم يشتركون في شراء آلة زراعية حديثة ليستعملوها شركة بينهم.
وقد توصل البروفيسور فيرتانين الأستاذ بجامعة هلسنكي إلى طريقة لحفظ العلف في الشتاء وذلك بعمل حفرة في الأرض يكوم فيها العلف الذي لم يتمكنوا من تجفيفه، ويكومون فوقه الأجزاء الخضر المتخلفة من المحصولات الجذرية المختلفة، ويرشون فوق الكومة محلولاً كيميائيا يجعل العلف طرياً ويحتفظ بخمس وتسعين في المائة من مواده الغذائية التي تبلغ في الدريس العادي 60 - 65 %. ويمتاز العلف المحفوظ بهذه الطريقة بأنه ليس له رائحة كريهة كالتي توجد في العلف المحفوظ بطريقة السيلو القديمة. ولذلك تقبل الماشية على أكله إقبالها على العلف الأخضر. وقد نجحت هذه الطريقة نجاحاً باهراً، وانتشرت في البلاد الأجنبية تحت اسم علف.
(البقية في العدد القادم)
مأمون عبد السلام
الفروق السيكولوجية بين الأفراد
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
ومن بين علماء النفس الألمان الذين ساهموا بنصيب في دراسة الفروق السيكولوجية بين الأفراد ووضع مقاييس للذكاء كريبلين وكانت مقاييسه لاختبار سرعة الإدراك أن يطلب إلى المختَبر (بفتح الباء) أن يعُدَّ بأسرع ما يمكن حروف الكاف (ك) الموجودة في مقالة، أو أن يضع بقلم الرصاص علامة على كل حرف (راء) في قطعة مكتوبة، أو أن يعرض على المختبر قطعة مطبوعة بها بعض الأغلاط الإملائية أو الحروف الساقطة ويطلب إليه أن يوجد مواضع الأغلاط والحروف المفقودة. كذلك وضع اختبارات لقياس الذاكرة الرقمية ليكشف الحد الأعلى من الأرقام التي تستطيع أن تستعيده ذاكرة الفرد إذا عرضت هذه الأرقام مدة خمس عشرة ثانية مثلاً، واختبارات أخرى لقياس القدرة على تذكر الكلمات (الفارغة) مثل: غضذ، ثظ، قصخ خخق الخ، وغير هذه الاختبارات التي أسفرت عن أن لكل فرد خواص عقلية وذوقية تميزه عن غيره. ولكن كريبلين أدركه اليأس حينما ساقه البحث إلى أنه لا يوجد تلازم مطرد بين نتائج هذه الاختبارات المختلفة للفرد الواحد. وقد حكم من عدم اطراد التلازم أنه لا يمكن الاعتماد على مجموعة هذه الاختبارات في قياس الذكاء. وهو يقول في ذلك:(إننا لا نستطيع أن نخفي عن أنفسنا أن النتائج التي وصلنا إليها بعد هذه الاختبارات والبحوث الطويلة لم تحقق ما كنا نتوقع من وضع مقاييس مضبوطة للذكاء، تقاس بها العمليات العقلية البسيطة).
كان لتقدم علم النفس التجريبي في أواخر القرن التاسع عشر أن ظهر علم النفس التطبيقي وفكر العلماء في كيفية الاستفادة من نتائج قياس الفروق السيكولوجية بين الأفراد، ومعرفة الخواص العقلية والجسمية والخلقية لكل فرد للاستفادة منها في المهن والصناعات، وكانت غايتهم هي أن يختاروا لكل مهنة الفرد الصالح لها، أو كما يقولون ومن الغريب أن أول من قام بتجارب الاختيار المهني هو مهندس ميكانيكي أمريكي لا علاقة له بعلم النفس، يسمى تيلور كان موظفاً في شركة لصنع العجلات. وكانت في مصنع العجلات مهنة فنية تحتاج إلى أفراد سريعي الرجع (رد الفعل). وقد اختبر المائة والعشرين فتاة المشتغلات في هذه المهنة فوجد أن عدداً كبيراً منهن بطيء الرجع، فاضطر إلى فصل
البطيئات وإبقاء السريعات، وعددهن خمس وثلاثون. وكانت النتيجة أن هؤلاء الفتيات الخمس والثلاثين أمكنهن أن يعملن نفس العمل الذي كانت تقوم به المائة والعشرون فتاة وفي زمن أقل. وقد نشرت نتائج هذه الاختبارات في سنة 1903، وأثارت اهتمام علماء النفس وبخاصة القائمون منهم بدراسة الفروق الفردية السيكولوجية ومن بين هؤلاء الأفراد البروفيسور هوجو مونستربرج الألماني. وكان حينئذ أستاذاً لعلم النفس في جامعة هارفرد بأمريكا، فأجرى عدداً كبيراً من التجارب لمعرفة الفروق الفردية، وخصائص كل فرد، والمهنة التي تليق له أو يليق لها. وطبع في ذلك كتاباً سماه (علم النفس والكفاية الصناعية). وقد عالج مونستر برج في هذا الكتاب موضوع المواهب الطبيعية واللياقة المهنية. وهو يرى أن لكل فرد خواص ومميزات تجعل شخصيته أو تكوينه صالحاً لنوع من العمل دون نوع آخر. ومن العبث والإسراف الاقتصادي ألا يكون الفرد صالحاً للمهنة التي يقوم بها، أو أن يُعَدَّ لغير المهنة التي يصلح لها بطبيعته، ولا بد إذاً من اختبار الأفراد، ومعرفة مواهبهم واستعدادهم، ومقدار ذكائهم، ونوع ميولهم ومقدرتهم الجسمية وأمراضهم وأخلاقهم حتى يوكل إلى كل منهم العمل الذي يصلح له. فمن المعقول أن الرجل الذي يصلح لأن يكون سائق ترام قد لا يصلح لأن يكون ناظر زراعة، ومن يصلح لأن يكون محامياً قديراً قد لا يمكن أن نخلق منه طبيباً نطاسياً. وإذاً فلا بد من اللياقة المهنية - حتى يستطيع الفرد أن ينتج أكثر ما يمكن من إنتاج في أقل ما يمكن من زمن، وبأقل ما يمكن من مجهود، وهو في أكثر من راحة وسعادة. فلو نجحنا في كشف الرجل الصالح لمهنة بذاتها لأمكننا أن نقتصد في الزمن والمجهود والمال، وأن نرقى من نوع الإنتاج وكميته، وكذلك نجعل العامل سعيداً في عمله. يقول مونستربرج:(حينما نبحث في الفروق السيكولوجية بين الأفراد ونذكر كلمة (خصائص) الفرد نستعمل هذه الكلمة في معناها الأعم. فهي تشمل القوى العقلية للفرد التي قد تكون كامنة، والتي قد تظهر وتحيا تحت ظروف خاصة، وتشمل أيضاً الصفات الثابتة لشخصية الفرد مزاجية كانت أو خلقية، كما تشمل معارف الإنسان وتجاربه المكتسبة. ويدخل ضمن ذلك كل أنواع الإرادة، والشعور، والإدراك، والتفكير، والانتباه، والعاطفة، والذاكرة، والخيال. إن العالم النفسي حينما ينظر إلى الفرد يجده مجموعة من هذه القوى السابقة؛ ولكنا في الحياة العملية وحينما
نريد أن نكل لفرد عملاً يجب أن ننظر أولاً إلى أخلاط الخصائص التي تكون شخصيته بغض النظر عما إذا كانت هذه الخصائص وراثية أو مكتسبة، وعما إذا كانت خاصة بالفرد أو شائعة في أسرته، أو في قبيلته، أو في جنسه ومن دراسة هذه الخصائص المتداخلة يتضح لنا أن بعض الناس أصلح من بعض للقيام بنوع من العمل).
ويحتج مونستربرج على جعل الامتحانات المدرسية والشهادات العلمية مقياساً لكفاية الفرد وصلاحيته للعمل الذي يقوم به، إذ أنه ليس من المعقول أن الامتحان المدرسي يقيس غير المعلومات المكتسبة، ولا يكشف لنا شيئاً من خصائص العقل وخصائص الخلق. ويعيب أيضاً على الآباء أن يختاروا لأبنائهم الدراسات التي يرغبون فيها، فإن مجرد الرغبة ليس معناه أن هناك ميلاً طبيعيّاً حقيقياً إلى الشيء. فالأولاد في سن الصغر لا يعرفون شيئاً عن استعدادهم وميولهم الطبيعية. وقد يرغب اليافع في أن يكون طبيباً لأن أخته تتحدث بإعجاب عن زوجها الطبيب، أو أن يكون ضابطاً حربياً لأن قريبه ضابط حربي جميل المظهر. وقد يعرف الآباء حقيقة ميول أبنائهم واستعدادهم ولكن ذلك يجيء في الغالب متأخراً.
وضع الأستاذ مونستربرج اختبارات مختلفة لقياس الذكاء، ولقياس المواهب الخاصة، كاختبار القراءة المرتفعة السريعة، وكمطالبة المختبر بذكر ألوان الأشياء التي تتلى عليه، وكتقسيم مجموعات من النباتات أو المعادن إلى أنواعها المتشابهة، واختبار القدرة على الجمع والطرح بسرعة. وكذلك وضع اختبارات لقياس القدرة على تقسيم الخطوط إلى أقسام متساوية، أو رسم خطوط تساوي خطوطاً أخرى معينة، واختبارات أخرى لمعرفة مكان صدور الصوت ونوعه.
قلنا إن مونستربرج عالج موضوع اللياقة المهنية، ونادى بضرورة اختيار أنسب رجل لكل مهنة. ومن الأمثلة التي يسوقها لتأييد رأيه أن من الناس من هم (عمى الألوان) - فلا يستطيعون أن يفرقوا بين اللون الأحمر واللون الأخضر. فهؤلاء لا يصلحون لوظائف إشارات السكة الحديدية، ولا سياقة السيارات والقاطرات، إذ لا يخفى ما يحدث من خطر إذا التبس اللونان على السائق، وكذلك لا يصلحون لمهنة النقاشة التي تحتاج للتمييز بين الألوان في التصوير والتلوين.
وقد أجرى بعض التجارب لمعرفة الصفات العقلية الضرورية لسائق الترام والسيارات، فوجد بطريق الإحصاء أن بعض السائقين لم يحدث منهم أي خطأ طول مدة سياقتهم، بينما غيرهم عرضة دائماً للأخطاء بالرغم من حرصهم الشديد. ووجد أن أهم صفات السائق هي حدة الانتباه واستمراره، وعدم تشتت الفكر بما يحدث في الطريق أثناء السياقة، ودقة الحكم في تقدير حركات الراجلين والسائقين، وسرعة الرجع وضبط الأعصاب. واخترع آلة بسيطة أمكن بها معرفة خير الأفراد لمهنة السياقة.
كذلك أجرى تجارب لمعرفة الصفات الضرورية لرّباني السفن الذين قد تودي غلطة واحدة منهم بأرواح الآلاف من الناس. واخترع لعبة مكونة من أربع وعشرين بطاقة استطاع بها أن يعرف الأفراد الصالحين لقيادة السفن.
وقد وُكِلَ إليه أن يضع مقاييس لمعرفة أليق العاملات في مركز التليفون (السنترال) فوضع مجموعة اختبارات للذاكرة والانتباه والذكاء والدقة والسرعة. وأجرى هذه التجارب على فَصْل من العاملات مكون من ثلاثين وهي تتلخص فيما يأتي:
الذاكرة: قراءة عددين مكونين من أربعة أرقام وعددين من خمسة وعددين من ستة وهكذا إلى اثني عشر، ثم مطالبة العاملات بكتابة ما يذكرن من هذه الأعداد كل واحدة في ورقتها.
الانتباه: أعطى كل عاملة نسخة من المقالة الأولى في جريدة يومية، وحدد لهن زمناً، وأمرهن أن يضعن علامة بقلم الرصاص على كل حرف في هذه المقالة.
الذكاء: قرأ على العاملات أربعة وعشرين زوجاً من الكلمات وكان بين كلمتي كل زوج ارتباط منطقي مثل: جوع وأكل، ونار واحتراق، وعين ودموع، وماء وبخار، وأسود وأبيض الخ ثم ذكر بعد ذلك أربعاً وعشرين كلمة مفردة على أن تقترح العاملة لكل كلمة كلمة أخرى ذات علاقة منطقية بها.
الدقة: تقسيم خطوط مختلفة الطول إلى أنصاف.
السرعة في حركة اليد: أعطى كل عاملة صفحة من أوراق المربعات، وطلب إلى كل العاملات في الفصل أن يرسمن في زمن مخصوص أكثر ما يمكن من أقطار المربعات على أن تكوِّن خطوطاً متصلة منكسرة.
ثم تبع هذه الاختبارات الجمعية باختبارات أخرى فردية لقياس دقة الحركة وسرعتها معاً.
أما مقدار نجاح هذه الاختبارات فيحدثنا عنه مونستربرج بقوله: (لقد قارنت نتائج هذه الاختبارات بتقارير شركة التليفونات بعد أن مضى على هذه العملات الثلاثين ثلاثة أشهر في العمل فوجدت أن نتيجة المقارنة تؤيد تجاربي بصفة عامة).
(بخت الرضا. السودان)
عبد العزيز عبد المجيد
من وراء المنظار
دُبٌ في الترام!. . .
أرى الناس في هذه المركبة أبداً مرهفي الأعصاب، وقل من رأيته فيها مطمئناً هادئاً، وعلى الأخص في الصباح وعند الظهيرة؛ وليس الأمر قاصراً على الراكبين، فقاطع التذاكر عصبي اللفتة عصبي الكلمة عصبي الزمارة؛ والسائق من فرط يقظته، أو من فرط توجسه مما يخبئه له القدر، زائغ البصر، مذعور الوجه والعينين؛ يغضب لأي بادرة، وينفذ صبره - إن كان ثمة لديه من صبر - لأقل سبب أو لغير سبب!. . .
وأمر قاطع التذاكر وصاحبه يمكن أن نرده إلى أسبابه في غير مشقة. . . ولكنني من أمر الراكبين في حيرة! مم تضيق صدورهم وتنقبض نفوسهم، حتى لتقع العين منهم على قوم كأنما يساقون على رغمهم إلى ما لا يحبون؟. . . أيكون مرد ذلك إلى أنهم في الصباح مقبلون على عبء اليوم من العمل، فهم متبرمون عابسون، وأنهم في الظهيرة خارجون من أعمالهم فهم مكدودون ساهمون؟ أم يكون ذلك لأنهم يستبطئون هذه المركبة وليس لهم عنها منتدح؟. . .
ومهما يكن من سبب، فتلك ظاهرة أشاهدها في معظم الوجوه كل يوم، ولم أخل أنا منها، ولكنني لا أتبرم من العمل أو يؤودني حمله، وليصدقني القارئ في ذلك أو فليكذبني إذا شاء فليس هذا ما أردته بهذه الكلمة.
وإنما أردت أن أصور له منظراً رأيته جديراً بأن يغضب الراكبين جميعاً ولو كانوا كلهم هادئين: فهذا شاب من شبابنا المثقفين، أو ممن يدعون من الوجهة الرسمية (مثقفين)، انتهت المسافة التي تبلغه إلى نهايتها تَذْكرته؛ فطلب إليه قاطع التذاكر أن يدفع أجراً جديداً إذا شاء أن يستمر راكباً، ولكن صاحبنا أبى ذلك دون أن يبدي أية علة، ثم استكبر أن يجادل الرجل؛ فاتجه ببصره إلى الأمام، ورفع رأسه إلى آخر ما يستطيع حتى كادت تتدلى إلى الخلف!. . .
ونفخ الرجل في زمارته، فوقف الترام، وانتزع السائق مفتاحه، وجاء إلى حيث وقف صاحبه، ووقف خلف هذا الترام خمسة غيره أو ستة، وأخرج معظم الراكبين ساعاتهم، وشاعت في وجوههم إمارات الغضب والقلق والاستنكار. . .
وجاء نفر من هؤلاء العمال، ووقفوا جميعاً ينظرون إلى هذا الذي كان سبباً في هذا التوقف: فرأوا فتى بادي الفتوة، عبل الساعدين، عريض المنكبين، غليظ العنق؛ ورأوه لا يلتفت إليهم، بل لا يعبأ بتلك النظرات التي رشقته من كل ناحية من نواحي العربة - وهو في جلسته - شامخ الرأس، هادئ المحيا كأن لم يجر حوله شيء!. . .
