المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 339 - بتاريخ: 01 - 01 - 1940 - مجلة الرسالة - جـ ٣٣٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 339

- بتاريخ: 01 - 01 - 1940

ص: -1

‌الرسالة في عامها الثامن

في صباح هذا اليوم يستقبل الناس عامهم الجديد وهو يبرز من حجاب الغيب بروز الجنين من كمام الحياة لا تدل معارف وجهه على خير ولا شر؛ وتستقبل الرسالة معهم عامها الثامن وهو يبصر في ظلام الغد بصيص الأمل في حواشي اليأس لا يُخلد إليه ألا ريب الحذر بعرف ولا نكر. وفي مساء البارحة شيع الناس سنتهم الفارطة وهي ترزح بالحوادث الحسام، وتسفح بالدماء الحرام، وتنذر بالقارعة العامة؛ وشيعت الرسالة معهم سنتها السابعة وعليها سمات وندوب من جهاد الرأي ونضال العيش وعنت الخصومة. وبين الساعة التي نشيع فيها العام الفقيد، والساعة التي نستقبل فيها العام الوليد، يرتسم الحد الفاصل بين ذكرى وأمل، وبين ماض ومقبل، وبين مرحلة ومرحلة من طريق الحياة الطويل الغليظ المبهم. وما يوم الناس إلا ذكراهم للأمس ورجاؤهم في الغد. وما حاضرهم إلا التحسر على الماضي والتخوف من المستقبل. وما عيدهم بين سنة وسنة إلا وقفة استجمام بين سُرىً ملغب أمنوا ضلاله وعلِموا صباحه، وبين سير مجهد يخشون أهواله ويجهلون ليله!

الدنيا حرب دائمة بين الحياة والموت والصلاح والفساد والخير والشر؛ ولكن هذه الحرب الخفية قد أصبحت لضرورتها ولزومها جزءا من نظام الوجود إن لم تكن هي ذلك النظام نفسه. ومن أجل ذلك ألفناها إلفنا قوانين الطبيعة فلا نتبرم بها ولا نضيق. فأنا ونفسي، ومنفعتي ومنفعتك، ورأيك ورأيه، ورغبتها ورغبته، في حرب مشبوبة لا تنطفئ، وعداوة منصوبة لا تنكسر. والحياة مع هذا الصراع المستمر زاخرة، والكون مع هذا الدمار الشامل قائم. ولكن الحرب التي تشنها أمة على أمم فتزلزل الأرض بالقذائف، وتشق السماء بالرصاص، وتخسف البحر بالألغام، وتهلك الحي بالهم والسم والنار والقحط، مثلها كمثل الزلزال والطوفان والزوبعة، لا يتسق معها نظام، ولا يتصل بها عيش، ولا يستقيم عليها أمر؛ ثم لا يميز شياطينها المجرمة المحطمة الهوجاء الضار من النافع، ولا المذنب من البريء.

من الجائز أن تنجو الرسالة من حزب الهوى والخصومة والمنافسة. فإن الحرب في تنازع البقاء هي السلم، والثورة لبقاء الأصلح هي النظام؛ والسلاح الذي لا يخذل في هذه الحرب هو الصدق والصبر والإيمان والمثابرة، وكلها في مقدور المجاهد الصالح. ولكن من المستحيل أن تسلم الرسالة من شر هذه الحرب الهتلرية الطاحنة؛ فإنها على ضراوتها بكل

ص: 1

شر وإضرارها بكل شيء، كانت أقسى ما تكون على الصحافة: قطعت عنها الوارد من الورق والحبر وأدوات الطباعة، فنقصت في الكيف والكم، بقدر ما زادت في النفقة والهم. وقطعت عليها السبيل إلى الأقطار الأخرى بصعوبة النقل وشدة المراقبة وضيق المعاملة، فتعذر وصولها إلى البلاد المحاربة، وقل انتشارها في الأقطار البعيدة. وشُغِل الناس بأخبار الحرب وأفكارها وأوزارها وأطوارها وأزمتها ونتيجتها عن النظر في الأدب اللباب والفن الخالص، فلم يقرءوا إلا ما يتصل من قريب أو بعيد بهذه القيامة القائمة

كان من شر هذه الحرب على الرسالة أن كابدت ما كابد غيرها من صحف العالم أزمة الورق، فاضطرت إلى أن تنقص حجمها بعض النقص، وتقتصد في زينتها بعض الاقتصاد. ورأت أن تضمن لنفسها استمرار الحياة في هذا الدهر العصيب فطوت (الرواية) في أحشائها إلى حين ليتوفر لها ما كانت تنفقه أختها من الورق وتهلكه من المادة. وكل ذلك في رأينا ورأي القارئ الصديق أهون من التهور في الهجوم القاتل، أو التعرض للأشر المعطل

على أن هذه الحرب كربة ستنجلي وأزمة ستنفرج. ثم يعود كل شيء إلى خير مما كان وأحسن. ولئن ظهر أثر هذه الحرب الضروس على سمت الرسالة وحليتها، فمعاذ الّله أن يمتد ذلك إلى تحريرها وخطتها؛ فإن التأثير الخارجي لا يتجاوز الخارج ولا يتعدى الشكل؛ وأما التأثير الداخلي الذي يمس الموضوع والجوهر والكنه فهو انبثاق الإيمان والفن من قلب الكاتب، وانتشار الاطمئنان والثقة من روح القارئ! وهيهات أن يعتور هذين المؤثرين فتور أو قصور أو وهن. وبين الرسالة وقرائها ولله الحمد ألفة وثقة وتعاون؛ ولولا ذلك ما ثبتت هذه الصحيفة الضعيفة على عرك الخطوب وكيد المطامع. ونحن لا نزال نأنس في أسرة الرسالة الكفاية والقدرة على إرضاء القارئ في كل جهات عقله وقلبه إذا استمر يوليها الثقة والمعونة. وسيرى أن الرسالة من غير أن تقطع وعداً أو تجدد عهداً تسير في طريق الكمال بقدم ثابتة وخطى متزنة، فلا تعسف لتضل، ولا تسرع لتكل، ولا تجازف لتنقطع. والرسالة في أناتها وثباتها لا تخرج عن سنن الطبيعة؛ فهي مظهر لرقي الأمة العربية في الفكر والخيال والشعور؛ وهذه المواهب لا ترقي في الفرد والأمة إلا بمقدار

صديقي القارئ، تعودت في مثل هذا اليوم من كل عام أن أستريح إليك بذكر ما لقيت

ص: 2

الرسالة في طريقها الجاهد من أشواك وأشراك؛ ولكنني أخذت أستحلي الصَّاب في سبيل المبدأ، وأستعذب في بلوغ الفوز، وأستبقي لنفسي لذة الصبر وثواب الألم. ولئن شكوت لأشكون إلى الله أن كبراءنا عطلوا في أنفسهم حاسة الفن فلم يعودوا يدركون معنى الجميل؛ وأن أدباءنا قتلوا في قلوبهم عاطفة الأدب فليسوا اليوم من كرمها في كثير ولا قليل؛ وأن زعماءنا تفرقت بهم السبل بتفرق الغايات، فلكل غاية دعوة ولكل دعوة سبيل.

(قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، وسبحان الله وما أنا من المشركين) صدق الله العظيم.

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌الإنسان والحيوان والحرب

للأستاذ عباس محمود العقاد

غير قليل ما يمكن أن يقال في الإنسان والحيوان والحرب، فإن الحرب تفتح المسارب بين الإنسانية والحيوانية على المصراعين بل على شتى المصاريع. وقد تفتح ما بين الإنسان وبين عالم البطولة والملأ الأعلى كذاك.

ففي وسعنا أن نزيد مقالاً آخر لأصدقائنا القراء الذين استزادونا من الكتابة في هذا الموضوع، وما أحفله بالحقائق والمشاهدات، وما أوسع منادح القول فيه.

الإنسان يتهم الحيوان بعدوى الحرب، ويزعم الحربيون من الأناسي أنها آفة لا معدي عنها ولا دواء لها، مذ كانت وراثة الطبع الحيواني حيث كان، مبتدئاً من الجراثيم ومنتهياً إلى الحيوان وفريق من بنى آدم يبرئون الحيوان من هذه التهمة ويحصرون آفة الحرب في أبناء آدم دون سائر الأحياء.

أمنصفون هم لذرية آدم؟ أصادقون هم في تبرئة الحيوان؟ بعض الإنصاف وبعض الصدق لا مراء.

فهم يسألون: أين الحيوان الذي يحشد الأسراب والقطعان لقتال سرب أو قطيع من جنسه؟ بل أين هو الوحش الذي يجمع أبناء جنسه لقتال جنس آخر من الوحش في الغاب أو في العراء؟ والحق أنهم في هذا السؤال محرجون، فالحرب كما نعلمها في ميادينها البشرية إنما هي خاصة من خواص أبناء آدم: هم دون غيرهم من الخلائق الحية يجمعون بعضهم لقتال بعض، ويخرجون على نية القتال حيث لا يقاتل حيوان وهو يعلم أو ينوي أن يقدم على قتال.

فالحرب ولا جدال إنسانية مقصورة على أبناء آدم، وإن كان العراك قسطاً مشتركاً بين جميع الأحياء.

وآخرون من الأناسيّ الحربيين يزعمون أن الحرب لا تزول لأن الطبيعة لا تتبدل. . . فما كان في النفس قبل آلاف السنين سيبقى في النفس بعد آلاف السنين!!

أصحيح ما يزعمون؟

صحيح بعض الصحة، لأن رأياً من لآراء لن يكون صحيحاً كل الصحة في جميع

ص: 4

الأحوال.

صحيح، والشاهد من عالم الحيوان الذي يحتجون به في استدامة البغضاء والشكاسة والقتل والقتال.

فأين كلب اليوم من أجداده بين الذئاب وأبناء الذئاب وأبناء آوى ووحشي الكلاب؟

كلب اليوم يحرس الحملان والأطفال، ويموت في سبيل الود والولاء. . .

وكلاب الأمس كانوا أخطر شيء على الحملان والأطفال، وأجهل خلق بالمودة والولاء.

فإذا جاز أن ينتقل الكلب هذا الانتقال وليست له حضارة ولا علوم ولا فلسفة ولا حالة عليا يصير إليها من حالته السفلى. . .

ألا يجوز أن ينتقل الإنسان مثله أو مرحلة أوسع من مرحلته، وهو يعبر المسافة بين الجهل الهمج وثقافة المهذبين؟

وللحيوان أنصار كثيرون بين أبناء آدم، أعجب ما في أمرهم أنهم أرفع الآدميين خلقاً وأبعدهم من الحيوانية شقة وأوفرهم من التقدم نصيباً، فهم - من بعض الوجوه - أحق بالانحناء على الحيوان من أولئك الذين يتعقبونه بالانحناء والتنديد، وهم أقرب الناس إليه!

أنصار الحيوان هؤلاء يكتبون العجب هذه الأيام في الذود عنه والرجعة بسيئاته إلى أصحابه من الآدميين. وقلما تخلو كتاباتهم من ظرف وفكاهة. . . أما العلم والإدراك فهما ماثلان أبداً فيما يطرقون من هذه البحوث.

لاحظ بعض العلماء المتفرغين للبحوث النفسية والحيوانية من الإنجليز أن الشجار قد ازداد بين الكلاب بعد نشوب الحرب الحاضرة، فبلغ عدد الكلاب العضوضة التي عالجتها مصحات الشرطة في لندن خلال شهر أكتوبر الماضي أربعمائة وعشرة، ولم يتجاوز في الشهر الذي قبله مائة وثمانية وتسعين!

أكثر من الضعف في الشهر التالي لنشوب القتال. . . فما تعليل ذلك؟

يقول مستر جونت خبير هذه المصحات: إنها عدوى الإنسان!!

فالكلاب، كما يقول: (مرهفة الحس بما يخالج نفوس أصحابها، تضيق صدراً إذا مَلكت صاحبها الحالة التي نسميها بالعصبية الحربية. وأنت إذا غضبت يوماً من قراءة أخبار الغارات الجوية خرج كلبك متحفزاً للوثوب على أول كلب يراه، ولا يعلم في أي شئ

ص: 5

يقاتل، وليس لديه ما يسميه الساسة: أغراض حرب أو شروط سلام؛ وحسبه أن صاحبه ثائر، فهو مثله يثور!)

ثم يقول الأستاذ جونت: (ويجوز أن يرجع هذا المزاج الكدر في كلاب العاصمة إلى قلة الرياضة لكثرة الوقايات الهوائية وضرورة المكث الطويل في البيوت، أو لسفر أصحاب الكلاب إلى الريف، ولكن السر الأكبر ولا ريب، إنما هو تلك النزعة القتالية التي تسري إليها من عشرائها الآدميين).

أرأيتم إذن؟

إنه الإنسان الذي يلقح الحيوان بلقاح الحرب والعدوان، وليس الحيوان بالأستاذ السابق له في هذا الميدان.

والمسألة بعدُ واضحة من غير حاجة إلى هذه الدراسات الحديثة وإن كانت هذه الدراسات مضيفة في الغد بعض المعرفة الجديدة بالطبائع والأخلاق.

فواضح قبل هذه الدراسات أن الإنسان يستعين بالحيوان في حروبه، ولم يحدث قط أن حيواناً استعان بإنسان في افتراس ضحاياه واغتيال أعدائه.

ومن قديم الزمن يستعين الإنسان بالحصان والكلب كلما وقع في نزاع بينه وبين أبناء جنسه، وأقل من ذلك عذراً أنه يستعين بالحمامة وهي رمز السلام والسلامة في تبليغ أوامر الفتك والهجوم. فقد يعذر المستعين بالحصان والكلب على أغراض الحرب لأنهما كانا عصراً من العصور الغابرة معدودين في حساب الوحوش. . . أما الحمامة فما عذر من يقحمها هذا المقحم المخيف، وهي في غير ما قاله المعري عنها:

ظلم الحمامة في الدنيا وإن حسبت

في الصالحات كظلم الصقر والباز

لا تتعرض لاتهام!

ومضى الناس في الحرب الحاضرة على سنة آبائهم من قديم الزمن، فلم يعتقوا الحصان بعد كل ما كشفوه من الآلات والمركبات. ولا يزال رجال من قادة الحرب يقولون إن له لدوراً لا يغنى فيه غناءه شيء ولا يلحقه فيه اختراع.

ولم يعتقوا الكلب بعد اختراعهم من أدوات التجسس والاستنشاء ما يرغم أنوف الكلاب، بل ضاعفوا الحرص عليها وصدرت أوامر الحكومة الروسية بتحريم خروجها من أرضها إلا

ص: 6

أن تكون معها شهادة إعفاء تثبت إنها (غير صالحة للخدمة العسكرية!)

والجديد فيما سمعنا به من مخترعات الحرب الحاضرة أنهم استخدموا الخنازير في بعض الجزر ببحر الشمال للتنبيه إلى الغارات الجوية، فإذا هبطت الطيارة المغيرة إلى الأرض على غرة من الرقباء صرخت الخنازير صرخة معلومة فتنبه الحراس إلى مكان الغارة.

كان الخنزير متهماً بالخبث قبل اليوم في غير برهان

أما اليوم فيحق لمن يقع في شراكه أن يقول مقال الغيظ أو مقال الاعتراف: ياله من خنزير!

ولكن في الحرب براً من الإنسان بالحيوان وليست كلها شراً في شر وعدواناً على عدوان

فإذا قلب الناس غداً صفحات الحروب الناصعة فسيجدون بينها صفحة من أنصع صفحاتها في هذه الحرب الحاضرة: تلك هي المصلحة التي أنشئت خصيصاً بالجزر البريطانية لوقاية الحيوانات أثناء الغارات الجوية. فأعدت الحكومة مئات الألوف من الصفائح التي تنقش عليها مواطن تلك الحيوانات وأسماء أصحابها وعنواناتهم للدلالة عليها وردها إلى مواطنها كلما شردت من الذعر إلى مكان بعيد عنها، وندبت الحكومة ألوفاً من متطوعيها للطواف على البيوت والحقول ابتغاء تسجيل ما فيها من فصائل الحيوانات المختلفة وتزيدها بالعلامات الدالة عليها. وأقامت ملاجئ للإسعاف متفرقة هنا وهناك لإيواء ما يحتاج إلى العلاج والإنقاذ من الحيوانات المصابة أثناء الغارات، ودبرت الأمر للعناية بالآدميين.

صفحة ناصعة في التاريخ الحديث، وحيوان من يجهل أنها مكسب روحي للإنسان قبل أن تكون مكسباً جسدياً للحيوان المصاب، حتى لو كان باعث التدبير فيها مقروناً بباعث العطف والإشفاق.

عباس محمود العقاد

ص: 7

‌فن كتابة القصة

للأستاذ محمود تيمور بك

يجمل بي قبل الشروع في الموضوع أن أشيرَ إلى أن الكتابةَ القصصية يجب أن يتوافرَ فيها ركنان: الأولُ: الموهِبة، والآخر: جريُ القصة على قواعدَ وأساليبَ متعارَفة. شأنها في ذلك شأنُ الشعر، لابد من توافر ركنين فيه: الشاعرِية، وصحةِ النظم

ومما لا جدالَ فيه أننا قد نجد الشاعر الموهوب، أعنى من يَلْهم المعانيَ الشعرية، فيفيض بها وجدانه من غير تعمّل، فإذا حاول النظمَ لم تستقم له الأبيات، لقلة بِضاعته من قواعد العَروض، وحداثة عهده بصوغ الشعر. ومثلُ هذا لا يُعد شاعراً تاماً حتى يُكمل ما نقصه بالتعّلم والمرانة

وكذلك الشأن في القاصِّ، فقد نجد من أوتى الموهبة، أعنى الذي يُلهم فكرةً أو موضوعاً قصصياً له قيمة؛ ولكنه ناقصُ القدرة على معالجة موضوعه أو فكرته بالأساليب المقبولة عند أهل الفن في نَسْق القصة. وفي مثل هذه الحالة لا يسعنا أن نعتبر ذلك الموهوبَ قاصّاً مكتملَ النضج

وإذن يجب أن يتوافر للقاص الكامل هذان الركنان معاً؛ فأما الأول، وهو الموهبةُ، ومَعِينها الخيالُ المنسرح، والذهنُ المتوقد، والعاطفةُ المشبوبة، فلا كلام لأحد فيه، إذا هو شئ طبيعي، فإن وُجد في الكاتب تهيأ ليكون قاصّاً في المرحلة الأولى. وأما الركن الآخر، وهو الاستئناس بالأساليب المتعارفة، فذلك الذي نخصه بالكلام، لأنه صناعة، مرجعُ الأمر في امتلاك ناصيتها للتمرين والاكتساب

وقد يتوهم البعض - ونحن نذكر القواعد التي يجب على الكاتب القصصي مراعاتها - أننا إنما نطغى على حقه في اتخاذ طريقة خاصة تلائم هواه، ونحدُّ من حريته في اتباع المذهب الذي يراه. والواقع الذي لا يمكن التغافل عنه أن هناك قوانينَ عامةً مرعية الجانب في التأليف القصصي، على اختلاف المذاهب والأهواء، وأنه إذا خلت القصة من مطابقة هذه القوانين العامة، شعرَ الناقد لأول وهلة بأن هنا اختلالاً ظاهراً، وأن هنا شيئاً يجب أن يُبدَل به شيء، لا دَخْل في ذلك للطريقة الخاصة، ولا للمذهب الخاص

وهل ينكر أحد أن كل شأن في الحياة يسير - في جوهره ولُبابه - وفَق نظام وقانون؟ تلكم

ص: 8

هي السيارة، فربما اختلفت أصنافها وأشكالها وعُددها أيّما اختلاف؛ بيد أنها - مع هذا كله - يجب أن تكتمل فيها أدوات عامة مشتركة، إذا فقدت واحدة منها تعطلت السيارة على الفور. وما القصة إلا عمل فنّي من نتاج الفكر، يسير كأمثاله من الأعمال الفكرية على نظام دقيق، خاضع للناموس العام المعترف به في جميع ألوان الأدب

كذلك قد يعترض علينا معترض فيما نلزم الأخذ به من هذه الأصول والقوانين، فيرى أن الفنان العبقريّ يصدر عنه العمل الفنيّ المشهود له دون تعلم ودراسة، ودون تدّرج وتدريب. وجواب ذلك أن كبار الفنانين العباقرة، إنما يفهمون هذه الأصول والقوانين بالفطرة الفذّة، ويهتدون إليها بالسليقة النيرة؛ فهم يخرجون أعمالهم الفنية بوحي من قرائحهم الممتازة التي يكمن فيها النبوغ. وليس أدلَّ على ذلك من أننا لو سألنا أحدهم عما صنعه في تأليف هذه القطعة أو تلك، وماذا لاحظ، لم يُحرْ جواباً. لأن ما أنتجه صدر عن غير وعي منه

وقصارى ما نقرره، أن هذه الأصول والقواعد التي نلخصها في العُجالة التالية، ليست إلا أقيسةً وموازين استخلصت لتكون أساساً تُبنى عليه الأحكام في تقدير القصص الفني؛ فأن حرمت أن تكون عادلة كل العدل، لم تحرَمْ أن تكون أدنى إلى الصدق وأحق بالاعتبار

ثم إن هذه الأصول والقواعد، تبِّصر القَصصي إلى حد ما بصناعة الكتابة في هذا النوع من الأدب، وترشده إلى الخطوط الرئيسية في القصة، وتَقِفُه على المميزات الأولى بين الخطأ والصواب في النسق. وما أشبهها في هذه الحالة بعلم البيان والمعاني والبديع، فعلى الرغم من أن الكلمة الأولى والأخيرة في البلاغة للذوق السليم، وخضوع الكلام لمقتضى الحال - وضع العلماء قواعد وأصولاً تتوضح بها أركان البلاغات، فقالوا: هذه كلمة فصيحة، وهذه جملة بليغة، لتُميُّزها بكيتَ وكيتَ، وخلوِّها من كذا وكذا. ومعلوم أن هذه القواعد لم توضع أولاً، ثم طلب من الكتاب والمنشئين أن يَجْروا عليها؛ وإنما كانت هذه القواعد نتائج مستخلصة من أمثلة بليغة، أقر أهل البلاغة بسموها، واتفقوا على جودتها، فاستخرجوا منها الأسباب التي رفعتها إلى هذه الدرجة، وسرعان ما تحولت هذه الأسباب إلى قواعد.

وذلك هو صنيعنا نحن الآن في القواعد والأصول التي نعالج بسطها، ونقول إن القصة

ص: 9

الجيدة تتميز بها

وأَمَا وقد بدأنا نمسّ جوهرَ موضوعنا، فلنتذكر أولاً أن القصة هي عرضٌ لفكرة مرت بخاطر الكاتب. أو تسجيلٌ لصورة تأثرت بها مخِّيلَته، أو بسطٌ لعاطفة اختلجت في صدره فأراد أن يعبر عنها بالكلام، ليصل بها إلى أذهان القراء، محاولاً أن يكون أثرُها في نفوسهم مثل أثرها في نفسه، وهي تتألف عادة من ثلاثة عناصِرَ رئيسية، هي: الموضوع، والشخصيات، والحوار. وهذا العنصر الثالث ليس من المقوِّمات المحتومة دائماً، ولكنه لازم في أغلب الأحيان. فتبدأ القصة بالتمهيد للفكرة، ثم تتطرق إلى ظهور العقدة، ثم تتوصل إلى حل هذه العقدة أو ما يشبه الحل، وهذا هو الهيكل المألوف في بناء القصة على وجه عام.

