المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 34 - بتاريخ: 26 - 02 - 1934 - مجلة الرسالة - جـ ٣٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 34

- بتاريخ: 26 - 02 - 1934

ص: -1

(أسبوع جول رومان

للدكتور طه حسين

يستطيع هذا الأديب الفرنسي الكبير أن يقول لنفسه منذ الآن ولمواطنيه إذا عاد إليهم بعد أيام انه شغل المثقفين من سكان مصر أسبوعاً كاملاً بل اكثر من أسبوع، ويستطيع أن يقول لنفسه ولمواطنيه انه شغل هؤلاء المثقفين من سكان مصر شغلاُ لذيذاً مريحاً ممتعاً لا ألم فيه ولا جهد ولا عناء، وإنما فيه الحديث الحلو، والحوار العذب، والتفكير الخصب، والإعجاب بمظاهر الجمال الفني الرفيع وقد يكون مسيو جول رومان من هؤلاء الأدباء المتواضعين الذين يسرهم ما يلقون من نجاح فيتحدثون به إلى أنفسهم والى الناس، وينعمون به إذا تحدثوا إلى أنفسهم أو إلى الناس. وقد يكون من أصحاب الكبرياء التي تدعو أصحابها إلى العجب والتيه والخيلاء فيزدهيهم النجاح ويدفعهم الفوز إلى أن يفاخروا ويكاثروا ويستطيلوا على المنافسين، وقد يكون من أصحاب هذه الكبرياء التي تدفع أصحابها إلى ان يستغنوا بأنفسهم عن كل شيء وعن كل انسان. والى ان ينظروا إلى الناس في شيء من الازدراء الرحيم، فلا يزدهيهم إعجاب الناس بهم، ولا يسوؤهم اعراض الناس عنهم، ولا يستخفهم من الناس شيء، لأنهم لا ينتظرون من الناس شيئاً، وإنما ينتظرون من أنفسهم كل شيء؛ وأكبر الظن ان جول رومان ليس من هذه الطبقة بين طبقات الأدباء، فقد رأيته شديد العناية بما يكتب عنه في مصر او يقال فيه، ورأيته شديد الحرص على ان يتبين ذلك ويحصيه ويتفهمه. ثم سمعته يتحدث في بعض محاضراته عما قال هذا الناقد أو ذلك في هذا الكتاب أو ذاك من كتبه التي أذاعها في الناس، بل سمعته يتحدث في بعض محاضراته بأنه إذا اصدر كتاباً من الكتب التي يصور فيها حياة الأفراد والجماعات كانت عنايته برأي هؤلاء الأفراد وهذه الجماعات في كتابه أشد جداً من عنايته برأي النقاد والزملاء. وقد قص علينا في ذلك قصصاً طريفة، وكان ظاهر السرور والرضى حين كان يقص علينا هذه القصص لأنها كانت تصور مقدار ما ظفر به من التوفيق إلى رضى الأفراد والجماعات الذين وصفهم في كتبه وأسفاره. وقد حدثنا بأنه يلهو أحياناً بالمقارنة بين ما يكتب إليه القراء وما يكتب عنه الناقدون، وبما تنتهي إليه هذه المقارنة من بعد النقاد عن الحق والإنصاف وتورطهم في الخطأ واللجور، ومن إصابة القراء لمواضع الصدق وحسنالتقدير. وإذا لم يكن جول رومان من أصحاب الكبرياء

ص: 1

الطاغية المعتصمة بنفسها المتعالية عن الناس، فليس من شك في انه سيغتبط ويبتهج حين يعلم أنه قد شغل المثقفين في مصر أسبوعاً أو أكثر من أسبوع، ولم يثر في نفوسهم الا حباً له وإعجاباً به وعناية بآثاره، وجداً في قراءتها أو الاستمتاع بما فيها من جمال. نعم وسيبتهج ويغتبط حين يعلم ان المثقفين من أهل مصر قد نظروا إلى هذا أسبوع الذي أقامه بينهم محاضراً متحدثاً كأنه عيد من أعياد الثقافة العليا، خلصت فيه نفوسهم من أثقال الحياة اليومية وأعبائها وتكاليفها وما تثيره من الخصومات وما تبعته من الهموم التي تضعف القلوب، ومن الأحزان التي تميت النفوس، ومن المشاغل التي تنحط بالعقول عن مكانتها وتبتذلها ابتذالا.

بدئ هذا الأسبوع حين ألقى جول رومان محاضرته الأولى في مدرسة الليسيه الفرنسية، وختم حين ألقى محاضرته الأخيرة في قاعة الجغرافية مساء الخميس الماضي، وكان في محاضرته الأولى يتحدث عن وطنه فرنسا ورأى الأفراد والشعوب فيه، وكان في محاضرته الأخيرة يتحدث عن نفسه وعن كتابه الأخير، وعن رأي الناس من مواطنيه ومن غير مواطنيه فيه وفي هذا الكتاب. وكان فيما بين ذلك يتحدث عن العقل وعما أحدث في حياة الناس السياسية من خير، وما ينتظر أن يحدث في مستقبل حياتهم من خير. وكان فيما بين ذلك أيضاً يتحدث إلى الجماعات والأفراد أحاديث خاصة في موضوعات مختلفة من الأدب الفرنسي والأجنبي، ومن السياسة والفلسفة والاقتصاد. وكانت أحاديثه ومحاضراته كلها متعة عالية ممتازة للذين استمعوا منه وتحدثوا إليه. ذلك إن جول رومان ليس أديبا عادياً من هؤلاء الأدباء الذين ينتجون الآثار الأدبية القيمة دون أن يمتازوا بأكثر من قدرتهم على الإنتاج وبراعتهم فيه إنما هو أديب ممتاز حقاً. ولعل خير ما يميزه من الأدباء انه من هؤلاء الأفراد القليلين الذين جعلت نفوسهم مرآة صافية شديدة الصفاء. تنعكس فيها صور الحياة التي تحيط بها، فإذا وصلت إليها استقرت فيها. وما تزال الصور تتبع الصور دون أن يطغى بعضها على بعض أو يفسد بعضها جمال بعض وإذا أنت أمام نفس من أغنى النفوس، أمام نفس لا تصور فرداً ولا بيئة، إنما تصور شعباً كاملاً، وإنما تصور خلاصة كاملة لأرقى ما تصل إليه الثقافة في عصر من العصور. فالذين كانوا يسمعون من جول رومان أو يتحدثون إليه إنما كانوا يسمعون من العقل الفرنسي كله،

ص: 2

ويتحدثون إلى العقل الفرنسي كله، ولا تظن إن في هذا النحو من القول غلوا أو ميلا إلى الإسراف، إنما هو الحق كل الحق، والاقتصاد. ذلك أن جول رومان لم يكد يبلغ رشده الأدبي كما يقول حتى رأى نفسه أكثر من فرد، ورأى مطمعه الأدبي أكثر من مطمع الفرد، ورأى انه إذا كتب فلن يستطيع ان يكتب كما تعود الناس أن يكتبوا في هذه الموضوعات المحصورة، وفي هذه الإطارات الضيقة المحدودة. وإنما هو ان كتب فسيصور الجماعات، وسيصورها في إطار واسع مخالف لما ألف الكتاب أن يتخذوا من الإطارات والحدود. رأى أنه لا يستطيع أن يتخذ الفرد من حيث هو فرد موضوعاً لأدبه، وإنما الجماعة هي موضوع هذا الأدب فهو شاعر الجماعات إن نظم الشعر، وهو واصف الجماعات أن كتب القصص، وهو مصور الجماعات ان عالج التمثيل. ولم يكد يكتب وهو في العشرين في اوائل هذا القرن حتى ظهرت هذه الخصلة في آثاره ظهوراً بينا وفرضت نفسها عليه فرضا، وأحس هو ذلك وشعر به، وإذا هو ينظم صفته هذه تنظيماً ويصوغها صيغة المذهب الأدبي ويدعو إلى هذا المذهب ويجاهد في الدعوة اليه، وإذا هو على شبابه صاحب مدرسة لها تلاميذ ولها أنصار، وإذا مدرسته لا تلبث أن تتجاوز حدود فرنسا بل حدود اوربا فتكسب الأنصار والتلاميذ في المانيا وانجلترا وامريكا. ثم تتقدم به السن ويمضي في انتاجه الأدبي شعراً وقصصاً وتمثيلاً، وكلما مضى في هذا الإنتاج زاد امتيازه وضوحاً وجلاء ولان مذهبه واشتدت مرونته. وإذا جول رومان منذ أعوام يفرض نفسه على الأدب الفرنسي ثم على الأدب الحديث فرضاً ويصبح من اظهر الممثلين لحياة الأدب الفرنسي في هذا العصر الذي نعيش فيه. فليس غريباً إذن أن يكون حديثه حديث الشعب الفرنسي المثقف كله، لأنه قد وعى هذا الشعب كله وصوره واختصر خلاصته كلها في نفسه، فهو يتحدث بها وهو يتحدث عنها وهو يصورها في حديثه أجمل التصوير وأروعه وأبلغه تأثيراً في النفوس. وقد عالج جول رومان من فنون الأدب الشعر وعالج القصص وعالج التمثيل. وكان قبل هذا كله أستاذاً للفلسفة. مر بالسوربون طالباً وتخرج من مدرسة المعلمين العليا، وعلم في المدارس الثانوية. وليس هنا بالطبع موضوع الدرس لشعره وقصصه وتمثيله فذلك شيء لا يتسع له فصل في صحيفة بل لا تتسع له فصول، وإنما تتسع له كتب وأسفار

ص: 3

ولكن من الخير أن ندع الآن شرع جول رومان لأنه هو نفسه قد انصرف عن الشعر أو كاد، وأن نقف وقفة قصيرة عند تمثيله ووقفة أقصر منها عند قصصه وعند كتابه الاخير بنوع خاص. ولعل أظهر ما يمتاز به تمثيل جول رومان أنه أقرب التمثيل الفرنسي الحديث إلى تمثيل موليير، فموضوعاته فرنسية ولكنها من دون إطارها الفرنسي تتجاوز فرنسا وتصبح موضوعات إنسانية عامة لا تقف عند بيئة خاصة ولا عند زمان بعينه، وإنما تتجاوز الزمان والمكان المعينين إلى جميع الازمنة والأمكنة. فقضته الدكتور كنوك ليست نقداً لطبيب بعينه، ولا لطبيب فرنسي ولا لطبيب في القرن العشرين وإنما هي نقد للون من الوان حياة الأطباء في كل أمة وفي كل عصر وفي كل مكان. ولا يكاد يعرف التمثيل الفرنسي بعد الحرب فوزاً كالفوز الذي أدركته هذه القصة التي لا أتردد في أن أراها آية من آيات التمثيل الحديث.

وقصته التي تسمى مسيو لترودك، وقصته الأخرى التي تسمى زواج لتروادك لا تصفان أستاذاً بعينه من أساتذة الجغرافية، وإنما تصفان لونا من حياة الاستاذ الذي تطغى عليه ظروف الحياة فتخرجه عن الدرس إلى الحياة العامة، وتعرضه لألوان من المحن والخطوب تثير الضحك ولكنه الضحك الذي يثيره موليير، والذي يمتلئ بالعبر والعظات. وقد هممت أن أسأل جول رومان لماذا اختار لهاتين القصتين بطلا من أساتذة الجغرافية، دون أساتذة التاريخ أو العلم الطبيعي أو الفلسفة. واكبر الظن أن هذا الاختيار ليس نتيجة المصادفة، ومن يدري لعله كان يضيق باستاذ من أساتذته الذين تعلم عليهم وصف الارض وتقويم البلدان في المدرسة أو الجامعة. وليس أقدر من جول رومان على تشخيص الجماعات ومحو ما بين أفرادها من الفروق، وجعلها شخصاً واحداً يشعر ويعمل ويتكلم ويصدر في هذا كله عن نفس واحدة، والذين يقرأون زواج لتروادك يرون أنه وفق في ذلك إلى أقصى حدود الاتقان.

أما كتابه الاخير الذي لم نتفق أمس - وكنا كثيرين - علىترجمة دقيقة لعنوانه، والذي أسميه كما سماه صديقي هيكل، الاخيار من الناس، فاعجوبة القصص الفرنسي في هذه الايام. أخذ يظهر منذ أعوام. وظهر منه الجزء الخامس والسادس في هذا العام. والناس يتساءلون كم تكون أجزاؤه؟ وجول رومان يأبى أن ينبهم بعدد هذه الاجزاء اشفاقا عليهم

ص: 4

وعلى نفسه من السأم والخوف فيما يقول، وأكبر الظن أنه لا ينبئهم بعدد هذه الاجزاء لأنه هو لا يعرف كم تكون وقد زعم بعض نقاده في النوفيل لترير منذ أسابيع أنها قد تنيف على العشرين وتمنى

ناقد الطان ان تبلغ الخمسين، والله يعلم ماذا يتمنى جول رومان. وأكبر الظن انه لا يتمنى الا أن تستقيم له الطريق، ويمضي القلم في يده حتى يتم شيئاً لا يستبينه هو في نفسه إلى الآن.

وقد حدثنا جول رومان عن كتابه هذا أحاديث ضاق بها توفيق الحكيم، لأنه لا يحب أن يتحدث الكتاب عن أنفسهم وعما يكتبون. ورضيت عنها أناكل الرضى لأن الكتاب إذا بلغوا منزلة جول رومان كان من حقهم ان يتحدثوا عن أنفسهم. ولست ادري لم يباح للكتاب ان يتحدثوا عن ان

وعلى نفسه من السأم والخوف فيما يقول، وأكبر الظن أنه لا ينبئهم بعدد هذه الاجزاء لأنه هو لا يعرف كم تكون وقد زعم بعض نقاده في النوفيل لترير منذ أسابيع أنها قد تنيف على العشرين وتمنى

ناقد الطان ان تبلغ الخمسين، والله يعلم ماذا يتمنى جول رومان. وأكبر الظن انه لا يتمنى الا أن تستقيم له الطريق، ويمضي القلم في يده حتى يتم شيئاً لا يستبينه هو في نفسه إلى الآن.

وقد حدثنا جول رومان عن كتابه هذا أحاديث ضاق بها توفيق الحكيم، لأنه لا يحب أن يتحدث الكتاب عن أنفسهم وعما يكتبون. ورضيت عنها أناكل الرضى لأن الكتاب إذا بلغوا منزلة جول رومان كان من حقهم ان يتحدثوا عن أنفسهم. ولست ادري لم يباح للكتاب ان يتحدثوا عن انفسهم إلى عشرات الالوف في الكتب، ويكره منهم ان يتحدثوا إلى المئات في قاعة من قاعات المحاضرات، واحب ان يعلم توفيق الحكيم، وان يعلم جول رومان أيضاً اني لم أومن بكل ما سمعت من هذا الحديث فالاديب يحدثنا بأنه تصور موضوع كتابه تصوراً دقيقاً كل الدقة، محدداً من جميع الوجوه ولم يبدأه حتى وضع له برنامجاً مفصلاً أدق التفصيل، ولما كان من المستحيل ان يعرض علينا الصورة التي في نفسه، والبرنامج الذي رسمه لكتابه على الورق، فاني اسمح لنفسي بأن اشك في هذا الحديث. وإنما هو خيال يتلهى به الكاتب الاديب، على حين انه في حقيقة الامر لا يتصور كتابه الا تصوراً مجملاً تفصفه الظروف، وتفصله لمزاولة والكتابة بنوع خاص. ذلك ان موضوع الكتاب ليس من هذه الموضوعات التي يمكن ان ترسم في دقة وضبط، فجول رومان يريد ان يصف الجماعة الانسانية، فحدثني كيف تستطيع ان تحدد هذه الجماعة او ان تحدد ما تريد ان تصف من أمرها تحديداً دقيقاً، بل ان تص ذلك بالفعل إنما يريد جول رومان أن ينشئ اثراً كالذي أنشأه بلزاك أو زولا أو رومان رولان. ولكن من الذي يستطيع ان يقول ان هؤلاء الناس قد رسموا موضوعاتهم رسماً دقيقاً قبل ان يبدؤا في كتابتها. إنما الشيء القيم الذي تحدث به الينا جول رومان هو مذهبه في الاستعداد لكتابة، فهو لا يسلك طريق غيره من الذين سبقوه فيحصى ويستقصى ويكتب المذكرات ويجمعها ويرتبها ثم يعود اليها كلما هم بالكتابة في موضوع من الموضوعات، وإنما هو يحيا في جميع البيئات التي يريد أن

ص: 5

يصورها، يحيا فيها كما يحيا أهلها، حتى يصبح واحداً منهم، ثم يرسل خياله على سيجيته فيكتب، حتى إذا أتم الكتابة عاد إلى هذه البيئة فقارن بين الصورة وبين الاصل وانتهى في أكثر الاحيان إلى الرضا عن هذه المقارنة

على أن التصوير الصحيح لمذهب جول رومان في الاستعداد لهذا الكتاب هو الذي تقرأه في المقدمة فهو تصوير معقول لا يتجاوز حدود الممكن المألوف، وهو في الوقت نفسه تصوير يبين ما في هذا الكتب من الابتكار. فالكتاب لا يدور حول شخص بعينه ولا حول حادثة بعينها، وإنما هو قصص كثيرة مختلفة لبيئات كثيرة متباينة، تنشأ هذه القصص في وقت واحد أو في أوقات متقاربة ثم تمضي كل واحدة منها في طريقها التي رسمت لها فتلقى أحياناً وتفترق أحياناً، وتتوازى أحياناً، ويضاد بعضها بعضاً أحياناً أخرى والله يعلم ولعل جول رومان يعلم أيضاً إلى أن تنتهي وكيف تنتهي آخر الامر

وقد بدأت هذه القصص في اكتوبر سنة 1908 وحدثنا جول رومان انها تنتهي في سنة 1933 الا أن يطرأ ما يغير هذا الميعاد. فالكتاب اذن محاولة جديدة لوصف الجماعة الانسانية وصفا قصصياً رائعاً في ربع قرن، وتريد أن تعلم بالطبع هل وفق جول رومان إلى ما أراد، وتريد أن تعلم مقدار ما في هذا الكتاب من روعة وجمال. فالذي أستطيع أن أقوله هو أن كتاباً آخر لم يظفر بمثل ما ظفر به هذا الكتاب من الاعجاب بعد كتاب مرسيل بروست في هذا العصر الذي نعيش فيه. فاذا اردت ان تتبين جماله وروعته فالسبيل إلى ذلك ان تقرأه، وانا واثق بانك لن تأسف على ما تنفق في قراءته من الوقت أو الجهد.

طه حسين

ص: 6

‌صندوق الكتاكيت

للاستاذ أحمد أمين

كان أمس، من أيام الشتاء المشهودة: ريح صِرّ، وليل قَرّ، حتى خَصِرَت اليد، وقفقفت الأسنان، ويبست الأطراف، وتجلّى (أمشير) بأجلى ما وسم به من هَوَج ورَعَن. حتى لو كان طفلاً لسال لعابه، أو رجلا لسقطت عنه االتكاليف.

ثم انجلى الليل عن صبح بديع: سماء صافية، وشمس مشرقة، حاولت أن آتي لهما بتشبيه جديد، فكانت الشمس في السماء أجمل من كل تشبيه قديم وحديث.

غادرت حجرتي إلى حديقتي الصغيرة المتواضعة فوجدت خادمي قد سبقت، فاخرجت صندوق الكتاكيت إلى الشمس لينعم ما فيه بحرارتها ودفئها - وقع عليه نظري، وصادف ذلك مني تفكيراً في موضوع للرسالة.

شعرت إذ ذاك بشخصيتين من نفسي تتناظران مناظرة عجيبة عنيفة اسجلها للقراء:

لم لا يكون (صندوق الكتاكيت) موضوعاً طريفاً؟

إنه مووضوع تافه لا يليق بأستاذ في جامعة، ولا بمدرس، ولا بمساعد مدرس - إن الجامعيين وأمثالهم يجب أن تكون موضوعاتهم في أعلى السماء، أو أعمق الأرض، ويجب أن تصبغ بصبغة ميتافيزيقية، ويكون فيها الجوهر والعرض، والكمية والكيفية، والأنِّيّة والعلية. أما صندوق الكتاكيت فموضوع يثير الهزؤ والسخرية، ويستخرج من النفس عاطفة الازدراء والاحتقار.

ليس ذلك بصحيح، فكل شيء في الحياة موضوع أدب، وخير الأدب ما مس الحياة الواقعية، واستخرج من تافه الاشياء فكرة بديعة، أو رأياً طريفاً. لقد قال تعالى (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما، بعوضة فما فوقها، والكتكوت خير من البعوضة من جميع الوجوه، فالبعوضة منبع ألم، والكتكوت منبع لذة - والبعوضة إذا كبرت كانت أقوى على اللدغ وأقدر على الايلام، بنفسها وبمنتجاتها، والكتكوت إذا كبر كان دجاجة أو ديكاً، يسيل لعاب الانسان إذا تصوره على مائدة أنيقة، أو تخيّله وقد أنضجه طاه ماهر.

وضب الله الذباب مثلا فقال تعالى (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباّ ولو اجتمعوا له، وان يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه، ضعُفَ الطالب والمطلوب) وأين

ص: 7

الذباب من الكتكوت؟ وقد سميت في القرآن الكريم سور منه بالبقرة والنحل والنمل والعنكبوت.

وقرأت لأديب كبير لا أذكره الآن مقالا بديعاً في زنبار أراد أن يخرج من شباك فاصطدم بزجاجة، وحاول مراراً أن يخرج فلم يستطع، فاستخراج الكاتب من ذلك قطعة فنية طريفة في الحرية والاسترقاق، وكيف يبحث الزنبار عن حريته فلا يجدها، ثم هو لا ينساها مهما صادفه من عقبات، وتحمل من آلام.

وكتب فيكتور هوجر قصة طريفة عن برغوث أنقذ أمة من الأمم سلط عليها حاكم ظالم لم تستطع حمله على العدل ولا إبعاده عن الحكم.

وبعد هذا وذاك كتب مستشرق كبير معاصر كتاباً جمع فيه ما قيل من الأدب العرب في البراغيث واقترح عليه مستشرق آخر أن يسمي الكتاب (صيحة المستغيث من البراغيث) إلى ما لا يعد ولا يحصى.

إذن فنظرتك في اختيار الموضوع وأنه يجب أن يكون (أكاديمياً)، وأن يعنون عنواناً ضخماً يستعمل في اختياره كل ضروب التكلف والتعمق والفلسفة، نظرة أرستقراطية بغيضة يجب أن تتخلص منها وتهزأ بما جرى عليه العرف فيها.

على هذا النحو ظلت الشخصيتان تتناظران، وظللت أصغي اليهما وأقيد أفكارهما، إلى أن طال الاخذ والرد، وأشفقت على القراء من استرسالهما في الجدل، وحاولت أن أبتعد عن الصندوق، وأهرب من الموضوع فلم أستطع.

أيها الكتكوت! فيك كل معاني الحياة ومشاكلها ومظاهرها. فاسمك - أولا - كتكوت ويجمع على كتاكيت، ولم أدر من أين أتى لك بهذا الاسم، فقد راجعت القاموس المحيط ولسان العرب، وغيرهما من كتب اللغة، فلم أجد فيها هذا اللفظ للدلالة عليك، ولا يستعمله الا أهل مصر. أما أهل الشام والعراق فلا يعرفونه - أتعمدت اللغة إهمالك لحقارتك؟ ذلك ما لا أظن، لأني أعلم أن اللغة ديمقراطية تعنى بالجليل والحقيرعلى السواء، بل اللغة العربية مفرطة في الديمقراطية فقد وضعت لأتفه الأشياء أسماء تعد بالمئات، واحتقرت أشياء عظيمة فلم تضع لها اسماً للآن كالراديو والبيانو ومئات من المخترعات الحديثة، بل هم وضعوا لك اسماً آخر هو (الفرخ) ولكن الفرخ غير مقصور عليك، شاركك فيه كل صغار

ص: 8

الطيور حتى استعملوه أحياناً في صغار الشجر والنبات، على انهم وضعوا لك اسم (الفروج) فلم يطلقوه على غيرك من صغار الحيوان ولكنهم أشركوا معك فيه نوعاً من أقبية وأمثالها ولعل العامة كانوا أنصف لك فوضعوا لك اسماً خاصاً، ومن أولى التخصص منك؟

ولكن - مع كل هذا - لا أدري من اين أتى اسمك (الكتكوت) فسأتركك لعلماء اللغة والاشتقاق ومقارنة اللغات، من سريانية وآرامية وفارسية وعبرية، لعلهم يجدون لك أصلاً - وعلى كل حال فقد أثبتَّ أن فيك مشكلة من مشكلة الحياة العظمى، وهي مشكلة اللغة، وستثبت مشكلة أخرى أعظم من هذا وأعقد فهب أن علماء اللغة استنكروا هذه الكلمة فأين سلطانهم على لفظك الذي تداولته العامة ونطقت به قروناً.