وحار هؤلاء العمال - أول الأمر - ماذا يصنعون، وليس فيهم من عابث من قبل دباً أو قرب منه؟!. . . ثم استجمع أحدهم قوته وقرب من هذا الدب وهو على أهبة أن يقفز إلى الخلف عند أية بادرة منه: ثم رجا منه أن يدفع الأجر حتى لا يتعطل الناس. فرماه الدب بنظرة كانت وحدها كافية لأن ينكمش ويتراجع من فوره!. . .
وازداد الناس ضيقاً وسخطاً وقلقاً، وبلغ حنقي غايته. . . ثم جرؤ أحد الراكبين فاقترب من الدب في هيئة لم يسعني معها إلا أن أضحك على الرغم من غيظي. فقد أخذ هذا الراكب يتلطف ويتظرف، ويحاول أن يبتسم، فلا يستطيع من فرط حنقه. . . فيرفع شفته العليا من إحدى زاويتيها، ويكشف عن أسنانه كأنه يبتسم! ثم يربت على كتف الدب ويقول وهو يلوي عنقه مبالغة منه في التواضع:(ألا ترى أنك بهذا تسبب عطلاً لنا جميعاً؟).
. . . وكأن الدب لم يعبأ به لضعفه فلم يزد على أن قال له في هدوء: (أنت حضرتك عاوز تتفلسف؟). . . وانكمش الرجل ولم يلتفت بعدها إلى الخلف أبداً. . .
وكان في العربة بعض الأجانب، فتخاطبوا بالأحداق، وعلقوا على المنظر بالإيماء والابتسام. . . وكان قاطع التذاكر المسكين قد ذهب ليحضر الشرطي، فعاد وهو في صحبته، وقد بلغ قلق الناس أقصاه! وسمع الشرطي القصة. . . فما كان أشد عجب الناس أن يسمعوه يعنف (الكمساري) ويلومه قائلاً له:(ياعني يا سيدي هم الستة مليم دول اللي حايزودوها؟ اطلع يا شيخ بلا عطلة دي محطتين أو ثلاثة وينزل)!!
وكان خزيي أمام الأجانب وخزي الراكبين جميعاً مما فعل الشرطي أعظم مما فعل ذلك الفتى المدل بقوته. ولعله خاف أن يقرب منه كما خاف غيره، وأمره في ذلك أدهى وأمر. . .
وقلت في نفسي: متى تشيع فينا الآداب الاجتماعية؟ ومتى نحس بالوسط الاجتماعي؟. . . ورجوت أن ينسى هؤلاء الأجانب هذا الحادث وأشباهه إذا حدثوا قومهم عن مبلغ ما
وصلنا إليه من المدنية، فبهذا تقاس المدنية الحق، كما رجوت ألا يحكموا على شرطتنا جميعاً بما رأوا من هذا الشرطي.
(عين)
أفانين
بين الخوارزمي والهمذاني
للأستاذ علي الجندي
- 1 -
من أروع ما وعاه تاريخ الأدب في صفحاته تلك المناظرة الحادة العنيفة بين إمامين من أئمة الأدب، أبي بكر الخوارزمي وبديع الزمان الهمذاني، وقد أسفرت عن هزيمة أولهما هزيمة ساحقة، لم يقو على احتمالها فقضى نحبه بعدها بقليل!
ما ذكرت تلك المصاولة قط إلا غام الحزن على عيني، وملأ شِعاب قلبي، وشعرت للبديع بمقت شديد يكاد يعقل لساني عن الترّحم عليه!
ففي الحق أن هذا الرجل بالرغم من وصف الثعالبي له: بحسن العشرة، ونصاعة الظرف، وعظم الخلُق، وشرف النفس وكرم العهدة، وخلوص الود، وحلاوة الصداقة، قد التاثت نفسه بأمراض تتوارثها الكثرة الكاثرة من الأدباء جيلاً بعد جيل، وتتمثل في تلك الصورة الشوهاء من حدة الغيرة، وفرط الأثرة وحمل الحقد، وحب الانتقام والزراية على النظراء والسعي الجاهد في هدمهم بالحق والباطل، حتى كاد مدلول الأدب لطول ما اتسم أصحابه بهذه المثالب، يرادف في الأذهان نشوز الطبع وانحراف المزاج، وانحلال الخلق، والتمرد على الشرائع المرعية والارتكاس في الخلاعة والمجون، ورحم الله من قال:
ليس الأديب أخا الروا
…
ية للنوادر والغريبْ
ولشعر شيخ المحدَثين (م)
…
أبي نواس أو حبيب
بل ذو التفضل والمرو
…
ءة والعفاف هو الأديب
ولد أبو بكر محمد بن العباس الخوارزمي (بخُوارِزْم) ونشأ بها متأدباً، وإن كان أصله من طبرستان ثم جاب الأقطار من الشام إلى أقصى خراسان في تحصيل العلم والأدب، فبرع في كل فن من فنون العربية، وغزر محصوله من اللغة والشعر حتى كان يحفظ عشرين ألف بيت من شعر النساء خاصة.
ورشحه فضله لخدمة الملوك والأمراء والوزراء في الدويلات المتفرعة من الخلافة
العباسية، وكانت خاتمة مطافه، مدينة نيسابور من أعمال خُراسان، فاتخذها دار إقامة، واقتنى بها الدور الفاخرة، واعتقد الضياع المُغِلّة، وفرغ إلى الكتابة والشعر وتصدّر للتدريس، وظن أنه يستطيع أن يقضي بقية عمره هادئ النفس ناعم البال، في ظل النعمة الفاشية والثراء الواسع والجاه العريض، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه، فقد مُنِي بهذا الواغل الدخيل، فنغّص عليه عيشه، وشاب صفو حياته، وساقه إلى الفناء الذريع!
ولم يكن الخوارزمي دون الهمذاني في حوك القصائد، وتحبير الرسائل، وجمع اللغة، وحفظ الأشعر والأخبار، بل ربما كان أوفر منه حظاً في كل ما يتصل بالنقل والرواية؛ ولكن الهمذاني كان يمتاز بحدة القريحة وحضور البديهة وشدة العارضة وسرعة الخاطر وقوة الارتجال، وهي أمضى سلاح يملكه المناظر لقهر خصمه وإقحامه.
وما ظنك برجل كان يُنشد القصيدة تبلغ خمسين بيتاً لم يسمع بها قط، فيحفظها كلها ويؤديها لا يخرم منها حرفاً واحداً! ويُقترح عليه إنشاء قصيدة أو رسالة في معنى من المعاني، فيفرغ منها في الوقت والساعة! وينظر في أربع أوراق أو خمس من كتاب نظرةً طائرة فيحفظها ويسردها عن ظهر قلبه! ويُقترح عليه الكتاب فيبتدئ بآخر سطر منه، وينتهي بأوله ويخرجه كأحسن شيء وأملحه! وتُلقى عليه الأبيات الفارسية فيترجمها شعراً إلى العربية جامعاً بين الإسراع والإبداع! إلى غير ذلك من العجائب والغرائب التي يحلو لي أن أسميها بشعوذة البيان!
ومع أن هذه الصفات مواهب عظيمة لم يُرزقها كل إنسان ولا ينكر خطرها في ميادين المصاولة الأدبية، إلا أنها لا تصح أن تكون فيصلاً في الحكم على أقدار الرجال وآثارهم. فأبو العتاهية مثلاً وهو رأس شعراء البديهة لا يتسامى إلى منزلة مسلم بن الوليد وأبي تمام وابن الرومي من شعراء الرّوية، والمتنبي - على سنيّ مكانته - تعد مقطوعاته الارتجالية من سقط المتاع، حتى تمنى بعض شارحي ديوانه أنْ لو خلا من هذا السخف والهذر، وعبد المحسن الكاظمي أقوى شعراء العصر طبعاً وأسرعهم خاطراً، ولكنه لا يُوزن بشوقي من شعراء الأناة، بل لا يقاس بحافظ وهو أكثر الشعراء تعباً في نحت القريض وصوغ القوافي.
ولم يكن سلاح البديع مقصوراً على هذه المزايا الخارقة التي أوردناها، بل كان - إلى ذلك
- في طراءة عمره وغضارة شبابه وكان الخوارزمي قد علت به السن فتحيفت جسمه وعقله معاً.
وأنكى من هذين على الخوارزمي أن جماعة من وجهاء نيسابور لا يخلو من أمثالهم بلد من بلاد الله، كانوا يكرهونه وينفسون عليه نعمته، فصاروا عليه إلباً في هذه المحنة، وشدوا أزر خصمه، ولا شيء أثلم للعزيمة وأقعد بالهمة من خذلان الآل والأقارب!
وهي حال شاذة ممضة أنطقت بالشكاة كثيراً من جِلّة الفضلاء! فقال في ذلك قاضي الأندلس وخطيبها المصقع المنذر ابن سعيد:
هذا المقال الذي ما عابه فنَدُ
…
لكنّ صاحبه أزرى به البلد
لو كنت فيهم غريباً كنت مُطَّرَفاً
…
لكنني منهمو فاعتالني النّكد
وقال الفيلسوف ابن حزم:
أنا الشمس في جو السماء منيرة
…
ولكن عيبي أن مطلعي الغرب
ولو أنني من جانب الشرق طالع
…
لجدَّ علي ما ضاع من ذكرى النهب
هنالك تدري أن للعلم غصّة
…
وأن كساد العلم آفته القرب
فواعجبا من غاب عنهم تشوفوا
…
له، ودنوّ المرء من دارهم عيب
ولنأخذ الآن في إيراد هذه المناظرة، موفِّقين بقدر الإمكان بين الروايات المختلفة، فنقول:
في سنة ثمانين وثلاثمائة هـ فارق البديع بلده همذان التي نشأ به وتأدب، إلى حضرة الصاحب بن عباد وزير آل بويه وخليفة ابن العميد، وهي - إذ ذاك - مرمق العيون، ومناط الآمال، ومحطّ الرحال، فلقي فيها ما يلقاه كل أديب: من كرم الوفادة، وحسن الرعاية، وجميل التعاهد.
وكان مجلس هذا الوزير العالم الأديب، آخر مجلس لوزير ضم خيرة العلماء وصفوة الأدباء، وأعيان المصنفين والمتكلمين، وهم دائماً في حوار متصل، وجدال مستحر، ومذاكرة دائبة لا تهدأ ولا تفتر، فكان لذلك أثره البالغ في صقل مواهب البديع، وفتق جنانه، وتزويده بمعارف جديدة واسعة، وهو في مقتبل الشبيبة وميعة الحداثة.
وكان الظن بمثله أن يضن بمفارقة هذا الروض المونق والجناب الخصيب، ولكنا رأيناه في سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة يشخص إلى خراسان، وبعد جولة قصيرة في ربوعها يرد
نيسابور وقد سلبه قطاع الطريق ما يملكه من مال ومتاع!
ونيسابور هذه مدينة مقرورة يهرأ بردها الأجسام، ويُوسم أهلها بالجفاء والشغب والضعف والخبث وكراهة الغرباء! وفيها يقول السمعاني:
لا قدس الله نيسابور من بلد
…
ما فيه من صاحب يُسلي ولا سكن
ويقول فيها المرادي:
لا تنزلن بنيسابور مغترباً
…
إلا وحبلك موصول بإنسان
أولا، فلا أدب يغني ولا حسب
…
يجدي ولا حرمة ترعى لإنسان
ويقول أيضاً:
قال المراديُّ قولاً غيرَ مُتهَّم
…
والنصح - ما كان من ذي اللب - مقبولُ
لا تنزلنّ بنيسابور مغترباً
…
إن الغريب بنيسابور مخذول
فما هو سر اختيار البديع لها بالذات؟ وقد كان له في غيرها مَراد ومسرح. أهو حب التنقل والضرب في البلاد، للدراسة والاطلاع، واستفادة العلم والمال؟ وهو الطابع الغالب على علماء هذه العصور وأدبائها؟ أم هو القصد إلى مناضلة الخوارزمي وانتزاع صولجان الشهرة منه، حتى يقال عنه: إنه غزا النسر في وكره واقتحم على الليث عريته؟
على أن بعض المؤرخين يسوق لهذه الرحلة علة طريفة نذكرها للتفكهة: وهي أن البديع كان في مجلس الصاحب يوماً فخرج منه ما يخرج من غير المتمكن في قعدته؛ وكان خيراً له أن يعوذ بالصمت، ولكنه أراد أن يموّه على الصاحب فقال: هذا صرير التخت! فقال الصاحب: أخشى أن يكون صرير التحت!
فخجل البديع خجلاً شديداً حمله على مفارقة حضرته والخروج إلى خراسان!
ويلذ لنا أن نقول - بهذه المناسبة -: إن مجلس الصاحب - على رفعة شأنه - كثيراً ما كان مهبّاً لهذه الزعازع! وكان الصاحب لا يمنعه وقاره أن يعقب على ذلك بالنكتة البارعة والتورية اللطيفة.
فمن ذلك أن الصاحب أخذته ليلة سنةٌ من النوم، وبين يديه جماعة من الأدباء شرع أحدهم في قراءة (الصافات) واتفق أن نام أيضاً بعض الحضور، فأحدث صوتاً منكراً أيقظ الصاحب من نومه! فقال - يخاطب سمّاره - يا أصحابنا، نمنا على (والصافات) وانتبهنا
على (والمرسلات).
وأظرف من ذلك: أن الفقيه ابن الخضيري كان يحضر مجلسه بالليالي، فغلبته عينه مرة، فخرج منه شيء فخجل وانقطع عن المجلس، فقال الصاحب أبلغوه عني:
يا ابن الخضريّ لا تذهبْ على خجَل
…
لحادث كان قبل النّاي والعود
فإنها الريح لا تستطيع تحبسها
…
إذ لست أنت سليمان بن داود
وكيفما كانت الأسباب التي حفزت البديع إلى انتجاع نيسابور فقد بدأت المناوشة بين الرجلين بكتاب أرسله الهمذاني إلى الخوارزمي، صدّره بهذا الكلام المعسول: إنا لقرب دار الأستاذ - أطال الله بقاءه - كما طرب النشوان مالت به الخمر، ومن الارتياح إلى لقائه، كما انتفض العصفور بلله القطر، ومن الامتزاج بولائه، كما التقت الصهباء والبارد العذب، ومن الابتهاج بمزاره، كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب.
ثم ختم كتابه بأن طلب منه إرسال غلامه لينفض له جملة حاله.
والتقيا بعد ذلك على موعد مضروب في دار الخوارزمي، وما نشك في أنه أكرم مثواه، وأحاطه بألوان البر والرعاية، ولكن البديع كان مدخول النية مطويّ الجوانح على الضغينة! فخرج من دار مُضيفه غير حامدٍ لقياه، وأرسل إليه كتاباً حشوُه عتاب مرّ، يذكر فيه: أن الخوارزمي استزراه لغربته، واقتحمته عينه لرثاثة ملبسه، وأنه تكلف القيام له والسلام عليه، وأنه كان يكلمه بنصف طرفه، ويسير إليه بشطر أنفه، وأن أهل بلده همذان في الذؤابة من الشرف والسيادة، وفي الصميم من الجود والسماحة، ولو قد حل الخوارزمي بينهم لخبئوه في سواد العيون والقلوب!
وقد رد عليه الخوارزمي رداً جميلاً يستلّ السخائم، ويطفئ الأحقاد، ولكن موقف البديع منه أشبه بموقف الروسيا من فنلندا: إدلاءٌ بالباطل وتورُّط في الضلال، وتجن للذنوب، وتصيد للمثالب، ومن كان هذا شأنه فإرضاؤه محال!
وهكذا أخذت تتردد الرسائل بينهما وهي تزداد عنفاً وحدة، حتى انتهى الأمر إلى الخصومة الصريحة! التي كان يعمل لها البديع ومَنْ وراءه كل وسيلة!
وكان يمكن إطفاء هذه الثائرة لولا أن خصوم الخوارزمي الذين سبقت الإشارة إليهم انتهزوها فرصة للنكاية به، فأذكوا العداوة وأرّثوا النار!
