المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 340 - بتاريخ: 08 - 01 - 1940 - مجلة الرسالة - جـ ٣٤٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 340

- بتاريخ: 08 - 01 - 1940

ص: -1

‌هل خصب الأرض

يستلزم جدب القرائح؟

من الأقوال المأثورة أن الحاجة تلد الاختراع وتفتق الحيلة. وهذه الحاجة التي ضمَّنها الله عمارة الأرض ورقي العالم، هي التي جعلت بيئة الفقر مهبط الإلهام ومنبت العبقرية. فأينما تجد الحاجة تجد العمل والذكاء والقوة، وحيثما تر الغنى تر الكسل والغباء والرخاء. ذلك لأن الفقير يضطره العيش إلى أن يفكر فيجيد التفكير، وإلى أن يعمل فيتقن العمل، وإلى أن يهاجر فيزداد بممارسة الشدائد ومنافسة الناس جلاء في الذهن وبسطة في العلم وسعة في الحيلة. ومواهب العقل كأعضاء الجسد تقوى وتنمو بالكد، وتضعف وتضمر بالعطلة. ولا يصعب عليك أن ترى مصداق ذلك في الفروق الذهنية والعلمية الواضحة بين أبناء الفقراء وأبناء الأمراء، وبين سكان مصر العليا وسكان مصر السفلى، وبين بلد كدمياط وبلد كالفيوم، وبين مدينة كأتينا ومدينة كرومة في الغرب القديم، أو بين قطر كفينيقية وقطر كالعراق في الشرق الغابر. ففي كل من ذكرت لك ترى أن جدب الأرض وضحولة الموارد كانا علة في إخصاب العقول وإنما المدرك وكثرة الإنشاء ووفرة الإنتاج، وأن خصب البلد وسهولة الأرزاق كانا سبباً فيما أصاب بعض الناس وبعض الأجناس من البلادة والقعود والترف والغفلة

تستطيع أن تقول إن مصر في جملتها بلد غني يؤتي أُكله كل حين بيسير الجهد وقليل النفقة. فأهله آمنون من موت الجوع، لأن الفقير يملك أن يمسك روحه بنصف قرش، وما أيسر ما يجد قرشين في اليوم بالعمل الحقير أو السؤال الملحف. ومتى حصل المرء من بلده على الكفاف والراحة والأمن، نشأت في نفسه فضيلة القناعة الزائفة. والقناعة في الفقير كالثروة لدى الغني، كلتاهما تقتل طموح النفس، وتسكِّن قلق الروح، وتخمد نشاط القريحة، وتحمل الرجل على الرضى بالدون والتسلم بالواقع

هذا الفقير القانع الذي لا يحس بالحاجة فلا يسعى للغنى، وهذا الغني الوادع الذي لا يشعر بالنقص فلا يطمح إلى الكمال، هما الأثر السيئ لتدليل النيل لبنيه وحَدبَه البالغ على أهله. فالفلاح لا يزال يزرع الأرض بالآلة القديمة على الطريقة القديمة، لأنه لا يجد في نفسه الحاجة التي تحفزه إلى اختراع آلة وابتكار طريقة ما دامت أرضه تغل عليه ما يكفيه بهذه

ص: 1

الأداة الرخيصة السهلة

والصانع لا يزال يصنع بيده كل اليوم ما تصنعه الآلة في بعض الساعة، لأنه يجد في جيبه آخر النهار ما يملأ به بطنه بخسيس الطعام وغليظه؛ فعلام يشغل ذرعه بما يقلل النفقة ويكثر الإنتاج ويحسن النوع؟

والطالب يقصر جهده على استظهار المختصرات لأن الامتحان لا يخرج عن هذه المذكرات، والوظيفة لا تطلب إلا بعضاً من الحساب وشيئاً من المصطلحات؛ وما غناء العلم بعد أن ينال المتعلم الشهادة والوظيفة؟

والمعلم يحصر نشاطه في كتب الدراسة وما يتصل بها من مقترح التمارين وموضوع الأسئلة ومحلول المسائل، ثم لا يفكر بعد ذلك في درس مشكلة من مشكلات التربية، ولا حل معضلة من معضلات المجتمع، لأنه ضمن لنفسه المراتب آخر الشهر والعلاوة آخر المدة

والكيميائي أو الفيزيائي يبلغ الدرجة الجامعية العليا في الكيمياء أو الفيزياء، ثم يعلم أن أقرانه في البلاد العاملة الجادة لا ينفكون يسخِّرون للمدنية والإنسانية قوى المادة وأسرار الطبيعة في شكول مختلفة ومظاهر متعددة: في البيت والمدينة، وفي السماء والأرض، وفي السلام والحرب، ولا يفكر عالمنا الكبير أن يزيد في العلم بكشف مجهول، أو يرفه عن العالم باختراع آلة، لأنه لا يبتغي شيئاً وراء اللقب الفخم والمرتب الضخم والحياة الوديعة

والطبيب أو الصيدلي يجعل كل همه في رواج عيادته أو صيدليته، لأن المال هو غايته من الطبابة أو الصيدلة، فإذا بلغها على حساب الطب المحفوظ أو الدواء المجهز فلماذا يكدر صفو عيشه بالاحتباس في معمل ينقب عن جرثومة مرض، أو يجرب مفعول مصْل؟

والسياسي أو المصلح يتوخى بعمله مجد الشهرة وجاه الحكم، فإذا أدركهما بتملق الجمهور أو بعصبية الحزب فلا عليه بعد ذلك أن يظل حزبه من غير منهاج ولا غاية، وأن يزاول عمله الخطير من غير خلق ولا دراية. وإذا كان الرمق في هذا البلد بسد بنصف القرش، والوظيفة تنال ببعض العلم، والمنصب والمراتب يعظمان بمضي المدة، والشهرة والجاه يدركان بإرضاء العامة، والزعامة والحكم يبلغان باحتراف السياسة، فأي شيء يدعو إلى زيادة العلم وإطالة الفكر وإدامة العمل وإضاعة الجهد والعمر في تحرير مسألة، أو تأليف

ص: 2

كتاب، أو متابعة كشف، أو محاولة اختراع، أو وضع خطة للإصلاح، أو تدبير سياسة للحكم؟

حاولوا يا قوم أن تهذبوا القناعة في ذهن الفقير برفع مستوى عيشه وإصلاح فساد ذوقه؛ وحاولوا أن تخلقوا الحاجة في نفس الغنى بتشويقه إلى الكمال المطلق وترغبيه في المثل الأعلى، فإنكم إن نجحتم في زعزعة الرضا في القانع المعتر وفي الواجد المغتر، ساورهما القلق الروحي الحافز الذي لا يقنع بما دون الغاية، ولا يرضى للغير بأقل مما يرضي للذات

حاولوا أن تحملوا العلماء والأدباء والأطباء بالجوائز والألقاب على الإنتاج الأصيل والتأليف المبتكر والبحث المنتج حتى ينشأ فيهم على الزمن والمران حب البحث لفائدة العلم، وحب العمل لمنفعة الناس

ثم حاولوا وحاولوا أن تقيسوا كفايات العاملين وأقدار النابغين بغير مقاييس المحاباة والزلفى والقرابة، فإن كثيراً من الأكفاء إنما يزهدهم في العمل والإصلاح اليأس من الإنصاف والقنوط من المكافأة!

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌ماذا ربحت وماذا خسرت

من أسواق السنة الماضية؟

للدكتور زكي مبارك

كتب إليَّ أحد تجار الورق يقول: إنه يرجو أن أرسل إليه ما بقي عندي ليسوي حساب تجارته في سنة 1939

وأنا أيضاً أريد أن أسوي حسابي مع قومي وزماني، حساب سنة 1939 فقط، أما حساب الأعوام السوالف فهو عبء ثقيل والرجوع إليه ضرب من الخذلان. وأين أنا مما فات ومات؟ يرحم الله جهادي في سبيل الأدب والبيان!

ربحت في العام الماضي أشياء، وخسرت أشياء!

وأعظم ربح ظفرت به في السنة الماضية هو الصداقة العظيمة التي تفضل بها قراء مؤلفاتي ومقالاتي، فأنا اليوم أشعر شعوراً قويَّاً بأن لي أهلاً وعشيرة في سائر الأقطار العربية، وهذا الشعور يزحزح ما يعترض طريقي من عقبات وأشواك، وبفضل ذلك الشعور أكاد أنسى الأعاصير التي تثور في وجهي من حين إلى حين

والكاتب كالموسيقار يسره أن يعرف أنه موصول الأواصر بالعواطف والقلوب، فمن حدَّثكم أنه لا يهتم بسخط القارئ أو رضاه، فاعرفوا أنه يقترف إثم الغرور البغيض، أو الكذب السخيف.

وتعظُم قيمة هذا الربح في قلبي كلما تذكرت أنه بشيرٌ بقيام دولة قوية للأدب العربي، وهو أدب كان يسيطر في ماضيه على كثير من الأمم والشعوب، فإن استطعنا أن ننتفع بعواطف القراء ونجذبهم إلى الأدب من جديد كان ذلك مجداً ندفع به عدوان أهل البغي على الآداب والفنون

وما الذي يمنع من أن يكون للقلم دولة في هذه البلاد؟

أتصدِّقون ما يمليه الضجر على أقلامنا من وقت إلى وقت حين نتهم مصر بالجحود والعقوق؟

إن مصر في تاريخها القديم والحديث قد استمعت كل قول، واستجابت لكل نداء، فكيف يتوهم الكاتبون والباحثون أنهم لن يلقوا فيها غير الضياع؟

ص: 4

ثم أقول إن العام الماضي كان من الأعوام التي اختبرت فيها أخلاقي. ومعاذ الأدب أن أدَّعي التفرد بكرم الأخلاق، وإنما هي حيلة أتوسل بها لخلق فرصة أنوح فيها على أخي وصديقي محمد الهراوي. وهل ذرف الزيات من الدموع على أبنه رجاء، أو ذرف هيكل من الدموع على أبنه ممدوح، بعض ما سكبت من دم القلب على صديقي محمد الهراوي؟

كان من عادتي أن ارتاد ملاهي القاهرة في المواسم والأعياد لأفهم شيئاً من أسرار المدينة التي تصنع اليوم بأذواق الشرق ما تصنع. فمن يصدق أن شارع فؤاد صار في عيني صورة من صور الإقفار والإمحال، لأنه خلا من وجه الصديق الغالي، وجه محمد الهراوي، وجه الأخ الذي عرفت بفقده كيف يكون الجزع من فقد الرفاق

وهل تسمح الدنيا مرة ثانية بصديق مثل ذلك الصديق؟

وأين الصديق الذي تصحبه عشرين سنة فلا ترى منه غير كرم العهد وصدق الوفاء؟

أين الصديق الذي يرى من السعادة أن يكون رأيه من رأيك وهواه من هواك؟

إن دموعي على محمد الهراوي دلتني على جوانب من أخلاقي، وشرفتني أمام نفسي، وفرضت عليَّ أن أومن بأني رجل له قلب. فلا كان الصبر عنك يا أكرم ذاهب وأعز فقيد

وكان من مغانم السنة الماضية أن تصير اللغة العربية لغة الدرس في كلية الطب وكلية العلوم، وهي دعوة عانيت فيها من الشقاء ما عانيت. فمن قال إنه دعا إلى هذه الفكرة مرة أو مرتين أو مرات فأنا جعلتها حلماً أهتف به في يقظتي ومنامي أكثر من خمس عشرة سنة. وبسب الإلحاح في نشر هذه الدعوة رآني بعض أقطاب الجامعة المصرية من الثقلاء، وأوصدوا في وجهي كثيراً من الأبواب. فإن قال أعضاء المؤتمر الطبي العربي بعد أسبوعين إنهم قرروا تدريس الطب باللغة العربية في كلية الطب بالقاهرة فليذكروا مشكورين أنهم سفَّهوني علانية يوم التقينا في بغداد سنة 1938

وفي العام الماضي قدمت لكلية الحقوق رسائل لامتحان الدكتوراه باللغة العربية، وقال قائل: إن في ذلك مجاراة للنزعة القومية، فمن واجبي نحو نفسي وأنا رجل مظلوم في وطني أن أقول إن ذلك لم يقع إلا طلباً للسلامة من القلم الذي شن الغارة على من يقبلون رسالة باللغة الفرنسية عن الديِّة في الشريعة الإسلامية ولتلك المعركة ذيول فصلتها في كتاب (البدائع) وفي رسالة (اللغة والدين والتقاليد) وفي كتاب (الأسمار والأحاديث) فأن غضب وزراء

ص: 5

المعارف اللذين حاربتهم من قبل فليعرفوا أني أديت لهم بذلك التوجيه أعظم الخدمات. وحسبهم من الشرف أن يسمعوا كلمة الحق من رجل ليس له في الحكومة عمٌ ولا خال

وفي العام الماضي قررت وزارة المعارف تأليف كتاب للمطالعة في المدارس الثانوية من صميم الأدب الحديث، وأنا صاحب هذا الرأي وقد شغلت نفسي بالدعوة إليه أكثر من عشر سنين.

وفي العام الماضي قضت الظروف بأن تقبل وزارة المعارف إسناد تعليم اللغات الحية في المدارس الثانوية إلى المصريين، فليتها سمعت الدعوة التي أذعتها منذ أعوام طوال، الدعوة إلى أن يكون مدرسو اللغات الحية من المصريين لنخلق جيلاً من المتفوقين في اللغات الأجنبية، وليكون بيدنا الأمر في تكوين الثقة بالعزيمة الوطنية

وفي العام الماضي. . . ما هذا؟ ما هذا؟

أراني أنحدر إلى هاوية المنْ الممقوت، فلأرجع إلى تدوين ما خسرت في السنة الماضية:

في سنة 1939 نسيت أني موظف بالحكومة المصرية فوقع قلمي في أغلاط لا يقع فيها الموظفون (العقلاء)

أنا من كتّاب الطبقة الأولى بشهادة أعدائي، ولكني لم أخط خطوة واحدة في كسب حق جديد لحرية الأقلام. كنت أستطيع أن أنتفع بالدكتور هيكل باشا، ولكنني لم لأقابله إلا حين دعاني، وقد هجمت عليه في جريدة المصري مرتين، وكنت أستطيع أن أنتفع بمعالي النقراشي باشا، وهو رجل مُشرق العقل، ولكني قصرت فلم أقابله غير مرتين، كنت في الأولى مهنئاً، وهي زيارة لا تتسع لبحث ولا درس، وكنت في الثانية مقروناً بجمهور المفتشين بالتعليم الثانوي، وهو مقام لا يتسع فيه المجال لغير الشؤون الرسمية

أليس من سوء البخت أن يكون لنا وزير مثل النقراشي باشا ولا أظفر منه بشيء لحرية الأقلام؟

كنت أحب أن أطلب إجازة طويلة لعام أو عامين لأحقق مشروعاً عجزت عن تحقيقه في بغداد وهو تأليف كتاب عن أبي تمام إمام المبتكرين في القرن الثالث، فهل شغلت نفسي بتقديم هذه الرغبة إلى معالي النقراشي باشا وهو من وزرائنا الأدباء؟

وكنت أحب أن أقترح إنشاء قلم خاص بمراجعة ما يُكتب عن مصر في الأقطار العربية،

ص: 6

فهل شغلت نفسي بتقديم هذا الاقتراح إلى رئيس الوزارة المحمدية أو رئيس الوزارة الماهرية؟

دونت هذه الآراء في كتاب (ليلى المريضة في العراق) ولكن من يضمن أن يكون هذا الكتاب مما يقرأ الوزراء؟

ماذا خسرتُ في العام الماضي؟ ماذا خسرت؟

كان عندي مشروع عظيم هو ربط الأمم الإسلامية برباط وثيق من الحب والعطف

فما الذي صنعت لتحقيق ذلك المشروع العظيم؟

ضيعت العام الماضي - وا أسفاه! - في مجادلات ومشاغبات نفعُها قليل، وانصرفت عن تحقيق ذلك المشروع الجليل

فمن يُسعدني على بكاء ما ضيعت من أمانيَّ وأحلامي؟

وكان في نيتي أن أخلق عُصبة للخير من أصدقاء كلية الآداب، كنت أحب أن أنِّظم سلسلة للدراسات الأدبية والفلسفية أصنع بها في القاهرة بعض ما يصنع أساتذة كلية الآداب في الجيزة، فأين أنا مما أردت؟ وأين ما صنعت لكلية الآداب وفوق ثراها سكبت عُصارة صباي؟

وكان في نيتي أن أكوِّن مكتبة عظيمة مما أصدر المتخرجون في كلية الآداب ثم أسوقها في عربات رزينة إلى قصر صاحب الجلالة الملك فأين ضاعت تلك النية؟ وما مصيرها في تاريخ العقول؟

وكنت أحب أن أقوم بدراسات قوية أحدد بها اتجاه الأدب الحديث في مصر والمغرب العربي والشام والعراق، فأين من يعزيني على ضياع هذا الأمل الغالي؟

وكنت أشتهي أن أزور الحجاز لأكتب عن وطن الرسول كتاباً لا يعرف الزوار ولا الرياء، فأين ضاعت أحلامي؟

وكنت أتمنى أن أؤرق غفوات المغرورين من (أعلام) الأدب الحديث، فإلى أي أفق من آفاق الضياع ضاع أملي في تأديب أولئك (الأعلام)؟

كنت وكنت وكنت، فما الذي صنعت السنة الماضية بأغراضي وأحلامي؟

(للحديث شجون)

ص: 7

زكي مبارك

ص: 8

‌ألمانيا بين نيتشه وهتلر

(دين القوة)

للأستاذ عبد المجيد نافع

حين أوشكت صحيفة القرن التاسع عشر تطوي نشرت في أوربا راية دين جديد، ذلك هو دين القوة، وكان حامل لوائه بل رسوله المبشر به هو الفيلسوف الألماني فريدرش نيتشه

على أنَّا نحب أن نبدد وهماً قد يعلق بالأذهان، فنسارع إلى القول بأن عبادة القوة والأيمان بأثرها الحاسم في حياة الأفراد والشعوب، دين قديم جديد، اعتنقته الإنسانية في كل مراحل التاريخ من غير أن تجهر به، فكبدها ما أنفقت من دموع ودماء

وفي الحق أنك لو جردت الإنسان من الطلاء المدنية، ذلك الطلاء الذي هو بمثابة القشرة الخارجية التي يصطنعها ليخفي تحتها أطماعه تارة، وضعفه طوراً، لتبدَّى في ثياب الإنسان الأول بكل ما فيه من مظاهر الوحشية والهمجية والقسوة

والحق للقوة - كلمة قالها بسمارك الألماني رجل الدم والحديد. ولو أن النصر لم يعقد بلوائه في حروبه مع الدانمارك والنمسا وفرنسا لنادى بأن الحق فوق القوة. ولو أن القوة حالت بين هتلر وبين أن يزدرد النمسا، ويثني على ازدرادها بتشيكوسلوفاكيا لملأ فمه بكلمات العدالة والحق والمساواة والحرية

ولكن نيتشه، رسول القوة، يتفرد بأمور: منها أنه صبغ الدين الجديد بالصبغة الفلسفسة، ورسم له الحدود والمعالم، ودعمه بأسانيد الواقع والتاريخ. ولعله يتميز بين جبابرة العقول وحملة لواء الفكر الإنساني، بصراحته الوحشية التي مزقت قناع الرياء عن وجه الإنسان

ولا نحسب أن مفكراً طبع العصر الحديث، في الغرب، بطابعه الفكري، مثل نيتشه. وإذا كان ماكيافيللي أستاذ كثير من السياسيين، فإن نيتشه أستاذ الدكتاتوريين، وخاصة زعيم النازية

نعم، هو ملهم النازيين ومهبط وحيهم، هتف بدين القوة والسلطان، وتلقف زعماء ألمانيا الحديثة تعاليمه، فأفرغوها في قوالب التطبيق العملي، غير متأثمين ولا متحرجين، إذا كان تطبيقها يحرج شعور العدالة، أو يثير الضمير الإنساني

كان صاحب دعوة القوة يحمل على الديمقراطية حملاته الشعواء بدعوى أنها من أقوى

ص: 9

مظاهر الانحطاط والانحلال في أوربا العصرية، وكذلك يذهب دعاة النازية هذا المذهب. فما كادت ألمانيا تنسحب من عصبة الأمم في عام 1933 حتى قال هتلر، في أعقاب ذلك الانسحاب، لبعض صحبه:(لن تعود ألمانيا إلى عصبة الأمم الديمقراطية بحال. فقد دبت فيها عوامل الفساد، وقضت عليها الديمقراطية بالفناء والدمار)

وينادي زعماء النازي بأن ألمانيا تهيئ الجو لانقلاب جديد، وأن على العالم أن يمشي تحت رايتها. وكان المبشر بدين القوة، بعد أن ظن أنه حطم أصنام الأوهام الموروثة من دين وعلم وفلسفة وأخلاق وديمقراطية، ولأقام على أنقاضها القيم الأخلاقية الصحيحة، واكتشف الإنسان الأعلى، أنه قد مهد الطريق لظهور الإنسانية الجديدة البريئة من شوائب الضعف والانحلال المرتكزة على دعائم القوة والسلطان

وأسر الفوهرر إلى بعض رفاقه أنه على تمام الهبة لأن يضع توقيعه على اتفاق، ويضمن أية حدود، ويمضي ميثاق عدم اعتداء مع كائن من كان، على أن ينقض كل أولئك، في دم بارد وضمير جامد، إذا اقتضته قوة ألمانيا وعظمتها. وجاهر رسول القوة بأن الضعيف يبتغي السلام والوفاق والمساواة والحرية، لا يشرئب بآماله إلا إلى الاحتفاظ بذاته. ولكن القوي يؤثر أن يثير المشكلات وعظائم الأمور. الضعيف يضمر الكيد فحسب؛ فأما القوي فيهجم غير وان ولا متردد، فإن القوة التي تفيض بها جوانب نفسه تحفزه إلى التوثب والانقضاض

وأعمل نيتشه معاوله حتى ظن أنه نقيض القيم الأخلاقية من أساسها. فالشفقة لديه بغيضة لأنها من أخلاق العبيد، والقسوة في عرفه مرضية لأنها من أخلاق السادة. تلك شرعة الأقوياء. ولا يتحرج من أن يجهر بأن الشفقة هي فضيلة المومس، وينادي مع الشاعر الأساطير الشمالية القديمة:(إن فوتان (كبير الآلهة في تلك الأساطير) قد وضع في صدري قلباً قاسياً). ثم يهتف: (من الواجب عليك القسوة. فعن هذا الطريق وحده يسمو الإنسان إلى أعلى حيث يقابله البرق ويحطمه: فلترتفع إلى البرق ارتفاعاً كافياً). ذلك بأنه يرى القسوة أعظم شيء يفضي إلى تقوية الإنسان وترويضه على ملاقاة الأخطار، وشحذ همته للنهوض بجلال الأعمال، على حين لا شيء أخطر على المجتمع من الرحمة بالضعفاء والعاجزين، إذ تنهض عقبة في سبيل قانون الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح. فنواميس

ص: 10

الطبيعة تقضي بإبادة الكائنات الضعيفة وإفنائها من الوجود. وأما نحن فنتحدى قوانين التطور، ونعمل على أن نحيل العالم إلى ملجأ الضعفاء والعاجزين.

ومن ذا الذي تداخله إثارة من الشك في أن هذا ما يدين به جماعة النازي؟ أرأيت كيف نكلوا برفاقهم في الجهاد يوم قاموا بعملية التطهير بين صفوفهم في عام 1934 حين زعموا أنهم وقد اختمرت في رؤوسهم فكرة الجريمة، أخذوا يدبرون في الظلام ومن خلف الأستار مؤامرة واسعة النطاق ترمي إلى هدم نظام الحكم النازي، وتحت ستار هذه الدعوى أجهزوا على طائفة من رؤوسهم وفي طليعتهم رويهم، وكذلك لم يبقوا على شليخر وزوجه!

