المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 342 - بتاريخ: 22 - 01 - 1940 - مجلة الرسالة - جـ ٣٤٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 342

- بتاريخ: 22 - 01 - 1940

ص: -1

‌من وراء المنظار

سافر صديقي (عين) إلى الريف ليضحي بكبشه المنوفي الأملح هناك. ولصديقي الوفي (عين) ولع بالريف عجيب. فصباباه عرائس شعره، ومشاهده مسارح خياله، ومعاهده ملاعب هواه، ومزارعه صقال خاطره، ومطاعمه عافية بدنه.

لذلك تراه كلما افترض العودة إلى الريف في ساعة من النهار أو الليل

أسرع إلى القطار أو إلى السيارة دون أن يشاور أهله ويودع صحبه

ويرتب عمله!

دخلت صباح اليوم مكتبه الذي يكتب فيه (من وراء المنظار) فوجدت الكرسي خالياً وليس أمامه خبر، والمنظار متروكا وليس وراءه نظر! فقلت لنفسي: لم لا أجرب هذا المنظار الذي تنفذ منه (عين) الصديق إلى ما وراء الصدور والستور والحوادث؟ أما يجوز أن يكون سر فنِّه في هذا المنظار فأرى به ما يصح أن أصورِّه وأنشره؟

سألت عن ذلك نفسي ولم أنتظر ما تقول، فقد أخذت المنظار وتركت الدار ووضعته على أنفي وأنا امشي على طوار الشارع الذي عرفته وألفته، فإذا الناس غير الناس، والمدينة غير المدينة، والدنيا غير الدنيا!

كأنما هذا المنظار من صنع الله الذي أتقن كل شي! فإن فيه أسرار المناظير المعظِّمة والمقرِّبة والكاشفة؛ وفيه غير ذلك قوة التجريد فهو يرد كل شي إلى طبيعته، ويظهر كل شئ إلى طبيعته، ويظهر كل شخص على حقيقته

مشيت به في زحمة الطريق مشية الغريب الجاهل في البلد العجيب المجهول، تزخر نفسه بعواطف شتى من الغضب والعجب والدهش والإنكار والخوف، ثم لا يملك أن يسأل لأن لسانه معقود، ولا يستطيع أن يصبر لأن جَلده مفقود

رباه ما هذا الذي أرى؟ أهذا هو الصديق البر الذي خالصته الود وساهمته الوفاء وعاشرته نصف العمر ثم لا ألقاه إلا صافحني بالكف الناعمة ومازحني باللسان المعسول؟ ما باله قد تساقطت عنه لفائفه الوردية، وحالت عليه أصباغه العبقرية، فبدأ أمامي عارياً ضارياً كالأسد الجائع، تتقد عيناه بالشر، ويتحلب شدقاه بالشره، وتمتد يداه الباطشتان إلى قوتي الذي لا مساك للنفس إلا به؟ وفي شريعة الوحش لا تتصافح الكفان مادامت بينهما فريسة.

ص: 1

ولكن الإنسان وحده هو الذي يستطيع أن يسلِّم بيد ويلطم بيد!

أهذا هو رجل الدين الذي عرفته عنوان الفضيلة ومثال الورع ولسان المعروف؟ مالي أراه اليوم قد تهتكت الأسرار عن تنكره البارع، فلحيته المستعارة تكاد أن تسقط، وزهادته الكاذبة تهم أن تفترس، وحلته الدينية تشف عن جسد دنيوي تلهبه الشهوة المسعورة، وتذيبه الرغبة الملحة، ويود لو تنقلب المواعظ والآيات في فمه رُقًى سحرية ينال بها عرض الدنيا وعزة الجاه؟

أهذا هو العظيم المتأبه الذي أشاهده من حين إلى حين يمشي وأنفه في السماء، ولغاديده تكاد تنشق من نفخة الكبرياء، ونظراته وكلماته توزع على من حوله احتقار القوى واستكبار المتسلط؟ إني لأراه الساعة من خلف هذا المظهر المونق والرواء الخلاب جثةً ضئيلةً الأجلاد خبيثة الريح يلتف جلدها الرقيق الشاحب على ضمير مثقل بالخزي ونفس مطمئنة إلى الهُون. وكأني إلى بقايا الإنسانية فيه تخزه في مواطن الحس منه بكلام معناه: يا عز ما بينك وبين الناس، ويا ذل ما بينك وبين نفسك!

ومن هذا؟ أهذا هو السياسي الذي ألف معجما في لغة الوطنية ونظم ديواناً في مدح الدستور؟ أهو من أرى أم ذلك تاجر يهودي السمات يتجر بالكلام كالمضاربين في (البرصة)، ويراهن على الزعماء كالمراهنين على الخيل في السباق ويضحي بالمنفعة اليسيرة لينال مقعداً في البرلمان، أو بالوظيفة الصغيرة ليبلغ كرسيَّاً في الوزارة؟

وما خطب هذا الشاب الذي يتجمل بالبذلة المهندمة ويتنبل بالحركة المنظمة، وليس في كيسة قرش ولا في بيته قوت؟ لماذا يجلس في هذه المركبة الفخمة مع هذا الرجل وهذه المرأة؟ أيريد أن يخدع الرجل فيبتز ماله بالصداقة، أم يريد أن يغوي المرأة فيسلب ثروتها بالزواج؟ لقد بأن في المنظار أنة (ابن ذوات) أفلس فتاجر في الاحتيال وسمسر للرذيلة. واللذان معه زوجان أرستقراطيان يقوم زواجهما على الرياء والخيانة؛ فالفتى يبيع الرجل أعراض الناس ويشتري منه عرض نفسه. وهو بهاتين الوسيلتين صديق الأسرة الأدنى وكلبها الممسوح المدلل!

وما حال هذه العصبة التي تندو كل ليلة إلى مجلس شراب أو سامر أنس، فيتنادمون على الكأس بطرائف الأدب وروائع النكت ومداعبات الصداقة؟ لقد كنت احسبهم جميعاً فأصبحوا

ص: 2

في هذا المنظار شتى! فهم لا يتصافقون على الود إلا في مجالي اللهو؛ فإذا تفرقوا تناكروا وبسط كل منهم لسانه في الآخرين بالذم، ودرج بعضهم بين بعض بالوقيعة، وصحح كل واحد لنفسه ما تقسم من الفضل في الجماعة!

أعوذ بالحليم الستار، من شر هذا المنظار! لقد شوه في عيني جمال الوجود كما يشوه المكرسكوب بشرة الوجه الرّفافة. ولا مراء في أن جمال الدنيا خداع وسعادة العيش وهم وحياة الناس تمثيل؛ فإذا أزلت عن العيون غشاوة الإيهام والإيهام فرأت كل شئ على طبيعته وكل شخص على حقيقته، لا يبقى لجميل سحر، ولا لعجيب سر، ثم لا يكون بين أحد وأحد ألفة، ولا بين جماعة وجماعة نظام

فاكتب لي يا صديقي في بطاقة العيد: أتريد أن أرسل إليك منظارك، أم تسمح لي أن أجربه مرة على عين الدكتور مبارك؟

احمد حسن الزيات

ص: 3

‌لعل الليالي.

. .!

(رسالة مهداة إلى الروح الذي أهدي إليه (وحي الرسالة))

الدكتور زكي مبارك

ما هفا القلب لخطرة من خطرات الحب والمجد إلا ترنمت بقول البحتري:

لعلّ الليالي يكتسين بشاشةً

فيرجعن من عهد الهوى المتقادم

ولعهد الهوى في قلبي وعقلي ألوف من الألوان والظلال. فهو تارة صورة وجدانية، وتارة صورة وطنية، وحيناً نزعة إسلامية، وأحياناً نزعة عربية. وقد يحلِّق الفكر فيرتفع إلى الأجواء الإنسانية في كثير من الأحايين

ولا أعرف بالضبط متى تثور في صدري هذه المعاني: فقد تثور للشعور بالتقصير حين أتذكر تخلفي عن أداء بعض الواجبات كالذي وقع يوم أهملت التنويه بكتاب (الأدب المصري الإسلامي) للأستاذ محمد كامل حسين، مع أن هذا الكتاب قدَّم إلى عقلي فنوناً من الأريحية حين حسبتُ نفسي على قراءته خمس ليال متواليات، وكالذي وقع حين قّصرت بكتاب الدكتور طه بك حسين عن أبي العلاء في سجنه، مع أني قرأته في سهرة واحدة وقيدت بهوامشه ملاحظات كانت خليقة بأن تفتح للقراء باباً من الدرس والتحقيق

وهل أنسى أني فرطت في التنويه بكتاب الأستاذ سعيد العريان عن حياة الرافعي، وهو كتاب شُتِمتُ فيه بغير حق لأني كنت قلت إن العريان لا يدرك أسرار الحب ولا يفهم أين يقع مثل قلبٌ الرافعي حين ينحدر في هواه؟ وكيف يدرك العريان هذه الدقائق وهو لا يصل إلى (شبرا) إلا بدليل مع أن عمله هناك؟!

وكيف أغفر لنفسي السكوت عن الأستاذ عبد المتعال الصعيدي وقد اجترأ على الدخول بيني وبين الأستاذ أحمد أمين والدكتور طه حسين؟ كان هذا الأستاذ جديراً بالالتفات إليه حين أنكر عليّ أن أقول: (إن أبا نواس في فجوره أشعر من أبي العتاهية في تقواه)؟ ولو أني التفت إليه لخلقت فرصة لتحديد الصلات بين الأدب والدين

وفاتني، مع الأسف، أن أتحدث عن كلمة قالها رفعة رئيس الوزارء يوم جمع مديري الأقاليم بمكتبه في وزارة الداخلية: فقد نبههم إلى مراعاة الكفاية قبل مراعاة الأقدمية في ترقية الموظفين، وأعلن بصراحة أن التقيد بالأقدمية يعطل مواهب الأكفاء، ويروض

ص: 4

الكسالى على الاطمئنان إلى أن الزمن يصنع في الترقية ما لا يصنع الجهاد في أداء الواجب بأمانة وإخلاص

ولقد كانت هذه النظرة الحصيفة خليقة بأن تُقدَّم إلى القراء في مقال أو مقالين عساها تصبح من التقاليد الأساسية في الحكومة المصرية

وهل ضاعت المواهب في بلادنا إلا بسبب التقيد بالأقدمية؟

إن رفعة رئيس الوزارء فتح مجال النضال لتحطيم هذه الصخرة التي طال عهدها بتعويق خطوات المجاهدين في سبيل الواجب، فكيف نسكت وقد رأينا الكسالى الخامدين يعتمدون على الزمن في تقدير الأنصبة والحظوظ والحقوق؟

ومن الذي يشرح هذه المعاني ويصيِّر الاعتماد على الكفاية عقيدة وطنية إذا سكت عنها الأدباء واكتفوا من الأدب بوصف القمر والشمس والنجوم والأزهار والرياحين؟

وكيف يُحجب الأدباء عن درس الشؤون الأساسية في سياسة المجتمع وقد صار الأدب في بلادنا من المؤهلات الملحوظة في اختيار الوزراء؟

وهل يظن عاقل أن وزراءنا يرضون لأنفسهم ومواهبهم بالتخلف عن مسايرة الحياة الأدبية؟

الأديب المصري هو المسئول عن العزلة التي يعانيها بالبعد عن محيط الحياة الرسمية، فلو أنه كان اهتم بمتابعة ما يجدّ من الشؤون التي تعالجها الدولة بالطب لأمراض المجتمع لنُصبتْ لأدبه الموازين، وصار له في كل مقام مقال؛ ولكن الأديب المصري يتوهم في أغلب الأحيان أن الأدب له مجال غير النظر فيما يهتم به وزراء الدولة من خطير الشؤون

إن الزمن يُسرع، ثم يُسرع، ثم يسرع، وأخشى أن تنقضي حياتنا قبل أن نرى للقلم دولة في هذه البلاد

فمتى يعرف الأديب أن من واجبه أن يُقنع الدولة بأنه خُلق لوصف المجتمع باللغة العربية، وهي اليوم لغة مصر، وعن مصر يأخذ الحجاز نفسه علوم اللغة العربية؟

ومتى يستطيع الأديب بحسن الترفق والتلطف أن يكون له في كل معضلة قول، وفي كل مشكلة رأي؟ متى يغيِّر الأديب ما بنفسه فيدرك أن الدولة تنفق في كل سنة نحو نصف مليون من الدنانير لتخلق الأديب الذي يستطيع أن يشغل الناس بأخلاقهم وأذواقهم ومبادئهم.

ص: 5

والذي يستطيع بسحر البيان أن يروض الجماهير على تذوق معنى الحياة ومعنى العدل؟ الأديب في بلادنا كثير التوجع والتفجع، ولكنه لم يخط خطوة جدية في تجميل الوجود، وهل في الوجود جمال وقبح؟ الوجود هو هو لسائر الناس، ولكنه كالماء يتلوَّن بلون الإناء. والأديب الحق هو الذي يستطيع تحويل الوجود من لون إلى لون، فيُضحك قراءه حين يريد، ويبكيهم حين يشاء، وفَقاً لخطة مرسومة يفرضها الشعور بألوان ذلك الوجود

وأ ين الأديب الذي سحره جمال الريف المصري وهو يتنقَّل بالسيارة أو القطار من إقليم إلى إقليم فوصف أرض مصر وسماءها وصفاً يخلق الحرص الصادق على الاعتزاز بالمِلكية في أرجاء هذا الوطن الجميل؟

أين الأديب الذي يفكر في بناء دار بالريف يسكن إليها من وقت إلى وقت، كما يصنع أدباء الفرنسيس والإنجليز، وكما كان يصنع أدباؤنا الأقدمون؟

إن الأديب يشكو من تجاهل الدولة لحقه في الحياة، فهل حفظ هو حقه في الحياة؟

أليس من العجب العاجب أن يكون الفلاح اعرف بحقه من الأديب؟

الفلاح المصري هو المثل الأعلى في الوطنية، لأنه لا يبيع شبراً من أرضه إلا بعد أن يبلله بالدمع، وهو يشعر بالخزي أمام نفسه وأمام زوجته وأطفاله حين يبيع فداناً ورثه عن أمه أو أبيه، فأين الأديب الذي يحس هذه المعاني؟ أين وميادين الأدب تُنتقَص في كل يوم ولا تثور زفرة من شاعر أو كاتب أو خطيب؟

وللأدباء أملاك صحيحة ورثوها بأسنَّة الأقلام، كما ترث الدول أملاكها بالمدافع والسيوف، فأين من يعرف تلك الأملاك؟ أملاكنا هي الميادين الذوقية والأخلاقية والاجتماعية ومن العار أن يسبقنا غيرنا إلى العناية بشؤون المجتمع ونحن نملك من قوة الإفصاح عن أسرار المجتمع أضعاف ما يملكون، ونستطيع نقل المجتمع من حال إلى أحوال إذا صرنا من أصحاب المبادئ والعقائد، وفرضنا على أقلامنا الجهاد الموصول في تثقيف المشاعر والعواطف والأذواق

والى من تلجأ الأمة في تهذيب مشاعرها وعواطفها وأذواقها إذا جف قلم الأديب؟

وما قيمة الأديب إن لم يكن لصرير قلمه صوت مسموع في الأكواخ والقصور والمعاهد والمعابد؟

ص: 6

وهل سيطرتْ عقيدة دينية، أو نظرية أخلاقية، أو شريعة ذوقية، بغير سناد من أسنّة الأقلام؟

أخشى أن يكون الأدباء في مصرهم (الأفندية) في فلسطين؛ فالأفندية هناك هم الذين باعوا أملاكهم، الفلاحون في فلسطين فهم الذين عرفوا قيمة الوطن فلم يبيعوا ما ورثوه عن الأباء والأجداد

أين في أدباء اليوم بمصر من يذكِّر بالشيخ محمد عبده، الرجل الفلاح الذي فرض على الدولة أن تحسب لقلمه ألف حساب؟ وهل فينا شبيه للأزهري الفلاح سعد زغلول الذي رجّ مصر والشرق بدعوته الكريمة إلى إعزاز الشخصية القومية؟

إن الأنبياء - وهم مؤيَّدون بروح الله - لم يصلوا إلى القلوب بغير البيان!

فمتى يصير إعزاز البيان في بلادنا شريعة من الشرائع؟

وهل نصل إلى ذلك إلا يوم يعرف أرباب الأقلام أنهم رسل هداية، وأن سواد الحبر في أقلامهم أنفع لوطنهم من بياض الصباح؟

حدثنا الأستاذ مصطفى عبد الرازق بك في مقال نشره بجريدة السفور منذ أكثر من عشرين سنة، أنه رأى زهرة جميلة في أحد أسفاره، وأنه لم يجد من يعرف اسم تلك الزهرة. فقال: عزاءً، عزاءً، أيتها الزهرة، فليس اسمك أول اسم يضيع في هذه البلاد!

وهل صنع الأستاذ مصطفى عبد الرازق أكثر مما يصنع من يتوجعون للحق الضائع في صمت؟

هل نزل من القطار فنقل الزهرة إلى قصره وخلع عليها اسمًا من طرائف الأسماء؟

وهل يذكر الآن مصير تلك الزهرة، وقد توسلتْ إليه أن يرعى وداد لحظة؟

ولتلك الزهرة شبيه من الجواهر المجهولة في هذه البلاد!

عندكم الأديب، وهو أنفع لكم من معدن (الولفرام)، الذي استكشف بغتة في الصحراء الشرقية، وهو معدن نفيس يغنيكم عن أخيه الذي يصدر عن بلاد الصين، وقد استكشفه رجل أجنبي في السنة الماضية. فأين الأجنبيُّ الملهم الذي توفقه المقادير إلى استكشاف العبقرية الأدبية في وطن (حابي) والحابي هو الوهاب، وهو اسم النيل قبل أن يعرفه اليونان؟

ص: 7

تحرَّك، أيها الأديب، ودُلُّ على نفسك كما دلُّ على نفسه معدن الولفرام!

إن ذلك المعدن هو أصلح المعادن لصياغة الأسلاك الكهربائية، ونفسك هي الكهرباء أيها الأديب، فاصعقْ من يجادلونك في عبقريتك، وسيطر بقلمك على الوجود.

زرت عين حلوان، فسمعتها تقول: منذ ألوف أو ملايين من السنين وأنا محبوسة في الصحراء، لا يحس وجودي فرعون ولا خليفة ولا سلطان ولا مَلك!

فاقتديت بالحكيم مصطفى عبد الرازق وقلت: معذرة، يا عين حلوان، فما كنت أول جوهر ينساه أهل هذه البلاد!!

وما عين حلوان؟

هي عين يشفى ماؤها من أمراض الكبد

ولى كبِدٌ مقروحة من يبيعني

بها كبداً ليست بذات قروحِ

أباها عليَّ الناسُ لا يَشترُونها

ومن يشتري ذا علة بصحيح

فأين كانت هذه العين وقد مات ألوف وملايين من أجدادنا الأكرمين بأكباد قرَّحتها مآسي الحب؟

وهذه العين أراد طمسها بعض أعداء مصر بالأسمنت في غفوة الليل ولم يفلحوا

فمتى ينتصر الأدب على خصومه الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم!

لن يكون لمصر عَلَم مرفوع إلا يوم تعرف أن الله أعزّها بالقلم، وأنه عزّ شأنه جعل في واديها شعلة الحركة الفكرية في القديم والحديث. ومن الذي يتصور للدنيا حياة بدون مصر وهي صلة الوصل بين الشرق والغرب؟ وهل كان لأنبياء الشرق سناد غير مصر وفيها عاش أعظم الحكماء والرهبان والصوفية؟ وهل اتفق لمدينة في الدنيا ما اتفق للقاهرة من رعاية الصوامع والكنائس والمساجد؟

إن وادينا هو الوادي الأخضر بين وديان العالم، ولن نزكي عن نعمة الله علينا إلا بالتغني بهذا الوادي الجميل؛ ولكن من يسمح لنا بالغناء؟

هل رأيتم جو مصر في يوم 6و11 يناير؟

هل رأيتم؟ هل رأيتم؟

حدثوني في أي بلد يرى الناس مثل هذين اليومين في فصل الشتاء؟

ص: 8

إن يوماً واحداً من أيام الصحو في مصر لأفضل من جميع الأيام في سائر البلاد. وبفضل أيام الصحو في مصر صح لأحد ملوكنا القدماء أن يرى نفسه إله الأرض والسماوات

ومع ذلك جاز لبعض خلق الله أن ينكر على شعراء مصر نعمة الفنون والجنون

ومتى يُفتَن المرء أو يجنَّ وهو لم ير ضحوة الربيع في ظُلمة الشتاء؟

أيامنا كلها ربيع ولكن أين من يعرف؟

ذلك يوم 6 يناير، وهذا يوم 11 يناير، فاسألوا في أي أرض عرف الناس مثل هذين اليومين؟

لعل الليالي. . .!

لعل الليالي يكتسين بشاشةً

فيرجعن من عهد الهوى المتقادمِ

لعل الليالي. . .!

لعل الليالي تُحسن مرة واحدة فتلفت بعض الناس إلى الكأس الذي صدعوه بعد أن شربوا ما كان يحوي من رحيق!

لعل الليالي تذكِّر بعض الناسين بالوَتَر الذي قطعوه بعد أن ثملت آذانهم بما كان يملك من رنين!

لعل الليالي ترجع أحبابنا الشاردين إلى عهدهم القديم حين كانوا يحسّون ظمأ الأرواح والقلوب!

إن عشتُ - وعُمر الصادقين في مصر من عمر الورد - فسأنتقم من زماني

وهل أموت قبل أن أساعد على تأسيس دولة للقلم في هذه البلاد؟

وكيف يموت من ينقل الناس بقلمه من ضلال إلى هدى، أو من هدى إلى ضلال؟

يستطيع قومٌ أن يتناسوا فضل القلم في خلق المودّات الصحيحة لمصرفي أقطار الشرق، ولكنهم لن يستطيعوا أن يصدّونا عن الجهاد في الطب لأمراض المجتمع المصري والشرقي. ولن يُفلح من يتوهمون القدرة على تزهيدنا في تذوق معاني الحب والمجد

نحن من صُنع الله، ويد الله لا تمسُّ شيئاً أو شخصاً إلا لتهبه الخلود

لعل الليالي. . .!

لعل الليالي تُلهم شعراء مصر فكرة (نشيد العدل) كما ألهمتهم فكرة (النشيد القومي) و

ص: 9

(الأناشيد العسكرية). ولعل الليالي تذكِّر من يسمُرون على شواطئ بَرَدى والعاصي ودجلة والفرات وسائر الأنهار العربية والإسلامية أن لهم في مصر إخواناً يُقذون أبصارهم تحت أضواء المصابيح ليقيموا دولة للقلم العربي، القلم الذي عجزت عن قصفه مكايد الصروف وعثرات الجدود

لعلّ وليت!! وهل تغني لعلّ أو تنفع ليت؟؟

(ن، والقلم وما يسطُرون)

فإلى الله الذي أقسم بالقلم أرفع نجواي وشكواي، وهو حسبي ونعم الوكيل

فيا فاطر الأرض والسماوات، ويا باعث النور في ظلمات الحبر الأسود، ويا راحمي من دسائس الكائدين والخاتلين،

ويا مُلهمي وساوس الشك وحقائق اليقين، عليك توكلتُ وإليك أُنيب.