وكان أن أرسل نقيب الأشراف إلى الخوارزمي يستدعيه إلى داره ليجمع بينه وبين البديع، فترفع عن المجيء لأنه كان يعرف ما دُبّر له، فأحرجه النقيب بإرسال دابته إليه، وشفع ذلك البديع برسالة يستفزه بها! فلم ير الرجل بداً من الحضور يحف به تلاميذه البررة فالتقى الخصمان في بيت النقيب وجهاً لوجه وقد حُشرَ الناس ليروا لمن تكون الغلبة!
(يتبع)
علي الجندي
التاريخ في سير أبطاله
مازيني
(رسول الحرية إلى قومه، المجاهد الذي أبلى في جهاده مثل
بلاء الأنبياء)
للأستاذ محمود الخفيف
عول مازيني على استغلال هذا الحادث ليلفت الأنظار إلى حركته وأخذ ينشر الأحاديث عما يجب أن تسلكه الحكومة البريطانية تجاه الحركات القومية في القارة؛ وتزايد عدد محبيه في العاصمة الإنجليزية، وسعى كثير من ذوي المكانة والرأي إلى رؤيته؛ وكان الإنجليز يعجبون بمرأى هذا الزعيم الغريب في ملابسه السوداء ويرونه بمظهره وبما يرتسم على وجهه من سمات الصبر والعزيمة، ومن إمارات التعب وأثر الفاقة أقرب إلى القديسين منه إلى رجال السياسة.
وكان مازيني فضلاً عن اهتمامه بمسألة إيطاليا لا يفتأ يتصل بكثير من ذوي الأفكار الحرة في أنحاء القارة، يريد بذلك أن يزيد شعور القومية والحرية في أوربا نماء وانتشاراً، ليكون من حياته حرباً متصلة على الرجعية والاستبداد الغاشم؛ ولذلك يعد مازيني إلى جانب كونه زعيم إيطاليا من أكبر المؤثرين في نمو الحركات القومية في القرن التاسع عشر. وظل مازيني يشكو العسر وما يجره العسر من إبطاء في السير نحو هدفه، وكان يفكر في بعث حركة ثورية جديدة في إيطاليا يقودها بنفسه. فأوحى إلى بعض صديقاته من الإنجليز أن يقمن سوقاً إيطالية خيرية بدعوى جمع المال لمدرسته وكان يريد من وراء ذلك جمع مبلغ أهلي يسعى به إلى الوصول إلى غرضه، وافتتحت تلك السوق عام 1847، ولكن ما جمعه من المال من ذلك المبلغ الأهلي الذي منى به نفسه لم يزد على مائة من الجنيهات!
وكانت الأنباء التي تأتيه من إيطاليا في ذلك العام تزيده غضباً ونكداً؛ فلقد اشتدت فيها دعوة المعتدلين، وكان هؤلاء المعتدلون فريقين: فريق الملكيين الداعين إلى الالتفاف حول شارل ألبرت ملك بيدمنت، وانتظار ما عسى أن تأني به الأيام؛ وفريق الاتحاديين المنادين ببقاء إيطاليا وحدات مستقلة بعضها عن بعض في شؤونها الداخلية مع ارتباطها في شؤونها
القومية بإقامة اتحاد عام من ممثلين للولايات؛ وكان هؤلاء الاتحاديون يدعون إلى الالتفاف حول البابا ليكون زعيم الاتحاد المطلوب، وكان زعيمهم في ذلك جيوبرتي.
وكان مازيني ينكر دعوة هؤلاء وهؤلاء، فلم يكن يرضى إلا بأن تتحد إيطاليا جميعاً فتصبح شعباً واحداً وقطراً واحداً يخضع لحكومة واحدة جمهورية لا ملكية، حكومة مستقلة عن نير الأجنبي ونفوذه، وتستمد سلطانها من الشعب، وتعمل لصالح الشعب؛ على أنه في سبيل الحرص على مبدأ الوحدة قد صرح ذات يوم أنه يقبل أي شكل من أشكال الحكومة ما دامت تقوم على أساس وحدة البلاد. وكان قد استوى على كرسي البابوية عام 1846 بيوس التاسع، وكان معروفاً بعدائه للنمسا وبآرائه الحرة ورغبته في الإصلاح، فسرعان ما اتجهت الأنظار إليه في إيطاليا حتى خيل إلى الناس أن دعوة جيوبرتي وأشياعه هي الفائزة بين الدعوات؛ وخطا البابا بعض خطوات حرة كإصدار العفو العام عن جميع المجرمين السياسيين مما انزعج له كبير الرجعيين مترنخ أشد انزعاج قائلاً:(لقد كنا على أهبة للقاء أي نبأ إلا أن نعلم نبأ ظهور بابا حر، أما وقد ظهر هذا البابا، فلا حد لما سنراه في المستقبل).
وسرعان ما تحركت الولايات تطلب الإصلاح على نحو ما يصلح البابا في ولايته، ففي الصقليتين أرغم هياج الشعب الملك على إعلان الدستور، وفي نابلي عجل الملك فأعلنه قبل الهياج، وسرت العدوى إلى ولايات البابا فأعلن فيها كذلك، وكذلك أعلن في تسكانيا؛ وما لبث أن خطا شارل ألبرت هذه الخطوة في بيدمنت، فأعلن الحكم الدستوري على نحو ما حدث في تلك الولايات، وهكذا تشيع المبادئ الدستورية في طول إيطاليا وعرضها.
وانبعثت الثورة في فرنسا فطاحت بالملكية هناك وأعلن الأحرار فيها قيام حكومة جمهورية؛ ولم يقف الأمر عند فرنسا، بل لقد امتدت العاصفة إلى النمسا نفسها فزلزلت الحكومة فيها زلزالاً شديداً وأخذت مترنخ أخذاً أليماً فأسقطته من مركزه العتيد بعد طول تربعه فيه وانبعاث سلطانه منه. وهب الناس على أثر ذلك في لمبارديا يضعون عن أعناقهم نير النمسا، فلم يمض أسبوع حتى طردت الحاميات النمساوية هناك، ثم بادر ملك بيدمنت شارل ألبرت فأعلن الحرب على النمسا وتبعه أمير تسكانيا وسرعان ما أتى الناس من كل حدب ينسلون، كأنهم شعب السيل وساروا أنماطاً من كل طبقة ومن كل حرفة
عالمهم بين جاهلهم وشيخهم بين فتيانهم إلى حيث يلتقون تحت راية بيدمنت، ولم يبق في إيطاليا ولاية لم تأخذ بقسط في هذه الحرب حتى لقد خيل إلى الناس أن حلم مازيني قد تحقق، فها هو ذا علم إيطاليا يخفق على رؤوس الإيطاليين من كل حزب ومن كل ولاية.
وكان الزعيم المجاهد يومئذ في باريس يؤلف قلوب المنفيين من بني قومه هناك على مبادئه، فما أن جاءه نبأ ما حدث في إيطاليا حتى هرع إليها وإنه ليكاد من فرط فرحه أن يطير ومن فرط حماسته أن يشتعل؛ ونزل الزعيم في ميلان إذ لم يكن يستطيع بناء على حكم الإعدام الذي حكم به عليه عام 1933 أن يذهب إلى بيدمنت أو إلى جنوة؛ وعرفه رجال الجمارك من صوره التي رأوها من قبل فكانوا يحيونه في حماسة بالغة ويسمعونه من عبارات الوطنية، واستقبله أهل ميلان استقبالاً رائعاً ومشى والزحام من حوله إلى الفندق الذي اختاره لإقامته.
وراح الزعيم القائد يعقد الآمال على فوز هذه الحركة، وكأنما حل اليوم الموعود فتمت رسالته بعد جهاد طويل لاقى فيه ما لاقى من أنواع العذاب وصنوف البؤس والشقاء. . . ووقف مازيني أول الأمر من الحرب موقف السياسي الرشيد، فوجه همه إلى نصرة بني قومه وترك الخلاف على الجمهورية والملكية جانباً فإن هذا أمر يمكن النظر فيه بعد النصر، وأخذ الزعيم يحث الرجال إلى التطوع لنصرة قضيتهم المشتركة لا يتوانى عن ذلك ولا يكل.
ولكنه ما لبث أن حاد عن هذه الطريق الخليق به وأخذ يذيع مبادئه الجمهورية على أساس الوحدة راداً بذلك على الملكيين ودعاة الاتحاد؛ وكان عمله هذا وا أسفاه مما يعرقل سير الحرب فإن من شأن هذا الخلاف أن يشيع في الجند وأن يتسرب إلى المتطوعين؛ وكان الزعيم يعتذر عن فعلته بأن مخالفيه في الرأي هم بدءوا بإثارة الخلاف، ولكن عذره هذا سقيم لا يقبل ممن كانت له مثل مكانته ومثل ماضيه في الجهاد. . . ولعل مسلك مازيني يومئذ كان أكبر أخطاء حياته جميعاً.
وكتب إليه شارل ألبرت يدعوه أن يحث أتباعه الجمهوريين في شمال إيطاليا على الانضمام إلى القائلين هناك بالاندماج في بيدمنت وكانت قد بدأت تظهر لهؤلاء حركة قوية نحو هذا الغرض؛ وذكر الملك في خطابه إلى الزعيم الكبير أنه مستعد للقائه إذا قبل ذلك
وعرض عليه أن يكون وزيره الأول وأن يكون له ما شاء من الرأي في وضع دستور تحكم به المملكة على أساس ديمقراطي.
ورد مازيني بأنه لن يرضى بغير الوحدة للإيطاليين جميعاً وما به حاجة إلى السلطة ولا نزوع إلى الجاه ونعيم الحياة لأن هذه أمور تصغر أمام غرضه الأسمى الذي تحمل في سبيله ما سلف من مصائب الحياة. . . ولم يرد الملك على الزعيم بعد ذلك فقد يئس من ضمه إليه.
ولا ريب أن إصرار مازيني على مبادئه وعدم التساهل فيها خلة من أبرز خلال الزعماء، بل هي عندي أكبر هاتيك الخلال وأهمها، وماذا يبقى للزعيم من زعامته إذا هو تهاون فيما يرى أنه الحق وفيما جاهد فيه جهاده؟
وما لبث أن تجمعت عوامل الهزيمة فأحاطت بجيش الإيطاليين فإن البابا بيوس التاسع ما لبث أن أعلن استنكاره رفع الحسام في وجه النمسا وهي من أكبر الدول الكاثوليكية؛ وقد أدى هذا إلى أن يسحب ملك بيدمنت جنوده من الميدان؛ كما أن الخلاف بين الزعماء قد فت في عضد المتطوعين فتخاذلوا ثم قعدوا وتركت بيدمنت وحدها تحارب جيوش النمسا. وما لبث شارل أن انهزم في كستوزا، فتراجع إلى ميلان وتبعته جنود النمسا إليها فسقطت في أيديهم بعد قتال شديد وانسحب منها شارل وجنوده.
وخرج مازيني من ميلان قبل أن يصل إليها جيش النمسا؛ وذهب يبحث عن المتطوعين من رجال غاريبلدي، وكان هذا المجاهد البطل قد أخذ بقسط من هذا الجهاد القائم، ولكن حماسة المتطوعين لم تغن عنهم شيئاً أمام تفوق النمسا في العدة والعدد فتفرقوا كما تفرق الجيش الرسمي، وتم للنمسا النصر على شمالي إيطاليا، ولحقت بالمجاهدين خيبة أخرى وكانوا من النصر على قاب قوسين. وحار مازيني ماذا يفعل وقد هده الإعياء وأحزنته الخيبة؛ ولكنه فكر في الذهاب إلى الولايات الوسطى ليدعو هناك إلى مبادئه الجمهورية على أساس الوحدة عسى أن يجد في القلوب بقية من العزم أو أثراً من الرجاء، وندم مازيني أشد الندم على أن لم يذهب إلى تلك الولايات الوسطى منذ قيام الحرب ليدعو أهلها إلى الجهاد القومي فتكون منهم قوة إلى جانب قوة الحرب الرسمية.
وكان البابا قد فر من أملاكه واعتصم بملك نابلي، فأمل مازيني أن ينشأ من أملاك البابا
ومن ولاية تسكانيا وحدة على أساس جمهوري، وقد كاتب مازيني بعض الأحرار منذ أن فر البابا يدعوهم إلى ذلك، وبعد ذلك بنحو شهرين اتخذ طريقه إلى روما فبلغها في شهر مارس عام 1849 وكان ذوو الرأي من أهلها قد اجتمعوا في مجلس وأعلنوا أن مازيني من مواطني روما كما نادوا بالحكم الجمهوري وطلبوا من الزعيم أن يحضر إليهم.
وقد استقبل مازيني استقبالاً عظيماً في لجهورن وهو في طريقه إلى روما، ولاقى في روما من روعة الحفاوة به والتحمس لمبادئه ما أنساه مرارة العيش فيما مر به من الأيام.
واختاره أهل روما ومعه سافي وأرملليني نواباً عن الجمهورية فتكونت منهم حكومة ثلاثية، وجمعت أزمة الحكم في الحقيقة في يد مازيني فأخذ يتأهب لتحقيق مبادئه وسرعان ما أعد للجهاد عشرة آلاف من المجاهدين.
وعاش الرئيس الجديد عيشة في غاية البساطة؛ فكان يخفض جناحه للناس جميعاً، وكان لا يضع بينه وبن أحد حجاباً فبابه مفتوح لجميع من يريدون مقابلته لا فرق بين كبير وصغير؛ وهو في الحكم كما هو في حياته الشخصية مثال للنبل والنزاهة واللطف، أكبر همه أن يعتنق الناس مبادئه فيجعلوا وحدة إيطاليا قبلتهم التي لا يرضون غيرها.
وكان يحرص مازيني أشد الحرص أن تكون جمهوريته مثالاً يحتذى، وأن تكون في أسلوبها وروحها خير داعية إلى مبادئه، لذلك ضرب للناس أحسن الأمثلة في التسامح والعدالة وحب الخير للأهلين جميعاً؛ وكذلك رأى الناس من نشاطه وإقباله على عمله ما زادهم تعلقاً بشخصه وإيماناً بمبادئه.
ولكن هذه الجمهورية لم يقدر لها أن تعيش إذ ما لبثت أن جاءتها الضربة القاضية على يد دولة ما كانت ترجو منها الجمهورية الوليدة إلا العون، دوله طالما ترنم أهلها بالحرية وأشعلوا نيران الثورات في سبيل الحرية والديمقراطية، وأعلنوا أنهم أبداً على أهبة لتعضيد كل شعب يعمل على نيل حريته، وما كانت تلك الدولة إلا فرنسا التي قضت في أمسها القريب على الملكية، وأحلت محلها الجمهورية!
لم تتورع فرنسا عن توجيه حملة حربية لإسقاط الجمهورية في روما وهي بذلك ترتكب إثماً من أكبر آثام السياسة الدولية في العصور الحديثة، وكان ذلك الإثم مضاعفاً لصدوره عن فرنسا ذاتها، وإنما تكون الجريمة من أهل الشر جريمة فحسب؛ أما مجيئها على أيدي
من يدعون أنهم أنصار الفضيلة ففيه معنى الجريمة ومعنى الفجور وخيبة الآمال جميعاً.
وأحاط جيش فرنسا بأسوار روما وحاول مازيني وغاريبلدي ومن انضم إليهما من الأحرار الدفاع عن المدينة، وكان مازيني يشخص بنفسه إلى مركز الدفاع، يأكل أكل الجند وينام نومهم ويبث فيهم روح الفداء؛ وجاء كثير من الناس من أنحاء إيطاليا للدفاع عن الجمهورية، ومنهم الملكيون ومنهم الأدباء والكتاب، ولكن المدينة لم تقو على الحصار، ولما رأى مازيني أنها واقعة في أيدي الأعداء لا محالة استقال من منصبه.
وصمم غاريبلدي ومعه ثلاثة آلاف من رجاله على المقاومة إلى النهاية، ودعا مازيني إلى ذلك، ولكن الزعيم رأى مالا يراه ذلك الجندي المتحمس فذهب إلى مرسيليا؛ ثم لم يلبث أن انتقل إلى سويسرا، ولكن الحكومة السويسرية ضاقت بوجوده في بلادها كما فعلت من قبل وهو في أولى سني جهاده، ولذلك اتخذ مازيني سبيله إلى إنجلترا وراح يستأنف العيش فيها من جديد. وعاد إلى القلم والقرطاس يكتب ليعيش مما يكسب ولينشر مبادئه مجاهداً بالقلم بعد أن فشل جهاده بالسيف، وكأنما صارت إنجلترا موطنه الثاني، فلقد استراح إلى العيش فيها وأحبها هذه المرة أكثر مما أحبها من قبل، وكثر في المدينة العظيمة أصدقاؤه من الإنجليز ومن الفرنسيين والإيطاليين، فكانت تخفف صداقة هؤلاء عنه آلام الغربة ومصائب الزمن، تلك المصائب التي ذاق كبراها عام 1852 بموت أمه التي ظلت حتى وفاتها تعطف أشد العطف على حركاته، وتتألم أشد الألم لما يلاقي في سبيل بلاده.