فمن القواعد في كتابة القصة، ما نذكره فيما يلي:

أولاً: أن تكون للقصة وَحدةٌ فنية. وبهذه الوحدة تتوافر فنية القصة. وما الوحدة الفنية إلا أن يجعل الكاتب همه مقصوراً على إبراز الفكرة الأساسية، مجتنباً جُهدَ الطاقة أن يتطرقَ إلى أفاق أخرى. وإيضاحُ ذلك أن يُراعِىَ الكاتب حصر عمله في جوهر الموضوع، خالصاً من طغيان الزخرف، فلا تَطمسُ التفاصيل الثانوية ذلك الجوهرَ الجدير بالعناية والإيثار. والقدرةُ الكتابية تظهر في التملك لزمام الصميم من الموضوع، كالفارس القابض على زمام جواده لا يدعه يجمحُ به ما طاب له الجموح.

فواجب إذن أن يُخضعَ الكاتب جراِت قلمه لموضوعه، ولا يدع الموضوع خاضعاً لقلمه يجرّه حيث شاء. فإن استطاع أن يخلص لموضوعه هذا الإخلاص ظهرت أفكار القصة متعاشقة، وخرجت القصة بنياناً متراصاً لا حجر فيه لغير معنى.

ثانياً: أن يُراعى في عرض الموضوع جانب التلميح ما أمكن وأن يُحذَرَ جانب التصريح. فلا يشرحُ الكاتب الموضوع ويحلل الشخصيات في شكل مهلهل، بحيث لا يترك شيئاً لفطنة القارئ وذكائه. فإذا لم يعن الكاتب بهذا الجانب كان مُتهماً قارئه بالغفلة وجمود الذهن إذ يوضح له ما ليس بحاجة إلى توضيح؛ وإذن تخرج القصة مكشوفة لا يجد فيها قارئها لذة التعرف بنفسه ولا يشعر بشوق إلى ما يجئ منها بعد. فلا بد أن يدع الكاتب للقارئ فرجة يستطيع بها أن ينتهي إلى التصريح من التلميح، وأن يُشيدَ الكبير من الصغير، وأن

ص: 10

يشقِ بمخيلتهِ - فيما يقرأ - آفاقاً من التصور والتفكير. وكما أننا نشير بضرورة أخذ الكاتب بالتلميح، نشير كذلك بألا يجنح إلى الإغراق فيه، مخافة التورط في الغموض والإبهام، فيضل القارئ في فَيافٍ لا يقر له فيها قرار

ثالثاً: أن يعني الكاتب برسم شخصياته، وأن يجعلها تصدر في أقوالها وأعمالها من منطق الحياة التي أراد لها المؤلف أن تعيشها بواعيتها الظاهرة، وواعيتها الخفية أيضاً؛ حتى إذا مضى القارئ في تفهم هذه الشخصيات، وتصور ما يقع من أمثالها، لم يجد نفسه مصطدماً بشيءٍ غيرِ مألوف يأباه المنطق أو الذوق. وما أجدر أن يلقيَ الكاتب كلَّ باله إلى هذا الجانب من البراعة في التحليل النفسي، فإنه يتوقف عليه شطر عظيم من فنية القصة.

رابعاً: ألا تكون الشخصيات بوقاً ينقل ما يلقى إليه المؤلف من الكلام، فيكون المتكلم هو المؤلف نفسه على لسان هذه الشخصيات الببغاوية. والواجب أن يكون للشخصيات كيانها المستقل، وأن تكون حية في حركاتها وسكناتها، وأن يُحس القارئ من أعمالها حرارة هذه الحياة، ويتعرف من فِعالها ما تتميز به من شمائل وحقائق. فلا تتكلم هذه الشخصيات إلا بالأسلوب الطبيعي الذي يلائم نفسيتها، ولا تعمل إلا وفق الحوادث على منهجها المرسوم لها. وبناء على هذه القاعدة، لا يجوز أن يدلنا الكاتب على شخصية بائسة، بأن يجعلها تقول: أنا بائسة. ولكن يعالج أن تُفصح الحوادث نفسها عن بؤس هذه الشخصية. وهذا إلا إذا كان الموقف بطبيعته يستدعي أن تتكلم الشخصية بلسانها، لتفصح عن حالها

خامساً: حتم أن يكون لكل قصة معنى، وإلا كانت القصة لغواً لا جدوى له. والقاص - ككل فنان آخر - مصور للحياة في مختلف ألوانها، مترجم عما يعتلج في رأسه وما يجيش في صدره من معان ومشاعر؛ فهو إذا كتب فإنما يكتب لتصوير هذه المعاني وإيضاح هذه المشاعر. ويصح أن نشير في هذا الصدد إلى أن معاني القاص في الغالب، إما مستمدة من الواقع الذي هو ملء مسموعه ومشهوده، وما هو في نطاق الجو المحليّ الذي يعيش فيه. وإما أن تكون هذه المعاني مستخرجة من صميم النفس البشري، تلك النفس الثابتة بميولها، الخالدة بغرائزها. إلا أن المجد الأدبي لا يكون من نصيب القصة التي يحذق كاتبها رد أصولها ومعانيها إلى أوصال الإنسانية الباقية بتلك الميول والغرائز. فرغبتنا إلى القصاص ألا يعنوا كثيراً بالموضوعات العابرة التي تتغير معالمها بتغير الزمان، وللناس حولها في

ص: 11

كل يوم شعور خاص، وحل خاص؛ فإنه إذا تبدل الوقت أصبحت هذه الموضوعات نسياً منسياً، وذهبت قيمتها الاجتماعية والمحلية

سادساً: يجب ألا تكون الفكرة التي يعالجها الكاتب في قصصه مصوغة في قالب موعظة أو حكمة، وألا يظهر فيها تحبيذ شيء أو النهي عن شيء. بل يجب أن تكون الحكمة أو الموعظة مطوية في غضون الحوادث، خالصة إلى القارئ دون معونة ظاهرة من المؤلف؛ وأن يكون التحبيذ أو النهي كامناً في أعطاف السرد، غير ملموس بالكلام المكشوف.

وذلك هو الفرق بين القصة والمقالة، فالقصة ليست منبراً للخطابة وإلقاء المواعظ، بل هي معرض للتصوير والتحليل، يوحي برموزه وظلاله وإشاراته إلى القارئ بالغرض الذي رمى إليه الكاتب القصصي.

سابعاً: يحسن ألا تخلو القصة من عنصر التشويق، وأعني به أن تستحوذ على القارئ في أثناء قراءته نشوة وروعة تدفعانه إلى متابعة القراءة في نشاط وانتباه. ونلفت النظر إلى أننا لا نبغي بعنصر التشويق أن ينقلب الكاتب مهرِّجاً يفتعل الحوادث افتعالا ليصل إلى هذا الغرض، حاسباً أن ذلك هو الذي يبعث الشوق، فإنه حينئذ يقع في أشياء سخيفة مفضوحة يبدو عليها التكلف والاجتلاب. فلابد من الحذق واليقظة في هذه الناحية بحيث يكون فن الكاتب قادراً على أن يجعل مظاهر التشويق جزءاً طبيعياً من سياق القصة، فإنه بذلك يضمن انتباه القارئ ونشاطه، ويوفر له وسائل اللذة والاستمتاع.

ثامناً: ما يجب أن يجري عليه الكاتب في تحري قصته من وجهة اللغة. ونقدم لذلك بأن اللغة العربية في ذاتها لغة موسيقية، لألفاظها وأساليبها رنين وإيقاع. وقد أرف كتاب العصور المتأخرة في استغلال هذه الموسيقية بالمغالاة في الاستعارة، والإكثار من الترادف، والتزام السجع والطباق وما إليه. فبلغت الصناعة اللفظية مبلغاً كان فيه القالب أكبر من المعنى وأوسع مجالاً. ثم جاء العصر الحديث يزخر بموضوعاته العلمية، وبحوثه الاجتماعية والفنية، مما لا يحتمل البرشقة والزخرف. فأريدت اللغة على أن تكون القوالب على قدود المعاني، في غير إهمال لما تقتضيه خصائص اللغة من الموسيقية الأخاذة. فيجب أن يُعنى الكاتب إذن بلغة قصته، فلا يبالغ في التحاسين البيانية من نحو الاستعارة والتشبيه والترادف، بل يجعل الألفاظ على أقدار المعاني جهد المستطاع. ولا ينسينا هذا أن

ص: 12

بلاغة الكتابة تكون بمراعاة المقام، فالإطناب مستحب في مواقف الإطناب، والإيجاز مطلوب في مواقف الإيجاز. بيد أن هناك شيئاً تجب مراعاته على كل حال، وهو تجنب الأسلوب المبتذل، ونعنى بالابتذال في الأسلوب استعمال الألفاظ الشائعة شيوعاً يفقدها الرونق والرواء، والوقوف عند التراكيب الركيكة التي لا تستبين بها قدرة اللغة على التصرف في الأداء والتعبير. وإذا كان على القصصي أن يعرف للمعنى حدوده في الأداء، فإنه باعتباره أديباً عليه أن يتخير اللفظ الرشيق والتركيب الشريف.

وبعد فليست هذه كل القواعد التي يجب أن تبنى عليها القصة. وإنما هي معالم رئيسية اجتهدنا في استخراجها، ونرى وجوب اكتمالها في القصص الفني.

ونختم كلمتنا مصرحين بأن هذه القواعد نفسها لا تهدي القاص الناشئ، قدر ما يهديه اكتسابه للملكة التي يستفيدها من موفور إطلاعه على الآثار الفنية المعترف بها، وحسن تفطُّنه إلى ما فيها من أسرار الجودة والإبداع.

محمود تيمور

ص: 13

‌نميمة الأسلوب

(لكاتب من الكتاب)

(ينم عليه أسلوبه)

كنت أرسلت إلى مجلة الرسالة كلمة أُحاور بها قلبي، ولم أُذليها باسمي الصريح، وإنما اكتفيت بالإشارة إلى أني (كاتب من الكتاب) فرأيت صاحب (الرسالة) يضيف إلى هذا الرمز عبارة (ينم أسلوبه عليه)

فهل كُتِب عليّ أن أعيش فريسة النمائم فأنتقل من كرب إلى كرب إلى أن تدركني نميمة الأسلوب؟!

وأين المفر من مظالم النمائم إذا صح أني لن أنجو من نميمة قلمي؟. . .

إن الرجل لا ينمّ أسلوبه عليه إلا بعد أن يصبح (كاتباً من الكتاب) تُنصَب لرأيه الموازين، وأنا كاتب من الكتاب منذ أعوام طوال، فما الذي غنمتُ من براعة القلم ورشاقة الأسلوب؟

ما الذي غنمتُ وأنا أمتشق القلم منذ أكثر من خمس وعشرين سنة بعزيمة أقسى من الصخر وأصلب من الحديد؟

ماذا غنمت وقد كنت كاتباً وشاعراً قبل أن يولد فريق من الذين تؤذيني عندهم نميمةُ قلمي؟

وهل أستطيع أن أطمئن إلى أن قلمي سيشفع لي إن قلتُ إن صحبته أضرعتني وإني أحتاج إلى الراحة بضعة أسابيع؟

وهل للقلم دولة في هذه البلاد حتى نجعله وسيلةً إلى الراحة من بعض المتاعب؟

وكيف وما كانت متاعبي في دنياي إلا مكاره ساقها قلمي إلى قلبي؟

وهل يُراعي القراء ما نطوِّق به أعناقهم من ديون؟

لقد غنّيت أهل زماني أناشيد أيقظتُ بها في صدورهم من أحلام غافيات، وأحييت فيها ما في قلوبهم من مَوَات، فأين من يُسعدني بكلمة صدق أدفع بها عُدوان زماني، لأمضي على سجيتي في السجع والغناء، ولأضمن السلامة من نميمة الأسلوب؟

وأين في الدنيا كلها من يتوجع لمصير البلبل حين يسكته المرض أو الموت؟

احتجزني فلان في الطريق ساعة أو بعض الساعة وهو يحاورني في شؤون دقيقة من خصائص حيات الأدبية، فظننته - وهو من أهل الجاه - يحاول أن ينصفني من زماني. ثم

ص: 14

عرفت - وا أسفاه! - أنه يجمع المصادر لمقال يكتبه عني يوم أموت!

وفلان الذي صرح ألف مرة بأني شعلة من اللهب المقدَّس هو نفسه فلان الذي يرى اليوم أن أدبي من أعظم ذنوبي، وأن من الواجب أن أتوب!

أتوب؟ أتوب؟

أنا أحب أن أتوب من صحبة القلم، ولكن أين السبيل إلى المتاب؟ وهل يمكن ترك الصديق بسهولة، أيها الناس

أعطوني شيئاً من قدرتكم على نسيان حقوق الأصدقاء، لأتناسى حقوق قلمي!

علِّموني كيف أغدر وكيف أخون، لأستطيع التمرد على عقلي وبياني!. . .

خذوني إليكم، أيها الساخرون من صولة العلم والحق، لأخلُص من صحبة العلم والحق!

خذوني إليكم في ملاعبكم وملاهيكم، عساني أنسي جاذبية البؤس في صحبة قلي وكتابي!

لقد أفلحتم في زعزعة اليقين الذي كنت أفزع إليه حين تكثرني صروف الزمان، فأين أنتم لأشكو إليكم ما جنَتْ أيديكم؟ وأين السبيل إلى ترميم البناء الذي كنت أستظل به من قبل أن أنخدع بالبريق الذي أزغتم به فؤادي؟

أين؟ أين؟

أتذكر الآن كتاب لامرتين عن سِفر أيوب

فقد صْرح بأن الدنيا لو دُكتْ صروحها وذهب ما فيها من روائع الفنون والآداب ولم يبق غير سِفر أيوب، لكان كافياً في تسجيل ما تعاني الإنسانية من معاطب وحتوف.

وهل عانى أيوب في زمانه بعض ما عانيت في زماني؟

أيوب فقد الثروة والعافية ولم يفقد اليقين!

وأنا فقدت الثروة والعافية واليقين. أضاع الله من أضاعوني!

وأيوب استطاع أن يعاتب ربه بقصيد رنّان وهو في أمان من ثورة الجمهور، فظفر بالخلود في عالم الفكر والبيان.

وأنا لا أملك معاتبة ربي بسطر واحد خوفاً من رئيس التحرير، وخوفاً من شيخ الأزهر، وخوفاً من محكمة الجنايات وخوفاً من نميمة الأسلوب!!!

وأين فجيعة أيوب في دنياه من فجيعتي في دنياي؟

ص: 15

كان الدينار لعهد أيوب يُموِّن الرجل شهراً أو شهرين، وأنا في عهد يهان فيه الرجل أن أكتفي بالدينار يوماً أو يومين، فمن يُسلطني على دهري فأسجل رزاياه على نحو ما صنع أيوب؟

وكانت الأرض لعهد أيوب بلا رسوم ولا حدود، فكان المجاهد ينال منها ما يشاء كيف يشاء، وهي اليوم مقسمة تقسيماً يصدّ المجاهدين أعنف الصدود.

وكانت البحار لعهد أيوب مصادر خيرات، وهي اليوم مواقع ألغام ومسارب غواصات.

وكانت السماء لعهد أيوب مساقط غيث ومذاهب نسيم، وهي اليوم معارج طائرات ومصادر خطوب.

وكان النمام لعهد أيوب يؤلب عليه رجلاً أو رجلين أو بضعة رجال، لأن النمام لم يكن يملك غير سفاهة اللسان، أما النمام في هذا العهد فيستطيع أن يؤذيني بمقال في جريدة أو مجلة يقرأها ألوف أو ملايين، ويذهب شرها إلى من أعرف ومن أجهل في المشرق والمغرب.

وكان قوم أيوب يعدون بالألوف، أما قومي فيعدون بالملايين فبلواي بالخصومات أعرض من بلواه.

وكان لأيوب أعداء وأصدقاء، أما أنا، فلي أعداء وليس لي أصدقاء.

وكان أيوب نبياً تهابه الأرض وتؤيده السماء، أما أنا فكاتب من الكتاب تنفر منه الملائكة ويأتمر به الشياطين.

وصارت ثورة أيوب على بلاياه لحناً خالداً يُرتل في الكنائس والصوامع، أما ثورتي على زماني فستضاف إلى الأدب الحزين الذي لا يقام له ميزان.

ومع ذلك كان حزنه أهلاً للحمد، وصار حزني أهلاً للملام!

أيوب!

اسمع كلمتي، أيها الزميل في الأحزان!

إن النبوة عصمتْك من كيد الخاتلين والحاقدين، فلم نذق طعم الإيذاء في سبيل الحزن النبيل، والله الذي لم يولني شرف العصمة أولاني شرف إيذاء في سبيل الحزن النبيل.

فأين مكانك من مكاني، مع أني عبد مذنب وأنت نبيّ معصوم من الذنوب؟

ص: 16

كانت المدائن لعهدك لا تملك من المصابيح ما يشغل بصرك عن نجوم السماء، أما المدائن لعهدي فتعرف المصابيح في النهار قبل أن تعرفها في الليل، ومع ذلك لم تشغل بصري عن نجوم السماء

وكانت الدنيا لعهدك لا تعرف الضجيج، فكانت تملك الخلوة إلى خواطر قلبك

والدنيا لعهدي كلها ضجيج وأزيز وهدير، وأنا مع ذلك أخلو إلى قلبي وأدرس ما فيه من عناصر الوسواس والأحلام والأضاليل

فأن لقيت ربك وفي يمينك كتاب النبوة فسألقي ربي وفي يميني كتاب المحنة بوطني وزماني

فيا نبي الله، كيف تسبقني إلى رحمة الله وأنا أفقر أتليها منك، وأن كنت أحق بها مني؟

أيوب!

أنت تألمت وتوجعت لأن الوباء كان أغتال إبلك وغَنَمك فكيف ألام على التألم والتوجع وقد أهلك الطاعون أصدقائي وأحبابي؟

أيوب!

هل تعرف أني أملك من العزاء ما لم تكن تملك؟

فلو أنك قرأت تاريخ المسيح كما قرأتُ لخّفت مصيبتك وهانت بلواك

المسيحُ، يا أيوب، قد اكتوى بنار حامية هي غدر الصديق.

وقد صارت قُبلة يهوذا مثلاً سائراً في التاريخ، فهل تعرف كيف تكون القبلة شارة الحتف، وهي في الأصل لغة القلب؟

وأنا قرأت من تاريخ محمد ما لم تقرأ، يا أيوب، فقد لقي كثيراً من كيد المنافقين من الأصدقاء

فهل تظن مع هذه الشواهد أنك أجدر مني بالصدارة بين البائسين واليائسين؟

أنت على ما عانيتَ لم تعرف خيانة الصاحب ولا غدر الصديق، ولم تشهد كيف تُعدُّ حسناتك سيئات، ولم تقاس نمائم الأصحاب ولا (وشاية الأسلوب) ولعل الله كان رعاك فلم تر شخصاً تحسن إليه ويسئ إليك

فكيف تسبقني إلى رحمة الله، يا أيوب؟

ص: 17

خذ حظوظي كلها، يا أستاذي في الألم والوجيعة والحرمان، فأنا أحب أن أخرج من الدنيا بلا جزاء، لأستطيع القول بأني عانيت من البلاء ما لم يعان أيوب، عليه الصلوات!

وأنا مع هذا أعترف بأني ساعدت الزمان على نفسي، لأني تجاهلت أخلاق الزمان

وما الناس؟ وما الزمان؟

يكفي أن أصبح وأنا برغم الناس والزمان:

كاتب من الكتاب

ص: 18

‌الأدب الفنلندي

للأستاذ صديق شيبوب

بينما تتجه أنظار العالم إلى فنلندة بمناسبة الحرب الغاشمة التي تخوض غمارها في جرأة وهدوء، جرى حادث أدبي نبه الأذهان إلى آداب هذه الأمة الباسلة، فقد فاز الأديب الفنلندي سيلانبا بجائزة نوبل التي يطمح إلى نيلها كبار الأدباء وعظماؤهم لأنها ذات خطر عالمي.

وقد كان هذا الحادث الأخير مفاجأة لجمهور الأدباء والمتأدبين في العالمين القديم والجديد، لأن الفكرة التي كانت شائعة عن الفنلنديين تتركز في ولعهم بالألعاب الرياضية وتفوقهم فيها، إذا كانوا يشتركون في الألعاب الأولمبية التي تقام في شتى بلدان العالم فيفوز لاعبوهم بأكثر من بطولة.

وقد رأينا - لهذه المناسبة - أن نلم بالأدب الفنلندي لبيان تاريخه ومناحيه.

ينطبع الأدب الفنلندي بطبيعة البلاد التي نشأ فيها وبأخلاق سكانها. وفنلندا قائمة في الشمال الأقصى من أوربا، ذات غابات كثيفة وبحيرات عديدة، شتاؤها طويل، وصيفها نهار دائم. يسكنها شعب قاسي طول تاريخه أهوال البرد والجوع والحروب، فأكتسب مما قاساه صلابة وقوة، ومن طول الشتاء ميلاً إلى الخيال والأحلام. فلا عجب إذا اختلف في طبيعته عن الشعوب اللاتينية وعن الشعوب الجرمانية التي يمت إليها في أصله، وإذا ظهر أدبه في شكل يلائم أحواله وبيئته.

إنه يبحث في الأدب والفنون عن وسائل للتعبير عما يجول في نفسه تختلف عن وسائل الأمم الأخرى. وقد تظهر هذه الوسائل غريبة عجيبة، أو على الأقل غير منتظرة لشعوب تعودت دقة التعبير ووضوحه، وهما من مميزات شعوب البحر الأبيض المتوسط.

والأمم الغربية قد تأثرت بثقافة فكرية وفلسفية واحدة، غير أن المناحي الثقافية اضطرت أن تتأقلم وفاقاً لطبيعة كل إقليم، فظهرت في شكل يوافق كل بلد، وبدت كأنها تختلف عما هي في البلاد الأخرى.