فهل إذا صدر قرار بمحو هذه الكلمة لأنها ليست عربية يسمع ويطاع. على أي وجه من الوجوه أنت مشكلة حتى في اسمك هذه هي الخادم قد رمت الحب للكتاكيت، فلا تسأل عما كان بينها من خصام ونزاع، ومباراة وسباق وضرب وطعان

وهل الانسان الا هذا - وهل تاريخ حياته الا نزاع وصراع وقد عبروا عن ذلك أصدق تعبير فقالوا، ان الحياة جهاد - أو ليس أكبر باب من كتب التاريخ هو تاريخ الحروب والفتوح، واعلان الحرب، ومعاهدات الصلح. وكل الفرق بينك ايها الكتكوت وبين الانسان أنك استعملت في جهادك ونزاعك منقارك الوديع وجسمك اللين الغض وجاء الانسان الراقي فاستعمل في الحصول على غذائه الكذب والخديعة والرياء والنفاق، واستعمل في مدافعة خصومه كل طر الكيد والدهاء، واستخدمت الجماعات في حربها كل أنواع المدمرات والمهلكات - وقد أعطى الانسان عقلا أرقى من عقلك لينظم عيشه فأفسده، ولينظم السلم فنظم الحرب، وليعاون أخاه فعاداه.

- أيها الصندوق!

فيك تنازع البقاء وبقاء الاصلح، فيك استكانة الضعيف وغلبة القوى، فيك الضعيف يكره العراك، وفيك القوي يصول ويجول، ويدعو إلى النزال - فيك الجمال وفيك القبح

- استأنست ايها الكتكوت بالانسان صغيراً، ثم علمتك التجارب ففررت منه كبيراً.

وكنت مادة صالحة للغذاء كما كنت مادة صالحة للادب، فمن قديم استعيرت منك الاستعارات اللطيفة، والابيات الجميلة، فقد قال الشاعر

ص: 9

أرى فتنهة هاجت وباضت وفَرّخَتْ

ولو تُرِكَتْ طارت اليها فراخها

وفي حديث عمر. يا أهل الشام تجهزوا لأهل العراق فان الشيطان قد باض فيهم وفرخ

ثم قالت العامة (الكتكوت الفصيح من البيضة يصيح) وأخيراً، فيك سر الحياة الغاض - كيف دبت الحياة فيك يوم كنت بيضة، وكيف تطورْتَ جنيناً، وكيف نبض قبلك لاول مرة، وكيف خرجت إلى هذا الوجود، وكيف تموت ولم خرجت، ولم تموت؟ لو أفصحت لنا عن كل هذه الاسرار لكشفت سر الوجود، ولما كان هناك مجال لفسلفة ولا حكمة ولكنك أعجزت الفلاسفة، إذا كتمت سرك بين جناحيك فهامت الفلاسفة علىوجوهها، وارتبكت في تفكيرها.

إذن فيك ايها الصندوق الصغير، كل ما في العالم الكبير، من معاني الحياة وغوامضها وأسرارها، وفيك كل مظاهر الانسان على تبجحه وغروره - وفيك ما حير العقول قروناً، وأجهد الفكر أجيالاً - وهل العالم الا لغز، لو حل جزؤه لحل كله.

أحمد أمين

ص: 10

‌صفحة من تاريخ افغانستان المعاصر

لمناسبة حوادثها الاخيرة

للاستاذ محمد عبد الله عنان

في الثامن من نوفمبر الماضي سقط نادر شاه ملك أفغانستان السابق قتيلاً برصاص طالب أفغاني في احدى حدائق كابول اثناء حفلة رياضية كان يشهدها الملك القتيل، فخسرت أفغانستان بذهابه أميراً قوياً حازماً لبث مدى أربعة أعوام يشرف على مضايرها ويعمل لتنظيم شئونها وتوطيد سلامها في ظروف عصيبة.

وكانت أفغانستان قبل أن يتبوأ عرشها نادر خان قد اضطرمت باحدى هذه الثورات القومية التي يتميز بها تاريخا منذ أواخر القرن الماضي، والتي تدفع بها دائماً إلى فترة من الفوضى الخطرة، وتجعل من عرشها مثار معارك طاحنة بين الزعماء والمتغلبين، ومن استقلالها هدفاً تعلم السياسة الاجنبية ما استطاعت للنيل منه؛ وكان عرشها بعد أن غادره الملك السابق أمان الله في صيف سنة 1929 فراراً من نقمة شعبه قد تداوله اثنان في بضعة أشهر، أولهما عناية الله أخو أمان الله الأكبر، والثاني حبيب الله أو باشا سقا، الزعيم الثائر: وكانت أفغانستان تمزقها الحرب الاهلية حينما جاء اليها نادر خان وزير الحربية السابق في أواخر سنة 1929 من مقامه في أوربا، وانتزع كابول من يد الثائر وقبض عليه وأعدمه، ثم نادى بنفسه ملكاً، واستطاع في أشهر قلائل أن يقمع الفوضى وأن يعيد إلى أفغانستان نوعاً من السكينة والاستقرار.

ولم يكن مقتل نادر شاه (نادر خان) مفاجأة ولا حادثاً غير عادي في تاريخ أفغانستان الحديث؛ فعرش أفغانستان يرتجف دائماً فوق بركان من المنافسة الدموية؛ وقد قتل في الفترة الأخيرة من ملوك أفغانسان عدة، أولهم حبيب الله خان الذي قتل سنة 1919. ولو لم يبادر الملك السابق أمان الله بالفرار لكان نصيبه هذا المصير الدموي. بيد أن هذا العرش الخطر ما فتئ يغري زعماء القبائل والاسر الأفغانية؛ وتخشى أن تعود هذه المعركة الخالدة على العرش فتضطرم غير بعيد في أفغانسات، وان كان الامير الفتى ظاهر شاه ولد نادر شاه قد جلس على العرش غداة مقتل أبيه، واتخذت في الحال كل أهبة لاخماد كل نزعة للخروج والثورة. فقد كان نادر شاه يحكم أفغانستان مدة الأعوام الاربعة الماضية بقوة

ص: 11

وذكاء، ولكنه لم يستطع رغم عزمه وحزمه أن يخمد كل عوامل الانتقاض والفوضى التي تضطرم بها أفغانستان منذ أواخر عهد الملك أمان الله؛ وقد نشبت في عهده غير ثورة أخمدت دائماً في سيل من الدماء، ومازال الملك السابق أمان الله يتربص فرص العودة إلى عرشه، وما زالت تؤازره في أفغانستان بقية من أنصاره، هذا إلى أن القبائل الافغانية القوية في الشرق والشمال الشرقي مازالت تعيش في نوع من الاستقلال الاقطاعي، وتتردد بين تايد العرش والخروج عليه حسبما تملي عليها مصالحها أو حسبما توجهها المؤثرات الاجنبية في كثير من الاحيان.

والحقيقة أن أفغانستان تجد نفسها منذ نحو قرن من مركز حربي وسياسي يكاد يحرمعليها الحياة الهادئة. فهي تقع بين الهند البريطانية من الشرق، وبين التركستان الروسية من الشمال، وتكون بذلك ملتقى الجذب بين سياستين استعماريتين قويتين تتنازعان السيادةوالنفوذ في أواسط آسيا، وتلتقيان دائماً في ذلك الاقليم الجبلي الوعر، الذي يحد نفوذهما ويفصل بين أراضيهما، اعني أفغانستان. والشعب الافغاني لا يتجاوز أربعة ملايين جلهم من القبائل الجبلية، ولكنه شعب قوي بخلاله الطبيعية ونزعته العسكرية يعتصم دائماً بهضابه الوعرة، ويحرص على استقاله أيما حرص. وإذا كان تجاذب السياستين البريطانية والروسية يعرض افغانستان بين آن وآخر إلى تيار النفوذ الأجنبي، فان أفغانستان من جهة أخرى تتخذ من هذا التجاذب أداة لتدعيم استقلالها، وتجعل منه دائماً وسيلة لاقامة التوازن بين السياستين المتنافستين. بيد أن السياسة البريطانية التي تقدر أهمية افغانستان في حماية حدود الهند الشمالية الغربية من الغزو الروسي، تحرص دائماً على أن تكون راجحة النفوذ والكلمة، ولا تترد في تأييد هذا التفوق في السهر على مصاير أفغانستان بالقوة القاهرة. وأفغانستان تعرف أنها لا تستطيع أن تتخلص من هذا النفوذ دون أن تعرض استقلالها للخطر؛ وقد أنست هذا الخطر في تاريخها الحديث غير مرة إذ غزتها الجيوش الانجليزية في سنة 1838، ثم في سنة 1878؛ وعرض استقلالها للضياع في المرتين. وما زالت السياسة البريطانية إلى يومنا تقوم بدورها التاريخي في السهر على توجه شئون أفغانستان وتطوراتها.

ونستطيع أن نرجع من مرحلة التاريخ الأفغاني المعاصر إلى أواخر القرن الماضي، أو إلى

ص: 12

عهد الأمير عبد الرحمن خان الذي تولى العرش عقد تطورات الحرب الأفغانية الإنكليزية الثانية، سنة 1884؛ فقد استطاع هذا الأمير القوي لأول مرة أن يحطم سلطة القبائل الاقطاعية، وان يخضعها لصولة العرش، واستطاع أن ينشئ لأفغانستان جيشاً نظامياً حسناً، وان ينظم الضرائب والموارد العامة؛ وتمتعت افغانستان في عهده بعد طويل من السكينة والاستقرار في ظل ادارة قومية صارمة. ثم توفى عبد الرحمن سنة 1901 وخلفه على العرش ولده حبيب الله خان. واستطاعت السياسة البريطانية في تلك الفترة ان توطد نفوذها في أفغانستان؛ وكان حبيب الله برغم حرصه على استقلال افغانستان الداخلي، يصانع السياسة البريطانية ويتقي اثارتها ما استطاع؛ وفي عهده بلغ النفوذ البريطاني ذروته في توجيه سياسة افغانستان الخارجية، ولا سيما في علائقها مع روسيا القيصرية، وتضاءل النفوذ الروسي إلى أعظم حد ولما نشبت الحرب الكبرى حافظ حبيب الله على صداقته مع بريطانيا العظمى، وقاوم كل مسعى بذلته المانيا لتحريض افغانستان على نقض هذه الصداقة، ثم تُوفي قتيلاً في أوائل سنة 1919، فخلفه اخوه نصر الله؛ ولكن ثورة نشبت بقيادة امان الله ثالث اولاد حبيب الله انتهت بعزله. وتبوأ أمان الله العرش في ربيع هذا العام وهنا كان تطور حاسم في تيار النفوذ الخارجي؛ وانتهزت روسيا السوفيتيه، هذه الفرصة لتسترد نفوذها الذاهب، فعاونت امان الله على انتزاع العرش من عمه، واستعملت كل وسيلة لمقاومة النفوذ الانكليزي والقضاء عليه؛ وذهب امان الله في خصومته للانكليز االى حد أنه دفع بجنده إلى اجتياز الحدود الهندية، ولكن الانكليز ردوها في الحال وعبروا الحدود الافغانية إلى (دكا) وأرغموا امان الله على عقد الصلح، ولكن بشرط أن تعترف انكلترا باستقلال افغانستان (اغسطس سنة 1919).

وكانت روسيا من وراء أمان الله تؤيده وتوجه خططه؛ وكانت انكلترا من جانبها تقدر هذا العامل الجديد في تطور حوادث افغانستان، وتتحاشى الاصطدام بروسيا السوفيتية، وتعمل لاتقاء دسائسها ما استطاعت، وأفغانستان من جانبها تجني ثمرة هذا النضال بين الدولتين الخصيمتين. بيد أن السياسة البريطانية لم تعدم وسيلة للاتفاق مع امان الله؛ ففي سنة 1921 عقدت في كابول معاهدة انكليزية افغانية جديدة، تعترف انكلترا فيها باستقلال افغانستان الخارجي والداخلي؛ وتعترف افغانستان فيها بالحدود الهندية الافغانية القائمة؛

ص: 13

وتنص على تبادل التمثيل السياسي والقنصلي؛ وتخول لافغانستان الحق في ان تستورد من انكلترا ما يلزمها من الاسلحة والذخائر معفاة من الرسوم. وفي سنة 1923 عقدت بين الدولتين معاهدة تجارية. ومع أن العلائق بين انكلترا وأفغانستان لبثت عاديةودية، فان النفوذ الانكليزي لم يعد إلى سابق تمكنه واستئناره، واستمر النفوذ الروسي متفوقاً في افغانستان مدى حين.

وقضت افغانستان فترة من الاستقرار والسكينة، توطدت فيها شئونها الداخلية وعلاقتها الخارجية. وفي سنة 1927 قرر الملك امان الله أن يقوم مع زوجته الملكة ثريا برحلة رسمية في بعض الدول الاوربية؛ فغادرا أفغانستان في شتاء هذا العام، ومرا في طريقهما بمصَر، وانفقا فيها بضعة أسابيع، واستقبلا اينما حلا بمنتهى لاكرام والحفاوة؛ ثم سافرا إلى أوربا وزارا ايطاليا وفرنسا وانكلترا والمانيا، وتسابقت الدول في الاحتفاء بهما واغداق الهدايا عليهما، كما تسابقت في التقرب إلى امان الله ومحاولة الحصول منه على بعض المزايا السياسية والتجارية، ولكن امان الله لم يتورط في التعاقد واكتفى ببذل الوعود. ثم غادر المانيا إلى روسيا، واستقبله

؟؟؟؟ حلفاؤه البلاشفة أعظم استقبال، وعقدت اثناء مقامه بموسكو معاهدة افغانية روسية تجارية جديدة. وأبدى امان الله اثناء رحلته اهتماماً عظيماً بمظاهر الحضارة الغربية، ولم يخف اثناء تجواله نيته في الا قتباس منها لبلاده بأعظم قدر، والعمل على تجديد افغانستان ودفعها إلى طريق الحضارة الغربية باسرع ما يستطاع، ولم تخف زوجته الملكة ثريا نيتها في العمل على تعليم المرأة الافغانية وتحريرها، وكان لهما في ذلك تصريحات رنانة مازلنا نذكرها. واستمرت الصحف الاوربية مدى حين تفيض في رحلة الملك الشرقي وفي اخباره وأعاله وأقواله، وفي برنامجه الاصلاحي، وفي آحوال أفغانستان وشئونها وأهميتها الحربية والسياسية. بيد أنه لو حط مذ قصد أمان الله إلى موسكو فتور الصحافة الغربية في الحديث عنه، ولوحظ بنوع خاص أن الصحف البريطانية أخذت تحمل على سياسته، وتنتقد زيارته لموسكو وتورطه في محالفة البلاشقة. ولم يكن حديث الصحف البريطانية عبثاً، وإنما كان دلالة اتجاه جديد في السياسة البريطانية كما سنرى.

عاد امان الله إلى افغانستان بعد أن زار تركيا وفارس، وعقد مع كل منهما معاهدة صداقة،

ص: 14

وتأثر ايما تأثر بما رأى في تركيا من مظاهر التجديد الاوربي. ولم يضع وقتا في تنفيذ برنامجه الاصلاحي: وكان برنامجاً شاملاً تناول نظم الحكم، كما تناول كل نواحي الحياة القومية. فاما في نظم الحكم فقد ألغي أمان مجلس الحكم القديم الذي يضم زعماء الدين ومشايخ القبائل بمجلس تمثيلي يؤلف بالانتخاب، وأدخل نظام الوزارة الحديث، والغي سلطات الاشراف وزعماء الدين، وفرض الضرائب العامة المنظمة والخدمة العسكرية الاجبارية على كل أفغاني. وكان أمان الله في الناحية الاجتماعية أشد جرأة واندفاعاً وقد خيل له أنه يستطيع بقوة التشرع العاجل أن يخلق من افغانستان العصور الوسطى، أمة جديدة تتمتع بمظاهر التمدن الحديث. وكانت زوجة الملكة ثريا، وهي امرأة سورية لاتفهم روح الشعب الذي رفعت إلى عرشه، تدفعه في ذلك الطريق بعنف فاصدر طائفة من القوانين الاجتماعيةالجديدة ترى إلى تحرير المرأة وسفورها، والغاء تعدد الزوجات، ورفع سن الزواج، والزام الافغانيين بلبس القبعة والثياب الاوربية على نحو ما فعل مصطفى كمال بالترك، وأرسل إلى أوربا بعوثاً من الشباب والفتيات ليعلموا في معاهدها. وكان الشعب الافغاني يشهد هذا الانقلاب في دهشة وروعة ولا يكاد يصدق أنه المقصود بهذه الاجراءات، وفي افغانستان أمة قديمة تغلب فيها البداوة، ولم تخرج بعد من غامر القرون الوسطى، وللتقاليد الدينية والاجتماية فيها ايما هيبة ورسوخ، فوقعت هذه السياسة الجريئة في الشعب الافغاني وقع الصاعقة، وثار سخطه لهذا الاجتراء على تقاليد القرون، وقابل زعماء الدين والقبائل تلك المحااولة لسحق سلطانهم القديم بمنتهي الانكار والمقاومة، ولم تمض أشهر قلائل حتى سرى ضرام الثورة إلى ذلك الشعب المضطرم المتأهب ابداً للثورة وتحطيم أية سلطة مطلقة تحاول ارغامه على ما لا يرضى.

نشبت الثورة بسرعة لأسباب وعوامل لم تتضح تماماً. ولا ريب أن تطرف الملك أمان الله في تطبيق برنامجه الاصلاحي كان عاملاً هاماً في نشوبها بين القبائل الاقطاعية القوية التي أدركت خطر السياسة الجديدة على نفوذها واستقلالها المحلى، ولكنه لم يكن كل شيء، فقد نشبت الثورة بادئ بدئ في الولايات الشرقية المجاورة للسند، ولا سيما منطقة جلال أباد، وهي منطقة يسود فيها النفوذ البريطاني، ثم امتدت بسرعة مدهشة برغم ما بذله أمان الله لحصرها واخمادها. وقد كانت السياسة البريطانية تأخذ دائماً على أمان الله تأثره بنفوذ

ص: 15

السوفييت ومحالفته إياهم، وترى في زيارته لموسكو وتقوية صلاته بالسوفييت تحدياً لا تحمد عواقبه. وللسياسة البريطاينة دائماً أثرها في تطورات أفغانستان الحاسمة، والمرجح انها لم تكن بعيدة عن ذلك الانفجار الذي فوجئ به أمان الله وكان خطراً على عرشه وشخصه. وقد استطاع أمان الله أن يهزم الثوار بادئ بدء، واعتقد مدى لحظة أنه سيد الموقف، ولكن الحوادث تفاقمت بسرعة وامتدت الثورة إلى الجيش، وزحف الثوار على العاصمة الأفغانية، فبعث الملك بزوجه وأسرته إلى قندهار، وفر الأجانب من كابول على متن طيارات بريطانية أرسلت من الهند، وحاول أمان الله عبثاً أن يهدئ الثورة بالغاء القوانين الجديدة التي أصدرها، فلما رأى أنه فقد كل أمل في الاحتفاظ بعرشه وسلطانه، نزل عن العرش لأخيه الأكبر عناية الله، وفي صعب، ولم يجرؤ على مواجهة الحوادث، فغادر بدوره ذلك العرش الخطر وفر ناجياً بنفسه، ودخل الزعيم الثائر باشه السقا كابول ظافراً، وتربع على العرش باسم حبيب الله. (أوائل سنة 1929) ولما رأى أمان الله تطور الحوادث على هذا النحو عاد فاسترد تنازله. وجمع فلوله وحاول السير إلى كابول، ووقعت بينه وبين خصومه معارك عديدة انتهت بهزيمته، فانسحب من الميدان أخيراً وفر مع زوجه وأسرته في مايو سنة 1929 عن طريق الهند، ثم جاز إلى أوربا منفياً طريداً، واستقر برومه، يرقبت مجرى الحوادث في أفغانستان، ونسمع صوته كلما اضطرمت أفغانستان بحادث جديد. وكان آخر العهد بتصريحاته في أوائل نوفمبر الماضي، حينما قتل المرحوم نادر شاه، فقد صرح يومئذ لبعض الصحف الكبرى أنه لا يتأخر عن العودة إلى أفغانستان، وتبوئ العرش إذا دعاه الشعب الأفغاني، ولكن الشعب الأفغاني لم يقم بمثل هذه الدعوة، وقد تبوأ ظاهر شاه ولد الملك القتيل العرش غداة مقتل أبيه.

(لها بقية)

محمد عبد الله عنان

ص: 16

‌من هم اخوان الصفا؟

للأستاذ أديب عباسي

أصل التسمية - نشأة الجميعة - طبقاتها - تأثيرها - رأي الناس فيها - رسائل الاخوان اجمالا

قد أظهر كولد زهير ان (أخا الصفا) تعني - حسب الاصطلاح العربي - يا أخا المروءة ويا أخا العرب، وهكذا لا تكون لعبارة (اخوان الصفا) أية دلالة أو نسبة إلى أخوية من الاخويات على نحو ما يفهم من الاخوية حسب الاصطلاح الحديث. على أن (دي فو) في كتابه ' يتساءل هل لهذا الاسم علاقة بكلمة فيلسوف كما ترد في اصطلاح الفيثاغوريين ويقول: ان كلمة (أخ) تقابل الشطر الأول من لفظ (الفلسفة)(فيلو) وكلمة (الصفا) تقابل معنى ومبنى الشطر الثاني منها (صوفي) وعليه يكون معنى الاسم محبي الحكمة.

هذا عرض موجز لرأيين مختلفين في أصل تسمية الاخوان هذا الاسم لمستشرقين غربيين. وثم رأي آخر لاخوان الصفا أنفسهم في أصل هذه التسمية لا نعتقد أن باحثاً من الباحثين فطن اليه أو تنبه له، فقد جاء في الجزء الرابع من رسائل الاخوان (ص 373) ما يأتي: -

(وانما سمينا رسالتنا هذه رسالة السحر ليستدل اخواننا على الأسرار الخفية وليكونوا إذا بلغوا معالي العلوم ذوى غنى عن الحاجة إلى من سواهم في جميع ما يحتاجون اليه من أمر معيشة الدنيا. فاذا وصلوا إلى هذه المرتبة صح لنا أن نسميهم باخوان الصفا. واعلم يا أخي ان حقيقة هذا الاسم هي الخاصة الموجودة في المستحقين له بالحقيقة لا على طريق المجاز). ويقول أيضاً (ج: 4 ص373 - 74): -

(واعلم يا أخي أنه لا سبيل إلى صفا النفس إلا بعد بلوغها إلى حد الطمأنينة في الدين والدنيا جميعاً. وهو أن يعرف الانسان بحسب قدرته توحيد الله جل جلاله. . . وبعد ذلك ما يكون به صلاح معيشة الدنيا والغناء فيها عن الحاجة إلى من عدم هذه الصناعة. ومن لا يكون كذلك فليس هو من أهل الصفا. لانه لو كان من أهل الصفا لكان بصفائه عمن دونه الغناء).