(البقية في العدد القادم)
الخفيف
بنت القرية
للأستاذ محمود الخفيف
أنا بنتُ الشمسِ والفجرُ أبي
…
شيِّع النَّجمَ وراقِبْ مطلعي
كمْ سبقتُ الصبْحَ في طلعتِه
وسرَقتُ السِّحرَ منْ غُرتِه
وفمي كمْ صاغَ من بَسمته
أيُّها السائلُ هذا نسَبي
…
مثلَ ذا فاطلبْ وإلا فَدَعِ
مِنْ جُمانِ الطَّلِّ عِقْدي انتظما
ولَكمْ صُغتُ بِليْلِي الأنجُما
وأخي البَدْرُ رَوَى لي حُلُما
أينَ مِن رُؤيايَ سِحرُ الذَّهبِ
…
ومعاني السِّحرِ والطُّهرِ معي؟
لَستُ أُحصي مَنْ هَوَوْني عَدَدا
ثمَّ لم أُشرِكْ بِقَيسي أحدا
لا ولا أرخصتُ حُبِّي أبداً
بسمةٌ منهُ قصارَى طَلبي
…
وهواهُ العفُّ أقصى مطمعي
أنا أغلى عندهُ من ناظِريْه
وهوَ؟. . . هل أبخلُ بالرُّوح عليه؟
إن يَشَأُ جُدْتُ بها بَين يَديْه
طيفُ أحلامِي ودُنيا طرَبي
…
وشذا رُوحي وريَّا أضلُعي
أَمَلي. . . هل دونه مِن أملِ؟
وغَداً لَيسَ سِواهُ موْئِلي
أيُّ شيءٍ قُربه لم يكُ لي؟
كلما غازلني مِن كثَب
…
لاحَ لي العهدُ الذي لم يُقطعِ
حُبُّهُ لحْنِيَ أيامَ الحَصادْ
وهُيامِي كلَّ يوْمٍ في ازدياد
لا أُسمِّيهِ ولكنْ في الفُؤاد
شخصُه منذُ زمانِ اللَّعبِ
…
يُنبِتُ الحُبَّ بهذا الموضعِ
إنْ جفانِي في منامي طَيفُه
أوْ رَنا يوْماً لِغيْري طَرفُه
أوْ تجنَّى فتَوَالى خُلْفُه
شاعَ في جِسْميَ بَرْحُ اللهبِ
…
وجفا جَنْبِيَ فيه مَضجعي
يا ابنةَ الرِّيفِ هوايَ افتَضَحا
فِيكِ كم سَفَّهْتُ غِرّاً نَصَحا
ما انجَلَى رأييَ إلا رَجَحَا
ليتني قَيْسُكِ هذا أَرَبي
…
لستُ بالعابثِ أو بالمدَّعي!
تنبتُ الزَّهرَةُ فَوْقَ الجبلِ
مِثلَما تنبتُ عند الجدوَلِ
إنْ تفُزْ هذِي بماءٍ سَلْسَلِ
حسب هاتيك دموع السُّحب
…
ومن الصبحِ ندِيُّ الأدمعِ
زَهرةٌ أنتِ ترُوعُ الناظِرِينْ
فوقَ خَدَّيكِ وفي هذا الجبينْ
لَمحَةُ الوَرْدِ وطيْفُ الياسَمِينْ
ووَميضٌ كوميضِ الشُّهب
…
ملَء عينيكِ سَنِيُّ الموْقِع
املِكِي. . . مَنْ يَمتلكْ هذا الجمالْ
حازَ ما لنْ يُشتَرَى يوماً بمال
الجَلالُ الحقُّ في هذا الجَلال
لا تقولي قد تَدَلّى حَسَبي
…
لن يَضيرَ الشمسَ قرْبُ المطلع
إيهِ بنتَ الشمسِ أُختَ القمَرِ
يا خيالِي في لَيالِي السَّمَرِ
ونَصيبي من غِناءِ الوَتَرِ
بَدِّدِي بالسِّحر وهْمَ الحِقَب
…
وابزغي كالشمس وارقيْ واسطعي
أسْفري كالصُّبح نُوراً وابتسامَا
واخطُري كالغُصنِ مَيْساً وَقَواما
وامْلأِي دُنياكِ سِحراً وَهُياما
أبْلغي بِالحسن أعلى الرُّتبِ
…
فذُبولِ الحُسنِ في أن تَقْنعي
أينَ في غَيرِ الحِمى هَذا القوام؟
أعَلى حُبِّكِ ذو لُبٍ يُلام؟
بَعضُ صُنع النِّيل هذا الانْسجام
أينَ مِنْ لحَظِكِ بنتُ العنبِ
…
كدتُ من سحري به ألا أعي!
كمْ سقانِي الخَمرَ في لفْتَتهِ
فَمضَى قَلْبيَ فِي سَكْرتِهِ
وَيْحَهُ. . . كمْ هِمتُ في فِتنتهِ
كم رَوَى لي من حَديث عجبِ
…
ثمَّ نادَى مُهجتي: لا تهجعي!
صَدرُكِ النَّاهدُ يَسِبي الأعيُنا
أبْلَغُ الفتنةِ والسِّحرِ هُنا
لم تَزَلْ لِلسِّحرِ مِصرُ الموْطِنا
مُنذُ (نِفريتيتَ) لم يغتربِ
…
عن ثَرى الوادي البهيج الممرعِ
أُختُ بَطليموسَ سِحرُ القيْصريْن
لَمْ تَرِثْ فِتنَتها عَنْ أبَويْن
حُسنُها للنِّيل دَينٌ أيُّ دَيْن
لِسَوَى وَادِيهِ لم يَنتسبِ
…
فاتَ مِنْ يونانَ ما لمْ يَرجع
يا ابْنةَ النِّيل نَميرُ النِّيل غالي
إمْلأِي الجَرَّةَ مِنْ هَذا الزُّلَالِ
حَدِّثِي الضفَّةَ عِنْ خَطو الغَزال
آهِ كم طفتُ بها من كثَبِ
…
أُطفئ الشَّوقَ بِقلبٍ مُولعِ
نظرَاتٌ بَدَأتْ في خَافِقِي
أبداً لم أعْصِ فيها خالِقي
مِلْؤها كلُّ شُعُورٍ صادِق
صَلَواتٌ لم تُحَطْ بالرِّيَبِ
…
في جَنانِي لِلعِليِّ المبدِع
اكْشِفي عن هذه السَّاقِ الثيابا
ملَكَتْ لُبِّي ظهوراً واحتجابا
كيف يسهو من يرى هذا الإهابا؟
وَيْحَ خَلخالِكِ كم يصنعُ بي
…
لكِ ما شئتِ فما شئتِ اصنعي
اجْتَلِي وجهَكِ في هذا النميرْ
فهْوَ مِرآةُ مُحيَّاكِ النَّضير
واضْحكِي فِي الماءِ لِلوجهِ الغريرْ
كم نفى الكرْبةَ عن مُكتّئبِ
…
بِسناهُ العَبقرِيّ الأرْوعِ
أبْهَجَتْنِي صِبْغَةُ اللهِ بِهِ
إنْ زَكا الوَرْدُ فَهَلْ مِنْ مُشبِه
لِلْجنِيِّ المشتَهى مِنْ رَطْبِه؟
اخلعي كلَّ طِلاءٍ كذِبِ=لكِ مِنْ غاليهِ ما لنْ تخلعي
الخفيف
رسالة الفن
دراسات في الفن
يا سارية، الجبل!
(مع الإجلال إلى معالي الدكتور هيكل باشا بمناسبة حديثنا
الشفوي عن عمر)
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- قرأت اليوم أن عمر. . . كان يخطب يوم جمعة في مسجد المدينة، وكان للمسلمين جيش في حرب مع بعض أعدائهم عند سفح جبل على حدود فارس، وكان على هذا الجيش قائد اسمه (سارية) وحدث أن كان الأعداء قد بدءوا في تطويق جيش المسلمين بحيث لم تكن له نجاة إلا أن يلجأ إلى الجبل، وحدث أن توقف عمر عن الخطابة وصاح:(يا سارية الجبل)، وحدث أن لجأ سارية إلى الجبل بجيشه، فنجوا، فلما عاد سارية إلى المدينة روى أنه سمع هتافاً يهتف في أذنه صارخاً:(يا سارية الجبل) فلجأ إليه فنجا، فقال له الناس إنه صوت عمر. . . أليست هذه قصة عجيبة؟ وهل تصدقها؟
- ولم لا؟ أو ما يهتف الآن الإنسان في لندن فيسمعونه في طوكيو؟ هذه كتلك.
- ولكنهم الآن يتصل بعضهم ببعض عن طريق التليفون.
- بل لقد اختصروا الآن التليفون، واستغنوا عن أسلاكه وجعلوه (راديو). الناس ارتقوا.
- فليكن. . . ولكن الراديو لا يزال أداة يستعين بها الإنسان على التخاطب من بعد، ولولاها لعجز عنه.
- لا بأس. ولكن الإنسان إذا واصل رقيه العلمي واصل اختصار الراديو والتقليل من أدواته حتى يبلغ من الرقي درجة يستغني بها عن اختراعه هذا واختراعاته كلها. . .
وعندئذ يستطيع أن يخاطب طوكيو وهو في لندن من غير أداة؟
- وأن ينتقل من طوكيو إلى لندن بغير أداة!
- في كم من الزمن؟
- هذا يرجع إلى مقدرته على تحويل الزمن!
- تحويل الزمن؟ وإلى أي شيء يمكن أن يتحول الزمن؟
- إلى أزمنة وإلى غير ذلك مما يعلم الله. ما يخيل إلينا أنه مستحيل الحدوث، يمكن حدوثه، فالله قادر على كل شيء. . . انظري. . . أتصدقين أنني أستطيع أن أمسك هذه الزجاجة الفارغة وأن أقول فيها بعض كلمات ثم أسدها فإذا الزجاجة مصباح مضيء يلقي النور؟
- هذه لم يصنعها حاو، ولا نبي، فتصنعها أنت؟
- ولا أنا أصنعها. . . ولكني أسألك أين وجه الاستحالة فيها؟
- استحالتها في أن تتحول الكلمات إلى نور. . . هذا هو المحال المتعذر لأن الكلمات حروف والنور أشعة.
- وما رأيك في أن هذه الاستحالة قد ذللت واستطاع أهل السينما الناطقة أن يحولوا الكلمات والحروف والأصوات إلى أشعة ونور، بل إنهم يخزنون الصوت والضوء في أشرطة من (الباغة). . . ما رأيك؟
- هذا مفهوم ومعقول لأنهم يستعينون عليه بالآلات.
- أنت لم تقولي في البدء إن المعضلة معضلة آلات، وإنما قلت إنها مسألة استحالة طبيعية، وإنه ليس من شأن الصوت أن يتحول إلى ضوء. . . والآن، وقد رأيت أن الصوت قد تحول إلى ضوء، قلت إن ذلك تيسر بالآلات. . . وأنا أقول لك إن لكل شيخ طريقة وأدوات، فمن الناس من يستعينون بالحديد وبالمغناطيس والكهرباء يستعيرونها من الخارج، ومنهم من له عزم هو الحديد، ونزوع هو المغناطيس، وروح مؤمنة صافية هي الكهرباء؛ وقد كان عمر من هؤلاء، وقد اكتفى بهذا فانطوى له الزمان وانطوى له المكان، وهتف في المدينة فسمعه سارية وهو على حدود فارس. . . وإذا كنا نعيش في هذه الحضارة صماً بكماً عمياً فليس لنا أن نلزم السامعين الناطقين المبصرين بأن يكونوا مثلنا فلا يسمعون ولا يتكلمون ولا يرون إلا بالآلات والأدوات. . . أنا ولله الحمد نظري كامل وإن كان سمعي ناقصاً، أفإذا رأيت النملة في السقف أنكرت أنت علي أن أراها بغير منظار معظم، فإذا سمعت أنت دبيبها أنكرت أنا عليك أن تسمعيه بغير مكبر الأصوات؟ ليس هذا من حقي ولا من حقك، ولا من حق جيل الحديد والزلط الذي يريد أن ينكر على
عمر إلقاء الأمر إلى سارية من المدينة وسارية على حدود فارس. وإن نسبة التقى بين عمر البشر وأستاذه الهادي الأمي محمد النبي الرسول صلى الله عليه وسلم، لتساوي فيما أرى النسبة بين هذه التي حدثت من عمر وبين تلك التي كانت من النبي إذ أسرى الله به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
- آمنت بالله ورسوله. . . إذن فقد انتقل النبي بجسمه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. . .
- انتقل بروحه وبجسمه وبكيانه كاملاً غير منقوص، وليس هذا من الله عجباً، وهو يرويه في القرآن، والقرآن كتابه، وإن كنت تنكرين فاجمعي الإنس والجن وائتوا بسورة من مثله.
- وأنى لي أن أجمع الجن. . . هل تعرفهم أنت وهل تستطيع جمعهم؟
- إني لا أستطيع جمعهم لأني أضعف من ذلك. . .
- ولكنك تعرفهم؟ ولعلك أيضاً تعرف الملائكة؟
- لم يقل لي أحد ما الملائكة، وإن كان أستاذي النائم عبد السلام شهاب قد عرفني بالجن. . .
- ما هذا الاسم العجيب؟ لم أره يكتب لا في الهلال ولا في المقتطف، ولا في الرسالة، ولا في السياسة، ولا في الثقافة. . . فأين تقرأ له.
- إني لا أقرأ له ولكني أسمع منه، وهو يكتفي بأن يقول لي وأن أكتب أنا، وقد قال لي إن الجن ناس، وأسمعني مرة إياهم وأراني مرة بعضهم. ولم يزد على هذا.
- وكيف يمكن هذا؟ أو أن له استعداداً خاصاً؟
- له، وهو مثل كل استعداد غيره يهبه الله لمن يشاء من عباده فيمكنهم به من القيام بما يعجز عنه غيرهم. . . وهو كذلك الاستعداد الذي يستطيع به الفنان أن يلمح طبع الخير في بعض الناس وطبع الشر في بعضهم من غير أن يحتك بهم. . . وهو كذلك الاستعداد الذي يلمح به المهندس العلاقات بين النقط والمستقيمات والمنحنيات فيصل بعضها ببعض ويفرق بعضها عن بعض ويبني على ذلك ما يشاء وما لا يوفق إليه غيره. . . ولقد سمعتهم يطبلون طبلاً رهيباً في ليلة هادئة. . . وهؤلاء لم أرهم. . . أما الذي رأيته فواحد كان يسير في ليلة مظلمة في طريق قفر ضيق وراء بيت (عبد الرزاق) في عابدين.
- ألم يقل لك (بخ)؟
لا. . . وإنما كان يهرول إلى جانب الجدران وقد انشغل كل الانشغال عن الدنيا وكل ما فيها بما لا يمكن أن يكون إلا تسبيحاً؛ فلما قرأ عليه الذي كنت معه السلام رد السلام في خفوت وسرعة ركبت فيها حروف السلام بعضها بعضاً. . .
- إذا كان هذا هو كل ما سمعته وأريته فإني أستطيع أن أقول إن الذين سمعتهم يطبلون الطبل الرهيب بشر، وإن الذي رأيتماه وحياه صاحبك بشر أيضاً. . .
- وعلى الرغم من أنه كان معنا ثالث لم ير شيئاً مم رأيناه. . . ولم يسمع، فأنا لا أقول غير ما تقولين.
- إذن فلا جن ولا عفاريت.
