المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 341 - بتاريخ: 15 - 01 - 1940 - مجلة الرسالة - جـ ٣٤١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 341

- بتاريخ: 15 - 01 - 1940

ص: -1

‌من مذكراتي اليومية

من عادتي كلما ثقل على الحاضر وضاقت بي الحال أن أعود إلى ماضيَّ فأنشر عهوده وأَجْترَّ ذكرياته. وسبيلي إلى ذلك استغراق الفكر فيما سجلت صحائف الصبي من حوادث، أو العيش مع إخواني الذاهبين فيما كتبت وكتبوا من رسائل، أو الرجوع إلى ما دوَّنتُ في مذكراتي اليومية من خواطر. وكان ليناير من دون الشهور نوطة شديدة بالقلب وأثر بالغ في الذاكرة؛ فوقع في نفسي وأنا أهم بالكتابة فيما أوحاه إلىَّ أسبوعه الثاني، أن أتصفح مذكراتي لأقرأ ما كتبته فيه سنة من السنين.

فتناولت جزءاً من أجزائها المتروكة وفتحته على موضوع هذا الشهر منه فإذا بي أقرأ في يومه الرابع عشر ما أنقله إليك بحرفه:

يوم الجمعة 14 يناير سنة 1938

في مثل هذا اليوم من سنة 1932 وُلد لي ولدان: طفل وكتاب. اذكر هذا كل الذكر، لأنني في ذلك اليوم المقرور عدت في مُتوع الضحى من دار المعلمين بالكرخ إلى داري بالرصافة، فلزمتها جالساً أمام المدفأة الموقدة أكتب الفصل الأخير من كتابي؛ (العراق كما رأيته). ثم جاءني النبأ من مصر بعد ذلك بأن (رجاء) ولد في هذا اليوم نفسه. وكان طفلي وكتابي أعز شيء عليّ؛ لأن ابن نفسي كان نتيجة أربعين سنة من خير عمري، وأبن فكري كان نتيجة ثلاث سنين من خير عملي

أجل، قضيت ثلاث سنين في تأليف (العراق كما رأيته)! جمعت مادته من الآثار والأسفار والأساطير والكتب والمناظر والأحاديث في سنتين، ثم حررته وأنشأته ببغداد في سنة؛ فلم أكتب منه في القاهرة إلا رحلتي إلى كردستان والموصل وجبال عبدة الشيطان، وإلا عودتي إلى سورية عن طريق دير الزور وحلب. ثم وجهت عزيمتي إلى نشره فهيأته للطبع وتربصت به مواتاة الفرصة. ولكن اثاقلت حتى وفد إلى مصر صديق من رجالات العراق له بصر وخطر، فرغب أن يقرأ فيه ما كتبت عن بعض الناس وما علقت على بعض الحوادث، فحملته إليه في (الكنتننتال) فحبس نفسه عليه نصف نهار لم يبرح فيه الفندق. ثم رده إلى في المساء وهو يقول في سمته الرزين ومنطقه المتئد: (أشهد أن كتابك أول ما كتب عن العراق في صراحة ولباقة وإخلاص وصدق. ولقد طويت عني ما قلته فيَّ، ولكنني بعد أن قرأت ما قلته في غيري أكاد أعرفه بالاستنتاج والحدس. ولعل من

ص: 1

الخير لنا ولك أن تؤخر نشر القسم السياسي منه إلى حين. إما قسمه الأدبي والاجتماعي فستكثر حولهما الأحاديث، ولكنهما في الأدب والنقد والتاريخ نصر وفتح)

نزلت على رأي الصديق العظيم وعدت بالمخطوط الغالي إلى موضعه من المكتب. ثم أعلنت أني سأنشر بعض صوره الأدبية في (الرسالة)، وقد نشرت بالفعل منه فيها صورتين أو ثلاثاً رفَّت لها الآذان وأصغت إليها الأفئدة

ولكني وا أسفاه! لم يعد للطفل الحبيب نفَس ينسم على نفسي ببرد الجنة، ولم يبق من الكتاب العزيز سطر يشعب فؤادي بذكرى العراق!

وا لهفتاه على ولدي الذي أبدعه الله، وعلى أخيه الذي أبدعته! جاءا معاً في الشتاء، فلم أجد لوجودهما برداً ولا عبوساً ولا كآبة؛ وذهبا معاً في الربيع، فلم أحس لفقدهما دفئاً ولا طلاقة ولا بهجة. أودي بهما القدر العابث خداعاً وغيلة، فسلب العين الكلوء ريبة الحذر، وجرد الدفاع اليقظ من فرصة الحيلة. دب للطفل الموت الوحيُّ في وعكة خفيفة من البرد ظنها الطبيب زكاماً عارضاً فإذا هي الخناق القاتل. ومشى للكتاب القدر المحتوم في ركام من الورق المتروك فذهب به خلسة إلى النار المبيدة!

أخذت ذلك الكتاب ذات يوم من درج المكتب لأختار منه فصلاً للرسالة، ثم جلست في البهو على كنبهُ بعثرت من فوقها وأمامها تجارب المجلة وأصول المقالات، فاخترت من المخطوط قطعة أدبية ثم ألقيته إلى جانبي، وأخذت أصحح (الملازم) وأطرح (الأصول) حتى فرغت من ملزمتين فدفعتهما إلى غلام المطبعة، وخرجت من البهو لا في يدي ولا في جيبي لأترك هذا الورق المهمل لخادم البيت تكنسه من هنا وهنا، ثم تطرحه على عادتها كل يوم في صندوق الكناسة، ويأتي الزبال فيأخذ ما تجمع في الصندوق ويحمله على عادته كل يوم في زنبيله إلى المستوقد!

وهكذا قضى الله أن تذهب إلى العدم خلاصة العمر وعصارة الفكر في فترة ضائعة من فترات الغفلة! وهيهات أن يكون لهما في الحياة عوض، فإن الفلذة إذا اقتطعت من الجسم لا ترجع إليه ولا تتجدد فيه، وسحر المنظر الجديد لا يتكرر أثره في نفس زائره ومجتليه

حولت بصري عن الصفحة ثم أطرقته. ولجّ بي الإطراق والاستغراق حتى سقط الدفتر من يدي، وتلاشى الحاضر من نفسي، ووثب الماضي إلى خاطري، ووقفت أما الفاجعتين وجهاً

ص: 2

لوجه، فكأنما لبث من الزمن واقفاً حيث كان، وظل الجرح نازفاً حيث طُعن، وبقى القلب واقداً حيث اشتعل؛ وكأنما أسلمني كل ضعف إلى الجزع، وخذلتني كل قوة حتى الأيمان!

تفصد جبيني بالعرق، ثم أخضل جفني بالدموع، فأخذت نفسي تثوب رويداً إليّ، وتحركت يدي في فتور فتناولت الدفتر ثم جعلت أصحفه، فعثرت في ثناياه على ورقة بالية من مسودات كتابي الفقيد؛ فنشرتها بين يدي ثم أقبلت على قراءتها لهيف القلب زائغ البصر فقرأت:

(. . . هذه القهوة الضّحيانة التي رقدت على صدر دجلة النابض، واستغرقت في الدفء والضوء والسكون، كانت أحب القهوات إلى القلب العميد والخيال الشاعر. وكنت كثيراً ما أغشاها بُعيد الغداء فأجد جماعة أو جماعتين يلعبون الورق هنا، وفتى أو فتيين يتساقطان الحديث هناك، وبائع (الأبيض والبيض والعَنْبا) يسرق خطاه بين هؤلاء وأولئك فيذكر بندائه الخافت البطون التي شغلها عن طلب الطعام سكرة القمار أو نشوة المنادمة، فأجعل ظهري إلى أحلاس القهوة، ووجهي إلى وجه دجلة، وعيني إلى جسر مود، ثم أشاهد فلماً عجيب الألوان من الناس والأجناس والصور: فهذا قطيع من الغنم يعبر إلى جسر المجزرة في حمى راعيه، وهو مستسلم لصوته ومنقاد لعصاه استسلام الأمة للطاغية يقودها إلى الحرب، وانقياد الخليقة للقدر يسوقها إلى الموت! وهذا الملك فيصل يعود من قصر العرش إلى قصر الزهور من غير حرس ولا جلبة، فيقف في غمرة الناس على فم الجسر ينتظر أن يعبر القطيع وراعيه! وهنالك تلاقى راع وراع، وتقابل قطيع وقطيع! ولكل إنسان في دنياه مملكة ينفذ فيها حكمه، ودائرة ينعقد عليها افقه. . .) ثم حاولت أن أقرأ بقية الورقة الذابلة الحائلة فلم استطع!

احمد حسن الزيات

ص: 3

‌فكاهات الحرب

للأستاذ عباس محمود العقاد

الجد ضد الهزل والعبث، ولكنه ليس بضد للفكاهة وملكة السخرية، بل لعله يثيرهما في النفس ويدعو إليهما

فأنت تستغرب استغراب الإنكار والازدراء إذا رأيت رجلاً يهزل ويعبث وهو يواجه الشدة ويقف في الموقف الذي يتطلب العمل والجهد والهمة، ولكنك لا تستغرب هذا الاستغراب إذا رأيته يواجه الشدائد وهو يستخف بها ويتخذ منها موضعاً للفكاهة والسخرية، بل تحمد منه هذه الفكاهة وتعدها ضرباً من القوة والشجاعة، لأن العبث بالجد يفسده ويضعف النفس عن احتماله؛ أما الفكاهة مع الجد فهي معوان عليه

ولا شك في أن سليقة الفكاهة مصرف للنفس الإنسانية وعصمة لها وحافز على النهوض بما يثقل عليها من أوقارها

ولهذا تروج النكات و (القفشات) في إبان الحروب والمصاعب. وتعد (النكتة) امتحاناً لطبائع الأمم وعقولها في هذه الأحوال، فلا تجفل من الخطب أمة تستطيع أن تواجهه وهي باسمة، ولا تبتسم الأمة للخطب إلا وعندها قدرة على النهوض به والتصرف فيه

وسننقل في هذا المقال بعض الفكاهات التي أسفرت عنها الحرب الحاضرة، ثم نعقب عليها بعض التعقيب الذي يخلق بطائفة من المصريين أن يلتفتوا إليه

تحدث الألمان والروس كثيراً بالحرب الخاطفة أو بضربة البرق العاجلة كما يسمونها بها اكتساب النصر في معركة حاسمة سريعة

فزعم الراوية أن إنجليزياً يسال صاحبه ما هي الضربة الخاطفة؟

فيجيبه الصاحب: إنها هي الضربة التي لا تقع مرتين في مكان واحد

فيصمت السائل قليلاً ثم يقول مصححاً!!. . . يخيل إلى يا صاح أنها شيء أسرع من ذلك: يخيل إلي أنها هي الضربة التي لا تقع مرة واحدة في مكان واحد!

والمعروف عن مولوتوف الوزير الروسي أنه تمتمام يتلعثم في كلامه. فذكره أحد السامعين له في المذياع لصديقه وهو يقول: أليس بعجيب أن يتكلم هذا التمتمام أمس ربع ساعة ولا يتلعثم مرة واحدة؟

ص: 4

قال الصديق: كلا! لأنه كان يكذب!

ويعرف بعض القراء تمثال الحقيقة وهو على صورة فتاة رزان تحمل مصباحاً وتستقبل السماء بوجه وقور

فنشرت إحدى الصحف هذا التمثال منكساً وقد أخذ بقدميه على الجانبين كل من مولوتوف وجوبلز وهما يقولان:

هذه هي الحقيقة. . . أليست هي بعينها؟

واشتهر جورنج بحب الألقاب حتى ما كاد يرى إلا وعلى صدره صفوف منها يغيرها بين ساعة وساعة

فزعم الراوية أنه قد بات يخشى أن يأتي بعد اليوم بعمل مجيد يستحق من أجله نوطاً من أنواط الفخار

لأنه إذا استحق هذا النوط لم يجد لتعليقه إلا موضعاً واحداً من كسوته

وعندئذ لا يستطيع الجلوس على كرسيه

وقيل إنه مات فأصبح مستريحاً في قبره، لأنه يحب أن يشعر بشيء على صدره!

وقيل إنه ذهب في زيارة إلى مستشفى المجانين فبدا له أن واحداً منهم لم يكترث له ولم يتحرك لوجوده، فأقترب منه وسأله: ألا تعرفني؟

فأجاب المجنون: كلا!

قال: أنا هرمان جورنج

فظل المجنون على قلة اكتراثه كما كان قبل أن يتحدث إليه (الماريشال العظيم) وكأنما على وجهه علامة استفهام إلى جانب علامة الاستفهام الأولى

فعاد الماريشال العظيم يقول: هلم، هلم، هلم يا صاح! كيف لا تعرف هرمان جورنج رئيس الوزارة البروسية؟

فلم تنقص علامتا الاستفهام على وجه المجنون بل زادتا واحدة جديدة

ومضى الماريشال العظيم يقول: جورنج وزير الطيران!

والمجنون صامت ينظر

ثم يقول الماريشال العظيم: جورنج يا هذا رئيس مجلس الريشستاج!

ص: 5

والمجنون في صمته وقلقه وقلة اكتراثه

ثم يقول الماريشال العظيم: جورنج يا هذا. . . جورنج!. . . ألا تعرف جورنج الصياد الأشهر؟

عندئذ يتجاوز الأمر حد الاحتمال في رأي المجنون، فينصرف مشفقاً وهو يردد بين شفتيه:

مسكين!. . هكذا يبدأ الحال معنا جميعاً في هذا المكان. . .

ويعلم القراء أن ريبنتورب كان يتجر بالشمبانيا والخمور قبل ولايته الوزارة

فكتب أحد الناظمين تحت صورته: هذا هو ريبنتروب، هذا هو صانع المعاهدات الآن صانع الشمبانيا من قبل. ولكن لا يعلم أحد أيهما ينطلق فقاقيع في قوارير، وأيهما يسيح بغير صوت!

وصاح المذيع النازي في إحدى الليالي بعد الإشارة إلى ما يقال عن نقض هتلر لمواثيقه:

زعيمنا يا قوم لم يتعود قط أن يكسر كلمة من كلماته

فنشرت صحيفة إنجليزية هذه الإذاعة في اليوم التالي وأضافت إليها هذا الكلمات: (نعم. . . لأن الكسر من خواص المادة نفسها)

وقال هتلر لجورنج عن عرض الصلح:

حسن. . . إذن سأعرض بطاقاتي على المائدة

فأطرق جورنج قائلاً: ليتها بطاقات طعام!

وشاع بين الألمان أن هتلر لا يرى الحقيقة على جليتها فيما يجري من شؤون الحرب والسياسة. فقال القائلون: نعم. يجب أن يتنحى جورنج قليلاً!. . .

وكتبت صحيفة فرنسية بعد غارات الشيوعيين أو الجنود الحمر على شواطئ البحر البلطي، تسأل الجغرافيين: أيصبح البحر الأحمر؟!

وللقريب نصيب وافر من فكاهات الصحفيين الذين لا يشفع لديهم فيه أنه يجيز هذه الفكاهات

ونجتزئ منها بالأبيات التي كتبها ناظم هجاء على (ضريح الرقيب المجهول) قال:

(هنا يرقد في النهاية رقيب ثار عليه الصحفيون المحنقون فنام محشواً برصاص مثل الرصاص الذي لا ينفذ. . . ولعله - والله اعلم - قد تنبه بعد الرقاد فمر على اسمه بذلك

ص: 6

القلم المعهود)

تلك نماذج متفرقة من (القفشات) الحربية التي تروج هذه الأيام في البيئات الإنجليزية والفرنسية، وهي كما يرى القارئ على نسق يوشك أن ينتظم في سلك القفشات التي ألفناها من جماعة (أبناء البلد) في هذا الديار، لولا ما يلاحظ على أغلبها من قلة اللعب بالألفاظ وكثرة الاتجاه إلى اللباب

والطائفة التي نود أن نستخرج من هذه القفشات مغزاها الذي هي في حاجة إليه هي طائفة (أبناء البلد) نفسها

لأن الذهن الذي تعودنا أن نسميه بالذهن (البلدي) مصاب بآفة تحجب عنه الكثير من حقائق الدنيا، وهي آفة النظر إلى الأشياء على وجه واحد وصورة واحدة. فإذا ألف أن يقرئ الناس السلام بأسلوب متواتر وألفاظ محفوظة فمن الإخلال بالذوق عنده أن تبدل لفظاً من تلك التحية أو تجريها مرة واحدة على خلاف ذلك الأسلوب

وإذا ألف أن يسمع (القفش) والضحك في مجلس من المجالس وعلى هيئة من الهيئات فليس في وسعه أن يتخيل (تنكيتاً) يدور في غير ذلك المجلس وعلى غير تلك الهيئة وبين أناس غير أولئك الناس

ولعل أكثرهم يفغر فاه من الدهش إذا قيل له أن الأوربيين (يدخلون قافية) كما يفغره دهشاً لو رأى خارقة من خوارق الطبيعة وانقلاباً في أوضاع الحياة، وسمع الخرس ينطقون والعجم يعربون

وإنها لآفة (ذهنية) لا ضير منها على الأمم التي يجهلونها ولا يفهمونها، ولكن الضير الأكبر منها على من يحرمون نعمة النظر الصحيح إلى حقائق الوجود

عباس محمود العقاد

ص: 7

‌تلك أيام خلت

للدكتور زكي مبارك

في الكلمة الماضية دونت بعض ما ربحت وبعض ما خسرت؛ وسأقصر كلمة اليوم على التنويه بأمور ينفعني النظر فيها من وقت إلى وقت، فأن صح أني قليل الاعتبار بحوادث الأيام، فقد يكون في القراء من ينتفع بالعبرة التي يسوقها هذا الحديث. وآفة الأدب في بلادنا أن الأدباء لا يتحدثون عن عيوبهم إلا قليلاً، وهذا التحرز من سرد العيوب قد يوهم فريقاً من القراء بأن الأدباء تعصمهم مواهبهم من الوقوع في الأغلاط والهفوات. ولو أنهم عرفوا أن الأديب يخطئ ويصيب كسائر الناس، لأدركوا أن التفوق في الأدب ميسور لكل من يتوجه إليه، وهو مزودٌ بقوة العزيمة، ورجاحة العقل، وصدق الوجدان.

فما الذي فاتني من الفوز والنصر في السنة الماضية حتى أرجع على نفسي باللوم والتثريب؟

أعتقد أني ضيعت على قلمي فرصاً لن تعود: كنت في العام الماضي مرهف الإحساس، ولكن قلمي لم يستفد من ذلك.

والكاتب المخلص لفنه لا يترك عواطفه تتبخر وتضيع، وإنما يسارع إلى الاستفادة من فورتها، فيكتب وهو مشبوب القلب ليستطيع السيطرة على القلوب. . .

وما أقول: إني انصرفت عن مصاولة الأزمات الوجدانية، فقراء (الرسالة) يذكرون أني كنت أواجههم بهذه الشؤون من حين إلى حين، ولكني أعترف بأني ظلمت نفسي أقبح الظلم حين تغافلت عن تسجيل ما كان يثور في صدري من العواطف في بعض الأحايين.

حدثني الأستاذ الزيات قال: إن بعض القراء لا يستريحون إلى بعض ما تكتب في الشؤون الوجدانية، وإن من الخير لمن كان في مثل مركزك أن يقف عند حدود الأدب الرزين!

و (بعض القراء) هم المشايخ الذين يسمرون في نادي (الرسالة)، ليجادلوا الزيات فيما يباح وما لا يباح من المذاهب والآراء، وفيهم من لا يرضى عن كاتب مثلي إلا إن شغل نفسه بشرح (دلائل الخيرات)!

والحق أني راعيت رأي هذا الصديق بعض المراعاة، والزيات صديقٌ أمين، والانتفاع برأيه من أوجب الفروض، ولكن كيف كانت العواقب؟

ص: 8

أضعت على نفسي وعلى (الرسالة) فرصاً لن تعود. . . وهل أملك ردّ العواطف التي ثارت ثم خمدت في تباريح السنة الماضية؟

(تلك أيامٌ خلت) ولن يردها أسفٌ ولا بكاء!

إذا صح أني مفطور على إحساس الفرح والحزن في الحياة، وإذا صح أني أقوى ما أكون حين أفرح أو حين أحزن، فكيف يضيق صدر وطني وزمني عن سماع سجعاتي وزفراتي؟ وبأي حق يحرم عليَّ ما يباح للشعراء في جميع البلاد؟

وهل تصدقون أن الناس يكرهون حقيقةً أن تحدثهم عن أزمات الأفئدة والقلوب؟

وهل صدق الأستاذ فكري أباظه حين حدّث الناس عن طريق المذياع باندهاشه من أن يسمع أغاني الهجر والوصل والدنيا في حرب؟

وهل تظنون أن هذا الخطيب يقضي أيام الحرب في التخشُّع والقنوت أمام المحراب؟

الدنيا في حرب، وسيعقب الحرب سلامٌ بعد عام أو عامين، ولكنكم تنسون أن الشاعر يعاني حرباً لا يصد شرها عنه غير الموت، إن صح الموت يريح أرواح الشعراء من البلاء بالتفكير في أسرار الوجود

وما الذي يوجب الخضوع للأفكار العاتية التي تتوهم أن الحرب تقدر على زلزلة السريرة الإنسانية؟

الحرب تستطيع أن تصنع بالسريرة الإنسانية ما تصنع العواصف بأمواج المحيط، فهي تقلقل المنافع من وقت إلى وقت، ولكنها تعجز عن اقتلاع ما في السرائر من جذور الحب والبغض والهدى والضلال

والشاعر ينظر إلى من حوله من الناس نظرات مختلفات: فيرى بكاءهم مرةً كبكاء أطفال، ويراه مرةً زئير اسود. فالطفل لا يذكر من الحرب غير تنقل (التسعيرة) من وضع إلى وضع، ويكون مثله مثل الطباخ الذي انزعج لارتفاع أسعار القطن لأنه رأى ذلك نذيراً بارتفاع أسعار الزيت!

أما الرجل - والشاعر الحق هو الرجل الحق - فيرى أن الحرب لا تكون سيئة العواقب إلا أن استطاعت بفواجعها أن تقتلع من السريرة الإنسانية جذور الإحساس بمعاني الحياة.