لنا من جميع ما تقدم إن (إخوان الصفا) كما يعرفون أنفسهم - هم هؤلاء الذين حذقوا علوم

ص: 17

الدين والدنيا معاً واستغنوا بها عن الحاجة إلى من سواهم

وأخيراً نود ان نشير إلى رأي أورده المستشرق كولو نلينو في كتابه (علم الفلك عند العرب في القرون الوسطى) يفسر فيه معنى هذه التسمية بالرجوع إلى عبارة وردت في اول باب (الحمامة المطوقة) من كليلة ودمنة. على اننا لدى رجوعنا إلى القطعة من الرسائل: ص 53) لم يتبين لنا أن حادثة الحمامة المطوقة كما وردت في كتاب كليلة ودمنة هي أصل التسمية. وذلك أن أخوان الصفا كعادتهم في التمثيل لكل فكرة - قد أوردوا هذه القصة لبيان فائدة التعاون فحسب. بيد أنه قد يكون في غير الموقع الذي يشير اليه المؤلف من الرسائل ما يقوي هذا الرأي، ولكن المؤلف لا يشير الا إلى ما تقدم

هذا وقد قامت جميعة اخوان الصفا حوالي سنة 373هـ. وكان مركزها العام مدينة البصرة وقد ذكر المؤرخون خمسة بالاسم من أعضاء هذه الجمعية وهم: ابو سليمان محمد بن مشعر البيستي ويعرف (بالمقدسي) وابو الحسن علي بن هارون الزنجاني وابو أحمد المهرجاني والعوفي وزيد بن رفاعة.

وكانت جماعة الأخوان تتالف من اربع طبقات: الطبقة الأولى وتتالف من الاحداث الذين تتراوح أعمارهم بين الخامسة عشرة والثلاثين. ويفرض على افراد هذه الطبقة الطاعة التامة واسلاس القياد لرؤسائهم ومعلميهم. والطبقة الثانية تتراوح اعمار افرادها بين الثلاثين والاربعين. ويسمح لهؤلاء بالاطلاع على العلوم الدنيوية دون العلوم الدينية. ثم الطبقة الثالثة واعمار الداخليها تقع بين الاربعين والخمسين. وهؤلاء يسمح لهم بالاطلاع على شرائع العالم المقدسة، أما الطبقة الرابعة فأعضاؤها يكونون ممن اربت سنهم على الخمسين. ويسمح لهم في هذه الطبقة بالوقوف على سر الأشياء الصحيح والنفوذ إلى لباب المسائل كما يتسنى ذلك للملائكة. غير انه ليس لدينا ما يثبت ان اخوان الصفا راعوا هذه التقسمة مراعاة دقيقة، فلم يسمحوا لهذه الطبقات ان يتداخل بعضها ببعض

وقد اوجب القائمون بانشاء هذه الجمعية ان يكون لأخوان الصفا (حيث كانوا من البلاد مجلس خاص يجتمعون فيه في أوقات معلومة لا يداخلهم فيه غيرهم، يتذكرون فيه علومهم ويتحاورون اسرارهم، كذلك اوجبوا ان تكون مذاكراتهم - على قدر ما يستطيعون في علم النفس والحاس والمحسوس والنظر في الكتب الألهية والعلوم الرياضية وهي العدد

ص: 18

والهندسة والتنجيم والتاليف (يقصد تأليف النسب الموسيقية)

وكانوا يحتاطون ما امكنهم الاحتياط في اختيار الأعضاء الجدد: فلم يكن يسمح لأحد بالدخول في هذه الجمعية الا إذا كان ناصع الصحيفة لا غبار على أخلاقة ولا ريبة في سلوكه، وكانت اجتماعاتهم تعقد سراً في بيت رئيسهم زيد بن رفاعة.

أما غاية أخوان الصفا فيلخصها ابو حيان التوحيدي بقوله: - (وكانت هذه العصابة قد تألفت بالعشرة، وتصافت بالصداقة، واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة، فوضعوا بينهم مذهباً زعموا انهم قربوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله. وزعموا انه متى انتظمت الفلسفة الاجتهادية اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال)

هذا هو ظاهر الغرض من تأليف هذه الجمعية والدعاية لها ولكننا نعتقد ان وراء هذا الغرض اغراضاً أخرى نحن مبينوها فيما بعد في فصل خاص

أما تأثير هذه الجمعية فقد اقتصر بوجه عام على العامة وأشباه العامة. والظاهر أن أخوان الصفا لم يكونوا يطمعون في أكثر من ذلك. وهم - لذلك - قد وضعوا رسائلهم بلغة بسيطة سهلة بعيدة عن الاعتياص والغموض اللذين يرافقان عادة الكتابات الفلسفية، ومما توسلوا به لتقريب مذهبهم إلى افهام الجمهور اكثارهم من ضرب الأمثال وسرد الحكايات. فكان ذلك كله مقروناً إلى بساطة التعبير وجلاء العبارة، داعياً إلى تهافت العامة على دراستها وان جاء ذلك بعد حين من تأليفها. أما الطبقات الراقية فلم تر في هذه الرسائل ما يروي الغلة أو يملأ الفراغ الذي كان تحسه النفوس إلى الفلسفة في جميع فروعها أنئذ، واليك ما يصفها به أحد المعاصرين وهو أبو سليمان المنطقي قال: -

(وحشوا هذه الرسائل بالكلمات الدينية والامثال الشرعية والحروف المحتملة والطرق المموهة. وهي مبثوثة من كل فن بلا أشباع ولا كفاية. وفيها خرافات وتلفيقات، فنصبوا ما أغنوا، وغنوا وما أطربوا، ونسجوا فهلهلوا، ومشطوا ففلفوا. وبالجملة فهي مقالات مشوقات غير مستقصاة ولا ظاهرة الأدلة والاحتجاج)(تاريخ مختصر الدول لأبي الفرج ص: 309)

ورأى الغزالي في هذه الرسائل لا يخرج عن معنى ما تقدم فهو يقول: -

(. . . فلو فتحنا هذا الباب وتطرقنا إلى أن يهجر كل حق سبق اليه خاطر مبطل لزمنا أن

ص: 19

نهجر كثيراً من الحق، ولزمنا أن نهجر كثيراً من آيات القرآن. . . لأن صاحب كتاب اخوان الصفا أوردها في كتابه مستشهداً بها ومستدرجاً قلوب الحمقى بواسطتها إلى باطله (المنقذ من الضلال ص 27)

من هنا لا نرى ما يراه (لان بول) من أن هذه الرسائل كانت تمثل الفلسفة العربية حين ألفت أصدق تمثيل، فان كتاباً يكتب بلغة شبيهة بالعامية وللعامة، ويصفه أبو سليمان المنطقي والغزالي بما وصفاه، لا يمكن أن يكون ممثلا للفلسفة العربية في ذلك العصر ورسائل اخوان الصفا هذه تبلغ واحدة وخميسن رسالة عدا الرسالة الجامعة. والشك يحوم حول مؤلفيها. فمن قائل أنها من تأليف جعفر الصادق، ومن قائل أنها من كلام بعض متكلمي المعتزلة، ولكن السائد اليوم هو أن كتابات زيد بن رفاعة كانت نواة هذه الرسائل. والأربعة الذين يذكرون معه كانوا يساعدونه في التأليف وانضاج الرأي. وقد كان لتأليف الرسائل على هذا النحو من التعاون أثر كبير في اسلوبها واختلاف قيم اجزائها، فهي في مواطن قوية الفن غزيرة المادة، وفي مواطن اخرى مهلهلة الأسلوب سطحية المباحث. وهذا التباين الملحوظ في مراد هذه الرسائل يثبت لنا أن مؤلفيها كانوا على تفاوت في ثقافتهم.

على ان من هذه الرسائل ما انفرد بكتابته شخص واحد من هذه الجماعة دون غيره. ومن هذه الرسائل رسالة الحيوان. فاطراد الافكار وتسلسل المعاني، ووحدة السياق التي تلحظ في هذه الرسالة يجعلنا نميل إلى الاعتقاد بأنها لكاتب فذ منهم. وهذه الرسالة في رأينا - هي أقوى هذه الرسائل واعلاها نفساً وأسدها منطقاً، وقد عرضت هذا الرأي على الأب انسطاس الكرملي منذ سنوات فجاءني منه حينها ما يلي: -

(رسالة الحيوان هي - كما تقول - لكاتب واحد منهم اقواهم عبارة واصفاهم فكراً واحسنهم منطقاً. لكن الظاهر ان بعض الأخوان نظروا فيها واحكموا تنفسيقها، واظهروا فيها حذقهم) وحضرة الأب - على ما أفهمني - يدرس رسائل أخوان الصفا منذ سنة 1917

ولعل الغرض الخاص الذي ألفت من أجله هذه الرسالة كان انتقاد المجتمع اذ ذاك على لسان الحيوان كما فعل بعض أدباء الغرب في عصور التضييق على الحريات الفكرية. فأخوان الصفا في هذه الرسالة ينطقون الحيوان بما لا يستطيعون الجهر به من عبارات

ص: 20

كلها تقريع للحكام ورجال الدين والقضاء في ذلك العصر (انظر ص 154 - 55، 233 - 34)

أما المصادر التي استقى منها إخوان الصفا فهي عديدة ومتنوعة، وذلك انه لم يكن يمنعهم عن النقل من أي مذهب أو دين أو فلسفة مانع، كانوا يرون أن في كل مذهب أو دين أو فلسفة قسطاً من الحقيقة؛ وإذن ليس ثمة مانع من الانتفاع به أقصى ما يكمن الانتفاع. وعلى هذه المبدأ يبنى فلسفتهم الانتخابية. في هذه الرسائل من الافلاطونية الحديثة، وفيها من الفيثاغورثية، وفيها من مذهب وحدة الكون (البانثيزم) وفيها من أفلاطون وأرسطو، وفيها من الديانات الهندية والزردشتية واليهودية والمسيحية.

شرق الاردن

أديب عباسي

ص: 21

‌حجاج الخضري

للاستاذ محمد فريد أبو حديد

قد تكلم المتكلمون في وصف أهل مصر فأكثروا في وصفهم من المبالغات، وذهبوا في التعميم مذاهب مختلفة، فمنهم من أغرق في المحدح حتى لم يترك فضيلة الا وصفهم بها، وهؤلاء قد غاب عنهم من وجه الحق مثل ما غاب عن الفريق الآخر الذي أغرق في الذم والتجريح. وقد تناول أفاضل كتاب الرسالة هذا المعنى فضربوا فيه بسهم.

ولعمري أنه لم يخطئ كاتب خطأ كتاب العربية قديماً إذا هم تناولوا قوماً بالوصف، فانهم إذا وقعت أنظارهم على جماعة أو عاشروا فئة من الناس وصفوها وصفاً يخيل إلى من يسمعه أو يقرؤه أنه وصف شامل لكل أهل البلد، أو أنه سمة ثابتة لكل الجنس، في حين أنهم إنما كانوا يصفونه من اتفق لهم الامتزاج به أو من ألفتهم الظروف في سبيلهم.

إن العالم الذي يحاول وصف الشعوب إنما يصل إلى حكمة على مميزات الشعب بعد أن يدقق في بحثه ويفحص من أفراد الجنس عدداً يستطيع بعد فحصه أن يقول بحق إنه قد عرف نسبة محترمة من أفراد ذلك الجنس، فاذا ما قال إنه رأى في ذلك الجنس صفة لازمة يشترك فيها الافراد جميعاً أو أغلبهم كان ذلك الحكم جديراً بالوثوق والتصديق. وشعب مصر إذا ذكره الذاكرون إنما يعني به شعب تلك الأرض الممتدة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، وليس من السهل على أحد أن يصف مثل ذلك الشعب بوصف شامل يعم أفراده جميعاً، أو يصدق على أغلبهم. فأمثال ابن خلدون والمقريزي ممن وصفوا أهل مصر إنما يصفون من رأوه من أهل الدولة أو من الأعيان أو من أهل العلم، وهؤلاء ان صدقت علهيم كلمة أو شملهم وصف لم يصح أن يكون وصفهم وصفاً لبعض الأمة فضلاً عن كلها. وذلك لان أغلب أهل هذه الطبقة في مصر لم يكن في تلك العصور من جرثومة البلاد وأبناء شعبها الصميمين، بل كانوا أخلاطاً من مشرق الأرض وغربها قد اجتمعوا فيها بين مجندين في جيشها أو غالبين على حكومتها أو مقربين في بلاط حكامها الاجانب، أو علماء يجمعهم الاسلام من كل الامصار والأقطار في صدره الرحب السمح.

ولقد أهمل مؤرخو مصر ذكر ابناء البلاد الصميمين اهمالا يكاد يكون ازدراء لهم واحتقاراً لشأنهم، إذ زعموا أن مهمة المؤرخ محصورة في حدود رجال الدولة وأهل الحكم ومن

ص: 22

يلحق بهم أو يطيف بأبوابهم من رجال الدين والعلم. غير أنا نجد بين حين وحين اسماً من اسماء الدهماء والعامة يذكره المؤرخ عفوا، وهو امل في نظرنا على صفة أهل مصر من تلك الأعلام العالية والاسماء الضخمة التي ملأ قدماء المؤرخين كتبهم بوصفها، وبنوا عليها أحكامهم لان تلك الاسماء المشهورة لم تكن في أغلب الاحوال من أهل وان كانت من أهل مصر، فهي غير جديدة بأن نتخذها أساساً للحكم على أهل مصر. واني ذاكر هنا اسماً من هذه الاسماء المتواضعة لعلي أبين من وصفه ان شعب مصر الحقيقي كان فيه رجال، وان البطولة كانت تسري في عروق عامته الذين لم يحظوا بتخليد التاريخ.

كان من أهل مصر في اول القرن التاسع عشر رجلاً متواضع الصناعة اسمه حجاج. وقد كانت صناعته بيع الخضر فكان اسمه يذكر دائماً مع اسم صناعته، فكان الجبرتي رحمه الله يذكره إذا ذكره بسام (حجاج الخضري)

وكان العصر الذي فيه حجاج عصراً فذاً في تاريخ مصر منذ عهد الفتح العربي الأول. فقد اعتاد اهل مصر منذ قرون طويلة ان يتركوا أمر السياسة والحكم والحرب لمن غلب على البلاد من الدول أو من الجماعات وتمادوا في ذلك الاعتياد حتى صارت عقيدتهم أن الحكم واجب على غيرهم، وان واجبهم الابتعاد عنه وعما يستلزمه من نضال ومغامرة. غير ان غزوة الفرنسيين هزت البلاد هزة عنيفة تصدعت لها العقائد الثابتة. فاذا بأهل مصر يرون الجنود الاجنبية تطرد جنود السلطان الذين اعتادوا الخضوع لحكمه وتشتت شمل المماليك الذين قضوا الاحقاب يتصرفون في أمور البلاد تصرفاً مطلقاً، فأصبحوا وجهاً لوجه أمام حالة جديدة لا تدعمها عقائدهم الاولى ولا عاداتهم الموروثة.

وبدأت روح أهل مصر تتنفس، وبدأت حواسهم تتنبه، فاذا بهم يثورون على الفرنسيين في شوارع القاهرة وأزقتها مرتين في مدى سنتين، وإذا هم يلقون اعداءهم المسلحين وهم لا يحملون الا الهراوي والحجارة، ويحتمون منهم وراء متاريسهم وخنادقهم يقيمونها في عرض الطرق وعند مداخل الميادين. وكان حجاج الخضري من زعماء تلك الثورة الشعبية وأبطالها، فيمز نفسه بقوة الجسم ورباطه الجأش وثبات الجنان، حتى صار أبناء البلد ينظرون اليه نظرهم إلى القائد المحبوب الموثوق به، يهرعون اليه عند الكوارث ويصرخون باسمه عند الهيعات. ثم خرج جيش الفرنسيين وعاد الحكم إلى السلطان

ص: 23

وولاته، ولكن مصر شهدت عقب ذلك أشد تطاحن على الحكم والسلطة بين الزعماء والهيئات، حتى انتهى الامر بتطلع مؤسس الدولة العلوية المجيدة إلى الملك.

انتهت هذه الاثناء زعامة الشعب المصري المتنبه إلى الزعيم الجليل السيد عمر مكرم، وهو الصديق الحميم لمحمد علي باشا، وكان حجاج هذا من صفوة أعوان وأشجع جنوده، فعندما تخاذلت جنود الاتراك عن نصر محمد علي باشا في نضاله مع منافسية قام السيد عمر مع أهل مصر الصميمين بحصار القلعة حتى اضطروا القائد المنافس إلى التسليم، وكانوا لا يرجون من جهادهم ذاك مالاً ولا عطاء، بل كانوا يرابطون ويحاصرون ويحاربون من أجل الوطن وحده. وكان حجاج الخضري أظهر الزعماء الشعبيين في هذا الوطن. قال الجبرتي في يومياته:

(فأرسل (أي السيد عمر مكرم) إلى من بالنواحي والجهات وأيقظهم وحذرهم فاستعدوا وانتظروا وراقبوا النواحي، فنظروا إلى ناحية القرافة فرأوا الجمال التي تحمل الذخيرة الواصلة من علي باشا إلى القلعة، ومعها أنفار من الخدم والعسكر وعدتهم ستون جملاً، فخرج عليهم حجاج الخضري ومن معه من أهالي الرميلة فضربوهم وحاربوهم وأخذوا منهم تلك الجمال)

واستمر نضال حجاج على رأس هؤلاء الجنود المصرين الخلص حتى تم الامر بانتصارهم وتوليه محمد علي باشا على مصر، وجاء فرمان السلطان مقرأ بالأمر الواقع، وعند ذلك خرج موكب النصر المصري وعلى رأسه قواده المظفرون: وقال الجبرتي في وصف ذلك:

(اجتمع الناس، وطرائف العامة، وخررجوا من آخر الليل، وهم بالاسلحة والعدد والطبول إلى خارج باب النصر. . . وكثير من الفقهاء العاملين رؤوس العصب، واهالي بولاق ومصر القديمة والنواحي والجهات. . . وكبيرهم حجاج الخضري وبيده سيف مسلول وكذلك ابن شمعة شيخ الجزارين وخلافه، ومعهم طبول وزمور والمدافع. . . إلى ان وصلوا إلى الازبكية فنزلوا بيت محمد علي باشا، وحضر المشايخ والاعيان وقرأوا المرسوم). وبذلك تم انتصار الشعب، واخذ يتطلع إلى الحكم والسياسة. وما كان ذلك ليرضى الجنود الاتراك الذين تعودوا ان يكونوا سادة غير منازعين. فلما انتهى النضال الكبير بدأ التنافس والتنازع بين أهل مصر وبين الجنود. وكان حجاج ممثل ذلك التنازع

ص: 24

والتنافس. قال الجبرتي في بعض يومياته بعد ذلك (وقع بين حجاج الخضري والعسكر مقاتلة جهة طيلون وقتل بينهم اشخاص) فرأى أهل الحكم أن يعودوا بذلك الشعب إلى هدوئه الأول، وسكينته القديمة، فبدأوا ينزعون منه السلاح بعد أن انقضت الحاجة إلى حمله. فغضب الناس لذلك حيناً، غير انهم أرغمو على الاذعان فأذعنوا. ولكن نفس حجاج الخضري لم تذعن بتلك السهولة بل قاوم وناضل وكابر. قال الجبرتي في وصف ذلك.

(وفيه بنى حجاج الخضري حائطاً وبوابة على الرميلة عند عرصات الغلة) ولكن ايستطيع فرد أن يقاوم دولة ولو كان من بناتها؟ لا، فان حجاجاً لم يستطع الا الهروب من القاهرة التي جال فيها تلك الجولات، ولجأ إلى جيش الالفي بك، وكان عند ذلك مرابطاً بجيشه يترقب الغرر، ويتحين الفرص، جاثماً طوراً عند إطفيح بالصعيد ومرة عند دمنهور بالبحيرة.

غير ان المقام لم يطلب لذلك البطل المصري في جيش الالفي بك وكيفل يطيب له المقام، وهو ابن البلد الصميم، يقيم بين جيش من المماليك يشمخون عليه بأنوفهم، وهو المعتز بكرامته الذي يرى نفسه مثيلاً وكفؤاً لهم؟ قال الجبرتي في وصف ذلك:

(وفيه أيضاً حضر حجاج الخضري الرميلاتي إلى مصر، وقد كان خرج من مصر بعد حادثة خورشيد باشا خوفاً من العسكر وذهب إلى بلدة بالمنوات. ثم ذهب عند الالفي، وأقام في معسكره إلى هذا الوقت، ثم ان الالفي طرده لنكتة حصلت منه، فرجع إلى بلده، وأرسل إلى السيد عمر مكرم فكتب له أماناً من الباشا، فحضر بذلك الأمان وقابل الباشا وخلع عليه ونادوا له في خطته بأنه على ما هو عليه من حرفته وصناعته ووجاهته بين اقرانه.)

غير أن نفسه لم تكن لترضى بعد ذلك بالبقاء في صفوف العامة الذين قضى عليهم أن يعودوا إلى انزوائهم واكتفائهم بالعيش العادي، فاختفى مرة أخرى من القاهرة، ولا ندري بعد ذلك له مقراً.

أقتله الجنود انتقاماً من كبريائه؟ أهرب إلى وطن غير مصر؟

لنسا ندري غير ما قاله الجبرتي (وفيه اختفى حجاج الخضري أيضاً بسبب ما داخله من الوهم والخوف من العسكر) اللهم ان في صفوف الابطال أفذاذاً لم يسمهم التاريخ ولمتعهم ذاكرة الأحفاد ليؤدوا اليهم ما يستحقون من الاجلال. . . ولئن كان حجاج الخضري أحد

ص: 25

هؤلاء، فقد حفظ لنا المؤرخ المصري اسمه في عرض حديثه، وهو يمر به مروراً سريعاً. غير أني أتجه إلى ذكراه بقلب خاشع تملؤه دعوات الترحم، وتتردد فيه أسمى عواطف الاجلال والتبجيل.

ألا يستطيع مصري أن يقول عند قراءة سيرة حجاج إن في المصري أنفة وعزة؟ وإن له نخوة وسطوة؟ وإن بين جنبيه همة وقوة. . .؟

محمد فريد أبو حديد

ص: 26

‌والبيئة أيضا.

. .

أما لهذا الليل من آخر. . .؟

للدكتور محمد عوض محمد

من الموضوعات التي لابد أن تمر بنا جميعاً - الموازنة بين الوراثة والبيئة. هذا الموضوع بمثابة المطية الذلول التي لا يتحرج أضعف الناس وأصغرهم من أن يمتطيها. ثم يخيل إليه الوهم أنه أضحى فارساً من كبار الفرسان! ولقد طالما نشاهد صغار الناشئين وقد جلسوا على المنابر. ووقف هذا لينتصر للوراثة ويراها كل شيء. وذلك لينتصر للبيئة ويدعى لها كل شيء، وقد لا يكون للمتكلمين بعد إلمام صحيح بعنى الوراثة او البيئة.

ولا بأس بهذه الأشياء، ما دام يراد بها العبث البريء، وتمرين الطلاب على الحوار. ولكن كلام الاحداث فيما يجهلونه قد يغدو ويا للاسف - عادة تلازمهم مدى الحياة. وقل أن يوجد بين الموضوعات ما يتطلب الدقة في الفهم، والتأني في الحكم كموضوع الوراثة اوالبيئة.

فأما الوراثة فيراد بها ما يرثه الناس عن آبائهم وأجدادهم من الصفات التي اختصت بها سلالتهم التي ينتمون اليها. فتأثير الوراثة هو تأثير الجنس والسلالة والقائلون بالوراثة يزعمون ان هذا الشعب راق لانه من جنس راق، والآخر منحط لان جنسه منحط. وأما البيئة فهي ما ينشأ بينه الانسان من أرض وسماء، وهواء وماء، وجبال وأنهار، وصحارى وبحار وما اليها. ولهذه في نظر القائلين بالبيئة الاثر الاكبر في رفع قوم وخفض قوم، واعزاز شعب واذلال آخر.