وهل أتاك حديث الجستابو وما يجري من أعمال القسوة في معسكرات الاعتقال التي تضم الخصوم السياسيين الذين يظن فيهم أو يلمح من ثنايا حركاتهم أنهم يعتزمون الانتقاض على الحكم النازي؟

ثم هل جاءتك أنباء تنكيلهم بكل من يحاول كسر القيود من الأمم التي غلبوها على أمرها لحكمهم عنوة واقتدارا؟

ويبرر أولئك الدكتاتوريون قسوتهم بأن سلامة الدولة قبل كل شيء وفوق كل اعتبار

ويتخذ النازيون العنف عقيدة ويعدون الرحمة خوراً في الطبيعة ويؤمنون بالقوة إيماناً عميقاً، القوة الخالية من شوائب الشفقة والرحمة، المتجردة من هواجس الضمير ومن عوامل الضعف الإنساني، القوة التي تذهب إلى حدود الوحشية أحياناً؛ فإذا وقف الضمير في وجه القوة، وعاق نهوضها إلى الأمام، كان ذلك آية على الضعف والانحلال، ومظهراً من مظاهر انحطاط الفرد والجماعة

وفي كتابه (كفاحي) لا يكتم زعيم الريخ الثالث ازدراءه لما تواضع الناس على أنه رحمة، وما اصطلحوا على أنه إنسانية.

ويدين جماعة النازي بالمبدأ القائل: (الحرب الدائمة) هي حالة المجتمع الإنساني في المستقبل، وأن على كل أمة أن تعد لها العدة، وأن تتنكر للسلام، ولا تتجهم للحرب. فالسلام يقتل حيوية الأمم، فأما الحرب فتغذي تلك الحيوية، ولا يجنح للأول إلا الأمم المترفة المستسلمة، ولا ينزع لخوض غمرات الثانية إلا الذين يفيضون بالقوة والعزة. فألمانيا تبتغي (تقسيم العالم من الجديد) كما يقول وزير دعايتها جوبلز. لا، بل يزعم فيلسوف

ص: 11

النازية روزنبرج أن الشعب الألماني خلق للسيادة، ولا مندوحة عن أن يبسط سلطانه على العالم، ليهيئ حضارة أعلى

وفي سبيل فرض السيادة على الدنيا يرى القابضون على مصاير ألمانيا أن لابد لها من التسلط على المستعمرات والطرق الرئيسية للبحار

وتطوف بأحلام النازيين خيالات غريبة، وتصور لهم أوهامهم ما لا يمكن أن يتعلق به أمل، فتراهم يقولون إن مأساة مونيخ قد كشفت عن ضعف إنجلترا وشيخوختها، وأن لا بد لهم من إضعاف إنجلترا، وتحطيم الإمبراطورية البريطانية، تلك الإمبراطورية التي قال عنها كبيرهم أدولف هتلر وهو يحلق في أجواء الخيال:(إن الإمبراطورية البريطانية تمثال ضخم هائل يقوم على رجلين من طين)

فأما فرنسا فيجمح الخيال بزعماء النازي عنها إنها (أمة تحتضر) فلا يقوم لها ميدان الصراع الدولي وزن أو اعتبار!

ولسوف تصدم الحقائق زعماء النازي صدمات قاسية أليمة، وتوقظهم من أحلامهم إيقاظاً خشناً، وإذ ذاك يعلمون إلى أعماق أية هوة ساقوا بلادهم!

ولعلهم حين تساورهم الأحلام فيتعلقون بأهداب تلك الأماني الباطلة يؤمنون في أعماق نفوسهم يقول الفوهرر: (إن كل أكذوبة يمكن أن تساغ وتهضم، على شرط أن تكون من الضخامة بمكان)

وليس يطمح الريخ الثالث في أن: (يتخذ له مكاناً ليعيش فيه) وإنما يتشبث بالأماني الكاذبة فتجمح به القوة الغاشمة إلى حد الطموح إلى ضم الدنيا بأسرها تحت علم الصليب المعقوف! والسياسة العنصرية التي طبعت تصرفات حكومة النازي إنما هي منبعثة عن تلك العقيدة الخاطئة وهي أن العنصر الآري قد خلق للسيادة بينا خلقت العناصر السامية للعبودية!

وترى النازيين ينفخون تلك الروح في شبابهم، ويملئون بها جوانب نفوسهم فينادى نشيد الشبيبة الهتلرية:

(اليوم نملك ألمانيا، وفي الغد نملك العالم بأسره)

والآن فمن الذي أضرم نيران المطامع في نفوس الألمان حتى أشعلوا الحرب الحاضرة؟ إن

ص: 12

الذي أجج تلك الروح إنما هو داعية دين القوة، والمبشر بالإنسان الأعلى، فريدرش نيتشه

لقد تروعك مبادئه وتعاليمه، بل لقد تهولك قسوته وعنفه، ولكن لا مفر من إجالة الفكر قي تلك التعاليم والمبادئ إن كنت تبغي مواجهة الحقائق مهما كانت قاسية وأليمة، وكنت تريد أن تعلم من هو موقد نيران الحرب الحاضرة، ومشعل الحرب العالمية من قبل

يذهب نيتشه إلى أن من أقوى الدلائل على الخور والاستسلام الذي أصاب المدنية في القرن التاسع عشر، وتفشي بين صفوف أبناء الغرب، تحصنهم خلف ما يسمونه السلام الدائم، وتذرعهم بما يدعونه الإنسانية التي هي أنشودة الضعفاء، ورمز الانحلال، وعنوان الاضمحلال؛ لأن الحرب الدائمة، على ما فيها من الكوارث وويلات هي الحالة الضرورية لنهضة الأفراد والشعوب.

ويذهب الفيلسوف الهدام إلى الغريزة التي تسير الإنسان وتطبع كافة تصرفاته، إنما هي غريزة حب السيطرة، وإرادة القوة. وعنده أن الخير هو كل ما يعلو في الإنسان بشعور القوة وإرادة القوة، والقوة نفسها؛ وأن الشر كل ما يصدر عن الضعف، وأن السعادة في الشعور بأن القوة تنمو وتزيد، وأن لا رضى، بل قوة أكثر وأكثر، ولا سلام مطلقاً بل حرباً، ولا فضيلة بل مهارة، وأن الضعفاء العجزة يجب أن يفنوا، وأن هذا هو أول مبدأ من مبادئ حبنا للإنسانية، وأن أشد الرذائل ضرراً إنما هي الشفقة على الضعفاء العاجزين.

وينادي نيتشه بأن مذهب دارون في (تنازع البقاء) مذهب بالطل، فليست الحياة تنازع البقاء، وإنما هي تنازع القوة وتنازع القوة وتنازع السيطرة. وما تاريخ الإنسانية إلا سلسة متصلة الحلقات من تنازع السلطان والغلبة والقوة بين السادة وبين العبيد. فأما العبيد فيخترعون قيماً أخلاقية لا غاية لهم منها إلا إخضاع السادة لهم عن طريقها، وإن هي إلا أسلحة مسمومة يستخدمونها رجاء أن يتحرروا من نير سادتهم، ثم الطمع في السيطرة عليهم بمجرد زوال سلطانهم

ويذهب ذاك الذي لا يؤمن بالقوة إلى أن الضعيف يريد السلام والوفاق والحرية والمساواة، لا يبتغي من الدنيا شيئاً إلا الاحتفاظ بالبقاء. ولكن القوي يؤثر أن يخوض غمار المشكلات، ويواجه العواصف والأهوال غير وجل ولا هياب، ويشرئب بآماله إلى تسنم الذروة، وبلوغ العظيم من الأمور. الضعيف لا يرضى أن يخاطر بشيء، فأما القوي فيغامر بكل شيء، إذ

ص: 13

أن حياته كلها عواصف وأخطار، بل يبذل له نيتشه النصح أن (يعيش في خطر) فذاك هو المبدأ الذي يكفل له الاحتفاظ بكل مظاهر القوة

ويبشر نيتشه بظهور الإنسان الأعلى. ولكن كيف السبيل إلى ظهوره حتى ينهض بالإنسانية من كبوتها، ويقيل العالم من عثاره. السبيل أن يؤمن الناس بالأرستقراطية والتميز، ويكفروا بالديمقراطية والمساواة! فبين الكيف والكم خصومة عنيفة. فأما الأول فينادي بالتفرقة وينكر المساواة، ويؤمن بالفرد ولا يعنيه شيء من المجموع باعتباره مجموع وحدات متساوية، فالكومة المكدسة من الرمال لا تساوي كلها مما تساويه حبة رمل واحدة. فأما الكم فكل شيء عنده سواء، يريد أن يخرج الناس جميعاً في صورة واحدة، ويطبق عليهم مقياساً واحداً. فصيحته (المساواة! المساواة) وشعاره (نحن جميعاً متساوون! وليس هناك أناس أعلى من أناس!) وترى أصحاب الكم يتحدثون عن (الأغلبية) و (المجموع) و (أكبر عدد ممكن) حتى انحطت الحياة في جميع مظاهرها إذ أصبحت السيادة والسلطان للدهماء على أصحاب الرؤوس المفكرة والشخصيات الخصبة الممتازة

فأي عجب وتلك تعاليم نيتشه التي تشبع بها جماعة النازي، أن نسمع كبيرهم أدولف هتلر يقول عن أعضاء مجلس الرايشستاج:(لست أدري كيف يعهد بإدارة السياسة العليا للدولة لقطيع من الخراف رؤوسها خاوية)

بل كيف نعجب من إشعالهم الحرب الحاضرة والتهامهم الشعوب، إذا كان أستاذهم نيتشه ينادي بأن الإنسان الأعلى رجل نضال دائم من أجل السيطرة والغزو والظفر، لا يعنيه إلا أن يسير نحو الغاية التي رسمها لنفسه، وأن أبغض شيء إليه السلام، والحرب عنده أقدس شيء

وإذا أنت اطلعت على رأي نيتشه في القيم الأخلاقية لم تدهش لتصرفات بني قومه في أي بلد اجتاحوه. فعنده أن الضعيف يسمى العجزة (إحساناً وطيبة) ويسمي عدم الانتقام والأخذ بالثأر: (صبراً) ويسمى حاجته إلى الآخرين وقصوره عن الاعتماد على نفسه: (رحمة) ويسمي عجزه عن إدراك المطامع السامية والغايات العالية: (تواضعاً). فأما الأقوياء فيسمون الأشياء بأسمائها ولا يبتغون إلا الظفر والانتصار وتحطيم كل من يقف في سبيل تحقيق آمالهم السامية في الحياة غير حافلين بدموع تسكب، أو دماء تسفك، لأن قلوبهم

ص: 14

الصخرية، وعواطفهم المتحجرة، تملأها المطامع والغايات، ولا تجد إليها سبيلاً

ولعلك تسأل عن السر في مغاضبة النازية للمسيحية وإرهاقهم لدعاتها، وتنكيلهم بهم أحياناً؛ وعندنا أنه لاكتشاف هذا السر ينبغي أن نقول لك:(فتش عن نيتشه). فحملته الشعواء على دين عيسى، ورميه هذا الدين بالضعف والانحلال الذي أصاب أوربا في زعمه إبان القرن التاسع عشر، كل أولئك حمل دعاة النازية على أن يعملوا كي تقفر جوانب نفوس الألمان من تلك العقيدة التي تدعو للسلام والرحمة وبذلك تجر للضعف والاستسلام وهم شعب الله المختار الذي خلق لسيادة الدنيا في غير ضعف أو تخاذل!

ولا تحسبن الألمان ينكلون ببني إسرائيل اعتقاداً منهم بأنهم سبب نكبتهم وباعث هزيمتهم في الحرب العظمى. فاليهود في نظر نيتشه هم أول من قاموا بثورة العبيد، وهم الذين حاربوا السادة حرباً لا هوادة فيها، وأذَّنوا في الناس بأخلاق العبيد لتكون سبيلهم إلى التسلط على السادة. وكذلك كانوا يوم قاموا في وجه روما. وهكذا فعلوا حين أشاعوا في الناس أخلاق الضعف والحين والعجز والخور تحت أستار الحرية والمساواة!

والآن أرجو أن أقول إن الذي أوحى إليّ بهذا البحث هو الكتاب القيم الممتع الذي وضعه عن (نيتشه) صديق العالم الشاب الأستاذ عبد الرحمن بدوي. وإن أسلوبه الحار الملتهب، وعباراته التي تنبض بالحياة في كل موطن، وإلمامه الشائق بحياة نيتشه ومبادئه وتعاليمه، وتبسيط لمبادئ الفلسفة الجافة حتى تسيغها العقول والنفوس، وطريقته في عرض الآراء وبسطها كل أولئك قد أغراني بأن التهمه التهاماً فأحببت أن أغري الشبان بمشاركتي في هذا المتاع العقلي.

عبد المجيد نافع

ص: 15

‌على هامش الأبحاث النفسية والفلسفية

الفصل بين القيم الذاتية

ظاهرة من ظواهر الرقي

للدكتور محمد البهي

كما أن من ظواهر المدنية والحضارة في سياسة الأمة الفصل بين السلطات المختلفة، كذلك من ظواهرهما في وزن الأعمال وتقدير الإنتاج الفردي (الفصل بين القيم الذاتية)، لأن الثقافة تنوعت تبعاً لتنوع الحياة، واصبح لكل نوع من أنواعها قيمته الخاصة لأنه يؤدي غرضاً في الحياة بعينه لا يعوض من طريق آخر.

والنظرة إلى إنسان اليوم غيرها إلى إنسان الأمس، أو يجب أن تكون غيرها، لأن له واجباً في الحياة، وعليه تبعة نحو المجتمع، وله قيمة في أية ناحية من نواحيها. فالشعبي والأرستقراطي سواء في القيام بالتكاليف العامة، وفي استحقاق التقدير على أداء الواجب المكلف به. إلا أن بعض القيم، قد يختلف لا من حيث ذاته، وإنما من حيث نظرة المجتمع إلى ناحية من نواحي الحياة التي تتصل به.

فقيمة الفرد قد تكون في علمه، فهو صاحب قيمة علمية؛ وقد تكون في فنه، فهو صاحب قيمة فنية؛ وقد تكون في سلوكه، فهو صاحب قيمة خلقية؛ وقد تكون في موهبته الاقتصادية، فهو صاحب قيمة اقتصادية؛ وقد تكون في إصلاحه، فهو صاحب قيمة إصلاحية. . . وهلم جرا. وكلها متساوية في ذاتها إلا أن المجتمع وما يسود فيه من نظرة إلى الحياة هو الذي يخص بعضها بالتفضيل. فإذا كان المجتمع مثلاً متشعباً بفكرة الإنسانية كان اتجاه تقديره إلى الصفة العلمية. وإذا كان متديناً أو يغلب عليه إقحام الدين والعادات والتقاليد في آرائه كانت نظرته الأولى في التقويم إلى الصفة الخلقية. وإذا كان في حاجة ماسة إلى الإصلاح الإداري أو الاجتماعي لم يكد يعرف في حكمه على الإنتاج الفردي غير القيمة السياسية. وهكذا في الناحية الفنية من أدب وموسيقى وتمثيل وتصوير. . . الخ

وعلى الفصل بين هذه القيم والاعتراف باستقلالها الذاتي درجت مدنية القرن العشرين، وقام التهذيب الحديث، وتأسس الإصلاح الاجتماعي

ص: 16

فغاية مدرسة اليوم أعداد الفرد للتمييز بين نواحي الحياة والاعتراف أدبياً. بكل مجهود في أية ناحية من نواحيها. غايتها عداده لأن يكون موضوعياً في حكمه على الإنتاج الفردي غير متأثر بميوله ورغباته أو بالإيحاء والتقليد. غايتها تهيئته لأن يكون مستقلاً، وهذا هو السبب الذي من أجله لا يأنف الأوربي أو الأمريكي من مزاولة أي عمل. ومن أجله لا يبخس الغربي قيمة أي فرد في إنتاجه ولا ينظر إليه شزرا إذا كان دخله من عمله أقل من دخله هو مثلاً. هذا هو السبب الذي من أجله ملك الأوربيون كل ميادين النشاط الاقتصادي تقريباً في البلاد الأسيوية والأفريقية

والإصلاح الاجتماعي الحديث يقوم أيضاً على الاعتراف بالفرد - وهو غير الفردية - وهذا معناه الاعتراف بقيمته في أية ناحية. هناك طبقات، ويظهر أن وجودها ضرورة اجتماعية لداعي رابطة خاصة تربط فريقاً من الناس، ولكل طبقة قيمتها. وتفضيل طبقة على أخرى لغلبة نظرة من نظرات الحياة في وقت بعينه؛ ولكن ليس معنى هذا التفضيل احتقار الطبقة الأخرى وإهمالها، لأن الإهمال لم يعد الآن وسيلة من وسائل الحياة المتحضرة، كما أن الاحتقار لم يصبح في جملة الأحكام التقديرية

والطابع الاجتماعي للقرن العشرين الآن هو المساواة. وطابعه السياسي الديمقراطية. حتى داخل الحكومات الديكتاتورية، فهذه قامت على هدم تحكم إحدى الطبقات في الأخرى. قامت على الحدِّ من الرأسماليين والتضييق على الأرستقراطيين

وحقاً إن الفصل بين هذه القيم والاعتراف بذاتيتها من ظواهر التمدن ورقي الإنسان، لأنه دليل على عدم على عدم إدخال الرغبات والميول، أي على عدم إدخال الناحية الشخصية في الحكم على عمل الغير وإنتاجه. والفرد لا يطلب حقاً في الحياة أكثر من الاعتراف بقيمته الذاتية في أية ناحية، لأنه على أساس هذا الاعتراف سيعيش معتداً بنفسه، وسيعمل جاداً في عمله، ومسروراً من عمله لأنه لا غنى - في نظره إذاً - لمجتمعه عنه. والمجتمع لا يطلب أكثر من اشتراك أفراده في بناء صرحه، ولا أكثر من أن يشعر كل فرد بسعادته الشخصية ومتعته النفسية

والعصور الماضية إذا قيست بعصرنا الذي نعيش فيه كانت ميزتها في الخلط بين هذه القيم وعدم التفريق بينها عند إصدار الأحكام التقديرية. فقيمة الفرد تهمل، ووجوده يهمل كذلك

ص: 17

إذا كان إنتاجه في غير الناحية التي ينظر إليها المجتمع ويطلبها لعوامل خاصة. فالعالم صاحب القيمة العلمية أو الفنية كثيراً ما اضطهد، ولم يهمل وجوده فحسب، لأن سلوكه في بحثه كان على أساس النقد وعدم التسليم مبدئياً بما فرضه عليه وقته من عقيدة وقد كانت الناحية التي تقوم في ذلك الوقت، وبجانبها تهمل كل ناحية أخرى في التقويم، هي الناحية الدينية أي السلوك طبقاً لأوامر رجال الدين. وبعض الطبقات كان يستعبد ويباع ويشرى، وهي طبقة الرقيق، لان الناحية التي كانت تقدر حينئذ ناحية الشرف والجاه، وليس لهذه الفئة من جاه من ثروتها أو ثقافتها

وهذه الظاهرة، وهي ظاهرة الخلط وإهدار القيم الأخرى ما عدا قيمة الناحية المطلوبة، تشبه في تطور الأمم ظاهرة الطفولة في أدوار نمو الإنسان. فالطفل لا يميز ذاته عما في بيئته؛ وبعبارة أخرى لا يعرف قيما للأشياء إلا بقدر ما تشبع بعض رغباته أو تلبي بعض ميوله. فالحسن عنده ما انتفع به، والقبيح هو ما لم يستطيع السيطرة عليه؛ فأمه (حُوَّة) إذا لبت رغبة له، و (كُخَّة) إذا منعت عنه بعض ما يطلب

وبالتالي ظاهرة الفصل بين القيم والاعتراف باستقلالها عند أمة من الأمم تحاكي دور النضوج وبلوغ الرشد العقلي لدى الإنسان. فقدرة تصرف الرشيد معناها التمييز بين النافع في ذاته والضار في ذاته. معناها الاعتراف بالقيم الذاتية واستقلالها

لنا الآن أن نسأل أنفسنا: في أي طور من أطوار النمو تعيش الأمة المصرية؟ هل بلغت طور الرشيد أم تجاوز بعد دور الطفولة؟

لنرجع إلى وصف ما يسود فيها من طاهرة تتعلق بإصدار الأحكام التقديرية، وعلى أساس هذا الوصف المميز يمكن أن نعرف في أي طور تعيش

طبيعي أنه يسود مجتمعنا ككل مجتمع إنساني نظرة معينة في الحياة. والنظرة الغالبة في مجتمعنا النظرة الدينية أو نظرة التقاليد. وسواء أكانت سيطرة هذه النظرة على مجتمعنا الآن دليلاً على تغلب الناحية (اللاشعورية) وهي ناحية النزعات، أم دليلاً على (إدراكه) لأهمية الدين في تكوين المجتمع فإن ذلك لا يعنينا فيما نحن بصدده.

هل مجتمعنا يعترف بقيمة الفرد العلمية أو الفنية، السياسية أو الإصلاحية أو الاقتصادية إن خرج في سلوكه الفردي عما رسمته التقاليد؟ ألا يحكم عليه بالفسوق والمروق - على الأقل

ص: 18

- عن التقاليد والأخلاق القومية إذا ما أنكر في بحثه بعض التقاليد أو بعض مبادئ هذه الأخلاق؛ وبعبارة أخرى إذا لم يسر وفق ما تتطلبه نظرتنا في مجتمعنا إلى الحياة؟

أغلب الظن أن هذا هو الذي يقع بالفعل. فالعالم جاهل لأنه (متفرنج) أي مقلد غير ما هو شعبي مألوف بيننا، وزنديق لأنه يرى (الاجتهاد) من ضروريات العصر، وهو غير مألوف أيضاً في أبحاثنا. والمفكر لا خلق له، أي ليست له قيمة بحسب نظرة المجتمع لأنه يميل إلى النقد وعدم الإذعان لكل ما هو مألوف في نقلنا الثقافي

وإذا تجاوزنا دائرة العلم والبحث إلى العلاقات الاجتماعية، وجدنا الصديق ينكر على صديقه بالأمس كل قيمة لأنه لم يف بوعد ربما ألجئ لأسباب خاصة إلى عدم الوفاء به. ووجدنا الزميل يأبى إلا تجريد زميله من كل اعتبار لأنه ينافسه في زمالته، وربما كان شريفاً في منافسته. ووجدنا الرئيس يفحص قيمة مرؤوسه لأنه أخذ - أي المرؤوس - عليه خطأ في تصرفه أو خالف المألوف من تملقه. . .

كذلك نجد بعض الأعمال مفضلاً على بعض، وبعض المهن يرفع حتى الذروة، والبعض الآخر يحط من شأنه حتى الحضيض. نجد عامة الشعب لا يُعتَرف بوجودها عملياً، بينما نجد خاصته تمثل دور حكام الإقطاعيات

فنواحي النشاط المختلفة في الحياة، وأنواع الثقافات المتعددة، لم تأخذ بعد في مجتمعنا قيمتها الذاتية. وتقديرها في الغالب مبني على التأثر بما يسود المجتمع من نظرة إلى الحياة ورأى بعينه فيها، مبني على التأثر بالعنصر الشخصي والرغبات والميول

ولهذا أظن أن مجتمعنا لم يزل دور الطفولة، لأنه لا يفصل في تقدير الأعمال وتقويم الإنتاج الفردي بين القيم الذاتية بعضها تجاه بعض، كما لا يفرق بينها وبين ذاته وشخصه.

محمد البهي

ص: 19

‌في النحو

قد لا يكون

لأستاذ جليل

قال الأستاذ أحمد بك العوامري في (بحوث وتحقيقات لغوية متنوعة) في مجلة (مجمع فؤاد الأول للغة العربية):

(نسمع كثيراً، ونرى في الصحف نحو: قد يجئ محمد اليوم، و (قد لا يجئ)؛ ونحو: (قد نكون لا منصفين إذا قلنا كذا. . . وهو ما لم يرد في كلام العرب. فقد قال ابن هشام في المغنى: وأما (قد) الحرفية، فمختصة بالفعل المتصرف الخبري المثبت المجرد من جازم وناصب وحرف تنفيس. وهي معه كالجزء، فلا تنفصل منه بشيء، اللهم إلا بالقسم أ. هـ ونحو هذا في القاموس. وقال في شرحه عند قوله المثبت: اشترطه الجماهير أ. هـ فلإصلاح العبارة يعتاض من (قد لا يجئ) مثلا قولك: (ربما لا يجئ).