وهل في الحياة معانٍ أشرف وأفضل من الحرص والشره والطمع في أنتهاب أطايب

ص: 9

الوجود؟

شغلت نفسي مرةً بتأريخ ملاهي الحي اللاتيني في باريس، فجمعت أكثر من خمسين كتاباً تحدث مؤلفوها عن ملاهي ذلك الحي، ثم راعني أن ألاحظ أن تلك المؤلفات كتبت قبل الحرب العالمية، فعرفت أن الباريسيين بعد تلك الحرب فقدوا شعورهم بتذوق الحياة فلم يعودوا يهتمون بتسجيل ما يصادفهم من النعيم في ذلك الحي البهيج

فإن استطاعت الحرب الحاضرة أن تشغلنا عن أحاديث الهجر والوصل فسيكون معنى ذلك أننا صرنا أطفالاً ضعافاً لا يهمهم من الدنيا غير اعتدال أسعار (اللِّعب والصواريخ)!

أقول هذا وفي مكتبي مقال لم يسمح بنشره الأستاذ الزيات، لأنه خشي أن يفتح لخصومي باب الأقاويل والأراجيف، وهو مقال سجلت فيه إحساسي بفراغ شارع فؤاد من أقدام الملاح يوم تجربة الغارة الجوية. فهل من الحق أن الحرب رجت مصر رجةً تذهب بما يملك شعراؤها من عواطف وأحاسيس؟

وهل من الحق أن أهل مصر لم يعودوا يأنسون بغير حديث البقول؟

أعترف بأني توجعت مرة على صفحات الرسالة من غلاء الورق، وذلك توجُّع مشرِّف، لأن الأمة التي تشكو غلاء الورق هي الأمة التي تُعزّ الأفكار والعقول، وكل شيء في دنيانا من الكماليات إلا الورق فهو عندنا من الضروريات، والمصري المثقف قد يكتفي بالقليل من القوت، ولكنه لا يستغني أبداً عن زاده من الحبر والورق

ونحن قومٌ آذتنا الظروف الدولية أقبح الإيذاء، فليس لنا من السيطرة الاقتصادية أو الحربية ما للأمم الديمقراطية أو الدكتاتورية، ولكن لنا مع ذلك سيطرة عقلية نصول بها في أقطار الشرق.

ولو شئت لقلت أننا نملك من هداية الشرق ما لا يملك الإنجليز والفرنسيس والألمان، ولهذه الدولة الروحية سلطانٌ يحسدنا عليه من يملكون في تصريف السلم والحرب ما لا نملك، فليس من العجيب أن نشكو غلاء الورق في زمن لا يشكو فيه المسيطرون غير غلاء القوت

والشرق ينتظر أن نحدثه عن نفسه بما لا يعرف

فكيف يغيب عنا أن من الواجب أن نكون أفصح من يذيع في الشرق أحاديث السريرة

ص: 10

الإنسانية؟

استيقظوا، أيها الغافلون، واعلموا أنكم لن تكونوا شيئاً مذكوراً إلا إذا استطعتم أن تشغلوا الشرق عما في الغرب من ألحان وأغاريد

هل فكر واحد منكم فيما عرف الشرقيون من الآداب الفرنسية والإنجليزية؟ وهل خطر في بالكم أن الأقطار الهندية والأفغانية والإيرانية أقواماً يقرؤون عن العقول الفرنسية والإنجليزية أضعاف ما يقرؤون عن العقول المصرية؟ وهذا يقع مع أن مصر في هذا العهد تستطيع أن تكون قيثارة ترجِّع ألحان السماء لو تركت التزمت الممقوت الذي يفرض التغاضي عن أحاديث القلب والوجدان

سألني أحد الأصدقاء منذ أيام عن الظروف التي ألفيت فيها كتاب التصوف الإسلامي وهو يتوهم أنني لم أذق قطرة من رحيق التصوف، فقلت: ذلك كتابٌ زكّيتُ به عن قلبي. فقال: وهل على القلب زكاة؟

فقلت: آفة الآفات أن تظن أن الزكاة لا تجب على القلوب

والأحاديث الوجدانية التي أهتف بها من حين إلى حين هي نفحة من نفحات التصوف، فكيف يراها بعض القراء من مظاهر الفتون؟ وكيف يرى صديقي الزيات أن نشرها يقوى حجة خصومي واعدائي؟

بل كيف استبحت ظلم نفسي فلم اهجر مجلة الرسالة لأتحدث عن فؤادي بما أشاء؟

تلك أيامٌ خلت! فمتى أرجع إلى مناجاة أو ما هي وأحلامي؟

إن الحديث عن الظواهر لا يحتاج إلى عبقرية، أما الحديث عن ضمائر النفوس وسرائر القلوب فلا ينهض به غير أفذاذ الشعراء. فمتى أجد آذاناً تطرب لأسجاع الروح المفتون بتهاويل الوجود؟ ومتى أجد قلباً يسمع وسواس قلبي؟ ومتى أجد روحاً يأنس بغناء روحي؟

هل سمعتم بما صنعت وما تصنع مشيخة الأزهر؟

هي تستعدي الحكومة المصرية على كل من يطبع كتاباً دينَّياً تقع فيه غلطة نحوية أو صرفية أو إملائية!

فهل علمتم في يقظة أو في حلم أن مشيخة الأزهر شغلت نفسها بطبع طائفة من الكتب الدينية؟

ص: 11

كذلك يصنع معي خصومي واعدائي، فلا هم يؤدّون زكاة القلوب، ولا هم يسكتون عمن يؤدي زكاة القلوب

زرت السيد آل كاشف الغطاء في النجف على غير معرفة فقال: من أي بلد قدمت أيها السيد؟ فقلت: قدمت من وطن أبن الفارض. فقال: وطن الذي يقول:

كل من في حماك يهواك لكن

أنا وحدي بكل من في حماكا

فقلت: بل وطن الذي يقول:

أنت ورد فَهَب محبَّك شوكاً

أترى الوردَ عاش من غير شوكِ

فإن كنتُ من الشوك فلا بأس، فالورود لا تعيش إلا في حماية الأشواك، والروح اللطيف لا يعيش إلا في قفص من الجسم الكثيف

وسمعت في الأيام الأخيرة أن إحدى المجلات تنوشني منذ أسابيع فرفضت الاطلاع على تلك المجلة لأني أخشى أن تروضني على الشراسة والحقد، وأنا أحب مسالمة الناس لأفرغ لمحاربة قلبي، القلب الجامح الذي يقهرني على الوفاء لأقوام لا يعرفون معنى الوفاء

ثم ماذا؟ سأتحدث في الأسبوع المقبل عن لواعج وشجون يضيق عنها حديث اليوم

زكي مبارك

ص: 12

‌ذريني.

. .!

للأستاذ كامل محمود حبيب

(. . . ورأيت النار فلم أر منظر كاليوم قط أفظع، ورأيت

أكثر أهلها من النساء). قيل: بم يا رسول الله؟ قال: (بكفرهن).

قيل: أيكفرن بالله؟ قال: (يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان. لو

أحسنت إلى إحداهن الدهر كله، ثم رأيت منك شيئاً؛ قالت: ما

رأيت منك خيراً قط)

حديث شريف

ذريني أطِر بين فلجأت الأرض ومضّلات السماء، أستشف بهاء الحياة وجمالها!

ذريني أحطم الأغلال الثقال التي أرسف فيها، لأفر من هذا السجن الأسود، أتنسم روح الحياة والحرية!

ذريني أنحلل من هذا العبء الفادح، فلقد آدنى، فما عدت أطيقه!. . .

ذريني أر الدنيا، فلقد وجدت فقدها بين طيّات نفسي الوثّابة!

يا عجباً! لقد جفّ قلبي وذوت سعادتي!

فهذا هو القمر يتألق في السماء، والأرض نائمة في سكون، وأنا أرمقه من خلال همومي، فلا أحس فيه الجمال ولا المتعة. . .

وتنفّس الفجر، فما لمست في نسماته النديّة بَرْدَ الراحة ولا نشوة اللذة. . .

وافترّ ثغر المشرق عن ابسامة الشمس، وأنا - وحدي - جاثم على نشز لا أستبشر لبسماتها. . .

وإن الروض ليضحك، فما أرى في ضحكاته سوى فنون من الكآبة والحزن. . .

وإن الغدير ليعزف على قيثارة لحن الخلود الشجي، فما تتطرب له نفسي. . .

يا عجباً! أفكل هذا لأنك - أيتها المرأة - إلى جانبي تنفثين فيّ روح الشر؟

أيتها المرأة، لطالما فوّقت إلى قلبي سهامك المراشة، فاضطرم بالهوى وتلهب بالشوق.

ص: 13

والآن ها هو ذا قد شاط بينها فما عاد قلباً، ولكن مضغة لا تتحرك.

ولطالما سهرتُ أُناجيك - وأنتِ في منأى عني - والآن هدّني الإعياء؛ فذريني أقذف بأعبائي جانباً، لأتوسّد ذراعي على الحصا، في ظلال شجرة وارفة، إلى جانب غدير، تسكرني نسمات الربيع الهينة، فتستمتع نفسي بحنان الطبيعة وهدوء الكرى

ولطالما أوحى أليّ شيطاني أنك أنت فوق البشرية، أنك بسمة الخالق على الأرض الحزينة، فماذا. . . ماذا رأيتُ الآن؟

ولطالما استلهمتُ منك جمال الفن، ورسمتك بريشة الخيال في أضعاف قلبي، ثم لمستكِ، فماذا. . . ماذا وجدتُ؟

أفحقاً أنكِ أنتِ مادة الشاعر حين يتغنى بكلمات تتدفق النشوة واللذة من خلالها؟

أفحقاً أنكِ أنت ريشة المصور التي تعبث بالألوان فإذا هي حياة؟

أفحقاً أنكِ أنتِ لحن الموسيقى السماوي حين يُداعب أوتار قيثارة فتتحدث عن خلجات القلوب؟

أفحقاً أنكِ أنتِ لمعة الحياة إن شمل الكون ظلام الموت؟

كلا. . . كلا! إنه هو خيال الرجل يُضفيه عليك - حيناً بعد حين - فيبعث فيك الكبرياء البغيضة، ويسمو بك إلى آفاقه هو، في حين أنك أنتِ. . .

كان هذا خيالي حين استهوتني شياطينك فتمنيتُ. . . ولما خبرتك فزعتُ عنك، لا أطمع في حديث، ولا أرنو إلى لقيا

ليت هذا الرجل يعلم. . . ليته يعلم أنك قد مرنتِ على الختل والخداع، ودَرِبتِ على الشغب والمكيدة، وأحببتِ نفسك فشغلتك فألهتك عن أن تكوني امرأة لرجل، ونزت بك نزوات الكبرياء فذهبتِ تفزعين من أنوثتك الوضيعة. . . ذهبت تفزعين منها لتكوني بدعاً في الرجال!

إنني أفرق من جمالك وقبحك، وأفزع من ابتساماتك وعبراتك، وأخاف رضاك وسُخطك، وأجزع من عطفك ومقتك، وارهب صحبتك وفراقك. . . فماذا. . . ماذا بقى فيك أطمئن إليه؟

هذه الدار الهادئة قد ملئت بك ضجة تحطم فيّ خواطري الجميلة

ص: 14

وهذا القلب الشاب النديّ قد استشعر الوهن حين مسحت بجمالك على شغافه

وهذه الحياة الوضاءة قد أظلمت حين أشرقتِ في جنباتها

فذريني. . . ذريني - أيتها المرأة - أفتش عن شباب قلبي!

ذريني. . ذريني، يا شقّاء القلب!

ولكن، آه، أين منك الخلاص؟

إن شيطانك ما يفتأ يلاحقني، فإذا أعجزه أن يسيطر علىّ في يقظتي، تبدّى لي، بين أحلامي، في زينته الجذابة

وهذا الجمال الذي تتقزّز منه نفسي لأني أنفذ إلى حقيقته القبيحة، يتراءى لي - في منامي - في صفاء قطرة الندى على الزهرة البيضاء النضيرة، فيأسرني رويداً رويداً

وهذه النظرات التي أرى من خلالها الدَّغل والشر والرياء جميعاً، تنفذ إلى قلب أحلامي فتستخرج أضغان صدري

وهذا القد المضطرب المتكسر يهفو إلىّ فيما يرى النائم حلواً يميس في خطرات النسيم بين رؤى نومي

وهذه المرأة التي أنبذها، تسعى إليّ - دائماً - حين يأخذ بنفسي الكرى. . . تسعى لتضمني إليها، خشية أن أفلت منها ومن متاعبها في وقت معاً

ولكن. . . ولكن ذريني، يا شقاء القلب!

آه، لقد طرحتك، أيتها المرأة، فلا أحس بالعطف عليك، وفررتُ منك فلا أحن إليك، وصدفت عنك فلا أصبو إليك، وطرت عنك فلا أسقط عليك. . .

ولكن كيف؟ وقلبي ما يزال يتصدع عن ثغرة يتوثب منها الهوى والحنان، لأن روح الأبوة تتأجج في أعماق قلبي فتسلبني الهدوء والاستقرار

فأين أجد أبني؟. . . وهو جمال الحياة، وبهجة القلب، وفرحة النفس، وزهرة الدار، وشبابي اللمّاع حين يوشك أن يَنْبَتَّ حبل العمر. . .

وا حسرتا! إنني لن أجده إلا فيك. . . فيك أنت أيتها البغيضة!

ويا بني، لست في غنى عنك، فأنا أجد في نأيك فراغ الحياة، وظلام العيش، ووحشة الطريق. . .

ص: 15

فتعال. . . تعال إلى - يا بثِّي - علِّي أجد فيك صورة من طفولتي الجميلة المرحة، أو أجد سعادتي المفقودة. . . حين أجد أبني!

كامل محمود حبيب

ص: 16

‌النَّاي

(هذه الأغنية منظومة على بحرين مختلفين رغبة في تنويع

مجرى النغم، والبحر الأول وضعه الشاعر، وأجزاؤه: فاعلاتن

مفاعلتن (مرتين)، وليكن أسمه: المنطق. وأما البحر الثاني

فمن البحور المعرفة.)

جَنِّبوا النَّايَ عن أُذُني

أُذُني زُلْزِلَتْ طَرَبا

مثْلَ قَلْبٍ تُحَدِّثُهُ

سَرَّهُ السَّرْدُ فاضطرَبا

أَوْتارُ الخاطرِ تَغمِزُها

أنّاتُ النايِ فَتَرْتجِفُ

فَيَضِجُّ الجَنبُ بِأغنيَةٍ

حمراَء قَرارَتُها التَّلَفُ

نَغمٌ جاَء يَفْتِكُ بي

ذاعَ في السَّمعِ مُصطَخِباً

مِثْلَ دَمْعٍ يُغالِبنُي

دارَ في العْينِ مُلْتهِبا

عَطَفاتُ النايِ مُصَعِّدَةً

في الليل ضُلوعاً تَنقصِفُ

صبَواتُ الرُّوحِ يُطوِّحها

في اليومِ العابسِ مُلتهِفُ

القاهرة، مايو 1934

بشر فارس

ص: 17

‌صفحة مجيدة من تاريخ المسرح المصري

عبد الرحمن رشدي وأثره في تاريخ المسرح المصري

للأستاذ زكي طليمات

(نص الكلمة التي ألقاها الأستاذ زكي طليمات مفتش شئون

التمثيل بوزارة المعارف في حفلة التأبين التي أقيمت بدار

الأوبرا الملكية يوم 4 فبراير سنة 940 برياسة معالي وزير

المعارف أحياء لذكرى مرور أربعين يوماً على وفاة الممثل

الكبير الأستاذ عبد الرحمن رشدي المحامي.)

في هذا المكان وعلى هذا المَمْثل، منذ نيف وسبعة وعشرين عاماً خلت وقف شاب غض الإهاب، فياض القوة، في عينيه بريق، وفي صوته فورة العزيمة وعناد التصميم، تلطف نبراتها حلاوة الحلم الممتع. وقف هذا الشاب في ثياب الممثل يؤثر ويبهر، فحط تاريخ التمثيل العربي الناشئ صفحة المجد الأولى، وأشرق على المسرح المصري فجر وردي جديد

وقف هذا الشاب يمثل، وارتفع الصوت الجهير في رنين أجراس الذهب، فجاوبته صيحات مدوّية منكرة، هي أشبه شئ بصوت انهيار الأنقاض وتصدع الجدران. ذلك لأن العرف المصري الجاري في ذلك الوقت أصيب في أعشاره، وتصدعت منه دعامة قوية شامخة

هذا الشاب هو (عبد الرحمن رشدي) الذي ترك حلبة المحكمة إلى خشبه المسرح، ونضا عنه حُلّة المحامي ليلبس حُلّة الممثل، وهجر عالم القضاء ودنيا الوظائف الحكومية إلى عالم التمثيل ومستراد المرئيات ومجال والوهم المجسم، وزهد فيما كان ينتظره من شارات الشرف في عالم القضاء من أجل تيجان من الورق، وأسمه من الصفيح، وسيوف من المعدن الزائف. . .

أتى كل هذا طائعاً مختاراً وهو في تمام عقله وكامل صحوه، وافتدى صحو العيش بكدره. . . وحياة المسرح في مصر أكدار ومآسٍ. أتى ذلك لأن هاتفا خفياً أهاب به في الساعة التي

ص: 18

ترسم الأقدار فيها رجالها وتختارهم للقيام بأعظم الأحداث وجلائل الأمور

أجل أيها السادة، كان احتراف عبد الرحمن رشدي التمثيل في ذلك العهد حَدَثاً من الأحداث الاجتماعية في مصر

ولماذا. . .؟

كان المسرح المصري يرقى الدرج الأول من مرحلة جديدة. كان يحاول متطوحاً فيها أن يستخلص لذاتيته طابعاً جدياً يمت إلى الفن الخالص من حيث فن التمثيل وإخراج الرواية، بعد أن مهد له (سلامة حجازي) و (عزيز عيد) سبيل ذلك بقدر ما وسعه علمهما وسمح به زمانهما. وكان العاملون في المسرح رجالاً ونساء، أخلاطاً سقيمة ممن خفت حمولتهم في التعليم والتهذيب والتثقيف، ولا أقول من حسن الاستعداد وخصب الموهبة. وكانت كثرتهم الغالبة، ما عدا النذر اليسير الذي لا يؤبه له، ممن تقطعت بهم أسباب العيش عن طريق احتراف المهن المألوفة. وكان الجمهور من أجل ذلك يرمق المسرح المصري والمشتغلين فيه بعين ملؤها الازدراء والحذر، إذ يرى فيهم قطيعاً من شذاذ المجتمع، ونفايات الأوساط، وقناصي الكسب السهل عن طريق حلق الشارب، وتخطيط الوجه، ورفع الصوت بالصياح والضجيج

في ذلك العهد جاء الأستاذ جورج أبيض من أوربا، وشاءت إرادة سيد البلاد إذ ذاك أن يكون للأستاذ أبيض يد في ترقية المسرح، فكان أن ألف فرقته العربية الأولى من أقرب ما بين تلك العناصر التي أجملت وصفها إلى شخصية الممثل الحق علماً وأدباً

وهنا جرت الأعجوبة إذ تقدم إلى الصف (عبد الرحمن رشدي) محطماً العرف الاجتماعي السائد، في الأسرة وفي الحرفة التي ينتمي إليهما، مضحياً بمركزه الاجتماعي وبكرامة الرجل الكامل. أقول هذا أيها السادة وأكرر وأؤكده لأنه كان يوجد من الممثلين قبيل ذلك العهد من يحترف كي الطرابيش وبيع الأشربة والمثلجات بالنهار ليحترف التمثيل بعد ذلك في الليل

ولا لوم ولا تثريب على فن التمثيل في ذلك، فقد أتى التمثيل مصر دخيلاً، وفرض نفسه على المجتمع المصري الذاهل كلون جديد من ألوان التسلية. والجديد الوافد من الحرف لا يلقي صدراً رحباً في أول الأمر إلا ممن يعيشون على هامش بيئاتهم الاجتماعية ولا يعمل

ص: 19

فيه غير من نبت بهم طرائق الكسب المألوفة، أو من لم يحظوا منها بما يقوم بحاجاتهم

مضى الأمر واحترف عبد الرحمن التمثيل فكانت بداية ملحمة جديدة قوامها نزول شاب مثقف عامل مستكمل لمقومات شخصيته الاجتماعية الرفيعة إلى عالم ضليل لا يصول فيه غير المكابر، ولا تطولفه غر قامة المشاغب والمداجي والعريض الصوت والمنكبين، عالم تحيط به الريب والشكوك، ويغلفه الكثير من سوء الظن، نزل إليه عبد الرحمن بأقدام ثابتة، يَعمُرُ قلبه عقيدة راسخة بأن المسرح كالمسجد يؤمر فيه بالمعروف وينهى عن المنكر

نزل وملء حواسه إيمان صادق بأن المسرح المصري الناشئ لن يرقى ولن يؤدي رسالته في التثقيف والتهذيب، ما لم يتوله جماعة على قسط وافر من الثقافة والتهذيب، وما لم يشرف عليه من يعيش له لا من يعيش منه، وما لم يكفله الكفيل الصالح

كان عبد الرحمن محامياً في نظارة الأوقاف، وكان يتقاضى مرتباً شهرياً ثابتاً قدره أربعة عشر جنيهاً، فرضى أن يعمل ممثلاً بمرتب قدره أثنا عشر جنيهاً في هيئة غير ثابتة في فرقة تسير - كما سبقتها الفرق التي تقدمتها - مضطربة حائرة، كسفينة هزيلة البناء في بحر عجاج، وفي هذا ما ينهض دليلاً على أنه لم يحترف التمثيل ليزداد مرتبه، أو ليجمع مالاً عجز عن جمعه في حرفة المحاماة

ومثل عبد الرحمن أدواراً سجلت مواهب الممثل في نسقها العالي؛ ودوّي مجده دوياً أخذ على هواة التمثيل مشاعرهم، فتحركت نفوسهم، وتطلعوا وتتطلع غيرهم ممن أخذوا يعرفون محاسن التمثيل على يد المحامي الممثل، وقامت فرقة جماعة أنصار التمثيل تعمل للفن برياسة المرحوم محمد عبد الرحيم الذي كان يشغل وظيفة أستاذ بالمدارس الثانوية

ولكن عبد الرحمن اضطر بعد شهور - ويا للعجب - أن يترك فرقة أبيض مرفوع الرأس، لأن النزعة المادية كانت تغلب كثيراً نزعة الفن الخاص لدى بعض مديري الفرقة المصرية، فتأذت نفسه من ذلك وفترت آماله. . .