ولقد حاولت في كلمة سابقة ان أضرب بعض أمثلة للضلال الذي يخبط فيه كثير من الناس حين يتكلمون عن الاجناس في غير تدبر ولا حذر. وهممت ان أكتب كلمة ثانية لأضرب أمثلة أخرى للضلال الذي يخبط فيه الناس حين يتكلمون عن تأثير البيئة ثم جاءت كلمة الاستاذ حسن جلال فحفزتني إلى المضي في هذا السبيل ان في شرائع كثيرة من الدول ما يضمن مجازاة من يمارس الطب إذا لم يكن من أهل الطب، ولكن ليس في الشرائع - وياللاسف - ما يكفل معاقبة من يمارس التاريخ وليست له دراية بالتاريخ، أو يمارس الجغرافيا وليس له كبير المام بالجغرافيا، وهكذا الحال في كثير من فروع العلم. فاستطاع ان يقتحم هذه الميادين من ليست لديه العدة اللازمة لها وهكذا رأينا اناساً يحكمون بين

ص: 27

الاجناس ويرفعون جنساً على جنس، وسلالة فوق سلالة، دون ان يأخذوا العدة لمثل هذا الحكم بدراسة الشعوب والاجناس في كل مرة وفي كل زمن كذلك ما ينبغي لأحد أن يحكم في تأثير البيئة: في تأثير الهواء والماء والارض والسماء في أخلاق الناس وطباعهم، الا إذا درس كل بيئة على سطح الأرض، وقارن بين المتشابه وغير المتشابه، ووازن بين المتفق والمختلف، بحيث يستطيع أن يدرك ما إذا كانت البيئات المتشابهة قد أكتسبت أهلها خلالا متشابهة. وأن هذا التشابه سببه طبيعة الاقليم لا أي سبب آخر قد يكون خافياً.

ومع هذا فان الذين صناعتهم دراسة البيئات الطبيعية هم عادة أرهد الناس في اصدار تلك الأحكام القاسية الشاملة كأن يقال مثلاً: إن سكان هذه البلاد جبناء لأن أرضهم سهلة منبسطة! وسكان ذاك القطر بخلاء لأن بلادهم جبلية! وأهل هذا الاقليم بلهاء لأن هواءهم حار رطب؛ وأولئك كذابون حانثون لان مناخهم متقلب لا يستقر على حال.

ان هذه الآراء لها للأسف صورة خلابة تسترعي الذهن وتلفت النظر. وفي عالم سكانه لا يلذلهم اجهاد الفكر وانعام النظر فيما يلقى اليهم من المتكلم - كثيرا ما تسير تلك الأحكام وتشتهر بين الناس وترسخ في؟؟؟؟؟؟؟ وقد لا يكون في بعض هذه الأحكام ضرر كبير ولكن الخطب المؤلم ما ذكره الاستاذ حسن جلال من أن أناساً يقال لهم أنتم اذلة لأن هواء بلادكم يقضي بهذا، وقد كتب عليكم الذل سرمدا إلى يوم القيامة، فيصدقون ما يقال لهم ويؤمنون به. مع انه ليس في العالم أمة إلا ويصح أن يقال لها مثل هذا الكلام في وقت من الأوقات.

كتب أحد الجغرافيين الامريكان، واسمه إلسودث هنتنجتن يصف تأثير الهواء في الناس فقال: إن المناخ الذي يلائم حياة الأنسان أكثر من سواه، ويساعد على النشط والجد والرقي في سلم الحضارة هو مناخ بلاد اليابان (في الجزء الجنوبي منها). وبعض جهات الجزر البريطانية ثم تكون ملاءمة كل إقليم آخر للانسان بقدر ما بينه وبين هذه الجهات من المشابهة.

هذا ما ذكره ذلك الكاتب الجغرافي العصري، ومن المفيد أن نقارن هذا الحكم بما ذكره ابن خلدون في مقدمته عن الأقاليم السبعة وملاءمتها للأنسان. وقد ذهب هذا الكاتب الاجتماعي العربي إلى أن الأقليم الرابع هو أطيب الاقاليم جميعاً، وأكثرها ملاءمة للعمران، وسكانه

ص: 28

أرقى حضارة من سكان سائر الأقاليم. أما ما يليه شمالاً وجنوباً فدونه منزلة، وما يلي ذلك اقل صلاحاً نظراً لشدة الحرارة أو لشدة البرودة. .

والاقليم الرابع الذي عناه ابن خلدون هو الواقع بين دائرتي العرض الثلاثين والاربعين. . . وفيه الاندلس وبلاد المغرب وايطاليا ومصر وسوريا والعراق وايران. وقد ذكر ابن خلدون صراحة أن الاقليم السادس قليل العمران. وهواؤه لا يبعث على الحضارة. مع ذلك ففي هذا الاقليم السادس بالذات يقع معظم بريطانيا العظمى علام يدل هذا كله؟

إنه يدل دلالة صريحة على أن كلا الكاتبين لم يبن حكمه على فهم صحيح لطبيعة الهواء وتأثيره في العمران. بل كل ما فعله أن نظر إلى العالم الذي يعيش فيه، والى الأفكار المختلفة التي نالت في عصره حظاً وافراً من الحضارة. وحكم بأن هواءها أحسن الأهوية، وأقليمها أطيب الأقاليم. رأى ابن خلدون أن العمران في عصره واقع في بلاد كلها في الاقليم الرابع، فحكم بأنه أكثر الاقاليم ملاءمة؛ ورأى هنتنجتون ان انكلتره واليابان في مقدمة دول العالم اليوم فحكم بأن هواء انكلترة خير هواء. ومتى أتيح للأقطار الاستوائية - أن تنهض قريباً أو بعيداً، فسيرى الناس ابن خلدون آخر ينادي بكل جرأة أن الأقطار الأستوائية، المغضوب عليها في الوقت الحاضر - هي أبدع وأزهى وأزهر الأقاليم ذات الحضارة والعمران.

ومن غريب أحكام ابن خلدون ما ذكره في حكمه على أهل السودان بأنهم موصوفون بالخفة وكثرة الطرب وحبهم للضحك بسبب حرارة الهواء، ولو بقى ابن خلدون إلى وقتنا هذا لأدهشه أن يعلم أن من أكثر الناس خفة وضحكاً الاسكيمو سكان الجهات القطبية! وشبيه بهذا ما ذكره المقريزي في حكمه على أهل مصر مما ذكره الاستاذ أحمد أمين: من أن البيئة المصرية قد أثرت تأثيراً سيئاً في كل ما بمصر من إنسان وحيوان. ومما ظنه حجة علينا أن الأسد لا يعيش في مصر. وهذا صحيح. ولو كان الأسد في مصر يوما من الأيام لكان العمران وحده كفيلا بابادته والقضاء عليه كله أبيد التمساح من نيل مصر. ولكن من يخبر المقريزي رحمه الله بأن بلاد الانكليز ليس فيها أسد، وليس فيها من الوحوش الضارية سوى الانسان. وكذلك الحال في الجزء المتمدن من أمريكا وفي معظم أوربا؟

تلك العبارة البادية السخف هي من فصل طويل للمقريزي مملوء بالعبارات الكثيرة في ذم

ص: 29

مصر وهوائها ومائها وأهلها وفي ذم اخلاقهم وأجسامهم وطبائعهم. . وكلها عبارات لا تزيد قوة على العبارة السالفة.

ولقد يجوز لكاتب أن ينقد أخلاق المصريين وأن يرميهم بصفات الضعف إن شاء، أو الجبن أو الانهماك في الشهوات. ولكن ليس لأحد ان يرجع شيئاً من هذا إلى طبيعة الأرض أو الماء أو الحراة. فيضل ويضل. وأولى بهؤلاء القضاة أن يبدأوا بدراسة لكل اقليم وطبيعة كل بلد من بلدان العالم إذن لعلموا أن كثيراً مما يتهم به أصل مصر - صدقاً أو كذباً - شائع فاش في أقاليم تختلف عن مصر كل الاختلاف، وهنالك أقاليم لا يقل هواؤها حرارة عن هواء مصر، وأرضها سهلة كارض مصر، تعيش فيها شعوب لا يشك أحد اليوم في رقيها وتفوقها.

ومن الأمثلة الشائعة في تأثير البيئة ما يقال من أن المناظر الطبيعية تخلق الشعراء وتوحي بالشعر والموسيقى. وقد زار أحد كتاب الامريكان بلدة ستراتفورد حيث ولد شكسبير، فصور له الخيال الجامح أن مثل هذه البيئة - والتي ليس لها في الواقع ما يميزها - هي الجديرة بأن توحي إلى رجل مثل شكسبير تلك الدرامات الخالدة، والقصائد الرائعة. . ولولا جهل هذا الأمريكاني لعلم أن شكسبير لم يقض في هذا الأقليم غير زمن الحداثة. ولم يكتب فيه شيئاً بل قضى معظم حياته في لندرة تلك البلدة المظلمة التي لا يمكن أن توحي من تلقاء نفسها بشيء جميل.

واذا سلمنا بأن المناظر الطبيعية الجميلة تثير الخيال وتبعث الشعر في النفوس، فاننا سنلاقي من غير شك صعوبة عظيمة في تعليل تلك الظاهرة الغريبة وهي قلة نبوغ الشعراء الفحول في سويسرة التي لا يضاهيها في أوروبا بلد في أنهارها الجارية، وجبالها الشامخة، ومناظرها الرائعة.

أليست الحقيقة اننا نتورط كثيراً، ونندفع في الاستدلال والاستنتاج، ونقضي بأحكام شاملة واسعة من غير حذر ولا تدبر، بل وأحياناً من غير فهم لما نريد الخوض فيه؟!

من الثقافة العربية القديمة

النار

ص: 30

عقد الجاحظ فصولا ممتعة على النيران، في نهاية الكتاب الرابع وبدء الخامس من الحيوان، ذكر فيها نيران العرب والعجم، فحدث أخبارها وأبدى آثارها وأشعارها

وإنا نتكلم الآن عن النار ونشوئها، فنورد قول طائفتين تختصمان فيها جمعناه من شتات، واختصرناه بعد افاضة.

النار

النار اسم للحر والضياء، فاذا قالوا أحرقت أو سخنت فانما الاحراق أو التسخين هو للحر، دون الضياء.

والحر جوهر صعاد كالضياء، وإنما يختلفان في الصعود لاختلاف جوهرهما، والضياء أحث صعودا لا يعلى. ألم تر إلى النار إذا أطفأناها من أتوان وجدنا أرضه وهواءه وما يلابسه حاراً، ولم نجده مضيئاً.

مستقر النار ونشوؤها:

النار التي تقدح من عودين أو حجرين أين تستقر؟ أهي في العودين كامنة تبرز بالقدح فهي من عناصر العود أو الحجر؟ أم تتراءى أنها خرجت منهما، والحق أنها ليست فيهما، بل تحدث من غير العود والحجر عند قدحهما - كلا الرأيين له فرقة تميل اليه وتؤيده بكل وسعها واليك أقوالهما:

نظرية الكمون:

يرى فريق أن النار كامنة في الحطب والحجر وغيره لأنها أحد عناصره، ويمنعها من الظهور البرد المضاد للحر والمكافئ له. فان نحن قوينا النار الكامنة إما بنار أخرى خارجية أو بتوهين البرد المانع كحك العودين اللذين يضعف البرد فيهما - ظهرت النار الكامنة، وتغلبت على البرد ونفته.

فالنار التي نراها هي نار العود تسعرت بعد كمونها، وانتصرت على مكافئتها. واعلم أن (احراقك للثوب والحطب والقطن، إنما هو خروج نيرانه منه ليست أن ناراً جاءت من مكان فعملت في الحطب، ولكن النار الكامنة في الحطب لم تكن تقوى على نفي المانع ضدها عنها فلما اتصلت بنار أخرى واشتدت منها قويتا جميعاً على نفي ذلك المانع. فما

ص: 31

زال تجزأ الحطب وتجفف وتهافت لمكان عملها فيه). (وإن من ينكر أن في الحجر ناراً كامنة، كمن ينكر الزيت في الزيتون، والدهن في السمسم، والدم في الانسان، ويقول بحدوث ذلك عند رؤية الانسان لها).

بل تتوسع هذه الفرقة في تطبيق نظريتها، فعندها أن حرارة الأيام ليست من الشمس، وإنما النيران الكامنة في العالم تظهر بتقوية الشمس لها وتغليبها على مانعها، بل تطفر من كمون الحرارة إلى كمون السم، فنتزعم أن في كل بدن سماً كامناً، له مانع يمنعه من ظهور أعراضه - وليس سم الأفعى الذي يتلف البدن - لأنه ليس يقتل متى مازج بدناً لا سم فيه؛ ولكن الذي يقتل السم الكامن في الأبدان، متى أعانه سم الأفعى وقواه على مانعه.

البراهين على كمون النار:

لو كانت العيدان كلها لا نار فيها، ما كان ظهورها في بعض العيدان أسرع منها في البعض الأخر؛ لكنها كانت كذلك - لأن مانعها أضعف في بعضها عن بعض، فيكون ظهور نيرانه أسرع، فالمرخ والعفار أفضل العيدان، كما أن الحجارة تختلف في الأسرار، وأكثرها ناراً حجر المرو - وقد تحتك عيدان الأشجار في الغياض فتلتهب النار - وقد تقدح النار من الساج إذا اختلط بعضه ببعض في السفينة عند تحريك الأمواج لها، ولذلك أعدوا الرجال يصبون عليه الماء صباً، ولم صار لبعض العيدان جمر باق، وبعضها له جمر سريع الانحلال، وبعضها لا جمر له؟ ولم صار البردي مع هشاشته ويبسه ورخاوته لا تعمل فيه النيران؟ فهل اختلفت تلك الا على قدر ما يكون فيها من النار وعلى قدر قوة الموانع وضعفها؟

ولا يسكت هذا الفريق دون أن يؤيد كلامه بآي الكتاب.

قال تعالى (أفرأيتم االنار التي تورون، أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون) تقول كيف قال (شجرتها) وليس في تلك الشجرة شيء وجوفها وجوف الطلق في ذلك سواء، وقدرة الله على أن يخلق النار عند مس الطلق كقدرته على أن يخلقها عند حك العود، وهل يريد سبحانه في هذا الموضع الا التعجيز من اجتماع الماء والنار؟ ويقول تعالى:(الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فاذا أنتم منه توقدون) فهل تجد لذكر الخضرة الدالة على الرطوبة معنى، الا ذلك التعجيز؟

ص: 32

نظرية الاستحالة

تنكر هذه الفرقة أن النار كامنة في العود، وكيف تكمن فيه وهي أعظم منه؟ ولا يجوز أن يكمن الكبير في الصغير، ولكن العود إذا احتك بالعود حمى العودان، وحمى من الهواء المحيط بهما الجزء الذي بينهما، ثم الذي يلي ذلك منهما، فاذا احتدم رق ثم جف ثم التهب، فانما النار هواء استحال.

والهواء في أصل جوهره جسم رقيق خوار، جيد القبول، سريع الأنقلاب، فالنار التي نراها اكثر من الحطف إنما هي ذلك الهواء المستحيل، وانطفاءها بطلان تلك الأعراض الحادثة للهواء. ينقلب الهواء إلى نار، لأن طبعه قريب منها، فالنار يابسة حارة، والهواء رطب حار، والماء رطب بارد. فالهواء وسط بين النار والماء يجمع بينهما، وقد ينقلب كل منها إلى ما يقاربه. فيجوز ان ينقلب الهواء ناراً، وينقلب الهواء ماء، ثم ينقلب الماء أرضاً، ولابد في الانقلاب من الترتيب والتدريج.

البراهين على انكار الكمون:

نرى براهين هذه الفئة سلبية، فهي تنكر الكمون باعتراضاتها على النظرية، وإن كانت لا تتقدم بحجج تؤيد الاستحالة، فترى المناظرة تنتقل إلى تأييد الكمون وإنكاره. تقول هذه في الانكار.

ان هذا الحر الذي رأيناه قد ظهر من الحطب، ولو كان كامناً فيه لكنا وجدناه بالمس كالجمر المتوقد، فان قلتم كان يمنعه برد مكافئ كامن مثله - فأين ذلك البرد؟

لا يخلو الحال من أمرين: إما بقى بعد الأحراق، وإما خرج عند الأحراق. فان كان باقياً في الرماد استلزم ان يكون الرماد أبرد من الثلج، وإن كان خرج مع الحر، وأخذ كل وجهته - فقد كان ينبغي له أن يخمد ويهلك مالاقاه، كما أحرق الحر وأذاب كل مالاقاه ولما وجدنا جميع أقام هذا الباب لم تتحقق، علمنا أن النار لم تكن كامنة في الحطب.

ونشعر بقيمة هذا الاعتراض، إذا لاحظنا قول الفريق الأول في أن النار تنفي المانع الذي هو البرد، ولم يقل تفنيه وتبطله - إذن فالبرد موجود عند الاحراق، يقع عليه أحد الفروض السابقة.

ص: 33

بعد هذا أخذت كل فرقة تنتصر لنفسها بنقض قول خصيمتها وإنا نمسك عند هذا المقدار.

احمد احمد التاجي

ص: 34

‌في محكمة التاريخ

الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي

هل غدر بأمته وخليفته؟

- 2 -

مناقشة المصادر

المصادر كما رأيت قسمان: قسم يبرئ الرجل مما نسب اليه، وآخر لا أقول يتهمه بالغدر والمخامرة، بل يلصق الخيانة به لصقاً دون تحرز او تشكك، ويمثل القسم الأول ابن الطقطقي وحده، ويمثل القسم الثاني ابو الفدا وابن الوردي والكتبي ابن خلدون ودحلان، فهؤلاء متفقون في الجوهر مختلفون في الاعراض. والآن أحو ل شطر انتباهي نحو ابن الطقطقي لأنه أول من كتب عن الحادث، ولأنه المؤرخ الأوحد الذي يحاول ان يبرئ ساحة الوزير من تلك التهمة الشنعاء، فيقول بصراحة إن ابن العلقمي لم يخامر، ويؤيد مدعاة باستبقاء هلاكو للوزير وتسليمه الأمر اليه بعد فتح بغداد، الا ان ما نعلمه من كلام ابن خلدون يدحض حجة ابن الطقطقي من حيث يؤيدها، فابن خلدون يذكر كما يذكر ابن الطقطقي أن هلاكو استبقى الوزير في دست الوزارة الا انه يزيد على ابن الطقطقي فيقول (والرتبة ساقطة عندهم فلم يكن قصارى أمره الا الكلام في الداخل والخرج متصرفا من تحت آخر أقرب إلى هلاكو منه) ثم لابن الطقطقي حجة أخرى براءة الوزير هي انه يستبعد على هلاكو ان يبقى على الوزير فيما لو كان الوزير غدر باستاذه، وهذا في الحقيقة استنتاج ضعيف جداً، يرده ما يقع تحت ابصارنا اليوم من استعانة المستعمرين بطبقة خاصة من الناس يسمونهم عادة بالمعتدلين، لكنهم في الحقيقة الخونة الخارجون على مبادئ الأمم النزاعة إلى استقلالها واستغلال مواهب ابنائها وماذا يضير هلاكو ان هو استبقى ابن العلقمي؟ وهل بلغ هلاكو من سموا النفس، وحب الصادقين والمخلصين تلك المنزلة التي تخوله ان يقتل من يخرج على هذه المبادئ، حتى ولو كان الخروج في مصلحة هلاكو؟؟ فعدم قتل هلاكو لابن العلقمي لا يؤخذ حجة على سلامة نيته في دولة المستعصم، بل على العكس من ذلك يمكن اعتباره كدليل إعلى إدانة الرجل وممالأته لاعداء الخلافة المتبرين.

ص: 35

ثم هناك أمر يسترعي الانتباه، وهذا الأمر هو تصدي ابن الطقطقي لنفي التهمة، وتصريحه بأن هنالك من يتهم الوزير بذلك. فهذا يؤيد المصادر الأخرى التي تقول بمخامرة الوزير، ذلك لأنها لم تختلق هذه التهمة اختلاقاً، فقد ذكرها من تقدمها لكن وجهته سلبية، وأعني به ابن الطقطقي، ولذا فانا أظن أنت عرض المؤرخ لنفي الاتهام له تفسيران إما أن يكون المؤرخ يعلم حقيقة أن هناك مخامرة، فعمد إلى نفيها اضلالاً لمن بعده، أو أن شائعات قوية راجت عن خيانة الوزير إن صدقا وإن كذبا، فتصدى صاحب الفخري لدحضها وتكذيبها لغاية في نفسه أو لغير غاية. وأنا أرجح أن تعرضه لهذا الموضوع كان سبباً في رواج تلك الشائعات. أما لأي الغايتين فلا أراني قادراً على تحديد ذلك، هذا من جهة، ومن جهة ثانية دعهنا نسلم بأمانة ابن الطقطقي وحرصه على الحقيقة وتباعده عن التشيع!!. . . الخ.