أقول: وقال ابن يعيش في شرح المفصل: (أعلم أن قد من الحروف المختصة بالأفعال، ولا يحسن إيلاء الاسم إياه، وهو في ذلك كالسين وسوف. وهي (أي قد) بمنزلة الألف واللام التي للتعريف، فكما أن الألف واللام اللتين للتعريف لا يفصل بينهما وبين المعرّف كان هذا مثله إلا أن قد اتسعت العرب فيها لأنها لتوقع فعل، وهي منفصلة مما بعدها (فيجوز الفصل بينها وبين الفعل بالقسم)، لأن القسم لا يفيد معنى زائداً، وإنما هو لتأكيد معنى الجملة، فكان كأحد حروفها). وقال الرضيّ في شرح (الكافية):(ولا يفصل قدمن الفعل إلا بالقسم).

قد عناني من أمر هذا البرزخ، هذا الحائل:(لا) ما عني الأستاذ الفاضل العوامري فاستقريت وفتشت فوجدت ما أنا ممليه اليوم في (الرسالة) الغراء. ولو أدمنت على التنقيب لضممت إلى هذا (الإملاء) شيئاً كثيراً:

1 -

كتاب (الأم) للإمام الشافعي الجزء (3) الصفحة (65): (. . . كما أكره للرجل أن يشتري السيف على أن يقتل به، ولا يحرم على بائعه أن يبيعه ممن يراه أنه يقتل به ظلماً، لأنه (قد لا يقتل) به، ولا أفسد عليه هذا البيع)

2 -

لسان العرب. الجزء (2) الصفحة (311): قال الخليل بن أحمد: الأمور على ثلاثة أنحاء، يعني على ثلاثة أوجه، شيء يكون البتة، وشيء لا يكون البتة، وشي قد يكون و

ص: 20

(قد لا يكون). . .

3 -

الخصائص لابن جني الجزء (1) الصفحة (19). . . كما أن القول (قد لا يتم) معناه إلا بغيره

4 -

الأنموذج في النحو للزمخشري الصفحة (102): ولا لنفي المستقبل، والماضي يشرط التكرير و (قد لا يتكرر) نحو لا فعل

5 -

إملاء ما منّ به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن للعكبري الجزء (1) الصفحة (135): (أن قد صدقتَنا) أن مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف، وقيل أن مصدرية و (وقد لا تمنع) من ذلك

6 -

الفروق لأبي هلال العسكري الصفحة (182): الفرق بين الطاعة وموافقة الإرادة أن موافقة الإرادة قد تكون طاعة، و (قد لا تكون) طاعة

7 -

شرح شذور الذهب لابن هشام الصفحة (138): تنعت أي باسم الإشارة كقولك يا أيهذا، والغالب حينئذ أن تنعت الإشارة كقولك:

ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى

وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي؟

و (قد لا تنعت) كقوله: (أيهذان كلا راديدكما) ومثل ذلك في الصفحة (205) والصفحة (395)

8 -

شرح الكافية للرضيّ الجزء (2) الصفحة (373): وأما المنقطعة (يعني أم) فـ (قد لا يتقدمها) الاستفهام، وقد يتقدمها الاستفهام بالهمزة أو بهل. . .

9 -

المقابسات لأبي حيان التوحيدي الصفحة (181): سئل أبو سليمان هل يجوز أن يقال: الإنسان ذو نفس كما يقال هو ذو ثوب وذو مال؟ قال: أما على التحقيق فلا، وذلك أن الإنسان قد يكون ذا ثوب وذا مال و (قد لا يكون) ويستحيل أن يكون الإنسان إنساناً إلا وهو ذو نفس إلا على السعة والمجاز. . .

10 -

مفاتيح الغيب للرازي الجزء (4) الصفحة (130): (ثم ههنا بحث آخر، وهو أن العداوة والصداقة تمنع أن تحصل باختيار الإنسان، فإن الرجل قد يبلغ في عداوة غيره إلى حيث لا يقدر البتة على إزالة تلك الحالة عن قلبه، بل (قد لا يقدر) على إخفاء تلك العداوة. ولو أتى بكل تكلف وحيلة لعجز عنه. ولو كان حصول العداوة والصداقة في القلب باختيار

ص: 21

الإنسان لوجب أن يكون الإنسان متمكناً من قلب العداوة بالصداقة وبالضد. وكيف لا نقول ذلك والشعراء عرفوا أن ذلك خارج عن الوسع؟ قال المتنبي:

يراد من القلب نسيانكم

وتأبى الطباع على الناقل

والعاشق الذي يشتد عشقه قد يحتال بجميع الحيل في إزالة عشقه ولا يقدر عليه. ولو كان حصول ذلك الحب والبغض باختياره لما عجز عن إزالته) ومثل ذلك في الجزء الثالث الصفحة (19) والجزء الثاني الصفحة (352)

11 -

الإيضاح للخطيب القزويني الجزء الأول الصفحة (106): (. . . لأن الجملة (قد لا تكون) طلبية كقولنا: نعم الرجل زيد)

12 -

الموافقات لأبي إسحاق الشاطبي الجزء (2) الصفحة (200): (وغائبات الأمور (قد لا تكون) معلومة) ومثل ذلك في الجزء (4) الصفحة (8)

13 -

البصائر النَّصِيرية لزين الدين الساوي الصفحة (4): وقد يتردد في أمور بعد إدراك المحسات وانتزاع القضايا منها، و (قد لا يجد) إلى الحكم الجزم في بعضها سبيلاً

14 -

الفرزدق - وبين الحليفتين عصبة حروف، عصبة أمم. . لا (لا) فقط، والفعل ماض فالخطب أطم -:

فقالت: سوى ابني لا أطالب غيره

و (قد يك عاذت) كلثم وغلابها

أرى ابنَي نفيل من يكون أباله

وعما ف (قد يوم الرهان تمهلا)

على من جرى والرافعين أكفهم

إلى كل فرع كان بالمجد أطولا

تلكم أقوال نحويين ولغوين وأدباء وعلماء متقدمين ومتأخرين، فليس ذاك القول بجرَدى عصري كمما حسب الأستاذ العوامري حتى نحايده. وإن لم تقله العربية الأولى فقد نطق به الآلي تلوتَ كلامهم، وفيهم من فيهم. والنحاة يقولون كثيراً:(هذا جائز وإن لم يرد) وإذا أنتجت الحاجة في الحضارة العربية هذا المسمى بالمولد فجاء من (الكُنْه)(اكتنهه) وما أشبهه، وتقبله الأدب والعلم، ألا يسوغ أن يُتبحبح في (القواعد) بعض تبحبح يُمد اللغة العربية، فتجئ قاعدة مولدة كما جاءت الكلمة المحدثة. وقد قرأنا في (الكليات):(كل مبتدأ عقب بان الوصلية فإنه يؤتى في خبره بالا الاستدراكية أو بلكن مثل (هذا الكتاب وإن صغر حجمه لكن كثرت فوائده) وذلك لما في المبتدأ باعتبار تقييده بأن الوصلية من المعنى

ص: 22

الذي يصلح الخبر استدراكا له، واشتمالاً على مقتضى خلافه)

والمثل الذي أورده أبو البقاء إنما هو محدث والقاعدة مولدة

وإذا قال أبو حيان في شرح التسهيل: (العجب ممن يجيز تركيباً ما في لغة من اللغات من غير أن يسمع من ذلك التركيب نظائر. وهل التراكيب العربية إلا كالمفردات اللغوية، فكما لا يجوز إحداث لفظ مفرد كذلك لا يجوز في التراكيب. لأن جميع ذلك أمور وضعية، والأمور الوضعية تحتاج إلى سماع من أهل ذلك اللسان. والفرق بين علم النحو وبين علم اللغة أن علم النحو موضوعه أمور كلية، وموضوع علم اللغة أشياء جزئية، وقد اشتركا معاً في الوضع) - قيل لشارح التسهيل: إن القوم في الحضارة قد أحدثوا - محكمين مدققين - ألفاظاً ما عرفتها العربية السالفة. وإذا كان ذلك ولم ينكر فهل يُصدُّ (احتياج) أحدث لفاظاً رأى إحداثه، أن يبدع - محتاطا - تراكيباً؟

وهنا هذا الحديث: إن اللغويين لم تحوّش كتبهم ألفاظ اللغة كلها، وقد فر شيء كثير. فهل يستطيع الناحي أن يقول معتزاً:(علُمنا علُم إحاطة) وقد استقْرًت قواعدنا كل تركيب في كلام العرب، وما فرّط (الكتاب) من شيء

هل يستطيعنَّ. . .!؟

(ن)

ص: 23

‌من الأدب الرمزي

هكذا تكلم بَرَدَى!

للأستاذ علي الطنطاوي

تفتحت أبواب السماء بغيث منهمر استمر ليلة من (تلك) الليالي طولها عشرة آلاف سنة، فأغرق البحر وابتلع البر، ومدْ أصابعه من خلال التراب وادخلها من شقوق الأرض حتى بلغ (بردى) وهو (جنين) في بطن أمه الأرض، تطيف به أحشاء لينة من جَلمَد الصخر، تحنو عليه وتغذيه، فغمره بالماء حتى ضاق به مكانه، وامتد البلل إلى عظامه فخرج. . .

وكانت الشمس قد طلعت على الأرض بعد (تلك) الليلة تمنحها الدفء وتغمرها بالنور، و (تحدّد) فيها مملكة البر والبحر بعد أن كانت بحراً كلها؛ فوقف (الوليد) ينظر مشدوهاً فيرى سهلاً أفيح جميلاً تحيط به جبال يتهن شبابا ويمس جمالاً، ولكنه عارٍ اجرد، فآلمه عريه وتجرّده، وود لو سعى في أرجائه يزرع فيه الحياة ويضع في تلك السفوح (بذور) المدن والقرى. ولكنه كان ضعيفاً (فلم يستطع أن يمشي)، وتصرم النهار وهو جاثم مكانه لا هو قادر على الرجوع إلى بطن أمه، ولا هو قادر على السير، وأوحشه سكون الليل وظلامه، ولم يعطف عليه الجبل ولا سامره السهل، فلبث وحيداً حتى جاءت فتاة من بنات (الدَّلْب) كانت قد سمعت به فأحبت أن تراه، فلما أبصرته عشقته وحنت عليه، وأضجعته على ركبتيها (تهمس) في أذنيه، أحاديث المدن البعيدة الحلوة والأودية المسحورة. . . حتى نام!

ومرت أيام نما فيها الوليد، فغدا (صبيا) يمشي في السهل، ثم شب فصار (فتى) قويَّا، (يعدو) نحو الوادي عدواً. . .

راع ظهوره أهل تلك الديار فأعرضوا عنه بادي الرأي، ثم مالوا إليه فأحبوه، واتخذوا مولده عيداً، فنشر له السهل أعلامه الخضر، وجمع له باقات الزهر، وفرش له الجبل سفوحه، وزّينها بالورد، وملكوه عليهم. . .

وكان (بردى) الشاب، طموحاً عالي الهمة، فلم يقنع بملك ذلك السهل، سهل الزبداني، ولم يكفه أن خضعت له جبال مضايا وبلدون، وأبى إلا أن يخرج فاتحاً لا يقف حتى يملك الوادي كله، فحشد عسكره، ودخل الوادي بطبوله وراياته يثب على الصخر وثباً، ينشد أنشودته (الهادرة)، ولم يكن في الوادي إلا أميرات صغيرات، ملكهن صخرة يخرجن من

ص: 24

تحتها، وساقية يجرين فيها، فلم يلبثن أن بايعنه وخضعن له، واندمجن في جيشه، وسمعت الأشجار بمسيره فقامت على طريقه صفين تحييه و (تصفق) له

حتى إذا أقترب من (الفيجة) جاءه رائده فقال له: قف، فإن ههنا ملكة جبارة عرشها صخرة هائلة، وجيوشها تملأ الوادي وتمتد إلى أبواب المدينة الأبدية الأزلية التي كانت من قبل، وستبقى بعد المدائن كلها: دمشق!

(فقهقه) بردى ضاحكا من حماقة رائده. أي مدينة وجدت من قبله؟ وأي شيء يعرف القدم والبقاء إلا الله القديم بلا ابتداء، الباقي بلا انتهاء؟ ثم زمجروا أقسم لئن وجد تلك المدينة قائمة من قبله ليدكنها دكا. وإن وجدها تنتظره ليجعلنها بإذن الله سيدة مدن الأرض وأمها ووارثتها. أما تلك الملكة فليحطمنّ عرشها، ويبددن جندها. . .

وتقابل البطلان بردى (الأسمر) القوي (سلطان الزبداني) الغازي الفاتح، والفيجة (البيضاء) الفتانة (ملكة الوادي) واصطف الجيشان هذا من هنا، وهذا من هناك لا يختلطان. ثم أقبلا فاصطرعا. فغلبت رجولة بردى وخضعت له الفيجة وسارت تحت ركابه ذليلة صاغرة، وهي أعزّ منه جنداً، وأسمى نسباً، وأكرم عنصراً

ومشى يجول في الوادي ويصول، ويملأ أرجائه بنشيده الحماسي المرعد

لم يجاوز إلا قليلاً حتى قابل أميرة صغيرة تخطر على السفح الجميل، وفي (عينيها الخضراء) صفاء وفيها وداعة ولها سحر، كأن الناظر إليها يشرب منها خمراً، تلقي أغنيتها بصوت ناعم حالم. كأنه همس القلب في أذن الطيف الحبيب. فأصغى إليها الجبل الأصمّ، ومال من الحنو عليها، وعانقتها الشمس. فلما اضطرت إلى فراقها أحمر جفناها من كثرة البكاء. فذابت من حرارة الوجد قلوب (الثلج) وسالت مدامعها على خدود الجبال فاخضرت منها السفوح، فمن ذلك سميت (الخضراء). ثم لما عادت الشمس بسم الوادي، فمن ذلك سمى وادي (بسيمة) وكان لهذه الفتاة أم وصتها حين ألقتها في لجة الحياة أن تحترس من النهر، وتحذر أن (يخطفها) ثم (يبتلعها) فإنه شاب غدار طياش. . .

لما أحس بها بردى صرخ مختالاً: كم هذا الذي جرؤ على أن يمشي معي في الوادي، وينتزع مني مجدي، وتبسم له الشمس من دوني، وتحنو عليه وتسمع نشيده الصخور الصم ولا تميل عليّ ولا تصغي لنشيدي؟. . .

ص: 25

فلما أبصرها شغفته حباً، ودلهّته غراماً، فعمد إليها ليخطفها، فقامت دونها الصخور ووقفت تحميها (الدلبة) العظيمة التي تعيش هناك، وتلوح بأذرعها مهددّة، فعجز عنها. وأنى له الوصول إليها وهي نائمة في حضن الجبل ومملكته لا تتجاوز الوادي. . . فحطم الحب كبرياءه، وما أجل ما يفعل الحبّ! فتطامن ومشى ذليلاً. فلما رأته فتنته بصمته، وحرْك قلبها بأحزانه فمالت إليه، وشغفت (ببيرق) عينيه وقوته وشبابه، فنسيت وصاة أمها، وتمنّت لو نامت على ذراعيه. فلما جرّبت ذلك حملها وطار بها إلى دمشق

ومر على بردى نصف مليون من السنين، وهو السيد المطلق، يجري حراً أبياً، لا يقف في وجهه شيء، حتى يجوز بدمشق، ثم يذهب فيستريح في (العُتيبَة). . . ثم ظهر الإنسان على الأرض، وظهر بردى على الطبيعة، فويل له من للإنسان!

وفي ذات صباح جاءه طائر يلهث عطشاً. فلما سقاه أحب الطائر أن يجزيه خيراً، فخبره أنه رأى هناك في الرمال المحرقة التي تملأ (الجنوب) أمة من الناس، يمشون في طلب الماء. وقال له: إني أخاف عليك منهم، فهم من أهل الجزيرة التي لا تغلب. من العرب. إنهم بنو الشمس، بنو الصحاري، بنو الموت، أفتظن أن الموت يمس أبناءه؟

فضحك بردى وصرفه بسلام!

ووصل أول رجل من القافلة، وكان من أهل (الجزيرة). وهل خرج إلى الدنيا في فجر الحياة غيرهم؟ فلما رآه صاح باخوته أن تعالوا انظروا كم يحمل من ماء الحياة ونحن هالكون عطشاً. فاقبضوا عليه كي لا يفلت من أيدينا. ضعوا له الحواجز في طريقه كيلا يهرب. . .

وأراد أن يضربهم ضربة واحدة فيهلكهم فلم يقدر عليهم. وقدروا هم عليه فأحس أن نجمه قد شرع في الأفول. . . عطلوه عن سيره، وغلبوه على أمره، ثم صنعوا معه صنع كل عدو غالب. فرّقوا جماعته، وجعلوا أمته الواحدة أمماً سبعاً، فبعد أن كان كله بردى صار بردى ويزيد وتورا وبأناس والقنوات والديراني والقناة، ثوّروا عليه أبناءه حتى استقلوا عنه واعتصموا منه بأكناف الجبلين. . . ثم سلبوه الفيجة واستاقوها (مقيدة بالحديد) إلى دمشق. . .

ولقد غضب بردى مراراً وهاج، فكان يهجم على المنازل وساكنيها، فيشردهم شذر مذر،

ص: 26

ولا يبقى منها حجراً على حجر، ويحسب أنه انتهى منهم، فإذا هم يلدون غير من مات، ويبنون غير ما إنهدم. . . فكل وأيس. . . وأحس أنه صار شيخاً!

ووقفت على بردى وهو يمشي في (المرجة) رحبة دمشق تحت قصر أمية مشية الشيخ العاجز المتهافت، فقلت له: هيه. . . مالك؟ تعًبت؟ أو قد شِخت؟

قال: دعني يا غلام، فإني أساير الأيام، فلما كانت مقبلة جادة كنت أقبل معها عدواً، فلما توْلت وهزلت. . . تولّيت. .

ومالي لا أني، وقد باد مجدي، وساء جدي؟ ألا يا ليتني ما عرفت الإنسان!

وسكت لحظة، ولاحت على خدّه دمعة تجري مع الماء، ثم قال: على أني رأيت والله ناساً كراماً. . . أجّلوني وعرفوا قدري، وكنت أمرّ بين أيديهم مر الرحيق السلسل. . . وكنت أمشي في الرياض على فتيت المسك، وأنام على غناء، وأصبح على شعر، واضحي على كرم ومجد ونبل. . . فأين أنت يا قصر البريص

وأين أولئك الذين كانوا لباب البشرية، وكانوا مثلها العليا مجسّمة، أولئك المسلمون الذين شادوا مجداً جدع أنف الدهر؟ أين ذلك الرجل الذي مرّ عليّ يوماً وكنت أمشي في الربوة على باب دمشق في الموضع الذي امتلأ هواؤه بجراثيم ذلك المرض الفظيع، فلا مر به أحد إلا أصيب به، المرض الذي يسمونه الحب فلا يذهب إلى الربوة من كان يخاف الحب، لأنه لا يرى هذا الجمال إلا تفتّح له قلبه، فذهب يفتش عمن يحب. . . مرّ عليّ ذلك الرجل العظيم، فرأى الأغنياء لهم في الربوة قصور ومنازل، والفقراء ما لهم إلا حجارة الجبل وحصى الوادي، فلم ينصرف حتى أقام لهم متنزهاّ ما رأى الناس مثله، يجري تحته (تورا)، ويجري فوقه (يزيد)، وهو بينهما جنّة، فيهما ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين. فإن اشتهوا تمراً مدوا إليه أيديهم، وإن اشتهوا لحماً ناولته السمك حياً، فنقلوه من الماء إلى المقلاة، وإن أرادوا لذة العين وجدوا ما لا مزيد عليه في دار الدنيا، وعند الله في الآخرة مزيد. . .

فأين أولئك الناس، وأين اليوم أمثالهم؟

وسكت بردى هنيَّهة، ثم رجع يقول. . .

لقد شاقتني أمس تلك القصور وهاتيك المنازل، وقد سدّوا إليها الموارد، وأقفلوا الأبواب،

ص: 27

(فانسللت) من شقوق الأرض حتى بلغت قاعة في الدار العظيمة، دار القوتللي، التي ترى عرصاتها من (منارة العروس) إذا أنت صعدت إليها، ونظرت إلى ما تحتك إلى شمال، وراء قبر الملك الظاهر، ترى عرصاتها فتحسبها حيّا كاملاً، أو أطلال قرية كانت هناك. . . دخلت القاعة فيا أسفي، ماذا وجدت. . .

لا الروض باقٍ ولا أهلوه باقونا. . . ذوى الزهر، وجف الماء، وصارت البرك حفراً قاحلة، وقد كانت تضحك فيها أوانس الماء متراقصة ضحك الحياة في هذه الدار. . . وتعرت الجدران، وقد كانت نقوشها ومُقَرنَصاتها آية في مصحف الفن. . .

اللهم إني استغفرك - ولم يبق من ذلك (الصيني) الذي يملأ (الكبيَّات) والرفوف إلا قطع غاصت في التراب فبدت منها أطرافها، ولا من السجاد الثمين إلا خيوط الله أعلم كم بللتها الأمطار، وكم جففتها الشمس، حتى غدت وليس لها لون يعرف. والرخام الأبيض الذي كان كالمرايا. . . والأشجار والأوراد. . .

لقد انصرف الدمشقيون عن هذه الدور التي كانت مصدر الفن العمراني الأندلسي، منها أخذ وعنها نقل، وكرهوا هذه الجنان، واتبعوا الإفرنج إلى (جحر الضب. . . فآثروا عليها هذه الصناديق المغلقة التي يسمونها دوراً. فمن يفهمهم أنهم يخطئون، وكيف السبيل إلى الاحتفاظ بالبقية الباقية من دور دمشق القديمة، قبل أن تهدمها حماقة المالكين، وفتنتهم بتقليد الغربيين؟

ومتى يعلمون أن أوربة ليست أرقى منا في عادات ولا دين، ولكنها أرقى في الصناعات. فيا ويح القردة المقلدين لقد ذهبوا يدرسون العربية، حتى العربية لغتنا، ذهبوا يدرسونها في باريز!

(قال): ودخلت تلك البركة التي طالما شهدت فيها أعراس الحياة أتذكر، فرآني خادم هرم، فصاح بابنه أن تعال أخرج هذا الماء الآسن من هنا. . .

ماء آسن؟ أنا آسن؟ يا ويحكم. أما كنت طاهراً نقياً أسير في الوادي كما خلقني الله؟ أما أكرمني من كان قبلكم، ورفعوني بالنوافير على الرؤوس، وكانوا يتقون الله فيَّ فلا يمسوني بأذى؟ ويلكم اينا الآسن يا ذوي النفوس الآسنة؟ كنت أصافح من أجدادكم عند الوضوء وجوهاً مشرقة نورانية وأيدياً طاهرة معطرة فصرت لا أرى منكم إلا السوء. دنستموني

ص: 28

وآذيتموني، وألقيتم عليَّ أو ضاركم، وتدَّعون أنكم في عهد النور، وأن عهد أولئك كان عهد ظلام. . .

أعهد ظلام كان، وقد سطع فيه من عندكم نور العلم حتى ملأ الدنيا، وامتد في شعاع الفضيلة حتى أضاء غياهب القلوب فبدد ظلمة الشهوات؟ ورفرفت فيه الراية - رايتكم على نصف المعمور من الأرض - ولو اجتزتم نهراً عرضه خمسون متراً، ولو أخر الله موت عبد الرحمن ساعتين، لرفرفت على النصف الآخر، ولنجا العالم من وحشية الشُّقر الآريين الذين الذين يدعون كذباً أنهم أفضل منكم. دعوى إبليس حين قال:(أنا خير منه)!

لقد هدمنا مجدنا بأيدينا، وأعنَّا عدونا على أنفسنا، فذللنا حين انقسمنا، وأضعنا كل شيء حين ذللنا. أفلا يقظة بعد هذا النوم؟ ألا نظرة بعد هذا العمى؟ ألا زعيم مصلح حقَّا يرجع الناس إلى الجادة التي ضلوا عنها، إلى كتال الله وسنة نبيه، ويخلصهم من بليتين: من إلحاد المتفرجين، ومن شعوذة أصحاب الطرق الحشْويين الجاهلين؟

اللهم تباركت ربنا، لك الملك ولك الأمر، ولا شكاة إلا إليك ولا خير إلا منك. اللهم ما شخت ولا أصابني الونى، ولكن أمرضتني الأقذار التي ألقوها عليّ وهذه البنى المنتنة التي أنشئوها على جوانبي: كعبات الشيطان: تريانون وأولمبيا والليدو وبناية الروكسي (السينما وما فوقها. . .)!