لذلك نجد الأدب الفنلندي يعبر عن أخلاق سكان هذا الإقليم وما تتميز به من رجولة بارزة، وخيال واسع ذي ميول إلى الكآبة والحزن، وسذاجة القلب والطبع، كما يعبر عن طبيعة البلاد القاسية فيظهر في أسلوبه كأنه قبس مستمد منها، فضلاً عن عناية أدبائه بوصف هذه

ص: 19

الطبيعة وقواها وعناصرها

كان قدماء الفنلنديين يعيشون بين أحضان الطبيعة القاسية، فلا عجب إذا رأيناهم، في عصرهم الوثني، يؤلمون عناصرها ومظاهرها. وقد أستدل الباحثون من الأناشيد التي ترجع إلى ذلك العهد، على أنهم كانوا يصفون بالألوهية كل شجرة أو صخرة، ويعتقدون أن الغابات والبحيرات مأوى للآلهة. وسنعود إلى هذه الاعتقادات في معرض كلامنا عن ملحمة (كاليفالا)

وقد ظل الفنلنديون يدينون بالوثنية إلى القرن الثاني عشر، أي إلى أن بشرهم الأسوجيون بالنصرانية. ولكنهم ما زالوا إلى اليوم متأثرين بتاريخهم وعقائدهم القديمة. ولما شع عصر الإصلاح في أوربا تأثر به الفنلنديون في أوائل القرن السادس عشر، فصدفوا عن التصوف الذي تميزوا به من قبل وأخذوا بتحكيم عقولهم في أمور الدين المسيحي وتفسير كتبه

مر قرنان بعد ذلك، وجاء القرن التاسع عشر، والأدب الفنلندي في سبات عميق لا يظهر له أثر. ولعل ذلك يعزي إلى أن دولة أسوج التي استولت على فنلندا منذ القرن الثاني عشر نشرت فيها لغتها حتى طغت على لغة أهل البلاد الأصيلة وكادت تزيلها من الوجود لولا أن القبائل المنتشرة في مقاطعة (كاربلي) احتفظت باللغة الفنلندية ونظمت فيها أغانيها الشعبية في تمجيد أبطالها ووصف شجاعتهم وحروبهم

وظلت فنلندا محتفظة بتقاليدها وبتأثرها بالأدب الأسوجي بالرغم من استيلاء روسيا عليها سنة 1809 وضمها إلى إمبراطوريتها.

ولكن الروابط الأدبية والثقافية بين روسيا وفنلندا جاءت على عكس الروابط السياسية. فكلما حاولت روسيا ربط الصلات السياسية والإدارية بينها وبين دوقية فنلندا الكبيرة أزداد الفنلنديون شعوراً بقوميتهم وتعلقاً بمدنيتهم. وهكذا أخذ الأدب الفنلندي يزدهر في أوائل القرن الماضي ولم يلبث أن أرتبط بالحركة الابتداعية التي كانت قائمة في أوربا في ذلك العهد.

كانت العناية بجمع الأغاني والقصائد الوطنية الحماسية وضمها في شكل ملحمة أول مظهر للأدب الفنلندي

ص: 20

كان الشعب يحفظ هذه القصائد ويتناقلها بطريقة الرواية، وكان لزاماً على من يعني بجمعها أن يطوف بالبلاد للبحث عن رواتها ونقلها عنهم

وقد قام (لياس لونرو) بهذه الرحلات فجمع ما استطاع جمعه من تلك الأناشيد الوطنية. وكان يعتقد أن هذه القصائد الشتيتة أجزاء متناثرة من ملحمة شعبية مفقودة زالت لحمتها خلال القرون المتتالية. ويقول النقاد إن هذا الاعتقاد خاطئ، ولكنه نتج عنه عمل يعد نسيج وحده في الأدب العالمي: ذلك أن (لونرو) كان شاعراً، وقد ساعدته هذه الميزة على ضم القصائد وإنشاء لحمة بينها حتى برزت في شكل ملحمة قد لا يجد فيها بعض النقاد الشروط الفنية لنظم الملاحم كما يجدونها في الإلياذة مثلاً، ولكن الذين يوجهون إليها هذا النقد يقررون أنها فريدة في بابها من حيث أنها الملحمة الوحيدة التي أشترك في وضعها جمهور الشعب.

أما القصص المروية في هذه الملحمة، التي أسماها جامعها (كاليفالا) فساذجة بسيطة. كان الشعب الفنلندي وثنياً يؤمن بالرقي والتمائم ويعتقد أن الطبيعة ملأا بالجن، بعضهم للخير وبعضهم للشر، وأن الجن لا يتداخلون في شؤون العالم إلا إذا طلب إليهم السحرة ذلك. فالسحرة هم بمنزلة الكهان يحفظون عبارة الطلاسم العجيبة التي يستطيعون بها أن يتحدثوا إلى الشياطين لاجتناب أذاهم أو اجتناب خيرهم. وهكذا جعلت هذه الديانة الساحر شخصاً عليماً بكل شؤون الحياة، فهو الحكيم العليم ببواطن الأمور، وهو الطبيب الشافي من كل داء، وهو الشاعر المنشد والمغني المطرب. ويظهر أن الشاعرية عند هذا الشعب قد تفتقت من ألفاظ السحر الغريبة.

وهذه السذاجة في العقيدة لم تساعد على خلق ميثولوجي على الطريقة الرمزية المعروفة عند الشعوب الأخرى حيث نجد العقل المفكر يخلق الآلهة التي ترمز إلى الحياة بأكملها. أما عند الفنلنديين فالحالة على غير هذا، لأن الباحث في ديانتهم يجد آلهة لا يفهم معنى وجودها أو ما ترمز إليه. ولم تحتفظ ملحمة (كاليفالا) بما يستدل منه على الرمز الذي تعبر عنه الآلهة.

فمن أمثلة ذلك خلو الملحمة مما يشير إلى مركز (فانيا موينن) بين الآلهة، ويقول الباحثون إنه كان إله البحر في ديانة الفنلنديين القديمة

ص: 21

ولعل السذاجة في الدين هي التي جعلت هذا الشعب ساذجاً في قصصه، لأن ما ترويه ملحمته الطويلة ليس سوى حكايات أطفال وهو وجه الغرابة فيها، وهو أيضاً ما يجعلها في أكثر الأحيان عذبة جذابة. إن الأطفال إذا وضعوا قصة جاءت لا رأس لها ولا ذنب، كما يقولون، أو لا أول لها ولا أخر، لأنها تعتمد على المفاجآت الغريبة والأعمال العجيبة أكثر مما ترمي إلى أي غرض آخر. ويظهر أن خيال الشعوب في عصرها البدائي لا يختلف عن خيال الأطفال الصغار.

وهناك ظاهرة أخرى تجعل ملحمة (كاليفالا) تختلف عن غيرها من الملاحم. ذلك أن الملاحم القديمة كالإلياذة والأوديسة وغيرهما ترمي إلى غايات مقررة لأنها وليدة مدنية قائمة، بينما لا نجد في الملحمة الفنلندية شيئاً مثل هذا، لأن قصصها وليدة خيال ساذج جامح، بحيث نبحث فيها عبثاً عن رمز للناس والأشياء والآلهة والديانة والأخلاق.

على أن أجزاء من هذه الملحمة تحوي اعتقادات الشعب الفنلندي وتصف العواطف الأصلية في قلب الإنسان.

وقصة الخليقة كما جاءت فيها قطعة لها نضارة الشباب وسذاجة القلوب الطاهرة، وهي تصف في مستهلها العذراء (أيلماتار) إلهة الهواء تزوجت من الموجة وظلت تتقاذفها الأمواج في وسط المحيط العظيم حتى جرى مما ننقله عن الترجمة الفرنسية:

(جاء طائر جميل من نوع البط فطار محلقاً باحثاً عن موضع ليبني فيه عشه. . . فطار شرقاً وغرباً، وطار جنوباً وشمالاً، فلم يقع على موضع يبني فيه عشه الصغير ومسكنه الجميل

طار طويلاً محلقاً في الفضاء يفكر قائلاً (ترى هل أضع عشي على متن الهواء، أم أبني بيتي على صفحات الماء، فيذرو الهواء عشي، وتتقاذف الأمواج بيتي

(عندئذ أخرجت عذراء الهواء وأم الأمواج الجميلة من الخضم الواسع ركبتها متيحة بذلك مكاناً للعصفور ليبني فيه عشه العزيز.

(كان العصفور الجميل لا يزال محلقاً فرأى ركبة العذراء قائمة على صفحات المياه الزرقاء كأنها قطعة أرض معشبة

(فخفف من طيرانه، وحط على الركبة فبنى عشه، ووضع فيه بيضه، وكانت ست منها

ص: 22

ذهباً وواحدة حديداً

(وأقام الطائر على البيض يحضنه للتفريخ حتى وصلت الحرارة إلى ركبة الإلهة، حضن العصفور بيضه يوماً، ويوماً آخر، وفي اليوم الثالث شعرت عذراء الهواء وأم الأمواج الجميلة بحرارة حتى ظنت أن ركبتها تحترق وأن جسمها يذوب

(فنفضت ركبتها ومدت رجها فجأة فهوى البيض في اليم وغاص في جوف الخضم وتكسر

(ولكن البيض لم يصل إلى قعر البحر، ولم يقم في جوفه، لأن كل جزء منها تحول إلى أشياء نافعة صالحة، تحول أسفل قشرة البيض إلى الأرض وأعلاها إلى قبة السماء، وصار ما يعلو الصفار الشمس الساطعة، وما يعلو المح القمر المنير، وانتثرت قطع صغيرة من القشر نجوماً ترصع السماء. . .)

يقول بعض النقاد إن في هذه القصة إبهاماً كثيراً، لأنه لا يفهم جيداً ما ترمز إليه الأشياء المذكورة فيها، فلماذا اختير طير البط؟ ولماذا جعل عدد بيضه ستاً ذهباً وواحدة حديداً؟ ولعلها كانت وسيلة لخلق صور جديدة، وهي على كل حال صور خلابة ساحرة

إذا تناولت ملحمة (كاليفالا) موضوعاً يمت إلى العواطف الإنسانية كانت مثيرة مشجية. من ذلك قصة الأم التي فقدت ولدها فسارت في الأرض باحثة عنه حتى وجدته مجندلاً، فنفخت فيه حياة جديدة؛ وهي ترمز إلى الأمومة بطريقة شعرية بسيطة.

أنظر كيف أخذت الأم تبحث عن أبنها:

(بحثت الأم عن الضائع، ونادت أبنها المفقود، فاجتازت المستنقعات كما تجتازها الدببة واخترقت البحار كما تخترقها الأسماك وطافت بين الحقول والشواطئ وبحثت بين الأشجار ثم نبشت الأرض لتنظر ما تحت الطرق وجذوع الأشجار

(بحثت طويلاً عن ولدها، بحثت طويلاً وتحدثت إلى الأشجار لتسألها عن المفقود، فاضطربت شجرة الصنوبر، وقالت شجرة السنديان: إن لدي من الهموم ما يلهيني عن أبنك، خلقت لمصير قاس واحتمال أيام مؤلمة، خلقت لوقيد النار أو بناء الأهراء

(بحثت طويلاً عن ولدها، بحثت طويلاً فلم تهتد إليه. وتقدم الطريق إليها فانحنت أمامه وقالت له: أيها الطريق العزيز الذي عبَّده الله، ألم تر أبني، تفاحتي الذهبية، عصاي الفضية الصلبة؟

ص: 23

(فأخذ الطريق يتكلم، وهذه هي العبارات التي قالها لها:

لدي طائفة من الهموم تلهيني عن أبنك، خلقت لمصير قاس واحتمال أيام مؤلمة، صنعت لتدوسني الكلاب وتطأني أقدام الفرسان، وتسحقني الأحذية الثقيلة

(بحثت طويلاً عن ولدها، بحثت طويلاً فلم تهتد إليه. وتقدم إليها القمر فانحنت أمامه وقالت له: أيها القمر، أيها الكوكب الذي خلقك الله، ألم تر ولدي، تفاحتي الذهبية، عصاي الفضية الصلبة؟

(أجابها القمر، وهو الكوكب الذي خلقه الله، وقال في لباقة: لدي طائفة من الهموم تلهيني عن أبنك، خلقت لمصير قاس واحتمال أيام مؤلمة، يجب عليّ أن أهيم على وجهي فريداً الليل بطوله.

يجب أن أنير في ليالي البرد القاسية، وأن أسهر ليالي الشتاء الطويلة، وأن اختفي في فصل الصيف

(بحثت طويلاً عن ولدها، بحثت طويلاً فلم تهتد إليه. وتقدمت الشمس إليها، فانحنت أمام الشمس وقالت لها: أيتها الشمس العزيزة التي خلقك الله، ألم ترى ولدي، تفاحتي الذهبية الثمينة، عصاي الفضية الصلبة؟

(وكانت الشمس تعرف شيئاً عنه، فأجابها كوكب النهار: أسفاً، إن أبنك التاعس قد اختفى فاقداً الحياة في نهر (تيوني) ذي المياه السوداء، في مياه (مانا) الأبدية، لقد أحتمله التيار إلى منازل (تيوني) في وادي (مانالا. . .)

يلاحظ على هذه المقطوعة أنها في شكل أغان شعبية بما فيها من ترديد يزيد في جمال الشعر، وبما تعبر عنه من عواطف بدائية. والمعروف أن الأغاني الشعبية تعبر عن مشاغل الحياة وهمومها، ولا تعرض للحياة بمعناها العام وما تبعثه في النفوس من إحساس عنيف، لأن الشعب لا يهتم إلا لما هو فيه ولأن التعبير عن الحياة بمعناها المطلق وليد المدنية والثقافة.

(للبحث صلة)

صديق شيبوب

ص: 24

‌تحية الرسالة في صباح عيدها الثامن

للأستاذ محمود الخفيف

صباحك مثّل أحلامها

وجدد يا عيد أيامها

صباح تهلل في المشرقين

وضئِ الأسِرَّة بسامها

على جانبيه ترُّف المنى

وقد فتَّق البشر أكمامها

وتنفى أهازيجه الضاحكات

كروب الحياة وأوهامها

تهز الفُراتين أصدقاؤها

وإن من النيل إلهامها

تجاوب بغدادُ هذا الغناَء

وكم عشقت مصر أنغامها

وكم هزت الكونَ دارُ الرشيد

وأسمعت الدهر ترنامها

تحمِّلها ودها جِلَّق

وقد عودت مِصر إعظامها

وكم بعثت من ربُاها الهتاف

فحيت على النيل أهرامَها

خمائلُ لبنان تهفو لها

ويستروحُ القدس أنسامها

لها منهما اللمحاتُ الوضِاءُ

إذا استلهم الرأيُ أفهامَها

ويصبو الحجازُ وكم طاف منه

خَيالُ يساور أحلامها

ويزجى الأغاريد سودانُ مصر

ويختصُّ بالودِّ أعلامها

تهش لألحانه الغاليات

وتعزو إلى الحبِّ إحكامها

تلقَّى الرسالة في المشرقين

بلاد تُوِّشج أرحامها

تلاقى على الضاد أبناؤها

وإن فرّق الملك أقوامها

لها الشرق إما مضت موطناً

ويهوى بنو الشرق إكرامها

يطوف به إذ تُلِمُّ اليقين

فإن من الرُّوح إلمامها

يحبُّ تسامحها كل حُرّ

وما انفكَّ يكِبرُ إسلامها

يَدين بشِرعتها في الجهاد

ويعلى عن الشك أحكامها

ألم يَرَ ماضيهَا العبقريَّ

وقد أرهف الحق أقلامها؟

وَيبْلُ عزيمتها في الأمور

إذا استعجل العصر إبرامها؟

وكيف مشت تستحث النفوس

وتكشف في الشرق أسقامها؟

ص: 26

تعلمها كيف تأبى الهوان

وترغم من رام إرغامها

تروض على البأس في قولها

شبول البلاد وآرامها

وكم بدعة ساقها المبطلون

فراحت تحطم أصنامها

غداً يحتمي ببنيها الذِّمار

كما حمتِ الأسد آجامها

تجدد في العيد عهد الوفاء

وقد صحب الصدق أقسامها

إذا أبهمت في الخلاف الأمور

جلت بالصراحة إبهامها

ويعجزُ عن حلمها شانئٌ

يحاولُ بالمْين إيلامها

وتقدِم لَكنها في الحياِة

تريك عن الُهجر إحجامها

لها صفحة في سجل الخلود

تعاجز في الشرق من رامها

تنزه شعري فلم أُزجه

رخيص المدائح نمامها

وما اهتز يوماً لغير العلي

فغنى هداها وإلهامها

عرفت علاها فغنَّيتها

وحليتُ بالدُّرِّ أعوامها

بدأت لها أمس غالي العقود

ولن أبلغ الدْهرَ إتمامها

-

ص: 27

‌وصف ديك

للأستاذ عبد الرءوف جمعة

وديك كأَن الشمس يسطع ضوءها

عليه بألوان ترفّ وتزهر

على رأسه المرجان تاجاً يزينه

ومنقاره العقيان أو هو أنضر

على جيده فُوفُ من الخز لامع

كمثل ضياء الشمس في الصبح أصفر

وعيناه أصفى من مُدام ابن هانيُ

ومن طَل نيسان من الورد يقطر

إذا صاح في جوف الدياجى حسبته

يقول لأهل النسك: الله أكبر

وإن صاح في وجه النهار حسبته

يقول لمن ناموا: هلاً ويزمجر

أحسّ بما فيه من الحسن فأزدهى

وراح بصحن الدار نشوان يخطر

ألست تراه شامخ الرأس مثلما

يتيه على الألمان هِيس وهِتلر

ص: 28

‌من وراء المنظار

صنع في إنجلترة!. . .

جلسنا نتحدث فمال بنا الحديث فيما مال إلى مبلغ شعورنا بقوميتنا ومبلغ حرصنا على مظهرها، ورحنا نتساءل هل نحن كرماء لضيوفنا حقاً، أم أن في الأمر شيئاً غير الكرم؟ واحتدام الجدال كالمعتاد وعلت الأصوات، وتشعب الكلام واضطرب نظامه، وضاعت الحجج جميعاً سليمها وسقيمها في ذلك الضجيج المتصل. وكانت أشد الدعاوى إيلاماً لنفوسنا أننا قوم نتلاشى في غيرنا ويسهل على أي قوة أن تسوقنا حسبما تريد

وقطع هذا الضجيج دخول صديق لنا في رفقته شاب أخذ يقدمه إلينا، فحيا وحيينا، ثم جلسنا برهة صامتين، ومالت أنظارنا إلى هذا الشاب الذي بدأت معرفتنا به. وما هي إلا برهة حتى فطنت إلى أن منظاري قد وقع منه على شخصية أضيفها إلى ما عرفت من أشباهها من الشخصيات التي لا تكاد تفترق إحداها عن بقيتها في شيء

وفي نفسي عن هذه الشخصيات التي عرفت معان استيقنتها فما أشك فيها أبداً، بيد أني أميل إلى تبينها في كل شخصية منها، فقد جرى الأمر في ذلك عندي مجرى التسلية، إن جاز أن فيما يؤلم ما يسلي كما جاز أن في المصائب ما يضحك!

ونظرت فإذا صاحبنا يضطجع في مقعده ويشمخ بأنفه، ورأينه يضع إحدى رجليه على الأخرى أولاً، ثم يمدهما معاً إلى حيث يستقر قدماه على مقعد خال ونعلاه قبالة الجالسين في غير تحرج ولا استحياء. . .

وأدخل يده في جيبه فأخرج بيبته وحشاها وأشعلها، وراح ينفخن في الجو من دخانه، دون أن يشاطرنا ما أخذنا فيه من الأحاديث. وشعرت وشعر أصحابي جميعاً بهذا التكبر السخيف، كأننا لم نكن أهلاً لمحادثيه. وكيف نكون عنده أهلاً لذلك، وليس فينا من خرج من مصر، كما تبين له من كلامنا؟

وكانت تختلج على شفتيه ابتسامة ليس فيها إلا معاني السخرية من عقولنا أو قل من جهلنا، وفي نفسه أننا لا زلنا على عقليتنا الشرقية جامدين ضيقي المعرفة، وتمنيت أن يتكلم لأرى شيئاً من عقليته الغربية التي عاد بها من إنجلترا. . .

ولم يطل تطلعي فلقد أخذ يجيب على سؤال وجه إليه، فسمعت وأنا أجهد في يكتمان

ص: 29

ضحكي عبارة بين العربية والإنجليزية، فهي عربية الحروف إنجليزية النطق، الأمر الذي جعلها في جملتها قردية اللهجة والجرس. . . وكانت لا تسعفه ذاكراته أو كان يتكلف أن ذاكرته لا تسعفه ببعض الألفاظ العربية، فكان ينطق بها إنجليزية ثم يسرحها لنا كأنما يثق أننا لا نفهم تلك اللغة فهمه؛ وكان يكرر قوله:(لما كنت في إنجلترا. . .) كأنما يخشى أن ننسى أنه كان هناك، وهو يقدم تلك الحقيقة بين يدي حججه ليجعلها بذلك قاطعة صادعة

وليته ظل ساكتاً فلقد حمدت الله تعد كلامه الطويل على عقليتي الشرقية. . . وحيا الشاب تحية نصفها شرقي ونصفها غربي، وانطلق هو وصاحبه، والتفت إلى أحد أقراني وقال: أرأيت الدليل المادي على صحة ما أقول؟ وقال آخر: ما لهؤلاء لا يتكبرون ولا يزهون وقد افترضت الدولة فيهم الكفاية لمجرد ذهابهم إلى أوربا وإن بدا لها من أكثرهم تقصيرهم في أعمالهم، وافترضت في كثير غيرهم ممن لم ينالوا شرف الاغتراب الجهل وإن بدا لها فطنتهم فيما يناط بهم؟

وقلت في نفسي متى يفهم هؤلاء أن ليس بين التكلف والصعلكة كبير فرق؟ وأن في المصريين من سافروا مثلهم فتلقوا العلم في أوربا، ثم عادوا إلى وطنهم محتفظين بمظاهر قوميتهم فإن قلدوا غيرهم قلدوهم في العظائم، وأخذوا عنهم ما يشرفهم أخذه، ونبذوا ما يشينهم من سخيف المحاكاة. . .