وعاد إلى المحاماة الحرة في مكتب أنشأه بمدينة الفيوم لقي فيه نجاحاً كبيراً. وهكذا عاد النازح إلى بيته واستقر فيه، وحسب الناس أن مغامرة عبد الرحمن في احتراف التمثيل إنما كانت بدوة من بدواة النفس الفتية

يا للهاتف الغامض الذي ينادي النفس فتلبي النداء، ويُغلّبُ القلبَ على الحجا والرواية؟؟

ص: 20

لم يمض زمن طويل حتى رأينا عبد الرحمن يعاود مغامرته الأولى بنفس الحماسة الأولى ويضحي بالربح والواسع الذي كان يدره عليه مكتبه بالفيوم. أتى كل هذا ناسياً ما جرته عليه مغامرته الأولى، ضارباً عرض الحائط بنصائح أصفيائه ممن راعهم أن المسرح المصري ما برح غير جدير بالتضحية من جانب صفوة المتعلمين

ولكن الهاتف المجهول كان يسد مسامعه، والقدر يدفعه إلى أن يستقيم على محتوم قضائه

عاد عبد الرحمن إلى العمل في فرقة الأستاذ أبيض بعد أن أنضم إلى فرقتها وجيه من وجهاء مصر، وسليل بيت كبير من بيوتاتها، وهو عمر سري بك نجل المرحوم حسين سرى باشا؛ وكاد وجيه آخر من طرازه، وهو المرحوم محمد تيمور بك، نجل المرحوم أحمد تيمور باشا، وتشريفي حضرة صاحب العظمة حسين كامل سلطان مصر، كاد أن يأتي نفس المغامرة؛ وكدت بدوري، على الفارق البين، أن أركب نفس الطريق وأترك دراستي الثانوية في مرحلتها الأخيرة. . .

ومهما انتحلت للمرحوم تيمور ولنفسي من الأعذار التي حالت دون احتراف التمثيل في ذلك العهد، فلا أجد بدَّاً من المصارحة في هذا الموقف الذي أعطى فيه (ما لله لله، وما لقيصر لقيصر) بأنني وتيمور كنا أوهن من عبد الرحمن عزماً وألين عوداً

وبدأ الدور الثاني من جهاد عبد الرحمن وبدأت معه الجمعيات التمثيلية مرحلة جديدة اتسمت بالجهاد الصادق وبوفرة عدد العالمين في الجمعيات، وجعلهم من صفوة المتعلمين طلبة كانوا أو موظفين

ونضجت لعبد الرحمن طريقة في التمثيل حاكاه فيها ضعاف الشخصية من الهواة والممثلين، وتنبهت الأقلام المصرية إلى واجبها فقام الأستاذان إبراهيم رمزي ولطفي جمعة يدعوان إلى استقلال المسرح المصري برواياته

أيها السادة:

يقولون إن التاريخ يعيد نفسه. . . وما أصدق هذا حتى في أتفه الأمور!

لم يمض وقت طويل على عبد الرحمن في هذه الفرقة حتى اضطر إلى تركها لأسباب لا يسمح المقام بذكرها، ولكنها أسباب تشرف عبد الرحمن، الرجل والممثل، الذي لم يعمل في التمثيل ليجمع المال من ورائه، وليستثمره كما يستثمر التاجر الملهوف على الكسب متجراً

ص: 21

انتهى إليه في آخر الزمان!

ورجع عمر سري بك إلى قصره العاجي ينفض عن أقدامه غبار طريق شائكة بعد أن ضاق ذرعاً بالفرقة وبنفسه، وبقى عبد الرحمن واقفاً مثبتاً في حلبة الجهاد رجله، وليس لديه ما يدفع عنه غائلة الأيام، بل وآلام الحاجة والضيق إلا قلب كبير يعمره الإيمان بالله، وبالمبدأ، وبالفكرة العاملة

أيتها الحاجة، أنك قاسية!

أيها الجوع أنك كافر، إنك كافر!

ولكن يشاء الله أن يسكب في نفوس أصفيائه من البشر ما يجعلهم يزدرون بالمحن، فتراهم يدفعون الحاجة بالصبر، ويستعينون على الجوع بالكفاف من العيش.

وقف عبد الرحمن هذا الموقف الرائع، فتجلى عناد التصميم وثبات العقيدة وجلال الرجولة في اكمل معانيها.

كان في وسعه أن يعود إلى المحاماة، أو أن يلتحق بوظيفة حكومية تقيه شر ما يلقي. كان سبيل الخلاص ممهداً أمامه، ولكن عبد الرحمن أبى أن يفعل شيئاً من هذا، لأن رسالته في المسرح المصري لم تكن قد تمت فصولها، وصاحب الرسالة مجاهد وشهيد، والشهداء يأبون إلا أن يكونوا شهداء وقد يكون خلاصهم بين أيديهم.

وسرعان ما انتهى دور الاستجمام والتفكير إلى دور الوثوب والعمل. فألف عبد الرحمن فرقة تمثيلية باسمه، على نظام الحصص وهو نظام جديد، يقضي بتوزيع قدر من الدخل الوارد من أيراد الحفلات تبعاً لما خصَّ به كل ممثل أو ممثلة.

فلا مرتبات ثابتة، ولا أجور مقيدة.

كان تأليف هذه الفرقة حدثاً جديداً في المسرح المصري، لأنها لم تتألف من أنقاض الفرق العاملة، وإنما تألفت في جملتها ولا سيما في عنصر الرجال فيها من شباب جدد مثقفين، ينتمون إلى بيئات اجتماعية لم تسخ بأبنائها على التمثيل، جمعت الفرقة الجديدة الموظف الذي هجر وظيفته، والطالب الذي قطع دراسته العالية أو الثانوية، اجتمعوا كلهم في صعيد واحد، بعد أن أنضجتهم الهواية الصادقة بالعمل في الجمعيات التمثيلية، اجتمعوا بعد أن ترسموا طريق الفداء الذي شقه الزعيم المجاهد عبد الرحمن فضحى كل منهم بما كانت

ص: 22

تعده لهم وظائفهم أو دراساتهم من مستقبل زاهر، أقل مزاياه أنه مستقبل لا يسلم أصحابه إلى العيش من وراء مهنة مضطربة حائرة، غرمها مضمون، وغنمها مشكوك فيه، تكابد إغفال الناس، بل واذدراءهم.

على هذا النحو، ألفت أول فرقة مصرية من عناصر نابهة، فما لبثت أن أثبتت حسن اضطلاعها بمهمتها، واستطاعت أن تشق طريقها، وتركز أعلامها في القطر، من الثغور إلى أقصى الصعيد، ورددت أرجاء هذه الدار نبرات حارة لأصوات فنية، وصارت الفرقة بهيئتها ورئيسها رمزاً للتضحية في سبيل المبدأ، ومظهراً من مظاهر النهضة المصرية، ووجهاً من وجوه اليقظة القومية

في هذا الفرقة عمل الأساتذة سليمان نجيب مدير هذه الدار، ومحمد عبد القدوس، ومحمد فاضل، ومحمد وفيق، والمتكلم أمامكم، عملوا ممثلين محترفين!

أيها السادة

حاذروا زوالاً إذا قيل تم الأمر وبلغ مداه. وحقق مقاصده!

بعد جهاد مستمر، دام ثلاث سنوات وشهوراً، اضطر عبد الرحمن أمام الأزمة الاقتصادية التي شملت العالم بأسره، بعد انتهاء الحرب الماضية، أن يفض الفرقة، وأن يترك الميدان مفتدياً ذلة الخاضع بعزة المغلوب، لأن الكساد الذي شمل سائر مرافق الحياة الاجتماعية بفعل تلك الأزمة، كاد يفرض عليه فرضاً أن ينزل إلى مستوى السواد الأعظم من الجمهور، وأن يتملق رغباته، وكانت رغبات الجمهور في ذلك العهد، عهد الثورة المصرية، متقلبة لا تستقر على حال، ولا تغنى من التمثيل، وهو لون من ألوان التسلية، إلا بما هو سطحي وعابر، لا يكد الذهن ولا يجهد الخاطر

حلت الفرقة، ولكنها حققت الغرض الأول من قيامها، وهو جعل المسرح في ممثليه والقائمين عليه من الطبقة المثقفة التي اجتلبت حسن الظن بفن التمثيل

حلت الفرقة، ولكن بعد أن جعلت من التمثيل العربي حقلاً جديداً للنشاط الذهني من جانب طبقة من الناس ما كنت تأبه له قبل قيامها. وهكذا بدأ عهد اصطلاح في المسرح المصري، وانفتح باب للتجديد فيه، لم يلبث أن ادخله الأستاذ (يوسف وهبي)، نجل المرحوم عبد الله وهبي باشا، ليأخذ المشعل من يد قائد الطليعة، ويعمل للمسرح مجداً متفانياً في جهاده،

ص: 23

مضحياً بثروته الشخصية، وما آل إليه من مال أبيه الراحل

هذا هو مجد عبد الرحمن رشدي، وبهذا يستقر اسمه في رأس قائمة أبطال الطليعة الذين عملوا للمسرح المصري مخلصين للمبدأ

عاد الممثل ومدير الفرقة إلى المحاماة للمرة الثالثة، ولكنه عاد إليها في هذه المرة كسير القلب، لأنه استيقن أن الزمان يضيق به وأن لا سبيل إلى فرض إرادة على هذا الزمان، الذي يأخذ من المصلحين بقدر ما يريد، لا بالقدر الذي يريدونه ويستطيعون تقديمه

وكان ينتابه حنين إلى المسرح، وهو يجالد الأيام وتجالده، فكتب له أحياناً، وعمل عضواً عاملاً في اللجان التي ألفتها الحكومة لترقية التمثيل، وأذكر من مسرحياته:

(تخت العلم)، و (البؤر المرخصة)، و (المأمون)

وألفت الفرقة القومية بمال وزارة المعارف، فلم يتوان عن تلبية النداء، ورجع القائد والزعيم جندياً متواضعاً يعمل في الصف بالإشارة ولا كبر ولا خيلاء!

أحبك يا عبد الرحمن في تواضعك وسماحتك، وأحني الرأس إجلالاً لك، قائداً كنت وزعيماً، ومؤتمراً أصبحت وجندياً

ولم يطل مكث (عبد الرحمن) في الفرقة القومية، لأسباب خاصة، فتركها في نفس الوقت الذي زهدت فيه العمل فيها

وشاء القدر أن يجمع شملي وشمله للمرة الثالثة في مكان واحد، وأن نعمل لغرض واحد في وزارة المعارف، وهو تهيئة جيل جديد للتمثيل، يقبل عليه ويعمل له، إذا استطاع، مخلصاً ومجدداً

هذا هو بعض عبد الرحمن رشدي، الذي اجتمعنا اليوم مختارين لتأبينه، وتكريم ذكراه، فيبكي كل واحد منا في شخصه قطعة من ماضيه، أو صفة من صفات الرجولة الباهرة، أوسمة من سمات البطولة الحقة، أو مظهراً من مظاهر الجهاد والتضحية

هذا هو عبد الرحمن رشدي الممثل فحسب، وأتجاوز عن سائر نعوته وألقابه، وقد كان المحامي القادر، والموظف الكبير، وأبن البيت الكريم. أفعل هذا عامداً مزهوَّاً، لأن الممثل عبد الرحمن رشدي، أكبر من كل هذا، وأنبه ذكرا، وأبعد أثراً من كل هؤلاء في الدور الذي لعبه في حياته، لان الممثل عبد الرحمن رشدي، واحد في نسجه، منفرد بما آل إليه

ص: 24

أمره، وما استقام عليه بمحتوم قضائه

وهاأنذا أختم كلمتي بالهتاف لهذا القائد الذي سقط في حومة الجهاد، وسيفه في يمينه، بعد أن أفرغتُ كلمتي هذه في سمع الزمان الواعي، وهي كلمة تتسم بوفاء التابع الأمين، وخبرة الصديق، وصراحة الفنان.

أقف بعد ذلك صامتاً، وأمسك عامداً عن استنزال شآبيب الرحمة على البطل الراحل، كما تجري بذلك تقاليد البيان في هذا المقام، لأن هذا البطل الحر الطليق، كان يمقت التقاليد؛ وكانت حياته حرباً على التقاليد، ولأن العناية الإلهية التي رسمته مجاهداً، وجلبته مصلحاً ومغامراً، أجل وأرفع من أن يتطاول عليها بالنداء والتنبيه صوت شخصي الضعيف الحزين

بل أن هذه العناية الإلهية الرحيمة، قد شملته منذ أن حان حينه، وتهيأ للقاء الرفيق الأعلى، فعجلت نقلته من هذه الدنيا، ومضى عنها ما بين غمضه عين وانتباهتها. وكأني بها نفست به على المرض الطويل، وضنت به على تجارب الأطباء. وعبث الممرضين، وعصمته من عذاب دونه كل عذاب، وهو صمت الجسد المتداعي عن إجابة الروح القوي، والنفس الوثاب

أعود فأقول: إنني لا أفعل هذا، لأن عبد الرحمن رشدي مبعوث عناية، ورجل أقدار، ونفس من أنفاس الرحمن الرحيم.

زكي طليمات

ص: 25

‌كبرياء.

. .

للدكتور إبراهيم ناجي

نِداؤكَ يا فؤادُ. كفى نداَء

عفاءً أنضرةَ الدنيا عفاَء

رُوَيدك أيها الجاني، كلانا

لصاحبه وما يدري أساَء

أنا ظمآنُ لم يلمع سرابٌ

على الصحراء إلا خِلْتُ ماء!

وأنتَ فَراش ليلٍ كلَّ نور

تبِعتَ وكلَّ برقٍ قد أضاء

عشقتُ فما شدَوْتُ الشعر شعراً

ولكن اعتصرتُ لكِ الدماء

فإن أكُ في هواك أضعتُ قلبي

فلست أُضيعُ فيك دمي هباء

غرامك كان محراب المصلي

كأني قد بَلْغتُ بك السماء

خلعتُ الآدمية فيه عني

ولكن ما خلعتُ به الأباء

فلم أسجد بساحته رياء

ولا كالعبدِ ذُلا وانحناء

ولكني عشقتك عشقَ حُرٍّ

يموت متى أراد وكيف يشاء. . .

ناجي

ص: 26

‌الفروق السيكولوجية بين الأفراد

للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد

أشرت في المقابلة السابقة إلى التجارب التي أجراها مونستربرْج لاختيار سائقي الترام والسيارات وعاملات التليفون وإلى المقاييس التي وضعها لمعرفة الأفراد الصالحين للمهن المختلفة. وأنه لمن الأنصاف التاريخي ألا نترك موضوع (اللياقة المهنية) من غير أن نذكر كلمة عن الدكتور فرانك يارسونز أحد موظفي (إدارة الخدمة الاجتماعية) في بوستن بأمريكا.

كان ذلك في سنة 1908 حينما جمع الدكتور بارسونز التلاميذ الذين أتموا التعليم الأولى في الحي الذي يقطنه والأحياء المجاورة، وكانت الغاية من هذا الاجتماع أن يبحث مع هؤلاء المراهقين أمر مستقبلهم، ونوع المهن التي يريدون احترافها، ولِمَ يؤثرون مهنة غيرها، وما هي الصفات الشخصية والكفايات الفردية التي يتقدم بها كل منهم للمهنة التي يختارها. وما كان اشد عجبه حين ظهر له أن هؤلاء المراهقين لم يعرفوا شيئاً عن الحياة العملية التي يواجهونها، ولا السبب في تفضيل نوع من العمل على غيره، وما الذي تتطلبه كل مهنة من المؤهلات الجسمية والمقدرة العقلية والخلقية. ولقد استطاع بارسونز أن يسدي لهم نصائح فردية، وأن يوجه كلاً منهم إلى الناحية التي تتفق ومواهبه الشخصية ومعلوماته. وكان هذا الاجتماع التاريخي النواة الأولى لتكوين (مكتب الإرشاد المهني) الذي افتتح في نفس العام. وقد أسرع إلى هذا المكتب البنون والبنات بعد إتمام الدراسة الأولية للاستشارة، ومعرفة أنسب الحرف لهم ولهن. ولقد كان الدكتور بارسونز موهوباً القدرة على معرفة خواص الأفراد، ومزاياهم العقلية والخلقية والجسمية، واختار ما يناسب كل فرد من عمل. ولذلك صادف مشروعه هذا نجاحاً وإقبالاً

لم تكن نصائح بارسونز مبنية على اختبارات ومقاييس علمية ولكنها كانت نتيجة لفكرة يكونها عن طالب التوظف بعد سؤاله عدة أسئلة عن ماضيه وحاضره واستعداده ونوع دراسته وآماله

وقد شعر بارسونز بنقص طريقته هذه فوضع نظاماً أحكم ذا ثلاثة عناصر أساسية: العنصر الأول درس كل مهنة من المهن الممكنة ومعرفة نوع العمل فيها، وظروف هذه المهنة

ص: 27

الاقتصادية والصحية والاجتماعية والفنية، وبذلك يعرف الطالب أو الطالبة في وضوح ما تتطلبه المهنة من الممتهن ومستقبلها. والعنصر الثاني أم يكون على صلة بنظار المدارس ومدرسيها، وأن يخبرهم بنتائج أبحاثه ودراساته الفنية المهنية، ويطلب إليهم ملاحظة التلاميذ أثناء الدراسة وكتابة تقريرات عن تحصيلهم ونشاطهم المدرسي، واستعدادهم الفردي وميولهم، والناحية الممتازة في الفرد، حتى يرجع إلى هذه التقريرات عند الحاجة. والعنصر الثالث أن يصلح من الطريقة التي كانت متبعة باستقبال طالبي المهن ووضع أسئلة عامة لهم، حتى يستطيع بالطريقة الجديدة أن يجمع أكثر ما يمكن من معلومات منظمة عنهم

كان أثر هذه الحركة أن انتبهت مجالس التعليم المختلفة وجمعياته في الولايات والمدن الأمريكية لدراسة مشكلة اللياقة المهنية، والخصائص السيكولوجية للأفراد، فعقدت المؤتمرات، وأسست مكاتب الإرشاد المهني، وعين مستشارون مهنيون لزيارة المدارس - كما يزورها الأطباء - ولإبداء رأيهم في صلاحية من أنهَوا دراستهم من التلاميذ لأنواع المهن المختلفة، كما نشطت المدارس، والمؤسسات العلمية، والمعامل والشركات، والجمعيات، لإمداد مكاتب الإرشاد المهني، والمستشارين المهنيين بالمعلومات التي يحتاجون إليها، وكثرت هذه المعلومات وازدادت. وغدا المستشارون يسدون نصائحهم مبنية على الاجتهاد والتجربة من غير أن يقوموا باختبارات لقياس الذكاء، أو الاستعداد الخاص، أو الصفات الفردية الأخرى، فكانوا ينصحون ضعاف الرئة مثلاً ألا يشتغلوا في المعامل التجارية، أو المصانع ذات الهواء الرطب أو كثير البخار، ولا يشجعون على التوظف في الشركات ذات المستقبل الغامض. وهكذا ابتعدت هذه المكاتب عن الغرض السيكولوجي الذي أنشئت من أجله، وأصبحت (مكاتب استخدام). وقد اعترف المستشارون بذلك، وكانت حجتهم أنه لم تظهر بعد المقاييس السيكولوجية المقنَّنة لمعرفة الفروق الفردية وحتى يمكن الحكم على صلاحية نوع معين من الأفراد لنوع معين من المهن

وضع بارسونز مجموعة من الأسئلة لاختبار طالبي المهن، استطاع بها أن يكشف عن عادات المختبر وميوله وتجاربه، ومن بين هذه الأسئلة ما يأتي:

هل تصرفاتك هادئة أو هائجة، حكيمة متواضعة أو ترمي للإعلان عن النفس؟

ص: 28

إذا كنت مع جماعة فهل تفكر في راحتهم وتعمل عليها؟

هل ابتسامتك طبيعية وبسهولة أو متكلفة؟

هل أنت صريح في رأيك، شفيق في معاملاتك، حريص على اختيار أقوالك وأفعالك؟

هل تخيلاتك وأفكارك طبيعية ومتواضعة، أو اعتدائية، أو مغرورة، أو متشائمة، أو ثائرة؟

ما مقدار درجة انتباهك للشيء إذا كانت الدرجة القصوى الممكنة للانتباه هي مائة؟ ودرجة ملاحظتك، ودرجة ذاكرتك، ودرجة تعقلك، ودرجة تخيلك، ودرجة إدراكك، ودرجة رد فعلك (الرجع) للبيئة الطارئة، ودرجة قدرتك التحليلية للظروف، ودرجة تفكيرك الإنتاجي

هل تستطيع أن تخلق علاقات طيبة بسرعة مع من تتصل بهم؟

هل أرادتك قوية أو ضعيفة، مترددة أو عنيدة؟

أتتمتع بوجودك في المجتمعات، وهل يسر الناس وجودهم معك؟

وكثير غير هذه الأسئلة

وربما كانت هذه الأسئلة مفيدة عملياً لو أن الإجابة كانت عنها صحيحة مبنية على علم المختبر نفسه وميوله وعاداته. وإلا فمن القراء من يستطيع أن يجيب عن كل هذه الأسئلة بدقة وهو مقتنع بصحة الإجابة؟ وما دامت الإجابة موضع شك فما يبنى عليها أيضاً من النتائج موضع شك. وإذاً فطريق الأسئلة هذا لا يمكن الحكم به على خصائص الأفراد وشخصياتهم، ولا أن تكشف عن الفروق السيكولوجية بينهم

وتسمى طريقة استخدام الأسئلة في الدراسات النفسية والإجابة عنها طريقة (التأمل الباطني) وهي طريقة لها عيوبها الكثيرة، ومن بينها أنها ليست موضوعية محضة ولكنها ذاتية شخصية خاضعة لعواطف الشخص وأهوائه وذاته وحالته النفسية لحظة الاختبار والعلوم إنما تعتمد في بحوثها ونتائجها على الطريقة الأولى لا الثانية

وبعد فقد عرضنا حتى الآن تاريخ الفروق السيكولوجية بين الأفراد عرضاً عاماً، وتطورت الاختبارات والمقاييس التي وضعت حتى أول القرن الحاضر. غير أن علم النفس بفروعه المختلفة قد نهج خلال الخمس والعشرين سنة الماضية منهجاً علمياً أكثر دقة، في الطريقة، وفي إحصاء النتائج. كذلك درست خصائص الأفراد العقلية والجسمية والخلقية والمزاجية، كلُّ طائفة منها على حدة، ووضعت لها مقاييس تختلف كثيراً أو قليلاً من إقليم لإقليم، وقُنِّنَ

ص: 29

بعض هذه المقاييس

ويمكن حصر أنواع هذه المقاييس التي استخدمت لمعرفة الفروق السيكولوجية بين الأفراد فيما يأتي:

(1)

مقاييس الذكاء العام. ويقاس بها الذكاء العام للأفراد

(2)

مقاييس الذكاء الخاص. وتقاس بها المواهب العقلية الوراثية الخاصة، كالموهبة الموسيقية والموهبة الرياضية

(3)

مقاييس الأمزجة والخلق. وهي تقيس عواطف الأفراد ونزاعاتهم الخلقية للأجرام أو الإصلاح

(4)

مقاييس التحصيل المدرسي أو البيئي اللغوي والعلمي

(5)

المقاييس المهنية المحضة

وسنعالج كل مجموعة من هذه المقاييس في مقالات قادمة إن شاء الله.