زكي مبارك

ص: 10

‌حديث حول الشعر

لجان كوكتو وبيبر لاجارد

بقلم الأستاذ صلاح الدين المنجد

(هذه محاضرة طريفة، ولكنها ليست كالمحاضرات في شيء، إنما هي أدنى إلى التمثيل منها إلى المحاضرات. قام بها ملك الأحاديث الصحفية (بيبر لاجارد)، مع الشاعر الكبير (كوكتو) في قاعة (الأنال) في باريس في السنة الحالية، وهنا يسأل الصحفي، الأديب الشاعر، فيجيبه على سؤاله أمام الناس. . .)

(المنجد)

بيبر لاجارد يتكلم:

سيداتي، آنساتي، سادتي:

هذا حديث طريف، سنحاول أن نسمعكموه، وهو يشاكل التمثيل في كثير من نواحيه. سأدفع شاعرنا (كوكتو) إلى الكلام عن الشعر، بعد أن فرّ من باريس واعتزل في البروفانس. إنه لم يعدّ للأمر عدته، ولم يحبر الصحائف، ولكنه سيسمعكم صوته الإنساني المتصعد من أعماق القلب. . .

جان كوكتو

قبل أن أسلم مقالتي لهذا الصحفي البارع، أريد أن أحدثكم عن الصحافة: إنها مهنة من الطراز الأول، ولكنها تتطلب جهداً وذكاءً، لأن صاحبها يسعى لأن يشق المرء نصفين ليستطلع خفاياه، والمرء يحاول الصمت أمام هؤلاء ذكاءً أو كسلاً، ولكن مهما حاول المرء أن يفلت من الصحفيين، تبعوه وأفسدوا عليه هدوءه. إن هذه المهنة هي صيد للإنسان.

أما الشعر الذي سأحدثكم عنه، فهو جني يستطيع أن يتخذ أشكالاً شتى. . . لقد حسب (ليونارد دفانسي) أن الشاعر من ينظم لا من يهز، فنظم من الشعر أبياتاً ليكون شاعراً، ولكنه كان في غنى عن تلك الكلمات الميتة التي صاغها. . . فقد كان شاعراً في فنه، وشاعراً في لوحاته. . . ولقد كان شعره الذي أودعه الصور والتهاويل، أروع من شعر الشعراء. سألوه يوماً: أي فرق ترى بين المصور والشاعر؟. . . فأجابهم: إن للمصور شأناً لا يبلغه الشاعر. سلوا عاشقاً أذبله لوجد، ولاعه الحنين، ماذا تود؟ أأبياتاً من الشعر الرقيق

ص: 11

تمجيداً لحبك، أم صورة ساحرة له؟. . . يجبكم: أود صورتها.

ولقد حدث بعد (رامبو) أمر ذو شأن: فقد كان في فرنسة قبل هذا الشاعر شعر. . . ولكن رامبو أطلق الروح الشعري، وكان لا يعني إلا بالروح. . .

وأعني أن الشعر قد أصبح بعده مهنة، فقد كان لا ينظم إلا إذا أثر فيه شيء. . . أما بعده، فقد أصبح الشعر تحت الطلب!

أنا أعجب (بموليير). إن شعره هو مصدر شعرنا الحديث. لقد كان (موليير) صحفياً، يؤلف المجلات، ولكنها مجلات رائعة عميقة سريعة. وإن قصيدته (أورونت) هي نبع ثَرٌّ لشعرنا اليوم. ولو لم تكن أنشودة الأورونت لما كان (مالارميه) ولما سمعنا أهازيج أولئك الشعراء الذين يسكروننا بروائعهم

لقد بعث فينا (موليير) الحياة، وجعلنا نتذوق أشياء كثيرة. كنت في (مونتارجيس). فقرأت (المتشائم) عشرين مرة، وقرأت (بريتانيكوس) عشرين مرة. لأن راسين وموليير صانعا ساعات، فإذا أردت النظام والدقة فالتمسهما عندهما

لم تكن قصيدة (الأورونت) قط رديئة، كما قالوا، وإنما كانت رائعة جميلة، فيها من الشذوذ قليل، ولكن ثقوا أن من هذه القصيدة أتى الشعر الحديث

وتستطيع يا صديقي أن تسألني الآن عما تشاء. . .

بيبر لاجارد

رأيتم أن من العبث إعداد أسئلة لهذا الشاعر، فلقد حدثكم عما كنت أريد أن أسأله عنه. ولكن. . . ما هو الشعر يا صديقي

جان كوكتو

تحسن الصنع إن سألتني عما تشاء. أما الشعر فهو دارة لا يستطيع أن ينفذ إليها إلا رهط قليل. ولن تجدوا وسطاً أرستقراطياً أشد أحكاماً من الشعر. على أنه يجب أن تعملوا أمراً، ذلك أن الشاعر إذ ينظم قصيدة فيها الشعر الصافي وحده، لا يجد لقصيدته هذه رواجاً، لأن الخاصة وحدها هي التي تفهمها، وكذلك لا يجد الشعر الواضح المعاني ما يلاقيه الشعر الدقيق الفكر. إن نصيب الأول يكون نصيب الزهور المتفتحة التي تذبل سريعاً؛ أما الثانية، فاسمعوا. . . إذا أردت أن تهدي إلى سيدة أو آنسة أزهاراً، أنك تدهشها إذا أرسلت إليها

ص: 12

الورد المتفتح، ولكنه يذبل، أما يجدر بك لتذكرك دائماً أن ترسل إليها براعم الورد لتتفتح بين يديها. . .!

وأنا أعتقد أن القصائد التي لا تحدث ضجة عند نشرها هي التي تخلد وتبقى. هذا بودلير. . . أخرج للناس روائعه، فصدفوا عنها، لأنهم لم يفهموها، ولكنها أصبحت من بعدُ حديث الناس جميعاً. . . أما هو فكان ينظر إليها كأنها أزاهير وحشية في بساتين نائية مجهولة

وربما أصاب الناس في تقديرهم القصائد أحياناً. ربما سمعتموهم يقولون عن شاعر كبير: إنه ليس بشاعر حق، أو عن مطرب بارع: إنه لا يطرب. ذلك لأنهم أحسوا أن شعر ذلك الشاعر لا يهز ولا يثير، ولأن ما أبدعه متقلب ضعيف

إن الشعر يرفرف على العالم من كل نواحيه، ولكن علينا أن نصطفي ونظهر. فإن في الصحف شعرا، ً ولكنه غير منظوم؛ وإن في الحوانيت شعراً ولكن لا يدركه إلا القليل. ألا تنظرون إلى تلك النقوش وتلك الخطوط التي تزدان بها الصحف؟ ألا ترون تلك الأشكال الرائعة، وتلك التماثيل العارية التي ظهرت في معارض البيع؟ إن في ذلك كله شيئاً يبهج النفس، شيئاً اسمه شعر

الحياة ملأى بالشعر يا سادتي. إن مرأى الطائرين الذين تحترق بهم الطائرة، فيضطربون بين ألسنة اللهب، ويموتون على زئير النار، وهم يستمعون بالمذياع إلى رقص الفتيات وضحك الزنوج في مسارح مونتمارتر لمملوء بالشعر. وإن منظر تلك ألام التي أحست الجوع فالتهمت فخذ ابنها الصغير لشعر أيضاً، ولكنه شعر مخيف مجرم يثير الجمهور لأنه يثير العواطف. إن المرء ليستطيع يا سادتي إقامة معرض للشعر يلاقى أعظم نجاح وأكبر تأييد

بيبر لاجارد

أنت لا تريد أن تحدّد الشعر بالنظم، ولهذا كان ما أخرجته للناس شعراً كله، ولكنه شعر منثور. لقد صنفت رواياتك، مثل (توماس) و (الأطفال الأشرار) وغيرهما وسميتها (الشعر الروائي) وعندما تخرج مجموعة من الرسوم الرائعة، أو كتاباً مثل (سر المهنة) تضعه تحت اسم (الشعر التصويري) أو (الشعر النقدي) فهل هناك صلة بين هذه الأنواع كلها أو أن في نفسك رباطاً يربط بعضها ببعض؟

ص: 13

جان كوكتو

كل ذلك شعر ولو لم يكن موزوناً مقفى. وأنا شاعر، والشعر مهنتي، كما أن للنجار مهنة وللحداد صنعة. لكنى لا أحب ما كان فناً منظماً. لقد حاولت أن أحب ما هو منظم فني، ولكني لم أستطيع

الشاعر طليق، والفنان لا يحب النظام. وإن أولئك الشعراء الذين يودون أن ينيروا كل جزء من أجزاء ذاتهم، ثم يطلبون فوق ذلك نوراً وأشعة طول حياتهم - لعظماء أنهم كجيته العظيم. هم يعشقون النور، حتى في اللحظة التي تعرج روحهم فيها إلى السماء. . . ولكنهم قليلون

دع الشاعر. . . إنه يستمد وحيه من كل شيء. . . من كلب حقير ومن ملك كريم إنه يسعى ويفتش لأنها مهنته. . .

- وهل الشعر مهنة؟

- نعم مهنة، ومهنتي قول الشعر

- وهل تستطيع أن تقول الشعر متى شئت

- نعم، أقول الشعر متى أشاء، كما يصنع النجار النضد متى شاء

- إذن لست بشاعر ولكنك ناظم

- إن هذا المعنى للشعر الذي على أنه الوحي الروحاني، لم يعرف إلا بعد رامبو. الدنيا مليئة بالشعر، ولست عبداً، حتى أنتظر الوحي الروحي. . .

إن لنا في الشعر أساتذة، هم شعراء من نوع خاص، لا ينظمون إلا وهم في كهوفهم، ولا يعرفهم إلا قليلون، منهم رامبو، ومالارميه ورايموند روسّه ل. . . هؤلاء كنوزنا التي نفخر بها. هؤلاء هم الشعراء حقاً، منهم نستلهم شعرنا، وعليهم نتعلّم كيف ننظم وكيف نقول.

صلاح الدين المنجد

ص: 14

‌بعد الفراق

الدكتور إبراهيم ناجي

أَجَلْ أهواكِ أنتِ مُنى حياتي

وأنتِ أحب من بَصري وسمعي

وهل أنساكِ؟ كلا، كيف أنسى

هوًى قد كان إلهامي ونَبْعي!

لبستُ من التَّصبُّرِ عنكِ درعا

فها أنا تنزع الأقدار درعي

وها أنا لا أُداري عنك أمرا

عَرَفْتِ محبَّتي ورأيتِ دمعي

وهل يُخفي التنكرُ ألفَ جرحٍ؟

وهل يُخفي التستر ألفَ صدع؟

تلاشت قوتي وغدا فؤادي

كأن خفوقَه خلجات نزع

أبِّشره فيرقص في ضلوعي

وأنظر سود أيامي فأنعى

وقد نضب الخيال وغاض طبعي

ومات على حياض اليأس زرعي

أُجَرْجِرُ وحدتي في كل حشْد

وأحمل غُربتي في كل جمع

ناجي

ص: 15

‌الفروق السيكلوجية بين الأفراد

للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد

الفروق العقلية (الذكائية)

في سنة 1857 ولد الفريد بينيه السيكلوجية الفرنسي الشهير، وتخرج في جامعة الصربون. ولما نال دبلوم التاريخ الطبيعي سنة 1890 عين مساعداً للأستاذ بوني مدير معمل علم النفس وعلم وظائف الأعضاء في الصربون. وفي سنة 1894 نال بينيه الدكتوراه، وتقاعد الأستاذ بوني فحل الأول محل الثاني في إدارة معمل علم النفس. ومن ذلك الحين بدأ كلاهما - وانضم أليهما آخرون - في تحرير مجلة (العام السيكلوجي) ' هذه المجلة لسان الحركة السيكلوجية الفرنسية. وفي هذه المجلة - التي سنشير إليها في مواضع مختلفة من هذا المقال - نشر بينيه كثيراً من المقالات عن الذكاء ومقاييسه والفروق الفردية. ولكن حياته الحافلة بالبحث والإنتاج لم تطل، فقد عاجلته المنية سنة 1911

بدأ بينيه تجاربه لمعرفة الفروق العقلية بين الأفراد بقياس الذكاء بالطرق التي كانت معروفة في عهده في معامل علم النفس، كطرق جولتن وكاتل - التي أشرنا إليها في مقالات سابقة - وكقياس سرعة الإحساس، وسرعة الحركة، وسرعة الرجع. ولكنه ما لبث أن نبذ هذه الطريقة التي سماها (طريقة الآلات النحاسية) وفكر في طريقة لا تحتاج إلى آلات بل إلى قلم وقطعة ورق وقليل من الحبر كما يقول هو

وفي سنة 1896 اختبر ثمانين طفلاً بعرض صور متشابهة عليهم، ومطالبتهم بالإجابة عن أسئلة وضعها لهم. وقد وصل بتجاربه واختباراته هذه إلى أن هناك ذكاء وراثيا وثقافة مكتسبة يجب التمييز بينهما، وأنه لقياس الذكاء الوراثي يجب أن تكون الاختبارات متعددة ومتنوعة بحيث نقيس كل مظاهر القدرة على التكييف، تلك القدرة التي سماها الذكاء

كذلك قرر بينيه أن الذكاء إنما يظهر في التصرفات التي تحتاج إلى بناء وتركيب أي أكثر من التي تحتاج إلى تحليل وفي معالجة الأمور التي تحتاج إلى تنظيم أكثر من أدراك هذه الأمور وتمييزها (أو في كلمة واحدة: الذكاء هو عملية تكوين وتركيب). ومن أجل ذلك استعمل بينيه لقياس هذا الذكاء اختبارات تحتاج إلى بناء وتكوين، كأن يعطي الطفل

ص: 16

صورة مقسمة إلى عدة قطع ويطلب إليه تكوينها، أو قطعة نثرية محذوفاً بعض أجزائها ويطلب إليه ملء الفراغ بكلمات أو جمل مناسبة

راع رجال التعليم في باريس في بضع السنوات الأولى من القرن الحالي كثرة عدد المتخلفين في التحصيل من تلاميذ المدارس بالمدينة. ولم تكن تظهر على هؤلاء التلاميذ علامات الغباء أو ضعف العقل. وقد حاول أولو الأمر أن يعرفوا سبب هذا التخلف، أهو عدم الانتباه، أو إهمال المدرسين، أو قلة ذكاء التلميذ حقيقة، فكونت وزارة المعارف الفرنسية سنة 1904 هيئة - من أعضائها بينيه - لفحص الأمر سيكلوجيا، وإبعاد ضعاف العقول وإرسالهم إلى مدرسة خاصة بهم. وقد كان المتبع حتى ذلك الحين أن يعرف ضعاف العقول بطريق الفحص الطبي وآراء المدرسين

شرع بينيه في وضع مقياس موضوعي يعرف به درجات الذكاء بين الأفراد، ويستطيع به تمييز شواذ العقول من غيرهم. وكان كلما وضع نوعاً من المقاييس جربه ثم عاد إلى إصلاحه وتهذيبه ودراسة النقد الموجة له. وكان أول مقاييسه ما وضعه مع زميله تيودر سيمون سنة 1905. ويمتاز هذا المقياس بأنه وضع ليناسب أسناناً مختلفة، وبتدرجه، وبتدرج في الصعوبة وفقاً لنمو العقل. ولكي نعرف الفرق العقلي بين فردين أو أكثر يجب أولاً أن يكونا متساويين في السن حتى نقارن نتائج اختبارهم. ويمتاز هذا المقياس أيضاً بأنه لم يقصد به قياس الاستعدادات الخاصة، بل قياس الذكاء العام وفي سنة 1908 نشر بينيه وسيمون مقياساً منقحاً للذكاء، نجد فيه لكل عمر مجموعة خاصة من الأسئلة. فإذا ما أجاب الطفل إجابة صحيحة عن هذه المجموعة من الأسئلة كان عمره العقلي (ع. ع) يناسب عمره الزمني (ع. ز)، ويسمى ذكاؤه في هذه الحال متوسطاً. مثال ذلك أن يسأل الممتحن الطفل:(1) ما اسمك؟ (2) أنت ابن أو بنت؟ (3) ما عمرك؟ فإذا أجاب الطفل صحيحاً عن السؤالين الأول والثاني كان عمر الطفل العقلي (ع. ع) أربع سنوات، إذ أن تجارب بينيه المتكررة أثبتت أن الطفل متوسط الذكاء يستطيع أن يجيب مصيباً عن هذين السؤالين. ولما كان هذا المقياس عبارة عن مجموعة من الأسئلة تزداد صعوبة درجة بعد درجة كلما ازداد سِنُّ الممتحن أطلق عليه بالفرنسية أي المقياس السلّمي للذكاء. وعيب هذا المقياس أنه لا يعطي أي فكرة عن العلاقة بين العمر الزمني والعمر العقلي، فقد يتفق

ص: 17

اثنان في عمر عقلي واحد - ست سنوات مثلاً - ويكون العمر الزمني لأحدهما خمس سنوات وللثاني عشراً.

وقد شاع هذا المقياس في أوربا وأمريكا، فاستعمله ديكرولي في البلجيك، وجودارد في الولايات المتحدة، وبوبرتاج في ألمانيا وفيراري في إيطاليا

لم يمض على هذا المقياس ثلاث سنوات حتى نشر بينيه - باسمه وحده - مقياساً آخر منقحاً سنة 1911، وكان هذا آخر عمل قام به في حياته. وقد احتوى هذا المقياس على أربعة وخمسين اختباراً موزعة على السنوات المختلفة من سن الثالثة إلى السادسة عشرة. وكان هذا المقياس كسابقه يعين عمر الفرد العقلي من غير تحديد للنسبة بينه وبين العمر الزمني. وقد ترجم هذا المقياس أيضاً إلى لغات أخرى ولاقى رواجاً كبيراً في أمريكا. وفي سنة 1915 نشر البروفسور ترمان - بمعونة زملائه بجامعة استنفورد - ترجمة منقحة ومهذبة ومزيدة لمقياس بينيه سيمون وتعرف هذه الترجمة باسم (مقياس بينيه إستنفورد المنقح).

ويحتوي هذا المقياس على تسعين اختبارً، لكل سنة ستة اختبارات عادة. وهاك بعض هذه الاختبارات:

يطلب المختبر من الطفل البالغ ثلاث سنوات:

1 -

أن يشير إلى أنفه ثم عينه ثم فمه ثم شعره، وينجح الطفل إذا عرف ثلاثة من أربعة

2 -

يعرض المختِبر على الطفل مجموعة مكونة من (مفتاح، مليم، مبراة مقفلة، ساعة، قلم رصاص) ويطلب إليه أن يذكر أسماء ثلاثة أشياء من هذه الستة

3 -

يعرض على الطفل صورة لمنزل هولندي (أو مصري) وأخرى لنهر، وأخرى لمكتب بريد، ويطلب منه أن يذكر أسماء الأشياء التي في الصور واحدة بعد الأخرى

4 -

أن يسأل المختبر الطفل الابن (أنت ابن أو بنت؟) أو يسال البنت (أنت بنت أو ابن؟)

5 -

أو يسال الطفل عن اسمه واسم أبيه أو عائلته

6 -

أن يكرر الطفل وراء المختبر ثلاث جمل بسيطة مثل: أنا عندي كلب صغير. الكلب جرى ورا القط. في الصيف الشمس سخنة

ولم أذكر هنا طريقة الاختبار ولا نسبة النجاح في كل اختبار لأن هذا مما يطول ذكره،

ص: 18

ولأن المقصود هنا إعطاء القارئ فكرة عن نوع الاختبارات المستعملة لقياس الذكاء

ويمتاز مقياس ترمان بأنه استعمل لأول مرة نسبة الذكاء المسماة بالإنجليزية وهي عبارة عن نسبة العمر العقلي إلى العمر الزمني مضروبة في 100،

وقد أصبحت هذه النسبة معتمدة في مقياس الذكاء وبها يمكن معرفة الفرق بين ذكاء فرد وذكاء آخر مختلف عنه في العمر. ووضع علماء النفس الجدول الآتي لمعرفة نوع ذكاء الفرد بعد اختباره

نسبة الذكاء الفردي

فوق 140

120 -

140

110 -

120

90 -

110

80 -

90

70 -

80

دون 70

النوع

عبقري

فائق جداً

فائق

متوسط

غبي

على شفا ضعف العقل

ضعيف العقل

فإذا فرض أن عندنا طفلاً عمره العقلي 9 سنوات وعمره الزمني 10 سنوات، وأردنا معرفة نوع ذكائه أجرينا العملية البسيطة الآتية:=90، وهي نسبة الذكاء، وإذا نظرنا إلى الجدول السابق وجدنا أن صاحبنا متوسط الذكاء.