وساورني خيال غريب عن أولئك المتكلفين، وذلك أنهم يضعون أنفسهم موضع السلعة في السوق، والسلع الإنجليزية يكتب عليها عادة (صنع في إنجلترا) لتزحم غيرها في الأسواق، وهؤلاء يباهي الواحد منهم بأنه - على حد تعبيره -

(عين)

ص: 30

‌الملاحة عند العرب

للأستاذ قدري حافظ طوقان

يهتم الغربيون بالملاحة وينفقون علها الأموال الطائلة لِمَا لها من أثر في الحروب والتجارة وسير العمران. وقد أصبحت مدنية الأمم تقاس إلى حد كبير بدرجة اهتمامها وعنايتها بالشؤون البحرية وبراعتها في بناء الأساطيل. وكان لها - ولا يزال - شأن خطير في مصير الشعوب، وكثيراً ما غيّرت المواقع البحرية مجرى التاريخ واتجاه الحضارة

والأمة العربية - وهي من الأمم التي لعبت دوراً هاماً في التاريخ وكان لها أكبر نصيب في تقدم المدنية - قد وّجهت بعض جهودها إلى ناحية الملاحة وخلّفت قيها مآثر خالدة اعتمد عليها الأوربيون في ترقية الملاحة والتقدم في صناعة السفن. وقبل البدء في حديثي عن الملاحة لا بد لي من القول إن ناحية الملاحة عند العرب لا تزال غامضة لم تعط حقها من البحث والتنقيب. والذي نرجوه أن يحفز حديثنا هذا الهمم للعناية بالمآثر الإسلامية والآثار العربية في مختلف النواحي التي أدتْ إلى فتوح العرب الواسعة، والتي لا تزال محل دهشة علماء التاريخ

إن في بقض هذه النواحي صفحات لامعة يحق لنا أن نباهي بها أمم الأرض وأن نأخذ منها إلهاماً للاقتداء بالسلف والسير في خطاهم

ومن المؤلم حقاً ألا نجد أحداً من باحثي العرب ومنقبيهم عُني بناحية الملاحة عند العرب وتاريخ إنشاء الأساطيل. وعسى أن تلتفت جامعة فؤاد الأول والكليات الحربية بمصر إلى هذه الناحية، وأن تعمل على إظهار المآثر العربية فيها، وبذلك تكشف عن روح المغامرة التي امتاز بها العرب على غيرهم من الأمم، وتكون قد مهّدت السبيل لخلق روح الإقدام والشجاعة في أبناء هذا الجيل والأجيال التي تليه

والآن نأتي إلى موضوع الملاحة فنقول:

كان العرب في بدء فتوحاتهم يخافون البحر ويهابونه، وكيف لا يخافونه ويهابونه وهم أهل صحراء منقطعون عنه لم يتعودوا رؤيته فكيف بركوبه. ولم يكن الخلفاء الراشدون يشجعون ركوب البحار لخوفهم على أرواح المسلمين، ويُقال إنه حينما استولى المسلمون على مصر كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص يسأله أن يصف له البحر فكتب

ص: 31

إليه (. . . إن البحر خلق كبير يركبه خلق صغير، ليس إلا السماء والماء. إن ركد أحزن القلوب وإن ثار أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلة والشك كثرة. هم فيه دود على عود. إن مال غرق، وإن نجا برق. . .) فكان هذا سبباً في منعه المسلمين من ركوبه. وجاء أيضاً أن عمر بن الخطاب كثيراً ما عنف الذين يخوضون عبابه، فقد عنف عرفجة بن هرثمة الأزدي لركوبه البحر حين غزوه عمان. ولا شك أن السبب في منع الخلفاء هو خوفهم على أرواح المسلمين لأنهم لم يكونوا أهل بحر ولم يتعودوا السير على أعواده. وبقي الأمر على هذه الحال إلى أن اتسعت الفتوح الإسلامية وأصبح من العسير بل من المستحيل حماية بعض البلاد ولا سيما وقد أصبح العرب مجاورين الرومان ورأوا أن الحاجة ماسة لحماية الشواطئ، ومن هنا بدأ اعتناؤهم بالملاحة فأخذوا في إنشاء السفن مثل الرومان، وفي مدة وجيزة صارت لهم دراية وخبرة بالبحار وركوبها وطافوا أشهرها وقهروا محيطات العالم واتصلوا بالبلاد البعيدة وعرفوا عنها الشيء الكثير. مهروا في صناعة السفائن وأنشئوا لذلك دوراً عظيمة وصار لهم في مختلف الأنحاء أساطيل أصبحت عرائس البحار وزينة الشواطئ متقنة الصنع كثيرة العد، تفننوا في صنعها وأدخلوا تحسينات جمة على آلاتها ومعداتها، ووضعوا لها الخرائط والمصورات البحرية وكانوا على علم بالأوقات الملائمة لخوض البحار وعلى معرفة تامة بأوقات هبوب الرياح. اتخذوا المنائر في المرافئ وفي المواضع الخطرة لهداية السفن واستعملوا الإبرة المغناطيسية لتعيين الجهات

ولا حاجة إلى القول إن أساطيلهم كان لها أثر كبير في ازدياد قوة الإسلام واتساع رقعته، فلقد تمكن العرب بواسطتها من فتح سردينيا وصقلية وقبرص ومالطة وكريت، وكذلك تم لهم الاستيلاء على كثير من شواطئ البحر الأبيض المتوسط وبعض شواطئ فرنسا. ولقد وصل الأسطول الإسلامي الأندلسي في عصر عبد الرحمن الناصر إلى مائتي مركب، وكذلك أسطول أفريقيا إذ وصلت أساطيل المسلمين في دولة الموحدين من العظمة والفخامة إلى ما لم تصل إليه في أي عصر آخر وبلغت في أيام المعز لدين الله بمصر ستمائة قطعة. وجاء في مقدمة ابن خلدون أن عدد أساطيل المسلمين في أوربا وأفريقيا في القرن الخامس والسادس للهجرة وصل إلى مائة أسطول!. . . وكانت أساطيلهم هذه على أنواع، منها التجارية ومنها الحربية، والأخيرة تتركب من سفن ومراكب مختلفة منها ما هو خاص

ص: 32

للدفاع يقيمون فيها الأبراج والقلاع أطلقوا عليها اسم (الشونة). ومنها ما هو خاص بحمل المنجنيقات التي يُرمي بها النفط المشتعل على الأعداء، وقد أطلقوا عليها اسم (الحراقة)، ومنها الطرادات وهي سفن صغيرة سريعة الجري، ومنها سفن تختلف عن التي ذكرنا لأغراض حربية وغير حربية. وللسفن الحربية معدات وأدوات منها (الزَّرَد) و (الخود) و (الدَّرَق) - والأخيرة أتراس من جلد ليس فيها خشب. وكانوا يستعملون عدا هذه الرماح والكلاليب وسلاسل في رؤوسها رمانات من حديد. وكثيراً ما كانوا يستعملون قوارير النفط يرمون بها الأعداء وهي في حالة اشتعال. ومن العجيب أنهم كانوا يستعملون أيضاً مسحوقاً ناعماً من مزيج الكلس والزرنيخ يرمون به مراكب العدو فيعمى الرجال بغبارها. وكانوا يعلقون حول المراكب من الخارج الجلود أو اللبود المبلولة بالخل والماء والشب والنطرون أو الطين المخلوط بالبورق والنطرون ومواد أخرى لتخفيف أثر النفط المشتعل. وقد وفق العرب على سر تركيب النار اليونانية بعد أن فتكت بهم في مواقع حربية كثيرة وأوقعت في بعض الحالات خللاً وفوضى في معسكرا تهم وسفنهم وصاروا يستعملونها في حملاتهم البحرية على شواطئ إيطاليا وبعض جزائر البحر الأبيض المتوسط. ويرجع بعض الباحثين أنها تتركب من (زيت النفط) والكبريت والجير والقار بنسب لا تزال مجهولة، وينتج عن هذه المركبات سائل ملتهب يحدث دخاناً وانفجاراً عظيمين كما تخرج منه نار تشعل الأجسام التي تلامسها أو التي تقع عليها. واستعمل الموحدين هذه النار في حصار (لبلة) من أعمال البرتغال في القرن الثالث عشر للميلاد لدفع جيوش ألفونسو العاشر ملك قشتالة. ويقال إنهم (أي العرب) استعملوا آلات يقذفون منها على الأعداء حجارة ومواد ملتهبة يصحبها دوي كالرعد، ويرى بعض العلماء أن هذه الآلات ليست إلا قاذفات النار اليونانية

ومن طريف ما يروى أنهم كانوا يستعملون طرقاً مبتكرة أثناء الحروب تدل على فطنة وذكاء وشدة حذر وبراعة في وسائل الحيطة، فقد كانوا يطفئون الأنوار (أي لا يشعلون ناراً)، وكانوا إذا أرادوا تضليل الأعداء والمبالغة في الاختفاء يسدلون على مراكبهم قلوعاً زرقاء حتى لا تظهر عن بُعْد. وهذا يذكرنا بوسائل الوقاية التي تستعملها الدول الأوربية المتحاربة من إطفاء النور واستعمال الضوء الأزرق في السيارات. وجاء في بعض الكتب

ص: 33

أن العرب كانوا لا يتركون ديكا في (المركب) أثناء الحروب، وذلك خوفاً من صياحه الذي قد يستدل منه على مكان المركب

ولسنا الآن في موقف نستطيع معه تفاصيل المعدات الحربية الأخرى التي كانوا يستعملونها، كما أنه ليس هناك مصادر نستطيع منها سرد الطرق التي كانوا يتبعونها في البحار، وقد يطول المقال إذا أردنا وصف الاحتفالات الرائعة التي كانت تجري عند إخراج الأساطيل للحرب. وهذه كلها لا تزال في حاجة إلى من يتعهد جلاءها ويقضي على غموضها. ويؤلمنا أننا لم نسمع عن هيئات علمية أو أفراد اهتموا بهذه الموضوعات أو صرفوا لها بعض جهودهم وعنايتهم. وعلى كل حال فمن مطالعة لبعض الكتب القديمة ومؤلفات جديدة تمكنا من تهيئة هذا الحديث. وقد تجلى لنا منه أن العرب وصلوا في الملاحة إلى درجة لم يصل إليها غيرهم من قبلهم إذ جعلتهم سلاطين البحار وغزارة المحيطات، وكان لذلك تأثير كبير في فتوحاتهم وفي اجتياح كثير من الجزر البحرية وشواطئ البحر الأبيض المتوسط. وبقى العرب أسياد العالم في البحار إلى أن قامت عليهم قيامة الغرب بحروبه الصليبية وقيامة المغول والتتار وهبت عليهم عواصف الفتن والقلاقل فضعف شأنهم وأضاعوا عزهم ومجدهم واستولت عليهم غفلة طويلة وجمود مروع كاد يذهب بالكيان والخصائص التي يمتاز بها العرب على غيرهم وكاد يستحيل كل هذا إلى اضمحلال وفناء. . .

(نابلس)

قدري حافظ طوقان

ص: 34

‌رسالة الشعر

صلاة محترقة!

إلى بنفسجتي

للأستاذ محمود حسن إسماعيل

خانَكِ النُّورُ - فلا كان - ودَّستْكِ الغيوبُ

فَوْقَ سَفْحٍ أُفْقُهُ الغَيمانُ مشبوبُ كئيب

وكَثيبٍ صمتُهُ في الرُّوح وَسواسُ رهيب

تَدْرُجُ الشمسُ عليهِ الرَّوابي وتَغيبُ. . .

. . . وْهوَ مفجوعُ الثَّرَى يا زهرتي يَبكيِ لوَجْدِكْ

مُزْعِج الوَحشيَةِ كالمصْلوب لهفانُ لِبُعدِكْ!

زُرْتُهُ والفجرُ - يا فجِرىَ - في الوادي ربيبُ

خَطْوُهُ نحوَكِ سحرُ وصَلاةُ وطُيوب

وأنا خَطْوِيَ أّناتُ وشجوُ ونحيب

فالتقى عندَكِ ضِدَّانِ: شروقُ، وغروبُ. . .

. . . أَلَقُ الشمسِ منِ الذُّعْرِ شَليلُ حوْلَ مَهدِكْ

ودُجَى الأحزان في نفَسِيَ صخَّابُ لِقيدِكْ!

والنَّدَى أدمُعُ أرْواحٍ حزانى، وقُلوبُ

راعها حُزْنكِ في الفجر فأمستْ لا تجيب

كلما ساءَلْتُها عَنكِ تَغشَّاها شُحوب

وبكتْ مِثلي وقالتْ وهْيَ في الضَّوْءِ تَذوبُ:

لَيتنا حبَّاتُ ساجداتٌ فَوْقَ عِقْدِكْ

أوْ شُعاعاتٌ بَراها الله أكماماً لِوَرْدِكْ!

أنا يا دُنيايَ منبوذٌ على الدُّنيا غَريبُ

ودُموعي في تُراب الدّهر أبلاها المشيب

ص: 35

كلما شارفْتُ أنواركِ صدّتْني الخطوب

مِثلَما شارفْتُ عن الجاثِينَ لله الذُّنوبُ. . .

. . . فابعثي يا ربَّتي طيفاً من النُّورِ لِعبْدِكْ

فهْوَ في ظُلمتهِ الَخرساءِ تمثالٌ لعِهْدِكْ!

ص: 36

‌وعد!.

. .

(مهداة إلى شاعر الإسكندرية الأستاذ خليل شيبوب)

للأستاذ أحمد فتحي

لِمَ أَخلفْتَ موْعِدي

يا حبيبي، وسيِّدي؟!

هل تناسيتَ، أم نسي

ت، على غيرِ مَقصدِ

أمْ تَلَكأتَ في التَّجَمْ

مُلِ، إذ قُمْتَ تَرْتدي

زينةُ الُحسنِ عَوَّقَت

كَ، فأخلفتَ مَوعدي

لستُ أنسى سُوَيْعةً

قلتُ: يا (ساعةُ) اشهدي

أخلفَ الُحلوُ وَعدَهُ

ليتهُ كانَ مُسعِدي

ليتهُ كان شاهداً

واصِلاً، غَيْرَ مُبعِدِ

لِيرَى أنْ وقْفَتي

جَمْرَةٌ. . . في تَوَقُّدِ

عقرَبا الساعةِ البطي

ئانِ خانا تجُّلدي

فَكأني وقَفْتُ مِنْ

صُبْحِ أمسى إلى غَدي!

عُدْتُ يَحدُونيَ الملَا

لُ، إلى رُكنِ مَعبدي. .

عَبَثاً أْطلُبُ النعا

سَ لِطرْفِي المُسهَّدِ!

أوْ أُسرِّى لَوَاعِجاً

عَنْ فُؤَادِي المشرّدِ

ثمّ ناجَيْتُ صُورَةً

لَمَعتْ لَمَع فَرْقد. . .

سَحرَتْ جَوْ مَعبدِي

واسْتعزتْ بها يَدِي

قلْتُ: يا رَسْمَ سَيَّدي

آهِ، لَو كُنتُ أغتَدي

آهِ، لَو كُنتُ أغتَدي

مِن حَبِيِبِي بِمشهدِ

لِيَرَى مِن صَباَبِتي

كلَّ مَعَنى مؤكَّدِ. . .

وَأرَى مِنْ جَمالِهِ. . .

كلْ فَنْ مُجدّدِ. . .

وأُغَنِّيهِ فِي الهَوَى

كلّ لحْن مخلَّدِ. . .

يَا حَبِيِبِي، وَسَيَّدِي

لِمَ أخْلفْتَ مَوْعِدِي!

ص: 37

‌تحية الرسالة في عامها الثامن

جان دارك بين العرب

للأستاذ محمود غنيم

مشتْ مثل جان دارك بين العرب

تشُدُّ عراهم بأقوى سببْ

تشقُّ الصُّفوفَ بعزم وتهتِ

فُ باسم العروبة واسم الأدب

إذا هتَفتْ قلبَ طيرٌ شدا

وإن خطرتْ قلتَ ليثُ وثب

تبِّشرُ بالضاد بين بنيها

وأَكرِمْ بحرمة هذا النسب

وما وحَّدَ الجمعَ مثلُ اللسان

ولا اتحد الجمعُ إلا غلب

إذا اتحد الفكر في أمة

تجمَّع من شملها ما انشعب

قد انتظمت أمم الضاد طُرَّا

فكانت كعقدٍ وكانوا كحَب

بها تتلاقى العقولُ كما تَ - تلاقى الروافدُ عند المصَب

فذا كاتبٌ من أعالي الفُراتِ

وذا من دِمشق وذا من حَلب

بكل يراعٍ أسدَّ من السه

مِ يغزو القلوبَ إذا ما كتب

فطوراً يمجُّ لُعابَ الأفاعي

وطوراً يمج عصيرَ العنب

وطوراً له أحرفٌ من ضياءٍ

وطوراً له أحرف من لهب

تطلُّ على العالم العربيَّ

وترقُبُ أحداثه عن كثَب

إذا حرَّكتْ غيرَها الشهواتُ

فلا رغَبُ عندها أو رَهَب

وتعلنُ عن نفسها بالسكو

تِ عالمةً أنه من ذهب

وما أعلن المرءُ عن نفسهِ

بمثل الأناةِ ومثلِ الدَّأَب

ألا ما أقلَّ الثمار إذا ما

تعالى الضجيجُ وزاد الصخب

بدَتْ ولها يومُ وضعِ المسيح

وعمرُ المسيح الطويلُ الحِقب

تكلم هذا صبيَّا وتلك

أتتْ وهْيَ في مهدها بالعجب

لقد جاء من خير أمٍّ وجاءت

سليلةُ (أحمد) من خيرِ أب

فتاةٌ كفاها فخاراً أبوها

إذا افتخرت غادةٌ بالحسب

تكادُ تسائلُ حين تراها

هل الوحي بعد الرسول احتجب؟

ص: 38

وكم (للرسالة) من نُدماَء

هي الكأسُ عندهمو والحَبب

إذا طلعتْ في سماءِ البيا

ن لم يَسألوا: أيُّ نجمٍ غرَب؟

وقالوا: الرسالة قلتُ: وهل ثمَّ (م)

أجدرُ منها بهذا اللقبِ؟

مشتْ بالسَّفارة بين البلادِ

تخطَّى الوهادَ وتَرقي الهضَب

فأُقسمُ ما قَّصرَتْ في الأداءِ

وإن قصَّرَ القومُ عما وَجب

متى يعرفُ الناسُ أن الفتى

- بلا أدب - دميةٌ من خشب؟

فما هوَ شعرٌ ونثرٌ ولكن

هو الرُّوح للجسم وهو العصَب

يُمِدُّ الشعوب بكلِّ قواها

وتذهبُ شوكتهم إن ذَهبْ

(الإسكندرية)

محمود غنيم مدرس بالمعلمين

-

ص: 39

‌رسالة الفن

دراسات في الفن

388

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

- حقك اليوم أن أبخرك. . . كتاب في يدك، وتقرأ في الطريق؟

- ليس هذا كتاباً، وإنما هو دليل المعرض الدولي لفن التصوير الشمسي الذي تقيمه الآن جمعية محبي الفنون الجميلة. . . هل لك أن تصحبيني إليه لعلنا نرى شيئاً جميلاً؟

- يسرني هذا. . . هيا. . . فهي فرصة قد أقتنع فيها بأن التصوير الشمسي فن.

- أو لم تقتنعي بذلك إلى اليوم؟

- أحياناً أقتنع، وأعود في أغلب الأحايين فأشك، وتجئ أحيان أنكر فيها إنكاراً.

- ما دمت تقتنعين أحياناً، ولو قليلة، فإن هذا يدل على أن التصوير الشمسي فن، أما هذه الأحيان التي ينبعث فيها الشك من نفسك، والتي ينبعث فيها الإنكار، فلذنب فيها ليس ذنب التصوير الشمسي، وإنما هو ذنب المصورين الشمسيين، ولكي يتضح لك هذا عودي بالذاكرة إلى الصورة التي أعجبتك، والى الصور التي لم تعجبك، وحاولي أن تلمسي الفروق بين هذه وتلك لترى أنها كانت إصابات من مصورين وإخفاقات من آخرين. . . فبين المصورين من يطوف بآلته يلتقط الصور لكل ما يراه، وهذا يشبه في الشعراء الدكتور زكي أبا شادي الذي لا يستعصي شئ على شعره، فهو يستطيع بقوة الله أن يقول الشعر في الزهرة، وفي السحابة، وفي النملة، وفي البلاطة، وفي القمر، وفي القلقاس وفي كأس الخمر، وفي (كوز حمام)، وفي الراقصة الرشيقة، وفي (الترسة) المتثاقلة، وفي الزمرد والياقوت وكلورور الصوديوم وبيكربونات الصودا وهناك نوع آخر بين المصورين للواحد منهم محل يذهب إليه الناس ليصورهم بالأجر، وأغلب هؤلاء يشبهون الكتاب العموميين الذين يكتبون للناس ما يريدون كتابته بالأجر أيضاً، والذين يكتبون فيما يكتبون فرحاً وحزناً، وبشرى وإنذاراً وحوادث وأخباراً من غير أن تهتز في أنفسهم خلجة ولا عاطفة، وأقلهم تطيب لهم بعض الوجوه فيخرجون لها أحسن الصور. . . وفي الكتاب

ص: 40

العموميين أيضاً من يفعل مثل هذا إذ تطيب له بعض الموضوعات فينطلق قلمه بأحسن ما يكتب. . . وهناك نوع ثالث بين المصورين له اتجاه خاص، فهو لا يصور كل شئ، وإنما يصور ما يروقه فقط، وإنما تنجذب نفسه إلى معان خاصة يرتاح لها، ومن هذه المعاني ما قد يُسعد ومنها ما قد يغذي الألم في نفس الفنان ويسقيه، وهؤلاء المصورون يشبهون كل فنان من أولئك الذين يمتاز الواحد منهم بطابعه الخاص وبلونه النفساني. . . وفي هؤلاء المصورين جميعاً الصادقون، وفيهم الكاذبون، وفيهم الهادئون، وفيهم المتكلفون وفيهم الجادون، وفيهم الساخرون. . . وللتصوير الشمسي بعد ذلك عالم كما أنه لكل فن عالم، وفي عالم التصوير الشمسي تجار يبيعون ويشترون، وفيه سماسرة يروجون، وفيه ناس طيبون يستهلكون، وفيه أدعياء يتحككون بالفن ويقتنون الصور، ويتأنقون في صنع (براويزها) وهم أبعد ما يكونون عن الفن، أبعد ما يكونون. . .

- كأني بك تريد أن تقول شيئاً في نفسك ولكنك تمسكه

- وهل خلًّيت شيئاً لم أقله؟ إلا أني معجب برئيس مجلس شيوخنا الذي يهتم كثيراً بالفنون الجميلة، وبهذه الروح الطيبة التي يرعى بها الفن كل من المسيو مارسيل فنسينو رئيس البنك العقاري المصري، ورينيه قطاوي بك مدير شركة وادي كوم امبو ويوسف قطاوى باشا الوزير السابق، والدكتور على باشا إبراهيم، وحافظ عفيفيي باشا، وسعادة محمد طاهر باشا رئيس لجنة الرياضة الأهلية، وفؤاد أباظة باشا المدير العام للجمعية الزراعية الملكية والمسيو نوس مدير شركة السكر، والمسيو ريشارد موصيري الوكيل المفوض لبنك يوسف نسيم موصيري (أولاده وشركاهم)، وسائر أولئك النبلاء الذين يعطفون على الفن. . . ليس في نفسي إلا أن أنتهز هذه الفرصة لأشكر فيها هؤلاء الرجال الكبار باسم الفن. فهم من غير شك يضحون كثيراً من وقتهم الغالي، والغالي حقاً في سبيل التهذيب الروحي يرقون عن طريقه بأبناء هذه البلاد.

- هل تعرف أن هؤلاء لو اهتموا بالفنانين الذين تؤثر فنونهم في الشعب تأثيراً قوياً لأجدوا على بلادهم خير جدوى. ولازدهر الأدب والتمثيل والموسيقى و. . .

- الله حبب هؤلاء في التصوير الشمسي، وللفنون التي تتحدثين عنها قضاء آخر عند الله هو مقدِّرُه، فاشكري الله على ما قُسم. . واسكتي الآن فقد وصلنا. . .