وسكت بردى، وعاد يمشي مشية الشيخ العاجز حزيناً متألماً!

هكذا تكلم الشيخ بردى. . .!

(دمشق)

علي الطنطاوي

ص: 29

‌الأدب الفنلندي

للأستاذ صديق شيبوب

(بقية الحديث عن ملحمة كاليفالا)

ظهرت الطبعة الأولى لملحمة (كاليفالا) يوم 28 فبراير سنة 1835. ولعل النجاح الذي صادفه هذا الأثر الفني شجع (لونرو) على متابعة رحلاته، وكان قد عنى من قبل بجمع القصائد التي ينشدها سكان مقاطعة (كاريلي)، فتوجه إلى المقاطعات الشرقية ونقل القصائد الشائعة فيها، ثم ضمها إلى ما سبق له جمعه بحيث اكتملت هذه الملحمة وطبعت للمرة الثانية في شكلها الجديد سنة 1848 في ثمانمائة واثنين وعشرين ألف بيت من الشعر وهي الطبعة التي يعتمد عليها اليوم. وقد نقلها إلى الفرنسية في شعر مطلق مقطع وفقاً لتقاطيع الشعر الفنلندي المسيو جان لوي بيريه الأستاذ المعيد للأدب الفرنسي بجامعة هلسنكي.

كان لظهور هذه الملحمة فضل بعث الروح القومية في نفوس الفنلنديين. ويهمنا في هذا البحث من أثرها أنها حملتهم على العناية بلغتهم الأصلية.

قلنا: إن الأسوجيين بعد أن فتحوا فنلندا فرضوا لغتهم على سكانها، فصارت اللغة الأسوجية لغة العلم والأدب، بينما ظلت اللغة الفنلندية شبه لهجة يتحدث بها الشعب. فظلت متأخرة لا سبيل إلى التعبير فيها عن حالات النفس ورغباتها. وظلت اللغة الأسوجية مسيطرة على اللغة الفنلندبة، حتى بعد استيلاء روسيا على دوقية فنلندا الكبيرة. وكانت تعلم في مدارسها وجامعاتها.

ولما أخذ الفنلنديون يشعرون بقوميتهم بفضل ظهور ملحمة (كالفالا) ابتدأ الشعب يناضل للتخلص من اللغة الأسوجية التي لا تزال الطبقة الأرستقراطية متمسكة بها إلى اليوم

فلا عجب إذا احتفى الفنلنديون بهذه الملحمة واحتفظوا بها كاحتفاظهم بمفاخرهم القومية وآثارهم الوطنية التي كشفت لهم عن كنوز ماضيهم الدفينة وأوحت إلى نفوسهم الثقة بمستقبلهم وقوت عزيمتهم لنيل استقلالهم. وقد خصوها بغرفة في المتحف الوطني بهلسنكي جمعوا فيها مختلف طبعاتها وترجماتها

ومن أدلة حفاوتهم بها الحفلات العظيمة التي أقاموها سنة 1935 بمناسبة مرور مائة عام على ظهورها في عالم الطباعة

ص: 30

بقي أن نشير إلى الجدل الأدبي القائم بين الروس والفنلنديين بصدد هذه الملحمة وأصلها، وهو جدل له مظهره الخاص إذا نظرنا إليه على ضوء الحرب الناشبة اليوم بين الدولتين

يقرر علماء (الفولكور) الفنلنديين والألمان أن أناشيد هذه الملحمة جمعت من المقاطعات الواقعة حول مدينة هلسنكي ويتوسلون بها لتدعيم مطالبتهم بمقاطعات (كاريلي) و (إنجري) وغيرهما من المقاطعات الروسية

وينفي علماء (الفولكلور) الروس هذه المزاعم ويؤكدون أن (لونرو) لم يجمع هذه الأناشيد من المقاطعات التي تتألف منها فنلندا اليوم بل من الجزء الشرقي لمقاطعة (كاريلي) وهي المعروفة باسم (جمهورية كاريلي الاشتراكية السوفيتية المستقلة)

وقد نشرت صحيفة (فيتشرنيا ياموسكوفا) الروسية بتاريخ 26 يونيو الماضي مقالاً عرضت فيه لهذا الجدل جاء فيه أن القصائد التي جمعت في الطبعة الأولى التي ظهرت سنة 1835 تلقاها (لورنو) من فلاح يدعى (برتونين) كان يسكن في ناحية (أولونه) من مقاطعة (كاريلي). وقد ذكر المسيو (بيريه) الذي يعد اليوم أكبر حجة في فرنسا في الأدب الفنلندي، أنه ذكر في كتابه (مظاهر الأدب الفنلندي المعاصر) أن الشعب الفنلندي الأمي الذي يدين بالأرثذكسية والذي يقيم بمقاطعة (كاريلي) الروسية قد أحتفظ بتقاليد القبائل القديمة، وأن هذه التقاليد بادت في فنلندا نفسها بتأثير التعاليم البروتستانتية. وأضافت الصحيفة الروسية إلى ما تقدم أنه بينما لا نجد واحداً في الجزء الغربي القبلي من فنلندا يروي هذه القصائد والأناشيد، نلفي شيوخاً كثيرين في (كاريلي) يحفظونها ويروونها، وذكرت اسم سيدتين تسكن إحداهما موسكو. ثم قالت: إن بدعة نسبة أناشيد (كاليفالا) إلى فنلندا لم تظهر إلا في أواخر القرن الماضي، وحملت الصحيفة الروسية على الذين قاموا بطبع هذه الملحمة باللغة الروسية سنة 1833 لأنهم نسبوا هذه الملحمة لفنلندا ولم يمحصو ما قرره علماء (الفولكور) الفنلنديون

وهكذا يحاول الروس أن ينتزعوا من الفنلنديين ملحمتهم الوطنية التي تعد مصدر إلهام عظيم لشعرائهم وفنانيهم، ومبعثاً للحماس وروح الوطنية في نفوسهم

صديق شيبوب

ص: 31

‌144

عن جريدة حشرة الملاريا

أنا أدعى أنوفيل ولست يونانيا أو مصريا بل أنا دولي ونحن نسكن في جميع الأقطار ويخشى الناس بأسنا في كل مكان

لقد مضى زمن كنا فيه أقوى من الملوك والقواد وكنا حال ظهورنا

مرهوبين كالموت نفسه

آه كم كنت أتمنى لو كنت من جملة السرب الذي قهر بريروس في إيطاليا وطرد الموغول الكبير باربار البنجابي.

فان حشرة واحدة منا تكفي لكي تمحي تماما كل المشاريع الجميلة والسبب كان خفيا لأن هذه الحشرة كانت تعمل في الظلام

ولكننا لم نركن إلى الهدوء خلال هذه القرون الأخيرة فلا يمكن إحصاء المشاريع التي أخفقت بسببنا والسكان الذين محوناهم فنحن نعكر صفاء كل شيء. فلا يزال الإنسان يبني ويهتم بأشغاله وبملذاته وبغتة أظهر أنا أنوفيل وأنا أطن فرحا بهدوء مفتشا عن محل صغير جميل حيث أركز بسرور وأحفر حفرة صغيرة جداً في جلد المسكين فامتص بعض نقط صغيرة من الدم وينتهي عملي فأعيد الكرة وأهدم في ثانية واحدة عملا دام سنين طوالا يظن أني بعوض اعتيادي ولا يعرف أني أنا الأنوفيل ولكن عندما يرتجف من الحمى حينئذ فقط يذكرني

ولكن خطراً كبيراً يهددنا. فيكفي حسب رأي لجنة الملاريا في جمعية الأمم 400 ملليجرام يوميا مدة موسم الحميات حتى يقي الإنسان نفسه من العدوى التي أحملها أنا وقد وصفت هذه اللجنة لمعالجة إصابة الملاريا كمية جرام واحد أو جرام وثلاثين سنتجرام من الكينا يوميا للأخذ منها مدة خمسة أو سبعة أيام فسمي ليس له هذه المقدرة كي يقاوم علاجا بهذه القوة.

ص: 32

‌من وراء المنظار

القاهرة ليلة الجمعة!. . .

أحب الطواف بأنحاء العاصمة ليلة الجمعة من كل أسبوع فأسير أينما اتجهت بي قدماي لا أدري متى أقف ولا من أي طريق أعود، ولقد أقصد أحياناً إلى حيث تقوم دور الملاهي، وأنا لسوء حظي أو لحسنه - حسبما يرى القارئ - أجدني أبداً غريباً في ذلك الحي، بل إني في الواقع غريب في المدينة كلها على الرغم من أني قضيت فيها من عمري سنين!

وعين الغريب كثيراً ما ترى مالا تراه الأعين التي ألفت ما تقع عليه. ولعل هذا هو الذي يحبب إلي ذلك الطواف الطويل. ولقد كانت آخر مرة طفت فيها بذلك الحي ليلة الجمعة الماضية. . . على أني وددت ليلتئذ لو أن قدمي سارتا بي إلى مكان غير ذلك المكان، فلقد كنت أحس شيئاً من الهم على الرغم من أن جيبي كان لا يزال عامراً بمرتبي الذي تناولته قبلها بيوم، وخشيت أن يؤثر ذلك الهم في تصوير ما تقع عليه عيناي

ووقع ما خشيته فأنا أرى كل شيء بقلبي لا بعيني. فها هي ذي مناظر شاهدت مثلها كثيراً ولكنها تزيدني هماً على هم

هذه (شلة) من الرفاق أنستهم جيوبهم التي أحسب أنها كانت لا تزال عامرة مثل جيبي، وأنساهم شبابهم ما يجدر بأمثالهم من (الأفندية) فأخذوا يتصايحون ويهوشون وينادي الواحد منهم صاحبه بأفظع ما يتصور من عبارات السباب كأنما راحوا يتنافسون في فحش القول. . . ولمحني أحدهم وهو يعرفني، وقد عرفته من قبل وقوراً هادئاً فاندس من الخجل واختفى في أصحابه

ودرت بعيني، ولكنهما وقعتا على قوم آخرين أراهم أجدر من سالفيهم بالوقار والتحشم، فإن ذلك مما تقضي به على الأقل طرابشهم (الميري) وسراويلهم التي تزينها الأشرطة الحمر المهيبة، ولكنهم كانوا أكثر من السابقين تهريجاً وتبذلاً. ولا عجب فهم فرحون مزهوون بهذه الملابس التي باتوا يخطرون فيها على أعين الناس.

ولكم كنت أضيق بهم حينما كانوا يزحمون الغادين والرائحين وعلى الأخص الغاديات والرائحات. . .

والتفت على صوت هرج شديد فرأيت في مقهى قريب معركة حامية وعلمت من أمرها أن

ص: 33

أحد (اللاعبين) هجم بسكين المائدة على صاحب له لأنه أخذ منه آخر قرش بقي معه ولم يشأ أن يقرضه من تلك القروش شيئاً يعود به إلى عياله

ورأيت حول المائدة الممدودة أولئك الغلمان الذين يلقطون بقايا الدخائن ويترامون على ما يلقى إليهم من فتات تلك الموائد ينازع بعضهم عليها بعضاً كما تفعل الكلاب فيزيدون المنظر بذلك سوءاً وقبحاً

ومضيت أخرج من هذا الحي فلم يعد لي تلك الليلة جلد على رؤيته، فما كدت أنعطف في أول شارع حتى لقيت في المنعطف (لقاء) تكنفه الريبة، فهو يضحك مرتبكاً وهي لا تكاد تضحك حتى يطفئ الخوف والقلق ضحكها. . . ومررت بهما وأنا أسائل نفسي: أله زوجة ولها زوج؟

وكأنما تأبى المكاره إلا أن تأتي في وقت معاً! فهذا مترنح متخلج يمسك أصحابه بذراعيه مخافة أن يقع، وهو شاب بادئ الوجاهة، ولقد سقط طربوشه حينما قربت منه، ولست أدري لم قصدني أنا فالتفت إليَّ ضاحكاً وقال:(من فضلك ناولني البلغة يا أفندي)

وألفيت عند محطة الترام أنماطاً من الشباب فرادى وجماعات، ورأيت منهم من مرت بهم جميع المركبات وهم مع ذلك وقوف في أماكنهم يمدون أعينهم إلى كل مركبة في مكان معين منها. وعلام يستعجل هؤلاء العودة إلى منازلهم ولا تزال بينهم وبين امتحاناتهم شهور؟

وأراد نكد طالعي أن يكون آخر ما يقع منظاري عليه جماعة من الغلمان في إحدى الطرق ينبشون صندوق القمامة يبحثون فيه عما يقتاتون به. . . فرفعت بصري إلى أعلى وقد ضاق بالأرض وما عليها فوجدت القمر من فرجة بين بيتين عاليين، وأحسست أنه في تلك المدينة غريب مثلي. ولست أدري لماذا فسرت ابتسامته في تلك الساعة بأنها سخرية من حياة المدينة هذه ومفارقاتها؟. . . وأشد ما أمضني، أني لم أر شيئاً مما كرهت من أحد غير بني قومنا الأعزاء، على كثرة ما بين ظهرانينا من النزلاء!

(عين)

ص: 34

‌الأدب في سير أعلامه

بيرون

ذلك العبقري المتمرد الذي غنى أروع أناشيد الحرية، ولاقى

الموت في سبيل الحرية

للأستاذ محمود الخفيف

نشأته وطفولته

ستمضي السنون ويبقى بيرون في الغرب كالمتنبي في الشرق يحمل النفوس على الإعجاب به، من أحبه ومن لم يحبه في ذلك سواء. وستظل عبقرية هذا الشاعر الشاب كالشعلة تنتقل من جيل إلى جيل فلا تزداد على الأجيال إلا تألقاً وإيماضاً. وما كان لشعر كذلك الذي جاشت به تلك النفس المتوثبة الثائرة، وغنت به تلك القيثارة الملهمة الساحرة، أن تذهب الأيام بروعته وسحره، مهما تغيرت فنون القول واختلفت ضروب البيان

وما عرفت إنجلترة، بل وما عرفت أوربا كلها شاعراً كاللورد بيرون بلغ في مثل سنه مبلغه من نباهة الاسم وبعد الصيت في القارة جميعاً. وما عرف تاريخ الآداب رجلاً هز عصره هزاً متوالياً عنيفاً كما هز عصره ذلك الشاعر الذي تمرد على كل شيء حتى على نفسه. وما لقي بيرون من الإعجاب الشديد والسخط الشديد. ثم ما أختلف النقاد في رجل اختلافهم في ذلك الذي كانت شخصيته الفذة مجموعة عجيبة من المتناقضات، ذلك الذي بلغ قمة المجد الأدبي وهو في الرابعة والعشرين ثم غيب في لحده ولم يتجاوز السادسة والثلاثين

ولد جورج بيرون في لندن عام 1788، أي قبل أن تنبعث الثورة الكبرى في فرنسا بعام واحد، كأنما أراد القدر أن تستقبل هذه النفس الثائرة الحياة في عصر كانت تعصف فيه أنواء تلك الثورة العاتية بأوربا كلها. وكانت الأسرة التي انحدر منها ذلك الشاعر من أعرق الأسر في إنجلترة كلها، فلقد جاء رأسها مع وليم الفاتح عند الفتح النورمندي في القرن الحادي عشر؛ وكان بيرون يفخر أشد الفخر بانتمائه إلى تلك الأسرة حتى لقد قيل إنه كان يزهى بحسبه هذا أكثر مما كان يزهي بأنه مؤلف تشايلد هارولد ومنفرد

ص: 35

على أن الشاعر قد ورث من بعض أفراد أسرته هذه بعض ما لا يحمد من الصفات؛ فكان سيئ الحظ من هذه الوجهة بانتمائه إلى هؤلاء. وحسبنا أن نشير منهم إلى اللورد الخامس في هذه الأسرة، ذلك الذي كان ينعت باللورد التعس، فقد كان شاذاً إلى حد يقرب به من الجنون، فهو يبعثر أمواله وهو يحتجب عن الناس، وهو لا يهدأ ذات ليلة حتى يقتل قريباً له في مبارزة دعاه إليها على ضوء شمعة في غرفة مغلقة على أثر خلاف نشأ بينهما وهو يأتي من ضروب اللعب والعبث مالا يفترق به عن الصبية!

وكان لهذا اللورد التعس أخ يعمل في البحرية وقد وصل بجده إلى مرتبة الأدميرال ولكنه كان يعرف بين زملائه ومرءوسيه باسم (الجو العاصف) لأنه ما ركب البحر إلا هبت في إثره عاصفة، وأنجب هذا الأدميرال ولدين كان كبيرهما قسيم المحيا وجيه الطلعة حسن السمت، وقد انتظم في سلك الجندية وهو في سن اليفاعة وخاض غمار الحرب الأمريكية فيمن خاضوا، ثم عاد إلى انجلترة وهو في العشرين من عمره، فكانت وجاهته تحصر الإحداق فيه، إلا إنه عرف بحدة عواطفه وعدم مبالاته وجرأته أكثر مما عرف بجماله، حتى لقد حمل هو أيضاً بدوره لقباً، ذلك هو جاك المجنون

وفتن جمال جاك إحدى الحسان وكانت زوج أحد اللوردات حتى هامت به. ولم تتردد حينما مات أبوها وخلف لها أربعة آلاف من الجنيهات كل عام أن تهرب معه إلى فرنسا، حيث خملت منه ثم وضعت بنتاً، ولكن هذه المرأة المسكينة ما لبثت أن قضت نحبها إثر مرض كما يقول بعض الناس أو من جراء سوء معاملة زوجها إياها كما يقول آخرون

على أن جاك ما لبث أن أوقع في حبائله سيدة اسكتلندية إلا تكن جميلة كسابقتها فقد كانت ترث عن أبيها ثروة قدرها ثلاثة وعشرون ألفاً من الجنيهات، وقد شغفها حباً ذلك الشاب الغريب الأطوار ثم بنى بها فأنجبت له بعد أربعة أعوام طفلاً هو الشاعر الذي نحدثك عنه

كانت هذه السيدة الاسكتلندية تدعى كاترين جوردون، وكانت تزهي هي أيضاً أشد الزهو بالأسرة التي تنتمي أليها، فقد كانت تجري في عروق أفرادها دماء من أسرة استيوارت الملكية؛ ولكن هذه الأسرة لم تكن في تاريخها أسعد حضاً من أسرة بيرون، فقد قتل بعض أفرادها، وأعدم البعض، وانتحر آخرون في عدة حوادث، وكان آخر هؤلاء والد كاترين الذي انتحر غرقاً وخلف تلك الثروة لأبنته. وطالما كان رجال هذه الأسرة مصدر رعب

ص: 36

للإسكتلنديين، إذ كانوا يلاقون على أيديهم كثيراً من البطش والانتقام. . .

عاشت كاترين مع زوجها أول الأمر في اسكتلندا وما لبثت أن هالها منه إسرافه وعبثه بثروتها، وقد كان لا ينقطع عن المقامرة، ولا يكاد يفيق من سكره. ثم رحلت معه إلى فرنسا حين ضاقت باحتقار الناس إياها وزوجها المستهتر الماجن؛ وراح زوجها يبعثر الأموال في باريس بغير حساب، وهو لا يسد ديناً إلا وقع في دين. وانتقل الزوجان إلى لندن بعد ذلك، ولكن جاك ترك زوجه هناك وعاد إلى باريس، وصار لا يزورها إلا حين يطلب المال. على أنها ظلت على الرغم من ذلك مفتونة به، وقد ازدادت به تعلقاً حينما وضعت ذلك الغلام الجميل الذي سمته جورج جوردون في مستهل عام 1788

وبدد زوجها ثروتها، حتى لم يبق لها منها إلا ثلاثة آلاف من الجنيهات كان دخلها منها مائة وخمسين كل عام، واضطرت المرأة المسكينة أن تعيش بهذا القدر من المال، ومعها طفلها وخادمتان له، وأخذت نفسها بالاقتصاد الشديد. ورحلت السيدة إلى أبردين، وجاء زوجها فاختار له مسكناً بقربها، وصارا يتزاوران من حين إلى حين، ولكنهما بقيا منفصلين. وطلب الرجل يومئذ ثلاثمائة من الجنيهات فاستدانها وصارت تدفع رباها من دخلها حتى أصبح ما تعيش به مائة وخمسة وثلاثين، ولكنها ظلت حتى بعد ذلك تحب هذا الرجل حباً شديداً، ولم ينقص من ذلك الحب أنه عاد ثانية إلى فرنسا وتركها وابنها في ابردين، على أنها لم تره بعد ذلك، فقد لقي حتفه منتحراً كما أشيع، وابنه في الثالثة من عمره

وعاش الطفل مع أمه وخادمتيه، وكان شذوذ هذه الأم في كثير من سلوكها لا يقل عن شذوذ أبيه؛ كانت تحنو عليه أحياناً أشد الحنو، وتقسو عليه أحياناً أشد القسوة، حتى لتضربه ضرباً شديداً. ولقد قذفته ذات يوم بملقط النار وهو محمي فكادت تقتله؛ وكثيراً ما رآها في ساعات غضبها تقذف الخادمة بالأطباق فإن لم تجد أمامها أحداً مزقت ثيابها ولطمت وجهها وحطمت قبعتها كأن بها جنة. وينظر الطفل إلى أمه فيعتلج في نفسه الصغيرة الألم والرثاء والإشفاق، وقبل ذلك رأى أباه ورأى مواقفه من أمه ومواقف أمه منه، فكان يتساءل عما يرى مندهشاً لا يقتنع بما تجيبه به خادمته

وكان الطفل جميلاً كأبيه، ولكنه ولد وفي إحدى قدميه عاهة فكان لا يستطيع أن يطأ بها الأرض إلا على أطراف أصابعها، ولذلك كان في مشيته عرج ظاهر وكان يتألم من ذلك

ص: 37

أشد الألم، وما كان أشد الألم حينما كانت أمه تعيره بهذا إذ ترميه بالسيل الذي لا ينقطع من شتائمها، ولكنه كان يكظم غيظه وإن نفسه لتنطوي على ثورة صامتة، ولم يتمالك نفسه ذات يوم، حينما دعته بالأعرج، أن يجيبها قائلاً:(هكذا ولدت يا أماه!) وفي هذا الرد نلمس نغمة الشاعر المستقبلة حينما يجري الحوار على ألسنة أشخاص قصصه. ولقد أتى بموقف شبيه بهذا في إحدى رواياته فلقد استقرت مواقف الطفولة في نفسه وما برحت بعد ذلك تظهر في آثاره. وما كان الطفل يصبر على أحد غير أمه يشير إلى عرجه؛ لقيته ذات مرة في الطريق إحدى السيدات وهو لم يتجاوز الثالثة فقالت لخادمته: (ما أجمل هذا الطفل لولا أن له وا أسفاه مثل هذه الساق). فبدت على وجهه إمارات الغضب وصاح بها قائلاً: (كفي عن هذا)، ثم ضربها بكرباج لعبته محتجَّاً محنقاً

ويطول بنا الكلام لو رحنا نسرد ما كان يلاقيه الطفل على يد أمه من عذاب؛ وحسبك أنهم انتزعوا منه ذات يوم سكيناً أوشك أن يجريها على عنقه يريد أن يقتل نفسه وقد ضاق بما كان من أمه. على أنه ما كان يفكر في الانتحار وحده فكانت تحدثه نفسه أن أمه تنتوي ذلك. ومما يذكر عنهما أن كليهما ذهب على غير علم من الآخر إلى بائع العقاقير وطلب إليه ألا يبيع الآخر سمَّا إذا هو رغب في شرائه

(يتبع)

الخفيف

ص: 38

‌رسالة الشعر

الخفاش

حين تميل الشمس عن عرشها

وتختفي حيناً إلى موعد

تطير في الآفاق روح الأسى

جوالةً في ثوبها الأسود

خفاشُ عبدَ الليل ماذا ترى

والفجر في الآفاق لم يولد

وكيف ترضى العيش في ظلمة

ضل بها الحب فما يهتدي

لما أفاق الصبح وشّى الربى

وعطَّر الكون بأزهاره

ونقَّط العشب بأندائه

وحرك الأرض بأوتاره

في كل روض وتر ناعم

يدعو إلى الحب وأسراره

عرس من النور لها قائم

الورد فيه بعض زواره

انسل في أثنائه طائر

واندس في كهف له مظلم

عبد من النور مضى هارباً

لم يعرف الحب ولم يحلم

حط عليه الليل أعباءه

وراح في تياره يرتمي

يشاهد الأعراس مجنونةً

فيه ولا ينفك في مأتم

يا عبدُ حطم من قيود الدجى

واخرج إلى النور ولا تجزع

أما تمل العيش في ظلمة

حيران في أطباقها ما تعي

منكصاً ترنو إلى أسفل

والطير في سلطانها الأرفع

تشاهد الأشياء معكوسة

وتدَّعي روحك ما تدَّعي

يا عبد، لا تشفق على ظالم

يا عبد، إن الحر لا يخضع

يا عبد، إن الطير في شدوها

تدعوك للعود فهل ترجع

يا عبد، اسمع ما تقول المنى

يا عبد، انظر فالضحى يلمع

العبد في ظلمته قابع=لا يبصر النور ولا يسمع

(حلب)

عمر أبو قوس

ص: 39

‌موكب النور

(أيها النور: إن أجمل ما في الوجود قبس من جمالك!)