ص: 19

(بخت الرضا - السودان)

عبد العزيز عبد المجيد

ص: 20

‌من عيون الأدب الإنجليزي

مرثية في مقبرة ريفية

لتوماس جراي

للأستاذ محمد مندور

المدرس بكلية الآداب

ليست معرفتي (بجراي بنت ألامس. ولقد سمعت شباب الجامعة بكمبردج يرددون مقطوعاته، وفي جمال اطرادها ما ينسيني هوى نفسي وعهدي بها نزاعة إلى الجائش المضطرب اضطراب نزوات الحياة عندما يسحق عمقها. ومن قديم وصف بوالو هذا النوع من الاضطراب الجميل بأنه منبع آيات الفنون

ولطالما سألت نفسي عن سر إصغائها إلى (جراي) على بعد البون بين ما ألتمس في نفوس الشعراء وما جبل عليه هذا الصديق، فما وجدت جواباً غير راحة النفس المضناة تجد في اطراد النغمات مسكناً لما يجيش فيها بالألم

وفي الحق أن الشعر الإنجليزي لا يعرف قصيدة أمعن من مرثية جراي في اطراد الوزن ونقاء المبنى. فالقصيدة تنتظم رباعيات متعانقة القوافي متلاحقة التفاعيل في غير زحاف ولا علة، بحيث ينطلق فيها البصر، والنفس تلاحقه في يسر ينزل منها منزلة قطرات المطر تتساقط موقعة على زجاج نافذة، فإذا بالنفس قد هدأت وسكن جائشها إلى اطراد النغم. ومن منا يتردد إذن في صداقة رجل كهذا؟

لم يعرف (جراي) ثورات النفس ولا مغامرات الهوى، وفي انتظام حياته ما يملأ القلب إعجاباً، فقد أنفق عمره يطلب العلم بكمبردج، وكأني به يطلب إلى العلم سلوى عن طفولته البائسة. طفولة طفل يولد لأبوين متفاوتي المشارب حتى ليستحيل على أحدهما أن يسكن إلى الآخر

ولأمر ما يحلو لي دائماً أن أتصور (جراي) رقيق النفس رقة النسمات المتهافتة؛ وفي ميوله ما يغربني بهذا الظن، فلقد أولع الرجل أشد الولع بأغاني تلك الأغاني الشعبية التي كانت ولا يزال يرددها سكان جبال إبقوسيا، وساقه أوسيان إلى أساطير البلاد الشمالية

ص: 21

يستلهمها سذاجة الشعر قانعاً بما تعطيه من بديهي المعاني دون ما يمكن أن يكون خلف ذلك من رمز بعيد

وما كان لجراي وتلك طبيعته أن ينصرف عن آداب روما وأتينا ونفوس منشئيها في غضاضة نفسه يوم ابتسمت الإنسانية ابتسامة الطفل توقظه من مهده رقة الصباح. . . نعم ابتسمت الإنسانية فملأت الطبيعة بخيالها الضاحك، وإذا بعرائس الشعر ترقص في كل مكان، وإذا بعذب الأساطير يوقع نغمات ذلك الرقص

هامت نفس (جراي) في هذا العالم المسحور فطرب لآثارهم أيما طرب وود أن لو كان من عشيرتهم فقال الشعر باليونانية وباللاتينية، حتى لأحسب هذا الطرب قد بلغ في نفسه مبلغ الشهوة، ونحن في ذلك لا نتجنى عليه مادمنا نؤمن أن نفساً لا تعرف الشهوة لا يمكن إلا أن تعقم إن لم تتحطم

وأنفق جراي حياته بغير زواج ولا ولد بين جدران كمبردج يستمع إليها تقص من أنباء الماضي أجمل القصص، واطردت حياته على تلك الوتيرة حتى دلف إلى سكون الموت

عاشر جراي هومير وفرجيل، فرقت نفسه، ونزعت إلى المثل الأعلى نزوع الطبع المصقول. واتفقت له أثناء ذلك رحلات رأى فيها من جلال الطبيعة ما يسمو بالقلوب قدر ما يلهب الخيال. وكلنا يذكر كيف قاد روسو تلميذه إلى قمم الجبال ليهديه السبيل إلى ربه

أتى (جراي) إلى الألب بفرنسا وحط رحاله إلى جوار (جرينوبل) حيث يقوم معبد الرهبان المتوثقين

هنالك تنهض الجبال عاتية وقد كستها الغابات يرتفع إليها البصر فيعود محملاً بأعمق الآيات ترددها النفس بذكر الله. هنالك يملأ القلب شعور ديني بتفاهة الحياة وإذا بنا نود أن لو استحلنا إلى مثل دمعة عيسى التي زعم الشعراء أنها استحالت إلى ملاك رحمة وسعت رحابه كل نفس حتى نفس إبليس. هنالك يستقر في الحواس إحساس بالجمال يتمثل صوراً تأخذ النفس كارهة أو راضية إلى حيث تلتمس أطيب المثُل. وما غفل جراي عن شئ من هذا، ففي خطاباته لصديقه لكل ذلك أجمل الذكرى

وخالس (جراي) الزمن مرة أخرى فانطلق إلى حيث تنتثر البحيرات الصغيرة بين الجبال فيما يشبه قبلات العذارى على وجه السديم، انطلق إلى إيقوسيا حيث السكون الرهيب لا

ص: 22

تحركه إلا نغمات الناي يرسلها الرعاة من أعلى الجبال فتنساب بين الوديان أو تطفو على سطح المياه وكأنها من روح الله، ونفذ كل ذلك إلى قلب (جراي) فقيد (بيومياته) التي طالما باركناه أن تركها لنا دليلاً يأخذ بنا إلى حيث نرجو أن نجد الجمال

وكرت الأيام و (جراي) يطهر من نفسه إلى أن بلغ ولعه بالمثل الأعلى تلك الدرجة الجميلة التي نجدها عند الكثير من هؤلاء المطهرين الذين لا يزال إنجلترا تغص بهم رغم وفرة من ترحلّ منهم إلى أمريكا حيث وجهوا النفوس هذا الاتجاه الذي أنتج أمثال (نلسن) ممن بلغ بهم الإيمان بالمثل الأعلى مبلغ السذاجة المقدسة

وما كان جراي بحاجة إلى روسو ليحنو على الضعفاء أو ليقدر سذاجة النفوس قدرها، وفي نفسه وفي ملابسات تلك النفس ما يقوده إلى حيث انتهى في تلك المرثية الخالدة التي كفلت للشاعر الخلود، والتي لم تكد تنشر سنة 1750 حتى تناقلتها جميع الألسن، وحتى أخذت الأمهات أطفالهن بحفظها كما نفعل نحن ببعض آيات كتابنا الكريم، وأكبر ظني أنه حتى اليوم لا تزال تلك القصيدة أكثر القصائد انتشاراً بين القوم في جميع أنحاء إنجلترا

قال (جراي):

1 -

دق ناقوس المساء ينعى النهار المدبر، وانسابت القطعان متهادية ثاغية خلال المروج، واتخذ الفلاح المضني سبيله إلى مأواه في خطى متثاقلة مخلفاً العالم لي وللظلام

2 -

وتضاءل ما بقى من ضوء خفيف، فامحت من البصر آفاق الطبيعة، وأخذ سكون رهيب يسود الفضاء فلا تسمع إلا الجعل يرسل دوي أجنحته في كل فج، أو أجراس القطعان تنهنه ما انبسط من مروج تنشر فوقها غفلة الكرى

3 -

أو نعيق البومة المحزن يحمل إليك من برجها النائي وقد كساه متسلق النبت ما ترسله من شكوى إلى القمر إذ مر بمأواها العتيق الموحش عابرو السبيل فأقضوا منها المنام

4 -

تحت هذا النّشم والى ظلال هذا السرو سكن أجداد القرية في نومهم الأخير، كل في قبره الضيق حيث ترتفع تلك الكثبان المنهارة وقد علاها ضعيف الحشائش

5 -

رقدوا في متواضع مضاجعهم رقدتهم الأبدية، فما لنسمات الصباح العطرة، وما لتغريد النغير يرسله من أسقف أكواخ العشب، وما لصياح الديك النافذ، أو لما يتردد صداه من صوت البوق، أن يوقظ لهم رقدة

ص: 23

6 -

رقدوا فما للموقد أن يرسل إليهم بعد اليوم لهيبه؛ وما لربة بيتهم أن تخف إلى مهامها إذا جاء المساء، وما للأطفال أن يهرولوا إلى أمهاتهم يتمتمون إليهن رجعة أبيهم، ومالهم أن يتسلقوا أرجله يتناهبون ما يتقاتلون عليه من قبلات.

7 -

لكم تساقط الحصاد تحت ضربات مناجلهم! ولكم شقت أسنة محاريثهم ما شقت من جوف الغبراء! بأي نشوة كانوا يسوقون قطعانهم إلى الحقول؟ وبأي يسر كانت أشجار الغابات تطأطأ لهم من هاماتها ما أعملوا فيها معاولهم القوية؟!

8 -

ما للكبرياء أن تحقر جهودهم المنتجة ومسراتهم العائلية وذكرهم المغمور؟ وما لعظماء هذه الحياة أن يبتسموا احتقاراًلصغار المهام التي شغلوا بها أيامهم؟

9 -

وألقاب الفخار، وأبهة السلطان، وكل ما يمنحه المال والجمال. كل هذا ساعة الحتف له بالمرصاد، إذا أن سبل المجد لا تقود إلى غير القبر!

10 -

وأنت أيها المتغطرس: ليس لك أن تلومهم إذا لم تر الأسلاب قائمة فوق قبورهم تخلد ذكراهم حيث تتردد أناشيد النصر في القباب الممتدة، وتحت الأقواس المزينة بالتماثيل، حاملة نغمات المديح. . .

11 -

وهل لأجمل الأواني نقشاً، أو لأنطق التماثيل بالحياة. أن ترد إلى مأواه ما تصاعد من نفس؟ وهل لأصوات الفخار أن تبعث الحياة في صامت التراب؟ وهل للملق أن يلين من مسامع الموت البارد القاسي؟!

12 -

من يدرينا لعل في هذه البقعة المهملة قلباً كانت تسكنه أنوار السماء؟ أو يداً كانت تستطيع أن تأخذ بصولجان الملك، أو توقظ الناي إلى حد الإلهام؟

13 -

ولكن العلم لم ينشر أمام أبصارهم صفحاته الطويلة التي أغناها بأسلاب الزمان. فلقد أطفأت برودة الفقر نبل حماستهم، وجمدت مجرى العبقرية في نفوسهم.

14 -

كم من جوهرة نقية الشعاع صافيته، ظلت مخبوءة في أعماق المحيط؟ وكم من زهرة تتورد بعيداً عن الأبصار، ثم ترسل عبيرها هدراً إلى بيداء الفضاء؟

15 -

من يدرينا، لعل هنا يرقد (هامدن) قريته وقد ثبت بقلب جسور لصغار الطغاة بريفه، أو (ملتون) آخر صامتا ًعارياً عن المجد، أو (كرومول) ثانٍ نقى اليد من دم وطنه.

16 -

أما تحريك أيدي النواب بالتصفيق، وأما احتقار صيحات التهديد يرسلها الجائعون

ص: 24

والمتألمون، وأما در الخير على الأرض المتهللة، وأما قراءة تاريخ الشعوب في أعين أهلها. . .

17 -

فذلك ما حرمهم منه القضاء. على أنه لم يمنع فقط حميد خصالهم عن أن تزهر؛ بل منع أيضاً جرائمهم من أن تستفحل. منعهم أن يخوضوا الدماء إلى العروش وأن يسدوا منافذ الرحمة عن العباد

18 -

منعهم أن يخفوا وخزات الضمير إذا أخفيت الحقيقة التي يعلمونها، أو أن يطفئوا حمرة الخجل البريء. منعهم أن يلتمسوا من آلهة الشعر يضرمون بها أضواء المباخر التي يكدسونها ف وق مذابح الكبرياء والرفاهية

19 -

عاشوا بعيدين عن المعارك المزرية تعتركها الجماهير المعتوهة فما ضلت بهم المتواضعة. عبروا وادي حياتهم الوارف البعيد عن الجلبة بخطى صامتة مطردة

20 -

على أنه حفظاً لعظامهم أن تهان ينهض بالقرب من هذا المكان تمثال ضئيل تزينه قواف خشنة وتماثيل ممحوة الصور. نهض هذا التمثال ليستدر عابر السبيل واجب الزفرات

21 -

أسماؤهم وأعمارهم خطها آلهة مقلة من آلهة الشعر لتكون لهم بمنزلة المجد والرثاء فانتثرت حولهم النصوص المقدسة تحدث حكيم الريف كيف يموت

22 -

إذ ما من نفس تحس أنها ستسلَم فريسة إلى النسيان وتُسلِم تلك الحياة السارة المقلقة معاً، أو تترك تلك الآفاق الدفيئة آفاق الضوء دون أن تلقي إلى الوراء نظرة الحسرة، نظرة الرغبة المتباطئة. . .

23 -

فالنفس الراحلة تسكن إلى صدر محبوب، والأعين المغلقة تستدر دموع الوفاء؛ ومن أعماق القبور يصبح صوت الطبيعة كما لا يخمد الوميض فيما يخلف من رماد

24 -

أما أنت وقد حرصت على هؤلاء الموتى المغمورين فقصصت نبأهم في شعرك الساذج، فمن يدرينا لعل نفسا ًقريبة إلى نفسك تقودها الوحدة إلى السؤال عن مصيرك

25 -

ولعل شيخاً أبيض الرأس من شيوخ الريف يجيب: - طالما رأيناه عند انبلاج الصباح يكتسح بخطاه السريعة قطرات الندى مهرولاً إلى لقاء الشمس فوق القمم الخضراء

26 -

وهنالك إلى جذع البلوط المتمايل - البلوط الذي يرسل جذوره المختلطة عالية

ص: 25

بالمرتفعات - كان يستلقي ماداً كل جسمه تحت أشعة الظهيرة ثم يطيل النظر إلى الجداول تخر بجواره.

27 -

طوراً يهيم بتلك الغابات وعلى شفتيه ابتسامة السخرية وقد أخذ يردد أحلام الطريق، وطوراً ينطلق في سبيله مقوس الظهر شاحب اللون من البؤس كمن تخلى عنه أحبابه أو ذهبت بعقله الهموم أو حطم نفسه حب عاثر

28 -

وفي ذات صباح تفقدته فلم أجده لا على التل المعهود ولا على حافة البراري ولا إلى جذع شجرته المحبوبة، وجاء صباح آخر فما وجدته إلى جانب الجداول ولا بقمة التل بل ولا بالغابة.

29 -

وفي اليوم التالي رأيناه محمولاً في طريقه إلى (القبر في حفل الموت وأناشيد الغناء تصحبه. أدن واقرأ (مادمت تستطيع القراءة) تلك المرثية المنقوشة على الحجر تحت أشواك هذه الشجرة العتيقة):

ما على القبر

1 -

تحت هذه الأرض يرقد في راحته الأخيرة شاب جهله المجد كما جهلته الحظوظ. كان نصيبه من العلم نصيباً متزناً بينما وسمته الأحزان بميسمها

2 -

واسعةً كانت طيبةُ قلبه، ومخلصة كانت نفسه، وبقدر تلك الطيبة وذلك الإخلاص كافأته السماء

لقد جاد على البؤساء بكل ما يملك، وما كان يملك إلا دمعة. أنالته السماء كل ما تمنى، وكل ما تمناه كان صديقاً

3 -

لا تحاول أن تفض الغلاف عن حسناته، أو أن توقظ سيئاته من مكمنها المخيف. فقد اجتمعت الحسنات إلى السيئات متساوية في أمل مضطرب مفزع: أمل من أوى إلى أحضان أبيه، أحضان ربه

ولو علم (جراي) يوم أن كتب تلك المرثية الخالدة أنها ستفتح له أبواب المجد إلى الأزل لعلم أن فتاه ما كان للمجد أو للحظوظ أن تنساه، وفي نفسه هذا المزيج العجيب من قوة الفكر وروعة التصور ورقة العاطفة

تلك الرقة التي حملته على أن يحصر كل ما يتمنى أن تهبه السماء في صديق. وفي الحق

ص: 26

أني لا أدري أنبل من نفس تستطيع أن تخلص الصداقة، والصداقة أبعد المشاعر عن غرائزنا التي نجدها عادة في أسس كل شعور قوي.

قهرت الصداقة الحب في نفس جراي الصافية الرقيقة، بحيث لو أنني أردت أن أضع على لسانه عبارة عن صداقته لهوراس ولبول، لما وجدت خيراً من كلمة مونتين الخالدة، وقد فقد صديقه لابويسيه:(لقد كنا نقتسم كل شيء مناصفة، حتى فقدته فأصبحت اليوم لا أصيب خيراً إلا أحسست أني من صديقي العزيز النصف الذي كان يؤول إليه).

وأما اليوم، فليس لنا إلا أن ندعو الله أن يبارك تلك الأرواح الظاهرة في ملكوت رحمته.

محمد مندور

ص: 27

‌من وحي الديوان

لَيْلَى

الأستاذ إبراهيم العريض

قلتُ يوماً لابنتي ليلَى - وقدْ

أخذَتْ ديوانَ قيسٍ تتغنَّى

فكأنَّ الحُسنَ أولاها يداً

فأرادتْ باسمهِ أن تتجَّنى -

(طِبت يا ليلايَ نفْساً فافهمي

ليس كالشاعر في الأرض معنَّى

هُوَ مِن أحلامهِ في جَنَّةٍ

فإذا حدّث عنها قيل جُنَّا

كلُّنا طائِرُهُ في قَفصٍ

إنما يُطلِقُهُ المجدودُ منّا

لو درَى الضاحكُ في سَكرتهِ

أنّه يشرَبُ دمعاً لتأنى

والليالِي يتطاولنَ إذا

سقطَ النَّجمُ الذي نوّر هُنَّا

قُمْنَ في عافيةٍ مِن حُبِّهِ

يتباهَيْنَ به ما بَينهنَّا

يحسَبُ الناسُ جَواهُ أدباً

قَلّ مَنْ شارَكه فيما أَجنَّا

ثمّ يَطوِي لَيْلهُ صُبْحٌ فلا

هو للحبِّ ولا من حَبهُنّا)

فأجابتني غناءً في الصِّبا

بالذي حيّرَ مَن أكبرُ سنّا

(لا تسلني - فوجودي عدمٌ

طائرُ الخُلدِ هنا كيف اطمأنّا

هُوَ يَهفو لجمالٍ رُبما

خفيَت آثارُه قي الكوْن عنّا

فإذا شاهدَهُ في رَوْضةٍ

أو سحابٍ مثَّل الإحساس فنّا

والذي يُطرِبُنا مِن نَغَمٍ

مسترقَّا كلّما الليْلُ أَجنَّا

لم يكنْ غيرَ نِياط الحبِّ في

قلبهِ كالوَترِ الحسّاسِ رَنّا

هُوَ في نَشْوَتهِ يُفضي بها

نَغَماتٍ تمْلأُ الآفاقَ حسْنا

لا تَقُلْ دُنياهُ ظِلٌّ زائِلٌ

فشعاعُ الحبِّ فيها ليسَ يَفنى

لوْ تجلَّتْ قدْرةُ الخلاَّقِ في

لفظةٍ صاغَ لها الشاعرُ معنى)

وانحنتْ فوْقَ يدِي تَلثِمُها

خجلاً حين رأَتْ رأسيَ يُحنى

ثمّ قالتْ وهْيَ تَلهو بالذي

قُلدتْهُ دونَ أن تحملَ مَنّا

حسبُ عِقدي أن حوَى واسطة

مالها في الدُّرِّ صنوٌ فَتُثنَّى

ص: 28

عِشْتَ للشِّعر ولي يا أبَتِي

أنتَ للشِّعرِ ولي ما أتمنَّى

(البحرين)

إبراهيم العريض

ص: 29

‌أفانين

بين الخوارزمي والهمذاني

للأستاذ علي الجندي

- 2 -

حين اطمأنَّ المجلس بالشهود في دار النقيب، تطالّت الأعناق، وشخصت الأبصار، وانتصبت الآذان! فافتتح البديع المساجلة بكلام يجمع بين التهكم والتوريط!: إنما دعوناك لتملأ المجلس فوائد، وتذكر الأبيات الشوارد، والأمثال الفوارد، ونناجيك فنسعد بما عندك، وتسألنا فتُسرَّ بما عندنا. ونبدأ بالفن الذي ملكت زمامه، وطار به صيتك: وهو الحفظ إن شئت، والنظم إن أردت، والنثر إن اخترت، والبديهة إن نشِطت، فهذه دعواك التي تملأ منها فاك!

وقد حسب الخوارزمي حساباً لشيخوخته، فخاف أن تكبو به قريحته في الحفظ والنثر، فآثر المبادهة بالشعر

فقال البديع: الأمر أمرك يا أستاذ

فأجابه الخوارزمي: أقول لك ما قال موسى للسَّحَرة: (بل ألقوا)

فأخذ كل منهما دواة وقلماً، وخط البديع أبياتاً مدح فيها السيد نقيب الأشراف، وفخر بنفسه ما شاء، وأوسع الخوارزمي ذمَّا وسخرياً! منها:

والشعر أصعب مذهباً ومصاعداً

من أن يكون مطيعُه في فَكَّه

والنظم بحر، والخواطر مَعَبرٌ

فانظر إلى بحر القريض وفُلْكه

فمتى تراني في القريض مقصِّراً

عرضّت أذنْ الإمتحان لعَرْكه

أصغوا إلى الشعر الذي نظّمته

كالدرّ رُصِّع في مَجرَّة سِلكه

فمتى عجزت عن القريض بداهة

فدمي الحلال له إباحة سفكه

ونظم الخوارزمي أبياتاً امتنع عن إبرازها فيما يقول الرواة، فقال البديع له: إن البيت لقائله كالولد لناجله، فما لك تعقّ ابنك وتضيمه؟ أبرزها للعيون، وخلصها من الظنون، أما تستحي أن يكون السِّنَّور أعقل منك لأنه يجعُرُ فيغطيه بالتراب؟!

ص: 30

فقال النقيب: انسجا على منوال المتنبي:

أرَقٌ على أرق، ومثلي يأرق

فابتدر الخوارزمي قائلاً:

وإذا ابتدهت بديهة يا سيدي

فأراك عند بديهتي تتقلّق

وإذا قرأت الشعر في ميدانه

لاشك أنك يا أخي تشقّق

أني إذا قلت البديهة، قلتها

عجلاً، وطبعك عند طبعي يرقق

مالي أراك ولست مثلي في الورى

مُتموِّها بالترهات تُمَخرق

إني أجيز على البديهة مثلما

تريانه، وإذا نطقت أصدَّق

لو كنتَ من صخر أصمَّ لها له

مني البديهةُ، واغتدى يتفلق

أو كنت ليثا في البديهة خادر

لرُئيت يا مسكين منّىَ تفرَق

وبديهة قد قلتها متنفّسا

فعل الذي قد قلت يا ذا الأخرق

ثم قال معتذراً عن هلهلة نسجها: هذا كما يجيء لا كما يجب. فقال

البديع: قبِل الله عذرك! لكني أراكَ وفَّقت بين قواف مكروهة وقافات خشنة، كل قاف كجبل قاف: تتقلق، تتشقق، تتفلق الخ فخذ الآن جزاءً عن قرضك، وأداء لفرضك:

مهلاً أبا بكر فزندك أضيق

واخرَس، فإن أخاك حيّ يُرزق

يا أحمقاً وكفاك تلك فضيحةً

جرّبت نار معرَّني، هل تحرق؟

فقال الخوارزمي: يا (أحمقاً): لا يجوز، فإنه لا ينصرف.