ص: 41

- الله. . . تعال هنا. . . عند (41) إنها فتاة حلوة رائعة، أليس كذلك. . .

- من غير شك. . . و (28) أيضاً رائعة. . . وأظنك ترين الفرق واضحاً بين هذه وتلك. . (41) فتاة مليحة اعجب بها مصورها (عزام جمال)، ولا ريب أنه شاب عذب القلب فيه كثير من أخلاق الصبيان. . . و (28) شاب في أواخر الشباب أعجبت به مصورته (آسيا)، وهي لا ريب فتاة عاتية، فإذا كانت رجلاً متنكراً باسم مؤنث، فهو رجل فيه رحمة وفيه حنان ولين. . .

- وهل تعرف أنت (عزام جمال) و (آسيا) وتعرف أخلاقهما؟. . .

- لا يا روحي. . . وإنما نفساهما في هاتين الصورتين. . . فالذي اختار هذا الوجه الصبوح الضحوك المنبسط الذي لا تجاعيد فيه ولا حزون تصوره هذه الصورة، لا بد أن يكون من عشاق الصباحة والضحك والانبساط والصراحة والوضوح. . . وإلا فلماذا اختار هذا الوجه وصوره؟. . . أما (آسيا) فقد صورت هذا الشاب المتكسر الشباب الذي يطل الشقاء من إحدى عينيه ويطل الصبر من الأخرى، فلا بد أن تكون من اللواتي يستهويهن الشباب الموَلى واللواتي يطربن إذا رأين في عيون الناس صبراً وشقوة، وهذا لا تحبه إلا نفس الأنثى العاتية. فإذا طرب له رجل فبالرحمة يطرب له، وبالشفقة يستجيب إلى صبره، وبالتعزية يواسي شقاءه.

- ولم لا يكون الرجل قاسياً عاتياً هو أيضاً يحب أن يرى في عيون الناس الصبر والشقاء

- هذا لا يكون إلا في الرجال الجلادين، وأنا لا أظن أن الذي صور هذه الصورة هو (عشماوي) متنكراً باسم آسيا. من يدرى. . . تعال إلى (38) هذه. . . امرأة تنظر من النافذة مهتمة متلهفة هذه الصورة روماني اسمه افرامسكو ويسمنها (انتظار)

- ليت هذا المصور ذاد هذه المرأة عن النافذة قبل أن يلتقط هذه الصورة. . . فقد كانت عندئذ تظهر صورة ساكنة لبيت ساكن. . .

- ولكنه يخيل إلى أنه هو الذي دعاها لتقف في النافذة هذه الوقفة، ولتطل هذه الإطلالة، ولتهتم هذا الاهتمام، ولتتلهف هذه اللهفة. . .

- وأنا يخيل إليّ هذا أيضاً، وهذا هو ما يفسد عليّ الاستمتاع بهذه الصورة، ذلك أن هذه السيدة عند ما أرادت أن تلبي دعوة هذا المصور لبتها بإخلاص شديد جداً له هو، فقد مطت

ص: 42

نفسها في النافذة مطة ثعبانية، ثم نثرت في وجهها من علامات الاهتمام ما لا يمكن أن يبدو على وجه إنسان إلا إذا كان يرقب موكب الملائكة يوم الحشر، وتلهفت تلهفاً لا يمكن أن يتلهفه إنسان إلا إذا كان يرقب انشقاق السماء ليلة القدر حسبما يقولون ويروون. . . ومع أنها أدت هذه النوازع هذا الأداء المكبر، فإنها لم تستطع أن تخفي ما كان يجب عليها أن تخفيه وهو شعورها بأنها تعمل هذا كله كي يصورها الأستاذ أفرامسكو

- إذن فهذه صورة فاشلة. . .

- يؤلمني أن أقول هذا. . . ولكني أعتقد أن في هذا تعزية كبيرة للأستاذ أفرامسكو، فهو دليل صادق جداً على أن هذه الشابة مطاوعة له مخلصة لفكرته تود له من صميم قلبها أن ينجح. . . وهذا أمر من غير شك يرضيه. . .

- من يدري مرة أخرى. . . فلربما كان يريد أفرامسكو أن تفوز صورته بإعجابك وإعجاب غيرك من النقاد، ولو كان ثمن هذا الفوز روح هذه التي تقول إنها مخلصة. . . الست تعرف أصحاب الفن وسخفهم. . . من منهم جازي المخلصة إلا بكارثة. . .

- خذا موضوع آخر لا أوافقك فيه على رأيك هذا على الرغم من أن بعض الظواهر قد تؤيده. . . ولكن هذا ليس وقته. . . تعالى. . . سأختار أنا لك صورة. . .

- تعالى، انظري إلى هذه. . . (388). . .

- انتظر لأرى من صاحبها. . . إنها من رسم سيدة أسمها مدام رايفون وهي من لندن، وقد سمت هذه الصورة (صورة). . فقط. . . وهي صاحبة (389) أيضاً وقد سمتها (عيد). . .

- عظيم. . . وهل تعجبك (389) هذه؟ فيها جمال حقاً ولكن (388) أبدع، وهي من غير شك أبدع ما في هذا المعرض. . .

- ولكن لا يزال أمامنا جزء من المعرض لم نره لعل فيه ما هو أبدع من هذه الصورة

- قد يكون هناك ما يساويها. ولكن لا أعتقد أن هناك ما هو أبدع منها. . . فقد قالت المصورة في هذه الصورة كل ما يمكن أن يقال.

- ولكني أرى في هذه الصورة تكلفاً كالذي رأيته أنت في صورة التي تنظر من النافذة. . .

- خسئ ما ترين. . . أين هو التكلف؟. . .

ص: 43

- الصورة صورة شاب لا شك في أنه أوربي، ومع هذا فهو يلبس ملابس المماليك الأتراك أو الشركس، طربوش يوناني أو عثماني كبير كطربوش تمثال إبراهيم باشا، وقميص من الحرير، وصديري مفتوح، وحزام حرير يطل منه خنجر، و (سروال) ارتفع إلى مادون ركبتيه بقليل من أثر جلسته، فظهر جزءان من ساقيه. . . ثم هذه (البلغة الفاسية) التي أظن أنه كان يجب أن يكون مكانها (مركوب) أحمر أو أخضر ليماشي هذه الملابس التي لم يكن أهلها يعرفون (البُلغ) وأخيراً هذه الجلسة نفسها على هذه القطعة المخروطة من الخشب التي لا طبيعة فيها ولا صناعة والتي لا تشبه جذع الشجرة، والتي ليس مثلها كرسي، التي تكاد تكون صنعت خاصة لهذه الصورة. . . أو هناك تكلف بعد هذا كله؟

- هذا الذي تسمينه تكلفاً هو ما أسمه أنا إخراجاً. . . فصاحبة هذه الصورة لها خيال تحبه حققته فيها بهذا الأسلوب الذين ترين. فاختارت هذا الفتى الذي فيه ملامح خيالها المحبوب والذي تتعسفين كثيراً إذ تؤكدين أنه أوربي، لأنه قد يكون كما تقولين وقد يكون شرقيَّا أيضاً، وهو كما ترين ممن يشهد الرجال لهم بالحلاوة والعذوبة، فما بالك بشهادة النساء؟ جبهة عريضة لم يغطها هذا الطربوش العميق الضخم وإن كان أخفى منها جزءاً وهي جبهة تدل على الذكاء والذكاء محبوب، وعيناه دعجاوان تنبعث منهما نظرة مرتاحة متأنقة كأنما تنتقي وتختار، وأنفه دقيق منتظم جميل، تناسق بتناسق نفسه واعتدل باعتدال مزاجه، ووجنتاه بارزتان بروزاً خفيفاً ينفي عن وجهه تراكم اللحم وغلظ الجلد، وعن روحه ثقل الظل وجمود الحس، وفيه واسع ولكنه يبدو كالضيق لأنه مكون من ثلاثة مستقيمات: واحد منهما متقدم والآخران منكسران عنه بزاويتين إلى الوراء فكل منهما في جانب والفم الواسع ترينه دائماً للمغنين والمتحدثين ذوي اللباقة وحسن التأثير، كما أن له أذنين مرتفعتين غير صغيرتين تفتحتا للسمع والإصغاء وشفتاه لا هما رقيقتان قاسيتان ولا غليظتان بربريتان، وذقنه صغير طرى كذقون الأطفال الأصفياء، وأصابعه طويلة دقيقة خلقت للترفه والعبث وفي إحداها هذا الخاتم المرصع باللآلئ والياقوت استغراقاً منه في جو النساء واصطناعاً منه لما تحبه النساء، وصدره قد انكشف عن القميص فبدا شعره كما بدا الشعر في ساقيه، والشعر في الرجل خشونة تنجذب إليها المرأة الناعمة. . . وهذه الملابس الشرقية التي تسخرين منها هي حلم من الأحلام يتردد في نفوس أهل الغرب، كما يتردد في نفوس

ص: 44

الشرقيين الأمل في مشاهدة باريس وفيينا وبوخارست. . . وهذه القطعة من الخشب التي تعيبينها هي القاعدة التي أقامت المصورة عليها هذا الموضوع كله بما فيه من الفكرة والعاطفة والخيال بهذا الأسلوب الواضح المستقيم، والذي لا أظن أن غيرها يشاركها فيه إلا من كان مثلها منساقاً في فنه إلى طبيعته وفطرته. وهذه هي المرتبة العليا من مراتب الفن

- وما رأيك في (389)؟

- هي غطاء لهذه الصورة الجريئة الحلوة، فالسيدة رايفون لم تشأ أن تعرض (388) وحدها لئلا يفهم أن لها اتجاهاً نفسانياً خاصاً فجاءت بهذا (العيد) كما تسميه، وصورته فتاتين أسبانيتين بينهما شاب جميل المظهر حقاً، ولكنه كالدمية البلهاء، حتى إذا رأى الناس هذه الصورة رأوا فيها طهارة تجري مع التقاليد والعرف والآداب العامة، وتمحو أثر الصورة السابقة أو ما يمكن أن يكون لها من أثر، ولعلها جعلت (العيد) تالياً لصورة هذا الفتى تجيء بعدها في الترتيب لهذا الغرض نفسه، ولعلها أمسكت عن تسمية صورة الفتى بأي اسم من الأسماء تكتما أيضاً. . .

- وهل الفن عيب يتكتمه الناس؟

- ليس فيه من عيب، ولكن ناسا يخشون ما فيه من الحق وناساً يسيئون تفهم هذا الحق، وناساً يتخذون الحق سلاحاً يقتلون به الفنانين في نظر الجمهور قتلاً باطلاً وبهتاناً. . . على أي حال. . . إنك فتاة وتستطيعين عني أن تشيعي قبلة الإعجاب إلى صاحبة (388). . .

عزيز أحمد فهمي

ص: 45

‌الأدب في أسبوع

منهجي في هذا الباب

للأستاذ محمود محمد شاكر

عهد إليّ الأستاذ (الزيات) أن أتولى تحرير هذا الباب من (الرسالة)، فأجبت إرادته بالتسليم، وأنا أجد المعاني في نفسي حائرة لا تكاد تقر؛ فقد لحقتني إرادته والحياة من حولي تفتِّرني حتى ما أحس من فورتها إلا القليل، والنفس منبوذة على حدود النشاط في كسلٍ مجدب بالقحط والظمأ لا يهتدي إليه رِيٌّ ولا شِبَع. وإذا كانت النفس كذلك لم يأت خيرها إلا من طول الإحساس بالحرمان والألم، فهي تريد أن تتكلم من نوازعها بألفاظ ثائرة ضائعة حائرة كأنما تبحث عن نفسها في معانيها. . . ثم لا تتكلم، وثن على ذلك لا تطيق التأمل في المادة التي تعرض لها إلا بمقدار من الرغبة في البحث عن نفسها في سر نفسٍ غيرها لتجد عند ذلك أسباباً تهتاج بها وتضطرب. وإذا لم تجد النفس لذتها المؤلمة إلا في انتزاع الآلام المحرقة مما ترى وتسمع وتتخيل، فكيف تعيش أفكارها إلا في دخانٍ من الأحزان الصامتة صمت الفكرة المختنقة التي لا تجد أنفاسها ولا جوّ أنفاسها. هكذا أَجدُني

وهذه النفس المنبوذة بما جنت وبالذي لم تجن من شيءِ، هي النفس التي أريد أن أتولى بها النظر فيما يعرض لي من شؤون الأدب في أسبوع من أسابيع (مصر)، ولقد تشاكلا ووقع حافرٌ على حافر في حَلْبة مغلقة. فنفسي الآن هي نفسي التي لا أكاد أجمعها وألم أشتاتها إلا قليلاً، وما هو إلا أن أراها مبعثرة تَفِرّ مني أوابدها في كل وجه، وأقف أنا أتلفت. . . أنظرها وهي تغيب في ظلام الأحزان، وتترك عندي أطيافاً من الذكرى تطوف في تأملاتي مرسلة من مزاميرها ونايها أنغاماً حزينة مهجورة متفجعة كأنما تقول هذا مكان كان أهله ثم بادوا. وهكذا أيضاً أجدني

في بعض الإنجيل هذه الكلمة: (من وجد نفسه أضاعها، ومن أضاع نفسه من أجلي وجدها)؛ أفيكون معنى ذلك أن النفس الإنسانية لا توجد باقية أبداً إلا وهي مستهلكة، وأن الأشياء الشريفة التي تهلك هي بعينها التي تحيى، وأنه لا معنى للشيء الحي إلا أن يجتمع فيه معنى الأشياء الشريفة الموت والحياة معاً؛ وأن استغرق النفس واستهلاكها في الأحزان النبيلة وتعذيبها بها هو استحياؤها وتنعيمها، وأن العمل المهلك والفكر المهلك هما العمل

ص: 46

الإنساني الجليل الذي خلقت من أجله الحياة على الأرض! وعلى ذلك لا تكون النفس حية أبداً إلا وهي سائرة بالحياة في مسبعة من الموت، يتخطفها كل شئ حتى الأسباب التي يستوجب بها الحي صفة الحياة! إذن ما أعجب الحياة

وإذن فقد فرت مني المعاني التي أحمل نفسي الآن على علاجها، واستجهلتني الآلام في عواصفها حتى ذهبت هذا المذهب المزين من القول لأقدم به الكلام في هذا الباب الذي عقده (الزيات) للأدب، ومع ذلك فإني لأرى الصلة التي تصل أصل هذا الباب بالأصل الذي في نفسي، فإن تتبع (الظواهر الأدبية) ينبغي أن توفر له أسباب الاستقرار النفسي حتى يستطيع الكاتب أن يجمع إليه المعاني ويضرب عليها الحصار حتى يفندها أو ينقدها أو يحصيها أو يبين عن غامضها أو يكشف أستارها أو يقدم لها بالنظر والفكر والتوهم - ما يوجب بعض النتائج التي تفضي به الآراء إليها، وذلك يمكنه أن يوجد للأدب ميداناً تستعرض فيه أعماله التي يدأب الأدباء والكتاب والشعراء وأصحاب الرأي في صنعها وتجويدها. فإذا تناول هذا الأمر بالنفس التي لا تستقر ولا تهدأ كان عمله أقرب إلى الثورة - أي إلى الفوضى - من حيث يريد أن ينظم، ومع ذلك فإن الخير كل الخير أن نحاول الحياة كما تحاولنا بالاقتسار والعنف، وأن نقبل عليها وهي مدبرة بالبرهان على إمكان احتمالها جافية كانت أو ناعمة، ومؤلمة كانت أو مريحة، ومنصفة كانت أو باغية، وأن نأخذها من حيث نرى الرأي أنه هو أجدى وأنفع، وأيضاً فإن المصدر الحي للأدب إنما هو النفس، فهو يصدر عنها موسوماً بسمتها، أما مستقرة هادئة مفكرة في جو من الراحة، وأما ثائرة لماحة متخطفة في مسبح الأحلام والآلام والأماني المعذبة بالحرمان، فليس إذن من المنكر أن ينصب امرؤ لا تهدأ نفسه لمثل هذا الباب الذي وصفناه وأن يتناول هذا الأدب بما يتداوله من الإحساس المشبوب والنظر الخاطف والرأي العنيف أو أي ذلك كان

وأحب أن أعهد قبل أن أتكلم، فإني رأيت الأدباء قد أكل بعضهم بعضاً بألسنة كظهر المبرد، وتشاحنوا بينهم للكلمة التي لا ترفع ولا تضع، وتنابذوا على الأهواء الغالبة المستكلبة، ومن كان ذلك هجيراه ودأبه، فهو عند النقد أو الاعتراض كالوحش المجوع الغرثان قد أجهض عن أشلاء فريسته، يكاد ينقد عليه إهابه من الغيظ والحقد والرغبة في الإيقاع بمن يصرفه عن أحلام معدته. وهذا أسوأ الخلق وأبعده عن صريح نهج الأدب،

ص: 47

وأقله غناء في تهذيب الأديب، وما أظن أن في الدنيا العاقلة أديباً تخيل له أوهام (العبقرية) للطائفة به أنه قد سبق السهو والخطأ وبقي النقد والنقاد لقي وراءه يتلوذون بظلاله - في طلب البركة! ومع ذلك فأن بعض من عناه القدر فرمى به في غيل الأدب العربي يتصيد،. . . يقتات من أوهام العبقرية حتى حبط بوهمه في نفسه، واستكرش ونفش بما أكل حتى تضلع، ثم استلقى على الأفياء يتخيل أن الأدب كله قد وقف عليه من عند قدمه إلى رأسه يهدهده حتى ينام في ظلال الملك الهنيء. ومن كان هذا مثاله من الأدباء، وعرضنا لبعض قوله بالنقد، فلا يتخيلن أنَّا نعنيه هو بذاته - فهو موفور الأحلام على نفسه أن شاء الله - وإنما نعرض للقول على أنه كلام مقول يقع فيه السهو والخطأ، وتتعاوره الصحة كما يتعاوره السقم، وأنه كلام مصبوب على الناس وعلى أسماعهم وأذهانهم، فنحن بنقدنا كلامه، إياهم نريد، وإياهم نخاطب، وعسى بعد أن يكون له في هدأة من نفسه رأي يتابعنا به إن أصبنا أو يسددنا ببيانه إن أخطأنا، وما نألو في الاجتهاد، ولكن ربما حرم الإنسان التوفيق فيما يأتي وما يذر

هذه واحدة فيما نبدأ به؛ أما ما يقع بين الأدباء من المجادلات والمنافرات، فحقها من هذا الباب التسجيل، فإن بقي لنا في القول مقال نقوله - نتعقب به الأصل الذي يقع عليه الاختلاف والتنافر - لم نقصر في تحقيق البيان وتحريره، متعاونين في جعل الحقيقة أسرع إلى إثبات وجودها والدلالة على نفسها حتى تتجلى

وأما الشعر والشعراء وما يلوذ بهما، فأنا حين أغمض عيني لأجمع عليّ خيالي ورأيي وفكري، أنتهي إلى مثل الغيبوبة من الحسرة واللهفة والألم. فقد فرغ الشعر من بيانه ومعانية ومعارضه الفاتنة، ووقع إلينا أوزاناً تتخلَّج بما تحمل تخلج المجنون في الأرض الوحلة، وما أظنه يعتصم في هذه الأيام إلا بشاعرين أو ثلاثة، ولكل منهم مذهب، وكل قد قذفت به الحياة في مهنتها وابتذالها حتى صار أكثر فراغه مستهلكاً على صناعة أو وظيفة تطعمه العيش وتحرمه لذته، ومع ذلك فهم يقولون ويتكلمون والسامعون ينصرفون عنهم لسوء رأيهم في الشعر الحاضر أول، ثم لكثرة ما يسمعون من كلام لا يحرك عاطفة لأنه لا يصدر عن عاطفة، وما يزال ذلك يتوالى عليهم، حتى أنهمك لا يكادون يعرفون السعر إلا هكذا ثقيلاً غثاً بارداً، فكيف لا ينصرفون عنه، ومن ذا الذي يرضى أن يحمل نفسه إلى

ص: 48

(ثلاجة) وهو يعد في العقلاء. فكذلك ضاع شعر هؤلاء الثلاثة في غثاثة الكثرة، ثم فترت أنفسهم ولا تزال تفتر - إلا أن يشاء الله - لما يجدون من غفلة السامعين عنهم، وليس كلهم يستطيع أن يقول كما قال صاحبهم الأول:

لم يَبْقَ من جُلِّ هذا الناس باقيةٌ

ينالها الفَهْمُ إلاّ هذه الصُّوَرُ

أهزُّ بالشِّعر أقواماً ذوي وَسَن

في الجهل، لو ضُربوا بالسيف ما شعروا

عليَّ نَحْتُ القوافي من مَقَاطِعها

وما عليَّ لَهُم أن تَفْهَم البَقَرُ

وكذلك نخشى أن يأتي على الناس زمان يضيع فيه الشعر الجيد أو يرفع حتى من صدور هؤلاء الثلاثة. ولست أدري الآن كيف يتاح لي أن أنهج مع الشعر والشعراء نهجاً يكون رضي ومقنعاً وباعثاً على تجويد الأساليب والمعاني حتى ينقذ الشعراء فنهم من الضياع؟ فلتدع هذا إلى حينه، والى رأي الشعراء في (مطالبهم)، فقد صار لكل أصحاب صناعة مطالب وحقوق - حتى النساء، فكيف لا يعرف الشعراء مطالبهم وحقوقهم وهم أرهف إحساساً وأنبل مقصداً وأبين بياناَ!!

وأما الكتب التي تصدر في خلال الأسبوع أو قبله بكثير أو قليل فسننهج لها نهجاً مخالفاً لمنهج العرض الكامل أو النقد الشامل، فإن هذا أحق به باب (الكتب) و (النقد)، وإنما نعرض لها من حيث يتوجه لنا الرأي في غرض الكتاب الذي يرمي إليه، وأين يقع منه. ورب كلمة واحدة في صدر كتابٍ أو ذيله، لم يعرض لها الكاتب إلا شارداً أو كالشارد، ثم تكون هي ترج بمعانيها على الكتاب كله وعلى أغراضه أيضاً، فربما وقفنا عند هذه وقفة تجيش لها النفس من نواحيها، فنحتفل لها أشد احتفال وأعظمه لتكون كالعلم على المعاني النبيلة التي تضيع في خرائب الكتب

وبقيت كلمة. . .، فقد أحسن (الزيات) إذ تنبه إلى هذا الباب - الآن - من أبواب مجلته وقد أغفله كل هذه السنين. فإن الحرب والثورة وما في معناهما هي اضطراب عنيف يهز أعصاب الحياة ويقضقض أوصالها، فلا جرم إذن أن تدور الرؤوس وعقولها دورات كثيرة حول نفسها، فتختل الأوزان والمقاييس في كل شئ، وأن تبدأ الحياة بعد الحروب بدءاً جديداً؛ ويكون الناس إذ ذلك كالناشر من باطن الأرض وقد خرج من أكفانه ليرى ظاهرها كل شئ غريب وغير مفهوم، ومع ذلك فهو جديد لذيذ لا يمل وإن كان كله خطأ وفساداً

ص: 49

واستحالة وسبباً من أسباب الفناء؛ وكذلك يكون الأدب والأدباء بعد الحرب، كما أخرجت الحرب الماضية ثم الثورة المصرية سنة 1919 جيلاً من الأدباء استفحل أمرهم وذاع صيتهم وضربوا في الأدب بأسهم مفلولة محطمة، ومع ذلك. . .