ها هنالك الا أن كل هذا ينقصه أمر مهم في النقد التاريخي، ذلك الأمر هو أن ابن الطقطقي ينقل لنا عن الوزير ما قاله أو حدثه به ابن أخت الوزير، وفي هذا كفاية لتقليل أهمية ما يرويه المؤرخ، ولا سيما في موضوع اتهامي له علاقته الشديدة بالشرف والشهامة، وهذان يهمان ابن الأخت بقدر ما يهمان خاله، فاي اعتبار بعد هذا يبقى لما يرويه ابن الطقطقي؟؟؟

أما ما يقوله ابن الوردي فهو في الحقيقة رد فعل لما يقوله ابن الطقطقي، فهذا يشتد في الدفاع عن الوزير، وذاك يشتد في اثبات الجريمة عليه، وقد ذهب الغلو بابن الوردي مذهباً شططا فخرج عن كياسة المؤرخ وحياده، وأنسته العاطفة الجامحة وظيفته والموقف الذي يجب أن يقفه كل مؤرخ، فنعت الرجل بالغوي ولعنه، وبخل عليه بالترحم الذي يستمطر عادة على العصاة والمجرمين، وقد ذكر أشياء لم يذكرها أحد ممن تقدمه ولا من تأخر عنه، فمع أنه ينقل عن ابي الفدا، فقد ذكر أموراً لم يذكرها أبو الفداء نفسه، وأهم هذه الأمور نص هذه الرسالة التي يزعم أن ابن العلقمي أرسلها إلى التتر وهي رسالة طويلة. وقد جئت على ذكرها فانا أشك في نص الرسالة وويلح على الشك حتى يميل بي إلى الجحود والانكار، وذلك لسببين: الأول انفراده بذكرها، والثاني أسلوب الرسالة والكفلة البادية في لهجتها ثم الجمع بين شعر من هنا وهناك لا رابطة بينه، ولا سيما الابيات التي تجعل الاتراك (ويريد بهم المغول وهذا يدل على تدقيق المؤرخ!) طلاب ثأر آل محمد، ثم أمره

ص: 36

هلاكو أن يتأول أول النجم وإيصاءه هلاكو بالحرص الذي ليس له معنى فلا أدري ما عسى الوزير يريد بحضه هلاكو على تأول النجم والحرص، والذي يزيد في غرابة هذه الرسالة هو استنهاض ابن العلقمي لهلاكو بذكر ما أصاب العترة العلوية والعصابة الهاشمية، وماذا يفهم هلاكو من هذا؟ فهو لم يكن شيعياً ليتأثر بهذه اللهجة الشيعية، ولا نعلم حقاً هل أسلم هلاكو أم بقى على وثنيته، فقصة موته ودفنه تؤيد أنه لم يسلم، أو إذا كان أسلم فأن الاسلام لم ينفذ إلى قراره نفسه، ولم يتأثر به التأثير الذي يعطف على الشيعة ويثير فيه عاطفة دينية تحفزه لمهاجمة بغداد، ثم ان دحلان يصف التتر وصفا لا يطابق روح الرسالة التي يذكرها ابن الوردي، فيقول دحلان (وكان ذهاب الخلافة بدخول التتر بغداد وهم قوم كفار خرجوا من الصين وتغلبوا على ممالك الاسلام وكانوا يقتلون الرجال والنساء والصبيان، ويأكلون كل شيء حتى الكلاب والحشرات، ولا يعرفون نكاحاً ولا يحرمون شيئاً، وكان ابتداء خروجهم في أول القرن السابع، وظهر امرهم في سنة سبع عشرة وستمائة على الامصار والمدائن والقرى، إلى ان استولوا على بغداد وازالوا خلافة بني العباس، فهل ترى بعد هذا ان في كتاب ابن العلقمي المزعوم ما يلائم طبائع قوم كهؤلاء، وهل فيه ما يستثير حماسهم؟ اني لا أرى شيئاً من ذلك، فلو جاء في الكتاب ما يتفق مع عقيلة اولئك البرابرة كذ كرغنى المملكة، وسهولة اقتحامها والى ما هنالك من مغريات، لكان في ذلك ما يدفعنا إلى الترجيح بأن هذا النص الذي يورده ابن الوردي قد يكون النص الحقيقي لكتاب الوزير إلى هلاكو ان صح ان الوزير ارسل كتاباً، اما وفحواه ما عرفنا فانا استبعد جداً ان يكون هذا النص صحيحاً، ثم هنالك اختلاف بين المصادر بشأن شخصية الرسول وكيفية الارسال، فابن الوردي يقول بأن الوزير ارسل أخاه، وصاحب القوات يذكران الوزير (تحيل إلى ان اخذ رجلا وحلق رأسه حلقاً بليغاً وكتب ما اراد عليه و. . .)، أما ابن خلدون فيذكر وصية أوصاها الوزير لصديقه ابن الصلايا صاحب اربل، ليستحث التتر على المسير إلى بغداد، وهذامعقول جداً، وليس فيه ما يدعو إلى التشدد في عدم احتماله أو تصديقه، ولا سيما ونحن نعلم ان ابن العلقمي لم يكن راضياً عن الدولة التي استبد بأمورها الدوادار ذلك السني المتشدد في سنيته، والحق انني مستريح لما يذكره ابن خلدون لأنه منطقي يستسيغ الاعقل قبوله، ولأن الرجل لم يظهر أقل تحيز أو

ص: 37

ميل وكذا أبو الفدا فقد ألفيته فيما كتبه شريفاً مترفعاً عن الهوى وليس هذا بالكثير على ذلك الملك المؤرخ. اما دحلان فيريد ان يقول لنا ان لمجيء التتر اسباباً كثيرة، من اعظمها رسالة الوزير لهلاكو ولكن ما يؤسف له انه لا يذكر سبباً واحداً من هذه الأسباب الكثيرة. أما أنا فلا أعتقد أن وصية الوزير ان ثبتت هي التي جاءت بالتتر وحدها، وإنما قد تكون عاملاً قوياً في تسهيل الاغارة على بغداد، وآسف أني لا أعرف الكافي عن تاريخ التتر ليتسنى لي تعداد بعض الاسباب التي حفزتهم لشن غارتهم الشعواء، واخيراً وبناء على ضعف حجة وكيل الدفاع ابن الطقطقي وتكانف بقية المصادر - على ادانة الوزير - أراني مضطراً اضطراراُ علمياً سليماً من الغاية، وبعيداً عن الهوى، ومبنياً على ما أوصلني اليه استقصائي أن أرجح غدر الوزير بدولته وخليفته متبعاً في ذلك ابن خلدون بأن ذلك وقع على يد ابن الصلايا الذي يظهر انه اتصل بالتتر فحسن لهم مهاجمة بغداد بشتى الطرق، وذلك بعد أن ضاق الوزير ذرعاً بالدوادار وولي العهد واشياعهما السنيين وبعد أن قاست الشيعة نكبات وويلات وفضائح في العرض وخسائر في المال أخرجت الوزير عن تعقله، وجعلته يتناسى كل شيء في سبيل الانتقام أولا وانقاذ الشيعيين ثانياً، فلم يجد امامه أوفق من الاستعانة بالمغول الذين لم تكن بغداد غريبة عن الاستعانة بهم، فقد سبق للخليفة العباسي أن استعان بجنكيز خان على شاه خوارزم، وقد أصاب بغداد من جراء استغاثة الوزير بهلاكو ما أصاب المشرق وبخارى يوم استعان الخليفة بجنكيز على الشاه.

فرحان شبيلات

الجامعة الامريكية (ببيروت)

ص: 38

‌3 - ابن قلاقس

532 -

567هـ (1138 - 1122م)

- 6 -

لابن قلاقس ديوان شعر يحدثل جامعه أول ما يحدثك أن هذا الشعر

ليس كل شعر ابن قلاقس، لأنه حذف منه ما لا يليق بهذا الشاعر من

غث القول وسخيفُه، وهي فكرة خاطئة تضر بتاريخ، ولا تفيده؛ إذ من

الخير لنا أن نرى جميع مظاهر التفكير للشاعر، سواء أكانت جيدة أم

غير جيدة، غير أننا اليوم وقد ذهب ذلك الشعر الضعيف، ليس لنا إلا

أن نتحدث عن هذا الشعر الذي بين أيدينا، وأهم ما يميزه خصائص

ثلاث: أولها الغرابة في كثير من الأحيان، تلك الغرابة التي تستدعي

منك مزيد العناية والاهتمام، فأنت إذ تقرأ شعره لا تقرأه مارا عليه أو

مسرعاً في تلاوته، ولكنك تقرأ محترساً منتبهاً، موجهاً كل همك إلى

تفهم ما يريده، وفهم ما يقصده؛ ولست أدعى أن ذلك محمدة في الشعر،

أو فضيلة بها يمتاز، ولكنني أزعم أن الذي أوقع شاعرنا فيها هو

غرامه الذي لا حد لله بالمحسنات اللفظية والجمالي البديعي، مما

يدعوك إلى أن تقرأ القصيدة مرة ومرة حتى تفهمها، وتدرك سر

معناها، على أنه لم يكن في كل شعره كذلك، بل هو في كثير من

الأحيان يترقرق عذوبة، ويسيل لينا ولطفاً، واستمع اليه يقول:

كان الشباب الغض ليـ

_ لا فاستنار الشيب فجرا

ولئن تقلب بي الزما

ص: 39

_ ن كما اشتهى: بطنا وظهرا

فيما قتلت صروفه

= وقتلته جلداً وخبراً

غاض الوفاء، وفاض ما

_ ء الغدر أنهاراً وغدراً

فانظر بعينك هل ترى

= عرفا، ولست تراه نكراً

خلق جرى من آدم

= في نسله، وهلم جرا

ومروعي بالبحر يحـ

_ سب أنني أرتاع بحرا

أو مادري أنيي بتسـ

_ هيل المصاعب منه أدري؟!

ثاني الخصائص التضمين والاقتباس، وهما إن دلا فانما يدلان على ثقافة واسعة، واطلاع على الشعر عظيم، وشاعرنا قد أخذ كثيراً من معاني السابقين وصاغها في شعره، فاذا أنت سمعت قوله:

والماء يكسب ما جرى

= طيباً ويخبث ما استقرا

وعاد إلى ذهك قول البديع: وهو الماء إذا طال مكثه، ظهر خبثه، وإذا سمعت قوله:

وبنقلة الدرر النفيـ

_ سة بدلت بالبحر نحرا

خطر ببالك قول صرد:

قلقل ركابك في الفلا

_ ودع الغواني للخدور

فمحالفو أوطانهم

ص: 40

= أمثال سكان القبور

لولا التنقل ما ارتقت

= درر البحور إلى النحور

بل هو يتعدى ذلك أحياناً إلى المعارضة، وقد استطعنا أن نعرف أنه قد أخذ من ابن الرومي وابن المعتز والمتنبي وغيرهم، وكان أكثر من عارضهم البحتري فهو قد عارضه في قصيدته السينية بتلك القصيدة التي يهنئ فيها بمولود ويقول:

كوكب لاح بين بدر وشمس

= فسرى بالسرور في كل نفس

وتشبهه به جعله يقع أحياناً في سوء التخلص الذي كان البحتري يقع فيه كثيراً كما شابهه أيضاً في الفخر بشعره والمغالاة في التحدث عن قوته وجماله، ولسنا ننسى بعد أقوال البحتريي مفاخراً بشعره بعد إلقاء قصيدته، وها هو ذا ابن قلاقس يقول عن شعره:

أين أمثال ما أقول؟. وقولي

= بات يقتاد شارد الأمثال

وهو قد عارض كذلك بعض قصائد جاهلية وأموية واقتبس منها، مثل قصيدة: قربا مربط النعامة مني، وقصيدة: حننت إلىي ريا، وغيرهما.

ثالثة الخصائص ولوع بالمحسنات اللفظية والجمال البديعي، وبخاصة الجناس والتورية، شأنه في ذلك شأن الشعراء المصريين واستمع إليه يقول:

أمنا في فنائكم الليالي

= فلا طرق الفناء لكم فناء

ويقول:

وكيف لا يحب القلب الذي فعلت

= يد الصبابة فيه فوق ما يجب

وكثيراً ما تسمعه يقول: حجاباً وحجاباً، أو إجلاء وإجلابا، أو إرغادا وإرغابا، كما كان له كذلك ولع خاص بالاستعارة المكنية التي يثبت فيها للشبه خاصة ولازماً للشبه به فكثيراً ما تسمع منه ثغر المزن، ووجنات الورد، وجبين الخطب، ومعاطف الطرب، وغير ذلك.

ص: 41

شعر شاعرنا جار على القوانين النحوية والصرفية لا يشذ عنها، ولا يخرج عليها، اللهم إذا استثنينا قطعة لهمزة الوصل أحياناً وأخذه بمذهب: وحملت زفرات الضحى، ذللك المذهب الذي يسكن عين جميع المؤنث السالم حينما تكون الفاء مفتوحة وهو لا يلجأ إلى ذلك إلا مضطراً مكرهاً، كما أنه لم يلجأ - وعلى الأقل في هذا الشعر الذي بين أيدينا - إلى أساليب العامة إلا في النادر الأٌل كقوله:

يبكى به الاقلام نفلا محرفا

= تموت معانيه عليه من الضحك

ويحسن بنا أن نقول: إن ابن قلاقس كان ينظر إلى الشعر نظرته إلى شيء يثير العاطفة، فالشعر ليس كاملاً مزخرفاً فحسب، ولكنه قول يثير في النفس عاطفة تدعو إما إلى الزهد في الدنيا أو الاقبال على لذتها وحسنها وجمالها.

أهم ما طرقه ابن قلاقس من الاغراض المدح، والغزل والوصف، والعتاب والرثاء والهجاء، وهي كلها من أنواع الشعر الغنائي الذي لا قصص فيه ولا تمثيل، ومدح شاعرنا أكثر هذه الأنواع وأوفرها قد أخذ بحظ من الجمال وحظ من الرقة، تقل فيه المغالاة والاغراق، وشاعرنا ينظر إلى شعر المدح نظرته إلى العقد الذي يربط محاسن الممدوح؛ وينظمها في قرن واحد، ولولا الشعر لظلت هذه المحاسن متفرقة غير مجتمعة، فهو يقول:

وما الشعر الا سلك منتثر العلا

= ينظم فيه درها المتبدد

ويقول:

إذا ما المجد لم يضبط بشعر

= فقد أضحى بمدرجة الضياع

غير أننا نتساءل: أكان شاعرنا يتكسب بشعره؟ وإذا كان فماذا كان نصيبه من ممدوحيه؟ أما أنه كان يتكسب بشعره فاننا نراه يقول

تأبى له الهمة أن

= أجعل شعري مكسبي

غير أننا بالرغم من ذلك البيت نكاد نوقن بأن شعره كان وسيلة من وسائل كسبه، يدلنا عليه

ص: 42

أولا تلك الرحلات التي رحلها في الشرق والغرب، ولا بضاعة معه الا شعره، وثانيا تلك القصائد التي فيها يقاضي ممدوحيه بالعطايا والهبات ويبدي لهم فيها فقره وحاجته، بل إن بعض قصائده تدل على أن بعض ممدوحيه قد جعل له راتباً يتقاضاه.

(لها بقية)

أحمد أحمد بدوي

ص: 43

‌من طرائف الشعر

عبرات منظومة

للأستاذ عبد العزيز البشري

أتى على الأستاذ البشري سبع وعشرون سنة لم يقل فيها بيت شعر، حتى فجعه الموت في صديقه الدكتور حلمي المنشاوي وهو في ريق شبابه ومشرق نبوغه، فرثاه بهذه القصيدة الباكية.

حلا الدمعُ بعدك والعيشُ مَرْ

فخطبك جلَّ عن المصطبر

وما خيرُ هذي الحياة وقد كنـ

ت ملء الفؤادِ ومِلء البصر

فان كان لابَّد من لُبثةٍ

فما هي إلا الدُّمَى والصور

وأما الهناء وأما النعيـ

مُ فذلك عفَّى عليه القدر

وهل كان يضح زَهرُ الربى

إذا لم يباكرْهُ فيها المطر؟

وما لذَّة السمع للسامعيـ

ن وما من حديثٍ ولا من سمر

ويا وَيحَ من أمعنوا في الفلا

ةِ إذا الليل جَنَّ وغاب القمر (

بنفسي هذا الفتى الأَرْيحـ

يُّ النجيب النجيد الأبيُّ الأبّر

جميل المحيَّا، نبيل الخلا

لِ، كريمُ الفعالِ، صدوقُ النظر

شديدُ الحياء، عظيمُ الوفاءِ

يرى الشرَّ شرَّ الهناتِ الكُبَر

أمين لغيب الصديق، نصيـ

حٌ رفيقُ المقالِ إذا ما حضر

له شيمةٌ كعبير الورود

ورُوحٌ كمثل نسيم السَحَر

جلا هذه النفس من صاغها

وطهرها من خبيث الوضر

وما كان يعلو الغبار السما

ء أو يسكن التُّربُ جوف الدُّرَر

أحلمي، رويدك ماذا جرى؟

تحدّث، فدأبكِ صدقُ الخير

لقد كنت نعم الفتى المرتجى

فديتك والأمل المدّخر

صليبَ القناة، خضيب الحصاة

رحيبَ الأناةِ عزيزَ النَفر

فتىَّ العزيمة ما تنثنى

ولو ذا دون المهام الحجر؟؟؟؟؟؟؟؟؟

بعيد المطالب، رحبَ المنى

وَصولَ الجهاد، دؤوب السَّهر

ص: 44

ترجِّى وترجىَ لجلىَّ الامور

فماذا دعاك لهذا السفَر؟

لكم صادَ فيك أبوك المنى

دراكا وصارعَ فيك الغيَر

وَضنِّ على الدهر أن يعتريك

بما يعتري العالمين الدَهر

ولو قد ترقرق ماءُ الحياة

لدَى المشتري مانى أوفَر

ولو كان يرضى الفدى مهجة

لشدّ على قلبه واعتصر

ولكن تغلب عزمُ الزمان

على عزمه والقضاءُ انتصر

أحافظُ، ذلك حكم الاله

وهل لامريٍ دونه من مفَرّ؟

فلم يبق إلا الرضى بِالقضا

أعانك من قد بلا واختبر

ص: 45

‌خيالة!

للشاعر الدمشقي انور العطار

خَيَالة للغابِرِ الدَّفِينِ

في ظلُمَات الأبد الجَبِينِ

تَحْسِرُ عن فؤادها الطَّعِينِ

تفيض بالدموع والأنينِ

تَطْفَحُ بالآمالِ والحنِينِ

جَبَّارَةٌ في جسَدٍ وهُونِ

مَفجُوعةٌ بالأمل الثَّمينِ

ليس لها في الكون مِنْ مُعين

يَرْثِى لها في الحالكات الجُونِ

ما انْتَابَها من دهرها الخَؤوُن

قد امْتَطَتْ أجنحةَ الظُّنونِ

فاستترَتْ فيها عن العيُونِ

ثم توَارت في دُجَى المَنونِ

سادِرَةً في ظلها الأمين

هادئةً تَنْعَمُ بالسكونِ

وصورةٍ لشاعرِ الغصوُنِ

أمْعَنَ في النُّوَاحِ والرَّنِينِ

لم تَمْحُهَا آلهة الجفونِ

مِنْ ساحِ قلبٍ وَجِعٍ ضَمينِ

مفجَّعِ الأحلامِ كلَّ حِينِ

فهل لِتِرْبِ الشَّجْوِ مِن خدَيِن

يقْبَلُ منه صفَقةَ الغَبِينِ

وخافقاً يَمُوجُ بالشجون

ومقْلةً فيَّاضةَ الشُّؤُونِ

هَدَّيِةٌ مِنْ شاعر مَحزُونِ؟

ص: 46

‌أعداء لا أضياف

للاستاذ فخري ابو السعود

أانا نقرِئُ القومَ السلاما

ويبغون العداوة والخصاما

ونكرمهم مجاملة وودا

ولم نر فيهُمُ الشيمَ الكراما

ونرعاهم بموطننا حُلولا

ولم يرعْوا لمواطننا ذماما

ونمنحهم قِرَى العربيِّ جوداً

قعوداً بين أظُهرِنا قيِاما

وقد أمسَتْ عُروبَتُنا لديهم

ونسبتنَا إلى الأَجواد ذاما

وندعوهم ضيوفاً في ذَرانا

لهم حقُّ النزيل إذا أقاما

وما للضيف حقُّ مِن مضيفٍ

إذا نبذ الحياَء والاحتشاما

ونزعمنا مُضيفيهمْ وهذىً

خديعةَ من تخادعَ أو تَعامى

هُمُ ساداتنا فيما ادْعَوْهُ

ولم نَكُ عِندَهم إلأ سَوَاما

أمهما تلقِ أوُربَّا بِرذْلٍ

إلى مصرٍ تطاوَل أو تَسامى؟

وندعوهم أُخوَّتَنا ونبغى

لِوُدِّ الشرق والغرب التئاما

وهم يَترفعون عُلا ونبْلاً

وقد شطروا الورى آراً وَساما

فمهلاً معشر الدُّخَلاء مهلا

إلامَ نسيخ كيدكمُ إلاما!

إلام نَرى الدخيلَ لمصر حرباً

وما تمسى له إلا سلاما؟

لكم منا غدٌ صعبٌ عصيبٌ

وإن نِلتم بِيوِمكُمُ المراما

فضوليُّون أنتم لا ضيوف

ثَقلْتم في منازلنا مُقاما

مَننتم أن مَنحتم شعبِ مصر

كِساءً أو شرابا أو طعاما

وما رُمتم بذلك غير مالٍ

حلالا نلتموهُ أو حراما

به أعليْتُمُ في مِصرَ دوراً

وأحرزتم بها الضيعَ الجِساما

ولم تَسعَوْا لها الا ابتدارا

إلى الفرَص السوانح واغتناما

زعمتم مالكم دمَ مِصر يحيا

به أبناؤها عاما فعاما

وما أموالكم إلا بلاءٌ

تسرَّبَ في دم الوادي سماما

وداء في مفاصله عياءٌ

مَشَى يبرى المفاصل والعظاما

ص: 47

مُصابُ النيل أنتم لو علمتم

وأوَّلُ راشقٍ فيه السهاما

ولولا كم لما أمسى أسيراً

مَهيضاً في الحوادث مستضاما

بنى مصرٍ! بغى اللؤماءُ بغياً

علَامَ نطيق بغيَهم علاما؟

هُمُ الأعداءُ لا الأضياف فينا

فلا نَخدعْ بمكذوب الأسامى

أخو الافرنْج إن تكرِمْهُ يشمخْ

عليك وان تقوِّمْهُ استقاما

يخال الجودَ في الأجواد ضعفاً

وأنىَّ شَامَ بارقةً ترامَى

فلا تنسَوْا مقالا من حكيمٍ

وقدِمْا أحكم العربُ الكلاما

يحذرُ مَن أراد ندًى وبراً

عواقبَ بِرِّهِ القومَ اللئاما

تجافَوْا من تجافىَ عن هوانا

ولا ترَعْوا لمصغرنا مقاما

أشِلّوا عن تجارتنا يديْهِمْ

فقد ملكوا بها منا الزماما

وقدُّوا عن معاصمنا امتيازاً

يُكبِّلنا به القوم اهتضاما

حبَوْناهم به أمس اختياراً

فغلُّونا به اليوْمَ التزاما

ولم أرَ مثله ذلا وعاراً

وعَبناً للعدالة واختراما

كانا ما تشرعنا وعنا

هُمُ قبسوا القضاء والاحتكاما

جزَوْنا عن قديم الفضل شراً

وجازَونْا عن الوُدَّ انتقاما

أذاقونا المَذَلَة في حمانا

وإن نَصمِت أذاقونا الحِمَاما

خداع الحياة

حَطَّمْتُ قِيثاري وعِفْتُ الهوى

وضِقت ذرعاً بالأماني العذابْ!

واعْتَضْتُ عن شدوِى بلحن الأسى

والشَّجْوُ يطَغى في ظلال الشبابْ!

وما مَلٍ أشرق، ضاحي السَّنا

مْضرَ الأفياء، رحْبَ الجنَابْ

ألمَّ بالرُّوحِ، كطيف الكرَر

لاحَ لعينٍ، ثم ولى وغابْ

والهَفَتى! إنَّ حياةَ الورى

حُلْمٌ عميقٌ مستفيض الشعاب

ولُمْعَةُ الآماال خَدَّاعةٌ

كخُلَّبِ البرقِ، يَشيها الكِذاب

يخالها المحزونُ ماء الحيا

فانْ دنا لم يُلْفِ غيرَ السَّرابْ

لا تَعشَقِ الدنيا وإنْ زانها

فيْئٌ ظليلٌ، وغصونٌ رِطابْ

ص: 48

لذَّاتها محفوفة بالأسى

وساحُها زاخرةٌ بالصِّعابْ

تغرِيكَ بالزُّخرُفِ، لكنها

تَسقيكَ سُمَّا في تمير الشَّراب

يا قلبُ قد أُصليِتَ حَرَّ الجوَي

وذقتَ في عيشك مُرَّ العّذاب

يا ليت شِعرِي هل تَلَذُّ الصِّبى

أم يَنتحيِك الموت نَضْرَ الاهِابْ؟

كمْ في الثرى من حدَثٍ رائعٍ

طوتْهُ كفُّ الدهر جمَّ الرِّغاب

وعاشقٍ، أحلامُهُ طَلْقةٌ

ثَوَى مَغيظَ القلبِ تحتَ التراب

كلَ مَشيدٍ من قصور المنى

مضطَّربُ الأُسِّ، وشيكُ الخرابْ

دمشق

حلمي اللحام

في مرقص مقنع. .

بنت السَّرِىِّ ذهبت

لمرقص مقّنع

تبحث فيه عن فتى

في مالها لم يطمع

حتى إذا ما ظفرت

بذي الحديث الممتع

ورقصا وشربا

نَخْب الزواج المزَمع

وظن أن نال المنى

(ذاك الغلام المدِّعى)

انتزع القناع عن

وجه كوجه الضفدع

فأدبرت مسرعة

فتاتنا في جزع

قائلة في حسرةٍ

يا ليته لم يرفع!