فقال البديع: لا نزال نصفعك حتى ينصرف وتنصرف معه! وللشاعر أن يرد ما لا ينصرف إلى الصرف، وإن شئت قلت: يا كَوْدَناً

ثم أردف البديع قائلاً: أخبرني عن قولك في البيت: يا سيدي، ثم قولك: تتقلق، أمدحت أم قدحت؟ فإن اللفظين لا يركضان في حَلْبة، ولا يخطان في خطة

فابتدر النقيب قائلاً: قولا على منوال قول المتنبي:

أهلاً بدار سباك أغيدُها

فارتجل البديع:

يا نعمةً لا تزال تجحَدُها

ومنة لا تزال تكْنُدُها

ص: 31

فاعترض الخوارزمي قائلاً: الكُنُود: قلة الخير لا الكفران. فأنكر الجميع ذلك وقالوا: أما قرأت قوله تعالى: (إن الإنسان لربه لكَنود) أي لكفور

فحمىَ الخوارزمي وقال: أنا اكتسبت بفضلي ديَةَ أهل همذان فما الذي اكتسبت أنت بفضلك؟ فقال البديع: أنت في حرفة الكُدْية احذق، وبالاستماحة أحرى وأخلق، وأما ما لُك فعندي يهودي يماثلك في مذهبه ويزيدك بذهبه. ثم مال على مغن فقال: أسمعنا خيرا، ً فغنى:

وشبّهنا بنفسج عارضيْه=بقايا اللطم في الخد الرقيق

فقال الخوارزمي: أنا أحفظ هذه القصيدة، وهو لا يعرفها. فقال البديع: أخطأت، فإن البيت على غير هذه الصيغة وهي:

وشبّهنا بنفسج عارضيه

بقايا الوشم في الوجه الصفيق

فقال الخوارزمي: والله لأصفعنّك ولو بعد حين!

فرد البديع. أنا أصفعك اليوم وتضربني غداً، اليوم خمر، وغداً أمر! ثم تمثل بقول ابن الرومي:

رأيت شيخاً سفيها

يقوق كل سفيهِ

وقد أصاب شبيها

له وفوق الشبيه

وقفّي على ذلك منشداً:

وأنزلني طولُ النوى دارَ غربةٍ

إذا شئت لاقيت امرأ لا أشاكلُه

أحامِقُه حتى يقال: سجيّة

ولو كان ذا عقل لكنت أُعاقله

ومازال الجدل محتدماً بينهما حتى ضجر الحضور، ورنق الكرى في عيونهم، فتقوّض المجلس، ونام الناس - كعادتهم - في ضيافات نيسابور، ثم انتشروا في الصباح وقد تشعبت آراؤهم في الحكم على الرجلين، تبعاً لاختلاف ميولهم وأهوائهم. وقد شق على جماعة من الفضلاء أن يبلغ الشقاق بين الرجلين هذا الحد الممقوت! فسعوا في إصلاح ذات البين، وحملوا البديع على طلب المصافاة، وهو دليل على أن العدوان بدر منه، فمشى إلى الخوارزمي معتذراً يقول: بعد الكدر صفو، وبعد الغيم صحو!

وأبى كرم الخوارزمي إلا أن يقبل عذره، وزاد على ذلك فدعاه إلى أن يقضي عنده سحابة

ص: 32

يومه مغموراً بأريحيته وتصافى الرجلان، وحل الوئام محل الخصام

ولكن هذا الصلح كان كصلح (فرساي) يحمل في تضاعيفه جراثيم حرب ضروس! فلم يلبث أعداء الخوارزمي والمستوحشون منه أن سعوا في نقضه فهبت ريح الخلاف مرة أخرى شديدة عاتية! فلم يكن بدّ من عقد مناظرة ثانية تكون فصل الخطاب في هذه القضية الشائكة

وكان أن هُيّء مجلس في دار أبى القاسم الوزير، حضره بعض العلية على رأسهم رجل له مكانته وخطره، وهو الشريف العالم أبو الحسين، وكان البديع سنياً متعصباً للأشاعرة، والخوارزمي مصطبغاً بصبغة التشيع، فرهب البديع جانب أبي الحسين، ورغب في استمالته إليه، فمدحه ومدح آل البيت بقصيدة أولها:

يا معشراً ضرب الزما

نُ على مُعرَّسهم خيامَهْ

ثم انثال الناس على المجلس من كل صوب وأوْب، حتى حفل بذوي المثالة من رؤساء المدينة وعلمائها وقضاتها ومتصوَّفها. وأقبل الخوارزمي - بعد لأي - في جمّ غفير من أنصاره ومُرِيديه.

وبعد ملاحاة ومشادة بين المتناظرين، تشبه التحام طلائع الجيوش، اقترح عليهم بعض الحضور أن ينشدا على غرار قول أبى الشيص:

أبقى الزمان به نُدُوب عِضاض

ورمى سواد قرونه ببياض

فابتدر الخوارزمي قائلاً:

يا قاضياً ما مثله من قاضِ

أنا بالذي تقضى علينا راضِ

ومنها:

ولقد بُليت بشاعر متهتِّك

لا بل بليت بناب ذئب غاض

فقال البديع: ما معنى قولك: ذئب غاض؟ فقال الخوارزمي:

ما قلته - هكذا يزعم الرواة - فشهد الحاضرون أنه قاله. فقال: الذئب الغاضي: الذي يأكل الغضا. فقال البديع: استنوق الذئب! صار الذئب جملاً يأكل الغضا!

وهنا هدأت العاصفة بدخول الرئيس أبي جعفر، والقاضي الحربي، والشيخ أبي زكريا الحيري.

ص: 33

على الجندي

ص: 34

‌آلام فرتر

فصل للناقد الإنجليزي (ادوارد شانكس)

الأستاذ أحمد فتحي

. . . الأستاذ الزيات:

ليس (جوته) بجديد عليك، فقد أغنيت المكتبة العربية مذ نقلت إلى الضاد العزيزة روايته الباقية (آلام فرتر).

وليس (ادوارد شانكس) بجديد عليك، فانك لأعرف بأنه في صدر نقاد الأدب في بريطانيا.

وليس قلمي بجديد عليك، فقد أفسحت له الرسالة الزاهرة صدرها على الدوام. . .

ولكن الجديد هو أن يكتب (شانكس) عن (آلام فرتر)، فيمجدها كل هذا التمجيد الذي يتردد صداه في آفاق الدنيا، بينما يحال بين الطلاب المصريين في مدارس الحكومة وبين الانتفاع بما فيها من الفن الرفيع. ولينظر جمهور الأدب بعد ذلك في أي عصر نعيش؟!

(أ. ف)

أكبر الظن أن كتاباً يصدر بهذا العنوان في أيامنا هذه لا يقدر له حظ من النجاح. ولكن (آلام فرتر) قد ظفرت منذ ظهورها بنجاح فائق، وطافت أرجاء الدنيا باسم شاب في السادسة والعشرين من عمره. بل إن هذه القصة بذاتها قد أبدعت طرازاً طريفاً، واستحدثت مدرسة جذبت مناهجها أتباعاً ومريدين لا حصر لهم. كان الحزن على بطل القصة يستأثر بقلوب معظم؛ بل إن الألوف من شباب أوربا كانوا في وقت ما يجهدون أن يرتدوا من الثياب مثل ما كان يرتدي (فرتر). بل إن بعضهم قد جرى شوطه وانتهى إلى مثل غايته فقتل نفسه!

قرأ (نابليون) هذه القصة سبع مرات؛ واستصحابها طوال أيام مغامرته في مصر، بعد ظهورها بعشرين سنة. وحينما مثل (جوته) بين يديه في (إيرفورت) بعد ذلك باثنتي عشرة سنة أخرى، كان موضوع القصة نفسها أهم الموضوعات في كل ما دار بينهما من الأحاديث. ولقد أبدى الإمبراطور للشاعر أنه هضم القصة هضماً جيداً، وأحبها في إخلاص، مما كان له أثر باق في نفس الشاعر

وإننا لنحاول في هذا الفصل أن نعرض للبواعث التي أوحت إلى (جوته) بتأليف قصته

ص: 35

هذه. ففي سنة 1772 فرغ من وضع مسرحية اسمها (برليخنجن) تعتبر في تأثرها بمسرحيات (شكسبير) من بواكر النزعة الرومانتيكية في المسرح الأوربي. ولقد كان لها بهذا الوصف حظ ملحوظ من النجاح. كما كان (جوته) قد كتب في ذلك الحين كثيراً من أروع شعر صباه. يضاف إلى ذلك أنه كان موضع الالتفات إلى جمال قسماته، وإلي ذكائه اللماح، ومظهره الممتاز. غير أن أباه، وكان رجلاً محافظاً شديد القسوة، أراده على أن يرسم لنفسه طريق الكسب في حياته. ومن ثَمَّ رحل ليتم دراسته القانونية في جامعة (ويتزلر). وكانت هذه المدينة حينذاك مقر المحكمة الإمبراطورية في ألمانيا؛ وفيها أحب (جوته) فتاة كانت قد خطبت قبل أن تعترض سبيل حياته إلى رجل آخر. ومنذ بدأ هذا الحب، بدأت فصول قصة (الآم فرتر) التي احتلت مكانها الملحوظ في قلوب الملايين

كان (جوته) في بواكير صباه فتى ملتهب العاطفة متأزم النفس ضيق الصدر مظلم الخاطر، حتى إنه كان يبتئس للخطب قبل وقوعه! ويقدر أنه هالك لا محالة! ولقد كان من آثار ذلك أن رحل عن (ويتزلر) كسير القلب قبل أن تضع الأقدار لقصة غرامه اليائس نهاية حاسمة. ولو أن المعجزة الهائلة كانت وقعت، فآثرت (شارلوت) عاشقها الشاعر الحساس على خطيبها المتبلد الجامد، فأكبر الظن أن هذا الانقلاب لم يكن ليحول بين (جوته) وبين الهرب من بلدة المرأة التي أحبها من كل قلبه، فإن استعداده الفطري للوقوع في حبائل الحب لم يكن يعدله أو يفوقه سوى استعداده الفطري لإيثار العزلة!

لقد زعم بعض من ترجموا له أنه حين رحل إلى (ويتزلر) كان يضيق بأيامه الأولى فيها، لأنه لم يجد فيها فتاة تستأثر بقلبه. غير أنه لم يلبث حين رأى (شارلوت بون) أن وقع في شرك غرامها. كانت في التاسعة عشرة، وكان لها اخوة صغار اثنا عشر توفيت أمهم. وليس من المحقق أن لقاءهما تم على النحو الذي وصفه في لقاء (فرتر وشارلوت) في قصته بعد ذلك، فقد جاء في القصة أن (فرتر) دُعي ليرافق، إلى حفلة راقصة، بضع فتيات وعدنه بأن يجدن له شريكة في حلبة الرقص، فاستأجر لهن مركبة ذهبت بالجميع إلى بيت (شارلوت) التي لم تكن قد أخذت بعد أهبتها للرحيل برفقتهم، إذ لم تكن قد فرغت من تقديم وجبة العشاء لإخوتها وأخواتها الصغار

كان اللقاء على هذا النحو استهلالاً رائعاً لملحمة شعرية بارعة. ومن المحقق أن شارلوت

ص: 36

كانت على أوفر حظ من الجمال والسذاجة والشعور بالواجب. غير أنه كان من سوء حظ (جوته) أن التقى بها بعد أن تمت خطبتها من (ألبرت كتزنر) ولقد كان من سوء حظه أيضاً أنها لم تنصح له بمغالبة عواطفه نحوها قبل أن يفلت من يده زمامها. ولعلها لقيت من الألم ألواناً من أجل نفسها ومن أجل (ألبرت) الذي آثرته آخر الأمر بطريقة عملية إذ رضيت أن تزف إليه دون الشاعر

ولقد كان وضعاً على أكبر درجة من الشذوذ أنهم أمضوا شهور الصيف التالية للزفاف على نحو لا نظير له، إذ كان الشاعر العاشق يلهو حينذاك بدراسة الحقوق، وينفق كل أوقاته ملازماً (شارلوت). وكان فضلاً عن ذلك فتى وسيما ذكي الفؤاد، قد نال من النجاح في حياته الأدبية فوق ما كان (البرت) يصبو إليه في مستقبله. غير أن ألبرت كان منقطع النظير بتسامحه وسخاء ذهنه، فأحب (جوته) ووثق من شارلوت. ولعله قد أدرك بثاقب رأيه أن التسامح كان خير ما يمكن أن يلجأ إليه في ذلك الوضع الشاذ. ويبدو أن (جوته) قد ترك لخياله الحبل على الغارب، فجعل بصور مشاهد المأساة على النحو الذي توحي آلامه، وقد وجدت المأساة خاتمتها بعد ثلاثة شهور رحل بعدها الشاعر إلى موطنه (فرانكفورت) حيث ظل يراسل الزوجين جميعاً برسائل تفيض بأحزانه

على أن فصول هذه القصة على غناها لم تكن كافية لنسج الثوب الرائع الذي ظهرت به (ألام فرتر) بل أتاحت الأقدار لمؤلفها العبقري حادثين آخرين أعاناه على إظهارها في ذلك الثوب الذي لا مثيل له. . .

ذلك أنه التقى في (ويتزلر) بشاب ممتاز المواهب اسمه (أورشليم) ولم يلبث هذا الشاب أن أخفق في غرام له فقتل نفسه!

وهنا اتخذت القصة خاتمة مقبولة. ولكنه لم يكتبها في ذلك الحين أيضاً، بل هيأت له الأقدار فصلاً بارعاً مما اتفق له من فصول حياته الحقيقية نقله إلى حيث صبه في صلب قصته الخالدة. إذ حدث أنه حل ضيفاً بمنزل كهل من ذوي قرباه اسمه (بيتر برنتانو) كانت له زوج حسناء اسمها (ماكسمليان) لم يرق له ما يبدى الشاعر الشاب من الاهتمام بأمرها. فآثر أن يضع حداً لضيافته وطرده من بيته بدافع من الحرص على الفضيلة! وبعد ذلك مباشرة انزوى (جوته) في عقر داره وعكف على كتابة قصته الخالدة، فظهرت أول

ص: 37

طبعاتها عام 1774

كان ظهور هذا الكتاب أشبه ما يكون بالقذيفة المفاجئة. وكانت شارلوت وزوجها ألبرت أول من شعر بذلك. إذ أن جوت حين آثر النهج الواقعي في تسجيل حوادث القصة لم يغير أسماء أبطالها! وإن كان قد غير من سياق حوادثها ومميزات الأبطال أنفسهم، فألصق بألبرت كثيراً من نقائص قريبه برنتانو، تلك النقائص التي كان يعلم أن البرت بريء منها تماماً والتي جعلها ذات الأثر الفعال في انتحار بطل قصته (فرتر)

ولقد تحدى (جوته) مواطنيه جميعاً في تقدمته إليهم إذ زعم أنهم لا يقدرون قيمتها في نظر الجماهير الأخرى ولا يقدرون قيمتها بالنسبة إليهم أنفسهم. ولم يكن مسرفاً في هذا التحدي، لأنه إنما أصاب الشهرة في وطنه بوصف أنه مؤلف (برليخنجن) وحسب، بينما استطاعت (آلام فرتر) أن تتخطى الحدود إلى سائر بلاد الأرض، وأن تغزو أفكار الشباب حيثما وقعت في أيديهم، بما تحمل من صور العبقرية الفذة. وإن كثيرين من هؤلاء قد رسم خيالهم (فرتر) كإنسان نبيل القلب غني العاطفة حي الإنسانية؛ لفظته الحياة فآثر عليها الموت. ولقد بلغ من تأثرهم بصدق هذه الصورة أنهم آمنوا بأن الحياة ليست إلا هذا اللون من الإخفاق الذريع، فجروا مع (فرتر) إلى نهاية الشوط، وقتلوا أنفسهم!

ولقد تبين للمتأخرين من رجال الإصلاح الخلقي أن (فرتر) هذا قد زين الانتحار للشباب. وهذه حقيقة يصعب إنكارها، بل هي وثيقة تسجل لمبتكر شخصية (فرتر) مجداً أبقى على الزمن الباقي من الزمن! ولكن شراً من ذلك أنهم أرغموا (جوته) على أن يضع أبياتاً عقيمة ينطق بها (فرتر) في لحظاته الأخيرة، ناصحاً للشباب بألا يحذوا حذوه. ولكن إضافة هذه الأبيات لم تكن لتجدي في الواقع شيئاً، وكل ما ثار حول الكتاب من النقد إنما كان كله إعلاناً زاد رواجه وساعد على تداوله

ولا يتسع المقام لتعقب الآثار الأدبية التي أحدثها ظهور هذا الكتاب، تلك الآثار التي عبرت إلى القرن العشرين وظهرت في شخصيات الأبطال القصصيين الذين ابتكرهم أمثال (بيرون) و (شاتوبريان). غير أن ثمة ملاحظة أخرى يجب أن تضاف إلى ما تقدم عن أثر الكتاب في حياة مؤلفه نفسه. إذ لم يقدر له أن يصيب من النجاح في حياته مثل ما أتاح له هذا الكتاب وهو لم يتخط السادسة والعشرين. وقد يكون لقصته الأخرى (فاوست) عدد

ص: 38

أوفر من القراء في هذه الأيام، ولكن لم يكن لها مثل ذلك في أول عهدها بالنشر. وستظل شهرة (جوته) قائمة إلى ما شاء الله بوصف أنه مؤلف (فرتر) وبهذا الوصف دعاه (الدوق كارل أوجست) إلى قصره في (فيمار) حيث بقى إلى أن وافاه القدر وهو في موضع الصدارة بين وزراء الدوق. وإنه إذا تعسر الحكم بوفرة عدد من يقرأون هذا الكتاب في أيامنا الراهنة، فإنه من الكتب التي يتعذر إهمال الحديث عنها. فقد نظم (جوته) فيه أحسن الشعر الذي لم ينظم بعده ولا قبله مثيل له أو خير منه. بل أن هذا الشعر ليبز ببساطته ووضوح تعبيره كل ماعداه من شعر الألمان جميعاً إلى اليوم. والكتاب بعد ذلك وقبل ذلك، حافل بجمال متحرر من كافة القيود والأوضاع، حافل بروح الشباب التي أبرزها الشاعر مرة أخرى في شعر غنائي رائع زان قصته الأخرى (فاوست) تلك الروح التي ودعته منذ ودع شبابه!

(الجيزة)

أحمد فتحي

ص: 39

‌من الأناشيد المرفوضة

للأستاذ علي الجندي

نحنُ جُندُ النيلِ أبناءُ الفِداءْ

وكماةُ الحربِ أبطالُ الكِفاحْ

نَرِدُ الهيْجاَء في ظلِّ اللواءْ

كأُسود الغابِ أو هُوجِ الرِّياح

في خُطانا النصرُ والفتحُ المبينْ

نحنُ أبناءُ الصناديدِ الغُزاهْ

سادةُ الدُّنيا وأقيالُ الأُممْ

اقرأِ التاريخَ واحفظْ ما رواهْ

عن صلاح الدين أو باني الهَرم

وكذا الآباءُ تُوِحي للبنينْ

نحنُ في البرِّ وفي البحرِ أُسودْ

ونُسورٌ بينَ أعنانِ السماءْ

سجَّلَ النصرَ لنا لوْحُ الخلود

فوقَ ظهر الأرض أو متنِ الهواءْ

فوقَ لُجِّ البحرِ يَرغوا بالسفينْ

منْ يُبارينا إذا جَدّ القتالْ

ورجومُ الحرب تهوى بالصفوفْ

نحتبي في ساحِها مثلَ الجبالْ

لا نُبالِي بالمنايا والحُتوفْ

أتهابُ الموتَ آسادُ العرينْ؟

سائِلِ النيلَ بنا والهرَما

هلْ لنا منْ مشبهٍ بين الشعوبْ

نَرخصُ الأرواحَ إن ريعَ الحمى

ونفدِّيهِ بحبّاتِ القلوب

ونَفي بالعهدِ إنَّ العهدَ دينْ

مِصرُ يا مهدَ المعالِي والفخارْ

بَسَمَ السّعدُ ووافتكِ المنى

ذاكَ فاروقُ وهل يخفَى النهار

فوق عرش النيل مرموقَ السنا

ملكً يُحي عُهودَ الراشدينْ

قدْ قطعنا العهدَ واللهُ شهيدْ

أننا للعرشِ نحيا والبلادْ

فاهتفوا يا قومَنا عاشَ الرشيد

عاشَ فاروقٌ لمصرٍ خيرَ هادْ

ناهضاً بالشعبِ والجيشِ الأمينْ

علي الجندي

ص: 40

‌الأدب في سير أعلام

بيرون

ذلك العبقري المتمرد الذي غنى أروع أناشيد الحرية، ولاقى

الموت في سبيل الحرية

للأستاذ محمود الخفيف

أقام الصبي في نوتنجهام ووكلت به أمه أستاذاً يعلمه اللاتينية وأحبه أستاذه حباً عظيماً وأعجب بذكائه الفائق، ودهش لكثرة ما قرأ من الكتب؛ وفي تلك المدينة أسلمته أمه إلى رجل ادعى أنه قادر على أن يزيل عاهته وكم كان يتألم الصبي حين كان يدلك ذلك الرجل رجله بالزيت، ثم يلويها في عنف ويشد عليها الوثاق بين خشبتين، ولكن كبرياءه كانت تأبى عليه أن يظهر الألم على ما كان من هوله وعدم جدواه. . . ولقد كان ذلك الرجل الفظ يرسله أحياناً إلى بعض الحوانيت ليشتري له ما يريد كأنه خادمه، والناس يعجبون ويألمون أن يعامل اللورد الجميل هذه المعاملة. . . وكان الصبي ينتقم من طبيبه بكثير من معاكساته، ومنها أن يسأله أسئلة تظهر له جهله فيسخر منه ويطلق لسانه بالتهكم عليه

واستطاعت أمه أن تحصل له من ميراثه مؤقتاً على ثلاثمائة جنية تدفع له كل عام حتى يبيح له القانون أخذ نصيبه كله. وأخذا يحسان اليسر في معيشتهما، ولكن أمه ظلت على حالها من الشذوذ فهي لا تني تكيل له الشتائم وكثيراً ما تطارده تريد أن تضربه فلا تدركه على الرغم من عرجه، ولقد علمه هذا أن يصيبها ببعض تهكماته وأن يناوئها بعناده وتمرده

وهكذا تظهر الظروف خلاله في هذه السن الباكرة، فهو عنيد متمرد ذو كبرياء، وهو متوقد العاطفة مشبوب الخيال، وهو بارع الكلمة حاضر البديهة، ولسوف تكون هذه في غد خواص شعره يوم يحمل أنصاره وخصومه جميعاً على الإعجاب بذلك الشعر

وأدخلته أمه مدرسة في لندن وهو في الثانية عشرة من عمره، وكانت تزوره هناك أحياناً فيبدو للناس من شذوذها ما يخجل اللورد المتكبر منه، وكم كان يضيق بخلانه إذ يعيرونه بحماقة أمه، فيحاربهم تارة ويعرض عنهم تارة أخرى. . . ولقد كان وهو في تلك السن يحمل في جيبه أينما سار مسدساً محشواً، كأنما كان يستعيض به عما لحقه من ضعف

ص: 41

بسبب عرجه. . . على أن لا يستبعد أن يكون ذلك بعض ما تطرق إليه من شذوذ بسبب ما سمع من الأقاصيص عن اللورد التعس فلقد كان الصبي يبدى إعجابه بما كان يقص عليه الخدم من أنبائه في قصر نيوستر

ونقل الصبي وهو في الثالثة عشرة إلى مدرسة تليق به، وكانت من أكثر المدارس شهرة يومئذ، وهي مدرسة هارو؛ وكان يقوم عليها أحد ذوي المكانة من المربين، وسرعان ما فطن ذلك المربي إلى صفات التلميذ الجديد، فلمح عناده وكبرياءه، ولذلك عول على اكتسابه باللين، فنجح في ذلك نجاحاً كبيراً، وأحب التلميذ ناظره واطمأن إلى عدالته، ولعل هذا الشخص الوحيد الذي خضع له بيرون في حياته كلها. . .