- إنكارك هذا راجع إلى أنك تتصورين الجن من غير الناس بينما هم ناس. وكل ما في الأمر، عندي، أنهم يختلفون عن الإنس بأنهم جنوا بمحبوب، لكل منهم محبوب. وهم ينطلقون إلى هؤلاء بإحساسهم وتفكيرهم وأخلاقهم وأجسامهم وكل كيانهم ولم يعودوا بعد ذلك يأتنسون بغيرهم من الناس، وقد يسندني في هذا أن العرب رووا أقاصيص كثيرة عن الجن وأنهم كانوا يظهرون للناس ويحادثونهم ويعاشرونهم أحياناً، والقرآن الذي نزل بلغة العرب ذكر الجن بلغة العرب وعني الجن الذين يعرفهم العرب. . . زيدي على ذلك أن بعض أئمة المسلمين أباحوا للمسلمين التزوج من الجن المسلمين وأهل الكتاب، ومعنى هذا أن الجن ناس يكونون جناً أحياناً، ويكونون إنسا أحياناً. أو يلزمون حالة الجنة إذا استغرقوا فيها.
- إذا كان هذا ممكناً فإنه ممكن أيضاً أن يتحول الإنسان إلى جن. . . أليس كذلك؟
- كل شيء ممكن. فقد كان إبليس ملكاً وتحول إلى جن بعد أن فسق عن أمر ربه، والملك الذي أرسله الله لمريم يبشرها بعيسى تمثل لها بشراً سوياً. وسئل النبي (ص) كيف يرى جبريل فقال: إنه يراه أحياناً في صورة دحية الكلبي، على ما أذكر، وهو إنسان. وتفسير قول النبي يحتمل فرضين: فإما أن يكون النبي في الخلوة فيحضره جبريل في صورة دحية، وإما أن يكون مع دحية على انفراد أو بين ناس فيستشف النبي في قرارة دحية. . . جبريل. . . وأنا أميل إلى الأخذ بالفرض الثاني، ولا أمنع الفرض الأول. . . وأعلل
الرأي الذي أميل إليه بأن حالات من التقي والرحمة والصفاء تحل ببعض الناس، فإذا هم ينقون من نوازع الدنيا ويسمون إلى دعاء الله فهم عندئذ ملائكة. . . يشعرون بالخير والهدى لا يراهم إلا من فتح الله عليه، وهم أنفسهم لا يهدون وإن كانوا يلهمون الهدى لمن قسم له الله أن يُلهم وأن يُهدى بنظرة منهم أو إشارة أو كلمة أو سكتة أو حركة.
- ولكن هذا الذي تقول ليس في شيء من كتب الدين.
- وليس في كتب الدين حديث عن الألغام الممغطسة، وليس في كتب الدين ذكر التلفزيون. ولا تنس أن كثيراً من كتب الدين أحرق بعد سقوط بغداد، وأن ديننا إسلام وتفكير وتدبر، وللمجتهد المخفق فيه ثواب، وللمصيب ثوابان، والله يعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسه. . . وإني سألته التوفيق فلا تقفي في طريقي، أو فمدي لي يد العون يكن لك عند الله الجزاء. . . أو تعرفين أنت الملائك والجن؟
- لا، وإنما أرى وصفك الملائك كأنه الشعر، وأرى وصفك الجن يمكن أن يطبق على ناس كثيرين جداً هم الذين ينصرفون بكيانهم كله إلى هدف ما، ومن هؤلاء من هم خيرون، ومنهم من هم أشرار.
- إني لا أستطيع أن أدافع عن رأيي في الملائك بأكثر مما قلت إلا أن أزيد أني أراك كالملائكة أحياناً. . .
- إذن فرأيك صحيح. . .
- وأما الجن، فلا تتصوري أن وصفي إياهم يمكن أن يطبق على ناس كثيرين جداً كما تقولين، فليس من الميسور للكثيرين أن ينصرفوا بكيانهم كله إلى محبوب واحد يجنون به، ويستولي على جماعهم. . . وإنما أغلب الناس بل جلهم يتشتتون وتتوزع اتجاهاتهم ورغباتهم وأهواؤهم، وينزعون إلى الائتناس بغيرهم كلما استوحشت أنفسهم أهواءهم ورغباتهم واتجاهاتهم.
- ومع هذا القيد فإني لا زلت أستطيع أن أعتبر الإنسان العبقري المنصرف إلى فنه من الجن. . .
- إذا كان لا يأنس بغير فنه، وإذا كان لا يستوحش فنه مطلقاً، وإذا كان لا يشغله غير الفن شاغل. . . وكلما قل فيه هذا كان أقرب إلى الناس.
- واتباعاً لما تقول أيضاً نستطيع أن نعتبر الإنسان الشرير المستغرق في الشر جناً. . .
- إذا كان لا يأنس بغير الشر، وإذا كان لا يستوحش الشر مطلقاً، وإذا كان لا يشغله شاغل غير الشر إذا ترك لنفسه يختار المشاغل، فهو إذا قابل الناس ابتدرهم بالأذى، وهو إذا غفلت عنه الدنيا أحرقها بناره. إنه الجن الشرير غير المسلم.
- ولكن الذين يعنون بهذه الأحاديث يروون عن الجن أنهم قادرون على الاختفاء، فكيف تعلل هذا الاختفاء. . .
- قلت لك إنها قدرة يعطيها الله لمن يشاء فيطوي بها المكان ويطوي بها الزمن، يقابلها في الناحية الأخرى عجز عن الملاحظة.
- لقد سكت عنك حين نسبت هذه الخوارق للإنسان الراقي ولكني لا أظن أنه يحسن السكوت عنك إذا نسبتها أيضاً للإنسان الشرير الذي يؤذي الناس.
- إن هذا الشرير الذي يؤذي الناس إنما ينزل بالناس قضاء الله الذي هم أهله، وإن لله حكمة في كل ما ترين من تصرفات عباده ألم يقتل الخضر طفلاً لحكمه؟
- كان الخضر شريفاً. . . وقوة كقوته إذا أعطيت لشرير كان فيها تشريف للشر.
- ليس التشريف في القوة، وإنما هو في استعمالها. . . كل الناس فيهم القوة التي تمكنهم من الارتقاء والتحول، أو فيهم نواتها، ومع هذا فأقلهم الذين يريدون أن يرقوا وأن يتحولوا. . .
- وهل تريد أنت أن تتحول؟. . . أظنك تريد أن تكون ملكاً؟
- لا. . . إني أريد حقاً أن أرقى، ولكني أريد أن أظل إنساناً فقد فضل الله الناس على خلقه جميعاً. . . ذلك أن الملك منصرف إلى الله يعبده فقط، ولإنسان يستطيع أن يعبد الله وأن يتأمل خلقه أيضاً، وأن يفكر فيه، وأن يتدبر حكمة الله، وأن يتحدث بنعمته، وأن ينشئ بعد ذلك من فنه عبادة ترضي وهي غير عبادة الملائكة. . . وإلا فقولي لي لماذا فضل الله الناس على خلقه جميعاً. . . إلا بالعقل، إن علينا أن نتجه إلى الله بعقولنا. . . كي نحقق أفضليتنا. إن فينا القوة التي تمكننا من التعالي على الملائكة. . . ولكن كم منا استطاع أن يكون ملكاً لا أكثر.
- ألست تقول إنني أحياناً أبدو كالملائكة؟. . .
- لا تؤاخذني فقد نسيت. . . لأنك لا تكونين هكذا إلا نادراً.
- إذا كان عمر وهو عمر لم تحدث منه الخارقة فيما روى من حياته إلا مرة واحدة حسبما قرأت، فهل تظن أن غيره يمكن أن تحدث منه أمثال هذه الخوارق مرات؟
- كان موسى نبياً رسولاً، وقد ساير الخضر وكأنما كان طفلاً معه. . . فالله أعلم كم يستطيع كل إنسان أن يأتي من الخوارق. . . ولكن المؤكد أن الجُنة تصيب بعض الناس في لحظات خاصة يتلخص فيها وجودهم فيقومون بأعمال، أو يقولون كلاماً، ولو سئلوا كيف صدرت عنهم أعمالهم أو أقوالهم هذه عجزوا عن تعليلها، وقال بعضهم إنها إرادة الله، وقال بعضهم وجدت نفسي فعلت أو قلت، وقال بعضهم لا أدري، وقال بعضهم جننت، والحق أنهم جنوا بأهوائهم، وغلبتهم طبائعهم وانطلقوا غير مختارين ولا مقيدين بعقولهم إلى نحو ما كانت تنزع إليه أرواحهم، وما كانت ترتاح إليه أبدانهم تنفيذاً لشيء من قضاء الله سبحانه.
- وقد كان كذلك عمر؟
- كلا. . . إن عمر لم يجن، وإنما عمر رأى، وقال، وسارية سمع. . . فعمر إنسان ممن فضلهم الله على الجن وغير الجن من خلقه. . .
عزيز أحمد فهمي
القصص
الإغماء. . .
أقصوصة مصرية
(مهداة إلى الأستاذ محمود بك تيمور)
بقلم الأستاذ خليل شيبوب
كنت صديقاً حميماً للأستاذ عزيز سامر وزوجته سلمى. أما عزيز فترجع علاقتي به إلى عهد الحداثة الأولى. وأما سلمى فإن والدتها كانت وثيقة الصلة بوالدتي وكانت تصطحبها قي زيارتها إلى منزلنا حيث كنت أراها يافعة تبرق عيناها ذكاء وأستلذ محادثتها في فترات قصيرة بين والدتها ووالدتي.
ولعلي كنت السبب في زواجهما لأن عزيزاً قابلها في منزلنا غير ما مرة، ولم يصادف صعوبة حين عقد النية على الزواج منها لا من أهله ولا من أهل الفتاة. وعاشا عيشة رضية بضع سنوات ماتت في خلالها والدة سلمى ووالدتي. وكم مرة كنا نتحدث عنهما وتثير أليمة الذكريات. ولم يرزق عزيز ولداً فما اهتم للأمر كما أن سلمى أيضاً لم تهتم له ولم ينشب بينهما ذلك الخلاف العهيد الذي يبعث به عقم الرجل أو المرأة.
أجل، كنت صديقاً حميماً للأستاذ عزيز سامر وزوجته سلمى حتى أني كنت أتناول طعام الغذاء أو العشاء مرات كل شهر في منزلهما الذي اشتراه عزيز على ضفة المحمودية في عزلة عن الأوساط الصاخبة وفرشه بأفخر أنواع الرياش، ووسع حوله حديقة مغروسة بمختلف الأزهار والرياحين. ولا أزال أذكر مجالسنا فيها للأنس والسمر في أيام الربيع المزهرة، وليالي الصيف المقمرة، كما لا أزال أذكر مجالسنا بعد العشاء في قاعة التدخين على مقاعد الجلد العريضة في ليالي الشتاء الباردة، وأستار الحرير القاتم مدلاة على النوافذ، والطنافس المفروشة تحت أقدامنا تبعث في جو القاعة حرارة طيبة، بينما يتساقط المطر خارجاً بين هزيم الرعود، وولولة الرياح.
والأستاذ عزيز سامر محام معروف كثير الأعمال وافر الربح يعيش في يسر ودعة. وسلمى فتاة طيبة القلب، جميلة الوجه، أنيقة الملبس. تدير منزلها في كثير من النظافة والمرح،
وتستلذ الخروج مع زوجها إلى مشارب الجعة ومساهر السينما ودور التمثيل. وكم صحبتهما إليها وكم احتدم الجدل بيني وبين سلمى على الملابس النسائية وائتلاف ألوانها، واختلاف أشكالها وطولها وقصرها، ومناسبتها وغير مناسبتها. وكانت سلمى تحب مداعبتي وإحراج زوجها وتهمته بفقدان الذوق في هذه الأمور الهامة.
ولا أعدو الحقيقة إذ قررت أن سلمى على جانب من الثقافة يجعلها تتذوق القراءة الأنيقة، وبخاصة هذه الأقاصيص التي اكتظت بها الكتب الحديثة. ولكنها كانت تعجب كل الإعجاب بالكاتب القصصي جي دي موباسان، لأن أقصوصته نيرة مشرقة مترعة بالحياة يتدفق الذوق الفني في سطورها البارزة حتى كأنها رسم بارع الألوان تامُّ التخطيطات تكاد الصورة تنطق بين ثناياه.
وإني لأشعر بكثير من الغبطة كلما ذكرت تلك الساعات الأدبية التي مرت بنا وبخاصة كيف كنت أضحك من الأحكام الجائرة التي كان يحمل بها عزيز سامر على الأدب والأدباء فيقول لزوجته:
- دعي عنك هذه السفاسف!. . إن أدباءك أناس أخفقوا في عواطفهم فقذفوا بها في وجه الناس وهم يظنون أنهم يأتون بالمعجزات.
فتقول له سلمى في كثير من التهكم:
- أنت يا عزيز لا تفهم إلا (حيث إنّ). . . تريد بذلك (حيثيات) الأحكام. . . وتضيف إلى قولها: أن الأدب مرآة الحياة كما يقولون ولكن (حيث إنّ) هذه لا حياة فيها.
فيجيبها عزيز بأن الأدب مرآة مشوِّهة للحياة لا تعكس إلا ما يظهر منها بينما ما خفي أكثر وأدق، وقد يكون أجل وأعظم. . .
فأتدخل بينهما وأقول:
- قد يكون ذلك كذلك وكلاكما على حق. والأدب دنيا والمحاماة دنيا، قد تلتقيان وقد تفترقان. . .
وكنا نفترق عادة ولم يقنع أحد فينا رفيقه.
ولكن هذه العيشة الراضية لم تدم طويلاً، لأن سلمى كانت تمر بها السنون مقفرة الأيام إلا من زوج تعودته وخدم ألفتهم وقليل من الأصدقاء ملّت صحبتهم. وصرت أشعر في
أحاديثها بكثير من الضجر والسأم فأختصر الزيارة أو أعكس وجهة الحديث أو أنقطع عنهما أسابيع.
ولا أنس يوماً وأنا مكب في مكتبي على عمل هام إذ اندفع إليه عزيز سامر فجأة كأنه قذيفة طائشة فنهضت منذعراً أرحب به، وهو يقول:
- اسمع يا فريد! إن هذه الحياة لن تطول بي وإني لأختنق. لقد بلغت مناقشاتي مع سلمى درجة من الحدَّة حملتها على التفكير في الطلاق.
فسكنت روعه ولطفت من هياجه، وبين فنجان من القهوة ولفافة من التبغ فهمت أن سلمى اندفعت من طريق المطالعة إلى حد خرجت به عن التسلية إلى الجد، وأنها صارت تطبق على زوجها كل الآراء والأفكار التي تقرأها. وأنها تلح عليه في الجدل والمساجلة حتى يتبرم بها ويكاد يجنُّ من الأسئلة والأجوبة، وهو رجل لا يفكر إلا في قضاياه وملفاته، وقد أضحكني عزيز كل الضحك حينما سألته أن يضرب لي مثلاً لذلك فقال:
- تصور يا فريد أنها قرأت قصة من قصص موباسان حدثتني أن صاحبتها كانت إذا أرادت رجلاً لنفسها ورأت فيه شيئاً من الاستحياء والخجل تصنَّعت الإغماء بين يديه حتى يضمها إلى صدره ويغتنم فرصة إغمائها.
فتهالكت من الضحك وقلت لعزيز: إن هذا ايوجد إلا في القصص. فتغاضب عزيز وقال: لا تضحك بل اسمع ماذا سألتني سلمى.
قلت: ماذا؟
قال: سألتني بعد أن أعربت عن إعجابها بهذه الناشرة المريضة: ماذا أفعل لو أن سيدة أغمي عليها وألقت بنفسها بين يدي. . . فأجبتها بأني أستدعي لها الإسعاف. . . فقالت لي: أنت رجل مغفَّل! ومن هنا نشأ بيننا جدل عنيف لم ينته إلى الصباح، وقضينا ليلة ساهرة في المصايحة والمهاترة.
وزاد عزيز على قوله:
- لذلك أرجو منك يا صديقي أن تحاول ردَّ سلمى إلى صوابها، وتحملها على الإقلاع عن هذا الهذيان الذي يقودنا حتماً إلى المحكمة الشرعية.
ووعدت عزيزاً بالتدخل، وفعلاً خاطبت سلمى في الأمر وأخذت أخضد من رغبتها في
قراءة الكتب الجامحة دون أن تسترشد بدليل يميز لها الغث من السمين، والنافع من الضار. ورضيت بي سلمى مرشداً أدلها على الكتب الطيبة والأقاصيص الطريفة الأدبية التي تمتزج بالحياة من جهاتها القويمة. وصرت أشتري لها بعض الكتب التي كنت أعرف في مؤلفيها ميلاً إلى إصلاح المجتمع والمحافظة على الأخلاق.