حسين شوقي

الى السيدة منيرة توفيق

أفصحت في شكاتها وأفاضت

عن جوى القلب في بديع النظيم

حرُةٌ عفَّة الازار تناجي

هاجر العش في بيان الحكيم

ايهذي الورقاء كفي عن الشجـ

ووعيشي بذكريات القديم

ص: 49

وانظميها روائعاً تملأ الكو

ن ففي الشعر راحة المكلوم

واملأي الوكر بهجة واستعيضي

بجمال الآداب خير نديم

وابلغي النجم بالأماني فما لليأ

س من مطمح خلال النجوم

أيها الطائر الذي هجر الوكـ

ر ولم يعن بالفؤاد الرؤوم

أجزاء العفاف يا صاح هجر

وجزاء الوفى عيش المضيم

منحتك الفؤاد ملكا حلالا

وحبتك الوفاء فعل الكريم

اسئمت النعيم ام شمت برقا

خلبا من عواذل وخصوم

لا تصخ يا أخيَّ سمعاً لقوم

ينفثون الشقاق نفث السموم

يبذرون الشقاء في منبت السع

د ويسقونه بماء الحميم

إن في زوجك الجمالَ جمال النف

س يسمو على جمال الأديم

وأرى وجهها ولم أحظ باللق

يا خلال السطور جد وسيم

ولقد خصهَّا الاله برأي

يا أخا الرأي في الحياة قويم

حبذا العيش في جوار مصون

ذات قول مهذَّب مستقيم

عُدْ اليها أخيَّ زوجاً عطوفاً

رحم الله كل قلب رحيم

عُدْ إلى زوجك الأمينة والْثِمْ

جبهة النُّبل والوفاء العظيم

قد أهابت وقد هجرت حماها

بك للعود للهناء القديم

فاحْبِهَا الحبَّ والوفاء وعيشا

في حمى السعد في صفاء النعيم

أحمد يحيى وصفي

واليها أيضاً

رقَّتْ برِقّتكِ الشمائلَ

وجمعتِ أشتات الفضائل

أدب وعلم ضُمِّنا

حِكَمَ الأواخر والأوائل

ظرْفٌ ولطفٌ أنسيا

ني سِحْرَ هاروت وبابل

لكِ من كمالكِ غنْيةٌ

عن قاطع وُدِّا وواصل

أولستِ مخلصة؟ فما

لكِ تأسفين على المخاتل؟!

ص: 50

لا تعجبي من ميله

فالدهر يا اختاه مائل

إن الألى شغلوه عن

ك لَبَيْن سافلة وسافل

لاطفتِهِ حتى استطا

ل فجرّبي معه التثاقل!

كل السعادة في الحيا

ة عقيلة في بيت عاقل

؟؟؟

محمد جاد الرب

ص: 51

‌صور مختارة من الشعر الرمزي

للأستاذ خليل هنداوي

جيفة

للشاعر الفرنسي بودلير

أتذكرين ما رأينا في صباح ذلك النهار الجميل في منعطف سبيل!؟

جيفة مطروحة فوق الحصا

صعد الساقان منها في الهواء

كفتاة سعرتها شهوة

نضحت منها جراثيم البلاء

كانها مسترسلة للمجون في ذلك الرقاد!

ناضية ثيابها عن جوف طافح بريح الفساد!

تبسط الشمس عليها نورها

لاذعا تنضجها قبل المساء

نثرت اوصالها ترجعها

بعد تفكيك عُراها، للفضاء!

زهرة فتحها برد الندى

هكذا تنظرها عين السماء

وهي اذ تنشق ما تبعثه

تنشق السمَّ زعافا والوباء

وللذباب حول هذا الجوف النتن دويٌ وطنين! والديدان تزحف في مساربه كالكتائب السوداء فائرة، او كالموجة القائمة تتقلب على هذه المزق المتناثرة.

موجة نازلة صاعدة

زفرة بين هبوط وارتقاء

حيث يحيا الجسم تكراراً بها

مبدعا منه جسوما من هباء!

والاجواء كانت تردد موسيقاها الغريبة، كخرير الماء الراكد، وعويل الريح الكئيبة، أو كترجيع الحبوب ترتل في المذراة الحانا متناسقة عجيبة، والأشكال كلها قد عفت وامحت رسومها لا يستطيع الفنان ان يعيدها سيرتها الاولى الا إذا اكمل نسجها وتأليفها بالذكرى

كلبة ترمقنا نافخه

شقيت فينا شقاء الضعفاء

ترصد الفرصة كي تنهشها

وترى في لحمها البالي شفاء

وغداً! يا نجمتي! يا منيتي!

يمسح الموت على هذا البهاء

عندما تغدين في جوف الثرى

جيفة تنثرها أيدي الفناء

تحت أعشاب وأزهار نمت

تخذت من جسمك الغض غذاء

ص: 52

حيث يمشي الدود في أحنائه

آكلا باللثم منها ما يشاء!

خاطبي الدود! وقولي للبلى

إنني أنقذت من حب عفاء

كنهىَ الساميِ الالهيِ الذي

ابداً يبقى قريناً للبقاء

ص: 53

‌عالم النسيان

للشاعر بول فدر

(السكر الأكبر)

(هل أناا يا خوس أوياان؟

أسكر باالفضاء، وأطفئ لهيب روحي؟؟؟ الليالي

ألا فلتجر السماء في، ولأمتزج أنا فيها، فاتحاً فمي لعالم الذي ترتعش كواكبه.

لقد قضى (بيرون ولامرتين وهيغو وشيللى، وهم سكارى بالفضاء والسماوات الساطعة بالنجوم.

لا يزال - هنالك - الفضاء، يجري حراً طليقاً، حملني اليه

دون أن تعصف بي النشوة،

لا أزال ظمآناً. . .)

(بول فدر)

لا تلمني إن نسيت الموعدا

أنا في النسيان أحيا أبدا

لو سرى النسيان في أوراحهم

لرأوا مثلي حياة رغدا. . .

كل شيء - غير نفسي - ثابت

لم تزعزعه أعاصير الغيَر

أي خطب لشموس خلدت؟

غير سخر من عذابات البشر

ما الذي يجديك إن قلت لنا؟

إنها واقفة، أو سائره

فعذابي في وجودي واحد

وعلى الروح تدور الدائره

أيها الخافق! قد أضنيتني:

ما الذيي يجديك نوح أو أسى؟

ناح من قبلك حتى صَمتوا

وتولوا كسحابات المسا

عابر تمحو له آثارَه

كلما خطط أمواجُ القدر

أنت تبغي أن تبِّقى أثراً

فماضِ! لا يبقى على الرمل أثر

أيها العابر! ما ذنبك أن

جاءك الشك وما ذنبي أنا؟

إن يكن كل يقين خادعاً

فاتبعني تعلن الشك هنا. . .

ص: 54

نبتغي الراحة في أفيائه

كيف نبغي راحة في قلق؟

ربة تصبغ أثواب الدجى

حيلة منها، بلون الشفق

عذلوا الذاهل عنإحساسه

لو دروا في أمره ما عذلوا

قل لهم! لو ذهلوا عن وعيهم

لاستطابوا عيشهم إذ ذهلوا

أسلموني لشعوري المبهمِ

أنا أحيا فيه بشعوري المبهم

أخبروا الليل بأن يغمرني

فهنائي في الظلام المظلم

في اعتزالي عالم أسكنه

وصلت أجزاءه أخيلتي

كم إله! ماله في يقظتي

أثر، سامرني في عزلتي؟

كلما أغمضتُ عيني انفتحت

لعيون النفس أكوان الأمل

كم رجاء كان يناى فدنا. . .

وحبيب كان يعصى فوصل. . .

كلما أطبقت جفني انبعثت

ذكرياتي مثل أشباح الدجحى

عانق الشك يقيني ضاحكا

والتقى اليأس صديقاً بالرجا

ص: 55

‌الغابة المفجوعة

للشاعر بودلير

(رسائل)

(الطبيعة هي معبد يضم دعائهم حية يخرج منها في بعض الاحيان كلمات مبهمة، يمر فيه الانسان بغابات من الرموز تنظر اليه نظرات أنيسة.

الطيوب والألوان والألحان تتجاوب كالاحداء الطويلة التي تمتزج بعيداً في وحدة عميقة مظلمة واسعة كالليل وكالضياء)

أزهار الشقاء

(بودلير)

بدَّل النهر هواه

إذ تولاه الضجر

قال يا (سلمى) تعالَىْ

أنا لا أهوى الشجر

قد مشى الجهم لديه

مثلما يمشي القمر

ليس للنهر اختيار

في الذي شاء القدر

هجر الطير مروعا

عشه بين الغصون

صاحِ! هل تسمع في الغاب سوى همس الكون؟

وشكاوى طرحتها

الآن عشاق البشر

عطلت فيها نجاوى

كل طير وزهر

وشجيرات تعرّت

بعد ذيَّاك البهاء

فهي لا ترجو حياة

بعد موت الأصدقاء

لا عصافير تغنى

لا ازاهير تفوزح

كل ما يلقاك منها

جسد من غير روح

ايها المقسم عهد الحب

ب في هذا المقام

احترم حزن ذويه

وامض عنهم بسلام

بين أيدينا زهور

قد مشى فيها الذبول

ص: 56

هل وقت عهد هواها؟

هل أتمت ما تقول؟

كل شيء فيه ذكرى

حيثما هبت تروع

هي أولى من هوانا

لو عرفنا بالخشوع

قل لمن تعطيك خداً

تجتني منه القبل

أعلى زهر ذوي تغ

رس أزهار الأمل؟

لحظة تاس فتنسى

بعدها ارماسها

وإذا الغابة تحيى

في الهوى أعراسها

وتناست كل صرف

مثلما تنسى الطيور

دائرات الدهر تجري

وهي نشوى بالسرور

حزنت يوما ولكن

نسيت احزانها

هل بامكان الفتى ين

سى الاسى نسيانها؟

إنما الانسان لو تع

لم اشقى الكائناتْ

ليته كالغاب لا يح

فظ تلك الذكريات

ليس ما في الكون الا

صورة من مظهري

ذكرتني بوجودي

وروت عن معشري

في غروب الشمس لغز

لرجاء يلتوي

في ذيول الزهر رمزٌ

لغرام ينطوي

كل شيء - فيه - يحيا

كالضمير المنفصل

فيَّ - ما اعظم روحي -

كل شيء يتصل

دير الزور

خليل هنداوي

ص: 57

‌العُلوم

مطالعات وأشتات:

ذكاء القردة

للدكتور احمد زكي

وكيل كلية العلوم

نبدـ بالتعريف - حضرتها قردة، مخلوقة من مخلوقات الله ولا تحقير لخلقه، ولدت في ليلة اسودّ أديمها بمقدار ما ابيضّ نجمها، وغاب نحسها وتراجع بؤسها، على حين حضر نعيمها وأقبلت بركتها، ليلة من تلك الليالي الاستوائية الجميلة في دَغَل من أدغال الكمرون الفرنسية على الشاطئ الغربي من القارة الأفريقية، وأصبح فتحت عينيها ترى وضح النهر لأول مرة، وأدبر النهار عن ليل ازدهرت نجومه فرفعت عينيها إلى

؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

في السنة الثالثة. وكانت وهي طفلة تحتضن كل من تلققى من معارفها، أما الآن فهي ترغب عن ذلك كثيراً وتطلب الاستقلال وتود أنت تسير وحدها وتتفقد ما حولها بنفسها، وتختبر الأشياء بيدها وعينها، الا أن هواها لا يستقر طويلاً على شيء واحد. وقد استقام عوده واعتدل قَوامها وزادت خُطاها ثباتاً واتزاناً. وكان شعرها يطول إلى جانبي رأسها حتى ليهبط دون ذقنها، أما الآن فقد قصر قصراً كبيراً. وكان جلد يديها ورجليها ووجهها قائماً فأخذ يتبقع بالسواد، وكانت صورتها الشمسية تخرج بيضاء وهي تخرج اليوم سوداء.

ومهما كان التغير في جسمها كبيراً فان التغير في عقلها وادراكها اكبر، فهي تستطيع الآن ان تسلي أصدقاءها بما تصنع، وتحبسهم الساعة والساعتين وهم مغتبطون؛ وهي كذلفك مغتبطة، كأنها تحس أنها بذلك تقيم الدليل على ان معشر الشمبازي لهم من الفطرة والذكاء حظ لا يقصِّر كثيراً عن حظ الانسان منهما.

كانت في أفريقيا لا تعرف القيد، ولكن بارتحالها عن تلك الأراضي الواسعة الطلقة، وبنزولها في باحة المدنية كثيرة الحدود، كثيرة الفروض، كثيرة القيود أصبح لابد من القيد.

ص: 58

فكان في أول الأمر من الكتان، ولكن التجربة دلت على قلة غَنائه لان ميمي كانت تطلق نفسها منه بالشد والعض، فابدل بسلسلة من الحديد من سلاسل الكلاب المعروفة وهذه لم تكن بأكثر كافية، فما لبثت ميمي أن فطنت إلى أن الشد الأقوى يفتح حلقاتها. فزاد سيدها الجديد سمكاً. فاتجه نظر صاحبتنا إلى الطوق، وكان تارة من حبل معقود وتارة من جلد مشدود، أما الحبل فقد عرفت بالمران كيف ترخي عُقدة ثمتتَبع ذلك بعضه حتى ينقطع، وأما الجلد فعرفت بالتجربة المتَدَهَة أن الريق يليّنه فكانت تبله وتشده وتمططه حتى يتسع فتخرج رأسها منه

وأفادها ذلك التفننَ في حل العُقَد حتى برعت في أساليبه. ربطوها إلى حبل طويل، وربطوا الحبل إلى سارية وعدقوه عندها عقَداً كثيرة، ثم أطاالوه بعد السارية إلى حيث لا يهتدي إلى طرفه الآخر. نظرتُ إلى العقدة الأولى في تأمل ولن تبلث أن هجمت عليها بأسنانها ويديها فأوسعتها سعة كبيرة ثم نفذت بجسمها منها رويداً رويداً. وأخذت تنظر إلى العقدة الثانية في تأمل جديد لم يطل كثيراً وفعلت بها كفعلتها الأولى، وهكذا حتى انحلت العقد جميعها عن السارية. ولما أعادوا عَقد الحبل حول السارية أعادت ميمي حله في نصف دقيقة وهي في غبطة من ذلك كبيرة وسرور بيِّن، والنظارة في مثل سرورها وغبطتها وحاولت مراراً ان تعقد عقدة في حبل بنفسها، ونجحت في ذلك مرات، الا أن طريقتها إلى ذلك كان يعوزها التهذيب فقد كان فيها التواء وتنكّب عن المقصد الأمَم والغرض القريب. فكانت في ذلك كالطفل الانساني يبلغ ما يريد ولكن في قليل من الرشاقة اللباقة

وميمي على صغرها قوية شديدة، فانثى الشمبانزي عند استكمال نمائها تَعدِل في القوة من الرجال الأشداء الثلاثة والاربعة. وصاحبتنا بلغت الثلث من نمائها الكامل، وفي اذرعها دقة، وفي طباعها رفق، قد يخاعانك في تقدير وقتها. جاء الشتاء فاحتبسوها في صندوق من الخشب المتين فأخذت تهز حيطانه في طلب الرياضة لبدنها، وأعجبها صوته على أرض البدروم فزادت في هزه بكل حولها، فكان لابد من تعزيز جوانبه، فلما لم ينفع ذلك علّقوا الصندوق من السقف بسلسلة فأخذت تؤرجحه حتى دنا من مصباح الكهرباء المعلق فأخذت به، فكان لابد من استدعاء الكهربائي لنقل موضعه. ونظرتْ فأبصرت عدّاد الغاز فزادت في التأرجح حتى بلغت الحائط وأمسكت بالخّزان فخلعته على متانته وثنت

ص: 59

الأنبوب، وكان إلى جانبه نار موقدة فحالت العناية دون انثقابه. ولما أعجزتها حوائط الصندوق أخذت تدفع سقفه حتى انفتح ففرّت منه. وأرادت ربه الدار أن تتلَفن إلى زوجها ولكن ميمي كانت قد عمدت إلى التلفون فانتزعت أسلاكه، وجاءت إلى سيدتها تحتضنها اغتباطاً وشكراً على انفكاكها. وذهبت إلى المطبخ فوجدت الخادم تغسل الصحون فأرادت عونها وتنقلت بينها برفق غريب فلم ينكسر منها شيء. وكان التليفون أثناء ذلك قد أُصلح فجاء رب البيت أمين المتحف على عجل فخطب رضاء ميمي وأطعمها ألواناً مستطاتبة رضيت بعدها ان تنفاد وتتقيد بعد انطلاق وكان لرب الدار أطفال، وكانت لهم درَاجات من ذات العجلات الثلاث يركبونها في ساحة البيت، فكانت ميمي تركب مع أحدهم وتمسك الدرّاجة فتوجهها يمنة ويسرة. وأرادت أن تركب الدراجة وحدها ولكن قصرت رجلاها عن بلوغ مواطئ الأقدام منها، فاشترى لها رب الدار دراجة على قدّها وأجلسها عليها فأمسكت مقابضها بيديها وأمسكت كذلك مواطئها برجليها، وهما كاليدين يقبضان على الأشياء، ولكنها لم تدر في بادئ الأمر كيف تدفع الدراجة بضغط موطئ واحد دون الآخر في الآن الواحد، ولكنها بالمران اليسير عرفت ذلك. وكانت تنسى فترفع قدميها إلى المقبضين فكان لابد من ربطهما إلى الموطئين، ولكنها عافت ذلك فكانت تهوى باليد اليهما لتحل الرباط فيصيح بهارب الدار عاتبا فتقلع. وأراد أن يعوّدها الاستقامة في السير، فكان يحمل في يده خوخة أو عنبة أو طعاماً تراه مختارا ويقف به بعيداً ثم يلّوح لها به وهي على الدراجة، فكانت في بادئ الأمر تنزل عنها فيعتب عليها فتعود إلى الركوب، وكان همّها أن تصل إلى الفاكهة من أقرب طريق فاستقام سيرها وكذلك طال. وأراد أن يعلمها كيف تنعطف فكان يلّوح لها بالثمرة حتى إذا قاربته انزاح يميناً فتمر بدراجتها في استقامة إلى جانبه فلا تنال الثمرة فتصرخ وتدمدم لهذا الخداع، ولم تفطن إلى تحريك المقابض إلى اليمين. فأتى بابنه يحركهما لها فعرفت ذلك، وحرصت على القوت الشهي المغري فتعلمت كيف تيمل

وكانت أحياناً يفوتها أن تنعطف فتصل بدراجتها إلى مأزق كحائط أو ركن فتمد رجلها تدفع الحائط فتبعد عنها قليلاً، ثم تُسيّر الدراجة إلى الأمام وهي تنعطف حتى تصل إلى موضع أخلص من الحائط، فتدفعها مرة أخرى فتبعد عنها وهكذا حتى تخلص من المأزق تماماً وقد نفذ صبرها. ولكنها تعلمت أن تنزل عن الدراجة فتحملها إلى الخلاص، فكانت تفعل ذلك

ص: 60

في سرعة الرقة كلما تأزّقت وهي غاضبة وكان يجتمع أطفال الجيران على دراجاته ويسيرون بها في الطريق صفاً يحملون الاعلام ويزأطون يوفرحون، فتتقدمهم ميمي على دراجتها تتعرّف لهم المسالك وهي مثلهم زائطفة فرحة مغتبطة حتى لتحسبها منهم لولا مظهرها

وكان أمين المتحف يصطحبها معه إلى مقر عمله في سيارته فكانت تتشبث باصطحاب دراجتها فلا تنزل عند باب المتحف حتى تخف اليها فتركبها داخل المتحف. وكان غرائبها انها كلما وصلت إلى طَبق الحديد الذي يغطى انابيب المجاري بأرض المتحف تترّجل حتما وتجرّ دراجتها عليه ثم تركبها بعد تخطيه مع انه في استواء الأرض لا يحسه الراكب وظهر منها هذا الشذوذ عينه لما سارت في الطابق الأعلى فانها كانت كلما صادفت في بلاط الارض صفاً اسود تخطته راجلة وكانت تأكل مع صاحبها في مطعم المتحف ظهراً فتسير اليه بالدراجة وتذهب إلى مكانها دون تلكع فيهيجها صوت الآكلين وقرع الصحون وشميم الاطبخة فتصرخ فيبتهج لصراخها أصدقاؤها الكثيرون من حولها. وتدور بعينيها تطلب حاملات الطعام فاذا بصرت بهن هزت جسمها سروراً وتلفظت بالرضاء، فاذا استقر الطعام أمامها رفعت شوكة أو ملعقة من ذات نفسها، وقد تخطئ فترفعها بيسارها فتنقلها إلى يمينها ولكن بعد امساكها بفمها. وهي تأكل البسائط، فتأكل الخبز والزبد واللبن والبطاطس والسبانخ والفول الأخضر والخس والطماطم والفواكه وشيئا من اللحم أحياناً، واختصاراً كل ما كان يأكله الناس. وهي تحب الحلوى كائنة ما كانت ساخنة أو مثلوجة وإذا انتهت من الطعام بسطت منديلها فمسحت به وجهها وتشرفت ميمي بدعوة من رئيس المتحف الأمريكي العام للتاريخ الطبيعي في وليمية رسمية كبرى، فذهبت في سيارة إلى بؤرة المدنية لأول مرة، فاخترقت الطرقات العظيمة على أضوائها الشديدة وزينات مسارحها الباهرة، في جو ملئ بنغم الاوتار ونفخ المزمار وأدخنة السجائر والسيجار وأبواق السيارات وضجيج الحجيج من أهل اللباس الأنيق والزِّيِّ الرشيق والذوق الرفيع. فأهاجت ميمي كل تلك المظاهر لاشك ولكنها صمّمت كأنما تفكر في موطنها الافريقي. وجاء أوان النزول من السيارة فخفَّت ميمي إلى درّاجتها وسارت بها عَبْر البهو إلى قاعة الطعام الكبرى فاتخذت مجلسها بين الضيوف، وجاءتها الصحفة بعد الصحفة. فأكلت بأدب من كل

ص: 61

لون. وجاء دور الكلام فأصغت كأنه تستمع للخطباء فلم تنبس بكلمة ولم تطرف بعين الا عندما جاء المصورون يصورونها على ضوء المغنسيوم فانها اخذت تَطْرِف لكل صورة حتى استتموا عشراً. وانتصفت الليل فانفض الجمع وهم معجبون بميمي. وقال قائل منهم ما إلى هذا الحد يبلغ الأطفال من الأدب والكمال

احمد زكي

ص: 62

‌البريد الأدبي

استقبال الكاتب الفرنسي جول رومان

في نادي القلم المصري

احتفل نادي القلم المصري في مأدبته إلى أقامها في مساء الاربعاء الماضي باستقبال الكاتب الفرنسي النابه جول رومان ضيف مصر والقى الدكتور طه حسين باسم نادي القلم هذه الكلمة تحية للكاتب الكبير

كلمة الدكتور طه حسين

سيداتي وسادتي:

سمعتم مني في المرة الماضية أني لا أحب الخطب في مثل هذه المجامع. وأني أوثر أن تكون مجامع حديث وسمر، وأن تكون مجامع نستريح فيها من عناء ما نتكلف أثناء النهار من الجد والبحث والقراءة والكتابة، وأوثر ان تكون هذه الاجتماعات كالساعات التي يظفر فيها الطلاب، بالراحة أثناء النهار، ولكني مضطر هذه الليلة إلى ان اتحدث اليكم قليلاً، وثقوا بأني لن اطيل. والذي يسرني ان اتحدث فيه اليكم، وواثق أنكم جميعاً تشاركوني فيه هو ان النادي - نادي القلم الذي أنشأناه - يظهر انه موفق، وان التوفيق قد كتب له منذ اجتماعاته الاولى فاذا ذكرتم اننا في اجتماعنا الماضي قد استقبلنا كاتباً من أكبر الكتاب الانكليز هو مستر هتشنسن وإذا لاحظتم اننا نستقبل الآن كاتباً من أكبر الكتاب الفرنسيين هو مسيو جول رومان عرفتم ووافقتموني على ان نادينا من حقه ان يتغبط بهذا البدء السعيد

واني لسعيد هذه الليلة بان أحيي ضيفنا تحية ملؤها الحب والاكبار. فالذين يقرأون كتبه لا يستطيعون إلا أن يتبينوا هذه العواطف القوية التي يثيرها في نفوسهم، وهي ليست الا عواطف محبة واكبار. فهو ليس من الكتاب الذين يبهرون الناس بحسن الفاظهم وروعة صياغتهم وإنما هو كاتب قبل كل شيء يصل إلى قلب القارئ. ويرفعه إلى ارقى ما يستطيع ان يرقى الانسان اليه من المثل الاعلى والكمال

والذين سمعوا منك محاضرتيه القيميتين في الليسيه والجمعية الجغرافية لا يستطيعون الا

ص: 63

أن يقدموا اليه تحية خالصة هي تحية العقل للعقل، وتحية القلب للقلب، فلاول مرة نستطيع ان نسمع في مصر بين المحاضرين الذين يفدون اليها من الخارج ما يرفعنا من هذه الحياة اليومية إلى حيث يستطيع العقل ان يستريح، والذين سمعوه قد ذكروا أن المحاضرات ليست ميداناً للمسابقة في السماع، بل هي أيضاً مكان يستطيع ان يلتقي فيه المفكرون بالمفكرين وان يتحدث فيه الانسان إلى الانسان بما تعانية الانسانية من الآلام

وأذا كنا نستقبله ونحييه الآن فانما نستقبله ونحييه ككاتب من أكبر كتاب فرنسا الذين يمثلون العقل الفرنسي الحديث والادب الفرنسي الحديث، ثم اني لا أستقبله بهذه الصفة وحدها وإنما استقبله باعتباره كاتباً انسانياً فيه كل مميزات العقل الفرنسي، وكل مميزات الكتاب الفرنسيين واليونانيين القدماء، ثم هو لا يمثل ذلك كله، وإنما يمثل المثل الاعلى للانسانية كلها

فاذا حييته الآن فأنما احيي فيه العقل الفرنسي من جهة والمثل الاعلى للادب الانساني من جهة أخرى. . .