فهذا الباب في هذه الأيام إلى ما بعد الحرب - يصور بعون الله وتوفيقه وهدايته الطرق الذي كان عليه الأدب إلى اليوم، ثم أين انتهى وكيف؟ ثم غيب ذلك كله موقوف على نوع الحرب وأساليبها وما تبدع من فنون الشر، وما تثير من طبائع الإنسان - من أنثى وذكر -، وما تحفز أو تبير من أحلام الإنسانية المتحدرة من أطباق الماضي البعيد مع الإنسان الوارث الحي على هذه الأرض

محمود محمد شاكر

ص: 50

‌رسالة العلم

عام جديد

للدكتور محمد محمود غالي

قدمنا إلى القراء في مستهل العام الماضي العلامة الدكتور محمد محمود غالي. ويجب علينا في مستهل هذا العام أن نشكر له باسم القراء في جميع الأنحاء جهده الموفق في وصف الصورة التي يعرفها العلماء اليوم عن الكون، وما وصلت إليه الآراء الفلسفية فيه، وما بلغه العلم التجريبي من تقدم. وقد تابع العلماء والأدباء والطلبة مقالاته الثلاثين في تبسيط هذه الموضوعات العويصة بأسلوب سهل وعرض جميل وقريحة متمكنة. وسيتابعون هذا العام برنامجه الذي عرضه في هذه المقالة مدفوعين بما غرسه فيهم من رغبة الاطلاع ولذة المعرفة.

يسمونه عاماً جديداً، وليس للتسمية من معنى علمي سوى أن الأرض أتمت دورة كاملة في دورانها حول الشمس، شد كوكبنا النشيط فيه رحاله كعادته من نقطة معينة في الفضاء وظل دائراً كعهدنا به إلى أن عاد إلى النقطة التي بدأ منها المسير، واستأنف الكوكب مسيره من جديد فدخلنا فيما نصطلح على تسميته عاماً جديداً، وهو اصطلاح له معناه عند الإنسان. ذلك أنه فد مر من العمر الذي يتطلع إليه كل كائن - جزء له شأنه، فما الحياة إلا بضعة عقود مثل هذا الجزء الذي قد لا يعاود الكثيرين ممن جاوزوا العقد الرابع أمثال له كثيرة. أجل فهو جزء له خطره ومرحلة لها قيمتها من مراحل الأجل المحدود. وقد يتساءل كل امرئ عما قدم من عمل في عامه المنصرم وما اعتزم أن يقوم به في عامه الجديد

ولقد كانت غايتنا في العام الماضي أن نقوم بدورنا في تبسيط العلوم وفي تقريب الميراث العلمي للذين يريدون أن يتذوقوه. وكان ذلك لنا بمثابة مرحله من مراحل الراحة بعمد ما استلزمته السنوات التي قضيناها في أعمال البحث من تعب متواصل في الفكر وفترات طويلة في العمل. وكان واجباً علينا أن نقوم بهذا النوع من التبسيط نحو القراء من المصريين وأهل الشرق بل نحو اللغة العربية، ففي عالم الغرب مئات من المؤلفات في هذه الموضوعات وأمثالها، وقد قام بتأليفها لفيف من كبار العلماء والكتاب في وقت خلت مكتباتنا من أمثالها من المؤلفات، وفي هذه البلاد الغربية لم يتأخر علماء معروفون عن

ص: 51

المضي في كتابة المقالات العلمية في المجلات الأسبوعية أو الشهرية يقربون فيها للقراء أقصى ما بلغه العلم وأعظم ما وصلت إليه المعرفة. ويحضرني في الذاكرة مقالات جان فابري القيمة التي نشرها في مجلة (العالمين) ومقالات غيره من العلماء المعروفين في مجلة (الشهر) تعتبر من أرقى وأشهر المجلات العالمية في الوقت الحاضر. بل لم يتردد آخرون في القيام بتأليف الكتب المبسطة كالتي نراها للعالم الكبير لويس دي بروي وشقيقه الدوق موريس دي بروي (وقد أخرجا في العام الماضي ثلاثة كتب من هذا النوع) وكالتي نطالعها للسير جين والعالم الفلكي أرثر أدنجتون، وهم من مشاهير الإنجليز وممن خطوا كتباً رائعة في باب تبسيط العلوم. وقد ظهر للأخير منهم هذا الشهر كتاب في فلسفة العلم الطبيعية لا زالت الحرب تمنع أن تصل إلينا نسخة منه، نستمتع بها فيما نستمتع به من كتبه العديدة التي هي من أبدع ما جاء بها الكتاب في عالم التأليف

ولقد أفسحت لنا الرسالة، وهي التي تسجل مظاهر التجديد في الآداب العربية، المجال للتأليف العلمي، وخصصت لذلك صحيفة معينة، وجعلت في برنامجها رصد ظواهر التطور في الحركة العلمية، وبدأنا استعراضنا في العام الماضي بمقدم استغرقت ثلاث مقالات ذكرنا فيها: لماذا نحاول تصوير الكون وفق الآراء الحديثة؟ وتناولنا بعد هذه المقدمة ثلاثة موضوعات رئيسية، استغرق كل واحد منها سلسلة من المقالات المتتابعة.

الموضوع الأول تكلمنا فيه عن الحياة وهل هي وليدة المصادفة وشرحنا فيه شيئاً عن علاقة ذلك بالنظام الشمسي للمادة. والموضوع الثاني تكلمنا فيه عن الكون، وبينا للقارئ كيف يكبر الكون في مجموعه، وكيف تبتعد جميع العوالم فيه بعضها عن بعض، وكيف استدل العلماء على ذلك من البحث التجريبي، وكيف أثبت البحث النظري صحة ما ذهبوا إليه. ولعل أظهر ما في هذا النوع من الأبحاث ما ذكرناه للقارئ من وجود علاقة بين الكون في مجموعه وبين أصغر ما فيه وهو الإلكترون. والموضوع الثالث عالجنا فيه الأشعة الكونية، وأردنا بذلك أن نطلع القارئ على أعجب ما نعرفه من الأشعة، وهي الأشعة الخارقة التي تستطيع أن تخترق ما سمكه عشرة أمتار من الرصاص بينما لا تخترق أشعة الشمس غلافاً رفيعاً من الورق، وشرحنا كيف يستدل العلماء على مرور جسيمات هذه الأشعة الخارقة بسماعها، ويحصلون على صور مسارات هذه الدقائق

ص: 52

المتناهية في الصغر، ووصفنا في موضوع الأشعة الكونية الذي بلغ خمس مقالات غرفة ولسون المشهورة التي هي أقصى ما بلغه العلم التجريبي من العظمة والدقة، ووجهنا القارئ بهذا إلى نواح حديثة في العلم التجريبي تبين له منها مسائل جديدة وبحوث عظيمة الأثر، فرأى القارئ مثلاً كيف ساعدت هذه الغرفة في الكشف عن البوزيتون، الذرة الموجبة للكهرباء، وما تبع ذلك من فروض في ماهية وكنه هذه الأشعة العجيبة التي تخترق أسقف منازلنا أينما وجدت وأجسامنا أينما تكون

والموضوع الثالث استغرقنا في كتابته اثني عشر مقالاً ولم ننته منه بعد، وقد تناولنا فيه حبيبات المادة والكهرباء والضوء فتكلمنا عن الجزيء، وبينا أن حركة الجزيئات سبب العمليات الحرارية، وشرحنا فلسفة ليبنز وفكرته في إرجاع الحرارة والحركة إلى أصل واحد، وشرحنا المبدأ الثاني للترموردينامنكا، وذكرنا تفسير بولتزمان لهذا المبدأ الثاني فشرحنا كيف تحتم قوانين المصادفة على الجسم المرتفع الحرارة أن يعمل على تسخين الجسم المنخفض الحرارة، ولماذا لا يكون العكس صحيحاً؟ وخرجنا من ذلك بذكر عقيدة العلماء في الطريقة المحزنة التي ينتهي بها الكون، وهي عقيدة لم نوافق عليها. ولم نستند حتى الآن في عدم موافقتنا هذه إلى أسباب علمية، بل اعتقدنا تعذر قبول الامتداد في الظواهر وقنعنا بصعوبة الحكم على مستقبل الزمن، وكانت الحياة وما تبعث فينا من دهشة، واختلافها عن كل ما نعرفه من الظواهر، سبباً عندنا لمخالفة العلماء الحراريين فيما ذهبوا إليه، وانتقلنا من الكلام عن الجزء إلى الكلام عن الذرة، فذكرنا عمل أفوجادرو ونجاح ماندلييف، وبينا وجه الشبه بين عمل الأخير في الكشف عن العناصر، وعمل في الكشف عن الكواكب الجديدة، التي لم تكن معروفة لسكان الأرض، وانتقلنا بعد ذلك من الذرة إلى الإلكترون فتكلمنا عن الكهرباء وذكرنا أنها كالمادة ظاهرة ذرية، وتحدثنا عن الشقيقين، الإلكترون والبوزيتون، أو السالب والموجب، وأتينا على تجارب مليكان الخالدة التي استطاع بها أن نفصل جسيماً حاملاً لإلكترون حر واحد، وبينا كيف تحدثت الأرقام إلى هذا العالم، وكيف أنه، من عملية حسابية بسيطة هي عملية القاسم المشترك الأعظم استنتج وحدة الكهرباء وقاس شحنة الإلكترون وتوصل بعد ذلك لمعرقة وحدة من أهم وحدات الوجود. هذا ما استعرضناه في عام، وما انتهينا إليه في مقالاتنا السابقة التي

ص: 53

أرجو أن يكون قد أفاد منها عدد كبير من القراء الذين أردت أن أوفر عليهم عناء كبيراً في مطالعة موضوعات باتت من أصعب المسائل العلمية وباتت رموزها لغير المختصين في هذه العلوم كالحروف الهيروغليفية لمن لم يدرسها

وجب علينا بعد ذلك، وقد بدأ عام جديد، أن نتم هذا الموضوع الأخير الذي تعرضنا فيه لحبيبات المادة والضوء والكهرباء، فننتهي من قصة الإلكترون الرائعة ونذكر عمل جان بيران ونتكلم عن حبيبات الكون الأخرى: كالفوتون والنيترون والديترون، وغيرها من المكونات الأولى للخليقة، التي تلعب على مسرح الوجود دوراً هاماً، والتي يجد الإنسان في دراستها علاقات تساعده على فهم الكون وقصة الوجود. فإذا انتهينا من هذا تناولنا على الأثر، وفي بدء هذا العام موضوعات رئيسية ثلاثة: نتمم بها وصف الهيكل الرائع للكون وما يحدث فيه، ونعالج فيها أقصى ما بلغه الإنسان المفكر في المعرفة:

الموضوع الأول يخص فكرة النسبية عند أليرت أينشتاين وهي الفكرة التي أدخلت تفكيراً عميقاً على معارف البشر. والموضوع الثاني يخص التفتت الذري وهو الموضوع الذي يصبو العلماء الآن في تياره إلى الوصول إلى نوع جديد من المدنية، يصبح الإنسان فيه أعظم سيادة في استعمال الموارد الطبيعية، وأعظم شأواً في الاستمتاع بالحياة في وجوه لا نعرفها نحن اليوم. والموضوع الثالث موضوع الكم وعلاقة ذلك بفكرة القضاء والقدر، وهو موضوع يعتبر العارفون اليوم أن لا غنى عنه في دراسة الفلسفة الحديثة، والتقرب من معرفة قوانين الكون. ونرجو ألا يفوتنا أن يذكر للقارئ شيئاً عن الموجية ومؤسسها دي بروي وشيئاً عن تيارات التفكير الحديث، وأن نختم موضوعنا بكلمة عن الإنسان القادم والآمال المعقودة عليه. بذلك نكون قد تناولنا سلسلة من الموضوعات المتصل بعضها ببعض، يستطيع القارئ عند مطالعة إحداها أن يعرف شيئاً عن أحدث ما نعرفه في التفكير، وعند متابعتها أن يقف على صورة هي أقرب الصور لحقيقة الكون والوجود

ولو أننا أردنا أن نتناول الموضوعات الثلاثة المتقدمة بالعناية والدرس لأمكن أن يستغرق كل منها عاماً أو ما يزيد، ولكنا ونحن نتوجه بكتاباتنا أيضاً لغير المختصين في العلوم، ولأولئك الذين يبغون ألا تظل العلوم الحديثة غريبة عنهم، نكتفي بضع مقالات بحيث نستطيع بعد مضي ثلاثة أو أربعة شهور من العام الجديد أن ننتهي من هذه الموضوعات

ص: 54

العلمية والدراسة الفلسفية ونبدأ عرضاً من نوع جديد

وغرضنا في هذا العرض الجديد أن يقف القارئ على معرفة بعض الاختراعات التي يقابلها في حياته اليومية ويستعملها في كثير من شئونه، ويشعر إزاءها بشيء من الإعجاب. من هذه الاختراعات الراديو ونقل الصور الفوتوغرافية باللاسلكي، كذلك (التليفزيون) أي الرؤية من بعيد

على أن بعض هذه الموضوعات تتصل بعلماء ومخترعين ساقني الحظ للعمل معهم أو التعرف إليهم. أذكر على سبيل المثال بيلان مخترع البلانوجرام، وهو الجهاز المعروف باسمه الذي يستعمل لنقل الصور الفوتوغرافية باللاسلكي، وهو الذي ترك لي بعض هذه الصور المنقولة بهذه الطريقة، والتي تمت في بدء نجاحه، وأذكر روبير بيروه مكتشف (البالون الكاشف) الذي منحني كثيراً من الصور الخاصة باختراعاته، والتي لا يصح أن تكون ملكا لي، بل يجب أن يستمتع بها كل قراء العربية.

ولعلي بهذا وذاك أكون ق وصلت مع القارئ إلى أحد أغراضي في أن يتتبع أحدث ما نعرفه في العلم ويقف على أعجب ما نعلمه من الاختراع، ويكون قد تعود ذهنه على تتبع مسائل تعد في الواقع من باب الموضوعات الصعبة، إلا أنها موضوعات أصبحت لازمة لإتمام حلقة المعرفة.

محمد محمود غالي

دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون

ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم

المهندسخانة

ص: 55

‌القصص

سيدنا. . .

للأستاذ محمد سعيد العريان

كنا في مجلسنا من شرفة النادي حين لمحنا صديقنا الأستاذ ع مفتش التعليم الأولي قادماً من بعيد، يتوكأ على عصاه وهو يميل يمنة ويسرة، ويطول في مشيته ويتقاصر؛ إذ كان في رجله عرج قديم من التواءٍ في إحدى قدميه؛ فلما بلغ حيث كنا جالسين، ألقى إلينا التحية ثم اتخذ له مقعداً على مقربة

ومضينا فيما كنا من الحديث. نتسرح من فن إلى فن، وشئون الحديث تتداعى معنى إلى معنى وحادثة إلى حادثة. وقال واحد من السامرين:(رحم الله سيدنا. . . . . . . . .!) فلم يكد يتم عبارته حتى اعتدل المفتش في مجلسه واختلجت شفتاه في تأثر وانفعال، ثم اهتبل الحديث يقول:

(سيدنا؟. . . رحمه الله وغفر له!)

وتوجهنا بأبصارنا إلى الأستاذ ع، وقد أدركنا من حاله أن خاطراً من ذكرياته قد ألم به الساعة، وأن شيئاً ذا بال في كلمة (سيدنا) قد أيقظ نفسه وهاج عاطفته، فرغبنا إليه في أن يقص قصته؛ فمضى يقول: كان سيدنا الشيخ عبد الجليل له في القرية مكان واحترام، لا يبلغ منزلته أحد من أهل القرية جميعاً. ولا عجب، فهو شيخ القرية وعالمها ومعلم بنيها؛ يستفتونه في أمر دينهم، ويستشيرونه في شئون دنياهم، وما منهم أحد إلا له عليه يد، ولا ذو حاجة إلا كانت حاجته عنده، ولا ذات أمل إلا بلغت مأمولها برقية من رقي الشيخ أو تعويذة من تعاويذه

وكان له (كتّاب) يختلف إليه طائفة غير قليلة من صبيان القرية يحفظون القرآن ويتعلمون القراءة والكتابة، ويقصد إليه ذوو الحاجات يطلبون مشورته أو يلتمسون بركاته

وكنت - ككل فتى في القرية - أسمع باسم الشيخ وأضمر له في نفسي من المحبة والاحترام مثل ما يضمر له الجميع، وإن لم يتهيأ لي مرة أن أراه رأى العين. وذات صباح صحبني والدي إلى مكتب الشيخ نعبد الدليل ليكل إليه تعليمي. وكنت يومئذ في التاسعة من عمري وقد شدوت من العلم شيئاً في مدرسة أولية بالمدينة حيث كنت أقيم عند خالي.

ص: 56

ومضيت خلف أبي على طول الطريق لا أفكر إلا في السعادة التي تنتظرني ساعة أجلس بين يدي الشيخ المبارك أنظر إليه وأسمع عنه وأحفظ من علمه. . .

ورأيت الشيخ يومئذ لأول مرة. لقد بدا لي أصغر سناً مما كنت أتصوره في خيالي؛ وأحسبه كان صغيراً حقاً؛ فإنه على ذيوع صيته وامتداد شهرته في القرية، لم يكن قد جاوز الأربعين بعد. عرفت ذلك من لحيته السوداء وشاربه المحفوف. وكان في وجهه ذبول وعليه مسحة من صور الزهاد، أنبأتني بذلك عيناه الناظرتان أبداً إلى تحت؛ ولكنه على ما كان يبدو في وجهه وفي عينيه من التواضع والانكسار، لم يكد يرى أبي مقبلاً عليه بالتحية، حتى مد له يمناه؛ فطأطأ أبي رأسه ومال على يده فقبلها! حينئذ لم أملك إلا أن أفعل مثله، أنا الذي لم يقبل يداً قط، حتى يدي أبيه وأمه!

ومنذ ذلك اليوم، صرت تلميذاً من تلاميذ سيدنا الشيخ عبد الجليل. على أني لم أجد في نفسي لذلك من السعادة ما كنت أتوقع؛ فما هي إلا ساعة أو ساعات في مكتب سيدنا، حتى ضاقت نفسي وأحسست مثل إحساس السجين يحاول أن يفر من حراسه!

كان الشيخ جالساً في صدر المكان على فروة قديمة ناحلة، وظهره مسند إلى وسادة حائلة اللون، وبين يديه قميص يرقعه، وعن يمينه دلوٌ فيها جدائل من خوص أخضر؛ وتحت رجليه عصا غليظة يبدو طرفاها من تحت الفروة التي يفترشها؛ وأمامه صبيٌّ من صبيان المكتب متربع في مثل جلسة المعبود (بوذا) وهو يهتز بين يديه في حركة رتيبة؛ ويقرأ شيئاً من غيب صدره في نعمة واحدة ليس لها لون ولا فيها معنى، وسيدنا مكبٌّ على عمله يرقع قميصه وهو يستمع إلى الصبي، لا يزيد على أن يرفع عينيه إليه بين لحظة وأخرى. وفي المكتب عشرات من مثل هذا الصبي، قد تربعوا أفراداً وأزواجاً على حصير كبير يغطي أرض الغرفة جميعاً، وبين أيديهم كتب وألواح يقرءون مما فيها حيناً، ويتبادلون الحديث من ورائها في نظرات صامتة حيناً آخر؛ والشيخ يخيط أو يجدل ضفائر الخوص، والصبي بين يديه يقرأ. . .

وكنت غارقاً في تأملاتي لا أكلم أحداً ولا يكلمني أحد، لا لحظة عين ولا بنت شفة، حين دوي صوت سيدنا غاضباً يتوعد. . . ومال على فخذ الصبي أمامه يقرصه بغيظ والصبي يتلوى من الألم لا يكاد يسمع صوته من خوف سيدنا!

ص: 57

وكان هذا أول الشر؛ ثم نهض الفتى الذي كان بين يدي سيدنا وحل محله صبي آخر؛ ومضت فترة قبل أن يدوي صوت الشيخ في أذني مرة ثانية وهو يميل على فخذ الغلام يقرصه. ولم يحتمل الفتى من الألم ما احتمل الصبي الذي سبقه، فندت من بين شفتيه صرخة ألم! حينئذ هاجت هائجة الشيخ، فوثب إليه (العريف) يعاونه على تأديب الصبي؛ وفي أسرع من خفقة الطرف كان الصبي مجدولاً على الأرض معلقاً من رجليه في خشبة غليظة يشدهما إليها حبل مفتول، والشيخ يهوى على رجلي الغلام بالعصا في قسوة وعنف، وهو تحت رحمته يصرخ ويتلوى وبعض على شفتيه من ألم الضرب!

أحسست قلبي في تلك اللحظة يكاد يثب من موضعه فرقاً وخشية، فوليت بصري إلى الناحية الأخرى، فإذا صبيان المكتب جميعاً منكبون على ألواحهم ودفاترهم في خوف وفزع، وقد زادت هزاتهم وتتبابعت في سرعة كأنما يحركهم محرك غير منظور. ولم ألبث أنا نفسي أن رأيتني أهتز مثل هزاتهم وأحرك شفتي وليس بين لدي لوح ولا كتاب، كأنما هي تميمة أقرأها لترد عني الشر الذي أخاف!

كانت هذه هي عقوبة كل صبي من صبيان المكتب لا يحفظ درسه، سواء في ذلك ابن العمدة وابن الأجير؛ ومع ذلك لم يحاول صبي واحد أن يتمرد على سيدنا أو يشق عصا الطاعة أو يجرب الإفلات من عقابه. وأني لهم ذلك وإن آباءهم وأمهاتهم جميعاً ليثقون بالشيخ ثقة عمياء، فلا يتسمحون لواحد من بينهم أن يشكو أو يتألم مما نزل به، مؤمنين بأن (عصا سيدنا من الجنة!)

منذ تلك اللحظة، تبدلت صورة الشيخ في نفسي فعاد أبغض شئ إلى، حتى لو استطعت أن أنتقم منه لهؤلاء الصبيان وأفر بنفسي لفعلت. ومالي أخفي عنكم؟ لقد طالما حاولت من بعد أن أسئ إلى سيدنا كلما أمكنتني الفرصة، فتارة أخالفه إلى الأقلام التي تعب في بريها ساعة من نهاره فأقصفها، لا أدع قلماً منها له سن تصلح للكتابة؛ وتارة أعابثه بسرقة علبة السعوط فأستبدل بما فيها تراباً وحصى، وتارات أخرى. . . وما كان سيدنا يعلم من يفعل ذلك، وإن كان على يقين بأن صبيان المكتب جميعاً غرماؤه. . .!