ومضت فترة من الزمن تبينت فيها أن سلمى لم تعد تلك الزوجة المفهومة التي ترتسم على وجهها كل معاني نفسها بل أصبحت كثيرة التأنق في ملبوسها وزينتها واختيار عطورها بل صرت أراها تتعمد إثارة الفتنة بملامحها وجلستها ومشيتها، وكأنما زاد بريق عينيها السوداوين الواسعتين بما كانت توسع من أشفارهما بالكحل، وتبالغ في توضيح أنوثتها بارتجاج جسمها في نقل خطواتها. وصارت تزيد أثوابها قصراً وتغالي في تعرية زنديها وصدرها، وصار زوجها يشكو من هذا كله فأقول له:
- دع سلمى، إنها فتاة طيبة، وإن الزينة حياة المرأة، ولا ضير عليك ولا عليها من الأناقة ومسايرة أزياء العصر.
وفي الواقع كان تطور سلمى بطيئاً وما كانت لتلفت نظري ونظر زوجها لولا بعض أثواب قديمة لها كانت ترتديها في بعض الأحايين فترينا الفرق بين ما كانت عليه وما صارت إليه، ولكنني وزوجها ما برحنا نعتقد أن شغفها بالزينة نتيجة التقليد فقط، وأن المرأة أكثر ما تتزين لتباهي بزينتها غيرها من النساء، وأن هذا كله بريء كل البراءة، لا يفضي ولن يفضي إلى ما لا يصح السكوت عنه.
ولقد صادفت سلمى مرات في الشارع منفردةً تدور على المخازن كما تقول ذلك كل النساء، وأظن أني لمحت مرة شاباً يترسم خطاها وهي تشجعه بابتسامتها له، ولكن ظهوري أمامها صرفه عنها وصرفها إليّ. وأذكر أني فسرت ذلك بأنه حادث عادي، ولم أشأ أن أفسر ابتسامة سلمى له سوى أنها محض توهم مني.
وسئمت سلمى من المطالعة ورغبت إليّ ألاّ أتعب نفسي في اقتناء الكتب لها، وكنت سئمت التفكير فيما أقدمه إليها، وهي مهمة محرجة، فحمدت لها رغبتها تلك وفي صدري منها مرارة مبهمة. وصرت ألاحظ أن سلمى إذا جلست إلى جانبي ألقت بنفسها متهالكة على المقعد في حركة غريبة، وكانت من قبل تقعد قعود الصراحة، وصرت ألاحظ أنها ترنو إلي
خلسة بعض الرنو بألح اظ فاترة مستطيلة، وأني إذا حملت إليها على عادتي القديمة بعض الهدايا أخذتها بلا شكر كأنها فرض أؤديه ولكنها كانت تتحين فرصة يكون فيها زوجها بعيداً عنا فتخاطبني عن هديتي في لطف وهدوء لم أعهدهما فيها كأنما تجعل نفسها مقصودة بها باعثة عليها، لا المنزل ولا الصداقة القديمة.
وإننا معشر الرجال ليطيب لنا مثل هذا الجو الفاتر الذي تثيره المرأة حولنا ونشعر فيه بلذة غامضة، إلا أن هذه اللذة كانت مشوبة عندي بكثير من تأنيب النفس وكنت أشعر بأنني لست راضياً عن سلمى الجديدة لأنني كنت أكثر ميلاً إلى سلمى القديمة المرحة التي عايشتها مع زوجها عيشة الألفة البريئة الصريحة. ومما زاد في عدم رضائي عنها أنها صارت تكثر من مخاطبتي بالتلفون وتطيل صوتها في شيء من الدلال وتسألني دائماً عن صحتي وعن ليلتي وعن إصباحي وعن إمسائي كأنني مريض تريد أن تطمئن على سير مرضه.
ومرت الأيام وهذا الجو يزداد حرارة حتى إني صرت أحس بأن عينيَّ تثبتان على سلمى ثبوت تفحص لجسمها البض، ووجهها الغض، وقوامها المجدول وابتسامتها الساحرة وجبينها المشرق، وبخاصة بريق عينيها السوداوين الواسعتين.
(البقية في العدد القادم)
خليل شيبوب
من هنا ومن هناك
حرب الحصار
(عن مجلة (تروث) لندن)
الحرب الحديثة حرب مصادرات وتضييق، فالجانب الذي يتغلب على الآخر في مصادرة بضائعة هو الذي يكسب الحرب.
إن الحصار البحري فضلاً عن أنه سلاح ناجح قد قل بواسطته عدد القتلى في الحرب، فإذا أخفق في مهمته لم تكن الخسارة بالشيء الذي لا يحتمله المحاربون، وقد جعلت البحرية البريطانية من همها أن يقل عدد السفن التجارية التي تغرق في عرض البحار.
إن الحصار البحري الناجح - مع ماله من القوة - لا يحتاج في تنفيذه إلى شيء من العنف، فقد تقضي السفن الحربية مدة الحرب جميعها دون أن تسمع كلمة (ارفع البندقية وكن مستعداً) وقد بلغنا عن طريق الأسر ومصادرة السفن ضعف ما بلغه عدونا بإغراق السفن بواسطة (الغواصات)؛ فإن الأسر والمصادرة (كالانتخاب ذي الصوتين)، ولكن أصحاب العقول المخربة، والنفوس المتعطشة للدماء، يظنون أن الحرب لا تكسب بغير القتل والتدمير؛ والحروب البريطانية على النقيض من ذلك، فهي تصل بنا إلى الغاية بالمصادرة لا بالقتل، وبالاحتفاظ ببضائع العدو التي تقع في أيدي رجالنا لا بتدميرها. فالجندي المخرب حين يرسل إلى البحار لا يفكر إلا في إغراق السفن، ولكن رجل البحار يصادر بضائع العدو ليستخدمها لنفسه، وبذلك يكسب الحرب.
إن سكان البلاد الشمالية وجيوشها ومصانعها لا تستطيع جميعاً أن تحصل على شيء من خيرات البلاد الاستوائية بغير إرادتنا.
وقد تذهب مجهودات الأمة المحاربة أدراج الرياح إذا هي حرمت من بعض المواد الأساسية: كالقطن والنترات والفوسفات والمطاط وزيت النخيل وغيره من المواد الدهنية والشحوم والبن والكاكاو وأطعمة البلاد الاستوائية جميعاً. بل إن شيئاً من صادرات تلك البلاد لا يمكن أن يصل إلى أوربا بغير إرادتنا. فجميع المضايق التي تمر بها تلك الصادرات تحت إشرافنا، ويكفي إرسال قوة من الطرادات والسفن الصغيرة تحت حراسة الأسطول لحصر التجارة بين مضيق جبل طارق البالغ اتساعه ثمانية أميال، ومضيق دوفر
البالغ اتساعه ثمانية عشر ميلاً، ومائتي الميل الواقعة بين سكوتلاند والنرويج، وبذلك نستطيع أن نحاصر أوربا إذا اختارت أوربا أن تكون عدواً لنا، ومن هذه المضايق نستطيع أن نسمح بمرور ما نشاء لحلفائنا وأصدقائنا المحايدين سواء أكان وراداً إليهم من المناطق الاستوائية أو الأمريكيتين أو أفريقيا أو الدنيا القديمة. . .
ونستطيع أن نصادر ما يحمل منها إلى أعدائنا ونستغله لأنفسنا.
وقد اختفت من البحار فعلاً جميع السفن التي كانت تحمل البضائع لألمانيا، ولم يحاول أحد الآن أن يفر من حصارنا ويجازف بإرسال شيء إلى ألمانيا، لأن الجميع لا يشكون في أننا سنصادر بضاعتهم في الحال.
فالحصار البحري - وهو سلاحنا في الحرب - هو أقوى الأسلحة وأكثرها اقتصاداً في المال والأرواح. . .
يوم من أيام الحرب في برلين
(عن (لاربابليك دي لبه))
سكان ألمانيا اليوم يعيشون عيشة رتيبة، ويحيون حياة لا تختلف عن حياة الجنود: فالرجل الألماني يستيقظ من الساعة السادسة والنصف صباحاً - لا لسبب - إلا أن يكون أمام موزع الألبان قبل الساعة السابعة. . . فيتاح له أن يصرف البطاقة التي يستطيع بها أن ينال المقرر له من هذا الطعام!
وفي غالب الأحيان لا يصل إلى أيدي الباعة أكثر من ثلثي اللبن المطلوب. فيندفع الأهالي إلى شرائه، ويتزاحم المشترون بالمناكب. . . فإذا كانت الساعة السابعة والربع جاء موعد توزيع المقرر من الخبز: وهو خمس أوقيات ونصف أوقية؛ وعليك أن تطلبها ثلاث مرات في اليوم الواحد، حتى لا تحرم تصيبك من هذه المادة الأساسية في الطعام.
ولا يحتاج المشتري لحمل نقود معه لشراء هذه الأشياء، فيكفي أن تكون معه البطاقة ليصرف إليه المطلوب، وتجمع هذه البطاقات في نهاية الأسبوع وتخصم قيمتها من مجموع الأجور، ولا يتبقى بعد هذه المشتريات في غالب الأحيان غير النذر القليل من باقي الأجور. ونستطيع أن نقول: إن في مقدور الرنح أن يسخر الشعب على هذه الصورة وقتاً
ما، كما يسخر الأرقاء، ولا يبذل (ماركا) واحداً في الأسواق.
وكما أن جميع سكان ألمانيا المتحضرين يستيقظون كالأبطال في ساعة مبكرة من النهار، وينتظرون في صبر وجلد توزيع الأقوات، فإنهم لفي حاجة شديدة إلى الانتظار لتوزيع البترول والفحم اللذين يوزعان بمقادير دقيقة.
فالألمان والحالة هذه لا يستطيعون أن يقوموا بتحضير طعام الإفطار قبل الساعة الثامنة، وفي هذا الوقت يستمعون إلى الإذاعة إذ أن التيار الكهربائي ينقطع بعد هذا الميعاد.
وقد وضع الفوهرر هذا النظام ليكون متفقاً مع النظام الذي وضعه للعمل. فقد لا تجد بعد الساعة الثامنة نازياً واحداً خارج العمل: إما داخل المصنع أو في الإدارة حيث يجب أن يكون خاضعاً لمثل هذه التعاليم، ويتسلم مثل هذه البطاقات شأن ثمانين مليوناً من الوطنيين. وفي الساعة العاشرة تماما يجب أن يقف على قدميه سواء أكان في المصنع أو المصلحة ليستمع إلى حديث الدعاية الرسمي ثم يعود فيعكف على عمله صامتاً حتى منتصف النهار، إذ يتناول بطاقته ويتبوأ مكاناً في المطعم، وعليه أن يقضي نصف ساعة في هذه الوجهة، ثم يعود إلى عمله.
ويظل في هذا العمل إلى الساعة الثامنة مساء. فإذا ما عاد إلى منزله، فعليه أن يسارع إلى استحضار الغذاء المقرر له، وعليه ألا يهمل حمل بطاقته. فإذا جاءت الساعة التاسعة وجب عليه ن يصغي مجبراً إلى الإذاعة ثانية، وقد لا يستطيع الخروج إلى نزهة خلوية، أو الذهاب إلى دور السينما لتتبع الأفلام الحديثة إذا فقد البترول وانقطعت السيارات لعامة. أما السهرات المنزلية المعروفة، فقد صدرت الأوامر بمنعها بتاتاً.
وهكذا ينقضي اليوم في ذلك البلد المسكين!
البريد الأدبي
نهج البلاغة
إلى حضرة الأستاذ البارع الفاضل (سائل) من (العراق) في مجلة العرب (الرسالة).
(نهج البلاغة) يا أخي - من كتب إخواننا الإمامية، ومن الكنوز العربية، وهو مجموعة مصطفاة، وإن لم يحبره سيدنا عليّ (رضوان الله عليه) فقد انتقاه وحبره علويين كما زخرف محدثون و (كل حزب بما لديهم فرحون) وإن همهم تحقيق وتأريخ، فقد ابتهج الأدب واللغة. ولولا إبداع المبدعين أو صوغ الصياغين ما ورثنا هذه الثروة الفخمة الضخمة في الأدب العربي. وليس عندي اليوم مزيد على ما قلته في (نهج البلاغة) في (كلمة في اللغة العربية) وفي (الإسلام الصحيح) وإذا لم يكن ما خططته في الكتابين (كلمة الفصل) فربما كان (فصلاً من الفصول) المرْصَنة فيه.
محمد إسعاف النشاشيبي
في كلية الآداب
كتب الأديب عبد الرحمن بدوي في عدد الرسالة الماضي كلمة حاول الرد فيها على إشارة الدكتور بشر فارس ومقالات غيره من الجامعيين التي ظهرت متعاقبة في الرسالة تحت عنوان (في كلية الآداب) وكان الغرض منها ذكر ما ينعم به مدرس أجنبي عندنا من حظوة وما يلاقيه المصريّ المماثل له من ضيق. ونحن ندهش كيف لم يتعرض لنا غيره مع علمنا بانتشار ما أذيع هنا في الدوائر المسئولة وإحداثه ما يستحق من تأثير. ولولا الخوف من أثر ما قد يحدثه كلام الكاتب في نفوس بعض القراء ما تعرّضنا اليوم للكشف عن اغتصابه للدفاع وتهافته فيه.
يقول: (أما مسألة استقدام الدكتور بينس فهي في ذاتها أمنية تجيش في نفوسنا نحن المدرسين المصريين المستقلين أو المشتغلين بالفلسفة الإسلامية الخ)، والذي نعرفه - وأمامنا برامج دروس كلية الآداب لهذا العام - أن الكاتب لا علاقة له بتدريس الفلسفة السلامية في الكلية، وإنما هو طالب في قسم (الماجستير) فهو يتصف بغير صفته، وقد قال بعد ذلك إنه مصري يعز عليه الدفاع عن أجنبي إزاء مواطنين، ويحق له أن يعتذر عن
ذلك ولا سيما إذا تذكر انتماءه إلى طائفة الشباب التي اشتهرت في حين ما بالعداء المتطرِّف لكل ما هو أجنبي. ألم تنشر (مصر الفتاة) صيف 1937 مقالاً تهكمياً عن هذا المدرس الأجنبي لما حظي إذ ذاك بمكافأة للسفر إلى باريس؟ وهذه المكافأة هي إحدى الحقائق التي ينكرها الكاتب ويحاول تكذيبها اليوم.
وعلى ذلك فإذا تعرض بدوي لما لا يعنيه، وتعامى عن الواقع الذي ثار له هو وإخوانه من قبل، فاغتصب الدفاع عما كاد يتم لولا ما كتب في الرسالة فهنالك ما أومن أنه دفعه إلى ذلك دفعاً، وبئس التوجيه في مثل هذه الحال، ومتى استقر التوجيه قام الشك. وعليه فإننا في هذه الكلمة نزدري دفاعه المغتصب، وإنما غرضنا أن نبين له كيف يجري قلمه بغير ضابط وهو يطلب العلم العالي.
على أن الكاتب المدافع لا يتردد في تعمد المغالطة. وبيان هذا أن الدكتور بشر فارس، وله الفضل في إثارة المسألة، أشار فيما أشار إلى (تلطف) ذلك المدرس الأجنبي للظفر بإدارة المكتبة العامة للجامعة. ولكن بدوي أفندي تكلم عن مكتبة الكلية ومكتبة معهد من معاهدها مع علمه أن الإشراف على مثل هذه المكتبات لا يحتاج إلى مدير. وأما إشادته بفضل المدرس المشار إليه في ترتيب المكتبة الخاصة بقسم اللغة العربية، فإننا نؤكد أننا لم نسمع من قبل مدحاً لهذا العمل، بل سمعنا من المختصين بفن المكتبات الشكوى منه. ويبرر شكواهم أن هذه المكتبة الفرعية لم يستقر لها نظام بعد، وأن وجودها على ما هي عليه معطل للنظام القائم في المكتبة العامة. وما دمنا ملزمين بالكشف عن تهافت السيد بدوي في دفاعه فإنا نزيد: كيف يأذن لنفسه أن يقول في وصف الشاب (بينس) بأنه (مستشرق ممتاز، وقطب من أقطاب الجيل)؟ وادَّعى أن الدكتور بشر تجاهل اسمه! أن (بينس) لا يحمل إلا الدكتوراه الألمانية العادية، وهي شهادة لا تقنع بها كلية الآداب ولا الجامعة الأزهرية من أعضاء بعثاتها إذ تلزمانهم نيل إجازة التدريس العالي في ألمانيا وهي (الهابلتاسيون). فضلاً عن أن دكتوراه (بينس) لم تقبلها جامعة باريس معادلة لشهادة (الليسانس في الآداب الفرنسية) يوم تلمس الرجل الانتساب إلى جامعة باريس ليظفر منها بالدكتوراه.