نهض مسيو جول رومان والقى الكلمة الآتية:

كلمة مسيو جول رومان

سيداتي وسادتي، واسمحوا لي أيضاً أن أقول زملائي وإخواني الاعزاء

إني لسعيد بأن امثل بينكم هذا المساء، وأقول لكم كيف تأثرت بما حيا بي به الكتاب المصريون من الرعاية والحفاوة، وأعرب عن شكري للكتاب المصريينالذين عنوا باستقبالي. وطبيعي أن يستحق هذا الشكر كتاب مصر - فالكتاب في كل بلد هم أهل الشكر. ثم إني لسعيد بان أكون الليلة في قلب نادي القلم المصري، ذلك النادي الفتي، بل أحدث مراكز القلم في العالم سنا، انني عضو قديم في نادي القلم، وقد اشتركت في تاسيس النادي الفرنسي، وكنت دائماً مندوب فرنسا في جميع مؤتمرات القلم الدولية؛ ولقد شهت أخيراً كل ما يهدد مجمع القلم من الصعاب وخيبة الأمل، حتى لقد خيل الينا أن مجمع القلم سيقضي نحبه. وكنا في العام الماضي في مؤتمر القلم الدولي بمدينة راجوزا نتخبط في معترك من الآراء والأفكار المضطربة. اجل، كاد مجمع القلم يذهب في راجوزا ضحية المثل الأعلى. ولم تكن الآراء المضاربة تضطرم حول مهنة القلم ذاتها، ولكنها كانت آراء

ص: 64

إنسانية هامة رباه، إن هذا الموت لم يقع، ولكن حدث بتر ولعله بتر احتياطي؛ وسف يقوم المجمع من عثرته كرة أخرى، واني لانتهز هذه الفرصة لاقول لكم واذكركم بان العضوية في مجمع القلم تحتم بعض التعهدات نحو الانسانية عامة، أجل، لسنا كتاباً نتحدث عن مهنتنا فقط، ولسنا نريد الاجتماع للحديث والسمر فقط. بل نحن أيضاً رجال نخدم العقل والضمير ونعرف ما تفرضه علينا مهنتنا. وأبدع ما في مهنتنا أننا نقدم بعض الواجبات بعيداً عن مصالحنا الشخصية، ولما كنا خدام العقل فانا نتضافر على اداء الواجب ولا نعبأ بالأعتبارات السياسية ولا نخضع لحزب من الاحزاب، بل نحتفظ بالحق والواجب ولا نخضع لأي نظام سياسي لا يعترف بحق العقل والذهن، وكلما هدد المثل الأعلى وجب على أندية القلم في العاالم كله أن تثور على هذا الوعيد. إن سلطتنا ليست وهيمة؛ ولست أبالغ فأقول إننا نستطيع أن نقف البحر؛ ولكني أذكر لكم شيئاً مما حدث في راجوزا فقد تحدثنا عن سياسة الحكومة الالمانية في اضطهاد رجال الفكر، وتحدثنا من هذه المدينة الصغيرة بالتليفون مع المسئولين في المانيا عدة ساعات، واستطعنا أن نحمل الحكومة الالمانية على أن تخفف مسلكها نوعا ما وأن تمنع بعض الاعتداء على الفكر

سيداتي وسادتي: لست أعلم ما يخبئ المستقبل، فأنا نخاف كثيراً ونؤمل كثيراً، ولكي لست متفائلاً، فانا لم نخرج بعد من غمار الأزمة ونحن في غمر الصعاب، ولكني أعتقد وأكرر أن أعظم جريمة يرتكبها خدام العقل هي ان يعتقدوا في القدر الذي لا يخدم العقل، أجل إن أعظم جريمة نرتكبها هي أن ننحني أمام العاصفة فالخطر الذي نواجهه هو خطر انساني من علم الانسان، اراده ودبره الانسان، فنحن نستطيع ان نقاوم مقاومة انسانية، ويجب أن يعتمد علينا في كفاح هذه المصائب التي تهدد الانسانية وفينا نحن رجال الفكر والقلم تتمثل تلك القوة التي تحمي الانسانية من التدهو النهائي

واني لأرفع قدحي نخب مصر التي استقبلتني، ونخب فرنسا التي أمثلها كمندوب متواضع بل ونخب جول رومان

الاكاديمية الفرنسية والنساء

كانت وزارة المعارف الفرنسية قد رشحنت الكاتبة المعروفة مدام كوليت عضواً بالاكاديمية الفرنسية، ولكن بعض المغرضين لم ينضروا إلى هذا الترشيح بعين الارتياح، وحملوا على

ص: 65

الفكرة حملات شعواء في الصحف والمجلات الادبية مستنكرين منح مقاعد الاكاديمية للنساء في الوقت الذي يضن بها فيه على نوابغ الكتاب والشعراء مثال: جيد وستراتي وجوليان بندو وغيرهم

وقد انضم إلى هؤلاء الساخطين بعض الشيوخ من اعضاء الاكاديمية ممن لا يزالون يرون ان المرأة الفرنسية لم تصلح بعد للاشتراك في الهيئات النيابية او المجامع العلمية والأدبية الرسمية.

ازاء هذا المعارضة القوية، عدلت وزارة المعارف عن رأيها وقررت اخيراً منح هذا المقعد لفرنسوا مورياك الناقد والكاتب المسرحي المشهور، والذي سبق ان أخرجت له في مصر رواية (المسحور) على مسرح الاوبرا الملكية في عام 1924 ورواية (بلانشيت) على مسرح رمسيس.

وقد فكرت بعض الاديبات الفرنسيات في تأسيس أكاديمية للآداب والفنون تكون خاصة بالنساء فقط، وسوف يفتح باب الاشتراك فيها لجميع الكاتبات والصحفيات من الجنس اللطيف بدون تمييز بين الجنسيات والاديان.

انتحار روائية انجليزية

اشتهرت دورثي ادوارد الروائية الانجليزية بأقاصيصها الصغيرة التي كانت تودعها نظرياتها الخاصة عن الحياة العصرية، ونالت من وراء ذلك شهرة أدبية واسعة، خاصة في الولايات المتحدة، وطبع بعض رواياتها أكثر من مائة طبعة وذلك وهي لم تتجاوز العقد الثالث من العمر.

وقد وجدت جثتها في صباح ذات يوم ملقاة إلى جانب السكة الحديدبالقرب من كيارفلي بانجلترا، ويستدل من التحريات التي أجراها بوليس سكوتلانديارد على أن الكاتبة بعد أن زارت لندن، وحضرت بضع حفلات موسيقية استقلت القطار حيث عثر على جدثتها في صبيحة اليوم التالي ولا يعلم ان كانت قد تعمدت الانتحار أم سقطت اثناء اجتيارزها عربات القطار في الليل.

وتقول مجلة (جون أوف لندن) أن روية دورثي الاخيرة (نفسية في مرقص) قد ترجمت إلى معظم اللغات الحية وبلغ ما بيع منها زهاء النصف مليون نسخة!

ص: 66

الكاتب لنمسوى هرمان بير

توقى أخيراً الكاتب النمسوي الكبير هرمان بير في الحادية والسبعين من عمره! ولد في لنز سنة 1863، ودرس في فينا وبرلين. وكان (بار) منذ أربعين عاماً من زعماء الأدب الالماني الحديث؛ وكان بالأخص من مؤسسي الحركة الادبية التي عرفت في أواخر القرن الماضي باسم (النمسا الفتاة) وكان من زعمائها مع بار، ارثر شتزلر وفون هو فمانشتال. وظهر بير في مستهل حياته الادبية بالتأليف المسرحي واختص منه بناحية (الكوميديا)؛ ومثلت رواياته في أشهر مسارح فينا ولاقت في أوائل هذا القرن شهرة واسعة، ثم اشتغل بار بالنقد الادبي والصحافة. واشترك مدى أعوام في تحرير جريدة (دي تسايت)(الوقت) النمسوية ثم في جريدة (نويه فينر جورنال)؛ وكان يختص بكتابة النقد الادبي والتاريخ. وتزوج بير من الفنانة الشهيرة أنا ملدنبورج، وهي موسيقية ومغنية بارعة اشتهرت في حفلات سالزبورح برائع فنها ورخيم صوتها. ولما انتقلت أناملدنبورج إلى ميونيخ لتعمل في مسارحها تبعها زوجها وغادر موطنه، وأقام معه في ميونيخ وقضى فيها أعوامه الأخيرة حتى توفى

ومن أشهر قطعة التمثيلية (الاتفاق)(1911) وفيها يعالج فكرة اجتماعية هي تسامح الزوج المنبوذ نحو خيانة زوجته واعترافه بحبها الآخر كوسيلة لاستثارة عطفها واستعادة ودها و (الغبي والعاقل)(1912) وفيها يعالج فكرة الحكمة وهل هي اتباع الواجب أم اتباع الهوى. ومن أشهر رواياته (نماذج للحب)(1929)

حق المؤرخ في التصوير والتفسير

هل يحق للمؤرخ أن يكون حراً في تصويره وتقديره للشخصيات المعاصرة التي يعرض لها؟ هذه مسألة طرحت أخيراً على القضاء الفرنسي لمناسبة ظهور كتاب جديد للمؤرخ الفرنسي الشهير (رايمون ريكولي) عن (الجنرال جوفر) القائد العام للجيش الفرنسي في أوائل الحرب الكبرى، وقد تناول المؤرخ حياة الجنرال جوفر والحوادث العسكرية التي خاضها وعلق عليها بآرائه وتقديراته. فرأى القائد لانرزاك ولد الجنرال جوفر ان في الصورة التي يقدمها مسيو ريكولي، وفي بعض آرائه وتعليقاته اخطاء ومآخذ تعتبر سباً

ص: 67

لذكرى والده، ورفع أمام محكمة السين قضية مدنية يطالب فيها مسيو ريكولي بالتعويضات

وقد أثارت هذه القضية اهتماماً كبيراً. وانتهت بعد مرافقات ومذكرات طويلة بانصاف التاريخ والمؤرخ. ومن رأى المحكمة أن مسيو ريكولي لم يتعد حقوق المؤرخ وانه لم ينشر وقائع مزيفة أو مشوهة، وانه في تقديره وتعليقه لم يتجاوز ما هو حق للمؤرخ في عرض التاريخ وكتابته. ولهذا رفضت قضية القائد لانرزاك.

ص: 68

‌القصص

قصة في رسالة

سيدي الطبيب:

إن المصادفات المشئومة والحظوظ السيئة، ساتقتك الي وعرفتك بي، ما كنت أظن أن أمراً تافهاً ستكون نتيجته وخيمة إلى هذا الحد!

قبل أيام وقفت عجلة كبيرة مملوءة بالأثاث أمام الدار المواجهة لدارنا، فرغبت أن أعرف وأنا في نافذتي أولئك الذين سيكونون جيراننا في هذا الصيف، فرأيتك عاري الرأس تأمر وتنهي وتساعد الخدم كلما قضت الحاجة بذلك، ثم رفعت رأسك نحو نوافد غرفتي: وكانت - ياللأسف - نافذتي مفتوحة، فرأيتني - ويا ليتك لم ترني - أجل، رأيتني وأنا أبتسم، وكنت السبب في تلك الابتسامة، لأن انهماكك في تفريغ العجلة وأوامرك التي لا حد لها ولا نهاية كانت مضحكة جداً. فالذنب إذا ذنبك وتبعته عائد عليك. ثم رأيتني مرة ثانية وأنت ترسل ستائر نوافذ بيتك، في تلك الأثناء وجهت بصرك نحو نوافذنا وابتسمت لي فهذا ذنب ثان كان منك، كنت أظن أن هذه الأشياء تافهة في ذاتها وأنها لن تبقى راسخة في مخيلتك عالقة بذهنك، ولكني في ملاقاتي الثالثة علمت أنك أعطيت ذلك من الاهتمام شيئاً كثيراً.

أظن أن ذلك كان بعد عشرة أيام، خرجت مع والدتي من البيت فرأيتك مقبلا من الشارع الذي أمامنا، ولكنك في هذه المرة لم تبتسم لي - وياليتك أبتسمت - ولو فعلت ذلك لما اكترثت بل كنت أعدك ككثير من الرجال الذي يبتسمون لكل انثى يصادفونها في طريق. انك لم تبتسم بل اصفر وجهك، وفي أقل من ثانية لم يبق فيه أثر للدم كأنه انسحب ليجتمع في قلبك فقط. ما هو سبب ذلك؟ ولماذا اصفر وجهك؟ كان يجب أن تلحظ أن حالة كهذه أمام الفتيات توجب لهن القلق وتسبب الاضطراب، وهذا الذنب الثالث أوجهه اليك أيضاً، بعد أن مررت قالت والدتي:(أليس هذا الرجل هو الطبيب الذي سكن أمامنا؟) ولا أدري لماذا كذبت عليها وقلت (لا أعرف) مع أني كنت أعرف جيداً أنك في هذا الصيف نزيل الدار التي امامنا.

وكانت مقابلتي الرابعة لك في النزهة، وفي هذه المرة لم يبخل بالابتسام فقط بلبخلت بالنظر أيضاً، يالله ما أشد أصفرار وجهك إذ ذاك! كلما ذكرت حالتك تلك، شعرت بحس

ص: 69

غريب، وألم لا أدري مصدره، فاني لم أفعل شيئاً يوجب اضطرابك ولا أرى على أدنى تبعة يمكن ان يتحملها وجداني.

فقررت بعد ذلك أن أبالغ في الاحتياط، وأشتد في الحذر وبخاصة منك، لأن ابتسامة عن غير قصد ولا رأى أخذت موقعاً مهماً أرعبني، فقررت أنه يجب أن يقف الأمر عند هذا الحد.

ولكنك لم تقف عند هذا الحد، ولم تلحظ أن الفتاة التي ابتسمت لك عن غير قصد، وابتسمت لها لم تكن إلا طفلة لا شابة، وانها تود الآن أن تصلح خطأها.

كلما قرع جرس الباب، وكلما حدثت ضوضاء أمام الباب برز خيالك من وراء زجاج النوافذ، لقد طرأ عليك وعلى أحولك تبدل هائل خلال هذه الخمسة عشر يوماً، كنت ترى مطرقا حزينا عميق الافتكار، تمشي بطيئا جدا كأن المشي السريع سيقطع سلسلة أفكارك، تقف أمام داركم وتلمس زر الجرس الكهربائي وتلتفت نحو نوافذنا، وتنظر نظرة استرحام تدل على أن كل ذلك كان من تلك الطفلة البريئة صاحبة تلك الابتسامة.

ثم مرضت، وأخذ القدر يمشي بك نحو الهاوية التي كنت أحترس منها، لما علمت أن والدتي تود أن ترسل اليك لتعودني مانعت وطلبت طبيباً غيك، ولكني غلبت على أمري، ولو رأيتني حينذاك لعلمت جيداً كيف كنت أخشاك. لما دخلت عليّ لفحصي كنت مضطرباً أصفر الوجه، وكل ما كنت أتمناه أن يجس نبضك جاس حينما أمسكت أنت يدي لتعد نبضي. . . كنت تسعى لأخفاء اضطرابك وتخلط كلامك بالنكت اللطيفة، وتظهر عدم الاكتراث، ولكن كان تكلفك ظاهراً وكان مثلك في ذلك كمثل المغني الذي يغني أنشودته على غير توقيعها. كنت في كل مرة تدخل علي عائداً أكثر اضطراباً وأشد يأساً وتألماً من المرة السابقة، وأرى ورد خديك قد صار بهاراً كأنني كلما تقدمت نحو الصحة تقدمت أنت نحو المرض، وأخيراً بعد أن انتهى المرض ومضى دور النقاهةقلت لي بلهجة مملوءة بالحزن العميق الشامل جميع انحاء فؤادك (انك لست بحاجة بعد اليوم إلى المعالجة) وكانت نغمة صوتك تحمل معنى (إنني أنا المحتاج إلى العلاج).

إن تلك العلاقات التافهة البرئية التي بيننا كان يجب أن تقف عند هذا الحد، ولكننك أنت أبيت إلا أن تسير في هذا الطريق وأنت لا تعلم أتصل إلى نهايته أم لا؟ ان تبعة ما فعلته

ص: 70

بعد رؤيتك لي وأنا مريضة عائدة عليك كما كانت عليك تبعة الذنوب التي كانت قبل المرض.

لقد شاهدتك البارحة وأنت جالس على كرسي في غرفتك تراقب نافذتي وأنت مشغول عن كل ما حولك إلا عن نافذتي كأن عينيك لا تشاهدان إلا ما وراء زجاجها، فسمعت صوتاً ساعدني على فهمه سكون الليل وهدوءه، سمعت صوت زوجك تناديك قائلة (لماذا لم تدخل إلى الغرفة؟) فأجبتها بحدة جواباً ظهر لي منه انك تألمت لهذا السؤال الذي قطع تلك اللذة التي كنت تشعر بها وأنت منفرد عن بقية أفراد الأسرة، قلت لها (إذا كنت تريدين النوم فنامي، إني أود أن أبقى في الشرفة).

لا أدري لماذا أكتب اليك كل هذا؟ وربما كان ذلك لتبرئة نفسي من تبعة ما كان، إني لا أدري كيف عزمت وقر رأيي على كتابة هذه الرسالة، ولست أدري ما الذي يمنعني من تمزيق تلك الورقة التي أحررها اليك؟ أنت ترى اني لم أجد جواباً لهذه الاسئلة، ولكني أرى اني تابعة لحسن خفي يسوقني لارسال هذا الكتاب اليك. تصور فتاة نشأت بين دلال الأم وعطف الأب، تقضي أكثر ليلها في مكتبة والدها تتلسى بقراءة الحكايات، وأكثر أيامها تمضي في السينما تبكي من الفواجع التي تصورها اللوحة الفضية، لا هم لها ولا غم، ولكنها تتألم الألم الناس وتحزن لحزنهم. ثم تذهب إلى مخزن الازياء فاذا عادت بما تحب قدمت إلى والدها أوراق الحساب ذات الارقام الضخمة. لم تفكر في حياتها كلها بشيء غير هذا، ولم يطرأ على حياتها طارئ الا ان شاباً ابتسمت له وهو يأمر وينهي خدمه وهم ينقلون الاثاث إلى المنزل الذي امام دارها، ثم ابتسم لها وهو يرسل سجف نوافذ المنزل، أليس الأمر حتى الآن طبيعياً؟ ولكن هذا الشاب لم يتلق هذا الابتسام كأمر طبيعي، بل ظل يراقب النافذة وهو مضطرب حائر، ثم بعد كل ذلك يرمى داخل مظلتها المغلقة وهو يمر من جانبها كتاباً من غير أن تشعر بذلك والدتها التي بجانبها، ان هذه الأشياء اخذت تخرج عن الحد الطبيعي، لذلك أصبحت الفتاة الشابة ترى أن الضحك ليس أمراً طبيعياً.

ما أشأم تلك المصادفات التي القتك في طريقي، وما أضل الافكار التي أوحت اليك وضع الورقة في مظلتي؟ ما هو الشيء الذي خولك حق رمي ورقة إلى فتاة لم تر ولو في المنام من يؤذيها أو يلعب بشعورها؟

ص: 71

كنت حتى اللحظة أشعر نحوك بشيء لا أدري ماذا أسميه؟ أشعر بشيء شبيه بالرحمة والعطف، ولكني منذ سمعت صوت الورقة وهي تقع في مظلتي نفرت منك نفوراً شديداً.

لقد شعرت بحس قوي يدفعني إلى أن أفتح مظلتي وأرمي تلك الورقة في الأرض، ولكني لا أدري لماذا لم أنفذ هذا العزم؟ لقد تغلب علي حب الاطلاع، وأردت أن أعلم ما الذي كتبته لي في كتابك. هل قدرت عظم ذنبك وأنت ترمي ورقتك في مظلتي؟ هل قدرت حرج موقفي في تلك الدقيقة؟ وهل قدرت أنها جناية غير قابلة للغفران؟

إن ما يشع في عينيك من النجابة ومااا يقرأ فيهما من آثار العفة يشهد بانك كنت تحت تأثير غفلة خضعت لها عن غير ارادة منك.

حينما بلغت البيت ذهبت توا إلى غرفتي وفتحت رسالتك فلم فيها ولا كلمة واحدة تثقل على سمع فتاة مثلي.

فرأيي السابق فيك كان صحيحاً. لقد أثبت لي ذلك كتابك ذو الصحائف الأربع الذي لا يحتوي على معنى تفيده جملة مركبة من أربع كلمات، فما الغاية إذن من كتابته اليّ؟ هل أظهرت لك رغبتي في الاطلاع على أنك لست سعيداً في حياتك؟ وهل طلبت منك ان تكتب اليّ ذلك في صحائف أربع؟ قرأت كتاتبك المرة تلو المرة ولم أفهم له غاية. فقلت في نفسي: إنه يعلن لي حبهن ولكن زوجته؟. . . أولاده؟. . .

في مساء أحد الأيام كان الأولاد يلعبون أمام الدار، فشاهدت ابنتك الصغيرة ذات الوجه الجميل والشعر الاشقر المحيط بوجهها احاطة الهالة بالقمر تصفق طرباً وتصيح: هاهوذا والدي قد جاء وتركض نحوك، فاذا أنت تقطب حاجبيك وتأمرها بالابتعاد عنك، وترفع عينيك نحو نافذتي، فعادت الصغيرة كئيبة حزينة، لا يقدر يراعى أن يصف لك نفوري منك وكرهي لك في تلك الدقيقة، اذن أنت في شغل بي حتى عن أولادك فأنت تنظر اليهم بقسوة وتعاملهم معاملة سيئة؟ إن حالتك هذه كافية لتشرح لي الآلام التي سببتها لتلك الاسرة التي أنت ربها.

قلت في نفسي مادمت سبباً في نفوره من زوجته وأولاده فالواجب ان تقف هذه المسألة عند هذا الحد. أخذت كتابك حينذاك وقرأته في انعام مرة أخرى، فخطر ببالي ان ارسله إلى زوجتك، ولكني عدلت وانقلب ذلك النفور الذي كنت أشعر به منذ لحظة إلى رحمة من

ص: 72

أعماق قلبي.

وفي صباح اليوم الثاني بينما انا خارجة من البيت، ولم أكن اسدلت النقاب على وجهي شاهدتك تنزل مسرعاً من الدرج فالتقت العين بالعين، خانتك قواك عند ذلك، ولولا استنادك إلى الجدار لوقعت على الأرض لا محالة. فشعرت أن مهمتي تجاه هذه الحال شاقة جداً وانه يجب ان اشفق عليك وعلى زوجك وأولادك لا أن احقد عليك.