قضيت في مكتب الشيخ عبد الجليل شهراً وبعض شهر، لم ينلني فيها عقاب من عقابه، حتى جاء اليوم المشئوم!

ص: 58

كان عليَّ في ذلك اليوم أن أحفظ جزءاً من القرآن الكريم فلم تتهيأ لي الفرصة أن أفعل؛ وحلّ ميعادي، فجلست بين يدي سيدنا وأنا أرتجف خوفاً من عقابه، فسألته المعذرة في كلمات خافتة وصوت يرتعش؛ وبدا لي كأن الشيخ قد قبل عذري، حين اكتفى بقرصة مؤلمة في فخذي، ونهضت من مجلسه وأنا لا أكاد أصدق بالنجاة، فقد كان أخوف ما أخافه أن يجدلني على الأرض ويهوى على رجلي بعصاه!

ومضت ساعة قبل أن يحلَّ ميعاد صبيٍ من رفقائي كان عليه وحده تبعة تقصيري في درس اليوم؛ إذ دعاني في عصر اليوم الماضي لصحبته إلى الحقل لنصيد العصافير؛ فما عدنا إلا وقد أرخى الليل سدوله فلم نتهيأ لدرس الغد. . .

وجلس الفتى بين يدي سيدنا مضطرباً منتقع الوجه لا يكاد يبين، ونظرت من خلف اللوح إلى سيدنا فإذا هو في هيئة الغضب، ثم لم يلبث أن سمعته يصيح بالصبي صيحة عرفت ما وراءها، فأخذت أعالج خوفي بهزات سريعة كأني أقرأ، وأذني إلى سيدنا؛ وطرق مسمعي قوله:(وأين كنتما أمس؟ تصيدان العصافير. . .؟)

ونادى عريفه فأسرع بأداته إليه، وناداني. . . . . .

وقبل أن أرى صاحبي مجدولاً على الأرض، معلقاً من رجليه في الخشبة، كانت رجلاي تسرعان بي إلى الباب. ووقف العريف في وجهي، فلم أجد أمامي إلا النافذة؛ فاستجمعت قوتي ووثبت!

لم أدر بعد ذلك شيئاً مما كان إلا وأنا راقد في فراشي، ورجلي مشدودة إلى خشب بأربطة من نسيج أبيض، وأمي إلى جانب رأسي تبكي في صمت!

لقد أفلت من عصا سيدنا، ولكني دفعت ثمن ذلك غالياً، فانكسرت رجلي؛ ومن ذلك اليوم لا أمشي إلا مستنداً على عكاز!

وتأوه المفتش وهو يبعث في الأرض بعصاه؛ وغرق السامرون صمت؛ ثم عاد المفتش إلى حديثه:

لم يكن لي طبعاً أن أعود إلى كتاب سيدنا بعد الذي كان؛ فدخلت المدرسة الأولية في المدينة، وانقطعت صلتي بالشيخ وكتابه وعريفه وصبيانه؛ ولكن ذكراه لم تفارقني قط، ذكرى مؤلمة مرة؛ ومن أين لي أن أنسى وهذه رجلي وتلك عكازتي لا تفارقني؟

ص: 59

وتأرث الحقد في قلبي يومئذ لسيدنا، فما كان يخطر ببالي مرة إلا ثارت في نفسي شياطين الشر. . .!

وأتممت التعليم الابتدائي والثانوي؛ وكنت أقضي الصيف من كل عام في القرية؛ فكان لابد لي أن ألقي سيدنا أو تلميذاً من تلاميذه عابراً في الطريق، فأطأطأ رأسي وأوفض في السير خشية أن تنزو بي نازية من الشر فأهوى بعصاي على رأسه فأحطمه!

ترى أكان ذلك شعوري وحدي، أم هو شعور الكافة من تلاميذه الذين ذاقوا من قساوته وعنفه ما لا طاقة لأحد باحتماله؟. . . ولكني أكاد أعرف تلاميذه جميعاً. وهل في القرية كلها رجل واحد لم يكن من تلاميذ سيدنا في يوم ما؟ وإنهم مع ذلك ليوقرونه ويرفعون مكانه؛ وإن منهم لرجالاً في مناصب رفيعة، وإن لي منهم لأصدقاء وزملاء!

وأتممت دراستي العالية، لأكون في أول عملي مدرساً في مدرسة من مدارس البنات الابتدائية، تتبعها روضة من رياض الأطفال، بضم شتيتاً من الصبيان والبنات بين الخامسة والثامنة تعلمهم وتهذبهم على نمط من التربية لم يكن معروفاً لعهدنا في مثل هذه السن. . .

وكنت أغدو وأروح كل يوم من عملي على هذه الروضة الضاحكة، فيسرني مرأى هؤلاء الأطفال الصغار في ثيابهم المتشابهة، يلعبون ويمرحون في بسيط من الأرض تحت رعاية معلمة عطوف، لها قلب الأم وحرص المربية، تأخذهم في اللعب؛ وتنفذ بكل أولئك إلى قلوبهم وعقولهم؛ فتنشئهم نشأة رقيقة، وتصقل وجدانهم وعواطفهم، وتطبعهم من لدن نشأتهم على الخير والمحبة والسلام!

وعلى قدر ما كان يسرني مرأى هؤلاء الأطفال، كان يتولاني شعور بالأسف على أني لست صبياً. . .!

وكان أدنى هؤلاء الأطفال العزاز منزلة إلى قلبي، هو الطفل (فؤاد)، فإني لأعرفه ويعرفني، وبيتي وبين أبيه صلة من الود؛ إذ كانت نشأتنا في بيتين متجاورين من القرية التي فارقناها معاً منذ آثرنا أن نكون في خدمة الحكومة، وكان أبوه زميلي في كتاب سيدنا، ولكنه لم يفارقه حتى أتم القرآن!

وكان فؤاد يلقاني صباح كل يوم فيحييني تحية طفلية رقيقة، ويود عني في العصر بمثلها، فلا أزال من تحيته بين الصباح والمساء في نشوة وطرب. وكثيراً ما كانت تحضرني إلى

ص: 60

جانب صورته - صورة أبيه في صباه، جالساً على الحصير من كتاب سيدنا، وبين يديه لوحه وكتابه، وهو يهتز هزات متوالية، ويدور بعينيه بين الصبيان يبادلهم الحديث غمزات ونظرات. . . . . .

واستمر المفتش في حديثه يقول:

هل كان هذا الطفل ومثله معه من أطفال الروضة، إلا لعنة حية تذكرني ما كان من جناية سيدنا علي في صباي وتؤرث البغضاء في قلبي!

. . . وتنقلت في مدارس عدة، حتى بلغت أن أكون مفتشاً. . وعلى أني كنت أعلم ما يلقاه المفتشون من المشقة والجهد، وما يتحملون من النصب حين تضطرهم تكاليف الوظيفة أن يبيتوا ليالي عدة بعيدين عن أسرهم وأولادهم متنقلين بين القرى والدساكر - فإني كنت جدَّ مغتبط بما أُسند إليّ من عمل؛ لا زهواً بالمنصب، ولا رغبة في الجاه؛ ولكنها كانت أمنية قديمة في نفسي، ليكون لي منها فرصة لتطهير القرى من مثل كتّاب سيد الشيخ عند الجليل. . .

أكان ذلك مني عن إخلاص وحرص على مصلحة التعليم، أم كان إيحاء من الواعية الباطنة التي تختزن الذكريات إلى إبانها، تحاول أن تخدعني به عن حقيقة الشعور الذي يضطرم في نفسي بالحقد والبغضاء لسيدنا؛ فتدفعني إلى محاولة الثأر والانتقام وهي تسمى ذلك إخلاصاً في العمل وحرصاً على مصلحة التعليم. . .؟

لست أدري، ولكن الذي كنت أوقنه يقيناً لا شبهة فيه، هو أنني كنت فرحاً بذلك، طيب النفس به؛ فما كان لي من بعد إلا أمنية واحدة، هي أن يكون كتاب سيدنا الشيخ عبد الجليل في دائرة عملي!

ومضت سنوات قبل أن تتحقق لي هذه الأمنية!

. . . ورسمت خطتي وحددت نهجي، ودنا اليوم الذي اخترته ميعاداً لزيارة الكتاب الذي دخلته أول يوم ترف على شفتي بسمة الرضا والسعادة، وفارقته يوم فارقته محمولاً على أكتاف الناس غائباً عن الوعي مما نالني من خوف سيدنا؛ ثم لم أمش بعدها إلا متوكئاً على عكاز! وصحبتني أبالسة الشر يومين كاملين في يقظتي وفي منامي قبل أن يحين موعد هذه الزيارة؛ فما انتفعت فيهما بنفسي ولا انتفع أحد

ص: 61

وأشرق صبح اليوم الموعود، فبكرت إلى ما غرمت عليه يصحبني تابع يحمل حقيبتي، ويصحبني شيطاني!

وكان بيني وبين كتاب سيدنا خطوات معدودة حين صك مسمعي صراخ! ودنا مني الصوت رويداً رويداً، وسمعت الناعي ينعى إلى أهل القرية سيدنا الشيخ عبد الجليل!

ما أعجب القدر!

وظللت في القرية طول اليوم حتى أمشي في جنازة سيدنا. . . وما كان لي أن أفعل غير ذلك. . . وأعظم الناس هذه الوفاء، إذ حسبوني لم أقدم إلا لذلك، بقدر ما صغرت نفسي في عيني!

ومشت القرية كلها في جنازة الشيخ، لم يتخلف منهم أحد، وشيعوه محزونين وعادوا يعدّ دون مآثره لا يذكره أحد منهم بشر!

وعدت إلى مكتبي في المدينة مبكراً، فلم ألق أحداً من الزملاء أحدثه بحديثي؛ وجلست وحدي أنشر الذكريات وأطويها، وفي نفسي ثورة تضطرم، وفي رأسي غليان. لم يكن بي في تلك اللحظة حقد على أحد، لا، ولا كانت لي أمنية أحرص عليها؛ ولكني إلى ذلك كنت في حيرة من أمري، أسائل نفسي: أكنت على حق في حقدي على سيدنا وما أضمر له من البغضاء، وهل كان من السوء بحيث يحق لي أن أحمل له ما كنت أحمل من الكره والموجدة؟

لكم كان لسيدنا على هذه القرية من الأيادي!. . . لقد كان قاسياً، جباراً، عنيفاً؛ ولكنه مع ذلك كان رجلاً للناس لا لنفسه؛ وما نالتْه في يوم ظنة ولا تعلقت به تهمة، فما يذكره أحد من القرية إلا بمعروف أداه أو جميل أسداه، سواء في ذلك أهل العلم من تلاميذه وأهل التوكل والاعتماد!

. . . فإني لغارق في خواطري وذكرياتي، إذ دخل إليّ صديق من أصدقائي ينقل إليّ النبأ الفاجع:

(فؤاد ابن صديقنا فلان. . . لقد تعجل آخرته فأزهق نفسه؛ لأن أباه أغلظ له النصح أن يكون رجلاً، ودعا حلاقاً فقص له شعره. . . وعز على الفتى ما فعل أبوه، فأغلق عليه غرفته فأحرق نفسه. . . هذه هي التربية الناعمة التي نحاول بها تنشئة الجيل الجديد

ص: 62

ليحمل تبعات الغد. . .!)

فؤاد! وا حزناه!

وحضرتني في تلك اللحظة صورة فؤاد الطفل الضاحك يلقاني كل يوم بالتحية في غدوي ورواحي على روضة الأطفال، ثم صورة فؤاد الصبي العابث يمزح مع أبيه في مجلس أصحابه وينضح وجهه بالماء يوهمه أنه عطر، ثم صورة فؤاد الفتى الخليع يمشي في الشوارع يتثنى ويتخايل بزينته، وعيناه إلى كل غادية ورائحة؛ لا يعنيه من أمر شيءٌ إلا ثيابه وزينته وشعره المرسل المصقول بالدهان والعطور كما تصقله الفتاة الناعمة؛ ثم صورة فؤاد الصريع مسجي في أكفانه، ومشيع جنازته أول من يلعنه!

وسكت صديقي وسكت، ولكن روح سيدنا الشيخ عبد الجليل ظلت تتحدث حديثها في نفسي. . . . . .

ولأول مرة منذ بضع وثلاثين سنة، شعرت بأن سيدنا كان هبة الله لهذه القرية التي أخلص لها الحب ووقف عليها جهده حتى قبضه الله إليه؛ فهتفت في تأثر:

(سيدنا. . .؟ رحمه الله وغفر له!)

محمد سعيد العريان

ص: 63

‌من هنا ومن هناك

هل يستطيع هتلر أن يغزو أمريكا

(عن مجلة (كرانت هستري))

لعل أهم ما يشغل عقول رجال السياسة في أمريكا اليوم هو هذا السؤال

(إذا انتصر أدولف هتلر في الحرب الأوربية الحاضرة فهل يكون

انتصاره هذا مهدداً للولايات المتحدة من الناحية الحربية؟) وعلى

جواب هذا السؤال يكون رأينا في دخول أميركا الحرب الحالية أو

الوقوف بمنجاة منها. فإذا دخلنا الحرب فمن المشكوك فيه أن يبقى

نظامنا الاقتصادي الحر على هو ما عليه اليوم، وأن تبقى سياستنا

الديمقراطية سليمة مع الدكتاتورية التي تفرضها ضرورات الحرب.

لذلك أستطيع أن أقول إن احتمال مهاجمة هتلر لنا، من المسائل التي

نفكر فيها بروية واهتمام

فإذا كانت الضرورة تقضي علينا بأن نقف هتلر عند حده من الآن، حتى يتيسر لنا أن نفوز في الدفاع عن أنفسنا في المستقبل، فمن واجبنا بلا شك أن نعلن عليه الحرب من الغد. ولا تستطيع سلطة حربية أيا كانت أن تقول غير ذلك، ولكن هل يستطيع هتلر أن يغزو أمريكا؟ الجواب (لا) بأوسع ما تحوى هذه الكلمة من المعاني. فكل من له خبرة بالفنون الحربية والبحرية في أمريكا يعد الإدعاء بأن في مقدور هتلر أن يهاجم شواطئنا، باطلاً لا يستند إلى شئ من الحقيقة. فلننظر إلى الأسباب التي تدعو إلى ذلك

يجب أن نضع نصب أعيننا قبل كل شئ أنه لا توجد قوة تستطيع أن تهاجم شواطئنا الشرقية إلا إذا وضعت يدها على المحيط الأطلنطيقي. فهل في مقدور هتلر شئ من ذلك؟ إن قوة هتلر البحرية معروفة وهي لا تزيد على ربع القوى التي لدينا الآن، فإذا وقعت الحرب قريباً من ديارنا، وكان على هتلر أن يحارب على مسافة ثلاثة آلاف ميل من

ص: 64

دياره، فإن هذه الميزة وحدها تعد بمثابة واحد إلى اثنين أو تزيد

وقد يقول بعض الناس إن هتلر إذا انتصر فمن المحتمل أن يستولي على الأسطول الإنكليزي فكيف نستطيع أن نقفه عند حده آنذاك؟ إنني أستطيع أن أتحدث عن تجربة شخصية في هذا الموضوع، وأستطيع أن أؤكد أن الأسطول البريطاني لا يمكن أن يحاصر أو يقع في أيد غير بريطانية. فإذا قدر لهذا الأسطول المظفر أن ينهزم، فإن النتيجة لا تعدو أمراً من اثنين: إما أن يلجأ إلى شواطئ بعيدة يتحصن بها كشواطئ كندا، ويجعلها قاعدة له، أو يغرق بيد بحارته في أجواف المحيط كما تفعل قطع الأسطول الألماني اليوم

إن نابليون لم يستطع أن يغزوا أمريكا بعد انتصاراته العظيمة، وهي بعد أمة ناشئة، فهل يستطيع هتلر أن يهدد قوانا الحالية بعد هذه لحرب التي تنذره بالدمار؟ إنني أعرف كثيراً عن الحرب، وأعرف كثيراً مما لا يجوز ذكراه الآن، وأستطيع أن أؤكد أن أمريكا إذا احتفظت لنفسها بنظام حربي معقول، فليس لقوة في الأرض أن تهددها أو تتغلب على جيوشها في يوم من الأيام.

من النبات نستمد كل شئ

(عن (ديرلد ديجست))

كم نوفر من المال وكم ندخر من الجهد، إذا أتيح لنا يوماً ما أن نخرج إلى الغابات أو نتمشى في الحدائق، فتقتطف جواربنا من بعض النبات وسجائرنا من آخر، وأطعمتنا من نباتات أخر، ونتناول اللعب لأطفالنا من نبات غير هذا وذاك! هذا حديث قد تبدو عليه سمة من الهزل، أو قد يظهر شئ من الاستحالة في إمكان وقوعه، ولكنه في الحقيقة في حكم المستطاع. ففي عالم النباتات وعالم الأشجار ما يمدنا بهذا جميعه، بل وبأكثر منه إذا أردنا. فإذا تيسر أن يوجد في مكان واحد كل ما نريد من هذه المواد، كان لدينا منها (مخازن نباتية) عظيمة تمدنا بما نشاء مما يوفر لنا أسباب الراحة

فإذا ظمئت في غابة من الغابات الاستوائية، ولم تجد قطرة ماء تبل بها ظمأك، أمكنك أن تروي غلتك بينبوع من ماء النباتات، فإذا كنت تفضل اللبن على الماء فلديك شجرة البقرة، وهي شجرة تشبه شجرة المطاط، وتختلف عنه بعصيرها العذب ذي الطعم الشهي اللذيذ،

ص: 65

ويشبه طعم اللبن إلى حد كبير

فإذا احتجت إلى ملابس جديدة فلديك ما يكفيك مشقة البحث عنها، وما عليك إلا أن تمد يدك إلى شجرة (الدنتلا) وهي من أعجب أنواع الأشجار وأنفسها، فتأخذ منها ما تريد. وتتكون أفنان هذه الشجرة من لفافات صغيرة، أشبه بلفافات الورق، فإذا نشرت واحدة منها رأيتها كالصحيفة الرائعة البيضاء. أما جذع هذه الشجرة وساقها والفروع الأكبر سمكا منها فتحتوي على الأقمشة القوية المتينة المحكمة النسج. وتستعمل القطع الرقيقة من هذه المادة غلائل وأغطية للسيدات؛ أما القطع السميكة فيستعملون منها الملابس الثقيلة والسجاد وما إلى ذلك؛ وهي من القوة والمتانة بحيث تصلح لعمل الحبال والسياط

ونستطيع أن نستمد من الأشجار قبعات جميلة معدة للاستعمال وليس علينا إذا أردنا ذلك إلا أن نتسلق شجرة من شجرات البندق، لنجد في أعاليها طلبتنا من القبعات الناعمة الجميلة المحلاة بالأزهار المعدة للرؤوس

وإذا كان من السهل أن نجد في مخازن النبات ما يصلح قبعات لرؤوسنا، فأسهل منه أن نجد فيها أحذية لأقدامنا. ففي غابات المنطقة الحارة أشجار سامقة مهجورة، لا يعني بها أحد وهي صالحة تماماً لعمل أحذية متينة منها. فجذوع هذه الأشجار قوية محكمة النسج من الداخل. فإذا أردنا أن نصنع حذاءنا فمن السهل أن نقطع منها ما يغطي القدم وننظفه وننقيه ونعده للاستعمال

وقد تظن أن هذا كل ما نستطيع أن نناله من مخازن النباتات أو أننا قد أحصينا كل ما يمكن استغلاله منها، والحقيقة أننا نستطيع أن نستمد منها أشياء كثيرة لا يدركها الحصر

حتى أمواس الحلاقة تنمو على رءوس النباتات، فهل تعرف أن بذور بعض الحشائش المتسلقة تصلح لإزالة اللحى، فتجد في كل منها سلاحين حادين لا يقلان عن أقوى أنواع الأسلحة التي تصنع من الصلب

حياة الطالب في باريس

(ملخصة عن (همت جورنال) ستوكهلم)

يقيم في باريس ثلاثون ألف طالب من أبناء فرنسا، وعشرة آلاف من الطلبة الأجانب،

ص: 66

ويقطن أكثر هؤلاء الطلاب في الحي اللاتيني حيث يخلعون عليه طابعاً عالمياً فريداً في نوعه. والطالب الفرنسي يختلف عن أمثاله في سائر الأمم. فهو مكلف بأن يعتمد على نفسه في حياته الدراسية على الدوام، وقل أن تمد له الحكومة يد المساعدة في شأن من الشؤون، فعليه إذن أن يعول نفسه مما يدخره هو وما تمده به عائلته من حين إلى حين. والطالب الفرنسي ثالث ثلاثة قيل إنهم يستطيعون أن يعيشوا على الزهيد من العيش الذي يجئ في المرتبة بعد العدم أو اللاشيء وهم الفقير الهندي والعامل الصيني والطالب الفرنسي

فإذا ما دفع الطالب نفقات المدرسة، وثمن الكتب المطلوبة منه للدراسة لم يتبق معه لمطالب المعيشة إلا النذر القليل. فيلجأ - وكذلك الغالبية العظمى من رفقائه - إلى تأجير غرفة في الحي اللاتيني بمبلغ قد لا يتجاوز جنيهاً واحداً أو ثلاثين شلناً في الشهر. ويقوم بنفسه على تحضير وجبة الصباح وعمل القهوة الفرنسية المعتادة أو القهوة الممزوجة من اللبن

ويقضي الوقت من الساعة التاسعة والنصف إلى الساعة الثانية عشرة في سماع المحاضرات، وعليه أن يتناول غداءه بعد ذلك من نقوده الخاصة. وينفق الطالب في غدائه شلناً واحداً وثلاثة بنسات في المطاعم المتوسطة. ولكن قليلاً من الطلبة الذين يستطيعون أن ينفقوا هذا المبلغ، فيلجأ بعضهم إلى تناول بعض الخضراوات أو اللحم البقري في مطعم صغير بما لا يتجاوز ستة بنسات؛ ثم ينفق بنسين في الفاكهة ونصف بنس في قدح من القهوة بأحد مشارب الحي اللاتيني، وعلى ذلك فالطالب يستطيع أن يتناول غداءه ويصرف بعض الوقت في الراحة والتنزه بمبلغ لا يتجاوز ثمانية بنسات ونصف

ويعود الطلاب من الساعة الثانية إلى الساعة السادسة بعد الظهر إلى سماع المحاضرات، فإذا انتهت هذه الفترة وانتهى معها النهار جاء وقت العشاء. ويتولى بعض الطلاب طهي الطعام بأيديهم ويذهب بعضهم إلى تناول عشائهم في مطعم معتدل الأسعار. ثم يأتي وقت السهر لاستذكار الدروس، فإذا تجولت في شوارع الحي اللاتيني وأزقته الضيقة بعد منتصف الليل أبصرت الأضواء الشاحبة تنبعث من خلال النوافذ، وقد تظل كذلك إلى الثلث الأخير من الليل

وفي مساء السبت يجد الطالب وقتاً للتسلية والمرح، فيجتمع بإخوانه في بعض المقاهي والمطاعم - إذ لا توجد نواد رسمية للطالب الفرنسي - فيستطيع أن يتناول معهم كوباً من

ص: 67

النبيذ ويقضي بعض الوقت في التحدث. فإذا أراد تسلية أكثر من ذلك ذهب إلى بعض صالات الرقص حيث يقضي ليلة ساهرة بما لا يتجاوز شلنين.