وهالت المدرسين والتلاميذ جرأته من أول الأمر، فهو يخرج على ما يحد من حريته، وهو يذهب في ذلك إلى أن يعلن إعجابه ببونابرت، بل أنه ليحمل صوراً له وتمثالاً صغيراً، وهو لا يفتأ يتحدث عن الثورة في فرنسا وما تدعو إليه من حرية، ولو كان على رأس تلك المدرسة رجل غير ناظرها هذا لما صبر على جرأة هذا التلميذ الثائر. وسرعان ما حمل التلاميذ على الإعجاب بخلاله، فهو جريء في الحق، يظهر من الشجاعة الأدبية في كل المواقف ما ينال به احترام الجميع، وهو لا يعرف الكذب ولا يطيق سماعه، وهو ولوع بالرياضة على الرغم من عاهته، وهو شديد الإخلاص لأصدقائه لا يبخل على أحد بشيء مهما عز، وهو مشتعل حماسة وإقداماً، وهو فصيح اللسان، أخاذ العبارة، ذكي الفؤاد؛ وهو فضلاً عن ذلك كله قد قرأ من الكتب ما لم يقرأ نصفه أحد ممن هم في سنه. هذا إلى إعتداده بنفسه وحرصه على كرامته وطموحه وبعد همته

لذلك لم يمض على بيرون عام في مدرسته حتى كان شخصية فذة فأحبه جميع أقرانه، واحترمه أساتذته، وأعجبوا به على الرغم من تمرد روحه وتكاسله أحياناً عن دروسه، وكان ذوو الصبائر منهم يتنبئون لذلك الغلام بمستقبل فذ وأثر في الأدب خطير

وكان قد ملك قلبه وهو في الثانية عشرة حب جديد فهام بابنة عم له أخرى هي مارجريت باركر، ولقد ذكر بيرون فيما بعد أن أول خطوة خطاها في الشعر كانت بوحي من هذه الفتاة التي كانت تكبره بعام، على أن يد الموت لم تلبث أن قصفت عودها اللدن وهي في الخامسة عشرة، فكان هذا أول حزن أرمض قلب الفتى واستقر في أعماقه حتى نهاية عمره

ص: 42

وكان يراه التلاميذ في هارو يحمل كتاباً ويصعد التل القريب إلى مقبرة هناك فيضطجع على قبر تظلله شجرة ويظل يقرأ ويتأمل في ذلك المكان مدة قد تطول إلى ساعات؛ وكان مما ظهر من صفاته في الرابعة عشرة ميله إلى العزلة أحياناً، وذلك دأب ذوي النفوس الحالمة الحزينة، ولقد اشتهر فيما بعد أمر ذلك القبر الذي كان يضطجع عليه الشاعر، حتى لقد أحيط بسياج من الحديد بعد أن أصبح الشاعر في ذمة التاريخ، وذلك حين امتدت أيدي الزائرين لهذا المكان إلى أحجاره تحملها كأثر من أثار العبقرية على الرغم من أنهم كانوا يعلمون أن ذلك القبر لم يك قبر بيرون

وأتيح للفتى وهو في السادسة عشرة أن يذهب إلى قصره في نيوستد أثناء عطلة صيفية أجابة لدعوى وجهت إليه من مستأجر ذلك القصر، وكان هذا شاباً يدعى اللورد جراي، ولشد ما أبهج بيرون أن يرى ذلك القصر، وأن يرى تلك الشجرة التي غرسها هناك بيده وقد أخذت تترعرع وتكبر

وكان يقوم على مقربة من نيوستد قصر آخر في موضع اسمه أنسلي، وكانت تملكه أسرة سودرث وهم من ذوي قرباه، وكان بيرون يمتطي جواداً إلى ذلك القصر أحياناً، حيث كان يرى قريبته ماري سودرث وهي فتاة تكبره بعامين، وهي من سلالة ذلك الرجل الذي قتله اللورد التعس في مبارزته

وكانت ماري تحب فتى من أهل تلك الجهة على غير علم من بيرون. . . ولكنها رأت في نظرات بيرون مالا يخفى على عين فتاة في مثل هذه السن، والفتيات يفهمن بغريزتهن لغة العيون إذا ما استبهمت من الخجل لغة الكلام. . . ولقد هام بحبها ذلك الفتى المشبوب الخيال الملتهب العاطفة، واستأثرت بلبه الفتاة حتى ما يرى للوجود معنى غير معنى هيامه بها، ولا يتصور سعادة تقاس إلى سعادته بحبها؛ ولكن قلبها لم يك طوعها يومئذ، فلقد ربطة الحب بقلب غير ذلك القلب الفتي المتوثب، على أنها وجدت في هيام اللورد بها ضرباً من اللذة ومعنى من معاني الزهو فطاوعته وجاذبته أطراف الأحاديث، وجعلت لنومه حجرة في قصرها ليبيت هناك إذا شاء، وأهدت إليه صورة لها وخاتماً

وبات الفتى في فردوسه الجديد يستروح أنسام السعادة ويحلم أحلام الحب، إلى أن كان ذات ليلة من ليالي فردوسه في طريقه إلى مخدعه فسمع ماري تقول لخادمتها وقد حسبته قدر

ص: 43

صار بحيث لا يسمع: (أتظنينني أعبأ حقاً بهذا الفتى الأعرج)؟ ونفذت الكلمات كالسهام إلى قلبه، ورأى جنته قد انقلبت جحيما في مثل خفقت الطرف، فخرج لتوه في الظلام وظل يعدو كالمجنون حتى بلغ نيوستد؛ فأوى إلى حجرته لاهثاً خائر البدن، وبقى شارد اللب ساهد الجفن حتى أصبح الصبح، فعاد إلى أنسلي ولكنه لم يطلع ماري على ما حدث. واستقرت اللوعة في قلبه فأخذ يخفيها مكابراً معانداً، يسفه ذلك القلب ويزجره وإن كان ليكاد ينفطر مما به؛ ولقد كان من أبرز خلاله أنه يطوي على الثورة نفسه فتظل الثورات كامنة فيه حتى تجد متنفساً لها، ولم بك ذلك المتنفس غير شعره. . . والحق لقد كانت هذه الإشارة إلى عاهته أوجع مما سبقها جميعاً وأشدها نيلاً من كبريائه. . .

وحان موعد الذهاب إلى المدرسة فلم يذهب على الرغم من إلحاح أمه عليه وقطعه العهد على نفسه بالذهاب مرة بعد أخرى. . . ثم نشب بينه وبين اللورد جراي شجار عنيف لسبب عقل الخجل الشديد لسانه عن أن يفضي به إلى أمه، ولقد التهب وجهه وهي تستفهمه عنه كأنما سرت في جسده حمى. . . وأخيراً عاد الفتى إلى المدرسة بعد فوات ثلاثة أشهر منذ بدأت الدراسة وقلبه مثقل بالهموم ونفسه منطوية على الثورة

وحاول بيرون أن يتعزى بأصدقائه عما ناله على يد ماري فأقبل عليهم يستزيدهم من أحاديثهم، فإذا مال بهم الحديث إلى الحب راح يسخر من الحب بكل ما في وسعه من معاني السخرية فما الحب في نظره إلا ضرب من الجنون ونوع من الضعف، وإن الوقت الذي ينفقه المرء في الهيام أضيع أوقات حياته وأتعسها. يقول ذلك وإن قلبه لينبض بالحب كأقوى وأوجع ما يكون الحب فيكون مثله في ذلك مثل من يشتد به الحزن لأمر من الأمور، فلا يزيد في دفع هذا الحزن على أن يضحك ويغرق في الضحك ويصيح بأعلى صوته إنه فرح مستبشر حتى إذا خلا إلى نفسه أحس بالجوى أشد لذعاً واقبح وقعاً مما كان عليه قبل هذا المرح المتكلف ولاذ بالكتب لعلها تسرى عن فؤاده، وراح يقرأ منها ما يسفه الحب ويفند أقوال المحبين ويسخر من دعواهم، ولقد كان يرجو من وراء ذلك أن يبرأ من دائه كما كان يرى فيه ما يتفق مع عناده وكبريائه كأنما كان يريد أن يصرف قلبه عن وجهته بالعنف بعد أن عجز أن يعلله بالصبر

وتزايدت على الأيام محبة أصدقائه له وحرصهم على مودته، فكانوا يرجعون إليه في

ص: 44

أمورهم ويعدون الاستمتاع بروحه العذبة من أجمل أويقات حياتهم في المدرسة ويحسون جميعاً أنهم دون هذا الفتى يحيا حياة الشاعر وإن لم يحمل بعد قيثارة الشاعر ويعترفون له بالتفوق أرادوا ذلك أولم يريدوا وإن منهم من يبذه في الدروس المقررة ويظهر عليه في كثير من نواحي الحياة المدرسية وصار يكثر من الذهاب إلى تلك المقبرة التي أحبها فيقضي ما شاء من الوقت في تأمله وقراءته وأقرانه ينظرون إليه ويشيرون عن بعد قائلين: هاهو ذا بيرون يصعد التل إلى مقبرته

وازداد تعلقه بالمدرسة وحياتها حتى إنه ليحزنه أن تقرب ألا جازات الدراسية فهو لا يستطيع أن يذهب إلى أنسلي ولا إلى نيوستد، وليس أمامه إلا أن يذهب إلى حيث باتت تقيم أمه في سوثول على مقربة من قصره العتيق، وهو كلما تقدمت به السن ازداد نفوراً من تلك الأم التي ما تزال تشتمه وتعنفه لسبب ولغير سبب حتى ليضيق بها وبالحياة جميعاً من أجلها على أنه ما لبث أن سكن إلى أخته لأبيه أوجستا وراح يشكو لها بثه وحزنه وكانت رسائله إليها مفعمة بحماسة قلبه وتوثب روحه وتوقد عاطفته، وكانت تعدها من أكبر دواعي سرورها كما كان يعد رسائلها إليه، ولما علم أنها قد مسها عذاب من الحب كتب إليها يظهر توجعه لها ويعلن لها في الوقت نفسه استهزاءه بالحب وسخافاته وكرهت إليه قسوة ماري النساء جميعاً وصار يعتريه الخجل إذا طلع عليهن، على أنه حينما علم بقرب زواج ماري ذهب ليراها وقد كتبت إليه تدعوه ودخلت عليه حيث كان ينتظرها فحيت، فوضع يده في يدها دون أن يتكلم ثم خرج مسرعاً فامتطى جواده وراح يسبق به الريح

وأحس بيرون في سنته النهائية في هارو حباً شديداً لهذه المدرسة حتى لقد كان يفكر كيف يطيق الخروج منها، وكان في سنته النهائية قد قارب السابعة عشرة وقد أقام من نفسه زعيما وحامياً لكن من كانوا دونه في السن، ولقد كان شديد الولوع بهذه الزعامة عظيم الفخر بها والحرص عليها، وأخذ في تلك السن يكثر من نظم الشعر في الحفلات المدرسية وفي غيرها من المناسبات غير أن أقرانه ورؤساءه كانوا يرون فيه خطيب الغد أكثر مما كانوا يرون فيه شاعرا ًوذلك لما آنسوه من حماسته في إلقائه كلماته ولما خبروه من بلاغة عبارته وقوة جنانه وانطلاق لسانه

ص: 45

وأقبل بيرون على دراسة اللاتينية والأغريقية وهو في هذه السن فتفوق واشتهر أمره فيهما كما تفوق في السباحة وفي لعبة الكريكت على الرغم من عرجه

ولما حان يوم الرحيل طاف بالمدرسة كلها طائف من الشجن لفراق بيرون، وثقل ذلك الفراق على هذه النفس الشاعرة حتى ما درى الفتى كيف يتأسى أو كيف يطيق البعد عن هذه المدرسة التي خطى خطوات الفتوة بين جدرانها. . . وخرج منها وعبارات التوديع من أقرانه ملء أذنيه وملء نفسه

وألحق بيرون عقب ذلك بكمبردج وهو دون السابعة عشرة ببضعة أشهر، وأتيح له يؤمئذ الحصول على خمسمائة من الجنيهات سنويَّا من دخله، وفي كمبردج بدأ بيرون يستقبل حياة الجد ويخطو خطواته الأولى في مجال الشعر

(يتبع)

الخفيف

ص: 46

‌الأدب في أسبُوع

التقليد

لم أكد أفرغ من قراءة ما تيسر لي أن أقرأه في هذا اليوم وما قبله حتى

عاودني الفكر في أصول ما قرأت من كلام الكتّاب والشعراء، ووقفت

أستعيد في نفسي تلك التيارات الكثيرة التي تموج بنفوسهم من تحت

اللفظ والعبارة والمعنى والغرض. ولقد ظننت - حين أقدمت على قبول

كتابة هذا الباب من الرسالة - أن أنبعاثي للكتابة وطول ممارستي

لمادتها كفيلان بنهنهة النفس عن بعض ثورتها، ولكني أخطأت، فان

أكثر ما حملت نفسي على قراءاته يكاد يؤرّث النار كلما خبت، ويعيدها

جذعة كلما طفئت، ويدفعني إلى مثل الحريق من الألم والحسرة

والغضب للأدب العربي أن يكون إلى مثل هذا الضعف والفساد والقبح

مصيرُه وعقباه.

إن أصحاب هذا اللسان العربي والناطقين به قد أصابتهم في عصور متتابعة مصائب الجهل والغفلة والضعف فتحطمت عروش الدولة في بلادهم كلها وعدا عليها كل عاد من ذؤبان الأمم فاستذلوهم وأخذوهم وفتكوا بهم وقضقضوا أوصالهم بالعنف والاستبداد تارة، وبالرفق والسياسة المتدجِّية، تارة أخرى. ثم جاءت أيام بعثت من تحت الليل جمرات تفرقت ثم اجتمعت ثم استطار شرارها فرمى في كل هامدة بعض الحياة، وكذلك ثارت أحلام النائمين بتحاسينها وتخاريخها وفنونها فانتفضوا يطلبون تحقيق أنوار لياليهم في سواد أيامهم، ولكنهم قاموا وهبوا على غير نظام ولا تدبير ولا تعبئة فانتشرت القوى الجديدة وتمزقت، فضعفت وأخفقت، ولم يكن منها ما كان يرجى لها من الغلبة والظفر والسيادة، وبقى الضعف في هذه الأمم العربية وهو عمادها وعماد أعمالها في عصر من القوة الأوربية الطاغية يمتد ويتراحب وينساح في الأرض كلها متدافعاً متدفقاً لا يقف ولا يفتر

ومن بلاء الأمم الضعيفة بنفسها أن انبعاثها إلى التقيد - تقليد القوى - أشد من انبعاثها

ص: 47

لتجديد تاريخها بأسباب القوة التي تدفع في أعصابها عنفوان الحياة. والضعف يجعل محاكاة القوى أصلاً في كل أعماله. فلما فسدت قيادة أصحاب الرأي عند هذه الأمم الضعيفة، وكان لابد للمستيقظ من أن يعمل، كان عمل الأفراد متفرقين منسحباً على أصلين: ضعفٌ أورثهم إياه ضياع كيان الدولة السياسي، وضعف كرثهم به تفرُّق القيادة وشتات الأغراض، فلا جرم أن يكون كل عمل موسوماً بسمة من ضعف مظاهر بضعف صاحبه، ولا جرم أن يكون أعظم أعمالنا هو تقليد الناس على الهوى والجهل والدهشة المتصرفة بغير عقل

هذا كل شي تحت أعيننا وبأيدينا: بيوتنا، مدارسنا، بناؤنا، رجالنا، نساؤنا، علمنا، أدبنا، فننا، أخلاقنا. . . كل ذلك على الجملة والتفصيل قد وُسم بميسم الضعف والتفرق وانعدام التشاكل بين أجزائه التي يتكون من مجموعها معنى الأمة، وكلها تقليد قد تفرقت في جمعه أهواء أصحابه من هنا وهنا. والتقليد بطبيعته لا يتناول من الأشياء إلا ظاهرها، فكل مآخذنا من أجل ذلك ليست إلا مظهراً

هذه المرأة - هي فن الحياة الذي يشتهي أبداً أن يبدع حتى في الأذى - ما تكادُ ترَاها عِندَنا إلا دُمْيَة ملّفقةً من الحضارات وبدعها. . . ثيابها، زينتها، حليها، تطريتها، شعرها، تطر يف بنانها، مشيتها، منطقها. . . كل ذلك أجنبي عنها متكلف منتزع من مظاهر غانيات باريس وعابثات هوليوود، ليس له من جنسها ولا أصلها شبْه تنزع إليه، وأسمجه أنه ملفق لا يتشاكل تشاكل المصدر الذي اجتاب منه بالتقليد

وهذا الكتاب وهذا الشاعر - وهما فن الحياة الذي يعمل أبداً في تجديد معانيها بالتأثير والبيان - لا تجد فيما يكتب أكثرهم إلا المعاني التي نقلت من مكانها بالاعتناف والقسر فوضعت في جو غير جوها فاختنقت فمات ما كان حيا من بيانها في الأصل الذي انتزعت منه

وهكذا. . . هكذا كل شيء تأخذه العين أو يناله الفكر، إنما هو دعوى ملفقة وتقليد مستجلبٌ وبلاءٌ من البلاء. ولا نزال مقلدين حتى يستطيع الأحرار - وهم قلة مشردة ضائعة - أن يبسطوا سلطانهم على الحياة الاجتماعية كلها، ويرد إلى الأحياء بعض القلق الروحي العنيف الذي يدفع الحي إلى الاستقلال بنفسه والاعتداد بشخصيته، والحرص على تجديد المواريث التي تلقاها من تاريخه، ويغامر في الحضارة الحديثة بروح المجدد لا بضعف

ص: 48

المقلد، فعندئذ ينتزع من الحضارة الأسباب التي تنشأ بقوتها الحضارات، ولا يكون موقفه منها موقف المسكين الذليل المطرود من المائدة. . . ينتظر وفي عينيه الجوع ليتقحم من فتاتها

صورة النفس

عرضت لي مقالة في مجلة الثقافة عدد (54) عنوانها (الأدب صورة النفس) كتبها الأستاذ (محمد مندور)، وقد استوقفني عنوانها قبل أن أقرأها، لأن هذه هي الحقيقة التي نقولها ولا نصل فيها إلى حق. وقد تغاوى النقاد عليها ومع ذلك فما نظفر من أقوالهم إلا بالمبهم بعد المُبهم، ولا نجد لأكثرهم شرحاً لها يفي بمدلولها أو بسرها أو يزيل الإبهام عن مسالكها. . . يقول الأستاذ:(وإذن، فالآثار الأدبية والفنية تطلعنا بغير تحفظ على أسرار واضعيها النفسية بأسلوبها الخاص. . . ونحن نقصد بذلك إلى البحث عن نفس الكاتب والشاعر في تضاعيف ما يكتب. . . وعمل الناقد إذن عمل كشف عن أسرار لا تقع تحت البصر لأول نظرة، وسبيله ذلك لا يمكن أن يكون إلا حساً باطنياً ترهفه التجارب والمعرفة الطويلة بمختلف النفوس. . .)؛ وكل هذا جيد من القول، وهو كالشرح على عنوان المقالة. ولكني رأيت الأستاذ ينظر في آثار أدبية لأستاذين جيلين هما: أحمد أمين وطه حسين، وشرع يتكلم عن بعض آثارهما. تكلم عن مقال (في فيض الخاطر) وهو (صديق) فإذا كل الذي قاله وصف يمكن أن يقع على كل كلام، فيقول (سترى كيف حطم الأستاذ هذا الصديق، فرده إلى عوامله الأولية؟ وقد تقاصرت جمله متجاوبة كأنها ذرات مادية نتجت عن هذا التحليل). . . والنتيجة! والنتيجة أن الأستاذ أحمد أمين أو أسلوبه أسلوب تحليلي، وفيه قوة مخيفة! والأستاذ طموح متقلقل في شتى السبل، لأنه كتب عن الشمس وعن الليل، يستقري ما يجوب في ظلام الليل، وما تغدقه الشمس؛ ولا يصف جمالها أو وحشته! وهكذا، ولا أدري كيف أستخرج شيئاً من كل الذي كتبه يدل على الذي أراده مما نقلناه آنفاً؟ ولا كيف عمل هو في الوصول إلى هذه الأحكام التي دمغ بها الآثار الأدبية وأصحابها؟ ولا كيف كان عمله في التحليل النفسي الذي أحس به إحساساً باطنياً!!

إنه لابد لمن يتناول مثل هذا الموضوع أن يفصل القول، فلا يجمله، لأنه بلا شك موضوع جليل، والكلام فيه سلوك في مجهل غامض يحمل على الإبانة والإيضاح، وإلا كان الكلام

ص: 49

فيه على هذا تقصيراً لا ينفع، ويكون أنفع منه أن يترجم لنا الأستاذ كلام النقاد الأوربيين الذين مارسوا هذا العمل وأفرغوا له أوقاتهم واستوعبوا الأصول التي يسار عليها في معالجته، وكذلك تتم خدمته للأدب والأدباء. . .

أبو العباس السفاح

كنت أحب أن أستوعب في هذا التعليق كل الرأي الذي عرض لي في أمر أبي العباس السفاح أمير المؤمنين، ولكني رأيته قد خرج عن أن يكون من مادة هذا الباب، فلذلك اقتصرت على أشياء أرجو أن تعين الأستاذ العبادي في تحقيقه الذي بدأه، وعسى أن يكون في هذا القول بعض الصواب الذي يسعى إليه.