(بخت الرضا. السودان)

عبد العزيز عبد المجيد

ص: 30

‌الأدب الفنلندي

للأستاذ صديق شيبوب

بينما كان الشاعر (لياس لونرو) يعنى بجمع قصائد كاليفالا وضم أجزائها، وإنشاء لحمة بينها لتتألف منها ملحمة وطنية قديمة

قام شاعر آخر بنظم ملحمة وطنية عصرية يتغنى فيها ببطولة الفنلنديين في العصور الحديثة، وكان اسم هذا الشاعر (جوهان لودنيج أونبرج)

ولد أونبرج سنة 1804 وتوفي سنة 1877، ودرس الطب وامتهنه واشتغل بالأدب والشعر. وفي شبابه وجه عنايته إلى درس أخلاق مواطنيه في كثير من العطف، ثم كتب في ذلك رسالة طويلة كما تناول مظاهر هذه الأخلاق في الأقاصيص العديدة التي كتبها بعد ذلك. وهذا ما جعله في طليعة الأدباء الذين عملوا على إنشاء الأدب الفنلندي بالرغم من استعماله اللغة الأسوجية فيما كتب ونظم، لأنه عرف كيف يصف روح مواطنيه وكيف يعبر عنها تعبيراً صادقاً. وقد تجلت هذه الميزة خاصة في كتابه:(أقاصيص حامل الراية) '

كان الشعر أبرز ما في أدب هذا الطبيب، وله قصائد يعدها النقاد الأسوجيون والفنلنديون من خير ما نظم في هذين البلدين، وهم يقرون أن أحسن شعره ما جمعه في كتابه الذي ذكرناه:(أقاصيص حامل الراية)، وهو في جزأين، ظهر الأول منها سنة 1848، والثاني سنة 1860.

تتألف هاتان المجموعتان الشعريتان من أقاصيص رواها على لسان جندي قديم اشترك في الحرب التي اضطرت أسوج في نهايتها إلى التنازل عن فنلندا لروسيا فوصف معاركها وقص أنبائها، وسجل أخبارها. وقد كان من الجرأة بمكان عظيم أن يختار الشاعر موضوعاً لملحمة وطنية حرباً ختمت بالانكسار والخذلان؛ ولكن التاريخ كان قد سبق الشاعر فدّون الأخطاء التي وقعت فيها قيادة الجيش وحملها مسؤولية الاندحار ووصمها بالجبن والخيانة.

فقائد الجيش الأعلى لم يصدر غير أوامر تقضي بالارتداد والتراجع، وسلم قائد آخر حصن (سيفبورج) الحصين من غير قتال. بينما ناضل الجنود المشهورون ببسالتهم وصبرهم على الأهوال نضال المستميت فأنقذوا شرف الجندية ولكنهم لم يستطيعوا أن يفوزوا وينتصروا.

ص: 31

وقد حمل (رونبرج) في شعره على قائد الجيش وفضح خيانته، ومما قال فيه:(ليغفل ذكر أصله وسلالته حتى لا يتحملوا وزر جرمه، ليحمل وحده عاره، لأنه وحده جدير بالازدراء. ليس لمن خان وطنه أصل ولا سلالة، ليس له ولد ولا والد.)

على أن شجاعة الجنود المقاتلين كانت كافية لتوحي للشاعر قصائده الحماسية التي تغنى فيها ببسالة مواطنيه. وقد قص في شعر رائع أخبار المعارك الصغيرة التي ظهرت فيها بطولتهم والتي تمكنوا فيها من التغلب على الجيش المهاجم فردوه مندحراً. وعنى الشاعر خاصة بأعمال البطولة الفردية التي تجلت فيها المزايا التي تتحلى بها روح الشعب الفنلندي

وصف الشعر الجيش وتحدث في أكثر من أقصوصة عن العلاقات الوثيقة التي استحكمت بين صغار القواد والجنود. وقد أجاد كل الإجادة ووصل إلى أبعد الغايات عند تناول وصف الجنود من طبقة الفلاحين. هذا (ستين دوفا) الذي كان يظنه رفاقه معتوهاً، ولكنه استطاع منفرداً أن يدافع أن أحد الجسور وأن يدفع عنه العدو حتى جاءت نجدة تمكنت من رده.

وهذا (مونتر) الجندي الباسل الذي كانت شجاعته تنبعث من أعماق نفسه في كثير من السذاجة والتواضع. وقد مات صريعا في ساحة القتال بانفجار قذيفة رماها أحد جنود الأعداء فتلقاها (مونتر) بيده ليردها إليه. وقد رثاه (رونبرج) في ختام قصته بقوله: (لقد كان فنلندياً)

ويطول بنا الحديث إذا شئنا عرض صور البطولة المختلفة الأشكال والأوضاع التي رسمها الشاعر في هذين الديوانين، وقد كان طبيعياً أن يستهل (رونبرج) الجزء الأول منهما بقصيدة حماسية في تمجيد وطنه والإشادة بذكره، ننقل منها بعض شعرها للدلالة عليها. قال:

بلادنا، بلادنا، وطننا،

دَوِّ عالياً أيها الاسم المحبوب،

لا يوجد في بلاد الشمال رواب ترتفع نحو السماء

ولا أودية تنخفض، ولا شواطئ تغمرها الأمواج،

أحب إلى القلوب من بلادنا

من أرض آبائنا

ص: 32

من يستطيع أن يحصي عدد المعارك

التي خاضها غمار هذا الشعب،

عندما كانت الحرب تستعر في واد بعد واد،

عندما كان يحل البرد القاسي حاملاً معه الجوع المضني

من يستطيع أن يحصر الدماء التي أراقها

وأن يصور شدة صبره على احتمال الأهوال

هذه هي (أقاصيص حامل الراية) التي يعتبرها الأسوجيون كأجمل ما كتب بلغتهم. وقد أخذ عليها بعضهم أن ناظمها تحرر في بعض الأحيان من نصوص التاريخ فلم يحترمها، بينما يرى البعض الآخر أن هذا النقد لا يحط من قيمتها لأن (رونبرج) إذا تجاوز ما قرره التاريخ فإنه لم يتعد الحقيقة فكان صادقاً في الصور التي رسمها والوصف الذي أجراه لنفسية الشعب الفنلندي وأخلاقه ومزاياه

(للبحث صلة)

صديق شيبوب

ص: 33

‌هكذا تكلم هتلر!

(هذه القصيدة مترجمة عن الإنكليزية، وهي تنطوي على

دعاوى هتلر وأمانيه، منقولة على لسانه في تهكم لاذع)

طيب القلبَ، محبَّ ال

خير للناس، أَراني

فلماذا صار كل

الناس يرتابون منى؟

كل فعل لي يسو

ء الناس بل ودّوا لو أني

مقعدٌ، لم أَسْدَ ما أسدَ

يت عن طيبة قلب

يتبع الألمان ما أو

حى بتفكير ولبس

بحماس حوليَ التف

وا، تخطى كل حدس

كلهم عاد بهديي

ملَكاً في ثوب إنسي

كان هذه بعض ما أسد

يت عن طيبة قلب

هِمت بالسوديت فإن

نضم إلى الحِب الحبيبْ

وهفت برلين واستُنن

شِد (غوبِلْز) الخطيب

وهوى (كورنك) تقبي

لاً على (روبنتروب)

فعلوا إذ فعلوا ذ

لك عن طيبة قلب

أنا حررت بلاد للتْ

شيك من حكم غشوم

وعليهم لم أزل أس

هر كالأم الرؤوم

منفقاً ما ادخروا بال

أمس من مال عقيم

كان هذا بعض ما أسد

يت عن طيبة قلب

عدت بالنمسا فأضحت

تحت ظلي تستضيء

وكما قد حدثوني -

بنبوغي تستفيء

وهي ذي في قبضة الجس

تابو كالجدْي البريء

تلك مني منَة تف

صح عن طيبة قلبي

أسعد الحظ (السلو

فاك) فشاءوني خليلا

صرت احميهم وأرعى

ملكهم كيلا يدولا

ص: 34

وعليهم أسبغ الججود

ولا أبغي بديلا

كان هذا بعض ما أسد

يت عن طيبة قلب

عمت الفوضى ببو

هيميا فتاقت لاحتلالي

وغدت (محمية) تن

عم في أحسن حال

وهي ذي اليوم (بفض

لي) مضربٌ للاعتقال

تلك مني منة تف

صح عن طيبة قلبي

ساءني تسويف (بولن

دا) بتسليم الممرّ

فشننت الحربَ لم

تبق عليها أو تذر

ويح قلبي، كلما أذ

كر (بولندا) انكسر

غير أني قد شننت ال

حرب عن طيبة قلب

عند إغراق (أثينا)

ساور البعض الهموم

فاتهم ما قاله من

قبل (صولون) الحكيم:

(يسعد المرء إذا ما

ت ويحظى بالنعيم)

فبإغراقي لها أف

صحت عن طيبة قلبي

أكره الغاز فما استع

ملته في غزواتي

وكذا الحرب، فإن أحر

قتُ أطفال العداة

ولئن أغرقت من أس

طولهم بالعشرات

فأنا أفعل ما أفعل

عن طيبة قلب

لجَّ قلبي ببلاد ال

أرض حباً واستعر

وتمنى ضمها فيه

وإشباع الوطر

أنا موهوب، بوسعي

حكم مجموع البشر

وسأمضي لاحتمال ال

عبء عن طيب قلب

(بغداد)

(رسول)

ص: 35

-

ص: 36

‌الأدب في سير أعلامه

بيرون

(ذلك العبقري المتمرد الذي غنى أروع أناشيد الحرية، ولاقى

الموت في سبيل الحرية)

للأستاذ محمود الخفيف

أرسل جروج بيرون إلى مدرسة صغيرة في أبردين وهو دون الخامسة، ولكن أمه لم تطمئن إلى تعليمه فيها فعهدت إلى أستاذين بتعليمه في المنزل إلى جانب المدرسة وقد حبب إليه إحداهما التاريخ وعلى الأخص تاريخ الرومان، فراح يقرأ منه في غير ملل، وعلمه الآخر اللاتينية، بينما أخذ يوحي إليه مبادئه الكلفنية، والطفل يستمع إليه في ذلك مندهشاً متحيراً يتساءل في صمت كيف يقدر الشقاء على قوم قبل مولدهم، وما جريرتهم حتى يشقون وأي فرق بينهم وبين الذي قدرت عليهم السعادة؟ ويستمع الصبي إلى مثل هذا في حديثه مع خادمته ماري، حينما يسألها وهي تتلو الإنجيل قائلاً: وما ذنب قابيل قبل أن يقتل أخاه؟ ويضيق حين تجيبه أنه قدر عليه الشقاء، فيقول في غضب: وكيف يسأل عن جريمته إذاً؟ على أنه يطرب للغة الإنجيل وإن لم يفهم أكثرها ويهتز قلبه لما يتخيله عقله الصغير من صوره

والصبي قوى الخيال يصور له خياله كل شيء ويلازمه ما يتخيل أينما ذهب، وكانت صورة الشيطان الذي طالما حدثته عنه ماري تتملك لبه وتصحبه في الغداة والعشي، فإذا ترك في مخدعه وحده نفت النوم عينيه صورة الشيطان حتى لتمتلئ الغرفة حوله بالأشباح، وإذا أطل من نافذته وجد المقبرة القريبة منه ملأى بالشياطين من كل هيئة ومن كل طول وهي تتعابث وتتراقص

ويستمع الصبي أيضاً إلى أحاديث أمه وخادمته عن أجداده لأمه وأجداده لأبيه وكيف قرنت بالشر أيامهم فيعزو ذلك إلى أنه قد قدر عليهم الشقاء من قبل فكانوا من حزب الشيطان كما كان قابيل من حزب الشيطان، ويخاف الصبي أشد الخوف أن يكون نصيبه من الحياة مثل نصيب هؤلاء وهو يرى من أثر الشيطان في خلق أمه ما يرى ثم يرى منه في نفسه ذلك

ص: 37

العرج الذي أزداد ألمه منه حينما بلغ السابعة

ويعرف الصبي في المدرسة بحدة ذكائه بقدر ما يعرف بإهماله وانصرافه عن دروسه، ويسمع منه معلموه عبارات يبدو بها أكبر من سنه ويدهشهم منه قراءته الخارجية التي لن يبلغ نصيبه منها عشرة من أقرانه مجتمعين، وكان شغفه بالشرق عظيماً فقرأ قصص ألف ليلة وليلة وألم بقدر كبير من تاريخ أمم الشرق، وفي مقدمتهم الترك، كانت أمه على قصر ذات يدها لا تضن عليه بما يطلب من الكتب، فكان يعد ذلك من أكبر حسناتها إن كان ثمة لها غير هذه من الحسنات

وعرف شاعر الغد بحدة عاطفته وتمرده على القوانين والأوضاع الرتيبة، وعرف كذلك باستعداده للنضال والهجوم إذا استفزه إلى ذلك أحد. عاد إلى منزله ذات يوم يلهث وفي وجهه آثار معركة، فأجاب على تساؤل خادمته عن هذا بأنه تربص بغلام كان أهانه فتوعده حتى وقع عليه في الطريق فأذاقه من بطشه وأتم حديثه قائلاً:(وكيف لا انفذ ما توعدته به؟ ألست بيروني النسب)؟

واستقرت في أعماق نفسه الصغيرة مناظر اسكتلندرة برواسيها الشامخات التي تجلل رؤوسها الثلوج وتعلو بعض قممها على السحاب، وكانت هذه الأجرام التي تجلل رؤوسها الثلوج وتعلو بعض فقممها على السحاب، وكانت هذه الأجرام الهائلة تهز نفسه وتستميله أكثر مما تفعل الزهور والرياض وأشباهها من مناظر الطبيعة الهادئة الوديعة. . .

وتفتح قلب الصبي للحب وهو في الثامنة، فقد رأى في إحدى جولاته مع أمه ابنة أحد الفلاحين فأحبها حتى ما يطيق أن يفارقها؛ ولما فارقها على رغمه كانت تجيش نفسه وهو في تلك السن بمعاني الوجد والحنين. . . على أنه ما لبث وهو في التاسعة أن هام بابنة عم له هياماً استأثر بلبه، فما يفكر إلا فيها وما يرى حسناً يقاس إلى حسنها، وإنه ليحس إذا جالسها بما يملأ قلبه من معاني الوداعة واللين واللطف حتى لينسى عنفه وحدته أتم النسيان، ولا يزعجه إلا خجله من عرجه، وكم يتمنى أن لم تكن العاهة التي يعظم خجله منها أمام ابنة عمه ماري أكثر مما يعظم تلقاء غيرها من الناس. . .

وكانت أمه توقن في قرارة نفسها أن أبنها سيكون رجلاً عظيماً في غده. ولعل مرد ذلك ما تتمناه الأمهات عادة لأبنائهن، ولعل مرده إلى ما أخذته من عرافة ريفية نبأتها بما سيكون

ص: 38

له من خطر في غده. وها هي ذي الأيام توشك أن تحقق جانباً من نبوءة العرافة، فلقد كان للورد الخامس في الأسرة وهو شقيق جده حفيد هو الذي يرث اللقب من بعده فمات هذا الحفيد عام 1794 فلم يبق بين الطفل واللقب إلا أن يموت ذلك اللورد الشيخ، وما لبث أن مات ذلك الشيخ بعد ذلك بنحو أربعة أعوام، فانتقل لقب الأسرة الوراثي إلى الطفل وهو في العاشرة.

وفرحت أمه أشد الفرح ولكن الطفل يتجه إلى المرآة ويسأل أمه عما إذا كانت ترى فيه فرقاً بين يومه أمسه لأنه لا يرى شيئاً من ذلك.

ولكن هذا اللقب سوف يكون عظيم الأثر في حياة شاعر الغد وموقف المجتمع منه، إذ سيكون من أهم ما توافي له من أسباب الإعجاب به وذهاب صيته في الأوساط جميعاً

وتأهبت أمه لتذهب به من أبردين إلى حيث يستلم ما ورثه مع لقبه الجديد من ثروة، وكان الصبي يومئذ في سنته الحادية عشرة، ولقد عز عليه أن يغادر أبردين فيبتعد عن ابنة عمه ماري التي أحبها ذلك الحب الشديد وعن مناظر أسكتلندرة، ويحرم مما باتت توحيه إليه شواهقها ووديانها، تلك الشواهق التي ألف تسلق جوانبها على الرغم من عاهته والتي زلت قدماه على سفح من سفوحها ذات يوم حتى أشرف على الموت لولا أن تداركه بعض من كان معه، فلم يزده ذلك إلا تعلقاً بها وأقداماً على معاودة تسلقها

ورحلت الأم وولدها وخادمتهما، وأحس الصبي أنه ينتزع نفسه من ملاعب طفولته انتزاعاً، ولقد استقرت في نفسه مناظرها وطيوفها، وما أعظم ما سيكون لهاتيك الطيوف في غد من الأثر في شعره وخياله

وانتهى بهم السير في نيوستد وحطوا رحالهم في مهد الأسرة العتيق، في ذلك القصر الذي أفنت جدره العتيدة السنين الطوال. ولشد ما أحبه الصبي وآنس في هيكله وأبهائه وحجراته أحلاماً جديدة أضافها إلى سالف أحلامه. . . وأقبل على الخدم يسألهم عما تقع عليه عيناه وعلى الأخص عن تلك الصور المعلقة على الجدران. . . فهذه صورة اللورد التعس الذي ورث عنه الصبي ما ورث، وتلك صورة أحد أجداده الذي أبلى أحسن البلاء في الحروب الصليبية ومات في الأرض المقدسة، وهذه. . . وهذه. . . والصبي معجب بذلك كله إعجاباً شديداً وإنه ليزهى أشد الزهو بأنه اللورد الجديد الذي آل إليه ذلك القصر وما فيه

ص: 39

جميعاً. وغرس الصبي بيده شجرة هناك لتكون ذكرى له

على أن ذلك القصر لم يعد يصلح للسكنى بسبب ما أصابه من التخريب أيام ذلك اللورد التعس، ولم يك لدى أم الصبي ما يتطلب إصلاحه من المال، ولذلك لم تلبث أن تركته وأبنها إلى مدينة نوتنجهام. . . واعتلج في نفس اللورد الصغير الألم لفراق قصره السحري، الذي أمل أن يتسلى به عن ماري دف وقد شف قلبه الوجد لبعده عنها. ولقد كان عجيباً أن يحبها مثل هذا الحب في التاسعة وأن يأسى على فراقها هذا الأسى وهو بعد لم يتجاوز الحادية عشرة، ويذهب بعض علماء النفس إلى أن مثل هذه العاطفة الباكرة بشير بنبوغ صاحبها غداً في مجال الفن؛ ويروي عن دانتي أحد شعراء الدنيا الأفذاذ أن قلبه الغض نبض بحب بياتريس وهو لا يزال في التاسعة من عمرة.

(يتبع)

الخفيف

ص: 40

‌الأدب في أسبوع

أسواق النخاسة

مازلت أضحك إِبْلى كلما نظرَت

إلى من اختضبتْ أخفافها بدم!

أسيرُها بين أصنام أشاهِدُها

ولا أشاهِدُ فيها عِفَّةَ الصنم

هكذا يقول المتنبي في صفة أصحاب السلطان الأدبي والسياسي من أهل عصره، ولا يزال هذا ينطبق إلى اليوم على البلاد الشرقية والعربية إلا قليلاً قليلاً. لقد أذكرتني أشياءُ رَمَت إلى - ما كنت أسوس النفس على تناسيه ونبذه والتباعد عنه، ولكن صِناعة الأدب هي من بين الصناعات أشدُّها التحاماً بالحياة. . . لا، بل بالأصول النفسية التي تقوم عليها وبها أسواق المجتمع الإنساني، وهي ترمي بالأديب في تنّور متسعِّر من نزاع الغرائز والشهوات والأحقاد، وهو بين اثنتين: إما أن ينحط في هوى غرائزه التي تثيرها هذه النار الآكلة، فيفسد بفسادها، وإما أن يتحصن دونها، فيروض غرائزه الوحشية، حتى تألف وتنقاد لحكم العقل النبيل والعواطف السامية. فكذلك يوطن نفسه على الحرمان والألم والتفرد والوحشية. . . ثم على الصراع الذي لا رحمة فيه ولا هوادة بين تضرُّم النزعات المستبيحة، وبين زهادة النفس المتورعة المطمئنة. وكان أحق الناس بالتسامي ومطاولة الغرائز في هذه الحرب الموقدة - الأدباء، فالأدب في اصله تنزيهٌ للنفس وكبحٌ من جماحها، ورفق في سياستها؛ فإذا انقلب الأدب تضريه للوحوش الرابضة في الدم من الطبائع والغرائز، خرج عن أصلة وفقدت ألفاظه معانيها، وصارت أسواق الأدب تعتمد في معاملتها على البغي والظلم والعدوان والتهجم والاستبداد.

وفقدت كل معاني الحرية والعدل والإنصاف والتمييز بين الخبيث والطيب، وهي أصول الفطرة الأدبية السامية.