أعترف لك انك بارع جداً في ارسال الرسائل، اني بعد أن قرأت رسالتك الأخيرة التي وجدتها بين زجاج نافذتي وبين القفص الخشبي، تلك الرسالة التي حتى الآن لم اكتشف كيفية وصولها اليّ ولم اعلم بأية وطريقة وضعت، شعرت بأن دافعاً اهم من السابق يدفعني للكتابة اليك، لا لأجلك بل لأجل تخليص زوجك من مصيبة محتملة الوقوع، ولمنع هذه الاضحوكة من ان تتحول إلى فاجعة كبرى.

في كتابك هذا تبحث عني وتعلمني أن مصادفتك لي كانت سبباً في شقائك، وانك تحبني حباً بغير امل، واني كدرت حلو معيشتكم وأنك حتى الآن كنت سعيداً بحياتك مع زوجك وأولادك، وأن حبك لي حول نعيم حياتك في البيت إلى جحيم، وأنك ستكون ضحية هذه الصدفة، إلى آخر ما في كتابك من كلمات. . . .

اني واثقة كل الثقة من أنك الآن خجل بكل ما تحويه هذه الكلمة من معنى لكتابتك هذه الجمل وهذه العبارات تصور أنك ستترك زوجك أرملة، وأولادك يتامى من أجل ابتسامة من فتاة غرة، وفي هذا منتهى الغرابة. . . .

أيقنت الآن اني سأكون سبب فاجعة كبرى، فالواجب يقضي عليّ أن أقف امام تلك الكارثة، وهو الذي اضطرني أن التجئ إلى هذه الوسيلة وهي الكتابة اليك، انت تعلم يقيناً انها جرأة من فتاة مثلي، ولكن. . . ولكن الوجدان. . . .

تبحث أيضاً في كتابك عن اشياء كثيرة كلها متقاربة وتقول ان حبك لي جعل بينك وبين زوجك واولادك فراغاً لا يسده شيء؛ وانك الآن بعيد عنهم بعد الارض عن السماء، وان كان جسمك قريباً منهم متصلاً بهم، وانك حاضر الجسم بينهم لكنك غائب القلب والعقل عنهم؛ وان كل ذلك سيكون سبباً لفرارك من هذه الحياة التي أصبحت في نظرك جحيما.

أنا اعلم انك تبحث لي عن هذه الأشياء كلها، ولست أعلم لذلك سبباً، وإذا كان الأمر كما

ص: 73

ذكرت في كتبابك، فالفرار الفرار مني. . .

إن حياتك في هذين الشهرين الأخيرين تمر من أمامي كما تمر الصور على اللوحة الفضية امام الجمهور النظارة فامتع النظر بها فأرى ان الشقاء في حياتك سرى إلى حياتي ايضاً، وتلونت حياتي بلون حياتكم الأسود، لقد كنت سعيدة أنا أيضاً حتى قبل شهرين من الزمن، لقد كنت مرحة مرح الصبا والشباب، وليتك تعلم مقدار حزني وألمي وبؤسي، لأنني كنت سبباً في شقائكم اذن انا من حيث لا ادري ولا أشعر كدرت صفو حياتكم، وبدلت سرورها شقاء، وقلبت نعيمها إلى جحيم، وصفاءها إلى كدر وبهجتها إلى عبوس. آه ما اتعسك ايتها الزوجة؟ ليت شعري كم من الدموع ذرفت، ومن الزفرات صعدت بسببي؟. . .

اسائل نفسي عن الاسباب التي اضطرتك إلى المجيء هنا، وساقتك إلى السكنى في هذا المصيف؛ فتقول لي ربما كان سبب ذلك ان هذه الزوجة مصابة بفقر دم، او أحد الأطفال مبتلى بمرض ثقيل، فاضطر ذلك الاسرة كلها إلى نزول هذا المكان طلباً للعافية وتخلصاً من الاسقام، فاذا كان الأمر كذلك فقد حضرتم هذا المكان في طلب الصحة والعافية ففقدتم معهما السعادة العائلية، نعم ويا للاسف ان قطرة من السم وقعت صدفة واتفاقاً في حياتكم السعيدة فسممتها وجعلتها جحيما. . .

اتمتلك في بيتك مطرقاً حزيناً غريقاً في بحر الافكار تسألك زوجتك (ما بك أيها الرفيق؟ وبماذا تفكر؟) فلا تجيبها بل تبقى في حزنك واكتئابك، ثم تتبرم من كثرة الاسئلة وتؤلم زوجتك ببضع كلمات فيكسر قلبها وتبكي تلك الليلة في فراشها بكاء مراً، تبكي بصوت خافت خشية ان تسمعها، ولكنك تشعر بذلك وتشفق عليها، فتقبلها تنسيها كل ما بها من الم وهم وتذهلها عن كلما كان.

ولكن بعد ذلك يعود اليك ضجرك وحزنك، فتعامل زوجك وأولادك بقسوة وخشونة ما كنت تعاملهم بهما من قبل.

ويخطر ببالي أشياء اخرى يقشعر بدني لهولها وسوء أثرها في زوجك واولادك، إذا كان الامر كذلك فالفرار الفرار مني. . .

أنتم أتيتم إلى هذا المصيف لتجدوا فيه الصحة والسعادة، ولكنكم لم تجدوا غير العلة والشقاء، فالفرار الفرار من هنا. . .

ص: 74

لقد جمعتني المصادفة بزوجك، فليتك تعلم مقدار ما كان لها في قلبي من محبة، وفي نفسي من مكانة، كلما تمثل لي وجهها الشاحب ومحياها الجميل المرسومة عليه آثار الحزن العميق؛ تألمت لها وأشفقت عليها كأنها أختيي، فيالله من سوء ما جنيت عليها وهول ما سقت اليها من العذاب على غير علم مني بذلك ولا رغبة فيه ولا قصد اليه.

أتمثلها واقفة أمامك مع أولادها تنظر اليك نظرة الاسترحام والاستعطاف والدموع ملء محاجرها، ولسان حالها يقول:(لماذا أدرت عنا وجهك وطويت دوننا كشحك؟ لماذا تغير قلبك علينا منذ شهرين؟).

أكتب اليك ولا أدري كيف أرسل اليك هذه الرسالة، ولا أعلم ما الذي سيكون من أثرها في نفسك؟ يخيل إلى أنها ستصل اليك وزوجك نائمة في فراشها وحولها أطفالها يغطون في نومهم، فاذا وقعت في يدك جلست االى منضدتك ونشرت الكتاب عليها وجعلت رأسها بين كفيك ثم اخذت تقرؤها. . ولعلك لا تنتهي من قراءة الصفحة الأولى حتى تشعر بأن غشاء الغفلة الذي يغشى عينيك اخذ ينقشع عنهما، وتعلم يقيناً انك كنت تابعاً لحس غير ثابت الأساس، أجل! كنت تابعاً لذلك الحس محاطاً به مغلوباً له خاضعاً لسلطانه مشغولاً به عن كل ما يجب عليك، كانك كنت جاهلا حتى الآن ان من العيب على المرء ان يسير وراء عواطفه وان ينقاد لها فتسوقه إلى المهاوي.

في تلك اللحظة تشعر انك لا تزال تحب زوجك واولادك فتتحرك الشفقة في قلبك وتترك العنان لدموعك فتجري. . أجل أترك لها العنان تنسيل فوق تلك الورقة التي كلفت أن تخبرك بانتهاء تلك الرؤيا المخيفة. . .

آه. إني لا أجد ملجأ يلجأ اليه المرء لتطهير قلبه مثل دموعه، يخيل إلى أنك الآن تبكي، أليس كذلك؟ إبك ما ساعدتك الدموع وأسعفتك الجفون: وغداً، أجل! غداً ستأخذ أسرتك وتهرب مني. أجل خذها ثم الفرار الفرار.

والآن أتمثلك وقد نهضت عن كرسيك مطمئن القلب؛ وقد اخذت الورقة بيدك وأحرقتها بنار الشمعة المضاءة أمامك، ثم مشيت على رؤوس أصابع رجليك، وخرجت من غرفتك نحو غرفة زوجك وأولادك، وأنت حذر كل الحذر أن توقظهم بوقع قدميك، ثم طبعت قبلة طويلة على جبين كل من زوجتك وإبنك وإبنتك.

ص: 75

كن على ثقة ان في الدار التي أمامكم قلباً يتمنى لك السعادة من الصميم، ويطلب لتلك القبلة الدوام إلى ابد الابد، اجل! ان هناك قلباً يخفق طرباً لرجوع السعادة إلى عشكم.

حلب

فتاة الفرات

ص: 76

‌العالم المسرحي والسينمائي

حول أزمة المسرح

بين مديري الفرق والممثلين

تفيض منذ أسابيع انهار الصحف من يومية واسبوعية بالحديث عن المسرح المصري ومشكلته القائمة من سنوات لمحاولة انهاضهوبعثه من جديد، وخلقه خلقاً آخر يقيل من عثرته ويبعث فيه دم الحياة والقوة، ويرفعه من هذه الهوة العميقة، وقد رددت الصحف صدى الشكوى الحارة مما آلت اليه حالة المسرح خاصة في هذا الموسم اذ اغلقتاكثر دور المسراح أبوابها وفض مديرو الفرق فرقهم التمثيلية بعد عمل لم يدم الا اسابيع. وكان الموسم يمتد كل عام اشهراً طويلة وتشتد فيه المنافسة والتشط الحركة، وتمثل عشرات الروايات بين مترجمة او مؤلفة ويقبل الجمهور على الملاعب مرحباً بما يبذل بين يديه من جهد وما يرى من آثار فنيه لها اقيمة ولها خطرها

كنا وكان الحال على ما ذكرنا حتى سنتين او ثلاث فخمدت هذه الجذوة، وفتر هذا النشاط، وانصرفت الجماهير بعضها الىصناديق الليل كما يسمونها في باريس، وبعضها إلى دور السينما، وطالعنا هذا الموسم بما طالعنا به من الكساد وسوء الحال وغلق دور التمثيل ابوابها ولما تكد تبتدئ العمل.

ولم يفت لجنة تشجيع التمثيل في وزارة المعارف ان تتنبه إلى ما وصلت اليه حال المسرح فاسرعت بعقد جلساتها ونشطت للعمل نشاطاً ملحوظاً، وارسلت لمديري الفرق جميعاً تسألهم رأيهم فيما يعيد على المسرح حياته ونهضته. وكان أن اقتراح تاليف فرقة من جميع المشتغلين بالمسرح تمدها الوزارة بالاعانة وتشد ازرها

ويتكاتف الجميع على العمل معاً في سبيل غاية واحدة الا وهي انتشال المسرح والنهوض به.

قبل مديرو الفرق - أو أغلبهم على الأصح - هذا الاقتراح ورحبوا به، وألفت لجنة فرعية من أعضاء لجنة تشجيع التمثيل لتضع بالاتفاق مع مديري الفرق تفاصيل هذا المشروع للبدء في تنفيذه في الحال. وعقدت اجتماعات عدة لذلك، تبودل فيها كثير من الاقتراحات والآراء، وظن في وقت من الأوقات أن الأمور تسير سيرها الطبيعي، وأن المشروع أوشك

ص: 77

على التمام. ولكن ظهر أخيراً أن مديري الفرق يعجزون اللجنة بطالباتهم، وأن قبولهم المشروع لم يكن الا تظاهراً منهم بالتمشي مع اللجنة في الاقترح الذي لقي عنده ترحيباً وتشجيعاً على أن يقفوا في منتصف الطريق ويعودوا إلى طلباتهم الاولى من أن توزع الاعانة عليهم كما جرت العادة كل سنة دون قيد أو شرط

فشل مشروع اللجنة إذا أزاء هذا التشبث أو قل هذا التعنت من مديري الفرق الذين رفضوا التعاون معها، ووقفت اللجنة حيرى وإذا بفريق كبير من ممثلي المسرح المشهود لهم بالكفاءة والمقدرة يؤلفون من بينهم اتحاداً ويتقدمون للجنة يعلنون أنهم يرحبون بمشورعها، وإذا كان مديروا الفرق قد ابوا التعاون معها على استعداد للعمل ولا ينقصهم الا أن تعينهم اللجنة وتمدهم بالمال.

كان هذا هو الموقف الطبيعي الذي لا يمكن أن يكون للممثلين غيره ومديرو الفرق قوم لديهم من المال ما يقوم بالأود ويسد الحاجة، ولأغلبهم من موارد العيش غير العلم في المسرح ما يجعلهم لا يحسون ضيقاً إن لم يكفل لهم كثيراً من الرفاهية والنعيم؛ ولكن الممثلين حالهم يختلف عن هذا كل الاختلاف فمهنتهم هي كل شيء لهم؛ ومنها موردهم الوحيد الذي يعيشون عليه وهم واسرهم ومن يلوذ بهم من الاهل والزوج والولد. لذلك كان من الطبيعي جداً وقد تخلف مديرو الفرق عن العمل أن يتقدم الممثلون؛ والاولون؛ والآخرون المجموع والكثرة، ورحبت اللجنة بهذا الأتحاد ووعدته بالمعونة وشد الأزور إذا توفرت فيه أشياء حددتها اللجنة كما طلبت من أفراده ضمن ما طلبت ان يتخذوا لهم مسرحاً خاصاً للعمل عليه.

ويسرنا أن أفراد هذا الاتحاد حققوا كثيراً مما طلبته اللجنة وانهم مجدون في تحقيق الباقي مما لم تسعف به الظروف المؤاتية وضيق الوقت، واتصالهم باللجنة مستمر وقد يكتب لمشروعه النجاح والتوفق وهو ما نؤمله ونرجوه مخلصين.

على أن الصحف طالعتنا هذا الأسبوع بنبأ اتحاد اجديد ألفه فريق آخر من الممثلين يقولون أن عددهم يبلغ المائة أو يزيد. وتقدم الاتحاد الجديد إلى اللجنة بما تقدم به اتحاد الذي يسبقه وما ندري ما سيكون موقف اللجنة حاله، ولكن ظروف تكوين هذا الاتحاد وجملة عارضة جاءت في نشرته الاولى وبعض ما أحاطه من ملابسات لا تخفى على الاعين المتنبهة

ص: 78

الفاحصة، كل هذا يجعل الاتحاد الجديد مشكوكاً في جديته وفي الغرض الذي قام من أجله، فاذا قلنا أنه تألف للكيد للاتحاد الأول، وان يد مديري الفرق ليست غريبة عنه، لعلنا لا نكون مخطئين، ولعلنا لا نكون قد جاوزنا كثيراً حقيقة الامر والسر فيه.

على أن هذا لا يهمنا في الواقع كثيراً وان كان يؤلمنا ان نرى زملاء بعضهم حرباً على بعض، ولو حسنت النيات وتصافت النفوس لانضم أفراد الأتحاد الثاني إلى زمالائهم الذين كانوا قبلهم اتحاداً، ولما كان ثمت معنى لهذه التفرقة التي لن يكون لها اثر من نفع ان لم تنبت الفشل وتبذر الشقاق والخصام.

على أننا لم نكتب كلمتنا لنقف من الممثلين موقف الواعظ الناصح، فليتدبروا شأنهم على النحو الذي يحلو لهم، ولكن نريد أن نقول للجنة، لجنة تشجيع التمثيل، أن ليس في تنحيي مديري الفرق ما يجد من جهودها او يدفع بها إلى الفشل مادام أن الممثلين قد تقدموا للعمل مجدين مخلصين، وامامها السبيل واضحة إن أرادت أن تكون نواة صالحة للعمل المسرحي الحق، وفي وسعها أن تشرف على العمل وتشترط به من الشروط والقيود ما يحقق رغباته وينهض بمشروعها إلى الغاية التي تنشدها وننشدها جميعاً. وها هي فرصة سانحة تعرض لها فلعلها تنتهزها في حزم وعزم، ولعلها أخيراً لا تحجم عن العمل الجدي الصريح، وثمت بارقة من أمل لعل فيها الخير ولعل في ثناياها تحقيق أملنا الواسع في اقالة عثرة المسرح.

محمد على حماد

ص: 79

‌في الكتب

أبو علي عامل الأرتست

مجموعة اقاصيص مصرية

تأليف الأستاذ محمود تيمور

عرض ونقد وتحليل

لا يمكن لآي نقادة أن يتكلم عن أقاصيص تميور، أو أن يتعرض لدراستها دون ان يفكر في الصفات الأساسية التي تقوم عليها، أو التي أمكسبتها هذا الطابع الخاص، وهي: الباسطة والصدق والانسجام. وبودي أن أتحدث أولاً عن (طابع الصدق) فهي اظهر المميزات التي يتسم بها أدب تيمور، وهي تكاد تكون سجية طبيعية عنده.

يرجع طابع الصدق ففي أقاصيص محمود تيمور إلى أنه يعيش في عالم عواطفه فطرية، فهي تملي عليه هذه الصور البيسطة التي يرسمها بريشته الصغيرة من غير أن تحجب عنا ظلال الألوان:(فام زيان) هي المرأة التي تعمل أجيرة في البيوت وفي الغيطان، لا ترى على وجهها عبوسة اليأس ولا ثورة السخط، فهي راضية عن حياتها قانعة بالقرب من حفيدها الصغير (الغالي)، تنهك قواها نهاراً في الخبازة، وتسهر ليلاً أمام مصباحها تخيط له الجلابيب والطواقي، والصغير في حجرها، تهزه وتغني له أغنيات المستبقل بصوت كله نواح وشجون، معددة له صفاته حينما يصير رجلا، له شارب غزير مفتول كشوارب الحكام، وطربوش أحمر فاتح اللون كطربيش الامراء، وحذاء ذو صرير عال كأحذية الجنود. و (الشيخ جمعه)، هو الرجل العام الفيلسوف السعيد بايمانه، المنعم بخيلاته يروي لك في بساطة فطرية، قصة سيدنا سليمان وما جرى له مع النسر الهرم الذي عاش الف الف عام وحكاية السيد البودي الذي حارب الجيوش قبل ان يولد، وخرافة مدينة النحاس والسندباد وطير الرخ وغيرها. و (عم متولي)، وهو بائع الفول السوداني الذي ما يكاد ييؤوب من جولاته العديدة بين شوارع الحلمية وحارة نور الظلام، وتؤويه ليلا حجرته الضيقة القذرة حتى يخرج من صندوقه سيفاً دقديما، هو الأثر الباقي من ايام عزه الاولى، يضعه على ركبتيه ثم يسبح في تأملاته اللانهائية، حتى إذا ما مرت بخاطره ذكرى العهود

ص: 80

الخولي، حين كان يحارب في صفوف (المهدي) في السودان، أخرج السيف من غمده فاذ بالسلاح قد علاه الصدأ وبعد ان يهزه في يده مراراً كأنما هو يحارب عدوا في الهواء، يصيح صيحات خافتات، منادياً الجيش ليتقدم إلى الأمام، ثم يصحو بعد برهة من خيلاته، فاذا الميدان حجرته المظلمة المقفرة ذات المصباح الزيتي الباهت النور، وإذا الجيش أوهام في أوهام وإذا جلبة المهزومين وصياح المنتصرين سكون في سكون! و (صابحة) هي تلك الريفية الساذجة التي تعلم في منزل حسن أغا حيث التقت هناك بخادمة عبد السميع فتعارفا وتحابا وأظهرا رغبتهما في الزواج، ولكن لما ذهب إلى اهلها ليخطبها لقي منهم كل صد واعراض لأنه فقير، فلما أتاها بعد شهور بالمهر سألته ففي ريبة من أين له هذا المال؟ حتى إذا ما أيقنت بانه اختلسه من أموال سيده احتقرته وأشاحت بوجهها عنه، وضحت بغرامها في سبيل الوفاء لمخدومها ولم ترض ان تتقبل مهرها نقوداً مسروقة، لأن الله لي يبارك في مثل هذا الزواج!

أليست كل هذه الشخصيات تبدو أمامنا ساذجة في تصورتها وفي نواحي تفكيرها؟ كما انها تدلنا تماماً على البيئة الفطرية التي يشهدها تيمور ويخالطها لينقل صورها الينا، فهي كما يوقول عنها العلامة الانجليزي كرنكو: كالتصوير الفني، تصور حقيقة الحياة كلما هي

وقد يرجع طابع الصدق أيضاً في أدب تيمور، إلى أنه تعود استعمال الالوان الطبيعية في لوحته. فلذا لتملح ان فنه خال من سيطرة الافكار الغريبة غير المألوفة، فهو لا ينقب مثلا عن الفساد الجنسي الذي أصبح الادب القصصي الحديث يعج به، ليقدمه إلى القارئ كما يثير ميوله فيفوز برضائه واعجابه! كلا! فان السجية الطبيعية التي اتصف بها، تكاد ترشدنا إلى أنه فنان بطبعه. لا آلة صماء. يصور أمامنا كل ما يجس به وما يراه حوله، ونحن حين نقرأ وصفه لأحدى شخصيات أقاصيصه، نراها ظاهرة في وضوح وجلاء، ونكاد نحس بان الحياة تدب في هذا الوصف دبيب الكهرباء، فهو كما يقول عنه الدكتور ويدمار، المستشرق السويسري: يتغلغل في أعماق نفس الموصوف: لكي يبرز عقيلته الحقيقة

يدين محمود تميور بالمذهب الواقعي ولكنه كثيراً ما يحيد عنه ويخرج عن قواعده المرسومة، وحجته في هذا، هي ان الفنان يجب الا يقيد نفسه بمذهب واحد لا يخرج عن

ص: 81

دائرته ففي ذلك تعجيز له، إذا انه يجب أن يكون مطلق الحرية في التعبير عن احساسه، وما المذاهب الا قوانين وحدود وضعت للدراسات الادبية، ولكنها لم توضع للكاتب، لانه فنان بطبعه، يكتب باحساسه ووجدانه وبصيرته، وهذه لا تعرف شيئاً اسمه المذاهب.

وفي الواقع نجد ان المذهب الواقعي الاصيل، مذهب جامد جدا، وقد لطفه وغيره الكتاب الواقعيون بعد زولا، إذا انهم لم يستطيعوا ان يسيروا على مقتضاه، وقد رأينا زولا نفسه، بالرغم منه، يخرج عليه بدون أن يشعر، فزولا كاتب عبقري، كان يكتب مدفوعاً بوحي والهام، وقد عارض نفسه وكذبها كثيراً في مؤلفاته.

ولذلك لا نصف فن تيمورد (بالواقعية)، وإنما تصفه (بالصراحة)، وأهم مميزات الصراحة، حصر الذهن في هذا الموضوع والتخلص من الشعور الرقيق المصطنع ومن الخيال المترامي الاطراف، فهو قبل أن يكتب ينظرا ولا إلى الاشياء نظرة ثاقبة، يحاول أن يصفها كما هي دون اسراف في العواطف أو تعمق في الخيال، أو التجاء إلى الغموض، وبدون أن يسمح لشخصيته أن تحول بينه وبين موضوعه، فأقاصيصه هي هي تلك البطيعة المصرية البسيطة، التي جلبت على الخير والقناعة والايمان بقضاء الله، وفنه عبارة عن مرآة تنعكس عليها الحياة المصرية كما هي، دون زخرفة أو تجميل، ولا عدسات تواجه هذه الحياة فتظهرها على غير حقيقتها.

وقد ينظر بعض النقدة إلى أن العواطف الفطرية والبساطة الادبية التي تتسم بها أقاصيص تيمور، لا نتفق ولاجادة الفنية أو النزعة الانسانية التي هي إحدى دعامات الادب الحديث، على ان بساطه تيمور هي السرف في قوتها وتأثيرها، فهي تمشى مع الفن جبناً إلى جنب، وقد يكون هذا من الغرابة بمكان، فانك في (العودة) وهي أولى أقصوصات الكتاب، تلمح أثر هذه الروح.

للكلام بقية

محمد أميين حسونة

ص: 82