فمن ذلك أن أبا العباس السفاح، وأبا جعفر المنصور أخوان وليا الخلافة العباسية لأول أمرها؛ وكان أبو العباس أصغر من المنصور بعشر سنين، وأن اسم أبي العباس وأبي جعفر في نسبهما هو (عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس)، فأبو العباس هو (عبد الله الأصغر)، وأبو جعفر هو (عبد الله الأكبر). فإذا كان ذلك كذلك، وأبو جعفر قد لقب بالمنصور وأن الذي لقبه بذلك أبوه فيما نعلم، فلا غرو أن يكون أبو العباس كذلك ملقباً، وأن يكون أبوه قد لقبه كما لقب أخاه

وإذا كان أبو العباس (عبد الله) هو الأصغر فالتلقيب هو أولى به للتفريق بينه وبين أخيه أبي جعفر (عبد الله) وهو الأكبر الذي ولد أولاً وسمى (عبد الله) من قبله. ويؤكد أمر هذا التلقيب صيرورته بعد في خلفاء بني العباس جميعاً إلى انقضاء دولتهم، فكأنه كان من (تقاليدهم) وتعاليمهم

وأيضاً فإنه قد وردَ في الحديث عن أبي سعيد الخدْريّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج منا رجل في انقطاع من الزمن وظهور من الفتن يقال له (السفاح) يكون عطاؤه للمال حَثْياً)، وأئمة الحديث لا يصرفون هذا الاسم إلى أبي العباس، وإنما هو نبوءة كبقية النبوءات التي وردتْ في القرآن الكريم والحديث النبوي لا يدري تأويلها إلا أن تكون. . .؛ ولكن الدعوة العباسية فيما يظهر قد جمعتْ بين هذا الحديث وأحاديث أُخر هي من باب النبوءات أيضاً وجعلت منها حديثاً اتخذته في الدعوة إلى إقامة الخلافة في بني العباس، فكانوا يروون للناس عن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال: (والله لو لم يبق من

ص: 50

الدنيا ألا يوم لأدال الله من بني أمية. ليكون منا السفاح والمنصور والمهدي)، وهم الخلفاء العباسيون الثلاثة على التتابع. ولاشك في أن هذا كان قبل قيام الدعوة بالفتح بزمن طويل. فلعل الأمام (محمد بن على) قد لقبَّ ولديه بهذين اللقبين تفرقه بينهما، وتفاؤلاً بالذي يروون في أحاديث الدعوة العباسية

وإذا كان ذلك كذلك فمعنى اللقب أذن ليس من (سفح الدم) - وهو بهذا المعنى مجاز مقصورٌ لغرض بعينه - ولكنه من الكرم والعطاء والبذل كما ورد في الحديث الذي سقناه آنفاً من أن (عطاء السفاح للمال حثْياً) لأنه لا يصح في العقل أن يلقب أحد ولده بهذا المذمة القبيحة وهو ينصبه للناس خليفة، وقد لقب أخوه من قبل بالمنصور. نعم قد سمت العرب في جاهليتها بالأسماء المنكرة، ولكن الإسلام جاء فحسم ذلك كله، ولم يبق من التلقيب والتسمية بالمنكر من الألفاظ شيء في أكثر البادية العربية، فكيف في الحضر ثم في أعظم بيوت الحضر، وهو بيت العباس؟ وقد كان لهم في رسول الله أسوة حسنة فهو قد غير أسماء كثير من الوافدين عليه من أصحابه (كزحم بن معبد) فسماه بشيراً، وجميلة امرأة عمر بن الخطاب وكان أسمها (عاصية) وخلق كثير

وعلى هذا الأصل نرى أن الناس في صدر الإسلام سموا (بالسفاح) فمنهم: السفاح بن مطر الشيباني، وهو ممن ولد في النصف الثاني من المائة الأولى للهجرة وكان من أصحاب الحديث؛ والسفاح أخو أبي سلمة بن عبد الرحمن الزبيدي لأمه وهو من التابعين، وقد روى عن أبي هريرة وغيرهما. ولاشك أن التسمية هنا منصرفة إلى المدح لا إلى الذم؛ فصفة أبي العباس السفاح هي إلى العطاء والكرم كما ذهب الأستاذ العبادي أولاً، ثم رجع عنه حين تعقبه الأستاذ أحمد أمين

أما النص الذي نقله الأستاذ عن اليعقوبي من أنه قال: (عبد الله بن علي الأصغر وهو السفاح)، وهو عم أبي العباس والمنصور، فإن أصله من ابن سعد في طبقاته حين ذكر أولاد على بن عبد الله بن عباس فقال:(عبد الله على الأكبر. . . وعبد الله بن على الأصغر السفاح الذي خرج بالشام)، فهذا هو الأصل ولا يرى فيه إرادة التلقيب كالذي يرى من نص اليعقوبي، وإنما هي صفة كالسفاك والقتال. نعم، وأنا لا أدري كيف ادعي الأستاذ العبادي أنه اشتهر بذلك فانتقلت هذه الصفة إلى أبى العباس أمير المؤمنين، فإن الطبري

ص: 51

وأئمة المؤرخين قد ذكروا عبد الله ابن علي عم أبي العباس وأبي جعفر في أكثر من خمسين موضعاً ولم يلقبه أحدهم بهذا اللقب، فكيف يمكن أن ندعى أنه اشتهر به حتى كان من جراء هذه الشهرة أن اختلط على الناس وعلى الأدباء وعلى فلان وفلان كالجاحظ وابن قتيبة فوضعوا صفة (عبد الله ابن علىّ) صفة (لعبد الله بن محمد) على قرب العهد. وكيف جاز أن يقع في ذلك الجاحظ في روايته، وهو أدق العلماء رواية، وهو الذي يردأ كثر رواية ابن الهيثم وابن الكلبي وغيرهما من أصحاب الأخبار؟ وخبره الذي رواه وذكر فيه السفاح في البيان والتبيين ج1 ص 93 أخبره به (إبراهيم بن السندي) وقد قال فيه ج1 ص326 (وكان إبراهيم بن السندي يحدثني عن هؤلاء بشيء هو خلاف ما في كتب الهيثم بن عدوى وابن الكلبي، وإذا سمعته علمت أنه ليس من المؤلف المزور، وكان عبد الله بن علي وداود بن علي يعدلان بأمة من الأمم. ومن مواليهم إبراهيم ونصر ابنا السندي، فأما نصر فكان صاحب أخبار وأحاديث، وكان لا يعدو حديث ابن الكلبي والهيثم، وأما إبراهيم فإنه كان رجلاً لا نظير له. . . وكان. . . وكان. . . من رؤساء المتكلمين وعالماً برجال الدعوة وكان أحفظ الناس لما سمع وأقلهم نوماً وأصبرهم على السهر

فرواية الجاحظ فيما نرى أقوم من رواية غيره، وهي دليل على صحة الصفة التي وصف أبو العباس أمير المؤمنين؛ والجاحظ قد أدرك صدر الدولة العباسية، ولم يكن بين مولده ووفاة أبي العباس السفاح كبير دهر حتى يكون ممن يختلط علية الحق في مثل هذا الأمر، وبخاصة وهو يروي ما يروي عن الثقات في معرفة أخبار رجال الدولة

أما سكوت الطبري وغيره - من متأخري المؤرخين عن صدر الدولة العباسية - فليس يعد دليلاً على بطلان هذا اللقب. وإن دل على شيء فربما دل على أنهم جانبوه وتباعدوا عنه وتركوه لما كان قد انتشر في عصرهم من معنى السفاح على أنه السفاك للدماء، وخفاء معنى هذا اللفظ الأول وهو الكريم الباذل الفياض الذي يكون عطاؤه للمال حثياً

هذه كلمةٌ صغيرة إلى للأستاذ العباديّ أرجو أن أكون قد بلغت بها بعض رضاه في التعقيب على رأيه الذي انتهى إليه ووقف عنده. ولعله يعود إلى الذي كتبه فإن له بالعلم بصيرة نافذة مسددة أن شاء الله.

محمود محمد شاكر

ص: 52

‌رسالة الفن

دراسات في الفن

دعاؤك ثم غنائي

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

- كل سنة وأنت طيب

- يا باي! وما لك تكرينها هكذا كأنما أنت آلة. . .

- يا فتاح يا عليم! وكيف كنت تريدني أن أقولها لك؟ أكنت أجثو لك على قدمي وأرفع لك كفي مضمومتين، وألقيها عليك كما ألقى روميو على جولييت تحية الغرام ساخنة؟

- لا يا شكسبيرة الزمن، كنت أريد أن أشعر وأنت تقولينها أنك تريدين حقاً أن أكون طيباً في كل سنة. . .

- كنت تريد مني أنا أن تشعر أنت. . .؟ إذن، فاسمح لي أن آكل نصيبك من غداء اليوم، واشبع أنت. . .

- لو كنت استطعت أن تشعريني بالسلامة في دعائك الأول لكنت استطعت أن تشعريني بالشبع في دعواك الثانية!

- عجباً! تذهب في الجدل إلى هذه النهاية المضحكة فيسهل عليك أن تقرر إمكان الشبع لإنسان إذا أكل غيره. . . ولا تعترف بأنك كنت (تهلوس). . .

- لون كنت أماً لما أنكرت أن الشبع يمكن لإنسان إذا أكل غيره. فالأمهات كثيراً ما يشبعن إذا أكل أبناؤهن. وكثيراً ما يرتوين إذا شرب أبناؤهن. وكثيراً ما يسعدن إذا فرح أبناؤهن. وكثير ما يحقق الله على هذا دعاءهن إذا دعون لأبنائهن. وفي هذا جعل الله الجنة تحت أقدامهن!

- ما شاء الله. أريد أن أفتك بقضاياك هذه جميعاً لولا أنك تقرر بها للمرأة أفضالاً قليلاً ما أظفر منك بالاعتراف بواحد منها. ولكن هذا لا يمنعني من أن أسجل عليك هذا الاعتراف، وأن أسألك بعد ذلك كيف كنت تريدني أن أدعو لك؟

- أتعرفين لماذا كانت صلاة الجماعة خيراً من صلاة الفرد؟ ولماذا كان للمصليين جماعة

ص: 54

أمام يقود الصلاة؟ ولماذا يفزع من طوائف المتدينين المختلفة جماعات في الكوارث يصلون يطلبون من الله أن يدرأها، وفي المباهج يصلون يطلبون من الله أن يباركها؟

- وما صلة هذه (الفقهنة) بدعاء هو تحية العيد؟. . .

- الدعاء صلاة لأن الصلاة دعاء. والدعاء قد يكون تحية حقاً، ولكن ليس على هذا النحو الذي تشغلينه كما تشتغلين (البرودري). أنت ألقيت عليّ تحية العيد كما يلقي الناس هذه التحية، وهم يلقونها كما يلقون كل تحية أخرى، تنطلق بها أفواههم ونفوسهم مشغولة عما ينطقون، ولهذا فإن تحياتهم لا أثر لها ولا ثمرة، فكم دعا ناس لناس أن يفوزوا فخابوا! وكم دعاء ناس لناس أن يسعدوا فابتأسوا! وكم دعا أيضاً ناس على ناس أن يصيبهم السوء فلم يصيبهم إلا الخير! وكم دعا ناس على ناس أن يهلكوا فنجوا. . . وكم وكم من دعوات فارغة!

- وهل في الدعوات فارغ ومملوء؟

- الدعوات ككل كلام يقوله الإنسان، وفيه الفارغ، وفيه المملوء حقاً، وفيه المملوء باطلاً، وفيه المملوء أخلاطاً من الحق والباطل. ولا يبقى من هذا كله عند الله إلا المملوء حقا. ً وإن له عند الله الجزاء أثراً واجب التحقق. ألم يقل النبي، فيما يروى من الأثر: اتقوا دعاء المظلوم؟! أليس في هذا دليل على أن دعاء المظلوم يتحقق؟ وأي شيء في دعاء المظلوم يميزه عما في غيره من الدعاء إلا أنه مملوء بالحق؟ فإذا كان الامتلاء بالحق هو الذي يضمن للدعاء التحقق فلماذا لا نضمن تحقق الدعاء بالخير إذا امتلأ حقاً؟. . .

- إن هذه (شاطحة كشطحات) المجاذيب!

- انعم بهم! واستمعي لي. وافرضي معي أسوأ ما يمكن أن يفرض في الإنسان من الفروض، وهو أنه بلحمه وعظمه ودمه وأعصابه شحنة كهربائية حدثت على وجه من الوجوه لا شأن لنا به. وافرضي كذلك الأسوأ من هذا وهو أن عواطف الإنسان ووجداناته ليست إلا حالات كهربائية تعرض لهذه الشحنة المتجسدة إنساناً في ظروف مختلفة. . . وافرضي بعد هذا وجود إنسانين بينهما علاقات. . . فكيف تتصورين هذه العلاقات بين هذين الإنسانين اللذين هما شحنتان من الكهرباء؟

- لابد أن تكون ككل علاقة بين شحنتين من الكهرباء. فكيف تكون العلاقة بينهما؟

ص: 55

- تكون أحياناً برقاً يصحبه رعد. وتكون أحياناً إشعاعات تعاون على بعث النور في الظلمات، وتكون أحياناً صواعق. . . وقد تكون على نحو لا أعلمه وأنا ويعلمه الدكتور غالي، وقد تكون على نحو لا أعلمه ولا الدكتور غالي. . .

- حسن. فلنتصور أذن هذين الإنسانيين وهما شحنتان مما يحدث البرق فكيف يكونان؟

- هذان يلتقيان فجأة فيتعانقان ويتبادلان القبل مفرقعة ولها هزيم

- والحالة الثانية؟

- أما الحالة الثانية فهي التي تستعين فيها شحنة بشحنة أخرى على بعث النور، أو على تحريك الموتور، أو على بلوغ مقصد ما. . . إنهما من غير شك تتعاونان إذا اتجهتا اتجاهاً وأحداً. وهذه هي حالتنا أنت وأنا كما أحب أن تكون. فلو أنك تقصدين معي الهدف الذي أقصد إليه لبلغنا من غير شك أنا وأنت هذا الهدف في مدة أقصر من المدة التي قد أصل فيها وحدي لأدعوك بعد ذلك إلى جانبي. وأنا لا أطلب منك أن تدفعيني بيديك لأني لا أتصدى في هذه الدنيا لعمل استخدم فيه القوة، وإنما أريد منك أن تؤمني بالذي أومن به وأنت تعلمين أنه الله، وقد قلت لي مرات أنك مؤمنة، والله قد رسم للحياة حدوداً وأنت تعرفين أني أخاف كل الخوف من الخروج على هذه الحدود، فسيري إليّ فيها، والزميها في قولك وعملك نكن أنا وأنت شحنة واحدة منطلقة في الكون فيها قواك وقواي وقوة الحق الأكبر من كل قوة. هو دعاء أريده أن ينبعث من قلبك لا من لسانك. اتجهي إلى الله وأنت على القرب مني أو على البعد، فهو لابد معيني من دعائي ولأنه إلى غايتي. . . وأنا لابد أن أشعر به كما يشعر الأب بدعاء أبنائه إلى جانبه وأن لم يصوغوه دعاء. . . ألا يكافح الأب في الدنيا من أجل أبنائه أكثر مما يكافح من أجل نفسه. . . أو تحسبين هذا الكفاح والقدرة عليه إلا من دعوات الأبناء. . .؟

- قد يدعو الآباء إلى أبنائهم، ولكن قليلاً ما يدعو الأبناء إلى آبائهم. . .

- عندما يأكل الإنسان قليلاً ما يقول: إني آكل، وعندما ينام فإنه لا يقول إني أنام، والأبناء يدعون لآبائهم، ولا يقولون إنا ندعو، وهم جديرون بهذا الدعاء وهو جدير بهم لأن أباهم هو عائلهم ولأنهم يأكلون من فيض يديه. قد لا يعرف الأبناء شيئاً من هذا كله، ولكن هذا هو الواقع، والدليل عليه أن الآباء يجاهدون الدنيا أكثر من غيرهم، ويقوون عليها أكثر من

ص: 56

غيرهم، ويصبرون على مصاعبها أكثر من غيرهم. . . وإن هذا لا يحدث إلا لأن دعوات الأبناء صادقة. وقد كان القدماء يستكثرون من النسل ليستكثروا من الرزق، لأنهم كانوا أقرب إلى الطبيعة منا، وكان الواحد منهم إذا رزق مولوداً جديداً أحس بأنه رزق قوة جديدة إلى جانب قوته، وكان الواحد منهم إذا شاخ وضعفت شحنته الكهربائية أرتكن على أبنائه يمدهم بالدعوات الصالحات

- وهل كانت هذه الدعوات تفيد. . . وعلى الخصوص إذا اعتبرنا الشيخ شحنة كهربائية ضعيفة؟

- ما من شك في أنها كانت تفيد، فالشيخ كان قبل ذلك قد صقل أبناءه، وقد علمهم طريق الرشاد، ونكبهم طريق البغي، ودلهم على موطن السعادة، ودلهم على موطن الشقاء، فدعاؤه لأبنه بالسلامة إنما هو تذكير له بطريقها وتوجيه له إليه، زيدي على ذلك أن شحنة الشيخ إذا كانت قد ضعفت في مظهرها البدني فإنها تقوى في باطنها المعنوي، وإذا كان الفلاسفة يعترفون للشيخوخة بالحكمة فإننا لا نستطيع أن ننكر عليهم الصفاء والنفاذ إلى الحقائق، فهم يرتدون إلى الحياة كالأطفال طهارة ونقاء ماداموا قد قضوا حياتهم على الحق، ولكنهم يختلفون عن الأطفال في شي وهو أنهم اجتازوا الشطر الأكبر من هذه الحياة فوقفوا على سرها

- وما سر الحياة؟

- انتظريني حتى أشيخ فأعلمه، أو فاسألي شيخاً ممن يعلمون. . . أو فانظري إلى شيخ من الطيبين كيف يعيش وأعلمي أنه يستغل هذا السر ويعيش عليه

- وأين أجد هذا الشيخ الطيب؟

- تجدينه في الريف، وتجدينه في الصحراء، وتجدينه في كل مكان لم تنطبق عليه الحضارة ببراثنها ومخالبها، تجدينه يأكل ويشرب وينام، ويعاشر الأطفال، ويدعو إلى الناس ويتلقى من الناس الدعوات. . . ويصلى لربه ويطلب من الله أن يصلي عليه

- ولماذا يعاشر الشيوخ الأطفال؟

- لأن الشيوخ والأطفال متفقون على معنى واحد للحياة والناس فيما بين الطفولة والشيخوخة يبحثون للحياة عن معاني أخرى.

ص: 57

- وما معنى الحياة عند الشيوخ والأطفال؟

- هو الاستغراق التام فيها، والاستمتاع التام بما فيها

- وعلام تقوم العشرة بين الشيوخ والأطفال؟

- على هذا، ومظهر هذه العشرة الفنون. فالشيخ يجمع حوله الأطفال ويقص عليهم القصص، والقصص فن، ويغنى لهم ويغنون معه والغناء فن، وقد يستخف الشيخ مع الأطفال فيرقص والرقص فن، وقد يمثل لهم المركب ويركبونه والتمثيل فن. . . فهو إمامهم في كل فن، وهم يتبعونه لأنهم يشعرون به يحب هذه الأفاعيل أكثر مما يحب غيرها، ولأنهم هم أنفسهم يحبونها سعداء وهو سعيد. . .

- وكل من هو مثلهم سعيد؟ أليس كذلك؟

- من غير شك

- إذن فالسعادة عندك أن تنقلب الدنيا إلى مسرح لاشيء فيه إلا الغناء والرقص والشعر وما إلى ذلك من اللغو!

- كانت الإنسانية في طفولتها هكذا كما تقولين مسرحاً لا شيء فيه إلا الغناء والرقص والشعر وما إلى ذلك من السعادة الحق، وهي اليوم كادت أن تصل إلى شيخوختها فترتد بعد ذلك إلى هذا الذي ترينه لغواً. وآية ذلك أن الناس اليوم متضجرون من الحياة، وأن حوادث الانتحار تكاثرت بينما القدماء لم يكونوا يعرفون الانتحار لأن أحداً منهم لم يكره الدنيا كراهية تحمله على الاقتناع بوجوب مغادرتها

- ألا يمكن أن تكون سعادة إلا في هذا الفن أو هذا الهوس. . . ألست ترى في العلم سعادة؟

- وأي شيء حقق العلم للإنسان أكثر مما حقق الحس للحيوان. . .؟ اللهم إلا أن هذا العلم عطل عند الناس الإحساس، فكسبوا شيئاً وخسروا شيئاً وكان حقهم أن يكسبوا الاثنين. وسيكسبون الاثنين في اليوم الذي يقنعون فيه من العلم بلذة العلم ولا يسخرونه فيما لم يجعل العلم له. . .

- ولماذا تريد أن تحرم عليهم الإفادة من العلم إذا كانت هذه الإفادة ممكنة؟. . .

- هي ممكنة، أنا لا أنكر ذلك، ولكنها ضارة. . . أنها كالدغدغة إذا قصد بها التفريح، بينما

ص: 58

التفريح لا يكون إلا من عوامل نفسية. . . إن الضحك المنبعث من الدغدغة ليس ضحكاً وإنما هو رعشات عصبية

- وأنت تريد النكتة الطبيعية لتضحك منها.

- لست أدرى إذا كانت النكتة الطبيعية تضحك أم تبكي ولكني على أي حال أطلب من الله أن يقيني الغم وإياك.

- آمين. . .

- انظري، إنك نطقت (آمين) هذه بصدق، ولعل ذلك لأني شملتك بدعائي. . . إنها أنانية منك وحب لذاتك ولكنه على أي حال صدق، والصدق خير من الفراغ، والفراغ خير من الكذب. . . والآن هات منك دعاء صالحاً، ثم انطلق معي نغني كالأطفال والشيوخ. . .

عزيز احمد فهمي

ص: 59

‌رسالة العلم

أرقام تتحدث

صدى عمل جان بيران

للدكتور محمد محمود غالي

عود إلى قصة الذرات - يتعلق قدر الحقائق بالفروض والخطأ التجريبي - على م استند في أعماله - قوانين الحرارة والضغط - عدد أفوجادرو - ملاحظة لابلاس.

يعود بنا البحث إلى قصة الذرات وأسطورة الإلكترونات فمهمتنا مع القارئ أن نتابع استعراض هذه الحلقة من حلقات المعرفة واستجلاء الخطير من مراحلها. وليس في طوقنا أن نهمل عمل جان بيران في هذا الشأن، أو نتغاضى عن الدور الحاسم الذي قام به هو ومن حوله من باحثين في التعرف على الذرة والتقرب من الألكترون.

وقد تناولنا أعمال مليكان وشرحنا أثره التجريبي في ثلاث مقالات: الأولى (أندروزمليكان والألكترون) والثانية والثالثة (أرقام تتحدث) وهو العنوان ذاته الذي آثرنا اختياره اليوم لذلك العمل التجريبي المجيد الذي قام به بيران وتلاميذه، فقد تحدثت الأرقام لهم كما تحدثت لمليكان، وكان على بيران أن ينقل هذا الحديث إلى الناس، فنقله شائقاً عذباً للعلماء والباحثين في العهد ذاته الذي نشر فيه مليكان أبحاثه في سنة 1907 وما تبعها من سنين، هذه التجارب وما أدت إليه من نتائج ظلت منذ ذلك الوقت محل تقدير الباحثين وأعضاء المجامع العلمية، وقد ظهر هذا التقدير في صورة جلية عندما قرر المجتمع السويدي منح بيران جائزة نوبل للطبيعة في سنة 1929

لَأن يصل أحد الأفراد من طريق معينة إلى إثبات حقيقة في الوجود، وأَن يكون فيما اختطه من طريق تجريبي ما يقوم دليلاً على ما ذهب إليه_أمر له قيمته. ولكن يظل قدر هذه الحقيقة مرتبطاً بعدد الفروض التي اتخذها الفرد مبدئياً للوصول إلى غايته، ويظل مبلغ النتائج التي وصل إليها من الحقيقة مرتبطاً كذلك بقدر الخطأ المحتمل في العناصر المختلفة في طريقه التجريبي، ويظل الأمر عند العلماء الذين يحكمون على درجة قرب النتائج من الحقيقة مرتبطاً بهاتين تين المسألتين: الأولى صحة الفروض، والثانية مبلغ الخطأ

ص: 60

التجريبي. وعلى قدر ما يوجهه الباحثون من نقد جدي في كل هذا، تدخل التجربة ونتائجها بين الحقائق العلمية التي تأخذ مكانها بين ما يُسجل في الميراث العلمي المتداول على كر العصور.