إن الأديب الحر ينتفض تقزُّزاً واشمئزازاً كلما انبعثت روح حقارة المجتمع من وراء الرّمم الأخلاقية المموَّهة بالنفاق، والتي أقيمت عليها أصنام منصوبة للعظمة الباطلة الجوفاء، وهو أشد انتفاضاً وانتقاضاً حين يرمي ببصره إلى الأدب والعلم وهذه المعاني السامية فيرى الأدباء والعلماء أذلاء مستعبدين قد خضعت أعناقهم للحاجة والضرورة والبؤس، فهم نواكس الأبصار إلى الأرض بين يدي فئة منهم قد أخذوا عليهم أفواه الطرق المؤدية إلى

ص: 41

بعض الرزق، حين واتاهم القدر ببعض السلطان والجاه والسيطرة، وأقامتهم الشهرة الذائعة أنصاباً تهوي إليها الأغراض، وتناط بها الوسائل، وتعتمد عليها الحكومات في تقدير العلم والأدب وأهلهما والعاملين عليهما، وكذلك من لا يستطيع أديب أو عالم أو فيلسوف أن يجتاز إلا بإجازة من أيدهم وبأختامهم، وإلا أن يشهدوا له شهادة التقدير، وأن يعبروا له السِّعر في (تسعيرة) السوق الأدبي الذي أقامتهم الحظوظ عليه حكاّماً ومقوِّمين

إن الشهرة والشهادة هما شيئان لا قيمة لهما في العلم والأدب فبناءُ العلم على نجاح التجربة واستواء المنطق وإقرار العقل، وبناء الأدب على صدق الإحساس وحدة الإدراك وسمو العاطفة وقوة الحشد وبراعة العبارة والأداء. فإذا لم تكن الشهرة من هذا تستفيض وعنه تشرع، فما غناؤها على صاحبها إلا بعض الأباطيل التي تنفش في عقول الأمم الضعيفة والأجيال المستعبدة بالأوهام والتهاويل. والشهادة ما هي إلا إجازة الدولة لأحد من الناس أنه قد تحرر من طلب العلم والأدب على القيود التي تتقيد بها المدارس والجامعات في أنواع بعينها من الكلام، وأنه قد حصل في ورقة الامتحان ما فرض عليه في تحصيله بالذاكرة، ثم ترفع الشهادة يدها عن معرفة ما وراء هذا التحصيل وما بعده وما يصير إليه من الإهمال والنسيان أو الضعف أو الفساد. فحين يغادر أحدهم الجامعة حاملاً شهادته مندمجاً في زحمة الجماعة تفقد الشهادة سلطانها الحكومي - أو هكذا يجب أن يكون - ولا يبقى سلطان إلا للرجل وأين يقع هو من العلم أو الأدب أو الفن؟

وهل أصاب أو أخطأ؟ وهل أجاد أو أساء؟ وهكذا فهو لا ينظر إليه مغسولاً غفلاً من (مكياج) الدبلوم والليسنس والماجستير والدكتوراه. . . وما إليها، وإذَن، فأوْلى ألا ينظر إليه عن شهادة قوم لم يكن سبيلهم إلى التحكم في أسواق العلم والأدب إلا الشهادات المستحدثة، والشهرة النابغة على حين فترة وضعف واختلاط وجهل كان في الأمة حين كان أقل العلم وأشفُّ الأدب يرفعان صاحبهما درجات من التقدير والإجلال والكرامة

إن هذه التجارة التي تقوم على استعباد العلم والعلماء والأدب والأدباء تجارة باغية ينبغي أن تفنى نخاستها وأن تغلق أسواقها، وينبغي أن يتحرر الأدباء والعلماء المستعبدون قليلاً من أغلال الضرورات المستحكمة ليحاربوا بغي هذه التجارة بالنبل والسمو والترفع، وليهتكوا تلك الأستار الحريرية الرفيعة المسدلة على بيوت الأوثان الجاهلية التي تستعبد

ص: 42

الأحرار باستغلال ضراعة الضرورة والحاجة والفقر؛ ينبغي. . .

وينبغي لكاتب هذا الباب الجديد في (الرسالة) أن يرفع القلم عند هذا القدر الآن، ويعود إليه بالتفصيل والبيان فيما يستقبل

معهد الصحراء بيت الحكمة

كتب صديقي (إسماعيل مظهر) - في مقتطف يناير سنة 1940 - كلمة بليغة يصف فيها (رهين المحبسين) محِبس الصحراء، ومَحْبس النسيان، وهو معهد الصحراء القائم على مشارف الصحراء المترامية، في (مصر الجيدة)، وقد شيده (الأسد المصريُّ) الملك فؤاد رحمة الله عليه من ماله خاصة، ليكون مأوى للعلماء الذين يدرسون طبائع الصحراء ومعادنها وأجوائها، ولكنه لم يتم بناؤه لما عرض من مرض الملك العالم ثم وفاته على شدة الحاجة إلى جرأته وإخلاصه وعزمه، وإنفاذ هذا العزم بالبصيرة والحكمة والمثابرة

وكنت كلما صحبت أخي (إسماعيل) لبعض الرياضة، تهاوينا إلى البيداء المقفرة الصامتة بأحزانها الحائرة، وسرنا نتقاود في جوفها فترمي بنا أرجلنا شامخ قد أقعى على ربوة من الأرض كأنما يتجمّع للوثبة، ومع ذلك فأكاد أجد في سمعي بيان هذا الأعجم الصموت، وهو يهمهم بأنَّاته من ذُلّ الوحشة والأسر والنسيان والخراب، فأنشد (إسماعيل) قول الرضيّ:

ولقد رأيتُ (بدْير هِنْدِ) منزلاً

أَلِماً من الضَّرَّاءِ والحَدَثانِ

أغضى كمستَمِعِ الهوانِ، تغيَّبَتْ

أنصارُهُ وخلا من الأعوانِ

وكان هذا البناء المسكين همةً من همم الملك النبيل رحمه الله. ولقد سمعت أنه قد أحاطه بما يزيد على عشرة أفدنه ليقوم فيها، وفي منتزهاتها، وليؤدي أهله إلى صحراء مصر المجهولة حقَّها من الدرس والكشف والاستنباط

هذا، وقد ضرع (إسماعيل) إلى خليفة (فؤاد) في ملكه وعلمه وعزمه وبصيرته، إلى (الفاروق) صاحب مصر الأعلى وحاميها وهاديها إلى الخير، أن يُتمّ ما بدأ الملك الأول من البناء، وأن يعيد لملكه الزاهر تاريخ العرب والعربية في عصر المأمون الذي أنشأ (بيت الحكمة)، وجعله مستقر النقلة من العلماء الذين استوعبوا نقل حكمة (يونان) إلى اللسان العربي؛ فأسسوا للعلم ملكاً لم يطاوله في العصور إلا عظمة المأمون. . . قال:

(ومعهد الصحراء - يا مولاي - عظيم الإرجاءْ اتساع العقل الخالد الذي فكر في إنشائه،

ص: 43

فهل نطمع في أن يضم إليه بضعة علماء يقفون جهودهم على ترجمة علوم أوربا إلى اللغة العربية؟

وفي مصر - يا مولاي - علماء أقعدهم النسيان عن العمل ومنعهم الخجل عن السؤال، وعزَّ عليهم أن يهينوا العلم باستجداء العطف.

أنطمع - يا مولاي - أن تفيض عليهم من فضلك الواسع ما يسدُّ حاجتهم من حطام الدنيا، ليكونوا نواةً لبيت الحكمة في عهدك، فيتركوا للأجيال القادمة آثاراً لا يبزها من حيث الأثر في العالم العربي إلاّ عظمتك، ولا يفوقها في الجلال إلاّ جلالتك؟)

وكل أديب وعالم مفكر في العالم العربي يضم صوته إلى صوت (إسماعيل) في هذه الضراعة النبيلة إلى (وارث مُلك مصر، ومجد العرب) ويستيقن في قلبه أن (الفاروق) سيحمي العلم والأدب بحماية ملكية ترفع عنه الظلم والاستعباد، وتحرر العلماء والأباء من غطرسة الأدعياء المتشدقين بقليل العلم ومنقوص الأدب، مما أطاقوه وحملوه بفضل الرحلة إلى أوربا بضع سنين، تزودوا فيها بالمعاشرة والمخالطة - لا بالدرس والمثابرة - بعض ما جهله أصحاب الفضل والعلم والأدب من قومهم لقعودهم بالضرورة والعجز عن مثل الذي ساروا إليه، وهم بالعلم والأدب أقوم، وعليه أحرص، وطبائعهم إليه أشد انبعاثاً

الشباب والسياسة

في يوم الخميس السالف (4 يناير سنة 1940) ألقى بهي الدين بركات باشا محاضرة عظيمة القدر فيها معنى (السياسة) وحق (الشباب) في المساهمة في أصولها وفروعها، ودافع عن حرية الشباب في أن يهتم (بالعمل العام الذي يتصل في وقت من الأوقات بتيسير دفة الحكم في البلاد). وهذا هو تعريف السياسة عنده؛ وبذلك يخرج منها النزاع الحزبي الذي شهدته السياسة المصرية خاصة، على وجه من التنابذ والتعادي والتسفيه والاعتداء على حرية الفرد وحرية الجماعة. فإذا أخرج هذا الضرب من معنى السياسة أوجب العقل أن يكون لكل أحد الحق في أن يشارك أصحاب الرأي في آرائهم، بل إن الشعور بالحرية الفطرية توجب عليه أن يشارك بالرأي وأن يضِّحي في سبيل المبدأ الوطني العام الذي لا تقوم الدولة إلا بقيام معانيه في أعمال الأفراد والجماعات، وقد ناقش المحاضر جماعة من الأستاذة ولكنهم في مناقشتهم كانوا لا يزالون متأثرين بالمعنى

ص: 44

(المصري القديم) للسياسة، وغفلوا عن الغرض الذي رمت إليه محاضرة المحاضر في الفصل بين ما كان وما يجب أن يكون عليه معنى السياسة؛ وكيف يشارك الشباب فيها بالرأي والعمل. والسياسة - كما قال عزام بك في موقفه - لا يمكن أن تكون بحثاً فلسفياً مجرداً، لأن الإيمان بعقيدة ما يقتضي التضحية في سبيل الدفاع عنها، فإذا كانت السياسة عملاً قومياً يراد به المصلحة العامة ومجد الوطن، فهي أمر يستحق كل تضحية. وأما إذا صارت السياسة إلى المعنى الذي شهدناه في مصر من الخلاف الحزبي على مطامع الحكم فهي أمر لا يستحق أتفه التضحية

ونحن نعتقد أن الإنسان الحر لا يعرف معنى لهذا السؤال القديم: (هل ينبغي أن يشتغل الشباب بالسياسة أو لا ينبغي؟)

فهو سؤال عليه سيمياء الذل والعبودية! إن كل أحد في مصر وغيرها من بلاد العالم - شاباً أو شيخاً غنياً أو فقيراً - عليه دين للأرض التي تغذوه وتعوله وتؤويه وتمده وتحفظ له نسله جيلاً بعد جيل، وأداء هذا الدين لا يكون إلا عملاً في حفظها وحياطتها والمدافعة عنها بالسلاح والعلم والعمل والفكر والنفس، فإذا أخل أحد بشيء من ذلك خان أمانة هذا الدين وأسقط مروءته

وكيف يمكن أن يمتنع الشباب أو الطالب عن الاشتغال بالسياسة؟ أيمتنع عن قراءة الصحف والكتب لئلا يعرض له الفكر في ذلك والتمييز بين صوابه وخطأه والعمل على بيان مواضع الخطأ ومعاونة الصواب على الاستمرار؟ أم يقرأ أخبار الأمم وأحداثها فإذا أقبل على أمر بلاده طوى الصحيفة واستغفر؟ أم يقرأ ويقرأ ولا يكون إلا كالخزانة، يلقي فيها ما يلقي ليحفظ ويصان من لصوص الفكر التي يطلقها عقله في آثارها؟ أم يقرأ ويفكر، ثم يحبس آراءه بين جدران الجمجمة إلى أن يذهب بها إلى الإهمال؟

وكذلك تضعف النفس وتصدأ وتتآكل، لأن الإيمان بالعمل بأمره هما جلاءُ النفس وصقلها لتبقى أبداً مشرقة.

إن الشباب - ولا بد - مشتغل بالفكر بالسياسة ونصرة مذاهب الحق فيها - كما هو - مشتغل بالعلم والأدب والفن؛ ولكن الإشكال كله في انفساخ القوة الخلقية التي يجب أن يقوم عليها العلم والأدب والفن والسياسة، وكل عمل؛ فتربية الخلق أوَّل، ثم ارموا - بالشباب -

ص: 45

حيث شئتم: فإنهم عصام الشعب، وهم ذادة الوطن، وهم أصحاب المستقبل

المرأة والرجل

لشد ما اجترأت المرأة في هذا العصر!! وإذا أخذت المرأة أسلحتها - من الزينة والتطرية والجمال والفتنة، وجيّشت غرائزها - من الحذر والحيلة والضعف والأغراء، لم يبق للرجل إلا أن يستقتل أو يفر. . . وقد أقامت (وزارة الشؤون الاجتماعية) مناظرة بين الأستاذ (محمد فريد أبو حديد) والسيدة (زاهية مرزوق) وكان غرضها هو (كيف تنهض بالأسرة؟). والظاهر أن السيدة الكريمة قد اعتقدت في قلبها معنى (حرية المرأة) بالإصرار والتعصب فأخذت تنتزع رجولة الرجل شيئاً فشيئاً حتى ليخيل لسامعها أنه مخلوق وحشي منطلق من كل قيود النبل، فهو عندها أناني لا يؤثر على نفسه، وهو معنى متجسم للفوضى في بيت الأبوة والأمومة، وهو جاهل متحامل على ضعف المرأة لا يرحمها ولا يحس بآلامها، وهو فاجر متوقح يستجر الأخطاء ويجنيها ثم يرمي المرأة بها وينسلّ منها

وأنا لا أريد الآن أن أدافع عن الرجل، ولكني أريد أن أسأل السيدة الكريمة ومن يذهب مذهبها من النساء: إذا كانت هذه صفة الرجل في أنفسكن، وإذا تحدثتن بمثله فبلغ الأسماع في بيوت العقائل، فوقع في آذان الأم والزوجة، والفتاة الجاهلة الطياشة، فاعتقدته ومالت إليه أهوائهن، فبآي عين تنظر المرأة إلى زوجها والفتاة إلى خاطبها؟ وأيُّ معاملة يلقاها الرجل بعد على أيدهن وبألسنتهن؟

كلا يا سيدتي، أن المرأة هي تجني أكثر الذنب فيما نعلم، ثم تتنصل، وهي كل الأنانية إلا أن يتصل أمرها ذلك بمصدر الأمومة في غرائزها، فهي عندئذ مثال الإيثار والتضحية،. . .

وهي صاحبة الفضائل كلها إذا أثيرت أمومتها وإحساسها بالمحافظة على النوع الإنساني؛ وأما بغير ذلك، فهي المرأة بضعفها وأنوثتها وحاجتها إلى عون الرجل وتضحيته ورحمته. وليس للمرأة عمل إلا أن تعمل دائماً على أن تجعل الرجل في عينها تمام إنسانيتها، وبذلك تستصلح منه ما عسى أن يكون فاسداً، وتتم ما وقع إليها ناقصاً، ويبني البيت - بَيتهما - على أساس من القوة الداعية للبقاء، فمن الرجل الرحمة والإخلاص، ومن المرأة الاحترام والعفاف، ومنهما النسل الجميل المحفوف بالفضيلة من جميع نواحيه.

ص: 46

أبو العباس السفاح

لم تتسع كلمة هذا الأسبوع لتحقيق لقب السفاح أبي العباس عبد الله بن محمد أمير المؤمنين، فأرجأنا ذلك إلى العدد القادم.

محمود محمد شاكر

ص: 47

‌رسالة الفن

دراسات في الفن

هشْت. . .!

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

- هشت!

-. . . ما قلة الحياء هذه؟ أنداء هذا تنادينني به في الشارع؟

- وماذا أيضاً في هذه النداء يغضبك؟ إنه النداء الذي كان لابد أن تلبيه. وقد لبيته

- ومن أين جاءك هذا التأكيد؟ هل جاءك أني تسميت أخيراً (هشت)؟ أليس لي أسم تنادينني به؟

- ومن أين جاءك هذا الاسم؟

- سماني به أبي. . . ثقلت عليك الثواقل. . . ألست تعرف أن لي اسماً؟

- أعرف أنهم يطلقون عليك لفظاً يعلمونك به بين سائر الناس، وأعرف أيضاً أنك رضيت بهذا الاسم وسكت عنه ولم تعارضي فيه، ولكنني لا أذكر أنك أخذت رأيي في هذا الاسم وفي مدى صلاحه لك، وفي قيمة المؤثرات التي أنتجته، وفي تحديد ما كان من هذه المؤثرات طبيعياً، وما كان منها مصطنعاً متكلفاً. . .

- يا دين النبي! أتريد أن نعقد المفاوضات في هذا كله، ثم نتفق على هذا كله قبل أن تناديني باسمي؟ من يدريك أننا قد نقضي العمر في هذه المناقشات قبل أن نتفق على أسم كل منا، فإذا فرغنا من هذا كنا قد أفرغنا قوانا فيه فلا نستطيع بعد ذلك أن نتحدث في موضوع ما، فإذا اجتمعنا بعد ذلك قلت لك وأنا ألهث من متاعب اسمي واسمك: تشرفنا يا من الله أعلم باسمك، فتقول لي:(حفظتم)، ومن يدري فلعلك تسألني:(ومن أين جاءك أننا تشرفنا)؟

- هو هذا. فالاسم إذا لم يكن تعبيراً صادقاً عن المسمى كان اسماً كاذباً، وقد اعتاد الناس أن يسموا أبناهم عند ولادتهم وهم لا يعلمون من أمرهم شيئاً ولا من صفاتهم شيئاً فيسمون (عفيفاً) من قدر الله له أن يكون (دنيئاً) ويسمون مؤمناً من قدر الله له أن يكون (كافراً). . .

ص: 48

ويسمون ما يشاءون، ولله في عبده أسماء وعلامات قد تتفق مع أسمائهم، وقد لا تتفق وكان يمكن للأسماء جميعاً أن تتفق مع مسمياتها ولو في الظاهر، إذا لم يتعجل الناس ويسموا أبناءهم، وإذا تريثوا حتى يقضي كل فرد حياته المقسومة له في الدنيا فينظروا فيها ويستخلصوا منها الوصف الذي غلب عليه فيسموه به. . . هذا هو ما كان يجب أن يحدث ولكن الناس متعجلون، وقد رأوا أن الله وهب لهم ميزة النطق فاستغلوها بالحق وبالباطل، وأعملوا فيها عقولهم، وراحوا يخترعون الألفاظ والكلمات ليقضوا بها حاجاتهم العاجلة، ونسوا أن القدر الذي هيأ لهم النطق قد هيأ لهم اللغة. . . أو هم قد حسبوا أن أمر اللغة هذا موكول لهم فحرروا تصرفهم فيه، ولم يقيدوه إلا بإرادتهم، وإرادتهم كانت في البدء سليمة، ولكنها أخذت تهلهل وتتمزق وتتشعب فأصبحوا يريدون ما لا يصلح أن يكون موضع إرادة، أو متجهاً لرغبة، فبدءوا منذ ذاك الحين يخطئون الكلام، حتى تفرقوا شعوباً لكل شعب إرادة، فتبلنات ألسنتهم وأصبح لكل شعب لسان، ويا ما في هذه الألسنة جميعاً من كلام ما أنزل الله به من سلطان. . .

- يخيل إلى أنك كنت تفضل أن يكون الإنسان حيواناً صامتاً

- بل كنت أفضل أن يتكلم الناس كلهم لغة واحدة. . .

فقد خلقهم الله ناطقين وليس عليهم أن يصمتوا بينما أراد الله بهم أن يسبحوه بكرة وعشياً. . .

- ولماذا لا تدعوه إلى الاسبرانتو. . . مادمت تريد أن يتكلم الناس جميعاً لغة واحدة. . .

- الاسبرانتو لا يمكن أن يتعلمها الناس إلا بالتلقين في المدارس، أما اللغة التي أطلبها فلغة ينطق بها الناس أينما كانوا من تلقاء أنفسهم بلا معلم، ويفهمها الناس أينما كانوا من أنفسهم بلا معلم أيضاً. . .

- وهل هذا ممكن؟ أو أنت لم يعد يريحك إلا أن تشرأب إلى المستحيل؟

- أن الذي أطلبه ممكن وممكن؛ بل أنه أكثر إمكاناً من الممكن، فهو كائن وحادث

- في أي عالم كائن هذا وحادث؟ في أي دنيا وفي أي أرض؟

- في أرضنا ودنيانا هذه، ولكن ليس في عالم البشر، وإنما هو عالم الحمير، وفي عالم الخراف، وفي عالم القطط، وفي عالم الكلاب. . . في هؤلاء العالمين وفي غيرهم. هات

ص: 49

قطاً من أمريكا، وهات قطاً من أفريقيا، وهات قطاً من أوربا، وهات قطاً من حيثما شئت، واجمعيها في صعيد وانظريها واسمعيها وهي تموء وتقول (نو) ثم قولي لي بعد ذلك أرأيت أنها تتفاهم أم لم ترى؟

أما أنا فأقول لك أن كلا منهما يفهم صاحبه، ويعرف ما الذي يريد وما الذي ينزع إليه. . .

- أن كل قط يراقب حركات صاحبه فيعرف منها الذي يريده

- أخفى القط عن صاحبه ترى أنهما لا يزالان يتفاهمان

- بأي شيء يتفاهمان؟

- بلغة القطط

- وهل للقطط لغة؟ أنا لم أسمع قطاً يقول غير (نو) فإذا فرضنا أنها لفظة فهل يمكن أن يقال عن اللفظة الواحدة إنها لغة؟

- إنها لغة، وإنها لغة كاملة، والقطط في الحياة الطبيعية تقضي حاجاتها جميعها بها، وهي على هذا الفقر والجدب الذي ترينه تحتفظ بمكانة لا بأس بها بين لغات الأرض، فالنسبة بينها وبين اللغة الصينية كالنسبة ما بين 1، 3000 أو 6000 وهو أقصى إحصاء لاقاني للغة الصينية. . . وهذه نسبة تذكر من غير شك وتستحق التأمل من غير شك. . . فليس هيناً أن يكون شعب من الشعوب عتيقاً مثل الشعب الصيني، ولا تتباعد النسبة بين لغته ولغة القطط أكثر من هذا البعد الطفيف. والنظرة التي أنظر بها أنا إلى الشعب الصيني هي نظرة إجلال وإكبار، فأنا مؤمن بأنه شعب مغرم بالقداسة والطهر والاتجاه بالنفس إلى إرضاء سنن الطبيعة المتطورة المرتقية التي سنها الله، وهذه هو السبب في أن اللغة الصينية لا تزال قليلة الكلمات إلى جانب غيرها من اللغات، فإن أهلها لا يحبون الثرثرة ويستغرقون في التأمل طويلاً، يبحثون عن أنفسهم، وهم لا يتكلمون إلا في الضروري من الحاجات، وضرورياتهم الخاطئة قليلة إلى جانب ضروريات غيرهم الخاطئة العاجلة. . .

- إذا وافقتك على أن الميل إلى الصمت والاستغراق في التأمل هما السبب في قلة الألفاظ عند الصينيين فلا أظن أني أستطيع موافقتك على أن التأمل هو السبب في قلة الألفاظ عند الحيوان. . .