ومما يدل أيضاً على عدم تحوط المدافع في الكتابة أنه قال: إن (بينس) (بدأ يتبوّأ مركز
الصدارة في حركة الاستشراق بعد أن انقضى الجيل السابق من المستشرقين أو كاد بعد موت المرحوم نلّينو). ألم يسمع الكاتب من أساتذته أنه لا يزال من المستشرقين على قيد الحياة أندادٌ لنلّينو العظيم ومن جيله، وبين قراء الرسالة من يعرف بروكلمَنْ ولتمْنْ وشيدَر ورِتَّر وفِشَر وهرتمَن في ألمانيا. ثم مارْسيه ودومامبين في فرنسا. ومرغوليوث ومِتْفُخ ورُسّ مثلاً في إنجلترا، وبالاثيوس في أسبانيا، ونيبرج في أسوج؟
ثم إن الكاتب يجدّ في ترويج البضاعة المزجاة فيترخص في استعمال الألفاظ ويسرف في سوء الظن ويقول: إن الدكتور بشر حرص على إرضاء شهوة صديقه (يعنينا) في أن ينال من هذا المدرس الأجنبي، والدكتور بشر وزملاؤه من الجامعيين لا يعنيهم أمر هذا المدرس على وجه التخصيص بقدر ما يعنيهم إنصاف المصري والرفق بماله، كما تعنيهم فوق ذلك مصلحة الثقافة إطلاقاً.
وأحب أن أختم هذه الكلمة بقولي للكاتب ومن دفعه إلى الكتابة إننا نعلم اليوم حق العلم أن كلية الآداب لن تستقدم (بينس) بالرغم من سعي بعضهم. والفضل في ذلك راجع إلى ما أثير في مجلة الرسالة.
(جامعي آخر)
1 -
جائزة نوبل تمنح لأديب فنلندي
منحت جائزة نوبل في هذا العام لأديب بارع من فنلندا اسمه ? ?، وقد أجمع أهل الرأي في الأدب على أن هذا الأديب هو أعظم قصصي عرفته فنلندا في هذا القرن من حيث طرافة مادته، وخصوبة خياله، وغزارة بيانه.
ولد هذا الأديب سنة 1888، في أسرة فقيرة معدمة، بين أحضان إحدى القرى. فقضى طفولته، وشطراً من صباه، بعيداً عن المدن، بين غابات الصنوبر وشطآن البحيرات، ومال إلى الأدب والشعر مذ كان يافعاً. ثم انكب على المطالعة الشخصية حتى استطاع أن يصبح الأديب الأول في بلاده. فلما كانت سنة 1916 أخرج للناس كتابه الأول (الحياة والشمس) فبهر الناس بوصف رائع للطبيعة، يجذب ويغري. ثم أتبعه بكتابه الثاني (البؤس المقدس). وقد نقل هذا الكتاب إلى الفرنسية. ثم اختص بالأقاصيص، فأخرج:(وطني العزيز) و
(بالقرب من الأرض).
وفي سنة 1928 أخرج (اعترافاته) فأحدث أثراً في فنلندا، وقد شبه الناقدون كتابه هذا، بالزهرة المتفتحة ذات الأريج العطر المسكر. لأنه كان فيه بعيداً عن التكلف والنحت، سهلاً متدفقاً رائعاً.
وكان يؤخذ على أديب فنلندا الأكبر الإطناب وعدم الدقة، وهذا المأخذ لا يأتي من ضعف الشخصية المبدعة، ولكن من قلة إعمال الفكر والملاحظة. على أنه نجا من هذا العيب في كتابه الذي أسماه (ماتت في ريعان الصبى)، وقد ترجم إلى كثير من اللغات ويعد أروع ما أخرجه للناس.
ونستطيع أن نقدّم لهذه القصّة خلاصة موجزة لشأنها الكبير: فقد كان لزوجين من أغنياء القرويين ولد فرد، تزوج فتاة من أقرباء أبيه. ولم يلبث طويلاً حتى قضى أبوه ولحقت به أمه. فبدأ يعاني جفوة الزمان وإهمال الزوج. فقد كانت زوجه ضعيفة الخلق مريضة الجسم، لا تستطيع أن تشد أزره أو تساعده على تدبير أطيانه واستثمار أمواله. ولم يكن ذا بأس شديد أو حزم ماض أو إرادة صلبة، فبدأ الناس يسلبونه ماله، ويوقعون بينه وبين أعوانه، فاضطر إلى بيع أراضيه الواسعة وحقوله الشاسعة، وداره التي رأى النور فيها، ومنزله الذي عاش فيه أبواه ومن قبلهما أجداده. فخشي الذل، ورحل إلى قرية مجاورة وعاش فيها يُعاني ألم الفقر وبؤس العوز، ثم فجع في زوجته التي قضت نحبها أسيانة حزينة.
وعاش الرجل (غوستاف) مع ابنته (سليجا) التي تركتها زوجته من خلفها، وكان شديد الحب لها، والتعلق بها، ولكنه لم يمتّع بالعيش معها طويلاً، بل مات وعمرها خمسة عشر عاماً. فاضطرها اليتم والفقر إلى الخدمة في قرية مجاورة. وكانت حلوة العينين، عذبة الكلام، أنيقة الجمال؛ وكانت تؤثر الوحدة والانفراد إذا فرغت من عملها على الاختلاط بالناس. وما كان أحد ليستطيع معرفة ما يجول في خاطرها ويعجّ في نفسها. فلما تخطت العشرين من عمرها التحقت بخدمة شيخ كان أستاذاً في إحدى الجامعات فحنا عليها بلطفه وآثرها بعطفه، فذاقت الراحة وعرفت لهناء وساعدها الزمان، فعرفها شاب اسمه (أرماس) أتى من المدينة ليصيف، فتحابَّا وقضيا ليلة (تدنيه ويدنيها) حتى إذا كان طفل الغداة تلقى
كتاباً ينبئه بمرض أصاب أمه وكاد يهلكها فتفارقا، وكان العام 1917 في أوائله والحرب مستعرة الأوار، والفوضى ضاربة إطنابها في كل مكان.
ومرضت (سيلجا) وما شفيت إلا بعد زمن طويل، وكان الأستاذ الشيخ قد اضطر إلى الرحيل، فتركته والتحقت بخدمة أناس آخرين، فعاودها المرض، وكانت تدعو ربها أن يعيد إليها (أرماس) وأن ينقذه من شر الحرب الأهلية التي قامت آنئذ وأن يقيه شر الجنود الحمر الذين هاجموا البلاد. وأضنى المرض جسمها فعجزت عن العمل، ولكن سيدتها أبقتها طمعاً في صُبابة مال كانت ادخرتها، وآوتها في غرفة حقيرة قطَّعت فيها أيامها الأخيرة وهي راضية مطمئنة لا تأبه بمرضها ولا تخشى الموت، معتقدة أنها ستلقى يوماً خطيبها الشاب الذي أحبته، والذي أصيب بمرض في صدره، وقطع الحمر رجله. وتفقدوها ذات يوم فألفوها ميتة وهي تبسم.
ويُعدُّ هذا الأديب مجدِّداً، فقد أعرض عن الأقوال السالفة والتعابير السخيفة التي لجأ إليها من سبقه من الكتاب، ولا تصلح الآن، وابتدع أقوالاً وتشبيهات كثيرة ترقص وتعجب.
صلاح الدين المنجد
2 -
خير الدين الزركلي الكاتب
قرأت في ثنايا نقد الدكتور بشر فارس لتاريخ الآداب العربية لبروكملن أن هذا المستشرق قد جعل خير الدين الزركلي في عداد الكتاب. على أن خير الدين ليس بكاتب، ولا يصح أن نسميه كاتباً لئلا تنهار شهرته، لأن ما أخرجه للناس في النثر ليس بشيء، اللهم إلا (أعلامه) وكلها جمع.
أما ميزة خير الدين فهي في شعره. ولقد كان - وأعني خير الدين الشاعر، لا خير الدين الموظف - من أرق شعرائنا وأنصعهم ديباجة، وأحلاهم شعراً؛ ولقد كان في طليعة شعراء سورية المطبوعين السباقين.
ونقد الدكتور بشر يبين للناس خلط بعض هؤلاء. . . وهل من الدقة ومن البحث والتحقيق جعل الشعراء كتاباً ومنح الألقاب من لا ألقاب لهم!
ص. ا
شعراء الشرق والطبيعة الغربية
اطلعت في عدد يوم الأحد الماضي من جريدة (الإجبشان مايل) الإنجليزية على كلمة كتبها مكاتب فاضل بمناسبة قصيدة أخي الشاعر الأستاذ علي محمود طه (أغنية الجندول) التي غناها الأستاذ عبد الوهاب في الإذاعة المصرية.
وكل ما جاء في الإجبشان مايل خاصاً بشاعرية صديقي فهو حق؛ وصديقي شاعر مجيد له وثبات وومضات معروفة. إلا أن الكاتب الفاضل ذكر أن علي محمود طه (هو الشاعر الشرقي الوحيد الذي سحر بجمال الطبيعة في الغرب وسجل هذا الجمال في شعره الغنائي).
والواقع أن هذا الكلام بعيد من الحق كل البعد. ففي الشرق شعراء كثيرون اطلعوا على مباهج الطبيعة في الغرب وسجلوها في شعرهم قبل أن يشدو علي محمود طه ببيت، وقبل أن يزور أوربا زيارته العابرة بزمن طويل.
وإذا خلَّينا شوقيّاً وحافظاً ومطران فهناك كثير من الشعراء الشرقيين تغنوا بمحاسن الطبيعة الغربية في شعر عربي جميل.
أين إيليا أبو ماضي وقصيدته (العوسجة) وأين مخائيل نعيمة وقصيدته الخالدة (النهر المتجمد) وأين شكر الله الجر وقصيدته (شلال تيجوكا) التي نشرت بالمقتطف سنة 1932؟
ولصديقي العتيق (في الصداقة لا في السن!) الدكتور بشر فارس قصائده الغنائية الخالدة في وصف الطبيعة الأوربية، وقد نظمها متأثراً بالجو الغربي الذي عاش فيه زمناً طويلاً، وقد نشر المقتطف أكثر قصائده منذ سنة 1928 كقصائده الأربع (الخريف، والشتاء، والربيع، والصيف في باريس)، ثم الخريف في برلين. وآخر قصائده (في جبال بافاريا) التي نشرت في مقتطف مارس سنة 1937 وأعادت نشرها مجلة (الجمهور) البيروتية في العام نفسه.
وأغلب شعر (الشاعر القروي) في وصف مجالي الطبيعة في أمريكا الجنوبية. ولزميلي الأستاذ فخري أبو السعود شعر كثير في وصف الطبيعة الأوربية وخاصة مقاطعة (ديفون) الإنجليزية التي عشنا فيها زماناً.
ولكاتب هذه الكلمة قصائد كثيرة تنشر في مجلة المقتطف من سنة 1935 إلى الآن تحت
عنوان (وحي إنجلترا) نذكر منها (ديفون الجميلة)(وأرض شكسبير)(وبحيرة دندرمير) والقرية النائمة - مقتطف ديسمبر سنة 1939، وقد سجلت تذكاراً لزيارتي القصيرة للجبل الأبيض بفرنسا قصيدة في مقتطف ديسمبر سنة 1937 عنوانها:(ثلاجة الجبل الأبيض). . .
محمد عبد الغني حسن
طبع الكتب الدينية
على أثر ما نشرناه من بعض الأخطاء في طبع أحد المصاحف التي ظهرت أخيراً، اهتم فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر بالأمر، وأخذ في تحقيقه تمهيداً لمنع تداول هذا المصحف.
وقد قابل فضيلته في مكتبه فضيلة شيخ المقارئ، وصاحب المطبعة التي طبعت هذا المصحف ودار البحث حول هذا الموضوع.
وقد اعتزم فضيلة الأستاذ الأكبر اتخاذ التدابير لتنظيم الإشراف على طبع القرآن الكريم وكتب الحديث والتفسير والفقه والتوحيد وما إلى ذلك من الكتب الدينية، بحيث يراجع بعض حضرات العلماء هذه الكتب في أثناء طبعها، فلا يؤذن لدور الطباعة في إصدارها إلا بعد هذه المراجعة، إذ يرى فضيلته أن وقوع أي خطأ في هذه الكتب، قد يقوم عليه حكم شرعي غير صحيح، أو يتخذ منه دعاة التأويل وسيلة لتضليل العامة.
تاريخ الأمة المصرية
أصدر معالي وزير المعارف قراراً بترجمة كتاب (تاريخ الأمة المصرية) من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية. وقد جاء في ديباجة القرار أنه بالنسبة لما لهذا الكتاب الذي ألفه جماعة من المؤرخين الفرنسيين برياسة المسيو جبربيل هانوتو والذي شمله بالرعاية السامية صاحب الجلالة المغفور له الملك فؤاد الأول، من القيمة العظيمة في تصوير تاريخ مصر في عصورها المختلفة.
ولما كان من الخير أن يعم به النفع ويستطيع الرجوع إليه والانتفاع به جميع المثقفين في مصر والشرق العربي من الذين لا يحسنون اللغة الفرنسية، وتحقيقاً لما ينبغي من إغناء
اللغة العربية بأن تنقل إليها أمهات الكتب الجامعة في العلم والأدب والفن، فقد تقرر ما يأتي: تؤلف لجنة لترجمة كتاب (تاريخ الأمة المصرية) إلى اللغة العربية في أسلوب قريب يسير ولمراجعة هذه الترجمة.
يكافأ المترجمون والمراجعون على ما يبذلون من جهد.
يشرف الدكتور طه حسين بك على هذه الترجمة تحقيقاً لما ينبغي بين أجزائه المختلفة من الوحدة والاتساق.
والكتاب في ستة أجزاء نيط كل جزء منه بمترجم من وزارة المعارف ومراجع من كلية الآداب.
الجيش المصري قبل عهد محمد علي باشا
تناول أحد الكتاب الأفاضل خطاب العرش، فنقده نقداً أدبياً طريفاً على صفحات (الرسالة)، غير أنه أنكر ما جاء في هذا الخطاب من أن عهد محمد علي باشا كان أول عهد لظهور الجيش المصري في الوجود.
ولكن التاريخ يحدثنا بوضوح أن مصر لم يتكون فيها جيش مصري صميم من أبنائها الخلصاء قبل عهد محمد علي باشا الكبير بزمن طويل. ولا يمتد هذا الزمن إلى الفتح العربي فحسب، بل إلى ما قبل ذلك أيضاً. إنه يمتد إلى حكم البطالسة لهذه الديار. فمنذ حكمت مصر الملكة كليوباترا، وأدت سياستها إلى الاحتلال الروماني حوالي سنة 30 قبل الميلاد، فقضى بذلك على جيش مصر قضاء مبرماً. وظلت البلاد مزرعة للرومان نحو 670 سنة حتى استنقذها منهم العرب، ومن هنا انتقل إليهم أمر احتلالها حتى ولوا أمرها أحمد بن طولون سنة 254هـ وذلك في خلافة العباسيين.
وأحمد بن طولون رجل تركي، ولكنه صنع بهذه البلاد كما صنع محمد علي باشا من بعده إذ أداه بعد نظره إلى إصلاح مرافقها والسهر على مصالحها وتدبير أموالها وتثميرها وتكوين جيش قوي لها. ثم أعلن الناس باستقلالها.