أما أن يكون بعد ذلك للتجارب ذاتها أثر في التقدم واقتراب من حقائق الوجود ومعرفة لقوانين الكون، فهذا أمر آخر يرفع التجربة إلى مصاف الموضوعات الكبرى التي تتصل اتصالاً وثيقاً بحلقة المعرفة، ويرفع الفردَ المجهول إلى مصاف العلماء الذين يعرفهم التاريخ، وتدخل النتائج بين أرقى أنواع المِلكية لمجموعة الإنسان المفكر الذي يعمل على تقدمه على ممر الأجيال ولقد كان عمل بيران وأتباعه من الأعمال التجريبية الكبرى التي ارتفعت في تاريخ العلوم إلى مثل هذه الذروة، وكان بيران من الباحثين الذين وضعهم التاريخ بين العلماء البارزين

إنما يُستدل على هذا من أعماله التي فرغنا من مراجعتها بالأمس، سواء ما نشر منها بالمجمع العلمي الفرنسي أو ما ظهر منها في مؤلفاته، ولم يعتوريني ملل عند مطالعة هذه الأعمال مرة أخرى؛ فقد كنت طالعتها منذ سنين، وكنت أطالعها في شوق ورغبة هذه المرة. والواقع أنه عندما انتهيت من هذه المطالعة الأخيرة وقعت في نوع من الحيرة فيما أقدمه للقارئ منها لأن العمل متسع وجليل، بل ويلزم لاستيعابه مقدمات علمية لأنه مرتبط باكتشافات أخرى سابقة بعضها معروف للقارئ وبعضها قد يكون غير معروف

وهي اكتشافات عاونت جان بيران ليقوم بعمله الجليل الذي توصل فيه كما قدمنا في مقالات سابقة بطريقة مختلفة ولكنها وثيقة، إلى قياس قدرة الذرة وبالتالي إلى استنتاج قدر الإلكترون. هذه الاكتشافات السابقة لأعمال بيران التي تكون الحلقة الأولى فيما وصل إليه من معرفة نتعرض لها في هذه الأسطر ونلخصها في ثلاث خطوات رئيسية: الأولى خاصة بقوانين بويل وجاي ليساك للغازات، والثانية خاصة بما يسمونه فرض أفوجادرو، والثالثة دراسة (لابلاس) لتوزيع الضغط في طبقات الجو

ونعود بذاكرة القارئ إلى الخطوة الأولى، فنعود إلى قوانين يعرفها كل من جلس على مقعد في المدرسة، أولها قانون سنة 1660 وماريوت سنة 1675 الخاص بالغازات الذي يتلخص في أن كثافة الغاز تتناسب مع ضغطه وثانيها قانون جاي ليساك الذي بين

ص: 61

بصورة جلية في سنة 1810 أنه في الضغط الثابت تتناسب كثافة الغاز مع حرارته بطريقة لا تتعلق بطبيعة الغاز في ذاته

ويتلخص القانون أن حاصل حجم الغاز في الضغط يساوي ثابتاً يسمى ثابت الغازات مضروباً في الحرارة المطلقة

إنما نريد ألا يغرب عن ذهن القارئ أن الغازات هي مجموعة لجزيئات حرة، وبهذا يعتبر أن الكثافة تمثل في الواقع عدد الجزيئات، بمعنى أن زيادة الكثافة في غاز معين تحت تأثير الضغط هو اقتراب جزيئاته بعضها من بعض أي هو زيادة في عدد ما هو موجود منها في الحجم الواحد

أما عن الخطوة الثانية فهي خاصة بما يسمونه فرض أفوجادرو وهو الفرض الشهير الذي فرضه العالم الكبير أفوجادرو عند دراسته لقانون جاي ليساك المومأ إليه، فقد نبَّه العلماء في سنة 1811 إلى حقيقة جديدة، ظلت منذ ذلك العهد من أعجب ما دخل على الميراث العلمي. ذلك أن الأحجام المتساوية من الغازات المختلفة تحوي، مهما اختلف نوعها، عدداً واحداً من الجزيئات، مادامت هذه الغازات واقعة تحت ضغط واحد وحرارة واحدة

إنما نود أن ينعم القارئ النظر قليلاً في هذه النتيجة التي أرسلها أفوجادرو للعالم أجمع والتي تُعد في نظري كلما تأملت فيها من أروع ما وصل إليه الإنسان الباحث المفكر، ففيها نوع من الاتفاق الجدي بين عناصر الوجود المختلفة التي شاءت ألا توجد إلا على صورة واضحة هي أبسط الصور

وكأني بهذه العوالم المختلفة شكلا ووزناً وكثافة وطبيعة لا تستطع أن توجد في المكان الواحد ذي الحجم والضغط والحرارة الواحدة إلا بعدد واحد لا يتغير، عدد يمتد في سر وجوده إلى طبيعة الكون الذي فيه نحيا ونموت

إنما ننوه بمبلغ الجمال فيما وصل إليه أفوجادرو، ونقف ملياً إزاء هذا العدد العجيب الذي كان له أثر علمي ظاهر في أعمال بيران التي استأنفها بعد نحو مائة عام من ملاحظة أفوجادرو السابقة. وسيرى القارئ أن بيران قد عَيّن هذا العدد بالذات من طريق يبتعد كل البعد عن قصة الغازات؛ وكان من تعيين هذا العدد أن عرف قدر الذرة بل قدر الألكترون، وكان ذلك بطريقة تجريبية أهم ما يُقال فيها أنها لم تستند في جوهرها إلى الاعتبارات

ص: 62

النظرية التي قد تقبل الخطأ بل إنما استندت إلى أعمال تجريبية تصل بنا في معرفة هذه الأقدار إلى درجة اليقين

أما الخطوة الثالثة فخاصة بدراسة قام بها (لابلاس) لمعرفة الكيفية التي يختلف بها الضغط الجوي كلما صعدنا بعيداً عن الأرض. كلنا يعرف أنه كلما ارتفعنا إلى أعلى قلَّ الضغط الجوي بحيث أن عاموداً رأسياً من الهواء يختلف الضغط فيه من نقطة إلى أخرى طوال هذا العامود. وقد توصل لابلاس إلى معرفة القانون الذي يتغير بمقتضاه هذا الضغط، وكان ذلك من طريق رياضية بسيطة يستطيع كل مبتدئ اليوم في العلوم الرياضية أن يقوم بما قام به (لابلاس) من حساب رياضي بسيط، وهذا القانون هو معادلة تجد في أحد طرفيها الضغط الجوي عند مكان معين، وتجد في الطرف الثاني الضغط عند مكان يرتفع عن المكان الأول وكتلة الغاز والارتفاع الواقع بين المكانين كما تجد الحرارة المطلقة للغاز وثابت الغازات الذي أسلفنا ذكره والذي كان نتيجة لقوانين بويل وجاي ليساك. ويمثل قانون لابلاس في الواقع توزيعاً رياضياً خاصاً ومن نتائجه مثلا أن الضغط الجوي ينقص إلى النصف عندما يرتفع الإنسان حوالي 6 كيلومتر وذلك في الحرارة العادية. ولو أن الهواء كله من الأوكسجين لحدث هذا النقص عندما يرتفع الإنسان حوالي نصف الكيلومتر

هذه هي المسائل الكبرى الثلاث التي استند إليها (جان بيران) ليصل إلى غرضه العلمي عندما استطاع كما سنذكر للقارئ فيما بعد أن يعين قدر الذرة وان يتحقق من قدر وحقيقة الإلكترون.

إنما أود أن اجتزئ في هذا المقال بهذا القدر في إيراد المقدمات التي كانت لازمة لمعرفة حقائق هذه الأسطورة الذرية، على ألا يفوتنا أن نأتي على عمل بيران الإيجابي في المقال القادم.

وإن من العجاب أن يصل بيران إلى معرفة عدد (أفوجادرو) بالذات فيعرف عدد ما في حجم معين من غاز من الذرات الموجودة فيه

هذا العدد الذي يُجاوز كل خيال استطاع بيران، وباللجوء إلى طريق تجريبي جديد، وإلى المسائل الأساسية الثلاثة التي ذكرناها، أن يصل إلى معرفته، وان يصل إلى ذلك من طريق لم يستعن فيه بالغازات للوصول إلى معرفة أهم ما نعرفه لها اليوم من خواص

ص: 63

وسيرى القارئ كيف عاونت الحقائق السابقة بيران للوصول إلى مسألة من أعظم ما نعرفه اليوم في العلوم، وكيف استطاع بيران من دراسة معينة قام بها البرت أينشتاين خاصة بالحركة البروانية أن يوسع دائرة بحثه وان يهتدي لا إلى معرفة عدد افوجادرو فحسب بل إلى التحقق من نتائج ذرية وألكترونية أخرى غاية في الأهمية

ولو أن هذا العالم الذي مازال رغم تقدم السن يقوم بأعمال البحث، لم يقم طوال حياته إلا بهذا التعيين لكفى أن يرتفع إلى سجل العلماء المجددين الذين قاموا للإنسان بأجل الخدمات.

(يتبع)

محمد محمود غالي

دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون

ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم

المهندسخانه

ص: 64

‌القَصصُ

غلطة

للكاتب الفرنسي موريس ليفل

يا دكتور: أريد أن تفحصني وتخبرني هل أنا مريض بالسل؟ أريد أن اعرف الحقيقة؛ وإن لي من الشجاعة ما يساعدني على سماع أسوأ الأخبار. ثم إني اعتبر من واجبك أن تكلمني بصراحة، ومن حقي أن أعرف حقيقة أمري. . . أتعدني بذلك؟

تردد الطبيب هنيهة، ثم اضطجع في كرسيه وقال: أعدك بذلك. . . اخلع ملابسك. . .

وبينما كان المريض يخلع ملابسه، كان الطبيب يسأله:

- أتشعر بضعف؟ أتعرق أثناء الليل؟. . . هل تسعل كثيراً. . . ولا سيما في الصباح الباكر؟. . . ألا يزال والداك على قيد الحياة؟. . . أتعرف المرض الذي ماتا به؟. . .

قال الرجل وقد عرّى صدره: هأنذا يا دكتور. . .

وأخذ الطبيب يفحص المريض بدقة، والمريض يتتبع الفحص في صمت واهتمام. وبعد بضع دقائق وضع الطبيب يده على كتف المريض قائلاً وهو يبتسم:

- ارتد ملابسك. . . إنك عصبي جداً. ليس بك شئ. لا شيء مطلقاً. . . يخيل إلي إنك لست مسروراً بسماع ذلك!. . .

فأمسك الرجل قليلاً عن ارتداء ملابسه وفي عينيه نظرة حادة، وأجاب بصوت فيه سخرية وتهكم:

- أوه. . . نعم. . . إني مسرور وسعيد. . .

وارتدى باقي ملابسه في سكون تام. وكان الطبيب جالساً إلى مكتبه يحرّر (التذكرة) فاستوقفه بإشارة ثم قال: (لا فائدة. . .). وأخرج من جيبه عشرين فرنكا وضعها على المكتب وجلس، ثم قال بصوت متهدج فيه رجفة خفيفة:

- لنتحادث قليلاً يا سيدي. . . منذ ثمانية عشر شهراً، جاءك مريض يسألك كما سألتك أنا من بضع دقائق أن تصارحه بالحقيقة. فحصته سريعاً. . . هذا صحيح. . . ثم أخبرته أنه مسلول وأن حالته مخطرة. . . أوه. لا تحتج، لا تدافع عن نفسك. أنا واثق من كل ما أقول. . . قلت له لا يجوز أن يتزوج، وبعبارة أخرى لا يجب أن يعقب نسلاً

ص: 65

فدمدم الطبيب قائلاً: لا أتذكر، ومع ذلك فهذا جائز. . . إن كثيراً من المرضى يزورني كل يوم. . . ولكني لا أفهم ماذا تريد أن تصل إليه. . .

- أريد أن أصل إلى هذا: لقد كنت أنا ذاك المريض. ولقد كذبت عليك حين قلت لك وقتئذ إني أعزب. كنت متزوجاً وأباً لأولاد. . . وبعد أن أقفلت الباب ورائي لم أخطر لك على بال طبعاً. . . لأني واحد من أولئك المخلوقين البائسين الذين يزورون عيادتك كل يوم. . . أما أنا فقد كان لوصفك مرضي على هذا النحو أسوأ النتائج. . .

وأمرّ يده على عينيه ثم واصل حديثه:

- عندما عدت إلى البيت كانت زوجتي وأولادي الصغار في انتظاري. كان الفصل شتاء، ولكن البيت كان يستمتع بالدفء والراحة والسرور. وكنت إلى ذلك اليوم مشغوفاً بساعة العودة. . . والبقاء مع صغاري الأعزاء. كنت أحب قبلات زوجتي ومداعبات أطفالي. . . وفي أثناء النهار كنت أتوق إلى تلك اللحظة التي أصير فيها حراً لأنسى بين هؤلاء الأعزاء متاعب العمل والحياة. ولكنني في تلك الليلة عندما قدّمتْ إليّ زوجتي شفتيها، تراجعت. . . وأبعدت أطفالي الصغار حين أقبلوا إليّ، لأن البذرة التي بذرتها يا دكتور في نفسي بدأت تنمو!

جلسنا إلى العشاء، فكنت أحاول أن أخفي همي، ولكني كنت مكتئباً حزيناً، كسير القلب، أفكر في هذه الكائنات المحبوبة التي سأفارقها قريباً، في أسرتي التي ستفقد عائلها، في أولادي الذين سيكبرون أيتاماً

إن لغيري ممن يعرفون أن موتهم قريب تعزية، وهي أنهم قادرون على أن يضموا إلى صدورهم من يحبون ويملؤوا عيونهم منهم، ولكني أنا. . .! أنا الخطر الداهم لكل من يقترب مني، أنا من يحمل الموت معه. . . لا أزال حياً، وقد انفصلت عن الأحياء، ولم يعد لي حق في مسرات الحياة!

. . . وعندما حان موعد النوم، التف أولادي حولي كما يفعلون كل ليلة، ولكني دفعتهم عني لأن فمي الموبوء لا ينبغي أن يمس أفواههم!

أويت إلى فراشي ثم أخذ كل شيء يسكن في المنزل، وفي الطريق، فأشعلت النور، وبقيت ساهداً بالقرب من زوجتي وهي تنسم أنفاسها الهادئة

ص: 66

أخذت ساعات الأرق الطويلة تمر متثاقلة. كنت أضغط صدري بيدي، وكأني أريد أن أصل بأصابعي إلى موضع الداء في رئتي. لم يكن بي من الألم في الحقيقة ما يجعلني أصدّق حكمك، فإن مثل هذه الأعراض تنتاب كثيراً من الناس!. . وانتهيت إلى الاعتقاد بأنك لابد أن تكون مخطئاً. قلت في نفسي: لا، لست مريضاً بالسل، مستحيل، سوف أستشير طبيباً آخر. . . غير أني سمعت فجأة سعالاً في الغرفة المجاورة. . . فعرتني قشعريرة. عاد السعال الآتي من غرفة أولادي ثانياً، جافاً، وحاداً ومنتهياً بنوع من الحشرجة. مددت يدي نحو زوجتي ولكن خفت أن أوقظها فسحبت يدي. وعاد السعال مرة أخرى، فقمت بهدوء وذهبت إلى الغرفة التي ينام فيها أطفالي. وفي ضوء القنديل الضئيل، أمكنني أن أراهم وهم نائمون في فراشهم. خيل إلي أن أكبرهم محمر الوجه. جسست يده فإذا بها دافئة، ملت عليه. سعل عدة مرات متوالية وهو يتقلب في فراشه بضجر. مكثت إلى جانبه وقتاً طويلاً كان يسعل خلاله باستمرار. . . وعدت إلى غرفتي، ولكني ما كدت أتمدد على فراشي حتى استولت عليّ فكرة مرعبة: هو مسلول مثلي، لاشك في ذلك

في تلك اللحظة كنت أنت تنام ملء جفونك يا دكتور، أليس كذلك؟

واليوم التالي كان فظيعاً. لم أجرؤ على إخبار زوجتي أن طفلنا مريض. لم تكن عندي الشجاعة الكافية لإحضار طبيب. كنت خجلاً من نفسي، وعقد الجبن لساني فسكت

لكن عقلي لم يسكن. استمرت الأفكار السود تحركه. ليست المسألة مسألة العدوى فقط، بل هناك شبح أبشع من ذلك ظلّ ماثلاً أمامي: الوراثة. لقد ورث أطفالي مرضي كما ورثوا عينيّ وشعري. وحتى لو كانوا قد نجوا من حكم هذا القانون المخيف فقربي المستمر منهم لابد أن يكون قد نقل العدوى إليهم

تقول إن ذلك وهم وخيال؟ كلا، أليس ذلك نتيجة طبيعية للمجهود الذي تبذله أنت وزملاؤك بالمحاضرات والمجلات والجرائد لتكشفوا للناس أسرار هذا المرض!

كل ما كنت قد قرأت أو سمعت تجمع في رأسي

زوجتي وأطفالي أعز الناس عليّ، سوف يذبلون واحداً بعد آخر! سوف يقاسون حياة مريرة معذبة في انتظار النهاية المؤلمة. . . وأنا، سوف أشهد ذلك كله في وجوههن الشاحبة، وأجسامهن المتداعية. والعلم عاجز عن تغيير هذا القضاء المحتوم

ص: 67

وسكت لحظة ثم عاد يقول في صوت عميق:

ثم - تابعني جيداً - بعد مرور أيام لم تبرحني خلالها لحظة تلك الأفكار الواخزة، تولد عندي الاعتقاد بأن هناك حالات يكون فيها من واجب الإنسان أن يقف عذاباً يعلم أن لا مفر منه. . . من حقه أن يمحو جريمته، يفني ما خلق، يكون هو يد القضاء التي تنقذ من الشقوة من لا ذنب لهم

أنت ترتجف؟ أنت خائف من أن تفهم؟. . . نعم، بيدي قتلت أطفالي وزوجتي! أسمعت؟. . . قتلتهم، سمّمتهم، وفعلت ذلك بمهارة لم يفطن إليها أحد

كنت في أول الأمر مصمماً على أن أضع حداً لحياتي أنا أيضاً؛ ولكني كنت في نظر نفسي خليقاً بالعقاب! لا لأني قتلتهم - إذ أعتقد أن عملي في هذه الحالة مشروع - بل لأني أوجدتهم. وأي تكفير أحكم به على نفسي أشد من البقاء منفرداً يائساً أتحمل وحدي عبء تلك الحياة المنكودة التي أنقذتهم منها؟!

والآن، انظر ماذا حدث. بعد موتهم بأسابيع، أخذت تعود إليّ قواي. ذهب الألم الذي كنت أشعر به. لم يعد أثر للدم في بصاقي. بدأت أشعر بشهية للأكل. . . بل بدأت أسمن

اعتقدت في أول الأمر أنه لسبب ما وقف المرض مؤقتاً، وسوف يعود بحالة أشد. إلا أني بعد بضعة أشهر تبينت الحقيقة المرّة، وهي أني شفيت. أقول شفيت!. . . ولكن، هل كنت حقّاً مريضاً بالسل!. . . وتجسّمت الفكرة أمام عينيّ. أتفهم ماذا أعني؟. . . إذا كنت مسلولاً حقاً، فقد كان واجباً ما فعلت. أما إذا لم أكن، فقد قتلت بلا مبرر، وقتلت من؟. . . زوجتيوأولادي. . .

أمهلت نفسي سنة كي أتأكد، مؤملاً دائماً أن المرض الذي وقف سوف يعود، بل محاولاً بكل وسيلة أن أعيده إلى الظهور. . . ولكن عبثاً، إذ لم يظهر أي عرض من أعراض المرض. وعندئذ وثقت بأنك كنت مخطئاً، بل مرتكباً لأفظع خطأ. استولى عليّ اكتئاب لا قبل لي بدفعه، عيناي اللتان اختزنتا الدموع طويلاً عجزتا عن إبقائها. لقد هدمت حياتي بيدي، قتلت نفوساً بريئة، ألقيت بنفسي في خضم من الأحزان والآلام. ولم كل هذا. . .؟ لسبب خطئك أنت. ولقد أتيت اليوم هنا لأسمعك أنت بنفسك تقر بغلطتك. . .

وانتصب الرجل واقفاً وهو يقول وقد ضم ذراعيه إلى صدره:

ص: 68

- لقد اعترفت أنت بنفسك أن لا أثر للمرض بي. إنك لم تر عيني وأنت تقول: أنت عصبي، ولكن ليس بك شيء، لا شيء مطلقاً، أؤكد لك!. نعم، لأنك لو كنت رأيتهما لارتجفت من الخوف، لقرأت فيهما أني جئت. . .

فقاطعة الطبيب مغمغماً وهو في منتهى الشحوب:

- أنا لست معصوماً. . . إن فكرة السل متغلغلة في الأفكار هذه الأيام. . . وكثيراً ما يتأثر الإنسان دون شعور منه به. . .

من الجائز جداً أن يعطي الطبيب أثناء فحصه أهمية لصوت قد يكون عرضياً ومؤقتاً. . . قد أكون أخطأت. . . أعظم الأطباء كثيراً ما يخطئون في تشخيص المرض. . . ومع ذلك فلكي تتأكد دعني أفحصك ثانية

فانفجر الرجل يضحك ضحكة وحشية مرعبة وقال:

- تريد أن تفحصني ثانية!. . . ها ها. . . أتظنني أبله؟ ليس بي شيء. لقد قلت ذلك منذ هنيهة: (لا شيء مطلقاً!) وأنا في هذه المرة واثق من صحة تشخيصك

- غلطتك جعلتني قاتلاً، فأنت شريكي. شريك عن غير قصد، أنا معك. . . ولكنك كنت العقل المدّبر وأنا اليد المنفذة. وما دامت العدالة واحدة وأبدية، فأنا - العصبي - أتهمك وأحكم عليك وأنفذ الحكم. . . عليك أولاً. . . ثم على نفسي. . .