(بيرس شللي)

يا مَوكِبَ النُّورِ أمَا زَوْرَةٌ

للناسكِ الصوفيِّ في خلوتهْ

كبَّلَهُ الدّهرُ بأمراسهِ

فباتَ يبْكِي الكون من شقوَتِهْ

ظَمآنُ للنُّورِ فهلْ رَشفةٌ

مِنكَ له تُطفي صدى غُلَّتهْ!

أَسرجْ لهُ مِصباحَهُ بَعدَ ما

أَطفأهُ الشيطانُ مِنْ غَيرتهْ

أسرِجهُ واسكب ضوءكَ الحلو في

فؤادِهِ - أنْ شِئت - أو مُقلَته

يا موكِبَ النورِ أصخْ فالدُّنا

خرْساءُ إلا من لُحُونِ الألم

يَزُفرُها الناسكُ فاسمعْ صدَى

أناتِهِ مِنْ قَلبهِ المضطرمْ

آمنتُ بالحبِّ فلا تجحدِي

ما قدَّمتْ رُوحي لذاكَ الصنم

عَفَّرتُ في مِحْرابهِ جَبهتي

فما أصاخَ الحبُّ لِي أوْ رَحِم

وَعُدْت مِنْ هَيكلهِ ذاهلاً

كأنني (يا أنت) صخرٌ أصمْ

عِفْتُ الأناسِيَّ فلا مُؤْنِسي

في وَحدتي غير طُيوفِ العناء

قدّتْ مِنَ النِّيرانِ أثوابُها

وَحوَّمتْ عندِي ترومُ البقاء

في عَينِها الأهوَاءُ مَجْنونة

ورِيُّها في الدهرِ مِنّا الدّماء

وْلحُنها مِنْ نَغَمٍ صادىءٍ

مَرّ عَلى البحرِ فكانَ ألهباء

فَيا شُعاعَ النورِ هاتِ المنى

فأنت سِرُّ الكون: أنتَ الذّماء

(بني سويف)

حسن حبشي

ص: 41

‌مناجاة.

. .

ريقُك الخمرُ. . . سِوَى أنّ لهُ

نَشوَةً لا تَعرفُ الخمرُ مداها

فأنِلُني منهُ ما يُسْكِرنُي

سَكرَةً تَطرَبُ رُوحيِ لرُؤاها

يا حبيبَ الروح دَعني أرْتشِف

وأَزِلْ عن هذه النفسِ ظمأها

لا تَقُلْ لي غَدٍ. . . إنّ غداً

حُجُبٌ صَمَّاءُ قد عَمَّ دُجاها

هذه البسمةُ ما أجمَلَها. . .

حينَ يَهتاجُ فوادي لِسَناها

كلمَّا عانَقها خُيِّل لي

أنني أصبْحتُ للحبِّ إلَاها

تسْمُرُ الأنغامُ في آفاقِها

إنما الأنغامُ مِن رُوحٍ لغاها

حَلتْ الّلثمةُ لي يا صَاحبِي

بعد أن كانت حراماً وسِفاها

فأنِلنيها إلَى أنْ يَرْتوي

خَلَدٌ يَعبدُ هِاتيكَ الشفاها

هِيَ لِيَ وَحديَ حلالٌ سائغٌ

وبِمُلْكيَها فؤادي يَتباهَى

رَبطَتْ ما بيننا رابطةٌ

أبْلغَتْ قوة حبِّي منتهاها

لا تَسلني كيف تُمسي. . إنني

أَقطعُ الليلَ أدِّكاراً وانتباها

أَنَسَ الليلُ فآويتَ إلى

حُلكةِ الليل وأطياف دُجاها

وكأنَّ الليلَ مَهْدٌ ناعمٌ

لشريد ضلّ في الدُّنيا وتاها

يا نَجيّ النفسِ في خَلوَتها

كن لنفسي. . أنت أقصى مبتغاها

إن يكنْ حبُّكَ ناراً تلتِظي

فليكن فردوسَ أحلامي لَظاها!

(الزقازيق)

العوضي الوكيل

ص: 42

‌الأدب في أسبوع

الإصلاح الاجتماعي

من عادتي - إذا ما استبهمَ عليَّ نفاذ الرأي - أن أعدل بأفكاري إلى الليل، فهو أحصنُ لها واجمع. فإذا كان الليلُ، وهدأت النائرة، وأَوى الناسُ إلى مضاجعهم، واستكنت عقاربُ الحياةِ في أحجارها - تفلَّت من مكاني إلى غرفتي أُسدلُ ستائرها وأغلِّق أبوابها ونوافذها، وأًصنع لنفسي ليلاً مع الليل، وسكوناً مع السكون؛ ثم أقعد متحفِّزاً متجمعاً خاشعاً أملأ عيني من ظلام أسود، ثم أدعُ أفكاري وعواطفي وأحلامي تتعارف بينها ساعة من زمان، حتى إذا ماجت النفس موجها بين المد والجزر، ثم قرَّت وسكنت، وعاد تيارها المتدفق رهواً ساجياً كسعادة الطفولة، دلفت إلى مكتبي أستعين الله على البلاء.

وأمسِ، حين أيقظني من غفوتي داعي (الرسالة) جمعت إلى ما عزمت على قراءته من الصحف والمجلات والكتب - التي هي مادة هذا الباب - وطفقت أقرأ وأقرأ، ولا أكتم أني كنت قرأ في هذا اليوم - على خلاف عادتي في أكثر هذه الأيام - قراءة المتتبع اليقظ المتلقِّف لأضع يدي على أغرز الأصول مادة وأعظمها خطراً وأشدها بنية. . . وأدسمها شحماً، فإن حق القراء علينا أن نتخذ لهم صنيعاً ومائدة تكون أشهى وامرأ وأقرب متناولا وأردَّ على شهواتهم عائدة. فلما فرغت من إعداد ما أعددت لهم وأويت إلى ليلي المختلق المزيف، جعلت أستعيد في نفسي ما قرأت، وأين وقفت منه، وما تنبهت له مما تعودت أن أستشفَّه من وراء الألفاظ المعبرة، ومن تحت السياق المهدف إلى غرضه - مما هو بأخلاق الكتاب وعاداتهم ونوازعهم وخفايا نفوسهم ألصق منه بأغراض الكاتب فيما كتب. فما كدت أقدح الظلام بعيني وأفكر في هذا الأمر وأستدرجه إلى نفسي حتى رأيتني أكاد أنفر من مكاني لما عراني من سوء الرأي وقسوة الظن، فإن طول تغلغلي في معاني الكتاب والشعراء، أو في معاني أنفسهم، يدلني على أن أكثر من يكتب إنما يدفع بعض الكلام إلى قلمهم ليعبر عنه، غير محتفل بما يقول، فكذلك يخرج الكلام متخاذلاً مفككا كأنه ناقةٌ من وباء مرض، ويخيل إليّ أن أكثر كتابنا إنما يتناولون المعاني والأغراض من عيبةٍ جامعة غير متخيَّرة ولا منتقاة ولا مصنفة، وأنهم إنما يعرض لهم اشتهاء القول فيقولون للشهوة المستبدة لا للرأي الحاكم، وأنهم إنما يكتبون ليبقوا كتاباً في عقول الناس وعيونهم من طول

ص: 43

ما تعرض عليهم المقالات متوجة بالأسماء مذيلة بها، وأن الكلام عندهم هو أهون عليهم من ضغطة النائم المتلفف على زرَّ الكهرباء فإذا هو نور مستفيض

لابد للعرب والعربية أن يبرأ هؤلاء من أمراضهم ثم يقولون، وأن يعتدُّوا بجمهرة القراء اعتداد من لا غنى له عنهم ولا فقر بهم إليه، فبذلك أيضاً يصلح ما فسد من القراء الذين يقرءون الأسماء دون معاني هذه الأسماء. ويومئذ لا يشكو الكتاب من بوار أسواقهم، لأنهم يعرضون للناس الحسن الذي ينشئ في القلوب الإحساس بالحسن والرغبة في اختيار الأحسن، ويتشوق الناس الجميل لأنه جميل يسمو بالروح في سبحات المثل الأعلى من الجمال الروحاني. . . ثم لا يجيزون إلا الجميل. وكذلك يترافد الكاتب والقارئ ويمدُّ أحدهما الآخر بأسباب حياته وخلوده بين خوافق الأدب السامي الرفيع. هذا هو بعض الرأي أدعو إليه كتابنا، والأدب على شفا جرف هار إلى البوار والبلى والفساد

والآن، وقد تحدَّثتْ النفس ببعض كلامها، أعود إلى (أدب الأسبوع) ويخيل إليّ أن (وزارة الشؤون الاجتماعية) هذه التي استحدثت بعد أن لم تكن، قد كان من فضل اسمها أن أيقظ أكثر كتابنا إلى حقيقة ملموسة كانوا يغضون دونها أبصارهم لما تلبس صاحبها من لباس الخزي والعار: وهي بقاؤنا بين الأمم أمة لا قوام لها من نفسها وأصلها وتاريخها، وأن مركز مصر الاجتماعي والسياسي والشرقي أيضاً قد سما في ظن الناس ولكنه في حقيقته أقل مما يُحمل عليه من الزينة والتألق والزخرف المستجلب بالإيحاء وإرادة الاستغلال. فقد كتب الدكتور هيكل في (السياسة الأسبوعية) عدد (152) كلمة في (نهضة الإصلاح في مصر) استقصى بها تاريخها وقواعدها وأغراضها من عهد الثورة الفرنسية إلى هذا الوقت. وكذلك كتب الدكتور (طه حسين) في (الثقافة) عدد (52) يقترح إنشاء (مدرسة المروءة). وجاء (الزيات) في ختام فاتحة (الرسالة) لعامها الثامن يشكو إلى الله:(إن كبراءنا عطلوا في أنفسهم حاسة الفن فلم يعودوا يدركون معنى الجميل، وإن أدباءنا قتلوا في قلوبهم عاطفة الأدب فليسوا اليوم من كرمها في كثير ولا قليل، وإن زعماءنا تفرقت بهم السُّبل بتفرق الغايات، فلكل غاية دعوة ولكل دعوة سبيل). وكل هذه تلتقي على أصل واحد، وهو أن الحياة الاجتماعية لا تزال تحبو في مدارجها، وأن (لين العظام) يُخشى أن يطول علينا بقاؤه في صدر الحياة حتى نقعد دون شبابها، وأن الإصلاح لا بد أن يتعجل حدوثه. . .

ص: 44

ولكن كيف يكون ذلك؟!

وقد ساق الدكتور طه حديثه عن المروءة ساخراً من هذا الجيل الذي طبع على سفاسف الأخلاق، وتحطمت عنده مكارم الإنسانية النبيلة، وامتاز عظماؤه وصغاره باعتبار الأخلاق ضرباً من التجارة يلبِّسها الغش والخلاب والمواربة وتلقي التاجر للبائع بالدهان حتى يكون هو في باطنه أظلم شيء، وظاهره يتلألأ بمعاني الشرف والأمانة والنزاهة وإرادة الموافقة وتغليب منفعة المشتري على منفعته، وغير ذلك من حيل التُّجار والسماسرة. فأراد أن يمزح، فيدعو إلى اقتراحه إنشاء مدرسة للمروءة ليسخر من (تنازع الاختصاص) في وزاراتنا بل في أعمالنا كلها. وهذا كله في مدرجه جيد لا يحاول أحد أن ينازع عليه أو يختلف فيه، ولكن التهكم في هذا الدهر المائج بصنوف العذاب والبلاء لا يكاد يجدي شيئاً في الإصلاح. وهل يظن الدكتور طه أن كل هؤلاء الذين أقامتهم الأمة المسكينة على حياطة شؤونها ومرافقها وأسباب عيشها - لا يستشعرون من ذلك ما نستشعر، ولا يجدون من معانيه مثل الذي نجد؟ أجل؛ ولكنهم كالذي يصف هو فيما ساق من الحديث، فمن أين يأتي الشفاء إذا كان كلُّ الطبيب هو بعض المريض! إن أعمال الإصلاح الكبرى لن تأتي من وزارة الشؤون الاجتماعية، ولا وزارة المعارف، ولا غيرهما إذا بقي الشعب ينظر إلى هذه كلها ليرى ما تعمل. والرأي لا يمكن أن يتجه في هذا الأمر إلى تسديد وزارة المعارف ووزارة الشؤون الاجتماعية وتوقيفها على ما يجب عمله باقتراحات ومذكرات وبيانات. . . إلى آخر هذه الجموع. إن عمل الإصلاح الآن موقوف على شيء واحد، على ظهور الرجل الذي ينبعث من زحام الشعب المسكين الفقير المظلم يحمل في رجولته السراج الوهَّاج المشتعل من كل نواحيه، الرجل المصبوب في أجلاده من الثورة والعنف والإحساس بآلام الأمة كلها، وآلام الأجيال الصارخة من وراء البنيان الحي المتحرك على هذه الأرض الذي يسمى في اللغة (الإنسان). وليس ظهور هذا الرجل بالأمر الهين، ولا إعداده بالذي يترك حتى يكون؛ بل هنا موضع للعمل وللإنشاء. وكبر ذلك مُلقىً على الأدباء والكتاب والشعراء، وعلى كل إنسان يحترم إنسانيته؛ فالأدباء ومن إليهم قد وقع عليهم التكليف أن يرموا بما يكتبون إلى إيقاظ كل نائمة من عواطف الإنسان، وإلى إثارة كل كامنة من نار الهداية المحاربة التي لا تخمد، ولا يكون ذلك شيئاً إلا بأن يعد كل أحد

ص: 45

نفسه كالجندي عليه أبداً أن تكون حماسته هي روح الحرب فيه، فهو يمشي بها في كل عمل، ولو في نقل البريد من مكان إلى مكان. إذن فأول الإصلاح الاجتماعي هو إدماج عواطف الفرد في مصالح الجماعة على أتم صورة من صور الحماسة إي القوة التي تنبعث من الدم لتطهير الدم؛ وهذا بعض ما نتوافى عليه مع الدكتور هيكل إذ يقول في مقاله الذي أشرنا إليه آنفاً (لم يفكر أحد في مشكلاتنا الاجتماعية واضعاً نصب عينيه غاية قومية يريد أن يحققها، بل ترانا إذا فكرنا في الأمر كان الدافع لتفكيرنا فيه عواطف الشفقة أحياناً، والبر بالإنسان أحياناً أخرى، وهذه عواطف قد تحمد في الأفراد، لكنها لا قيمة لها في حياة الجماعة. ويوم فرض الله الزكاة في الإسلام وقرن بها الصدقة لم يقيم الشارع ذلك على أساس العاطفة الفردية، بل أقامه على أساس النظام الاجتماعي).

والكتابة هي زكاة العلم، فيجب أن تقوم على هذا الأصل الفردي المتحمس المتدفق بتياره في أعصاب النظام الاجتماعي، فإذا اتخذها كتابنا على هذا وتكلموا بقلوبهم قبل ألسنتهم وأقلامهم كان ذلك قميناً أن يبعث الرجل الذي سوف يضيء للحياة الاجتماعية سُدَف الجهل والضعة والبغي والاستبداد

أبو العباس السفاح أمير المؤمنين

أثار الأستاذ العبادي في (الثقافة) عدد (47) مشكلة ابتغي حلها، وذلك أنه وصف حلية (أبي العباس أمير المؤمنين) أول خلفاء بني العباس كما رواها المؤرخون من أنه كان (ذا شعرة جعده، طويلاً أبيض، أقنى الأنف، حسن الوجه واللحية) وكان (شاباً متصوِّناً عفيفاً حسن المعاشرة، كريماً معط) إلى نهاية ذلك من كريمات الخصال. ثم استبعد أن يكون هذا الإنسان الرقيق أهلاً لتلك الصورة البشعة الطاغية التي تخلعها عليه معاني هذا الحرف (السفاح) من الجريمة وسفك الدم والرغبة في ذلك والمبالغة فيه. واحتفل الأستاذ للحوادث التاريخية فلم يجد فيها ما يسوِّغ أن يكون (أبو العباس أمير المؤمنين) سفاحاً سفاكا للدماء، وزاد أن ثقات المؤرخين كالطبري والدنيوري لم يذكروه إلا مجرد من هذه الصفة، ثم رجح بدليل بياني جيد أن السفاح محمول هنا على الأصل اللغوي أي الكريم المعطاء الذي يتلف الأموال ولا يبخل بها. ولكن الأستاذ (أحمد أمين) رد عليه بعض أدلته في العدد (49) فردها الأستاذ العبادي عليه في العدد (50) وهكذا إلى العدد (52). وأنا قد أعجبت كل

ص: 46

الإعجاب ببحث الأستاذ العبادي، وإن كنت أخالفه كل المخالفة، وذلك لأنه مبني على منطق تاريخي جيد، ولأنه أراد لأن يفرق فرقاً جيداً بين كتب التاريخ وكتب الأدب القديمة من حيث الحجة في برهانات التاريخ. فإنا نجد كتباً من أعظم كتب الأدب تحمل على الخلفاء من غث الأخلاق ما تناقضه سير هؤلاء الخلفاء كالذي يروون عن الرشيد - وهو بالمنزلة من الشرف والعلم والسياسة وطول الانبعاث للغزو والحجِّ - من معاقرة الخمر والملاهي والاطلاع على الحرم واستباحة الأعراض وغير ذلك مما لا يمكن أن يصح بوجه من الوجوه

هذا، وإني أخالف الأستاذ العبادي، فإنه حين رده الأستاذ (أحمد أمين) رجع عن تفسيره لفظ (السفاح) بالكرم والسخاء لغير علة ظاهرة وأصر على أن (أبا العباس أمير المؤمنين) لم يلقب (بالسفاح) البتة في حياته، ولا ذكر ذلك عنه أئمة المؤرخين وأصر مع ذلك أيضاً على صفات أبي العباس وحيلته تنفي عنه أن يكون سفاكا للدماء؛ ولا كل هذا! فإن هذه الصفات لم يرو لنا إلا أقلها حتى يمكن أن نجعلها أصلاً يستشف خلق أبي العباس من ورائها، وإن الرقة والدعة والجمال ولين الخلق تخفي وراءها أحياناً قسوة لا تدانيها قسوة، كالذي يكون في النساء، فإنهن قد عرِفن بين الناس بالرقة (وهن أغلظ أكباداً من الإبل) وإن المرأة إذا ثارت لم يبلغ مبلغها في القسوة (أقْعد) الوحوش في باب الوحشية! ومع ذلك. . . فهي الزهرة غِبُّ الندى، وهي النسيم في السَّحَر، وهي. . .

وكنت أحب أن استوفي هنا القول في تحقيق هذه الصفة لأبي العباس أمير المؤمنين، ولكني رأيت أن الكلام قد جاوز حده، وأن الدليل يقتضي إثبات كثير مما يخل تركه بالفائدة، فموعدنا الكلمة التالية إن شاء الله.

محمود محمد شاكر

ص: 47

‌رسالة الفن

دراسات في الفن

أعوذ بالله إنه (مكياج)!

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

- ما هذا التخطيط؟ أردت بالأمس أن تلحن فأخفقت، واليوم تصور وتريد أن تكون رساماً؟

- أبعدتموني عن الألحان وقلتم كلاماً معناه: (أسكت)، فهل تريدون اليوم أن تخطفوا من يدي الريشة فلا أصور. . . خذوها أيضاً!

- لا تُغَنِّ ولكن لا تغضب، وارسم وسنرى في رسمك رأياً. . فما تريد أن ترسمه. . فكرة؟ أو إنسان؟ أو عاطفة؟ أو عاصفة؟. . .

- لا لا. . . إنسان، كل ما أعرفه عنه هو أنه (كاتب من الكتاب) كتب فصلاً في عدد الرسالة الأخير يوازن فيه بين نفسه وبين سيدنا أيوب

- إذن فستكون صورته أشبه الصور بالصورة التي نتخيلها لسيدنا أيوب

- لا. . بل ستكون صورة أخرى. لأن هذا الكاتب نفسه أراد أن تختلف صورته عن صورة أيوب اختلافاً كبيراً

- وأنى لك ذلك؟

- من كلامه هو فهو يقول: (أيوب فقد الثروة والعافية ولم يفقد اليقين، وأنا فقدت الثروة والعافية واليقين. أضاع الله من أضاعوني! وأيوب استطاع أن يعاتب ربه بقصيد رنان وهو في أمان من ثورة الجمهور، فظفر بالخلود في عالم الفكر والبيان، وأنا لا أملك معاتبة ربي بسطر واحد خوفاً من رئيس التحرير، وخوفاً من شيخ الأزهر، وخوفاً من محكمة الجنايات، وأين فجيعة أيوب في دنياه من فجيعتي في دنياي؟ كان الدينار لعهد أيوب يمون الرجل شهراً أو شهرين، وأنا في عهدي يهان فيه الرجل إن اكتفى بالدينار يوماً أو يومين، فمن يسلطني على دهري فأسجل رزاياه على نحو ما صنع أيوب؟ وكانت الأرض لعهد أيوب بلا رسوم ولا حدود فكان المجاهد ينال منا ما يشاء كيف شاء، وهي اليوم مقسمة تقسيما يصد المجاهدين أعنف الصدود). . . وهو قبل ذلك يقول للذين أضاعوه - فيما

ص: 48

يظهر - (لقد أفلحتم في زعزعة اليقين الذي كنت أفزع إليه حين تكرثني صروف الزمان، فأين أنتم لأشكو إليكم ما جنت أيديكم؟ وأين السبيل إلى ترميم البناء الذي كنت أستظل به من قبل أن أنخدع بالبرق الذي أزغتم به فؤادي. . .؟) فهلا ترين أن هناك خلافاً بين الذي يقول هذا الكلام وبين أيوب؟

- أنا لم أقرأ سفر أيوب

- هو رجل أعطاه الله كثيراً، فابتلاه الله، فصبر، فرفع الله البلايا عنه وفاز. فاختاري له ما تشائين من صوره، وانظري معي في هذه الصورة الجديدة فقد يحتمل أن تشبه إحدى صور أيوب

- وأين هي الصورة، فأني لا أرى في الورقة غير خطوط

- الصورة لا تزال في الغيب وسنستدرجها معاً. . . ولنبدأ بتصوير الرجل الذي فقد الثروة والعافية واليقين. . . هذا الرجل ما مظهره؟ وكيف نرسمه؟

- نرسمه أول كل شيء في أثواب من فقد الثروة، وهي ليست أنيقة ولا غالية، وهو بعد ذلك هزيل ضعيف لا قوة فيه ولا صحة، ولا بد أن تظهر الحيرة في عينيه ما دام قد فقد اليقين. وقد يكون بدل الحيرة جزع، وقد يكون بدل الجزع حذر، وقد يكون بدل الحذر قسوة، وقد يكون بدل القسوة غيرها من سائر النزعات التي تستولي على من فقد اليقين. . .