هذا ما صنعه ابن طولون، غير أن أبناءه لم يحافظوا على استقلال مصر كما حافظ، ولم يدافعوا عنها كما دافع. أما أبناء محمد علي باشا فقد حافظوا على هذا الاستقلال ودافعوا عنه، ولا يزالون مدافعين. . . ليس هذا كل الفرق بين الرجلين، بل هناك فرق لا ينسى،
وهو أن بن طولون لم يستخدم في جيشه جنوداً مصرية من صميم أبناء البلاد كما فعل محمد علي، بل كان جيشه من المماليك الأتراك الديالمة. وقد أخطأ بعض المؤرخين المعاصرين ودونوا في الكتب المدرسية الحالية أن أول من استخدم المماليك الأتراك في مصر وجلبهم إليها واستعان على تثبيت سلطانه، خلفاء الفاطميين تشبهاً منهم ببني العباس. والواقع أن أول من فعل ذلك هو أحمد بن طولون، فقد ذكر القلقشندي في صبح الأعشى ما نصه عند الكلام عن ابن طولون:(وفي أيامه عظمت نيابة مصر وشمخت إلى الملك. وهو أول من جلب المماليك الأتراك إلى الديار المصرية واستخدمهم في عسكرها). وقال ابن إياس: (قال ابن وصيف شاه: فلما تم أمر الأمير أحمد بن طولون في ولايته على مصر واستقامت أحواله بها استكثر من مشتري المماليك الديالمة حتى بلغت عدتهم أربعة وعشرين ألف مملوك).
وبعد قليل فتح الفاطميون مصر سنة 358هـ فاشتهروا باستخدام كثير من الجنود المرتزقة من أمم شتى، فتكوَّن الجيش في عهدهم من أتراك وعرب ومغاربة ومصامدة وصقالبة وروم وعبيد وغيرهم. وكان عدم التجانس بين فصائل الجيش الفاطمي سبباً قوياً لنزاع طال بين هذه الأجناس أدى إلى زوال الدولة.
وخلفها صلاح الدين الأيوبي عام 567هـ فقضى على نظام الجيش الفاطمي المضطرب، ورغب في توحيد جنس فصائل جيشه، ولكنه بدلاً من أن يتجه إلى أبناء مصر فيتخذ منهم حاجته من قادة وجند، استعار ذلك من الجنس الكردي.
وفي أواخر الدولة الأيوبية استكثر الملك الصالح الأيوبي من شراء المماليك الأتراك ونشأهم تنشئة عسكرية وأطلق عليهم اسم (البحرية) وهم الذين انتزعوا حكم البلاد من يد الأيوبيين سنة 648هـ وأسسوا دولة المماليك. . .
وفي عهد هذه الدولة الجديدة أصبح شراء المماليك الجدد وتزويد الجيش منهم سنة متبعة لبث زهاء ثلاثة قرون انقسمت فيها جنود المماليك إلى طوائف متنابذة كان تنابذها وبالاً على مصر، على الرغم من خدماتها الجليلة التي يعترف بها التاريخ.
وقد زالت دولتا المماليك بواسطة الاحتلال العثماني عام 923هـ ولم يعد في مصر جيش خاص بها لا من أبنائها ولا من الطارئين عليها. وتضافرت عليها الكوارث في ذلك العهد
البغيض حتى أنقذها من براثن العثمانيين هذا العصامي النابه محمد علي باشا. وكان من جملة ما قام به وفي مقدمة حسناته إلى مصر أن دفع أبناءها إلى ميدان الجندية وفتح لهم المدارس الحربية وغرس فيهم معنى المصرية الصحيحة ونبه روح الإقدام والتضحية ونال من وراء ذلك جاهاً عريضاً وملكاً كبيراً. وعاد جيش مصر لأول مرة في التاريخ بعد زمن البطالسة.
محمود رزق سليم
ذكرى ابن الهيثم
ستحتفل الجمعية المصرية للعلوم الرياضية والطبيعية في الساعة السادسة من يوم الخميس 21 ديسمبر بقاعة الاجتماعات الكبرى بالجامعة المصرية بذكرى الحسن بن الحسن بن الهيثم العالم العربي الذي عاش في القاهرة، بمناسبة مرور تسعة قرون على وفاته. وسيكون الاحتفال تحت رياسة الأمير محمد عبد المنعم رئيس الشرف للجمعية، وسيلقي كلمة الافتتاح حضرة صاحب السعادة أحمد لطفي السيد باشا مدير الجامعة، ثم يعقبه معالي الأستاذ مصطفى عبد الرزاق بك وزير الأوقاف السابق؛ ثم يتكلم عن ابن الهيثم من نواحيه الرياضية والطبيعية والفلكية والهندسية الأساتذة: الدكتور علي مصطفى مشرفة بك عميد كلية العلوم، ومصطفى نظيف بك أستاذ الطبيعة بكلية الهندسة، والدكتور محمد رضا مدور مدير مرصد حلوان، والدكتور محمد محمود غالي بمصلحة الطبيعيات. وكلهم من أعضاء مجلس إدارة الجمعية. ثم يتناول الدكتور حجاب مدير مكتبة الجامعة الموضوع من الناحية الببليوغرافية. والاحتفال بذكرى عالم من علمائنا العظام على هذه الصورة العظيمة عمل عظيم يسجل لهذه الجمعية الجليلة بالحمد والشكر.
رسالة النقد
كتاب (الإمتاع والمؤانسة)
بقلم الدكتور بشر فارس
صيف سنة 1930 قدمت من باريس إلى القاهرة أطلب فيها كتباً ومخطوطات؛ فاهتديت (دارَ العروبة)، فعرفت أحمد زكي باشا رحمه الله رحمة واسعة - فكان بيني وبينه ما تشاء من الود: أُكبره ويأنس بي. وقد وقع إليَّ فيما وقع من خزانة كتبه الخاصة كتاب (الإمتاع والمؤانسة) لأبي حيان التوحيدي. فأقبلت عليه، فإذا هو جليل نفيس. وكم تمنيت وتمنى (شيخ العروبة) أن يُنشر هذا المخطوط فتُذاع فوائده فتُدرَك على غير كلفة. وهذان الأستاذان أحمد أمين وأحمد الزين أقدما على طبعه وليس بين أيديهما سوى نسخة وبعض نسخة على جانب غير يسير من الاضطراب والتحريف (والنسختان مما خلفه زكي باشا). فما أحرى الأستاذين بالتهنئة والشكر! وكان الأستاذ أحمد أمين أخبر المستشرقين في مؤتمرهم (سبتمبر 1938، بركسيل) بأنه ناشر كتاب التوحيدي، فاهتز القوم لذلك.
ونشرُ كتابٍ ذاهب في التصرف بضروب الكلام، جامع لمنثور المسائل من أدبية وفلسفية، مع ما يفسد ألفاظه ويُسقم عباراته من جهة مسخ النسّاخ، ليس بالمطلب السهل. ومن هنا ما جاء في ضبط الكتاب من فَرَطات. وقد بيّن طائفة منها صديقي الدكتور زكي مبارك في العدد الماضي من الرسالة، ولا عجب فإن الدكتور زكياً بأدب التوحيدي عارف وبأسلوبه بصير؛ ألم يؤلف فيه فصولاً؟
والحق أني كثيراً ما توقَّفت وأنا أقرأ (الإمتاع والمؤانسة). فلا أرى بداً من التنبيه هنا على ما وقَفَني، وإنما مقصِدي تقويم الكتاب لوجه العلم وحدَه. وإني قاصر الاستدراك على الأربعين صفحة الأُوَل، على سبيل التمثيل (والكتاب في 226ص). ثم إني مقسم المآخذ على حسب المنهج الذي عليه يجري العلماء في تحرير المخطوطات.
1 -
التباعد عن سياق النصّ:
ص 19 - 20: يروي التوحيدي كيف مثل في (الليلة الأولى) بين يدي الوزير، فأخبره الوزير بأنه استقدمه للمحادثة والتأنيس. فيكتب التوحيدي (ص20 س8):(فقلت: قبل كلٍ، شيءٌ أريد أن أُجاب إليه يكون ناصري على ما يُراد مني. فقال (الوزير): قل ما بدا لك.
قلتُ: يؤذن لي في كاف المخاطبة وتاء المواجهة للفرار من مزاحمة الكناية ومضايقة التعريض. . .).
هذا وأما الناشران الفاضلان فقد دوّنا ذلك هكذا: (فقلت قبلُ: كلُّ شيء أريد أن أجاب إليه يكون ناصري. . .). وهذا غريب: فإن التوحيدي لم يبدأ بالكلام، وإنما قوله ذلك هو فاتحة نطقه في مجلس الوزير. فكيف يكتب:(فقلت قبلُ). ثم إن غرضه أن يقول للوزير ما تفسيره: (أجل سأحادثك وأؤنسك، ولكنْ قبلَ كلٍ هنالك شيء أريد أن أجاب إليه وهو أن تأذن لي قي استعمال كاف المخاطبة وتاء المواجهة فترفع الكلفة وتيسّر لي الحديث إليك).
وعلى ذلك اضطراب الترقيم، وهو كثير تصيبه في كل صفحة. ولن أتمهل عند هذا المأخذ خشية الإملال. وحسبك وضع نقطة في آخر السطر الـ14 من الصفحة الثانية، وأخرى بعد الكلمة الرابعة ص7 س4، وأخرى بعد الكلمة الثانية ص13 س11، وأخرى بعد الكلمة العاشرة ص14 س6، وأخرى بعد الكلمة السابعة ص15 س2؛ ثم ضع شولة منقوطة بعد الكلمة الأولى ص13 س11، ونقطتين بعد الكلمة العاشرة ص14 س5، وبعد الكلمة الثانية ص16 س13؛ ثم ضع علامة استفهام بعد الكلمة السادسة ص15 س14 والكلمة الثانية ص15 س16.
2 -
التجافي عن أسلوب المؤلف:
ص14 س2، 3:(وصيانة النفس حسنة إلا أنها كلفة محرجة إن لم تكن لها أداة تُجدُّها وفاشية (أي مال) تَمدُّها) - والوجه: تُمدُّها، موازنةً لتُجدُّها؛ والتوحيدي معروف بإيثار الازدواج (راجع مقدمة الكتاب لأحمد أمين ص: ق، و (النثر الفني في القرن الرابع) ج1 ص113، 115).
ص24 - س4، 5:(فأما الفَلك وأجرامه المزدهرة في المعانقة العجيبة، ومناطقِه الحفيّة، فقد. . .) - والصواب: (في معانِقِه). والذي هداني إلى ذلك كلمة (مناطقِه)، إذ قلت: إن التوحيدي أراد الازدواج هنا. وإذا (المعانق) جمع لمِعْنقَة ومعناها القِلادة، كما أن (مناطق) جمع لمِنطقة (وهو كل ما شُدَّ به وسطه كالنطاق: عن (لسان العرب)). ثم استُعملت المِنطقة والقِلادة والمِعنقة في مصطلح علم الهيئة (راجع مثلاً: (مفاتيح العلوم للخوارزمي) مصر 1342 ص128 و (محيط المحيط) مادة: ن ط ق، ق ل د، ونص التوحيدي). والدليل
القاطع - بعد هذا كله - أن التوحيدي كتب خمس عشرة صفحة (ص39 س 4): (الصعود إلى معانق الفَلك).
3 -
ترك الغامض على حاله:
ص14 س3، 4:(وتركُ خدمة السلطان غيرُ الممكن ولا يستطاع إلا بدينٍ متين. . .) - ما المعنى هنا؟ وما غيرُ الممكن)؟
ص25 س6، 7:(ما الفرق بين الحادث والمحدَث والحديث؛ فكان من الجواب أن الحادث ما يُلحظ نفسُه. . .) - فربما كان يحسن بالناشرين أن يهتديا بكتب الفلسفة ودواوين مصطلحاتها فيشرحا تلك العبارة. لغير قراء الفلسفة، على نحو شرحهما - في غير موطن - لألفاظ لغوية قد تدقّ على المتأدبين.
4 -
التسرع في تصويب الأصل:
ص17 س12: (فذهب هذا كله، وتاه أهله). وزاد الناشران في الهامش: (تاه أهله: هلكوا. وفي الأصل: باه) - والصواب عندي: (باد) فهو أقرب إلى مدلول العبارة، فضلاً عن أن التوحيدي كتب بعدُ (ص111 س13):(وقد عفت (اللغة) منذ زمان طويل، وباد أهلها).
ص39 س3: (الشهوات الغالبة، والعقيدة الردئية، والأفعال القبيحة). وفي الأصل: (العالية) - وألصق بمادة النص عندي: (الغالية أو العاتية أو العائبة. ألا ترى التوحيدي يستعمل (الردئية) صفة للعقيدة، و (القبيحة) صفة للأفعال، فأين ما يفيد التهجين في كلمة (الغالبة)؟
5 -
قلّة التقصّي:
ص38 س15، ص39 س1:(ولا عجب فإنه إذا كانت الركاكة العائقة تمنع الناس من العدو. . . لأن الحركة قد بطلت بالركاكة. . .). وهنا زاد الناشران في الهامش: (الركاكة: الضعف أو لعل صوابه: (الزمانة) إذ الركاكة كثيراً ما تستعمل في ضعف العقل والرأي، والمراد هنا ما يخص البدل).
فإن صح أن الركاكة كثيراً ما تستعمل في ضعف العقل والرأي (راجع (لسان العرب) أول مادة ر ك ك) فلا شك أنها استعملت أول الأمر في ضعف البدن، وذلك على حساب سنّةٍ من سنن فقه اللغة: مدارها أن الألفاظ تتدرج من جانب الحِسّ إلى جانب المعنى. والركاكة للبدن معروفة، من ذلك ما جاء في (باب ضعف الخَلق) من (مختصر تهذيب الألفاظ) لابن
السكيت (بيروت 1897 ص88): (والركيك: الفَسل الضعيف (والفَسل بالفتح: الذي لا مروءة له، عن (القاموس) والمروءة هاهنا: الهمة) قال جميل بن مَرثد:
فلا تكوننَّ ركيكاً ثنتلا
…
لعوًا وإن لاقيتَه تقهَّلا)
(وتقهّل: مشى مشياً ضعيفاً، عن (القاموس)). وعلى هذا فالذي جاء في الهامش لم يظفر بالتدبّر كله.
6 -
التحكم في رفض رواية النصّ:
ص24 س13، 14:(وأما قولهم: هذا شيء خَلَق، فهو مضمَّن معنيين (كذا): أحدهما يُشار به إلى أن مادته بالية، والآخر أن نهاية زمانه قريبة). وفي الأصل (سايلة) - فرفض الناشران الفاضلان رواية الأصل إذ وجدا فيها (تحريفاً وقلباً). هذا وكان يحسن بهما أن يتبينا مُفاد كلمة (السايل) من دواوين الفلسفة، وكلام التوحيدي في هذا الموطن يدخل في فنها. فالسايل في الفلسفة العربية من السيلان الذي هو (عبارة عن تدافُع الأجزاء. . .)((كشّاف اصطلاحات الفنون) كلمة (السيلان) و (السائل)). وفي (تهافت التهافت) لابن رشد مثلاً (بيروت 1930 ص137، 140، 572) يرد (السيلان) في سياق الكلام على الفناء، وتأتي صفة (سيْال) ضدّاً لصفة (ثابت). وقد جاء (السايل) (لا: السائل) في (كشاف اصطلاحات الفنون) من غير تفريق (واذكر قول المناطقة: (الألفاظ أعراض سيالة)). وعلى هذا فرواية الأصل صحيحة إذ يجري الحديث على الفناء في أسلوب فلاسفة العرب.
ص25 س14: (كله من ديوان واحد وواد واحد وسبك واحد). وفي الأصل، بدلاً من (وواد):(وهو) - فرفض الناشران رواية الأصل إذ قالا (لا معنى لها)، وكأني بهما عدّا (هو) ضميراً منفصلاً لا اسماً مُعْرباً. ففي (لسان العرب) ج20 ص251 س16:(هَوْ من الأرض: جانب منها). فالهَوْ إذن له معنى، ومعناه يفيد مُفاد الوادي وهو اللفظ الذي آثره الناشران بسلائقهما المُحدثَة على سلامتهما، ظناً منهما أن الهَوْ ليس في اللغة.
أذكر في لغتنا العامية: (الهِوْ)، وفصيحه: الهوة.
ذلك ما حقَّقتُه. ولعل الأستاذ أحمد أمين ينظر في سطور الكتاب على منهج قويم وهو به أدرى، فيستدرك عليه. فإني لا أشك - بعد الدكتور زكي مبارك - أنه لم يصرف إليه عند التحرير موفور هَمّه.
بشر فارس