- لماذا لا يكون هذا هو السبب. . . أتنكرين على الحيوان أنه يتأمل وأنه يتفكر؟. . . من

ص: 50

التعسف الشديد أن نقول هذا، فالحيوان يتأمل ويتفكر، ويبدو عليه ذلك، وإن للحمار والحصان إطراقة بينة ولها معان، وقد أحس بعض الشعراء والأدباء والفنانين الصادقين هذه المعاني فناجوا الحيوان. . . أفكان هؤلاء مجانين فنانين أصحاب خيال؟ طيب، وما رأيك في سيدنا سليمان الذي كان يكلم الطير والدابة. . . أفكان هذا نبياً وكانت هذه معجزة؟ طيب، وما رأيك في مدربي شركات السينما الذين عملوا رن تن تن وغيره من النجوم الحيوانات التمثيل؟ أليس هؤلاء ممن يتفاهمون مع الحيوان؟ إن التفاهم مع الحيوانات ممكن، وإن للطبيعة لغة! وإن من المخلوقات ما لا ينطق إلا ما توحيه الطبيعة من الكلمات والألفاظ وأن منها ما يثرثر، وليته يثرثر فيما ينفع. . .

ثقي أن الإنسان لو كان قد صبر حتى تعلمه الطبيعة الكلام لكان قد اهتدى إلى ألفاظ ينادي بها الجماد فيلبيه

- الجماد الجماد؟

- الجماد وما هو اجمد. ألم يقل الله في قرآنه أن هذا القرآن لو قرء على جبل لاندك؟

- والقرآن عربي

- وهل قلت لك إنه لاتيني أو يوناني. . . ولكن أذهبي وأقرئيه على جبل وانظري أيندك أم تندكين أنت؟ أن الذي يدك الجبل هو القرآن العربي لو قرىء بالروح والإرادة

- ولكن اللغة التي كنا نتحدث عنها لغة قلت لي إن لها ألفاظاً

- وهل أنكرت أنا أن هذه الألفاظ عربية؟! إنما الذي أنكره هو أننا ننطق هذه الألفاظ من أعماقنا. . . أقول لك هذا وأذكرك بأن في القرآن ألفاظاً لم يعرفها العرب قبل القرآن

- تريد السندس والإستبرق وما إلى ذلك؟

- لا. فهذه من صنع الناس أيضاً. . . وإنما أريد (كهيعص)، و (حم)، و (يس)، و (طه)، و (الر) وما إلى ذلك. . . هل تعرفين معاني هذه الألفاظ؟

- لقد اختلفوا فيها أيما اختلاف. . . فهل اهتديت أنت إلى معانيها. . .

- ليتني أعرف معنى إحداها، من يبيعني (يس) بليسانس الآداب ودبلوم التربية؟! هاتين الهباءتين اللتين لا تشهدان على شيء إلا على الاطلاع على ما قال القبعثري وما قالت مونتسوري! هف! أريد أن أتكلم يا رب. . . ولكني أحرك شدقي وأصوت فيتعثر لساني

ص: 51

في حروف صفها أجدادي بعضها إلى جانب بعض.

هل سمعت حيواناً يتلعثم؟ هل سمعت يوماً ثوراً أراد أن يقول (بع) فقال (كع) او قال (سع) ولكن الناس يتلعثمون فلماذا يتلعثمون؟ ولماذا لا يتلعثمون إلا عندما يلتفتون إلى أرواحهم وأنفسهم عند التدبر أو عند الحذر؟ أليس ذلك لأن هذه الألفاظ التي نصطنعها ليست من الطبيعة في شيء وأنها تفلت منا ما لم نوجه إليها انتباهاً خاصاً؟ أليس كذلك؟. . .

- إن هذا سبب لا يمكنك أن تقطع بأنه السبب

- أني أعلم هذا، وأعلم أيضاً أن كل ما قلته لك لا يمكنني أن أقطع به، كما أعلم أن القطع به يحتاج إلى تجنيد علماء النفس، وعلماء اللغات، وعلماء كثيرين غير هؤلاء يتقصون ويدرسون ويشاهدون ويجربون ويقضون في بحثهم هذا السنين، وربما القرون. وقد ينتهون إلى تكذيب هذا الكلام وتسخيفه، ولكن ليس معنى هذا أن أحداً من الناس يستطيع منذ الآن أن يرفض هذا الكلام، فرفضه يحتاج إلى تفكير مثلما يحتاج إلى التفكير قبوله، وأن معي من القرائن والأدلة ما يحتاج إلى جهد قبل تحطيمه. . .

- علىّ منها بدليل وقرينة

- أما دليلي على أن للطبيعة لغة تعلمها للناس فإجماع الأطفال في الدنيا كلها على نداء الأب بقولهم (بابا) وعلى نداء الأم بقولهم (ماما). . . ولا تزال اللغات تحتفظ بالباء أو ما يشبهها فيما أطلقت على (الأب) من أسماء كما لا تزال تحتفظ بالميم وما يشبهها فيما أطلقت على (الأم) من أسماء. وأما القرينة. .

- أن الأطفال يقولون بابا وماما لأن الباء والميم حرفان مفرقعان من حروف الشفتين، وحروف الشفتين هي أسهل الحروف وأسرعها إلى الخضوع والانسياق للإنسان

- طيب، ولماذا لا يخطئ طفل فيقول لأمه (بابا) ولأبيه (ماما)؟ هل يعلمه أحد هذا؟ الطبيعة تعلمه إياه.

وفي لفظة (ماما) ما يشبه حركة الامتصاص والرضاعة، وإن في لفظة (بابا) ما يشبه الاستنجاد بقوة الأب. . .

- صحيح أو كأنه صحيح. . . وكنت تريد أن تستشهد بقرينة. . .

- نعم. أن الأرض في اللغة العربية أسمها (أرض)، وفي اللغة الإنجليزية أسمها تنطق

ص: 52

إرث و (الإرث) في اللغة العربية ما يورث، والإرث في الأديان جميعاً هو الأرض أورثها الله للإنسان. . . واللغة العربية بعيدة كل البعد عن اللغة الإنجليزية، وعلماء اللغات يوسعون الشقة بينهما، فلا بد أن تكون كلمة الأرض علمته الطبيعة للناس اسماً للأرض، لأن هذه التشابه لا يحدث إلا في هذه الحالة، أو في حالة أخرى، وهي أن تكون لغة من هاتين اللغتين قد أخذت هذه الكلمة من اللغة الأخرى وهذا يستبعد أن يحدث في أسم الأرض التي هي أم الناس جميعاً والتي يعرفها الناس جميعاً، والتي لا يمكن أن يظل شعب من الشعوب غافلاً أو عاجزاً عن تسميتها، حتى يأخذ أسمها عن غيره

- وماذا أيضاً؟. . .

- ليس علىّ أن أصل بك إلى نهاية الطريق، بل يكفيني معك أن أشير إليه، فأسعى إذا شئت، ولكل إنسان ما سعى.

- وهبنا وصلنا إلى هذه اللغة الطبيعية التي تقول عنها. فماذا نصنع بها أكثر مما نحن صانعون بلغاتنا. . .

- أول ما يحدث أن ينمحي من الدنيا الكذب، فكلمات الطبيعة لا يلفظها إلا الطبع. . . عندئذ يستطيع الإنسان أن يستمع إلى صاحبه بإذنه فقط، وألا يتفرس في وجهه بعينيه، ليرى مدى ما ينطق كلامه على ما يختلج في نفسه. . . عندئذ سنكشف الأنفس وتخاطب الضمائر الضمائر. . . فإذا قلت لك (هشت). . .

- قلت لك (كش). . .

- فقلت لك (هم). . .

عزيز أحمد فهمي

ص: 53

‌القصص

بعد الأوان. . .

للأستاذ محمد سعيد العريان

يا الله! وفي الدنيا هذا الجمال؟

فتاة، وما اعرف مثلها فيمن رأيت!

أتراها كانت تعرف أين هي من أحلام فتيان الحي؟

وكان لها من جاه أبيها جمالٌ إلى جمال، فاجتمعت لها أسباب الفتنة والإغراء. . .

ورآها صديقي فتبدل غير ما كان، وأنه لشاب وإنها لفتاة، ولكنها. . . ولكنه. . .

وجاءني ذات مساء وفي عينيه دموع. . . يا لي مما أرى! صديقي يبكي! هذا الذي كنت أظنه لا يحمل من هم الدنيا إلا مثل ما تحمل نعله من تراب الأرض! يا عجباً!

وفتحت له صدري فآوى إليه، ومضى يحدثني بخبره

(. . . وما يليق أن أبقى اليوم عزباً. . . وقد جاوزت الخامسة والعشرين!)

وابتسمت؛ فما سمعت صديقي يتحدث قبل عن الزواج بمثل هذا الوقار المحتشم. لقد استطاعت امرأة واحدة أن تحمله على رأي لم يكن واحد من أصاحبه جميعاً يستطيع أن يحمله على الإيمان به.

ويا طالما قلنا ويا طالما أجاب. . .!

ومضى صديقي في حديثه:

(وأجمعت أمري على أن تكون لي؛ فما يرضيني أن لي بها كلّ متاع الدنيا. لقد وجدتها، وهي حسبي من دنياي!

(وراح الرسول عن أمري يؤامرها ويرود لي الطريق؛ وكتم عنها أسمي وخبري ومكاني بين الناس؛ فما كان إلا أن سألته: وكم جنيهاً يقبض في كل شهر؟

(وأجابها الرسول بما أجاب، فضحكت ساخرة وقالت: أثني عشر جنيهاً؟ ياله من عروس! فكم يعطي الطباخ وكم يعطي السوّاق. . .؟

(وعاد إليّ الرسول بجوابها. . .!)

واطرق صديقي برهة، ثم رفع رأسه وشفته تختلج وفي عينيه بريق. وابتسمت ثانية،

ص: 54

وقالت: فما غضبك يا صديقي مما قالت؟ أن لها في الحياة ميزانها الذي تقيس به أقدار الرجال؛ وأن للحياة موازينها؛ فما ضرك أن تكون في ميزانها ما تكون وأنت أنت.

إن معك الشباب والقوة، وأن لك غداً يبتسم ويرفّ، وإن دماً في أعراقك يتحدث به التاريخ؛ فهل يخدعك عن كل أولئك أن فتاة تقول. . .؟

وأمسكت عن تمام الحديث؛ فقد رأيت في عيني صاحبي ما قطعني وردني إلى الصمت!

وعاد إلى حديثه:

(وددت يا صاحبي لو لم يكن كل أولئك وكانت هي. . .؟)

ورأيتني منه على حال لا يجدي معها إلا أن أسكت؛ فسكت! وودّعني صديقي بالوجه الذي لقيني به، ومضى لشأنه

يا لقلوب الشباب من سلطان الحب!

ولقيته بعد ذلك مرات؛ ولكنه كان شابّاً غير من أعرف

هذا الذي كان لا يعرف من فروض الحياة على الحي إلا أن يبتسم ويضحك، ويعبث بكل شيء، ويسخر من كل شيء - قد عاد في عبوسه وتزّمته وصرامة نظرته إلى الحياة خلقاً آخر!

يا عجباً! أين ما صار مما كان؟

تمرُّ به الجملية الفاتنة قد أخذت زخرفتها وأزَّينت، فما تظفر منه إلا بالنظرة العابرة!

ويسمع النكتة البكر تضجّ لها جنبات المجلس بالضحك والتهليل فما تنال منه إلا بسمةً خاطفة!

وتتداعى أمانيُّ الشباب في معترك الحديث من حوله فما تسمع منه إلا أنةً خافته!

ويتبارى الفتيان فيما يحكون من أقاصيص الحب وغزوات الشباب فما ترى على وجهه من دلائل يقظة الوجدان إلا سبْحة لطيفة من سبحات الذكرى، ثم خفقة طرف وخلجة شفة!

ثم يسمع أحاديث الزواج والخطبة. . . فتراه كما ترى جنديَّاً في إجازة يتلقى أخبار معركة حربية مظفرة وبينه وبين الميدان أبعاد وأبعاد!

ترى ماذا يتوقع أن يسمع؟

شئ واحد لم يغيِّره الزمن من أخلاق صاحبي: هو سخاء يده؛ فما عرفت في أصحابي من

ص: 55

قبل ومن بعد أكرم يداً منه بما يملك!

وترادفت الأعوام، ولم يتزوج صديقي. . . ولم تتزوج صاحبته!

أتراها كانت تعلم من خبره ما أعلم؟ ومن أين لها؟. . . أن لصاحبي من الكبرياء ما يمنعه أن يلتمس إليها الوسيلة بعد ما كان. . . وإن. . . وأن الخطاب لتزدحم أقدامهم على بابها فما تعرف كم ردّت بالخيبة والخذلان!

أم تراها تعرف أسمه؟. . . هذا الذي لا تذكر من صفاته - إن ذكرتْ - إلا أنه شاب يبلغ دخله في الشهر اثني عشر جنيهاً، بعث إليها مرة يخطبها فردّته. . . وكم في خدمة الدولة من شبان يبلغ دخلهم ما يبلغ دخله؛ وحسبه هذا تعريفاً بين آلاف من النكرات!

ولكن صديقي اليوم في منصب رفيع. لقد سماه به جده وعمله إلى ما لم يبلغ أحد من نظرائه! أتراه يوازن اليوم بين ماضيه وحاضره؟

لقد مضى منذ تلك الليلة التي زارني فيها صديقي زيارته خمس عشرة سنة!

ياه. . .! ما أسرع ما تمرّ السنون!. . . أين أنا اليوم مما كنت يومئذ؟

لقد كنت يومئذ فتىً في باكر الشباب، ولم يجر حدّ الموسى على عارضه بعد؛ وأنني اليوم لزوجٌ وأب، وإن في رأسي لشعرات بيضاً ما أن يخفيها ميل الطربوش ولا صنعة الحلاق!. . .

وصديقي لم يزل عزباً. . . صديقي الذي كان يخشى أن تفوته سن الزواج، منذ خمس عشرة سنة!

أين هو اليوم؟ وأين حاضره وماضيه؟

لقد ضربت بيني وبينه ضربات الدهر فلم ألقه منذ أعوام. وددت لو أعرف من خبره!

وخرجت أمس من داري على ميعاد. فأني لفي طريقي إذ لقيته! يا للحظ!

وأقبلت عليه وأقبل عليّ؛ وهممت أن أسأله حين بادرني بقوله: (إنني أدعوك بعد غد إلى داري. . . . . .)

- تدعوني؟. . .

- نعم، لقد اتفقنا أن يكون الزفاف بعد غد!

- بمن؟

ص: 56

- وهل حسبتني أرضى يوماً أن لي بها كلَّ متاع الدنيا!

إنها هي. . . لقد ضرب القدر بيننا موعداً فلم يخلفه. إن لكل شئ أوانه!

. . . وكما جلس صديقي مني مجلسه ذات مساء، منذ خمس عشرة سنة ليحدثني بخبره - كان مجلسه الليلة مني. . .

وكان في عينيه غير البريق، ولصوته لحن ورنين، وفي عينيه دموع؛ وكانت الكلمات ترتعش على شفتيه؛ لأن فيها نبضات قلب حي. وصعّدت نظري إليه؛ فرأيت في فوديه شعرات سوداء في شعر أبيض، كأنما كانت لتشير إلى أنه مازال هنا بقية من شباب.

ومضى صديقي في حديثه. . .

(. . . ولم يعد إليها رسولي منذ كان ما كان؛ وما عرفت أسمي ولا جاءها خبر من خبري بعد؛ وكأنما كان يدخرها لي القدر، فلم تتزوج، وأرتد الخطاب جميعاً عن بابها مخذولين، وآن الأوان. . . . . .

(هل جاءك يا صديقي أن مرتبي اليوم في الحكومة ثلاثون جنيهاً في الشهر، غير ما أكسب من أعمالي الخاصة؟. . . . . . . . .

وبعثت إليها رسولاً آخر يؤامرها للمرة الثانية. . .)

وضحك صديقي ضحكة مرحة، ثم عاد يقول:

- أتذكر ليلة جلست إليك أحدثك مثل حديث الليلة، منذ. . . منذ كم. . .؟

(. . . وقالت للرسول وقال لها؛ ثم سألته: وكم دخل صاحبك في الشهر؟ فأجابها. . . وكان القدر قد هيأ أسبابه، فأجابت. . . وزرتها من بعد، وتم الاتفاق!)

قلت لصاحبي:

- فهل عرفت هي أنك أنت أنت،. . . هل عرفت أنك سعيت لخطبتها مرة منذ خمس عشرة سنة فردتك؟

فقال:

(وماذا يعنيني، عرفت أو لم تعرف؟ حسبي إنها اليوم لي؛ وأن ما أرادته قد كان!)

ووجد المسكين تعبير رؤياه بعد خمس عشرة سنة من عمر الشباب، ووجدت تعبير أمانيها. وباعت المسكينة شبابها وشبابه بثمن بخس، حين تأبتْ عليه، ومعه حرارة الشباب ونضارة

ص: 57

العمر وسعادة الحب لترضاه من بعد وهو شبابٌ مدبر، ونجم آفل، وشعلة إلى رماد!. . .

محمد سعيد العريان

ص: 58

‌من هنا ومن هناك

قيصر ستالين الرهيب

(ملخصة عن مجلة (باريد) الإنجليزية)

كلما مرت الأيام زادتنا اعتقاداً بأن حالة روسيا الاشتراكية اليوم ينطبق عليها المثل الذي يقول: (تتغير وحالها لا يتغير)

ويقول (هارولد وني) في مجلة (نيويورك مجازين): (كانت روسيا القيصرية فيما مضى توصف بأنها ولاية تحكمها طائفة من السفاحين) ووصف كاتب بلاد السوفييت في عهدها الحديث فقال: (هي دولة بيروقراطية يأتمر بها زمرة من الجلادين).

وهذا قول صحيح إلى حد بعيد، إذا أعدنا إلى الذاكرة عملية التطهير الكبرى التي اجترمت في روسيا ما بين عام 1936 وعام 1938. أما اليوم فقد نكون أقرب إلى الدقة والصواب إذا قلنا أن النظام الحكومي الذي تسير عليه روسيا الآن، هو نوع من الحكم الاستبدادي الشرقي القديم

فروسيا يحكمها رجل واحد هو (جوسيف ستالين) ينفذ إرادته المطلقة فيها بطريقة لم تتح للقيصر في جبروته، بل لم يظفر بها هتلر، وذلك أن النظام السوفييتي متوغل في حياة الشعب الداخلية والخارجية، بطريقة لم يسبق لها مثيل في حياة الإنسان

ومن ثم كان من السهل على (الكرملين) أن يعلن الرأي النهائي في السياسة العالمية - ما بين عشية وضحاها - كما فعل في الوقت الأخير إذ أعلن فصم العلاقات الروسية بالأمم الديمقراطية الغربية وارتباطها بألمانيا. ففي مقدور ستالين أن يتصرف كيف يشاء في سياسة روسيا الخارجية. ولا يجسر أحد أن يرفع صوتاً ما بمعارضته بحال من الأحوال

فروسيا وإن كانت تعد من الناحية النظرية أمة ديمقراطية، بعد أن كانت - نظرياً - تحكم حكماً دكتاتورياً بواسطة الطبقة العاملة، فهي في الواقع لم تكن قط هذا ولا ذاك. قد يكون لينين ورفاقه يرمون إلى قيام دكتاتورية من العمال، وقد يكون في دعوى نظام الديمقراطية الروسية عام 1936 شيء من الإخلاص

إلا أن التجارب التي أكتسبها الاشتراكيون بسلطتهم المطلقة قد أقنعتهم بأن الشعب الروسي يجب أن يقاد، يجب أن يقهر ويقبض عليه بيد من حديد. فأصبح لينين دكتاتوراً ولكن بعقله

ص: 59

وأخلاقه قبل أن يكون دكتاتوراً بقوته وجبروته

وقد تولى ستالين الزمام بعد لينين، فصار دكتاتوراً مطلق الحرية أكثر مما كان لينين. ويرجع نجاح ستالين كحاكم مستبد منقطع النظير في العصر الحاضر، إلى خبثه الزائد واستهتاره الذي لا حد له

ولعل قوة البوليس في روسيا هي المصدر الحقيقي لنفوذ ستالين والبوليس الروسي يقوم على نظام لا يتفق مع العقلية الأوربية على الإطلاق، وهو يقوم بأعمال واسعة النطاق في التجسس وسفك الدماء، وتشجع السلطة السوفيتية التجسس بين أبناء الشعب حتى أن الجار في روسيا يتجسس على جاره والشخص يشي بأفراد عائلته، وقد تصل بلاغات البوليس إلى حد الاختراع ويضيع بسبها كثير من نفوس بريئة

فكل إنسان في روسيا اليوم خاضع لستالين، وفي اللحظة التي تقع فيها الشبهة على إنسان يختفي أثره من الجود

على أن ستالين لا تعوزه الوسائل التي يستحوذ بها على الرأي العام في روسيا. فهو يضع تحت يده الصحافة العامة والإذاعة والمسرح والسينما وكل ما عدا ذلك من وسائل التعبير. فإذا أراد أن يطلب كلمة الرأي العام في المساء كانت بين يديه في الصباح بغير كد أو عناء

فإذا نظرنا إلى ضحايا ستالين من النفوس، وإلى اليد الحديدية التي استولى بها على الشعب الروسي أفراداً وجماعات، أيقنا بأن الحاكم المستبد المعروف باسم (قيصر إيفان الرهيب) لم يكن شيئاً إلى جانب ستالين

التحالف الدولي لأجل السلام

(ملخصة عن (وسترن ميل) نيوكاسل)

منذ بضعة قرون خلت خرّبت أوربا، وشطرتها الحروب بإسم الدين وتأثرت نيران القتال بين البروتستانت وبين الكاثوليك في سبيل السيادة والسلطان، وعادت حروب الأسر التي كان يثيرها الملوك والأباطرة، إذ كانت الشعوب تعامل لديهم كالرهائن، فانصرفت إلى تلك الناحية القائمة على التعصب الديني، وصار كل يعمل من جانبه لإيقاع الشر بالآخرين، بدعوى أنه يؤدي واجبه نحو الله، بدفع أعدائه إلى الجحيم

ص: 60

وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر، بدأت تظهر فكرة الوطنية، وأخذ التنافس يدب بين الأمم الأوربية في سبيل السيادة فيما وراء البحار، فزالت فكرة الحروب الدينية، وخلفتها حروب أخرى قائمة على الغلبة، والمنافسة في التوسع التجاري، وإفساح الطريق أمام المهاجرين

ومن ثم تغيرت صفة الحرب، فلم تعد آلة لتنفيذ شهوات الحاكمين أو سلاحاً يشهره رجال الدين لنصرة مذهب على مذهب آخر، فهي وسيلة للحكومات الوطنية التي تسعى وراء التوسع والسلطان.