- بعد أسبوع واحد سأنشئ أنا وأنت استديو نصور فيه العفاريت. . . وما رأيك في قوله: أضاع الله من أضاعوني؟ أهي كراهة منه لمن أضاعوه فنرسمها على وجه، أم هي اعتذار عن فقدانه الثروة والعافية واليقين؟. . . فهو يريد به أن يغفر الناس له مظاهر هذا الفقدان؟

- أظنها كراهة، وأظن هذا الرجل مجنياً عليه، وأظنه لو تمكن من الذين أضاعوه لأضاعهم. . .

- وأنا يخيل إلي أن قوله هذا لا هو كراهة ولا هو اعتذار فقد نسيت أن أقرا عليك من كلامه قوله للذين أضاعوه: خذوني إليكم في ملاعبكم وملاهيكم، عساني أنسى جاذبية البؤس في صحبة قلمي وكتابي!

- عجباً!. . . فهو إذن لا يكره الذين أضاعوه، وإنما يريد أن يكون معهم. فلنرسم إذن على

ص: 49

وجهه شيئاً من الغيرة. . . أو لعلها سخرية. . .

- سخرية ممن؟ من الذين يريد هو أن يكون معهم؟ لا. ليست سخرية. وهو بعد ذلك يريد أن يعاتب الله الذي هو الله معاتبة لا تكون إلا من صاحب حق عند نائل منه، ومع هذا، فهو يخشى رئيس التحرير، وشيخ الأزهر. . . فكيف نرسم الرجل الذي له حق عند الله، وعلى علمه بهذا يخشى الأستاذ أحمد حسن الزيات، وفضيلة الأستاذ المراغي. . . كيف يمكن أن نتصور هذا؟ إني لا أتصوره!

- ولا أنا!

- ولا أي إنسان، فأولئك الذين يقرضون الله، ويعطون الله، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وهم يعرفون هذا من تلقاء أنفسهم لأنهم يعرفون الله ويعرفون أنهم يقرضونه ويعطونه، ويعرفون من هو الله، ومن إلى جانبه رئيس التحرير وشيخ الأزهر. . .

- إذن فأنت تريد أن تقول إنها ناحية مبهمة في الصورة. . .

- بل أقول إنها مكياج. وإنها تشبه دعاءه على الذين أضاعوه في الوقت الذي يريد فيه أن يكون مع الذين أضاعوه في ملاعبهم وملاهيهم. . .

- فكأنه لا أعطي الله ولا أقرضه. . .

- الله أعلم. . . وهو يحسب لأيوب من النعمة أنه ظفر بالخلود في عالم الفكر والبيان لما عاتب ربه بقصد رنان وهو في أمان من ثورة الجمهور. . . فما الذي يبديه هذا الإحساس في وجهه من الإمارات؟

- إمارات الفكر، لاشك، وعلامات عشاق الخلود. . .

- كلا. فلو سئل أيوب أن يتحدث مرة أخرى عما نال من نعمة الله في عتابه ربه، لذكر أنها هدى ربه، ولما ذكر بيانه ولا قصيده ولا فكره، فما كان أيوب يسعى إلى كلام ينمقه فيحفظه الناس عنه ويروونه له بعد موته، وإنما كان أيوب يتجه إلى الله يطلب منه أن يصلح نفسه، وأن يكشف له عن حكمته فيما ناله من بلوى استعذبها وصبر عليها. . . فأيوب الذي كانت هذه هي نفسه هو الذي تبدو عليه إمارات الفكر لا شك، وعلامات عشاق الخلود

- فمكياج هذه أيضاً؟

ص: 50

ولم لا. . . هذا مقال ظهر في رأس السنة، ورأس السنة عيد يتنكر فيه أصحابه لهواً وعبثاً. . . فلنمض مع صاحبنا هذا، فإنه من غير شك لذيذ. . .

- وهبك وصلت إلى تصويره حقاً. . . فهل تجرؤ على نشر صورته، وهو رجل لا تعرفه، وقد يغضب عليك وأنت أحوج ما تكون إلى عطف الناس لا إغضابهم. . .

- ولماذا يغضب (أيوب الثاني) من كلمتين يقولهما كاتب صغير مفضوح مثلي. . . إنه لو غضب لأكد غضبه لنفسه ما أدعيه من أن صورة أيوب التي يريد أن يرسمها على نفسه إنما هي مكياج. . .

- إذن فامض هداك الله، وهداه معك، وهداني معكما. . .

- آمين. لو كنت قرأت سفر أيوب لكنت رأيت فيه أن أيوب لم يتفجع من فقدان الثروة إلا على أنه مظهر من مظاهر غضب الله. . . ولكن أيوب الثاني هذا الجديد يذكر الفجيعة في الدنيا على أن أفجع ما فيها هو أنها أصابت دنياه فيقول: (وأين فجيعة أيوب في دنياه من فجيعتي في دنياي؟) فبأي الصور تتصورين أيوب الثاني. . .

- بصورة الرجل الذي تهون فجيعة أيوب في دنياه إلى جانب فجيعته فيها. . . وأيوب على ما أظن فقد في الدنيا من الفقر والمرض الخبز وأدنأ ما يسد الرمق، كما فقد الملبس وأهون ما يستر الجسد.

- فهل تظنين كاتباً من الكتاب الذين يكتبون لمجلة رائجة مثل الرسالة تصل به الحال إلى هذا ولا يعاونه صاحب الرسالة وكتابها وقراؤها ولو برغيف وبنطلون؟ أنا لا أظن ذلك. . . وهذه أيضاً مكياج. . .

- إن الرجل يتكلم كلاماً يعتمد فيه على النسبة بينه وبين أيوب، وزمانه وزمان أيوب. . . فأيوب نبي، وعاش في عصر أوفر رغداً من عصرنا. . .

- وهذا هو الذي يقوله هو. . . ولكن لا تنسى أنه يوازن بين نفسه وبين أيوب من ناحية واحدة فقط، وهي هذا الشقاء الذي يفرض أنه قد مسه، وينسى بعد ذلك لأيوب بقية نواحيه وأولها أنه لم يكن يعرف (المكياج) وهي ناحية أساسية في أيوب وفي كل من يريد أن يكون كأيوب.

- فلندع هذه أيضاً. . .

ص: 51

- ولنر إلى قوله إن الدينار والدينارين. . .

- لا لا. . . فلندع هذه. . . فإن الكاتب من الكتاب الذي يشعر بأن الإنسان يهان في هذا العصر إذا اكتفى بالدينار في اليوم أو اليومين. . . فهو من غير شك قد رحمه الله من إهانات يالها من إهانات لو لم يكن ينفق الدينار في اليوم أو اليومين. . . كان الله في عون الكتاب وغير الكتاب من أبناء اليوم الذين ينفقون الدينار في الأسبوع أو في الشهر أو في العام. . . إن هؤلاء هم الأيوبون

- بعدها يا سيدتي قوله: ومن يسلطني على دهري فأسجل رزاياه على نحو ما صنع أيوب؟ فهو لا يسجل على دهره الرزايا إلا إذا سلطه على الدهر أحد، على الرغم من قوله إن الدهر أوجعه وأشقاه. . . فكيف نصوره أمام الدهر؟

- لو كان خائفاً من الدهر لكان قد سكت على الدهر ولم يناوشه ولم يصارحه العداء، ولو كان هاجماً على الدهر لما عبأ بالدهر ولما طلب الذي يسلطه عليه ويمكنه منه، فلا هو خائف ولا هو هاجم. . .

- فماذا يكون إلا أنه صاحب سياسة مع الدهر حكيمة فهو لا يهاجمه على الرغم من عدائه له انتظاراً لمن يسلطه عليه؟. . .

- ولكنه على هذه الحكمة يصارح الدهر بالعداء. . . وليس من الحكمة في شيء أن يصارح الإنسان عدوه بالعداء وهو عاجز عنه خائف منه. . .

- فهذه الحكمة أيضاً مكياج أو هذه الصراحة هي المكياج. . والله أعلم. . . على أنه قد خطرت لي الآن صورة مضحكة قد تجتمع فيها ملامح هذا الاضطراب كله: في الريف عندنا ناس يسلطهم الأعداء على أعدائهم. . . فيكرهون ويعادون ويحاربون ويقهرون؛ تبعاً لما يوحي به إليهم من يسلطهم. . . وهؤلاء من كثرة تدربهم على التسلط والتسليط أصبحوا يتسامحون فيما ينالهم هم من الأذى فلا يأخذون بالثار لأنفسهم ولا يستردون حقوقهم، لأنه لا أحد يسلطهم إلا على أعدائه هو لا على أعدائهم هم. . . فما رأيك؟

- ولكن هذه لا يمكن أن تكون صورة كاتب من الكاتب

- إني قلت ذلك. . . فالمفروض أن الكاتب من الكتاب له رأي خاص وكيان خاص وتفكير خاص؛ وهو يموت ولا يحتمل أن يسلطه إنسان على شيء. . .

ص: 52

- ولكن كيف ذكرت الريف وأنت لست منه ولم تحل به إلا خطفات؟

- لعل الذي دفع صورة الريف إلى ذهني هو قول صديقنا: وكانت الأرض لعهد أيوب بلا رسوم ولا حدود، فكان المجاهد ينال منها ما يشاء كيف شاء، وهي اليوم مقسمة تقسيما يصد المجاهدين أعنف الصدود. . . فالأمر الذي لا شك فيه هو أن ذكر الأرض يكثر على ألسنة الريفيين.

- ولكن الرجل ذكر بعد الأرض البحار فقال إنها كانت مصادر خيرات، وذكر السماء وقال إنها كانت مساقط غيث ومذاهب نسيم وهذا هو ما يدعوني إلى القول بأنه كاتب من الكتاب يزن الكلام ويوازن المعاني، أفكنت تريدين أن يسكت عند ذكر الأرض فقط فتكون منه هذه هي الواحدة التي يهمل فيها (المكياج)؟ إنه كاتب من الكتاب. . . وهو إلى أنه كاتب يرى نفسه مجاهداً، وكان يجب أن تكون الأرض بلا حدود ولا رسوم لينال منها المجاهدون - وهو منهم - ما يشاء كيف شاء. . . إنه يريد الأرض ويريد أن ينال. . . والآن أرشديني وقولي لي كيف تكون صورة هذا الكاتب الصديق. . . هل تستطيعين أن تبحثي لي عن (موديل) له أرسمه. . .

- لا. . .

- وأنا قد بدأت واعترفت بالعجز، ورسمت هذه الخطوط التي رأيتها في الورقة فلم ترضي أن تقري في البدء بأنها صورة إنسان. . .

- ولكن هذا الذي رسمته يا شيخ ليس صورة ما. أعوذ بالله

- هي صورة، ولكنها مرسومة بالأسلوب (المودرن). . . وكم أحب أن أعرف رأي صاحبها فيها - من غير غضب - وعليه مني السلام ومن الله الرحمة والبركات.

عزيز أحمد فهمي

ص: 53

‌رسالة العلم

قانون نيوتن الثالث

وارتباطه بحياتنا العامة

للأستاذ إبراهيم زكي أباظة

إن معظم القوانين الطبيعية التي وصلنا إليها كانت نتيجة تجارب جاءت إما عفواً، وإما استنتاجاً من قوانين أخرى سابقة. وكثيراً ما عد العلماء ورجال البحث أهمية القانون بتعقده وصعوبة الوصول إلى الحلول التي كشف عنها أكثر مما يلعبه من دور هام في مناح مختلفة من حياتنا العامة، سواء أكانت هذه النواحي مباشرة في ظهورها، أم غير مباشرة في تأثيرها. ولعل الشهرة التي يتمتع بها السر إسحاق نيوتن تتمركز في المكان الأول على قانون الجاذبية العام الذي وضعه، ثم ما تفرع عنه من مشاكل ومسائل طبيعية ورياضية جعلت صاحبه من أعظم الرياضيين.

ففي نفس الطريقة التي كشف بها قانون الجاذبية العام عن مظاهر طبيعية عدة، كان الإلمام بها يعد قديماً من عمل الخوارق. كذلك يمكننا بواسطة عدة تحاليل علمية ومنطقية أن نتوصل إلى أن قانون (نيوتن الثالث)، لا يترك ناحية من نواحي حياتنا إلا وله فيها تطبيق وعمل. وعلى مدى مرونة هذا القانون تبنى أهميته وتجعله في مقدمة القوانين العامة التي تشترك بها جميع العلوم.

ينص هذا القانون على أن لكل فعل رد فعل مساوياً له وفي عكس الاتجاه:

فإذا تكونت في جسم ما قوة من نوع (سالب) عندئذ وجب وجود قوة معاكسة ومساوية لها من نوع (موجب). فإذن وجود الواحدة يعني وجود الأخرى أو الاثنين. فإذا لاحظنا الأمور التي تجري أمامنا، وتبصرنا كل جسم وحيز، كل جماد وحي، وكل غاز وصلب، وجدناها تقع تحت مؤثرات تختلف باختلاف أنواعها ومصادرها. حتى الفكر والعلم والزمن وكل شيء معنوي تتجاذبه مؤثرات متعاكسة النوع تؤثر فيه حسب ناموس قديم متناسق تناسقاً منطقياً يستند على هذا القانون؛ وهذا هو التفسير الذي نبني عليه هذا البحث

فلو أراد شخص رفع ثقل عن الأرض كحجر بواسطة حبل فاقتلعه بقوة لانقطع الحبل، لأن

ص: 54

قوة كبيرة تساوي القوة التي بذلها الرجل في الرفع قد وجدت في الحجر، ولكنها تسير مضادة للأولى، وهكذا تتكون قوتان متعاكستان في المفعول فينتج عن هذا التدافع العكسي تأثير على الحبل يتناسب مع حدة هاتين القوتين المتحاربتين فينقطع. ولكن لو رفع بلطف لما انقطع، لأن القوتين اللتين تعملان في اتجاه معاكس تخف وطأتهما على الحبل لدرجة يستطيع تحملها بعكس ما يحدث في الحالة الأولى

هذا مثل من أمثلة عديدة لها أهمية خطيرة في علم الطبيعيات. ولا أظن أن تطبيق هذا القانون في بقية العلوم إلا كاشفاً عن أسرار تساوي أخوتها في الطبيعيات إن لم تفقها.

لقد أثبت علم النفس أن الشرير مهما تمادى في شره، وأن المرأة الساقطة مهما تطرَّفت في انحطاطها، يُكِنان في فؤادهما من الروح الصالح والطينة الطيبة ما يمنع قطع الأمل من إصلاحهما. فكم من متهتكة عاهر أصبحت يوماً ما من أرق القلوب وأعطفها على المظلومين والضعفاء والمرضى، فذهبت تجعل ما بقي من حياتها وقفاً على مواساة المريض وإعانة الضعيف. فبمقتضى هذا القانون - وإن كان طبيعياً - نثبت أن المقدار أو النسبة المئوية من الخلق الشرير لا بد وأن يوجد مقدار مساو له تماماً، ولكن من الناحية المضادة، أي من الخلق الحسن المحمود. وأما تعليل تفوق عنصر على ضده فهو أن ظروف الحياة والبيئة ساعدت على نمو الواحد وعرقلت نمو الآخر بنفس الطريقة التي يبيد بها نوع من المكروبات إناثي حشرة ما، بينما يساعد على بقاء ذكورها، أو يقتل نوعاً من الحشرات ويبقى على نوع آخر. فإن امتد الأجل بذلك الشرير ضعفت العوامل التي ساعدت على تيقظ خصلة خلقية فيه وقتلت المضادة. عندئذ تسنح الفرصة لظهور الطرف الثاني من الكيان الخلقي الذي لبث دهراً مديداً طي الخفاء

ومما نلاحظه كثيراً وأثبته علم النبات أنك إذا بترت غصناً من شجرة فلا بد من ظهور طلع في مكان آخر من الشجرة: أي أن العضو الذي يُعاق نموه في مكان ما يسير اتجاه نشاطه إلى مكان آخر؛ وربما لم يصلح جذع الشجرة كله لظهور طلع جديد بدل المبتور، عندئذ نلاحظ أن طلعاً أو عدة طلوع برزت قرب الجذر. هذا في أغلب الحالات وفي بعضها تحول فاعلية العضو المبتور إلى عضو آخر فتزيد نشاطه مثلاً كأن تزيد نضرة الورق أو نضوج الفاكهة. ونفس النظرية يمكن تطبيقها في جسم الإنسان أو في أي جسم

ص: 55

حي

هذه الأمثال من حيث الظواهر الطبيعية التي فسرت حسب هذا القانون. فنستنتج من ذلك أن كل جسم في الكون حياً كان أم جماداً يتكون من عنصرين: سالب وموجب. ففي الوقت الذي يسيطر فيه أحد العنصرين على الحالة القائمة في الجسم يختفي الثاني - ولكنه لا يزال موجوداً - فكأن نظام تسلط الفرد أو مجموعة من الأفراد التي هي عنصر واحد قائم حتى في خفايا التراكيب الكونية مهما تنوعت أصنافها. وهنا تتاح الفرصة للظروف أن تقرر سيادة أحد العنصرين واختفاء الآخر مؤقتاً - كما في الأخلاق - مع أن توازن الجسم لا يتوفر إلا بوجودهما معاً وإن نشط الواحد وفتر الآخر

ففي المثل الأول من مقالنا قلنا إن رفع الحبل بعنف أو بلطف سبب الحالة التي قررنا. فهنالك قوتان تسيران متعاكستين في الحبل وجدتا وتركزتا فيه عندما تم فتله. وهاتان القوتان متساويتان في الجذب؛ وبهذا نعلل كون الحبل لا يتحرك أو لا يتحرك في حالة عدم وقوعه تحت مؤثرات خارجية، فتبقى القوتان ساكنتين، حتى يجيء باعث أو محرك خارجي فيثيرهما ويجعل لواحدة السيطرة على الأخرى. ففي حالة هذا الحبل سيطرت القوة المعاكسة لثقل الوطأة فقطع، وبالتالي سيطرت القوة الأساسية التي بذلها الرافع فلم ينقطع. فالسالب والموجب إذن موجودان في أي كيان لا يلزمه سوى باعث يثير الواحدة على الأخرى والنصر يعتمد على شدة هذا الباعث أو المحرك

وهنا نظفر بحقيقة في علم الأخلاق على جانب من الخطورة عظيم، إذ يمكننا تحت ضوئها أن نصلح أي خلق شاذ في أي شخص إذا فهمنا روح النظرية وسرنا في تطبيقها بخطوات منطقية متوازنة. فإذا فرضنا أن شخصاً مصاب بعادة الحياء أو الخوف أو الاستكانة، فما علينا إلا أن نعمل على إيجاد الظروف والمناسبات التي تكثر فيها الحوادث التي يعاوده في أثنائها مفعول استحيائه أو خوفه مع الاستعانة في تنبيه فكره بواسطة غير مباشرة إلى ملاحظة ما يترتب على عمله، ولتكن هذه المصادفات متتابعة متلاحقة - ولكن بشرط إعطائه الوقت الكافي للتأمل في أعماله - بحيث يتركز مفعولها وأثره. فما من شك مطلقاً في أن صفة خلقية معاكسة تنشأ وتترعرع حالاً بقوة وتطرف موازيين للقوة والتطرف في الحالة الأولى أي في حالة وجود الاستحياء والخوف، فتنشأ الجرأة بدل الأول والشجاعة

ص: 56

بدل الثاني

واستناداً إلى تفسير هذا القانون والنظرية العملية التي استخلصت منه يصبح في مقدورنا التنبؤ بعدة نظريات وآراء علمية عديدة منها ما ظهر وبرهن على وجوده في العلم الذي يتعلق به، ومنها ما يمكن التنبؤ به استناداً إلى هذا القانون، إذا تحرينا في استنتاجاتنا الخطوات المنطقية. ومن النظريات التي تنبئ بها على ضوء هذا القانون - طبعاً بصورة غير مباشرة - نظرية تركيب الذرة ففي الوقت الذي عرفت فيه بواسطة التفاعلات الكيميائية بين المركبات من نوعي الكهارب التي تسير في مداراتها حول نواة الذرة وهذه ما تسمى بالـ عندئذ - عرف وجود البروتون لأن الكهارب هي الشحنات السالبة والبروتونات هي الشحنات الموجبة ووجدت هذه الشحنات المختلفة بنسب متساوية تماماً في الذريرة

وهنالك من الأحياء في الطبقات الدنيا ما لا يزيد تركيبه على خلية واحدة تقوم في نفس الوقت بجميع عمليات الجسم الضرورية كالهضم والتنفس والإفرازات، ومن هذه الحيوانات الـ والـ فلو تصورنا وجود هذه الحيوانات ذوات الخلية الواحدة في أقصى طرف من عمود خشبي يستدق في طرف ويتدرج في الغلظ وتخيلنا هذه الحيوانات الدنيا كأنها تشكل نهاية الطرف المستدق فلا بد إذن من وجود حيوانات تقابل هذه على الطرف الآخر من العمود، وأنها تكون نهاية في الغلظ لوجدنا أنه يتحتم وجود حيوان متناه في قوته وجرمه فائق في دقة تراكيبه الجسمية ووظائف الأعضاء فتكون قوته وحجمه متطرفين بل متناهيين في التطرف بالقدر الذي تكون فيه الأميبا متناهية في الضعف والتلاشي ودقة الحجم. فلو احتجنا إلى مكرسكوب قوي لمشاهدة الأميبا بما فيها من تراكيب غاية في البساطة، لأمكننا أن نتصور بل نتأكد من وجود حيوان كبير جداً يعجز نظرنا عن الإحاطة بجرمه إلا إذا ذهبنا لمسافة بعيدة حيث نتمكن من رؤيته كله. ولهذه الحقيقة ما يؤيدها تاريخياً وهو وجود حيوان يسمى بالدينصور الذي زعم المؤرخون أنه كان هائل الجسم والبطش إلا أنه أنقرض بفعل الثلج في العصور الجليدية. وكذلك الحيوان الذي يقال بوجوده أيضاً ويسمى بالتراخودن من فصيلة الدينصور، ويقدرون قوته وسرعته بأنه يقطع مسافة سبعة أميال بخطوة واحدة من خطاه. وفي البحار ما يقارب هذه الحيوانات كالحيتان،

ص: 57

فمنها ما يقابل - تقريباً - في الكبر الأميبا في الصغر

ولا شك أن الحيوان الذي يتمم هذا التقابل قد وجد ورتع يوماً ما على ظهر الأرض وسوف يكشف عنه العلم والتاريخ يوماً ما.

هذه حقائق يمكن أن نتلمسها بالفكر والنظر البعيد. كما أنه من الممكن بهذا القانون التنبؤ بنظريات واقعية تجري مبادئها مجرى العمل في كل مضمار من مضامير العلم. واعتقد اعتقاداً راسخاً أن العلم السائر دوماً إلى الأمام سوف يبرهن عليها بقوانينه وحسابه وملاحظاته وتجاربه إن لم يكف قانون نيوتن الثالث للبرهنة عليها بصورة حاسمة

كما لا شك في أن ما نجده من تناقض واختلاف - حسب ما نعتقده - سواء في مجرى الأحداث الطبيعية أو شتى شؤون الحياة المتنوعة أو طباع الناس وأخلاقهم، لا نجد له تعليلاً منطقياً غير الرجوع إلى هذا القانون. ولو نجحنا في بعض الأحيان في إيجاد تعليل إلا أن المصدر الأعلى الشامل لتعليل جميع ما نرى من متناقضات وأضداد في مجرى الطبيعة والحياة اليومية وسير التاريخ العام هو هذا القانون الخالد ما خلد صاحبه

(نابلس)

إبراهيم زكي أباظة

ص: 58

‌القصص

الأب. . .

لجي دي موباسان

بقلم الأستاذ مراد الكرداني

تعلقها لحظة سنحت لعينيه. فقد كانت ذات جمال هادئ صارخ، يتسلل إلى الحواس في دهاء ولطف، حتى إذا تمكن واستوى، فعل فعله، ودار فيها على طبيعته حنيناً ورغبة ونداء. ثم كان لِزاماً عليهما أن يتراءيا كل صباح، لأن عملهما كان يقتضيهما أن يهبطا باريس كل يوم مع الهابطين.