ص: 68

‌البريد الأدبي

شمال أفريقيا والعروبة

صديقي الأستاذ الزيات

قرأت الكلمة المنشورة في العدد 336 من الرسالة الغراء بتوقيع (أبو الوفاء) وتحت عنوان (شمال أفريقيا والأستاذ الحصري)، ووقعت في حيرة عميقة، عندما علمت بأن الكاتب قد ظن أنني لا أعتبر تونس ومراكش من البلاد العربية. . . في حين أنه لم يخامرني أدنى شك في عروبة تلك البلاد في وقت من الأوقات. . .

لقد نقل الكاتب من مقالي (بين الوحدة العربية والوحدة الإسلامية) بعض العبارات التي قد تفسح مجالاً لمثل هذا الظن غير أنه لو التفت إلى الأسطر التي تلت في مقالي تلك العبارات، لوجد فيها ما ينفي ذلك الظن نفياً باتاً:

فقد قلت - بعد عشرة أسطر من العبارات التي نقلها الكاتب - ما يلي حرفياً:

(لا يمكن لأي عاقل كان أن يتصور حصول اتحاد بين القاهرة وبغداد وأنقرة وطهران وكابل. . . الخ دون أن نحصل اتحاد بين القاهرة وبغداد ودمشق ومكة وتونس. . .)

فأطمئن الكاتب بأنني لم أقل طول حياتي ولا لحظة واحدة: إن (شمال أفريقية التي تبتدئ من تونس وتنتهي بمراكش ليست بعربية)

بل على عكس ذلك، قلت - في المحاضرة التي ألقيتها في بغداد، على جمع غفير من الشبان - بعد عودتي من المغرب الأقصى:(إن مراكش أجمل البلاد العربية على الإطلاق) كما حاولت أن أصف مدينة مراكش وضواحيها بقولي: (إنها تجمع بين جبل لبنان وغوطة دمشق ونخيل بغداد، وتخلط الأرز والنخل والزيتون بأجمل الصور وأبدع الأساليب)

هذا وأود أن أطلع الكاتب على الأمور التالية، لإظهار مبلغ اهتمامنا ببلاد المغرب، كجزء مهم من العالم العربي

أ - لقد أسسنا في القصر العباسي الكائن في قلعة بغداد معرضاً دائماً لصور الريازة (العمارة) العربية. وخصصنا غرفتين من غرفه لبلاد المغرب، يرى الزائر فيهما صوراً شمسية مكبرة، لأكثر من أربعين بناية عربية، بينها القرويين والكتبية

ب - لقد أسسنا في الباب الأوسط من أبواب سور بغداد الباقي من العهد العباسي متحفاً

ص: 69

للأسلحة، عرضنا فيه أنواعاً كثيرة من الأسلحة العربية، والقسم الأعظم من هذه الأسلحة يعود إلى مراكش وتونس، وكنا اقتنيناها باسم دائرة الآثار القديمة خلال رحلتنا الأخيرة

ج - لقد خصصنا غرفة لـ (فنون المغرب الأقصى)، في (متحف الآثار العربية) عرضنا فيها كمية من الأواني الخزفية والمصنوعات الجلدية كنا جمعناها خلال رحلتنا الأخيرة، لزيادة معرقة الناس بتلك البلاد العربية

ولهذه الأسباب كلها، قد تألمت من قراءة الكلمة التي تتهمني بإنكار عروبة أفريقية الشمالية. غير أن ألمي هذا، قد انقلب إلى سرور عميق، عندما قرأت العبارات التي ختم بها الكاتب كلمته وهي:(أن النزعة القومية المتأصلة في دمائنا تضطرنا أحياناً إلى إصلاح غلط إخواننا العرب فينا). . .

إنني أقدر هذه النزعة القومية، وأبجلها، حتى عندما ما تجور عليَّ، وتتهمني بما أنا براء منه. . .

أبو خلدون

ملحوظة: إنني مستعد لإرسال صور القاعات التي ذكرتها آنفا، حالما أطلع على عنوان الكاتب، لزيادة اطمئنانه على اهتمام مشرق العالم العربي بمغربه

الجواب حاضر!

قرأت الكلمة الكريمة التي نشرتها (الرسالة) لحضرة الأستاذ (م. ف. ع) في نقد كتاب (ليلى المريضة في العراق) وقد شاء له فضله أن يقول: إن بعضهم يمجد ذلك الكتاب حتى ليرتفع به عالياً إلى السماء. وكنت أحب أن يحدث القراء بوضوح عما لم يعرفوا من كتابي، ولو أنه فعل لعرفوا عن طريقه أن هناك فرقاً بين ما نشر في (الرسالة) وما لم ينشر. فالذي نشر في (الرسالة) هو الجزء الأول، وهو جزء مصقول: لأن الزيات - سامحه الله - كان يحذف منه أشياء. وقد ضاعت الأصول الخطية ولم يبق أمامي غير ما وعت صفحات (الرسالة) فاكتفيت به، وقليل النار غير قليل!

أما الجزء الثاني والثالث، فقد أنقذتهما من يد الزيات، فهما صورة صحيحة من عقلي وجنوني، وهما أعز على من الجزء الأول المهذب المصقول بالرغم مني. فمن أراد أن

ص: 70

يعرف الفرق بين الأدب المقيد المرسل، فلينظر كيف كانت إساءتي إلى نفسي أجمل من إحسان الزيات حين حذف من الجزء الأول أشياء

ثم ماذا؟ يريد حضرة الناقد أن يمسكني بشيء، فما هو ذلك الشيء؟

تفضل فنقل فقرات جميلة من الجزء الثالث تكررت فيها كلمة (من) وسماه (منمنة) فما رأيه في كلمة (يا لك) التي كررها الدكتور عزام في كلمة نقلها الناقد نفسه؟ هل يسميها (لكلكة)؟

وما رأيه في معلفة زهير، وقد كرر كلمة (من) أربع عشرة مرة في عشرة أبيات؟

وكيف يحرم على ما قلبته الأجيال الطوال من زهير؟

وهناك فقرات للكاتب الشاعر لامرتين ورد فيها مثل هذا التكرار، فهل يحب أن أنقلها إليه ليعرف أن التكرار قد يكون جميلاً جداً إذا اقتضاه المقام؟ وهل يسره أن أفحمه بذكر شواهد من السور القرآنية كان فيها التكرار من أقوى عناصر البيان؟

وما تلك الكركرة الطهوية التي يشير إليها الناقد المفضال؟ هل يظن أن في أسلوبي مشابه من أسلوب الدكتور طه حسين؟ أنا أكرم على نفسي وعلى حضرة الناقد من أن يكون أسلوبي صورة لأسلوب قديم أو حديث، وإن يسرني أن أحاكي الكاتب:

زكي مبارك

شعراء الشرق والطبيعة الغربية

حضرة الأستاذ الفاضل الجليل محرر الرسالة

قرأت مقالة طويلة في جريدة يومية سياسية تعليقاً على التصحيح الذي نشرته في الرسالة بعنوان (شعراء الشرق والطبيعة الغربية). وكأن حضرة الكاتب الفاضل لم يحسن الدفاع عن أخي علي محمود طه المهندس فوقع في الإساءة إليّ. وأنا غير مؤاخذه على ما ظهر من مكنون نيته لأمرين: أما أولهما فلأنه (عابر سبيل) كما وقع مقالته. و (عابر السبيل) إن لم يكن موضع إكرام فهو موضع إشفاق. وأما ثانيهما فلأني لا أريد أن أنقل ميدان الأدب السامي من التصحيح إلى التجريح. . .

وأنا لم يؤلمني ثناء (الاجبشان مايل) على شاعرية صديقي علي محمود طه كما يتهمني حضرة (عابر سبيل) ولم يؤلمني إيثارها (علي محمود طه) بالذكر، فذلك موضع الفرحة لا

ص: 71

موضع الألم. وإنما آلمني أن يضع كاتب (الاجبشان مايل) حجاباً على عينه وعلى أعين القراء ليقول لهم: أن شعراء الشرق الذين طافوا بالغرب أو عشوا فيه لم يهتموا بوصف جماله وهم أكثر الناس استجابة لداعي الجمال إذا أهاب

وأنا ما زدت في كلمتي في الرسالة الماضية على أن صححت وهم مكاتب (الاجبشان مايل). وإذا كنت قد ذكرت نفسي في عداد من ذكرت من الشعراء الذين وصفوا الغرب فهو أمر ما كنت لأذكره لولا أن أرادني عليه صديقان من أعلام الصحافة والأدب والعلم في مصر. وما كان من طبعي الحديث عن نفسي في مجلس أو مكتب. فتلك خطتي يعرفها عني أصدقائي ومعارفي

ويتهم حضرة (عابر سبيل) شعراء مصر بأنهم قد قصروا عن إخوانهم شعراء الشام في وصف بلادهم ومهد أحلامهم ومراتع صباهم. وهو اتهام لا أجد له نصيباً من الحق ولا مؤيداً من الواقع. وإذا كان إخواننا شعراء الشام قد وصفوا لبنان الخالد والأرز الظليل قبل أن يصفوا الغرب، فإن إخواني شعراء مصر لم يقصروا في حق نيلهم وتاريخهم وبقايا مجدهم قبل أن يصفوا الغرب. ونهار هذه لقضية لا يحتاج إلى دليل؛ فشوقي وصف النيل بقافيته التي مطلعها:

من أي عهد في القري تتدفق

وبأي كف في المدائن تغدق

قبل أن يصف (التيرول) في النمسا وإيطاليا في قصيدته التي يقول فيها:

تلك الطبيعة قف بنا يا ساري

حتى أريك بديع صنع الباري

وصديقي الدكتور بشر فارس وصف الطبيعة المصرية في شعر لم ينشر، قبل أن يصف الفصول الأربعة في باريس وبرلين وفنلندا

وإذا كان ذكر الواقع يؤلم حضرة الأستاذ (عابر سبيل) فإنني أستأذنه في أن أذكر له لآخر مرة أن كاتب هذه الكلمة له قصائد في (النيل) تفضلت الأهرام الغراء فأفسحت لها مكاناً طيباً

وما نسى الشاعر مصري ممن أقاموا في أوربا الحنين الدائم إلى وطنه الغالي، ولم تشغله مرابع أوربا ومراتعها عن ذكر النيل وترانيم السنين فيه. . . فقد كان شوقي رحمه الله في أسبانيا وقلبه في مصر

ص: 72

ولعل بشر فارس كان أقرب الناس روحاً إلى مصر وهو أبعد الناس عنها في شمالي أوربا

وهناك شاعر ثالث - لا نذكره هذه المرة لئلا يتألم عابر سبيل! - نشر في الأهرام سنة 1934 أبياتاً في الربيع يقول فيها:

يا طيور الربيع في أرض مصر

أن قلبي إلى الحمى يتحرق

طال شوقي له وطال حنيني

كل طير لغصنه يتشوق

وقد أرسل هذه الأبيات إلى مصر الغالية من مقاطعة (ديفون) الجميلة بإنجلترا

وبعد: فلقد أكسبتنا (لأجبشان مايل) بحديثها عن أخي المبدع علي محمود طه موضوعاً طيباً للكلام كما ذكر ذلك لي ولعلي طه، أحد أدبائنا العلماء

وأرجو أن أكتسب معرفة (عابر سبيل) القاهرة) حتى أؤدي له واجب الضيافة فهو له في عنقي دين

والشكر للرسالة الغراء أولاً وأخيراً

محمد عبد الغني حسن

معنى بيتين

سيدي صاحب الرسالة

في الصفحة السابعة من الجزء الأول من كتاب الأمالي لأبي علي القالي عثرت على الآتيين لشاعر لم يذكر اسمه، هما:

وما هاج هذا الشوقَ إلا حمامةُ

تغنت على خضراءً سُمرُ قيودها

صدوحُ الضحى معروفة اللحن لم تزل

تقود الهوى من مسُعِدٍ ويقودها

وقد التبس على معنى (سمر قيودها) في عجز البيت الأول. فأرجو شرحه على صفحات الرسالة الغراء.

(الخرطوم بحري)

ا. م. س

(الرسالة): البيتان من شعر لعلي بن عميرة الجرمي، وبعدهما:

جزوعُ جَمودُ العينِ دائمةُ البُكى

وكيف بُكى ذي مُقلةٍ وجُمودُها

ص: 73

مطوَّقةُ لم يضرب القْينُ فِضَّةً

عليها، ولم يَعطلْ من الطَّوْقِ جيدُها

هكذا ذكر الأبيات أبو عبيد البكري في (سمط اللآلي شرح أمالي القالي). قال أبو عبيد: (ولم تختلف الرواية عن أبي علي يعني بها الشجرة وقيودها: أصولها وهم يصفون ما كان متمكن الري من الشجرة بالحوَّة والسواد).

وأما رواية (سمر قيودها) بالرفع فهو من صفة الحمامة، ويعني بالقيود قيود الحمامة وهي ما أحاط بساقها من صغار الريش.

بين ناقد وموسيقار

نشرت (الرسالة) في عددها السابق (338) مقالاً للأستاذ عزيز أحمد فهمي تحدث فيه برأي موزع في اتجاهات عدة أقحمها في دائرة الفن. والعابر بحديثه لا يشك في أن أهداف الكاتب اتجهت في غالبها اتجاهاً شخصياً استعان له بعدة أسماء لشخصيات مشتهرة الشأن في المجتمع المصري ما بين شعراء وموسيقيين وكتاب. وإنه ليحزنني أن أتكلم على غير عادتي فأصارح القراء بما صدمني من امتعاض شديد حين طالعت حديث الكاتب ووقفت على وجهته الأصيلة التي قد ترمي إليها نفسه لا قلمه، وهي محاولة الغض من شخصية الموسيقار النابه النابغ الأستاذ محمد عبد الوهاب على حساب الحديث عن فنه، وإني مع تقديري وإعجابي لكثير من الأبحاث الفينة التي يعرض لها الأستاذ عزيز فهمي على صفحات الرسالة، إلا أنني أرخص هذه النزعة المتفشية بين الأدباء والفنانين المصريين على الإطلاق وهي أخذ الطريق من بعضهم على بعض، والاعتصاب لكل ذي خطوة جديدة في فنه بالغض والتشهير

يا قومنا! إن الفنون لا تمرع في مثل هذه الأجواء الملوثة بالشحناء والسخائم، فدعوا حملة المشاعل يسيرون في طريقهم إلى إنقاذ هذا الوطن المسكين من الجمود الذي ضرب على الفنون الرفيعة فيه. ومن هاجت في قلبه عبقرية النقد فليعلم أن للفن عرضاً يصان ويشان. ومن كان في روحه وإحساسه بريق من إشفاق على سمعة الفن في بلاده، فعليه بالنقد العف البريء والتوجيه السديد. . . وإلا فما كان أغناني عن هذه النبأة التي أهجس بها في سبيل حق لا أعرف ولا يعرف معي إنسان أين مكانه من الأرض!

(م)

ص: 74

إنشاء مكتبة إلى جانب ضريح أبي العلاء

زار مسيو بونور مستشار المعارف في المفوضية الفرنسية العليا ببيروت، معرة النعمان في شمالي سوريا، للإشراف على إنشاء قبر للشاعر العربي الفيلسوف أبي العلاء المعري

وقد درس مسيو بونور، وهو من كبار الأدباء المستشرقين مع السلطات المحلية مشروع إنشاء مكتبة عربية وأجنبية إلى جانب القبر، تجمع فيها مؤلفات الشاعر والكتب التي تحدثت عنه وعن أدبه وشعره في جميع اللغات والأمصار. على أن يجري الاحتفال بافتتاح هذه المكتبة بعد تشييد الضريح والبناء المجاور الذي سيضم مدرسة للذكور والإناث بحضور مندوبي جميع الممالك الشرقية والأقطار العربية وممثلي جامعاتها وكبار أدبائها وشعرائها

وسيكون هذا المهرجان على مثال المهرجان الألفي لشاعر إيران الفردوسي الذي أقيم منذ سنوات في طهران

وتتقبل بلدية المعرة منذ الآن مع الشكر كل ما يريد المؤلفون والعلماء والمستشرقون وأصحاب المكاتب الخاصة في الأقطار العربية وغيرها إهداءه إلى هذه المكتبة من الكتب المطبوعة والمخطوطة والمجلات التي تحوي أبحاثاً خاصة بأبي العلاء على أن تسجل كل كتاب على اسم مهديه في سجلات البلدية والمكتبة. والبلدية مستعدة لدفع أجور البريد لهذه الكتب المهداة إذا لم يلصق عليها مهدوها الطوابع اللازمة. وهي على ثقة من أن هذا المشروع سيلقى ما يستحقه من المساعدة والتشجيع في جميع الأقطار العربية وغيرها من البلاد الكثيرة التي تعرف أبا العلاء المعري وتحرس على إحياء ذكراه

حديث أبي هريرة في ذم الشعر

قرأت ما جاء في عدد 338 من مجلة الرسالة الغراء عن حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً فَيَرِيَهُ خير له من أن يمتلئ شعراً) وهذا الحديث رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن وغيرهم عن أبي هريرة وغيره، وقد جاء في وراية ابن عدي جابر (لأن يمتلئ جوف الرجل قيحاً أو دماً خير له من أن يمتلئ شعراً مما هجيت به) والروايات يفسر تعضها بعضاً كما هو مشهور في علم

ص: 75

الحديث، ولا يصح أن يفهم من رواية أبي هريرة ذم الشعر على إطلاقه، وتهجين حسنه وقبيحه، وهذا مع أني لم أسقه هذا المساق، لأن أصل كلامي في تفضيل بعض الشعر على بعض، لا في ذم الشعر على الإطلاق. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشعر أيضاً (إنما الشعر كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح) رواه الدارقطني في الإفراد عن عائشة، والبخاري في الأدب، والطبراني في الأوسط، وابن الجوزي في الواهيات، عن عبد الله ابن عمر، والشافعي والبيهقي عن عروة مرسلاً

وجاء فيه أيضاً: (إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحراً) وهو حديث مشهور رواه أصحاب الصحاح وغيرهم

عبد المتعال الصعيدي

ص: 76

‌المسرح والسينما

على مسرح الأوبرا

تستعد الفرقة القومية لإخراج مسرحيتين جديدتين في الفترة الباقية من هذا الموسم، أولاهما رواية تركية ترجمها الأستاذ مطران أسمها في الأصل (كسمت)، وصار الآن (القضاء والقدر)، وهي عربية الموضوع. ويشرف على إخراجها (سراج منير). أما الرواية الأخرى، فهي مصرية موضوعة من تأليف الأستاذ صبري فهمي عضو بعثة معهد التمثيل في فرنسا. وسيخرج هذه الرواية عمر جميعي، ويضع أزجالها بيرم التونسي، وموسيقاها زكريا أحمد؛ إذ أنها تميل إلى (الأوبريت) كثيراً. أما بقية برنامج الفرقة فيما بقي من وقت الموسم، فلم يستطع أحد أن يدلى إلينا بخير قاطع عنه. ولكننا نستطيع القول بأن الفرقة لا تنوي إخراج روايات جديدة في هذه الفترة الباقية. وسيعاد تمثيل بعض المسرحيات التاريخية القديمة الموثوق من نجاحها.

الموسم الأجنبي

كنا نظن أن منع الإعانة الحكومية عن الفرق الأجنبية التي تزور مصر في موسم السياحة في الشتاء، وقيام الحرب في أوربا بين دول تزور مصر في موسم السياحة في الشتاء، وقيام الحرب في أوربا بين دول كثيرة، أن هذين السببين كافيان لامتناع الفرق التمثيلية عن زيارة مصر في هذا العام. غير أننا علمنا أن الفرقة الإنجليزية فضلاً عن فرقة إيطالية لا يحضرنا أسمها. وعلى ذلك فلن يحرم رواد المسرح الفرنجي هذا العام متعة عرض بعض المسرحيات الأوربية برغم كل العوائق

رقابة السينما

رقيب السينما في مصر موضع شكايات متصلة، وأحاديث تهمس بخليط من الضيق والاستنكار؛ وسبب عناء دائم للمشتغلين بإنتاج الأفلام المصرية ولمستوردي الأشرطة من الخارج على السواء

ولعل الجمهور لم ينس مهزلة فلم (ماري أنطوانيت) الذي لم يصرح الرقيب بعرضه في القاهرة ثم عاد فأجاز عرضه، ثم منع عرضه مرة ثانية، ثم صرح بعرضه في الإسكندرية،

ص: 77

مثلما حدث في عرض شريط (هنري الهامن) الذي منع عرضه مدة من الزمن بحجة أن فيه تعريضاً بملك إنجليزي سابق، ولم يلبث الرقيب أن صرح بعرضه بعد أن تلقى تصريحاً من السفير البريطاني بأن هذا الشريد قد صنع في بريطانيا وعرض فيها وفي سواها من بلاد العالم! وقد عانى مخرج فلم (العودة إلى الريف) كثيراً من عنت الرقيب، لأن الرقيب لم يهضم فكرة أجزاء من الحوار تقوم على الدعاية للريف من طريق مناقشة يحمل أحد طرفيها على الريف فيدافع الطرف الآخر عنه دفاعاً مفحماً مجيداً!

ولا يمكن أن ننسى الصورة الشائنة التي رسمها شريط (أربع ريشات) للمصريين وموقفهم من فتح السودان، ومع ذلك مر الشريط من الرقابة ولم يحظر عرضه!

وفي مصر عدد وافر من الشبان ذوي الثقافة السينمائية الممتازة لا ندري لماذا لا تستخدم الحكومة في رقابة الأفلام؟ بينما تسند إنجلترا مهمة الرقابة السينمائية إلى رجل ممتاز الكفاية والمركز كاللورد (تيرل)، وتسند الولايات المتحدة نفس المهمة إلى رجل نابه كالمستر (جوزيف براين)؛ كما استعانت فرنسا بأديبها الأكبر (جان جيرودو) فعينته رقيباً عاماً بعد إعلان هذه الحرب، ولكننا بعد في مصر

لجنة الأغاني

في محطة الإذاعة لجنة يقال لها لجنة الأغاني، أعضاؤها جميعاً من موظفي القسم العربي في المحطة، وكلهم مرهق بالعمل في الواقع، وقد نجم عن ذلك أن تعطلت أعمال اللجنة بحيث ظلت لديها بعض الأغاني بضعة شهور بغير أن تنظر فيها أو تقضي برفض أو قبول. مما يجعلنا نطالب الأستاذ لطفي بك بحل هذه اللجنة وإحالة أعمالها على بعض الثقات من موظفي المحطة أو غيرهم

(أبو الفتح الإسكندري)

ص: 78