فما هو الدرس الذي يمكننا أن نستخلص من هذا، للحالة القائمة في أوربا اليوم؟ أن المشاغبات الدينية التي كانت تقع في أوربا في القرن السادس عشر، والقرن السابع عشر، أصبح لها مشابه في مبادئنا السياسية اليوم. فالدكتاتورية والفاشية والبلشفية والديمقراطية لكل منها دعاتها المتعصبون لها، الراغبون في فرض نظامهم السياسي على الأمم الأخرى

نحن نؤمن بالديمقراطية، وبل ونحن على أتم الاستعداد للدفاع عن نظامنا الديمقراطي العتيد، ولكنا لا نرى معنى لفرض هذا النظام على أمة أخرى. فنحن على ثقة بأن الديمقراطية سيكون لها الفوز في كل أمة في النهاية، لأنها خير الأنظمة الحكومية وأليقها ببني الإنسان

فإذا كنا نحارب ألمانيا اليوم، فنحن لا نحاربها لقسوة الحكومة النازية وظلمها، فهذا شأن من شؤون الألمان؛ ولكنا نحاربها لاعتدائها على بولندة وتشيكوسلوفاكيا، فإذا رد الشعب الألماني إلى هذه البلاد استقلالها كان من السهل أن نضع يدنا في يده، وأن ندخله معنا في تحالف دولي عام

إن النازية سوف لا تتفق معنا على مثل هذا التحالف؛ ولكن الشعب إذا أعد نفسه لقبول هذه الفكرة التي لا بد منها لإقرار السلام في العالم، لن يقوى هتلر على مقاومته، ولا يقف أمام إرادته، بل يختفي أثره فتذهب مجهوداته أدراج الرياح

كيف نضطلع بأعباء الزواج

(ملخصة عن مجلة (يو))

ص: 61

نحن نقبل الزواج في العادة لأننا نريد أن نشبع في أنفسنا الرغبة في أن نحب وأن نحب، وأن نظفر بالرفقة الطيبة، ونشعر بالدعة والسلام، ونحس في أعماقنا بأننا نعيش كيف نشاء.

تلك هي الأسس التي تدعم في أنفسنا فكرة الزواج وليست الفكرة الجنسية كما يظن بعض الناس. فإذا أتيح لنا أن نشبع في أنفسنا ذلك الشعور المتأصل في أعماقها جاء التوافق الجنسي تبعاً لها ولا محالة

أن الناحية الجنسية ضرورة فسيولجية ولا شك، ولكني أستطيع أن أقول هنا أنني قد تبينت في تجاربي النفسية، وأنا أصغي إلى حديث الزوجات والأزواج وهم يفرغون على أذني ما بدا وما استقر من متاعبهم الزوجية، حقيقة تتأكد لي صحتها كل يوم، وهي أن الدواعي النفسية هي أهم شيء في الزواج. فإذا نبذت هذه الناحية أو مست بسوء أو عدت عليها بعض المتاعب التي تكدر صفاء تلك الرابطة وتحرمها الأمن والسكينة، تبدد التوافق الجنسي تبعاً لها

إن الزوج الذي لا يعرف التبصر في النهار، جدير بأن يجد زوجته عاجزة عن مبادلته الحب في الليل، والزوج الذي تستهين به زوجته وتمتهنه لا يجد سبيلاً إلى أن يشتهيها أو يشتهي أي شيء آخر، وليس العلاج في هذه الحالة عند الطبيب الذي تندفع إليه ليعالجك ببعض العقاقير أو المحامي الذي تلجأ إليه ليضع حداً بينك وبين زوجك، ولكن العلاج هو حسن التفاهم الذي يظهر بمرور الأيام فيزيل ما في النفوس من الآلام ويمحو ما يخالجها من النزق وقلة الانسجام. وخلاصة القول أننا جديرون في هذه الحالة بأن نجعل الزواج متفقاً بقدر الإمكان مع الحاجات النفسية التي يريدها كل من الآخر

ص: 62

‌البَريدُ الأدَبي

عودة إلى المسرح

قلت في مقالي السابق في المسرح (335) إن الفرقة القومية إذا أصرت على أن تتجافى عن الفن السليم الرقيق - ولا أقول الخالص بعد - فلتهجر إلى شارع عماد الدين تنافس فيه ما تشاء.

فهنالك معترك المسرحيات الرثة. و (لويس الحادي عشر) من البضاعة المبتذلة. وإن خطر لك أن تستوحش من ناحيتي فتتوجس مني التشدد، فخذ حكم ناقد بصير من نقاد المسرح في فرنسة وأسمه لوسيان دوبيك و (لويس الحادي عشر) من تأليف ك. ديلافني وهو فرنسي؛ وفي فرنسة برزت تلك المسرحية، وأديت غير مرة.

يقول دوبيك في مؤلفه الضخم: (التاريخ العام المزوّق للمسرح)(باريس 1932 ج 5 ص 45 ي ي): (أن مسرحية الحادي عشر ليست بأحسن من أرذل المآسي الابتداعية (الرومنتيكية)). ثم يبين دوبيك مقدار فساد المسرحية من جهة حقيقة التاريخ وحبك الموضوع ونسج المشاهد

تلك هي قيمة المسرحية، وهي من نوع المأساة المفرطة الملفَّقة تلفيقاً وأما تأديتها على مسرح الأوبرة فلولا براعة الأستاذ جورج أبيض واقتصاده في الأداء، في الفصل الأول والثاني، لانقلبت المسرحية كلها (مهزلة) وضربت إلى لون التهريج وقد لمس النظارة ذلك اللون في الفصل الثالث إذ غالى أبيض في الرجفان واللهاث والحشرجة والتضوّر.

وأثار هذا المشهد من حولي الضحك الفاتر، فحمدت الله على أن زمن طلب الانتفاض الرخيص قد وّلى. وكأني بالأستاذ أبيض - مع إكباري لمسعاه - عزّ عليه أن يترك في ذلك الفصل طريقته الأولى، وقد فاته أن الذوق يسيل ويتحول

وفي الإخراج نفسه مآخذ. من ذلك موقف الأستاذ حسين رياض في حجرة الملك، فأنك تراه ينوي اغتيال الملك فيصيح صياح الذبيحة - كأنه يغالب أبيض في المغالاة - وخلف باب الحجرة حراس كماة ساهرون. إن ذلك الموقف يتطلب الهمس المضطرب والقرّ في الأذن؛ وذلك آخذ للأعصاب من الصياح والولولة. ومن المآخذ أيضاً أن كراسي المخدع كانت منجدة تنجيداً، والمتعارَف أن فن الأثاث في عهد لويس الحادي عشر - أي قبل تأثير الفن

ص: 63

الإيطالي ' في بقايا فن القرون الوسطى - يجهل الفُرُشَ المنجدة، بل يطرح الطارح على المقاعد المختلفة نمارقَ وُبسُطاً ووسائدَ.

ومن المآخذ أيضاً على المخرج لم يُفد من الدَّرَجِ القائم في منتصف الحجرة، المؤدي إلى مخدع الملك. فإنما على ذلك الدرج كان يحسن بالمغتال أن ينقضّ على الملك. وهكذا يكون الانقضاض من علٍ، ويكون الصراع، مع ما يليه من تقلب الملك على الأرض، بيِّناً للنظَّارة

أضف إلى كل هذا أن نفراً من الممثلين لم يحسنوا الإلقاء ولا تنغيم الكلام. ويحزنني أن أخصص فأذكر الآنسة فردوس حسن والأستاذ زكي رستم

بقي أن في الفصل الثاني مشهداً لطيفاً. وهذا المشهد إلى نوع المهزلة قريب، والمهزلة فن نحكمه في مصر، ولذلك يستغيث به المخرجون عندنا لعلمهم أنه عمود النجاة

وهنا ألتفت إلى الأستاذ فتوح نشاطي الذي أخرج منذ عودته من باريس مسرحيتين: الأولى (تحت سماء أسبانية)، وأظنني قلت في تأديتها قولاً حسناً؛ والثانية (لويس الحادي عشر).

ألتفت إلى الأستاذ فتوح نشاطي أصارحه بأني أراه يخرج مسرحيتين يعرف أنه يظفر من ورائهما بالنجاح السهل، إذ أنهما من النوع الذي يرضي من قلت درايته وجفت ثقافته. وهذا نوع يلوذ بالتأثير المباشر والحادث النفّاض، فضلاً عن إغراقه في الأبتداعية الكريهة. ومتى نتخلص منها؟ ألا قد حان الزمن يا أيها الناس!

وكم كنت أود أن أرى الأستاذ فتوح نشاطي يهمس في أذن الأستاذ أبيض: أتريد أن تمثل لويس الحادي عشر، فأعدل عن تلك المسرحية البالية التافهة إلى إحدى مسرحيتين لبول وأما الأولى فعنوانها (لويس الحادي عشر الرجل الشاذ) ، وقد برزت على مسرح (الأوديون) سنة 1921. وأما الثانية فعنوانها (أصفياء الملك لويس الحادي عشر)

وقد برزت على مسرح (الكوميدي فرانسيز) سنة 1926. فهنا تصيب اللطف والنسق فضلاً عن الجدّة والروح الشعري

إن الأستاذ نشاطي أنطلق إلى باريس وأقام بها سنة ونحو سنة ليقفل وبين يديه الطرائف وبين جناحيه ولع بالفن الرقيق

أمنية أرقب من يحققها: جماعة أو فرقة أو شعبة للفن الخالص، الفن الطالع

ص: 64

بشر فارس

نهج البلاغة أيضاً

إلى الأستاذ الكبير النشاشيبي

قرأت بلهفة شديدة فتواكم الأدبية على استفتاء السائل العراقي حول نسبة (نهج البلاغة) وذلك قبل أن أسبر موضوعات الرسالة الغراء، لظني أن جواب حجة الأدب وأعلم الناس بمراجع هذا البحث، كما أتفق على ذلك السائل وخصومه، سيكون شافياً كافياً. ولكن مع الأسف لم يكن كذلك، لأن الأستاذ اكتفى بترجيح قول المنكرين بلا مرجح حيث لم يدعم فتواه بالدليل والبرهان شأن غيره من أهل البرهان وفرسان الأدب وحجاجه. كما أن إحالة السائل ومناظريه على كتابيه حفظه الله (كلمة في اللغة العربية) و (الإسلام الصحيح) غير كافية للحكم.

ثم أن قول حجة الأدب (أن نهج البلاغة من كتب إخواننا الإمامية وهو مجموعة مصطفاة إن لم يحبره سيدنا عليّ رضي الله عنه فقد انتقاه وحبره علويين كما زخرف محدثون (كل حزب بما لديهم فرحون)) قول مجرد لا يقنع الخصم. وكان الأجدر بأعلم الناس بمراجع هذا البحث المهم أن يزيح العلة ويشفي الغلة بما لديه من حجج وبراهين وإن كانت التي أوردوها في كتابيه (كلمة في اللغة العربية والإسلام والصحيح) ذلك ليكون القراء على بينة من حقيقة هذه الدعوى وحجة الفتوى التي اضطرتني إلى أن أطلب إلى الأستاذ الحجة وألتمس منه تنويري وأرشاد طلاب وهواة التاريخ بإيضاح النقاط التالية:

1 -

من هم العلويين الذين حبروا مجموعة كتاب (نهج البلاغة) المصطفاة، لأن كلمة المنكرين تكاد تتفق على أنه واضعه هو الشريف الرضي وحده بلا معين ولا شريك

2 -

هل يقصد بكلمة العلويين الذين يمتون إلى عليّ بصلة النسب أم بالمبدأ والتشيّع له؟

3 -

هل تمت مجموعة النهج في عصر واحد أم في عصور مختلفة مع بيان الأسباب والدواعي لوضعها على قدر المستطاع

4 -

ما قولكم دام فضلكم فيما أثبته المؤرخون وجهابذة الأدب من قدماء ومتأخرين من غير العلويين في صحة نسبة أغلب المجموعة المصطفاة لسيدنا عليّ كرم الله وجهه

ص: 65

5 -

إرشادنا إلى الخطب التي تثبت صحة نسبتها لأبي الحسين عند الأستاذ

6 -

إذا عسر على حجة الأدب أن يزيل عنا الإبهام الوارد في جوابه الذي أجاب به السائل العراقي والمنحصر في النقاط المتقدمة، فإلى من تنتسب مجموعة (نهج البلاغة) وهو الكتاب العظيم بعد كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. هذا ما نود من صميم الفؤاد ألا يضن حضرة الأستاذ بإعطاء الجواب الشافي عليه، وبذلك يكون قد أسدى خدمة جليلة جديدة للأدب العربي الصحيح.

(بعضوية - عراق)

توفيق الفكيكي

في معنى بيت وإعرابه

قال أعشى قيس في مطلع قصيدته في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:

ألم تَغتمِض عيناك ليلة أرْمَدَا

وبت كما بات السَّليم مُسهَّدَا

فقال النحاة: إن (ليلة) فيه ليس منصوباً على الظرفية، لأنه يكون المعنى على ذلك ألم تغتمض عيناك في ليلة أرمد، وهو الذي يشتكي عينيه من الرمد، وذلك معنى فاسد، وإنما هو منصوب على أنه مفعول مطلق، والمعنى عليه: ألم تغتمض عيناك اغتماض ليلة أرمد، أي اغتماضاً يشبه اغتماضه، فحذف المصدر المضاف إلى الليلة وأقيمت مقامه، فصار إعرابها كأعرابه

وقال صديقي العالم العلامة أبو رجاء في تعليقاته على سيرة أبن هشام: هذا الذي ذكره النحاة مبنى على ان (أرمد) صفة معناها الذي أصابه الرمد، والألف فيه ألف إطلاق، وعندي أن خيراً من هذا كله أن يكون قوله (أرمدا) فعلاً ماضياً مسنداً إلى ألف الاثنين التي تعود إلى قوله (عيناك) وعليه يكون ليلة منصوباً على الظرفية. قال الفيومي في المصباح:(رمدت العين من باب التعب وأرمدت بالألف لغة) ويكون قد حذف تاء التأنيث من الفعل المسند إلى ضمير المثنى المؤنث

وقد تكلف صديقي أبو رجاء هذا الإعراب بناء على تلك اللغة التي ذكرها المصباح، وعلى أن الفعل المسند إلى ضمير المؤنث المجازي يجوز تجريده من التاء في ضرورة الشعر.

ص: 66

ولو أن الأمر يقف عند هذا لسهل الخطب، ولكن المعنى الذي أراده الأعشى لا يتفق مع هذا الأعراب، وهو معنى متقرر عند الشعراء لا ينفرد به الأعشى وحده، وقد ورد في قول أمرىء القيس بن عانس الكندي:

تطاوَلَ ليلك بالأثمُدِ

ونام الخَليُّ ولم تَرْقُدِ

وبات وباتتْ له ليلةٌ

كليلة ذي العائر الأرمد

فالأعشى يريد هذا المعنى الذي صرح به أمرىء القيس، وهو ظاهر جداً في أعراب جمهور النحاة، ولا يريد الأعشى أن عينيه اغتمضتا في ليلة إرمادهما، لأنه لم يكن في موقف الشكوى من هذا، وإنما كان في موقف النسيب الذي يبتدأ به القصيد، وهذا ما قررته لطلابي في القسم العام بالجامع الأزهر عند موضعه من المفعول المطلق

عبد المتعال الصعيدي

في عيد القاهرة الألفي

مما عنيت به الجمعية الجغرافية الملكية - لمناسبة عيد مدينة القاهرة الألفي - إصدار كتابين عن المدينة، أحدهما باللغة الفرنسية، وهو يتناول الكلام عنها منذ نشأتها إلى ما قبيل حملة نابليون، كما رآها الرحالون الأوربيون. وقد أضطلع بتأليفه الأساتذة: فييت ومونييه ودوب؛ وأتموا جانباً كبيراً منه.

وسيضم هذا الكتاب الأحاديث الممتعة التي كتبها عن القاهرة كثير من الرحالين الذين زاروها حين كانت أغنى مدن الشرق وأعظمها أتساعاً. ويشتمل إلى هذا، على وصف معالمها والمراسم التي كانت تجري في استقبال سفراء الدول الأوربية في بلاط السلاطين والخلفاء.

وأما الكتاب الآخر، فيتناول موضوع (القاهرة عند الرحالة الشرقيين)، وسيصدر باللغة العربية، وقد أخذ في تأليفه الدكتور زكي محمد حسن والنقيب عبد الرحمن زكي، وهو يتمم الكتاب الأول.

وستعرض الجمعية نموذجاً كبيراً مجسماً لمدينة القاهرة بدئ بعمله منذ حوالي عشر سنوات بفضل رعاية المغفور له الملك فؤاد.

ص: 67

وقد أتمه المختصون في مصلحة التنظيم فجاء مشتملاً على كل مبنى وشارع وبيت في المدينة.

وكذلك تعرض الجمعية مجموعة كبيرة من المصورات الجغرافية والمستندات واللوحات والصور التي تتعلق بعاصمة البلاد وتاريخها في مختلف العصور.

إلى الأستاذ الجليل (ق)

اطلعت في الجزء (340) من الرسالة الغراء على مقالكم القيم (قد لا يكون) وفيه سقتم شواهد على صحة توسط (لا) النافية بين (قد) والفعل. وأنه لعمل عظيم تضيفونه إلى ما أسديتم إلى قراء العربية من أياد يشكرونكم عليها. . .

غير أنه لفت نظري نقلكم هذه العبارة من كلام العكبري - أن قد صدقتنا - أن مخففة من الثقيلة واسمها محذوف وقيل: أن مصدرية (وقد لا تمنع) من ذلك إلى منتهى كلام العكبري.

فأنت ترى معي يا سيدس الفاضل أن (قد) في كلام العكبري مبتدأ خبره قوله: (لا تمنع من ذلك) أي أن وجود (قد) في الكلام لا ينافي أن تكون (أن) مصدرية. فليس مما أنتم بسبيله.

وتقبلوا تحياتي وإجلالي

عوص السيد السمل

ويل للحقائق منا

في العدد (339) من الرسالة الزهراء كتب الدكتور زكي مبارك - وإن يكن أخفى اسمه فقد نم عليه أسلوبه - مقالته (نميمة الأسلوب) وفيها يلوم زمانه وأهل زمانه، ثم يقارن بين حاله وحال النبي أيوب شيخ الصابرين فيقول:(وأين فجيعة أيوب في دنياه من فجيعتي في دنياي؟. . . كان الدينار لعهد أيوب يمون الرجل شهراً أو شهرين، وأنا في عهد يهان فيه الرجل إن اكتفى بالدينار يوماً أو يومين، فمن يسلطني على دهري فأسجل رزاياه على نحو ما صنع أيوب؟)

وفي العدد (340) كتب أستاذنا الزيات آيته: (هل خصب الأرض يستلزم جدب القرائح) فكان مما قاله فيها: (تستطيع أن تقول إن مصر في جملتها بلد غني، يؤتى أكله كل حين بيسير من الجهد وقليل النفقة، فأهله آمنون من موت الجوع، لأن الفقير يملك أن يمسك

ص: 68

روحه بنصف قرش! وما أيسر ما يجد قرشين في اليوم بالعمل الحقير أو السؤال الملحف)!. . .

هذا قول الزيات وذلك قول مبارك، وبينهما التناقض الواضح، لأن الفقير عند الزيات يضمن قوته بنصف قرش، فلا يصعب أن يضمن الغني قوته بقروش. . . ولكن المبارك يوهمنا بأن المكتفي بيننا بالدينار بنفقه في اليوم أو اليومين مهان محتقر!

فأين يقف القراء المساكين من هذين القولين؟. . .

أصرح برغم صداقتي بالدكتور مبارك أن هواي مع أستاذي الزيات، وفكري يميل حيث مال فكره العبقري، والصداقة شيء والرأي شيء آخر يا دكتور. . .

ولقد كان الأستاذ عزيز فهمي المداعب المدقق البارع موفقاً حين أزال عن الدكتور مبارك (مكياجه) و (رتوشه) فقال ساخراً متهكماً: (أن الكاتب من الكتاب الذين يشعرون بأن الإنسان يهان إذا اكتفى بالدينار في اليوم أو اليومين. . . فهو من غير شك قد رحمه الله من إهانات يا لها من إهانات لو لم يكن ينفق الدينار في اليوم أو في اليومين. . . كان الله في عون الكتاب وغير الكتاب من أبناء اليوم الذين ينفقون الدينار في الأسبوع أو في الشهر أو في العام. . . إن هؤلاء هم الأيوبيون - لا الأيوبون يا أستاذ عزيز! -)

سامحك الله يا دكتور مبارك وغفر لك قولك!. . . إذن ألف رحمة وحسرة على كثير من الأدباء في مصر لا يجدون الخبز الأسود إلا بشق الأنفس، وقد ينفقون القرش - القرش لا الدينار يا دكتور! - في اليوم أو اليومين!. . . إذن ألف أسف لذلك العدد الضخم من الكتاب والصحافيين الذين تتلقفهم المقاهي وتتلاعب بهم الأندية أو الطرقات، وهم إلى الصعاليك والمشردين البؤساء أقرب منهم إلى الكتاب والأدباء!. . .

إنك سعيد ومحظوظ ومحسود يا دكتور، أنك تعتبر نفسك مهاناً لأنك تنفق في اليوم أو اليومين - على الأكثر - ديناراً بأكمله. . . يكاد قلمي أن يسطر عبارة لوم واتهام لك، إذ تسبح في بحار النعيم وتخطر في فردوس الغنى، وأمامك الكثير من إخوانك تصرخ أمعائهم جوعاً، وأجسامهم ضنى ومرضاً؛ وأنت لا ترق ولا تلين، فتعطيهم ما يفضل من دنانيرك من قروش ومليمات!. . . ثم لا تكتفي بذلك، بل تذهب فتغالط وتشكو وتتألم!!. . . ويل للحقائق منا يا دكتور!. . .