لم يكن يعرفها، وما كان رآها، إنما كان يجد نفسه في كل صباح جالساً تجاه فتاة جميلة، سرعان ما أحبها، وسرعان ما ألقت أنوثتها في ذهنه إنها امرأة وديعة لينة، ضعيفة، فشرع يغزوها

كان يحملق في وجهها، وخديها، ثدييها بشراهة عجيبة. وكانت إذ تدرك منه ذلك تحملق فيه، فلا يردُّ عينه عنها، فتضطرب، ويصعد الدم وفيراً إلى وجنتيها، فتزداد جمالاً وفتنة، فيزداد هو شوقاً ورغبة. . .

ولا يدريان: لا هو، ولا هي، هل كان واحد منهما يحرص أن يكون جار صاحبه في مقعد المركبة كل يوم؟ أم هي مصادفة ساقها القدر وفّقت أن يلتقيا هكذا أسبوعاً كاملاً؟. . . كان لا مفر بعده من أن تجري بينهما بضعة كلمات خفاف قصار في ابتسامة أخف وأقصر، لعلهن كن تمتمة شكر لقاء أن آثرها وأجلسها في مكانه في يومٍ كانت العربة فيه ملأا بركابها. . .

وفي اليوم التالي تصافحا يداً بيد، ثم تكلما، ثم تصادقا. . . ثم كانت له برغم ذلك شاغلاً يملأ خلايا مخه طول يومه وسواد ليلته، إلى أن يلقاها. . . وإنه ليرقب مشرق وجهها على فؤاده بشوق وحنين، وإنه ليفكر في نصف الساعة التي ينعم فيها بها، حتى إذا بلغا غايتهما، وآن لهما أن يفترقا، شعر بفراغ هائل يداخل نفسه؛ وتعاظمته تلك القسمة الحرام التي قسمت له من زمان حبيبته جزءاً واحداً من ثمانية وأربعين جزءاً. . .

ص: 59

ولما توثق ما بينهما اشتهى أن يكون وإياها رجلاً مع امرأة؛ ولعلها اشتهت مثلما اشتهى لأنها قالت له في صباح يوم سبت من أيام الربيع، وهما يتواعدان أن يلتقيا غداً في مطعم فاخر:

- قبل أن نذهب أحب أن أقول لك كلمة، وأمامنا عشرون دقيقة نستطيع أن نقول فيها كلمات. . .

وتغافل هو عما أحس من اضطراب جسمها واهتزاز ذراعها في ذراعه وهي تلقي إليه قولها، قالت في صوت خافت:

- أحب أن تعلم أنك ستطوي نهارك مع فتاة شريفة لا تحب أن تذهب مع رجل حتى يتعهد باحترامها. . .

وتوهج خداها وحرّت أنفاسها وتعنّف اضطرابها، فلم تعد تملك أمر نفسها فسكتت، وسكت هو لا يدري ماذا يقول فقد كان في حسابه أنه سيمتع نفسه بكل ما يمكن أن يفعله رجل يحب فتاة. وإذ لم يحر جواباً ثنت هي تقول:

- إنني لن أذهب معك حتى تتعهد باحترامي

ولما برحا المطعم الموعود سارا معاً على ضفة النهر يمتعان أعينهما بالماء الحالم في هُدأًةِ الأصيل وبالجو السجسج الدافئ. وكانت لمعة الضوء تتكسر على صفحة الماء الحابي، والأسماك تتواثب وتتلاعب ثم تنغمر في الماء. وأشعت الشمس تسيل فتصبغ الماء والحشائش والأفق بلونٍ رهيب. . . كان كل ذلك يزيد من جمال النهر ويكسبه روعة وجلالا

وتفاعلا في روعة هذا الجمال الضافي فراحا يلعبان ويثبان. وراحت هي تشتبك في ذراعه ثم تتركه لتدفعه من ظهره. ثم تجري منه ضاحكة ثم تؤامنه لتنحني فتجمع له الزهر النامي على حافة النهر وتقدمه له أو تلقيه في الماء. وظلا هكذا - كطفلين غريرين - حتى جرت دمائهما. ثم سارا هادئين لحظة لأنها بدا لها أن تقول له:

- ماذا تضن فيّ وقد جئت معك منفردة!

- إن هذا أمر عادي مألوف

- لا. ليس عادياً ولا مألوف، ولكني مع ذلك لا أظن إنني أكره مثل هذا الطيش، ولي أم

ص: 60

مريضة ومتعبة كانت أولا بوقتي هذا، ولم يكن يليق أن أتركها وألهو ولكن. . . أرجو أن لا تسيء بي الظن

ولم يكن لديه لهذا الخلط الذي لم يفهمه سوى أن مال عليها فقبلها قبلة أخطأت خدها وأصابت أذنها. فنفرت منه كظبي مذعور وتغاضبت عليه. ولم تطل. . . بل أقبلت عليه تذكره بوعده لتمهد أن يعودا - كما كانا - مرحين لاعبين

وكان الهواء قد رق وصفا. وسرا عطريّ الروحة والغدوة يحمل في طوايا هبته شذاً قوياً يدير الرأس حين يدور فيها عندما بدت لهما من بعد حديقة لفاء يحبو تحتها ماء النهر، وتذِّهب ذراها أشعة الشمس الغاربة، كانت تبدو من بعد كسرادق مظلم أو ككهف عظيم. ولما قارباها أخذت هي تحدق فيها بعين بارقة مفتوحة، وقالت في صوت خافت كأنه يأتي من أعماق أعماقها

- ما أجملها. . . ما أجملها!

ولما اقتحماها وسارا فيها بلغا فيها خباء بين دوحتين فارعتين لا تبلغه العين، ولا يبلغه الضوء، إلا قطعاً نثاراً كنقوش الثوب، وملأت رأسيهما فيه ريح عطرة مثيرة قوية! فجلسا حالمين تائهين. . . ثم تقاربا في بطئ وسكون، ثم تضاما، ثم عصفت بهما نار الرغبة فلم تملك إلا أن تحسس فمه بشفتيها. فجعل يعتصرهما بجنون، ويضمها إلى صدره بشوق وقوة وعنف، وقد غابا ونسيا نفسيهما. . .!

ولما أفاقت لم تكن تريد أن تصدق. . . ثم أخذت تصيح وتصرخ. . . ثم هدأت لتبكي. . . ثم لما فرغت لم ترد أن تسمع لكلماته وهو يفرغها في أذنيها ليخفف عنها ما بها من جزع وأسى، بل جعلت تهتف في صوت خافت ضعيف:

- رب ماذا فعلت. . . ماذا فعلت!

وساوره الخوف والفزع مما رأى من حمرة خديها وعمق عينيها وجعل يرتعد وهو يرجوها أن تبقى ليتفاهما، وليدبرا الأمر على قانون الواقع ولكنها تركته دون كلمة أو وداع. . .

ولما لقيها في اليوم التالي ألفاها ساهمة شاحبة ظاهرة الأسى، كأنها خالصة من أعقاب مرض طويل أضناها وذوب قواها. قالت له حين تصابحا في همس:

- أريد أن أتحدث إليك قليلاً. . .

ص: 61

ولما انفردا قالت له في ألم وجد:

- أنه ليحسن بنا أن نفترق، فإن من الخير أن لا نلتقي بعد ذلك، وبعد الذي كان لا أحب أن أراك لأنني كنت ضعيفة ومجنونة، فليس هناك ما يبرر أن أعود لهذا الجنون وذلك الضعف مرة أخرى!

فجعل يتوسل إليها أن تلحق به وهو يؤكد لها أنه سيصلح ما أفسده. وأنه سيتزوجها إن شاءت ومتى شاءت ولكن عبثاً ما حاول فقد رفضت أن تسمع له وتركته ومضت

ولم يعد يراها. ومر أسبوع وأسبوع، ولم يكن يعرف مأواها، ولعله أيس منها أو لم يقطع في أمرها بأمر، لأنه ذهب مرة يفتح الباب لطارق فوجدها هي. وأثلج صدره أن شعر بها فيه، تملأه وتهدهده، ورأى ذراعيه قد التفتا عليها، وجعلتا تضغطانها في رفق وشوق. . .

وعاشا معاً ثلاثة شهور شعر بعدها بالملل منها، فتهابط حبه لها وشغفه بها، ونقصت رعايته إياها وعنايته بها. . . ثم جبن وتسافل حين ذكرت له إن جنيناً يتواثب في أحشائها فكأنما كان هذا النبأ عصاً ألهبته، لأنه فر من وجهها مسرعاً لا يلوي. واختفى. . . لا حذرها ولا أخبرها إلى أين. . . ولا هي ارتضت لنفسها أن تبحث عنه

لقد طاوعت كبرياءها فلم ترد أن تفعل، ولم تجد في وسع عينيها سوى أمها. . . فتهاوت في صدرها حزينة باكية تشكو لها بثها، وترجو عندها الستر والصفح والسلوى. . .

وفي الجانب الآخر عاش الخاطئ المسكين عيشة مضطربة قلقة سمجة، لا معنى لها ولا غناء فيها. . . عاش وحيداً منعزلا، لأن عليه أن يعيش. . . كانت الدنيا في عينيه مظلمة قاتمة سخيفة لا خير فيها. ولو لم يكن لديه إلا عمله يرى فيه بضعة وجوه لمات كمداً ومللاً. . . فتخامد شبابه وانطفأ نور حياته في حضيض خطيئته. وغدا على الدنيا شبحاً يود لو ينتهي

وكان يقسو عليه ألمه أحياناً فيضيق بوحدته فيخرج في آصال أيام الأحد ليسير ثقيلاً متباطئاً، وما هي إلا خطى معدودة حتى يجلس ملولاً ضيق الصدر، ليرى الأسر السعيدة مغتبطة هانئة بأطفالها التي تجري حولها بوجوه ضاحكة مستبشرة. وكان هذا المرأى في ذاته يزيد ألمه وحزنه، ويسلمه إلى شعور عنيف يستبد به فيشعر أن قلبه ينسحق تحت معول ضخم، فلا يملك لنفسه إلا أن يطرق ويصمت

ص: 62

وفي ذات صباح وكان يسير شريداً مضيعاً، لمح امرأة تتهادى بين طفلين يلعبان حولها، أما أحدهما فطفل لم يجاوز الرابعة، وأما الثاني فغلام تشرّف على العاشرة

اهتز حين رآها وداخله نحوها شعور ما، ولما لم يكن مخطئاً جمد ولم يستطع حراكاً، فقد فَقَدَ هيمنته على نفسه، ولم يعد إلا عيناً تدور وراءها وتتابع حركاتها. وازداد يقينه حين شعر بحنين عنيف يثور في صدره نحو أكبر الطفلين عندما التفت مرة فوضحت ملامحه. . .

في تلك الليلة لم ينم، فقد سهَّده أمل أشرق ثم خبا. فبات فريسة تفكير مضنٍ طويل: تُرى هل هذا ابنه. . . وهل هي هي. . .؟ وإذا كان فماذا أستطيع أن أفعل. . .؟

وزاد بلاؤه أن طُمِس على ذهنه فلم يدر ماذا يستطيع أن يفعل. . . ولكنه غَنِمَ أن عرف أنها تزوجت رجلاً من جيرتها وكان شهماً فاضلاً غفر لها واعترف بابنها وعُنِي بهما. .!

وكان إشراق وجه ابنه في سماء حياته المظلمة ألماً جديداً فوق آلامه، إذ أشعره ذلَّ الوحدة وعذاب الحرمان، فاضطرب اضطراباً شديداً، وامتلكه اليأس والأسى، وأصبح لا يرجو إلا أن يضم ابنه إلى صدره ويقبله ليشبع منه شوق السنين، وليطفئ لوعة الحرمان التي شبت في نفسه فغطت آلامه جميعها

وقام في ذهنه أن يعترض طريقها، فأسرع نحوها فأخذها من كتفها؛ فلما التفتت إليه صرختْ صرخة رعب مكتومة، وحنَتْ على ولديها فطوّقتهما وأسرعت تجري بهما

ومر شهران يئس فيهما أن يراها أو يرى ولده. وحنق على نفسه أن حرمها رؤية ولده ولو عن بعد. فجعل يكتب لها. . . كتب لها نحو عشرين رسالة لم يتلقّ رد واحدة منها! فأحس مرارة الخيبة تمور في ألم الحرمان فترهقانه وتعذبانه عذاباً أليماً

ولما يئس أن يراها فكر وقدّر، ثم فكر وقدر، فلمعت له في ظلمة يأسه خاطرة هي أن يكتبَ لزوجها. . . ولما جاءه الرد أنه يسره أن يلقاه في مساء يوم معين لم يكن بأسعد حالاً مما لو كان أهمله كما أهملته هي من قبل. فقد كان دَقُّ قلبه - وهو يصعد الدرج - سريعاً مزعجاً. وكان ينتزع رجليه انتزاعاً ويراود نفسه - وهو صاعد - أن يرجع!

وكانت ثيابُ الرجل السود ورهبته فيها وسحنته المتزنة الوقور التي طالعه بها. . . كان كل ذلك قد خلع قلبه وطير ما بقي له من قوة واتزان. وحين أشار له الرجل أن يجلس،

ص: 63

جلس متداعياً مذهوب العقل، ضائعاً. . .

قال الرجل في لهجة عميقة ورنة آسفة:

- إن زوجتي حدثتني عنك. . .

فرد يقول في صوت خفيض متقطع:

- إنني يا سيدي غير سعيد لأنني لا أستطيع أن أرى ولدي وهب الرجل فنادى. . . فدخل غلام في نحو العاشرة مسرعاً إلى الرجل الذي يعيش معه على ظن أنه أبوه. . . ولكنه وقف فجأة حين انتبه إلى أن بالحجرة رجلاً غريباً. . .

وقبله أبوه قبلة كلها حنان وعطف. وقال له مشيراً:

- اذهب وقبل هذا السيد الجالس هناك. وسار الطفل نحو (السيد الجالس هناك) وديعاً خجلاً، ضيق الخطى. وأحس هو - وطفله مقبل عليه - أن دُوَاراً شب في رأسه حين نظر إلى عيني ابنه وهما تطالعانه وتنظران إليه

وقام الرجل (صاحب البيت) فدار على نفسه واتجه صوب النافذة، حين وافى الولد أباه، وحين فتح له هذا ذراعيه فاحتواه فيهما، وحين أخذ يقبله بجنون في شعره وعينيه وخديه وفمه وذقنه وكل وجهه، وحين انزعج الطفل من هذه القبلات العنيفة وأراد أن يتحاشاها ويبعدها عنه، وهو يدير رأسه إلى كل ناحية ليتخلص منها فلم يستطع، لأن الذراعين اللتين أحاطتا به قد تصلبتا عليه. . . . . .

. . . . ثم تراخيا عنه، لأن رقة قلبه شاعت في كل جسمه، فَرَحِمه وتركه، ليمسح دموعاً انسابت من عينيه، ونهض صارخاً يقول:

- وداعاً. . .

وأسرع فنزل الدرج قافزاً كالهارب، وحين احتواه الطريق انغمر في الظلام كاللص.

مراد الكرداني

ص: 64

‌من هنا ومن هناك

هذه الحرب ستزيل الحرب

(ملخصة عن (فورتنايتلي)

منذ أربعين سنة كان الناس يظنون أن الحروب الدولية هي الطريق الطبيعي الذي يدل عليه المنطق وتستحث إليه البطولة في فض المنازعات. فإذا قتلت إنساناً - وكثيراً ما يحدث هذا - فأنت تقتل شخصاً أجنبياً عنك. أما الحروب الأهلية، فقد كانت من الأعمال الممقوتة، لأن القتل في هذه الحروب كان بمثابة قتل الإنسان لأخيه؛ فكانوا يعدونه خروجاً عن حدود الطبيعة لا يصح أن يقترف على وجه الإطلاق.

وقد كنت مخالفاً لهذه الفكرة منذ عدة سنين. فلم أعتقد في ذلك الحب الأخوي المزعوم، ولم أظن في يوم من الأيام أن الإنجليزي أحق بالحب من الفرنسي، أو الألماني، أو الأمريكي. إن الإنسان حر في أن يحب هذا أو يكره ذاك. ولكني أعتقد أن الحرب الأهلية أقل خروجاً بنا من الحدود الأخلاقية من الحرب الدولية لسببين:

السبب الأول: هو النضال في هذه الحرب لا يقوم لأجل انتزاع الأرض، أو الاستيلاء على المعادن، أو التهافت على السيادة وإنما يقوم على فكرة أو مبدأ.

والسبب الثاني: أن تلك الحرب، حرب شعبية، وثورة ضد الحكم السيئ، تترك فيها الحرية لرجل الشارع في اختيار الناحية التي يريد أن ينحاز أليها.

ويخيل إلي أن الحرب الحاضرة هي من نوع الحرب الأهلية فهي حرب مبادئ، هي ثورة يناضل فيها الألمان إلى جانبنا، أو نحن نناضل إلى جانبهم لمكافحة نوع من الحكم الذي لا يطاق

فليست هذه حرباً دولية، ليست حرباً بين حكومتين، ولكنها حرب بين نوعين من أنواع الحكومات، حرب بين الديمقراطية والدكتاتورية، أو بعبارة أخرى هي حرب بين الحرية والاستعباد

لقد كتب كثير من اللغو عن كلمة الحرية. وأنا أقرر هنا أن الحرية المطلقة أمر ليس في الإمكان. فأنا إذ أقول إنني حر في أن أكتب ما أشاء - هنا - فما لا أستطيع أن اكتبه في ألمانيا أو إيطاليا أو روسيا، لا يصح أن يقال لي أن الصحافة هنا في أيدي أصحاب رؤوس

ص: 65

الأموال، وهم لا يسمحون لك بأن تنشر إلا ما يتفق وأغراضهم. فأنا حر في أن أكون من الرأسماليين، وأخرج صحيفة خاصة بي إذا استطعت، وأنا حر كذلك في أن أنشر آرائي في كتاب خاص بي إذا وجدت الناشر، والناشر حر في أن يقبل أو يرفض نشر هذا الكتاب. وأنا حر في أن أصبح في شلالات نياجرا إذا لم تحد من حريتي قوة المياه المتدفقة. فالإنسان لا يكون محروماً من الحرية إلا إذا حرم القدرة لفعل كل ما يريد

فالحرية التي يزدهر نجمها في البلاد الديمقراطية هي حرية الروح، هي حرية الفرد في أن يفعل ما تؤهله له كفاياته وظروفه الشخصية إذا لم تصطدم وحقوق غيره ممن لهم الحق كذلك في الاستمتاع بحرياتهم، وتلك ليست بالحرية الكاملة. فالحرية الكاملة شيء لا وجود له. وكذلك نحن نحارب هتلر لأنه يزعم لنفسه الحرية التامة في أن يفعل كل ما يريد. فهذا نوع من الحرية ترى الحكومات الديمقراطية أن من واجبها أن تكافحه بكل ما لديها من قوة لأنه يتعارض وحرية الأمم المجاورة له

لقد عدنا إلى حياة الغابة اليوم، لآن هتلر يريد ذلك. أليس هذا نوعاً من الجنون؟ فإذا كان في العالم أمة تخضع لشخص واحد أو ليس من الجنون أن يبقى شبحه مهدداً للسلام

إن فكرة الحرب مقضي عليها إذا ارتفعت كلمة الشعب. فإذا كان الأمر على النقيض، وكان صوت الأوتقراطية هو المسموع فسوف لا يرتاح العالم من شر الحروب

إن طريق السلام عسير ولا شك، ولكنه واضح النهج بادئ المعالم، يراه كل بصير

لا هتلرية في أرض الوطن

(ملخصة عن (سبكتاتور، لندن))

لم يمر على البرلمان ولا على الصحافة وقت أصبحت فيه المهمة الموكولة إليهما في حاجة إلى عناية ويقظة كالوقت الذي نحن فيه. ومما لا شك فيه أن الديمقراطية لا تقدم على الحرب إلا إذا أفرغت كل ما لديها من الوسائل لاجتنابها. إذ الحرب وعلى الأخص الحرب العصرية - لا تخلو من خسارة موقوتة تقع على الديمقراطية نفسها. فالحكومة في هذه الظروف على ثقة من أن حالة الحرب ستبرر كل ما تطلبه من النفوذ الدكتاتوري، ومن ثم تعمل تحت تأثير هذا الشعور. فالحرية الشخصية يجب أن تحد إذا دعا الداعي إلى التعبئة،

ص: 66

وإعداد العدة لحماية الوطن من الأعداء. وسائر قوى الشعب يجب أن تكون واحدة لنظام معين، تسير عليه مجبرة إذا اقتضى الحال

هذه الحقيقة لا جدال فيها. ولكن هل معنى ذلك أن قبول الحرب أو الدخول فيها يقضي على الديمقراطية، ويمحو وجودها بحيث يصبح الشعب البريطاني كالشعب الألماني خاضعاً خضوعاَ تاما للدكتاتورية العمياء؟ الجواب لا، بلا شك. فهذه الأمة لا ترجو يوماً من الأيام أن تعمل على رفع مستواها الحربي بتوجيه النقص إلى تلك المميزات التي كانت مصدر قواها وفخارها أيام السلم

إن العقلية الإنكليزية ليست كالعقلية الألمانية. فالألمانيون سواء في الحرب أو السلم لا يكرهون الاستعباد، ويريدون أن يكونوا على الدوام تروساً في الآلة الحكومية التي يديرها الحاكمون

ولكنا لا نستطيع أن نستغل الشعب البريطاني إذا حاولنا أن نعامله على هذا النحو من المعاملة. فالإنجليز يفهمون روح التعاون الرياضي فهم يقادون ولكن لا يساقون. فإذا أردنا أن نفوز في هذه الحرب فلن يكون ذلك بمحاكاة الروح الألمانية. ولكن بالمحافظة على روحنا الخاصة، وتنمية فضائلنا المتأصلة وإذكاء روح الحرية وتوجيهها ضد قوى الاستعباد

إن الحرب تجابهنا مرة واحدة بنقائض الديمقراطية جميعاً وهي في أشد أحوالها. فالحالة تقضي بأن يساس أبناء الأمة بشيء من القوة، ولكن دون أن يفقدوا هم سياسة أنفسهم. ولحل هذه المشكلة لجأت الحكومة إلى وجهتين: الأولى هي الاحتفاظ بالحياة النيابية كاملة، وإعطاء الأعضاء الحرية التامة في مناقشة كل شيء. والثانية: حرية الصحافة، ولم يسيء البرلمان ولا الصحافة استعمال هذه الحرية. بل لقد كان الأمر على نقيض ذلك، فقد ظهر كل منهما - وعلى الأخص مجلس العموم - عزمه الصحيح على توحيد الرأي، والعمل على محو كل اختلاف، وقبول كل تضحية في سبيل المصلحة العامة.

ص: 67

‌البريد الأدبي

اتحاد دولي لضمان السلام

افتتحنا العدد 336 من الرسالة الذي صدر بتاريخ 11 ديسمبر سنة 1939 بمقال عنوانه (سياسة السمك) قلنا فيه أن الدويلات الصغيرة ليس لها بعد انتصار الديمقراطية إلا أن تنظر (في يومها وفي غدها فتعالج ضعفها بما تعالج به الطبيعة ضعف النمل والنحل وهو التجمع والتكتل والتعاون، فيكون بين البلدان المتجاورة كدول البلطيق وأمم البلقان وشعوب الإسلام شبه ما بين الدول المتحدة في أمريكا من اتحاد السياسة الخارجية والدفاع العام والدستور المشرع والرئيس الحاكم. وإذن لا يبقى على الأرض أمة صغيرة يقوم على استعمارها النزاع، ويميل من جرائها ميزان السلامة) ثم ضربنا مثلاً باتحاد بلاد الوطن الإسلامي الأربعة عشر، وقلنا بعد أن ذكرنا الخطأ الذي قام عليه صلح (فرساي):(سيفكر الحلفاء الديمقراطيون متى جلسوا إلى مائدة الصلح فيما جنوا من (عصبة الأمم) ويقررون إذا وفقهم الله أن ينشئوا السلم العالمية الدائمة على قواعد من التركيب لا من التحليل، فيؤلفوا من الأمم الصغيرة المتقاربة في الوطن والجنس والمنفعة اتحادات مستقلة، تتحد في الرياسة والحكومة والدستور، وتشترك في الدفاع والسياسة والعمل، ثم يربطوا بين الدول العظمى والاتحادات الكبرى بروابط وثيقة من الاقتصاد العادل الذي يضمن لكل أمة سداد عوزها من خير الله وغلة الأرض. . .)

ذلك ملخص ما قلناه في ذلك المقال. ومن توارد الخواطر أننا قرأنا في عدد الهلال الذي صدر في أول يناير من سنة 1940 صفحة 357 أن الكاتب الصحفي الأمريكي (كلارنس سترايت) أصدر كتاباً سماه (الاتحاد الآن) دعا فيه إلى إنشاء ولايات متحدة عالمية على نسق الولايات المتحدة الأمريكية. فهو يقترح أن تتحد الدول الديمقراطية الخمس عشرة معاً ليتألف من جميع شعوبها شعب واحد له حكومة واحدة وبرلمان واحد وقوة حربية واحدة) ثم ذكر الديمقراطيات الخمس عشرة كما ذكرنا شعوب الإسلام الأربعة عشر، ثم قال:(وتحتفظ هذه الدول بملوكها ورؤسائها ووزرائها كما تبقى على لغتها وثقافتها وكتبها التاريخية وألويتها المميزة لها، وتستقل كل منها بإدارة شؤونها الداخلية. أما جيوشها وأساطيلها وسياستها الخارجية فتوحد معاً في قبضة هيئة واحدة تتخذ لها مقراً في جنيف أو أتاوا) إلى

ص: 68

أن قال: (وقد تبدو هذه الفكرة خيالاً بعيد المنال، ولكن هكذا كان الأمر قبل أن تأتلف الولايات المتحدة الأمريكية في شعب واحد وتحت حكومة واحدة. كانت هذه الولايات متعادية متنافرة ولكن حرب الاستقلال ألفتها ووحدتها. فلم لا تؤلف الحرب القائمة هذه الديمقراطيات التي تتهددها الدول الطاغية وتحاول أن تفترسها واحدة بعد أخرى؟)

الشيخ عبد العزيز البشري والعريان

لا تنسينْ تلك العهود، فإنما

سميت إنساناً لأنك ناس

اختلاف النهار والليل ينسي

اذكرا الصبا وأيام أنسى

أنشدت بيت حبيب وبيت شوقي لما قرأت هذه الجملة في الثقافة الغراء في آخر أجزائها: (لا أدري لماذا ترك المسكين عريان، لا أثر للنقش، ولا للكتابة فيه؟). وهي في مقالة لآخينا العالم الأديب الكبير الشيخ عبد العزيز البشري عنوانها (فن الإعلان) وقلت: لقد أنسى الشيطان فضيلة الشيخ الأستاذ بيتي الألفية:

وزائدا فعلان في وصف سلم

من أن يُرى بتاء تأنيث خُتم

ووصفٌ أصلىّ ووزن افعلا

ممنوع تأنيث بتا كأشهلا

وقال صاحب (جوف الفرا):

وكل وصف، تاء أنثى لا تلي

فاصرف كعريانٍ وما كأرمل

إن العلماء لينسون، وإن الأئمة ليخطئون، وإنما العصمة لله ولرسوله محمد وحدهما.

(طنطا)

أزهري

حساب الخطأين لا حساب الخطين

إن إحياء ذكرى ابن الهيثم من أجل الأعمال التي قامت بها الجمعية المصرية للعلوم الرياضية والطبيعية بالقاهرة. وقد قابله العرب في مختلف الأقطار بالشكر والرضى والتقدير، إذ يرون فيه خطوة نحو بعث الثقافة العربية ومحاولة موفقة لأحياء علماء العرب ونوابغهم الذين خدموا الإنسانية وكان لهم فضل كبير على تقدم الحضارة.

ولقد سبق أن نشرنا عدة مقالات عن ابن الهيثم في المقتطف والمعرفة (أيام صدورها)

ص: 69

والرسالة. وأتينا على بعض مآثره في كتاب (نواح مجيدة من الثقافة الإسلامية) وأذعنا عنه حديثين في لاسلكي فلسطين ودعونا (ولا نزال ندعو) إلى تمجيد علماء العرب الذين أضافوا إلى كنوز المعرفة إضافات أدت إلى نمو العلوم واتساع أفق التفكير كما دعونا إلى نفض غبار الإهمال وإزالة غيوم الغموض المحيطة بآثارهم ومآثرهم

لهذا كان سرورنا عظيما حينما قرأنا في الصحف نبأ الاجتماع الرائع الذي عقد في قاعة جامعة فؤاد الأول الكبرى إحياء لذكرى ابن الهيثم، وقد شهد هذا الحفل أمير عظيم من أمراء البيت المالك الكريم وجمهور كبير من أساتذة الجامعة وصفوة مثقفة من رجال مصر، وتكلم فيه عدد من أساطين العلم وأمراء البيان

وظهر في الرسالة عدد 338 الكلمة التي ألقاها الأستاذ الدكتور محمد محمود غالي في الحفل المذكور عن (الهندسة وابن الهيثم قديماً وحديثاً) فأقبلت على قراءتها برغبة وشغف. وقد لفت نظري اسم كتاب ورد في الكلمة فذكر الدكتور كتاب (حساب الخطين) من بين أسماء تصانيف ابن الهيثم التي تمت إلى علم الهندسة مع أن المصادر (أخبار العلماء وطبقات الأطباء وغيرهما) لا تشير إلى كتاب بهذا الاسم، بل تشير إلى كتاب آخر موضوعاته حسابية ليس فيها شيء من الهندسة، والكتاب الذي تشير إليه هو (حساب الخطأين) الذي يبحث في إيضاح طريقة حساب الخطأين - وهي إحدى الطرق الأربع التي كان يستعملها العرب لاستخراج المجهولات. أما الطرق الأربع فهي: طريقة الأربعة المتناسية، وطريقة حساب الخطأين، وطريقة التحليل والتعاكس، وطريقة الجبر والمقابلة

هذه ملاحظة بسيطة على كلمة الدكتور القيمة، ولي من إخلاصه للحق والحقيقة ما يشجعني على إبدائها ولفت نظره إليها

(نابلس)

قدري حافظ طوقان

تكريم الأساتذة المصريين في كلية الحقوق العراقية

طلاب كلية الحقوق العراقية مشهورون بوفائهم لأساتذتهم فهم لا يألون جهداً في إكرامهم وطاعتهم. وقد أقاموا أمس حفلة شائقة تسر الناظرين تكريماً للأساتذة المصريين الجدد

ص: 70

الذين شرفوا بغداد في هذا العام. وكان يتقدم المدعوين أصحاب المعالي وزراء الحكومة العراقية، وأمراء الجيش وقادتهم، وقناصل الدول العربية وكبار الموظفين. وكانت الحفلة رائعة كل الروعة خطب فيها خطباء كثيرون، وكل منهم أثنى على مصر ثناء عاطراً. وألقى الشاعر مصطفى كامل يأسين قصيدة عصماء استعيد أكثر أبياتها. وبعد أن انتهى الخطباء العراقيون تفضل الأستاذ الدكتور عثمان خليل عثمان فارتجل خطاباً ممتعاً بالنيابة عن إخوانه الأساتذة المصرين كان له أبلغ الأثر في النفوس. وكان مسك الختام خطاب عميد كلية الحقوق الأستاذ الكبير منير القاضي. ودامت الحفلة ساعتين وانفض المدعوون وكلهم يلهجون بالثناء على عميد الكلية وأساتذتها وطلابها

ضياء شيت الخطاب

عبث الناشرين وأصحاب المكاتب

زور أحد الناشرين كتاباً على الدكتور طه حسين بك وقد رأينا في العام الماضي شيئاً مثل ذلك منسوباً إلينا والى الأستاذ توفيق الحكيم. وقد اشترى صاحب مكتبة الجامعة مائتي نسخة من رواية اللصوص كانت باقية لدى مترجمها الأستاذ عبده حسن الزيات. ثم شاءت ذمة التاجر أن يستبدل بغلافها غلافاً آخر كتب عليه من الصفات والألقاب ما أنكره الأستاذ واحتج عليه. وهذه حال من الفوضى المحزنة لا يليق بحماة الحق وحراس العدالة أن يدعوها تستمر.

كلبة يزيد

سألتنا الآنسة فوقية كامل عن تاريخ كلبة يزيد بعد أن سألت (الأهرام) فلم تجد الجواب. وقد بحثنا فيما بين أيدينا من كتب الأمثال واللغة فلم نجد لهذه الكلبة ذكراً ويظهر أن إيراد المثل على هذه الصورة خطأ، فإن أكثر الناس بروية:(أنحل من كلبة ميت يزيد) وميت يزيد قرية من قرى مديرية الشرقية فلعل أديباً من أهلها يروي لنا ما يتناقلونه من قصة هذه الكلبة البخيلة

حول مقال

سيدي الأستاذ الكبير زكي مبارك:

ص: 71

أحييك تحية مصدرها إعجاب بأدبك العالي وحسن نقدك وغيرتك على اللغة العربية والدين. وبعد، فقد وقع في يدي منذ مدة عدد الهلال الممتاز (العرب الإسلام)، فوجدت فيه مقالة عنوانها (تركيا المسلمة ومصطفى كمال والإسلام) بقلم الأستاذ حسن الشريف، وفيها ينتقد اللغة العربية ويقرر أنها غير صالحة للعصر الحاضر من حيث صعوبة حروفها في القراءة والكتابة، وعدم قبولها للاختزال، وتعدد معانيها. ويقول أيضاً: إن الطفل في المدارس الابتدائية يستطيع بعد ستة شهور أن يقرأ معظم المكتوب باللاتينية قراءة تكاد تكون صحيحة، بينما هو لا يستطيع أن يقرأ سطراً عربياً من دون أن يخطئ في قراءة كل كلمة. بل إننا نحن الكبار، وقد درسنا العربية دراسة لا بأس بها لا نسلم من التعثر في دواوين الشعر. . . وقد أورد هنا بيتين من الشعر دليلاً على ذلك. كما أنه قد تعرض فيها إلغاء مصطفى كمال للمادة التي تنص على أن (الإسلام دين الدولة).

فأرجو من سيدي الأستاذ أن يطلع على هذا المقال ويبين رأيه فيه، ويمحصه على صفات مجلة (الرسالة) الغراء.

سليم الحجيري

اختلاف الأزياء المصرية

إلى حضرات أساتذة العلم ورجال البحث والتاريخ أتقدم إلى ساحة علمهم بالسؤال الآتي وهو: (ما سبب اختلاف زي المصرين)؟

إن الناظر إلى الزي المصري يرى أن له أشكالاً عدة وأنواعاً مختلفة سواء في ذلك ما كان خاصاً منه بالنساء أو الرجال حضريهم وريفيهم، حتى ليختلف زي ريف عن آخر. فنرى أن ما تتحلى به زوج السويفي أو المنياوي ترفضه زوج المنوفي أو الشرقاوي. وقل مثل هذا في أنواع البرد والملاءات حتى في الأحذية

ولقد شغلت ببحث هذا الاختلاف عدة سنين غير أني لم أوفق توفيقاً يرتاح إليه الضمير. فإني إذا رجعت إلى العصور القديمة وقابلت بين أهلها حتى العصر الحديث كما فعل العلامة حفني بك ناصف رحمه الله لمعرفة أسباب اختلاف الأزياء وتعدد اللهجات المصرية، غم على الأمر وأشكل؛ فإني إذا عللت مثلاً لبس العمامة الكبيرة البيضاء في

ص: 72

بعض مديريات الجنوب بأنها لاتقاء وهج الشمس فلا أجد علة للبس الزعبوط الأسود فوق كل منمنم ومعلم من الثياب. الأمر الذي لا يتفق مع الطقس أو الطبيعة في شيء هناك. فهل ذلك راجع إلى عادات مصرية قديمة؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب فهل لتعدد الإقطاعيات والمعودات دخل في ذلك؟ أو أنه راجع إلى حالات نشأت من تعدد الفاتحين لمصر. وإذا كان ذلك كذلك فأيها بقي وأيها ذهب وما علة كل؟

وإذا كان الجواب نفياً فهل يرجع ذلك إلى عوامل محلية للطبيعة والجو والحالة الصحية أو العلمية والفكرية دخل فيها؟ وإذا كان الجواب نعم فبماذا نعلل بقاء ما لا يتفق منها مع هذه العوامل؟

فهل يتفضل حضراتهم ببحث واف شاف في هذا الموضوع

محمد عبد الجواد حبيب

تصويب

ذكرنا حين تكلمنا عن كتاب تاريخ الطب في العراق بالعدد 335 أنه من تأليف الدكتورين: هاشم الأثري، ومعمر خالد الشابندر. وصحة الاسم الأول: هاشم الوتري لا الأثري.

اختلافهم رحمة

قرأت في عدد (الرسالة) المؤرخ 13 نوفمبر سنة 39، مقالة الأستاذ الطنطاوي:(من هو المسلم؟). والأستاذ مهما كان موضوعه عادياً لا بد أن يكسوه بقلمه البارع وإيمانه البالغ حلة قشيبة تستدعي الالتفات إليه والاهتمام به. وهو في نظري من أدبائنا الذين يخدمون بقلمهم الإسلام ويعملون على تجديده، يمدهم في ذلك اطلاع على روح الإسلام ونصوصه لم يتهيأ لغيرهم، ولذلك لا يحق لنا أن نمر بما يكتبه في هذا الصدد مر الكرام. وبهذا النظر أحب أن تتفضل عليّ الرسالة بشطر من صفحاتها القيمة لأشارك الأستاذ في هذا البحث وفي مسألة هامة من مسائله التي ألم بها إلمام المرشد، وهي مما لا يسوغ تعريف جمهرة القراء بها على هذا النمط لا سيما أن الأستاذ لم يتناولها بما عرفنا عنه من النظر المنقب والفكر المجدد، بل اتبع فيها القول الشائع. وأنا لم أتوفر الآن لإعطاء هذه المسألة حقها من البحث، وإنما أريد أن أصحح هذا القول الشائع حتى لا يمر به بعد اليوم من أدبائنا

ص: 73

ومفكرينا من يقيم له وزنا، قال الأستاذ:(إنه لا يضر الناس اختلافهم في الفروع (فكلهم من رسول الله ملتمس) سواء في ذلك الحنفي منهم والشافعي والمالكي والحنبلي. بل إن اختلافهم رحمة من الله وتوسيع على الأمة. ولكن يضر الناس اختلافهم في أصول الدين من العقائد ونحوها، ويكون الواحد منهم مصيباً والباقون على ضلال. لأن الحق لا يتعدد والمصيب هو من اتبع ما كان عليه النبي (ص) وأصحابه والقرن الأول خير القرون)

فالذي يبدو من هذا الكلام أن الأستاذ يجاري متأخري الفقهاء من جعلهم اختلاف الأئمة رحمة للأمة وتوسيعاً على الناس في عباداتهم ومعاملاتهم ليختاروا من أقوالهم ما فيه اليسر لأحوالهم، كما أنه يرى أن اختلاف أنظار المجتهدين في الأصول ممنوع لأنه يستدعي اختلاف الحق وتعدده. وهذا التعليل نفسه يرد على اختلافهم في الفروع أيضاً. والحق الذي لا ريب فيه أن الاختلاف لم له يكن مورد إلا في الأمور الظنية والمشاكل الجزئية التي يتسع فيها مجال القول ويختلف النظر إليها باختلاف الأحوال والأزمان. وطبيعة الأصول تتنافى مع ذلك فإنها لم تسم كذلك إلا بعد أن أجمع عليها النظار وتناولتها الأجيال بالتسليم والقبول لأنها ليست مظنة اختلاف ولا موضع تأويل بخلاف الفروع. وقد بحث هذه المسألة الإمام الشاطبي في كتابه:(الموافقات) ج4 ص71 فأبان أن الشريعة لا خلاف فيها بالحقيقة أصولاً وفروعاً، وأن منشأ الاختلاف في الفروع الأمور الظنية التي يتسع فيها مجال القول بالنسبة لأنظار المجتهدين لا بالنسبة للشريعة التي نفى الله عنها في كثير من آيات القرآن الاختلاف والتفاوت. وقد تعرض بعد ذلك للحديث المأثور:(أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) فذكر أنه مطعون في سنده، وهو لا يعارض الآيات الصريحة من حيث التزام لوفاق في أحكام الشريعة. ثم استطرد إلى موقف المكلفين من الاختلاف وقال إن المجتهد لا يسوغ له العمل بأحد الدليلين من غير ترجيح كما لا يسوغ للمقلد العمل بقول المجتهد إلا بعد الاطمئنان والتبصر في حال المجتهدين أن تيسر له ذلك وإلا فلا يحق له اتباع أحد القولين كما يستدعي هواه ويقتضيه حاله (وعليه أن يستفتي قلبه) كما قال الرسول (ص)

وأما ما أثر من مدح لاختلاف في الفروع كما روى عن عمر ابن عبد العزيز إذ قال في اختلاف الصحابة (أما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم) فمناط هذا عدم الحجر على

ص: 74

الأنظار فيما ليس فيه قطع وهذه هي السعة التي شرع من أجلها الاجتهاد لا ما يجعل المكلف في حيرة من العمل بالأقوال المختلفة دون تبصر واطمئنان. ثم قال في فصل ثان ما نصه: (وقد أدى إغفال هذا الأصل إلى أن صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه أو صديقه بما لا يفتي به غيره من الأقوال اتباعاً لغرضه وشهوته أو لغرض ذلك القريب وذلك الصديق. ولقد وجد هذا في الأزمنة السالفة فضلاً عن زماننا هذاً كما وجد فيه تتبع رخص المذاهب اتباعاً للغرض والشهوة) أقول وفي زماننا هذا أصبحت هذه القضية مصدر الحيلة لتجار الشيوخ في إجابة المستفتي لحل مشكلة أو تفادي حرمة في الدين. وعلى قدر ما يدفع السائل من المال، تتسع أمامه الحيل وتكثر الأقوال. فماذا يقول أمثال هؤلاء في قول الله تعالى:(وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم)

(نابلس)

حلمي الإدريسي

ص: 75

‌المسرح والسينما

اقتباس الروايات

والاقتباس من المسرحيات الأجنبية عمل على كثير من الصعوبة؛ ولكننا نلاحظ دائماً أنه يحول دون تصوير جو المسرح الذي يريده المؤلف. ولسنا نعلم لماذا لا تخرج الفرقة ما تريد من المسرح الفرنجي كما هو؟ ولا نعلم سر غرام الأستاذين سليمان نجيب وعبد الوارث عسر بهذه الطريقة! فلا الروايات تبقى فرنجية الحوادث والمناظر والجو، ولا هي يمكن أن تلبس قناعاً مصرياً كاملاً يخفي ملامحها الحقيقية! ونحن نطالب الفرقة في إلحاح بأن تكف تماماً عن إخراج الروايات المقتبسة، فضلاً عن الروايات الفرنجية التافهة التي يضعها كتاب مغمورون. وما دام الأدب المسرحي في بلاد الغر ب دائم التجدد، فلماذا لا تعهد الفرقة إلى بعض المجيدين بترجمة أحدث المسرحيات الناجحة لكبار المؤلفين كبرناردشو وسواه؟!

القاتل!

الأستاذ يوسف وهبي ممثل قديم ومؤلف مسرحي قديم أصبح له طابع خاص يميزه ولا يشذ عن معالمه

وهو يذكرنا - مع الفارق - بالفنان الإنجليزي المعاصر العظيم (ناول كوارد) من حيث أن كليهما يضع المسرحيات بقلمه، ويقوم بالإخراج ويرتب المناظر ويوزع الضوء وغير ذلك مما يمكن الفرد الواحد أن يقوم به من أعمال المسرح

وهو يميل إلى الروح المصرية البحت ويصور العقلية والتقاليد والمعتقدات الشعبية بقدر ما يواتيه التوفيق. فهو أحياناً يساير طبيعة الأشياء وجريان أحداث الحياة فتكون العبرة والموعظة الحسنة. وهو أحياناً يسخّر من قلمه أقداراً مجنونة تقتل وتفسق وتسفك الدماء. فيبتعد بهذا كله عن طبيعة الأشياء فيكون الفشل والبعد عن إرضاء الجماهير

ومسرحيته الجديدة (القاتل) هي من طراز مسرحياته الأخرى، مصرية صميمة في كل كبيرة وصغيرة. وليس هنا مجال عرضها أو نقدها في تفصيل. وهذا لا يحول دون التنبيه إليها بوصف أنها عمل فني جديد

دنانير!

ص: 76

جارية كانت لجعفر البرمكي، نسج حولها صديقنا (رامي) هيكل قصة سينمائية تخرجها شركة أفلام الشرق وتلعب دور البطولة فيها (أم كلثوم) وهي تصور عصر الرشيد ونكبة البرامكة، وتعرض لكثير من شخصيات هذا العصر في مقدمتهم الخليفة هرون الرشيد نفسه، والشاعر الأشهر أبو نواس. وسوف يبدأ العمل في استديو مصر في منتصف فبراير القادم

لجان محطة الإذاعة

في محطة الإذاعة لجان كثيرة جديرة بالحديث. هنالك لجنة البرامج العليا يرأسها الدكتور علي إبراهيم باشا وتنظم في عضويتها حسن باشا رفعت وطه حسين بك ممثلين للحكومة، وكلا من المستر (ويللان) والمستر (فرجسون) ممثلين لشركة ماركوني اللاسلكية، ويحضر اجتماعاتها الأستاذ سعيد لطفي بك لتقديم البيانات والإيضاحات التي توضح للأعضاء المجتمعين سبيل بحث ما يعرضون له من المسائل

وهذه اللجنة استشارية تقريباً، ولا تعرض لتفاصيل البرامج إلا في النادر، وتجتمع قليلاً جداً، ولا ندري السر في وجودها وتأليف على هذا النحو المختلط

وهنالك لجنة الأغاني، وقد غمزناها لتتحرك في الأسبوع الماضي ولكنها لم تفعل! وهي مؤلفة من رؤساء أقسام المحاضرات والمسرحيات والموسيقى الشرقية والاسطوانات ومساعد المدير الفني الشرقي وهو الأستاذ عبد الرحمن سامي

وقد ناقشنا الأستاذ لطفي بك في تأليف هذه اللجنة على هذا النحو الذي يتيح لغير الفنيين أن يحكموا على آثار شعراء البلاد ومؤلفي الأغاني فيها، فقال إنه يريد أن يعطي لكل الموظفين أقساطاً من العمل والمسئولية، لأنهم شبان يجب أن يتاح لهم حظ كاف من المرانة حتى ينضجوا في المستقبل!

والمعروف أن الشعراء الذين تفجعهم هذه اللجنة في آثارهم ليس لهم ذنب في أن موظفي المحطة شبان يجب لهم التشجيع!

هذه اللجنة مفترض في وجودها أن تجتمع كل أسبوع للنظر فيما يقدم إليها من الأغاني، ولكنها لا تجتمع فعلاً إلا كل بضعة أسابيع. وقد تستعلم عن هذا فيقول لك كل عضو فيها

ص: 77

إنه مرهق بعمله الخاص بمكتبه، وعمل هذه اللجنة إضافي (كالسخرة)! وقد بلغ (المخزون) من الأغاني لدى اللجنة ثلاثمائة قطعة. وقد مضى على بعض القطع بضعة شهور وأصحابها لا يعرفون عن قبولها أو رفضها شيئاً!

وثالثة الأثافي أو اللجان هي لجنة البرامج المحلية التي تجتمع يوم الأربعاء من كل أسبوع. وأعضاؤها هم رؤساء الأقلام؛ ويشهد اجتماعها مدير الإدارة الإنجليزي. وعملها قاصر على تنظيم الإذاعات التي وافقت عليها المحطة، حتى لا تصطدم أجزاء البرامج أو تزيد أجورها عن الاعتمادات المالية المرصودة في ميزانية كل أسبوع

وليس على هذه اللجنة لوم فيما قد يأخذه المستمعون على البرامج فعملها قاصر على الترتيب كما قدمنا. وليس لها دخل في قبول الإذاعات أو رفضها إذ أن سلطة القبول والرفض هي بيد الأستاذ لطفي بك فيما يختص بجميع البرامج العربية. سوى الموسيقى، والأخيرة من اختصاص الأستاذ مصطفى بك رضا وهو رجل مشهور بطيبة قلب لا نظير لها.

هذه هي لجان الإذاعة وأعمالها وأعضاؤها، فلمن الشكوى!

(أبو الفتح الإسكندري)

ص: 78