ص: 69

(كلية اللغة)

أحمد جمعة الشرباصي

أعراب جملة

سيدي الأستاذ الكبير صاحب الرسالة الغراء

في الوسط الأدبي الذي أعيش فيه خلاف على أعراب الجمل الآتية وما في حكمها:

يريد أن يعرب البيت فيعجمه

يريد أن ينجح فيرسب

يريد أن ينهض فيكبو

فهل (الفاء) للعطف فينصب ما بعدها؟ أن يكن ذلك فإن الإرادة تنسحب إلى الفعل الثاني، ومدلوله غير مراد. فلإعجام والرسوب والكبو غير مقصود

وإن لم تكن الفاء للعطف فما معناها وما عملها في الجملة؟

(ديروط)

ع. مصطفى

الوحدة المذهبية في شمال أفريقيا

جاء في الرسالة الغراء بعدد 336 من مقال الأستاذ أبي الوفا بعنوان: (شمال أفريقيا والأستاذ الحصري) العبارة التالية:

(أما الوحدة المذهبية فالمغرب من أقصاه لأقصاه على مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس وليس فيه طوائف دينية كالرافضة والأباضية وغيرهما (كذا) من بقية الفرق الدينية التي توجد كثيراً في بلدان الشرق العربي والإسلامي

إن مقال الأستاذ يشعر أن الأباضية ليسوا من الفرق الإسلامية. والذي يلفت النظر أن مقاله هذا جاء عقب قوله: (وليس في المغرب أقليات دينية سوى أقلية ضئيلة من اليهود)

كان الأولى بالأستاذ أن يقول بدل جملة الطوائف الدينية:

وليس فيه (أي شمال أفريقيا) مذاهب إسلامية أخرى كالمذهب التي توجد كثيراً. . . الخ.

ص: 70

أما نحن فلسنا الآن بصدد الرد على الأستاذ أبي الوفا لقوله بعدم وجود أباضية بشمال أفريقيا، لأني أعتقد أن العلامة الأستاذ أبا إسحاق اطفيش نزيل القاهرة الآن، وهو من جلة علماء الأباضية بشمال أفريقيا لن يسكت عن الجواب وإيضاح الحقيقة لمن يتجاهل أو يجهل وجود الأباضية المسلمين بشمال أفريقيا بأهم مدنه من طرابلس الغرب وتونس والجزائر ووادي ميزاب وغيرهن من المدن المشهورة، من أقدم التاريخ حتى الآن وإلى ما شاء الله من الزمن، وحسبهم مفخرة تمسكهم بالعروة الوثقى من الدين الإسلامي الصحيح

الحق أن النزعة الإسلامية المتأصلة في قرار نفوسنا تضطرنا لإصلاح أغلاط إخواننا فينا. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل والسلام عليكم

أحمد الكندي

مراقب بعثة سلطنة مسقط - عمان

القصص المدرسية

أخرج الأساتذة سعيد العريان، وأمين دويدار، ومحمود زهران، حلقة جديدة من سلسلة القصص المدرسية التي يوالون إصدارها منذ سنين، ليسدوا النقص البادي في أدب الأطفال العرب؛ وهذه الحلقة الجديدة هي مجموعة من أربع قصص في 160 صفحة: اثنتان منها لكبار التلاميذ في المدارس الابتدائية، والاثنتان الأخريان على المنهج الجديد لتلاميذ السنة الأولى في المدارس الابتدائية لدروس القصص، ورياض الأطفال

والقصص الأربع مكتوبة بأسلوب سهل ممتع، معروضة عرضاً فنياً بليغاً يشوق الطفل ويلذه، ويقدم له الفائدة في أسلوب رشيق طلي

وثمن القصص الأربع جميعاً عشرة مليمات

فنرجو أن ينتفع تلاميذ المدارس الابتدائية، ورياض الأطفال بهذه المجموعة الجديدة من القصص المدرسية، وأن يجد مؤلفوها من التشجيع ما يعينهم على الاستمرار في هذا الباب الجديد من أبواب الأدب

ص: 71

‌رسالة النقد

كتاب (الإمتاع والمؤانسة)

أتحدث إلى القراء عن طرفة من أثمن طرائف الأدب القديم يعد ظهورها في هذا العصر من خير ما أثمرت المطابع المصرية من كتب الأدب الرفيع، كما يعد الاتجاه إلى نشرها من أحسن ما وقفت إلى التفكير فيه لجنة التأليف والترجمة والنشر، على كثرة ما وفقت إليه في تفكيرها. وتلك الطرفة النفيسة هي كتاب:

(الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي)

وإنك لتقرأ هذا الكتاب من أوله إلى آخره، فيملأ نفسك روعة، قبل أن يروعك أدب مؤلفه الفذّ بما تراه فيه من براعة الحسن في جودة طبعه، ودقة في تصحيحه، وصدق النظر فيه، وكمال العناية بكل لفظ من ألفاظه.

وقد قرأت الجزء الأول من هذا الكتاب، وكنت قد اطلعت على عدة صفحات من نسخته الأصلية المأخوذة بالتصوير الشمسي المحفوظة بدار الكتب المصرية، وهي النسخة والوحيدة لهذا الجزء رغبة في تتميم بعض البحوث عن مؤلفه أبى حيان التوحيدي، وإذا بي أرى جميع سطورها مغمورة بالتصحيف والتحريف، والنقص والزيادة؛ فلا يهتدي الساري في ظلمات هذه النسخة إلا بمصباح قوي من الأدب القويم، والذوق السليم، والمران الطويل، والصبر الذي لا يعرف الضجر.

وقد بعثني على تناول الكتاب من هذه الناحية مقالان قرأتهما في مجلة الرسالة للدكتورين زكي مبارك وبشر فارس تغاضيا فيهما كل التغاضي عما ملئت به صحفه من حسن وإحسان رائعين، وأغفلا كل الإغفال تلك الجهود القوية الملموسة في كل ناحية من نواحيه، وشغلا بعدة كليمات تافهة قد تسقطاها في هذا الكتاب، زاعمين في بعضها زعماً لم يؤيده الواقع في شيء أن مصححيه الفاضلين قد فاتهما تصححيه أو شرحه، وفي البعض الآخر منها أنهما قد صححاه تصححياً أو شرحاه شرحاً لا يلائم الصواب.

وقبل أن أتحدث إلى القراء عن هذين المقالين أريد أن أنبههما وأمثالهما من النقاد إلى أنه لا ينبغي أن ينشر في الصحف في نقد أي كتاب إلا ما يتعلق بقيمته الفنية ومنزلته بين أشباهه من الكتب، والمميزات التي تميز بها عن غيره من المؤلفات في فنه، وما كان يفقد هذا الفن

ص: 72

لو أن هذا الكتاب لم ينشر، والفائدة التي تعود على القارئ من قرأته، ثم الحديث عن مؤلفه ومنزلته بين أشباهه من علماء هذا الفن، والباعث له على تأليف هذا الكتاب؛ وما إلى ذلك من الأمور التي تعني جمهور القراء عامة دون فرد أو أفراد

أما تلك الأمور التصحيحية التي تعتبر من جزيئات الجزيئات والتي لا يعنى بها غير مصحح الكتاب وحده دون غيره من القراء، فإن نشرها في الصحف ليس مما تقتضيه العقلية العلمية

وذلك كأن يذكر الناقد كلمة محرفة - في زعمه - بين ملايين من الكلمات الصحيحة، أو حرفاً معجماً حقه الإهمال، أو مهملاً حقه الأعجام بين ملايين الحروف التي روعي إعجامها وإهمالها، أو نقطة في موضع شولة، أو العكس، أو قوسين وضعا موضع خطين، أو خطين وضعا موضع قوسين، أو تفسير كلمة قد استظهره مصحح الكتاب، ثم بدا للناقد تفسير آخر، فإن أمثال هذه الملاحظات لا تساوي ما يبذل فيها من ورق ومداد. وأيضاً فأنه لا يمكن قراء هذه الملاحظات في الصحف معرفة صوابها من خطئها، ولا تميز حقها من باطلها، إذ لا يمكن ذلك إلا بقراءة الملاحظة، ثم مطالعة موضعها في الكتاب وأصله معاً حتى يتبين للقارئ صواب النقد من خطئه، ولا يتأنى ذلك لقراء الصحف غالباً كما هو معروف

وأولى بهذا الصنف من النقاد أن يبعثوا بجميع ملاحظاتهم التي من هذا النوع إلى مصحح الكتاب ليدرسها ثم يستدركها في الطبعة الثانية إن كانت مما يستحق الاستدراك، كما فعل الأستاذ محمد على بك في ملاحظاته على الكتاب الذي نحن بصدده، فإنه بعث بها جميعاً إلى الأستاذ أحمد أمين مختتمةً بعبارات الإعجاب والتقدير والشكر، وقد نشرها الأستاذ أمين في آخر الجزء الأول من هذا الكتاب مقدمة بالشكر الجزيل والثناء الجميل على صاحبها

وبعد، فالمطلع على هذا النقد اطلاعاً منصفاً يرى أنه - على طوله واتساع كاتبيه في شرحه وتبرير ما فيه من الملاحظات - يرجع في جملته إلى اختلاف وجهتي النظر بين المصحح والناقد، والتباين في ذوقيهما أكثر مما يرجع إلى حقائق علمية أو نصوص ثابتة، ولا يعترض بنظر على نظر ولا بذوق على ذوق

ومن أمثال ذلك ما أطال به الدكتور بشر في مقاله من ذكر شولات ونقط، وما إلى ذلك مما

ص: 73

يسمه أرباب الطباعة بالترقيم وضعت في غير مواضعها من عبارات الكتاب كما زعم، وقد استغرق منه هذه الإحصاء قرابة نصف صفحة من مقاله؛ ولم يدر أن هذا الترقيم إنما يمليه الذوق وحده، ولا يرجع وضعه إلى قواعد ثابتة إلا في رسم العلامات؛ فربما قرأت عدة عبارات فتفهم أن بعضها متصل ببعض، فتضع بينها شولات؛ ثم يقرؤها آخر فيفهم أن بينها اتصالاً من ناحية وانفصالاً من أخرى فيضع شولة منقوطة وهكذا، وكلا الفهمين صحيح لا يعترض بأحدهما على الآخر

وقلّما رأيت مصححاً قرأ صفحة ووضع هذه الفواصل بين عباراتها حسب ذوقه في فهم الكلام، ثم عرضت على آخر بعده فوافقه على ذلك؛ بل لا بد أن يجري قلمه في هذه العلامات بالمحو والإثبات حسب ذوقه هو أيضاً؛ وكذلك لو عرضت هذه الصفحة على ثالث ورابع

وأشهد لقد حسدت الدكتور بشر أشد الحسد على ما منحه الله من أتساع الزمن ورحابة الصدر وقوة الصبر وطول البال حتى استطاع أن يفرغ لتسقط هذه العلامات التافهة الضئيلة والتقاطها من كتاب كهذا فيه الألوف منها

ومن هذه الأمثلة أيضاً ما سماه (تباعداً عن سياق النص) في عبارة أوردها من كلام المؤلف يخاطب الوزير أبا عبد الله العارض قال (أي التوحيدي): (فقلت قبل: كل شيء أريد أن أجاب إليه يكون ناصري) الخ. وقد فهم مصححا الكتاب من هذه العبارة أن التوحيدي يريد من الوزير أن يجيبه إلى كل شيء يريده، ليكون ذلك معيناً له وناصراً على ما يريده الوزير من الإمتاع والمؤانسة بمجلس التوحيدي؛ وقد ضبطا تلك العبارة على هذا الوجه تبعاً لما فهماه منها، وهو فهم صحيح لا غبار عليه ولا مطعن فيه وقد رأى الناقد أن تضبط العبارة هكذا:(فقلت قبل كلٍ شيءٌ أريد أن أجاب إليه) ألخ فاهماً أن أبا حيان يريد إلى الوزير أن يجيبه إلى شيء واحد قبل إمتاعه ومؤانسته، وهو فهم صحيح أيضاً مع شيء من الضعف، ولا يعترض بفهم على فهم كما قدمنا

وإذا بحثنا كلا الفهمين وأردنا الترجيح بينهما وجدنا أن الفهم الأول أليق بحال أبي حيان مع الوزير أبي عبد الله كما يتبين ذلك من ثنايا كتابه

وأيضاً فلا شك في أن إرادة أبي حيان من الوزير أن يجيبه إلى كل شيء يريده خير من

ص: 74

أن يريد منه الإجابة إلى شيء واحد.

ومنها ما سماه: (تجافياً عن أسلوب الكتاب) وما أكثر الأسماء لديه وأقربها إلى قلمه! وذلك أنه رأى عبارة من عبارات الكتاب مختتمة بكلمة: (تجدُّها) وبعدها عبارة أخرى مختتمة بكلمة: (تمدُّها)

هكذا ضبط المصححان الفاضلان هاتين الكلمتين

وقد رأى حضرة الناقد أن الأفضل في ضبط الكلمة الأخيرة (تُمِدها) بضم التاء وكسر الميم، معللاً ذلك بأن الازدواج الذي ألتزمه المؤلف في كتابه لا يتم إلا بالتوافق التام بين (تجدُّها) و (تمدها) في جميع الحركات

ولو تفضل حضرته فألم إلماماً يسيراً بقواعد السجع والازدواج في فن البديع، لرأى أنهما يتمان على أكمل وجه وأحسنه بدون هذا التطابق الدقيق في جميع الحركات والحروف، والتزام الدقة في ذلك يعدُّ من لزوم ما لا يلزم، إذ السجع في هاتين العبارتين تام لا عيب فيه وأن لم يتطابق اللفظان في جميع الحركات

على أن المؤلف لم يلتزم في جميع كتابه تلك الدقة في الازدواج والسجع، بل أن كثيراً ما يكتفي باتفاق أواخر العبارات في الوزن وإن لم تتفق في الحروف، بل قد يغفل الازدواج والسجع إغفالاً تاماً

ومنها ما سماه: (تركا للغامض على حاله من الغموض والإبهام) وقد أورد من ذلك عبارة ذكرها التوحيدي في معرض الحديث عن صيانة النفس والقناعة وصعوبتهما على الإنسان، وشدة احتمالهما، والمشقة الشديدة في التخلق بهما، فقال ما نصه:(وصيانة النفس حسنة إلا أنها كلفة محرجةٌ إن لم تكن لها أداةٌ تجدّها، وفاشيةٌ تمدُّها، وترك خدمة السلطان غير الممكن، ولا يستطاع إلا بدين متين) ألخ. وقد خفي على الناقد الفاضل معنى قوله: (وترك خدمة السلطان غير الممكن) ألخ، فألح في السؤال عما يريد المؤلف بهذه العبارة، وهي عبارة في غاية الوضوح والبيان لا تحتاج إلى توضيح؛ وتوضيح الواضح أكثر مشقة من توضيح الخفي المبهم

يريد المؤلف بهذه العبارة أن صيانة النفس وإعزازها عن مواطن المذلة للملوك والأمراء والعزوف عن خدمتهم، كل ذلك غير ممكن، لما تقتضيه ضرورات العيش وحاجات الحياة؛

ص: 75

ولا يستطيع ذلك إلا من عمر الدين المتين قلبه، وملأت الثقة بالله نفسه. وبعد فإن لنا نصيحة نريد أن نسرها إلى الناقد الفاضل، وهي أنه ينبغي لمن يقدم على نقد كتاب كالإمتاع والمؤانسة أن يكون لديه إلمام يسير بأوليات قواعد النحو، فيعرف حكم الفاعل ونائبه، وبماذا يرفع المثنى والجمع، وما إلى ذلك، وإلا رد نقده عليه، وكان حديثه عن الكتب منه وإليه

قال مؤلف الإمتاع والمؤانسة في تفسير معنى الخَلَق بفتح الخاء واللام ما نصه: (وأما قولهم: هذا شيء خَلَق فهو مضمَّن معنيين) الخ

وقد ذكر الناقد هذه العبارة وكتب تحت قوله: (مضمَّن معنيين): (كذا) حاسباً أنه قد ظفر بغلطة شنيعة؛ يريد حضرته أن في قوله: (معنيين) غلطاً نحوياً! وكان الصواب في نحوه هو: (معنيان)! فما أرى سيبويه والخليل والفراء والكسائي ومن إليهم من أئمة العربية في هذا النحو الجديد؟!

وهل في قواعدهم أن للفاعل نائبين: نائب أصيل ونائب مساعد كما لبعض وزارات الحكومة وكيلان: أصيل ومساعد؟!

ألا يعرف الأستاذ أن ضمّن يتعدى إلى مفعولين؟

الحق أن تلك الزلة تهدم مقاله من أساسه، وتجعل صاحبها غير أهل لنقد كتاب كالأمتاع والمؤانسة الذي نحن بصدده

هذا ما يتعلق بنقد الدكتور بشر. وسنتحدث في المقال الآتي عن أمثلة من نقد صاحبه

(ع. ص)

ص: 76

‌المسرح والسينما

فلما (حياة الظلام) و (العودة إلى الريف)

24 + 16=40. . . هذه هي القروش الأربعون التي خرجت من جيبي عن طيب خاطر. وإني أصارح القراء بأني أبكي عليها الآن كما لو كانت أربعين ألفاً من الجنيهات!

دفعت المبلغ الأول في شباك تذاكر سينما (ستوديو مصر) ثمن تذكرتين؛ إحداهما لي والأخرى لصديقي الذي أتأبطه في الذهاب ويتأبطني هو في العودة! ودفعت المبلغ الثاني في شباك سينما (الكوزمو) ويا ليتني ما دفعت هذا ولا ذاك، فقد علمت - بعد فوات الوقت - أن المبلغين ذهبا إلى وجه الشيطان!

حرصت على أن أشهد أول عرض في استوديو مصر لشريط (حياة الظلام). وقد كان بودي أن أرى عملاً فنياً رائعاً، فلم أر عملاً فنياً على وجه الإطلاق. وإنما رأيت صوراً تتكلف الحركات، وأفواهاً تتكلف الكلمات، ومناظر تتكلف وتفتعل افتعالاً. . . كل ذلك في قصة لم يكن بها من بأس كقصة، للقراء ولكنها كانت ساقطة أشنع السقوط بوصف أنها سيناريو لسينما ولا ندري فوق ذلك ماذا دهى الآت تسجيل الصوت في أستوديو مصر؛ فقد كان فسادها صارخاً، حتى أن الكلام لم يكن يصل إلى مسامع الجمهور إلا وتصحبه همهمات تخبأ الألفاظ وتلف مخارج الكلمات. ولا ندري أيضاً لماذا يعنى هؤلاء الناس بإبراز هذه الوجوه التي جربوها وفشلت مراراً؛ أو نسي القوم خيبة بطل هذه الشريط في سابقه (فتش عن المرأة)! ولا ندري لماذا لا يفتشون عن وجوه جديدة يعطونها الفرصة لكي تظهر وتنجح؟

والمؤلم أن يضطر الناقد إلى الاعتراف بأن شخصية واحدة من شخصيات هذا الشريط هي التي حظيت بشيء من التوفيق وهي فردوس محمد التي أصبحت مختصة بأدوار الأمهات تقوم بها في إتقان تام ونجاح فائق؛ وعلى الشخصيات الباقية السلام!

أما الشريط الآخر، أو الفضيحة الأخرى من فضائح هذا الموسم، فهو (العودة إلى الريف) الذي آثرت السيدة ملك أن تبدأ به حياتها الفنية كممثلة سينما. فهذا الشريط ليس فيه موضوع ولا تمثيل ولا تلحين ولا إخراج

وقد وضح لنا من البحث أن العمل فيه قد جرى في حدود مالية ضيقة. وليس هذا عذراً

ص: 77

يقبله الجمهور المصري الذي لا حجاب بينه وبين الأفلام الأجنبية الكبرى التي ينفق عليها من الأموال ما لا يكاد يصدَّق، ولا عذر للسيدة ملك في قبولها الظهور في شريط كهذا من المحقق أنها كانت - قبل قبولها الاشتراك فيه - تعلم موضوع قصته وتعلم أنه سوف يخرج في مراعاة تامة للظروف المالية الشديدة

أما تسجيل الأصوات فكان فضيحة مستقلة؟ وأما التمثيل فقد كان عاراً يتحرك على الستار. وأما الأضواء فقد كانت قذى في عيون الجمهور. وأما المناظر فقد كانت عنواناً في فشل مهندسها.

وأما الإخراج فقد كان الشيء الوحيد الذي يمكن السكوت عليه!

وبعد، فهل رأى القارئ اثنين من حوذية العربات (الكارو) يشربان الويسكي في شرفة (الكونتننتال)؟ هذا هو موضع هذين الشريطين بين الأشرطة الأجنبية الهائلة التي ظهرت في هذا الموسم

الإخراج. . . الإخراج. . .

وبهذه المناسبة لا نجد مندوحة عن الإشارة إلى فوضى الإخراج السينمائي في مصر. . . والواقع أن أصحاب الأفلام يحاربون بين نارين: فأستوديو مصر على فداحة أجره، يفرض لوناً من الديكتاتورية منقطع النظير. إذ يفرض ممثلين بأسمائهم لا يجد أصحاب الأفلام بداً من قبولهم على مضض! والاستوديوهات الأخرى وأصحابها من اليهود، على قلة استعدادها ورداءة آلاتها، تفرض مثل هذه الديكتاتورية في إسناد الأدوار إلى الممثلين من ذوي الأسماء المعروفة في غير نظر إلى التناسق بين طبيعة الممثل وطبيعة الدور الذي يلعبه في الشريط. يضاف إلى ذلك المعاملة المالية المنقطعة النظير في الرداءة والجشع

لماذا لا تؤسس الحكومة (أستوديو) تؤجره لأصحاب الأفلام وتسند إدارته إلى خبراء فنيين من شبابنا ذوي الثقافة السينمائية الممتازة؛ وهم كثيرون بحمد الله!؟

الأوبريت في الفرقة القومية

أشرنا في كلمة عابرة منذ أسبوعين إلى استعداد الفرقة القومية لإخراج رواية القضاء والقدر، وهي من نوع الأوبريت الذي ليس لهذه الفرقة عهد به.

ص: 78

وقد سمعنا في الأوساط الفنية لغطاً يدور حول الرغبة في إخراج هذا النوع الذي أندثر من حياة المسرح المصري منذ سنين. وقيل إن الحكومة تنوي أن تعين المعهد الملكي الموسيقي على أن ينهض بمشروع جديد يكون من آثاره أن يظفر الجمهور بألحان رائعة في مسرحيات قوية. كما قيل لنا إن ثمة مؤتمراً مؤلفاً من أعلام الموسيقى والمسرح، سوف يبحث المشروع من نواحيه المختلفة.

وإلى أن يتم تأليف (أوبريت) جديدة، لا ندري لماذا لا تقوم الفرقة بإخراج بعض الروايات القديمة الناجحة التي ظهرت منذ عشرين سنة ونيف! كرواية (العشرة الطيبة) التي تمتاز بألحان لا نظير لها من وضع المرحوم سيد درويش؟

(أبو الفتح الإسكندري)

ص: 79