. . . ودوت طلقتان في الفضاء. واندفع الخادم إلى الغرفة فوجد جثتين مجندلتين؛ وقد سال دم الدكتور على (تذكرته) ولم يكتب فيها بعد سوى:

بروميد 15 جراما

ماء مقطر. . .

صلاح الدين كامل

ص: 69

‌البَريدُ الأدَبيّ

حول (الإمتاع والمؤانسة)

قرأنا في باب مقالاً قنع صاحبه بأن يجعل توقيعه هكذا: (ع. ص). فمن يخبرني من تحت هذين الحرفين المقطَّعَيْن؟ والمقال رد على تعّقبي لفرطات بدرت من جانب الأستاذين احمد أمين فأحمد الزين وهما يحرران كتاب (الإمتاع والمؤانسة) لأبي حيان التوحيدي. وكنت قد صنعت ذلك الاستدراك لوجه العلم وحده ولإتمام الفائدة، لا لتنقص الناشرين الفاضلين، كما زعم ع. ص وقد كنت أرقب الرد من ناحيتهما، وأكثر الظن أن صديقي الدكتور زكي مبارك يرى ما أرى وهذا رد يعمد صاحبه إلى التعمية، فيفر من الميدان قبل أن ننزل إليه وللتعمية سبب جليّ، قصته أن المقال يدور على التلبيس والعنت: على اختلاق القول واجتلاب الحجة.

ووالله لولا دَين القارئ الطُلَعة في عُنق الناقد الكشّاف لحبست القلم اليوم عن الكتابة، وذهني مشغول بقولة العرب:(لا تناظر جاهلاً ولا لَجوجاً، فإنه يجعل المناظرة ذريعة إلى التعلم بغير شكر).

أما التلبيس الذي ذكرتَه ففي قوله: إن تنبيهي على اضطراب الترقيم (استغرق قرابة نصف صفحة من مقالي). والواقع أن ذلك التنبيه جاء كالذيل للمأخذ الأول ووقع في عشرة سطور، على حين أن مقالي في سبعة وثلاثين ومائة سطر

ومن التلبيس أيضاً أنه يقول في خاتمة مناقشته المستكرهة: (هذا ما يتعلق بنقد الدكتور بشر)، وهو يريد أن يدسَّ في ذهن القارئ أنه ناقش كل ما أخذت على الناشرين. والواقع أنه إنما حاول الردّ على مآخذ أربعة؛ وفي نقدي أحد عشر مأخذاً، كنت استخرجتها من الأربعين صفحة الأول من كتاب (الإمتاع والمؤانسة). أَلَا فليخْبرني (ع. ص) أو من وراءه ماذا صنع بالمآخذ السبعة الأخرى؟ أطواها في الغطاء الذي يلفه؟ أني أرجو من صديقي القارئ أن يعود إلى نقدي ويراجع كلمة (المعانَقَة الخفيَّة) وصوابها (معانِقِه)؛ وجملة (تاه أهله) والوجه (باد)؛ وكلمة (الشهوات الغالبة) والصواب (الغالية)؛ وتفسير (الركاكة) بضعف العقل والرأي دون البَدَن، والأصل هذا؛ وكلمة (مادَّته بالية) والصواب (سايلة)؛ وكلمة (وواد واحد) والصواب (وُهوٍّ). ولعمري أني أعذر (ع. ص) من لزوم الصمت إزاء

ص: 70

هذه المآخذ، فقد غُلِّقت دونها أبواب الاحتيال

ذلك بعض ما في مقال ع. ص من التلبيس. وأما الذي يشينه من ألوان العنت فمتلاحق في مناقشته المغتصبة، وسأختصر الكلام قانعاً بضرب مثلين اثنين:

يقول ع. ص - رجاءَ أن يفلت من تنبيهي على اضطراب الترقيم - ما حرفه: (ولم يدر (يعنيني) أنّ هذا الترقيم إنما يمليه الذوق وحده، ولا يرجع وضعه إلى قواعد ثابتة إلا في رسم العلامات). فمن هنا يتبين لي أَن الرجل من الهاجمين على فن الإنشاء. ولا أريد أن انقلب إلى علامات الوقف والتمهل في أدبنا القديم، خشية الإطالة. ولكني اخبر ع. ص. أَن فن الترقيم (يرجع وضعه إلى قواعد ثابتة) في اللغات الإفرنجية. فليستعن بأحد إخوانه على تفهم (باب الترقيم) في كتاب لقواعد الفرنسية، في كتاب المختصر مثلاً (والباب في أربع صفحات، ثلاثة أرباع واحدة منها للعلامات التي يعنيها هو، نحو علامة التعجب؛ والباقي للترقيم من نقطة وفصلة أو شولة وغير ذلك). وأما الترقيم المستحدث في العربية فقد استعرناه من قواعد اللغات الإفرنجية محاكاةً لها. أني أُثبت هذا وبين يديّ رسالة أمضتها وزارة المعارف العمومية، عنوانها:(حروف التاج وعلامات الترقيم، ومواضع استعمالها)(المطبعة الأميرية 1931) فهذه تسع سنوات يسير التلاميذ في فن الإنشاء على منهج قويم ليس للأستاذ الكاتب ع. ص. علم به

بقى أن ع. ص ظَنَّ أنه ظفر بالمقتل حين قال: إن لي نحواً جديداً إذ أثبتَّ كلمة (كذا) في تضاعيف قول التوحيدي: (وأما قولهم: هذا شي خلق، فهو مضَّمن معنَييْن (كذا): أحدهما يُشار به إلى أن مادته بالية (والصواب كما في الأصل: سايلة)، والآخر أن نهاية زمانه قريبة). ألا ترى كيف يتقوَّل عليّ ع. ص ما لم أقله إذ يزعم من الطريق التخمين أني (حسبت) كلمة (معنيين) من الغلط النحوي، وأن صوابها عندي:(معنيان)، فيتشبث لأجل ذلك بورود كلمة (كذا). ياله من غريق يتشبث بالموج الهازئ! فهل له أن يسأل أهل الذكر عن موقع كلمة (كذا) في ذلك الموطن فيخبروه أنها ليست للتخطئة كما وهم، ولكنها لتأكيد حكم المؤلف وتنبيه القارئ إلى التقسيم الذي يليه. وليرجع ع. ص. هاهنا إلى (كتاب الصناعتين) لأبي هلال العسكري (الآستانة 1320ص267، 270) لعله يدرك أن من التقسيم الفاسد أن يدخل أحد القسمين في الآخر. وفي عبارة التوحيدي تقسيم، دليله حكمه:

ص: 71

(فهو مضمن معنيين: أحدهما. . . والآخر. . .). وقد جاء التقسيم - على حسب رواية الناشرين - فاسداً، وذلك لأن (المادة البالية) داخلة في (الزمان القريب نهايته). وأما (المادة السايلة)(وهي الرواية الصحيحة، كما بينت في نقدي مستنداً إلى دواوين الفلسفة العربية) فعلى خلاف ذلك؛ لأن (السيلان) يفيد التحول من طريق تدافع الأجزاء. وعلى ذلك فإثباتي كلمة (كذا) من باب التأكيد والتنبيه. غير أن ع. ص قليل الإلمام بأساليب الكتابة العلمية. ولو تروّى قليلاً لفطن إلى أني لم أجر في نقدي على التخطئة باستعمال كلمة (كذا)، بل أقول: هذا خطأ، والصواب كيت وكيت. أَفقلتُ: والصواب (معنيان)؟ ولكنه الميل إلى التخلص بالملفقات

من كل ذلك يتضح لك ما وراء التعمية من تلبيس وعَنَت مما لا يجلب للعلم منفعة ولا يعود على الناشرين الفاضلين بسَنَد وليعلم (ع. ص) أن قلمي مهملة بعد هذه، فليس من عادته أن يجاذب من يوليه ظهره.

بشر فارس

وفد العراق في المؤتمر العربي

أهلاً وسهلاً ومرحباً!!

كتب إليَّ الأخُ العزيز الدكتور عبد المجيد القصاب يقول: (أنا أتحرق شوقاً إليك)، وأحزم حقائبي للقياك مشتركاً في المؤتمر الطبي رئيساً لوفد الطلبة وعددهم يُنيف على الثمانين من طلاب الحقوق والطب والصيدلة ودار المعلمين العالية. وما شأني والمؤتمر الطبي؟ إنما هي مصر التي أحترق شوقاً إليها، وإنما أعني أهل مصر الذين بارك الله في عقولهم وعواطفهم وتفكيرهم، من أمثال: علّوبة ومبارك والمزني والزيات والسنهوري وعزام وأباظة. ولست أنا وحدي أتلظى بسعير الوجد، بل هنالك العدد الكبير من أطباء وطبيبات وطلاب وطالبات من سكان وادي الرافدين سيحملون إلى سكان وادي النيل تحيات عاطرات. . .)

وإذاً، فسيكون عندنا وفدان للمؤتمر من أهل العراق: أحدهما وفد الأطباء برياسة الدكتور صائب شوكت، والثاني وفد الطلاب برياسة الدكتور عبد المجيد القصاب.

ص: 72

سيكون بالقاهرة في أيام العيد مائة وعشرون ضيفاً من العراق. فيا فرحة القلب ويا طرب الروح بلقاء الأهل والأحباب!! وفي خطاب الدكتور القصاب تحية من الأخ الأستاذ ناجي القشطيني، وتحية كريمة من بعض أخواني بالنجف. . . فيا أيتها الدنيا التي تجيد مضايقتي من وقت إلى وقت، تأدبي يوماً أو أياماً حتى ألقى وفد العراق وأنا في أمان من ثورة النفس على غطرسة الزمان!. . .

وفي الخطاب إشارة رفيقة إلى اشتراك (ليلَى) في المؤتمر الطبي باسم مستعار لتأمن أهل الفضول، وهو يدعوني إلى التأهب لاستقبالها في محطة (باب الحديد)

وحياتِكم وحياتكم قسما وفي

عمري بغير حياتكم لم أَحلف

لو أن روحي في يدي ووهبتها

لمبشري بقدومكم لم أُنصف

سأكون في عيد، سأكون في عيد، والحمد الله، والشكر للجمعية الطبية المصرية التي عرفت كيف تجعل القاهرة صلة الوصل بين الأمم العربية.

إليك يا ليلى والى أهلك الأكرمين أفتح صدري وذراعيَّ لعناق التلاقي بعد طول البعاد:

ومن بينات الحب أن كان أهلها

أحبَّ إلى قلبي وعينيَّ من أهلي

زكي مبارك

أقاصيص جديدة لأوسكار وايلد

عثر الأستاذ غيّو دُسيكس على أقاصيص جديدة لأوسكار وايلد لم يتح لها أن تنشر قبل اليوم، ولو أنها نشرت لكانت كتيّباً صغيراً. وسألخص هذه الأقاصيص، وعلّي أعود يوماً فأنقلها إلى القراء:

(1)

العين الزجاجية

نجد في هذه الأقصوصة غنيا أوتى الجاه والجمال. وكان مولعاً بالصيد والقنص. وإنه لفي أثر بعض الوحوش ذات يوم، إذ اضطربت بندقيته فأصاب إحدى عينيه رشاش أطفأ نورها. فعمد إلى عين من بلور خاص، وكانت عيناً حلوة رائعة جديرة بأن ينفق من أجلها كل ماله

ووضع العين الزجاجية المرأة؛ فأعجب بحلاوتها وصفق. . . وغدا عاشقاً لها يغدو ويروح

ص: 73

ويرنوا إليها

فلما بلغ به الإعجاب كل مبلغ، أراد أن يسأل صديقاً له عنها فقال له:

- كيف ترى عيني الزجاجية؟

- لا يستطيع المرء أن يبدع أكمل منها!

- ولكن ألم تعجب بها؟ إن الحياة لتتدفق منها، وإن النور ليشع فيها. آه يا صديقي، لقد غدوت لا أميّز بين عيني الأولى وعيني الثانية، أنظر فيها. . . وحدق، ثم قل أية العينين هي الزجاجية؟

- تلك هي الزجاجية

- وكيف عرفتها؟

- إنها أحلى العينين!. . .

- أواه! إنك تهزأ. . . لو لم تك رأيتها من قبل لما عرفتها. . .

تعال نسأل الناس، هيا إلى الشارع

وخرج الصديقان. . . فلمح الغنى في زواية الشارع سائلاً يقضقض برداً، فاقتربا منه، وقال له الغني:

- هل تأخذ درهما؟

- درهم. . . درهم. . . ليس أحب إلي منه. . . لقد بت جوعان ليلتين!

- حسن، أنظر إلى عيني. . . فإذا استطعت أن تميز عيني الزجاجية من عيني الطبيعية. . . كان لك ما تشاء!

فحدق السائل، وقال فوراً:

- هاهي ذي يا سيدي

- ويحك! وكيف عرفتها. . .؟

- الأمر سهل يا سيدي، لقد رأيت فيها شفقة ورحمة بي. أما الثانية. . . أما الثانية. . . إنها تقول: لا تعطه شيئاً

(2)

جزيرة النسيان

أقلعت السفن تحمل فوقها فتياناً في مقتبل العمر. فخيم الليل عليهم وهم فوق ثبج البحر

ص: 74

المطمئن، وكانوا يسمرون وينشدون وإذا بالسماء تعبس ثم تبكي. . . وإذا بالبحر يفتح شدقيه ليبتلع كل شيء. . . وإذا بالرعد يقهقه وهو ينظر ضاحكا

وتاه البحارون. . . حتى وصلوا إلى جزيرة نائية، ما عرفها علماء الجغرافية وما رأوها، فنزلوا فيها فلقوا شيخاً قد استقبلهم والوجه مشرق والعين ضحوك

لم يكن الشيخ مرتدياً لباساً بل اتخذ من شعره الأسود الذي استرسل على كتفيه وستر ظهره رداءً، ومن لحيته الطويلة التي بلغت ركبتيه صدرة

وحفَّ الشباب بالشيخ وسألوه أن يقص عليهم قصته فضحك وقال:

- كل ما أستطيع أن أقوله. . . هو أني أتيت إلى هذه الجزيرة لأنسى

- تنسى ماذا؟

- أوه! لقد نسيت أيضاً!

(3)

الرجل الغني وسره

كان لغني ثروة واسعة تنغص عيشه دائماً. فأتاه ذات يوم رجل ذكي محتال وقال له:

- لقد عرفت سرَّك فإن لم تعطني ألف جنيه تكن خاسراً فدب الخوف في نفس الغني وساءل نفسه: أيكون لي سر ولا أعرفه؟ وما هو سري؟ ولكن ربما كان لي سر يعرفه هو ولا أعرفه أنا، فلأعطه ما يريد!

ومضى الرجل وفمه يتلمظ. . . فكان كلما أحس حاجة أو فاقة غدا إليه فأخذ مالاً. . . والغني مذعن خائف

وتصرَّمت أعوام. . . وإذا بالموت يأتي الغني!

فنادى المحتال. . . وقال له ونفسه تتقطع حسرات:

- لن أخاف بعد اليوم. . . فقل لي ما هو سري. . . الذي لم اعرفه!

صلاح الدين المنجد

التجديد في العروض

قرأت بالعدد (341) من الرسالة قصيدة بعنوان (الناي) للدكتور المفضال بشر فارس قدم لها بقوله (هذه الأغنية منظومة على بحرين مختلفين رغبة في تنويع مجرى النغم، والبحر

ص: 75

الأول وضعه الشاعر، وأجزاؤه: فاعلاتن مفاعلتن (مرتين)، وليكن اسمه: المنطلق. وأما البحر الثاني فمن البحور المعروفة. . . أهـ) ثم مضى في القصيدة فكان الوزن الذي أسماه المنطلق يبدأ بقوله:

جنّبوا النايَ عن أُذُني

أُذُني زُلزلت طَربَا

والواقع أنه لا يوجد في أوزان البحور المعروفة بحر أجزاؤه (فاعلاتن مفاعلتن) ولكن يوجد هذا الضرب نفسه بأجزاء أخرى هي (فاعلن فاعلن فَعِلُنْ) فهو إذاً الضرب الأول من العروض الثاني من المتدارَك، وهو المجزوء الصحيح، وأقرب أمثلته (لوزن) الدكتور بشر هو الضرب المخبون المرَفَّل من هذا المجزوء الصحيح، ومثاله في متن الكافي هو:

دارُ سُعدَى بشَحْر عُمَانْ

قد كَسَاها البِلَا المَلَوَانْ

على أن هناك فرقاً يسيراً قد يلحظه القارئ بين الوزنين، فذلك أن وزن الدكتور بشر ينقصه الترفيل (وهو زيادة سبب خفيف على ما آخره وتد مجموع) والسبب الخفيف - كما هو معروف - متحرك بعده ساكن كقَدْ. فهو يمثل الألف والنون الأخيرتين، في عمان والملوان، واللتين بحذفهما نحصل على نفس الوزن (المنطلق) الذي جاء به الدكتور بشر. . .

والواقع أنه يصعب جداً، بل يكاد يكون من المتعذر، زيادة (بحر) مستقل على البحور المعروفة، كما سمح الدكتور الفاضل لنفسه في تسميته مجزوءَه الذي له اصل في العروض بحراً. . . على أن له العذر الفني في ذلك، وأقول العذر الفني لأن (البحر) الذي خيل إليه أنه اخترعه لم يقع له إلا في (المتدارك) وهو - كما يظهر من تسميته نفسها - بحرٌ تدارك به الأخفش على الخليل الذي قد نسيه أو أهمله (وقيل هو المتدارِك بكسر الراء لأنه تدارك المتقارب أي التحق به، لأنه خرج منه بتقديم السبب على الوتد، وله أسماء أخرى غير ذلك كالمخترع والخبب. . . عن المختصر الشافي للدمنهوري)

ويلوح لي أن هناك شيئاً من توارد الخواطر بين تسمية الدكتور بشر لمجزئه (بالمنطلق) وبين تسمية المتدارك (بالمخترَع) فكلا التسميتين ترمزان من طرف خفي أو صريح إلى أنه وزن جديد على أوزان الخليل. . . هذا وإن كنت لم أعرف بعدُ مَلحظَ الدكتور في اختياره اسم (المنطلق)

ص: 76

وزيادة للفائدة من هذا البحث الجليل، أقول إنني حاولت التجديد في العروض - وكان ذلك منذ سنوات - بزيادة بحور جديدة، فوقعت على بحرين، أحدهما - لِلَطيفِ ما حدَث - ظهر أنه هو نفس المتدارك! وكنت قد نظمت لإثباته أبياتاً مطلعها:

يا أَبى إنني ذاهبٌ للوَغَى

باذلٌ مهجتي في سبيل الحِمَى!

والثاني أخذته عن وزنٍ انجليزي بديع، يمثل طريقة من سير الجياد وهو الأصح عندي بأن يسمي (الخَبَبَ) وقد جعلتُ وزنه: مَفْعُولُنْ، أربع مرات، أو ثمان. . . ولا أذكر ما نظمته فيه، ولكن المجال فيه مفتوح للناظمين. . .

عامر محمد بحيري

ليسانسيه في الآداب من جامعة فؤاد الأول

معنى بيت وإعرابه

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي انتقادات ومباحث تصيب مرماها تارة وتخطئه أخرى، وملاحظات تحمل قارئها على التأمل والتبصر في محتوياتها مما جعلني أخالف ما ذهب إليه في إعراب قول الأعشى

ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا

وبتّ كما بات السليم مسهدا

فإنه أعرب أرمدا فعلاً ماضياً مسنداً إلى ألف الاثنين العائدة على قوله عيناك، وعلى ذلك (فليلة) في البيت منصوبة على الظرفيه لا أنها مفعول مطلق كما يقول الأستاذ (أبو رجاء) نقلاً عن حذاق النحاة

ولننظر إلى معنى البيت على رأي الأستاذ الصعيدي، أيؤدي ما كان يريده الأعشى أم يعارضه وينافيه ويخالف العقل والواقع؟ إنه يكون هكذا:(ألم تغتمض عيناك ليلة كانا مرمدين) مع حمل الاستفهام على التقرير أو الإنكار، فكيف يتأنى انطباق جفون العين وذوق حلاوة الكرى في وقت كان الرمد كالجمر يَحْرِق ويأكل غارساً بذور السهاد والقلق وغير ذلك مما يعلمه الأستاذ؟ إذا كان لهيب الرمد، وحلاوة الهجوع لا يجتمعان، أذن يفسد كل معنى يقول بذلك ويتحقق ما تقوله حذاق النحاة في معنى البيت من أنه يكون هكذا (ألم تغتمض عيناك اغتماض ليلة ألارمد) ولا ريب في أن إغتماض المرمد كله سهد وقلق

ص: 77

وأرق وضجر وغير ذلك مما يتناسب ومراد الأعشى، وخاصة أنه كان كما يقول الأستاذ (لم يكن في موقف الشكوى من هذا، وإنما كان في موقف النسيب). فلا حرج عليه إذا قال: إنه كان في سهر طويل ويقظة شديدة كانت كيقظة الرجل الذي آلمه رمد عينيه، لا أن يقول: إن عيني كانت مغمضة ونائمة ليلة كانت مرمدة؛ وهب أن المعنى قد يتأتى، وينام الرجل والرمد في عينيه، فما هي المناسبة التي تجعل الأعشى أن يقول ذلك وهو في الموضع الذي نبه عليه الأستاذ. هذا ما أردت كتابته والسلام على الأستاذ ورحمة الله

محمد رجب البيومي

ص: 78

‌رسالة النقد

كتاب (الإمتاع والمؤانسة)

- 2 -

تحدثنا في مقال سابق عن أمثلة من نقد الدكتور بشر فارس لتصحيح كتاب (الإمتاع والمؤانسة) وبيَّناً تفاهة هذا النقد وقلة جدواه. أما نقد صاحبه الدكتور زكي مبارك لتصحيح هذا الكتاب فهو أقل جدوى وأبعد عن الجادة وأكثر تحكما وأشد تعسفاً وتكلفا ًمن نقد صاحبه

وشئ آخر يمتاز به الدكتور زكي على صاحبه أنه يمسك بخناق الكلمة الصحيحة، ويظل يضرب فيها بعصا غليظة من التأويل البعيد ليجبرها على أن تحكم على نفسها بالغلط. فإذا لم تجبه الكلمة إلى ما أراد حكم عليها هو بالغلط، ولا يكلفه ذلك إلا أن يكتب حرف الغين واللام والطاء

وتلك أمثلة من نقده مع ردنا عليها ليتبين القارئ صدق ما نقول وأن هذا النقد كله لا يستند إلى شيء من الحق:

روى أبو حيان في كتابه الذي نحن بصدده مناظرة طويلة بين أبي سعيد السيرافي ومتّى بن يوسف المنطقي، وفيها سؤال نحوي وجهه السيرافي إلى متى، فلم يستطيع متي الإجابة عليه، وطلب إلى السيرافي أن يفيده عن ذلك. فقال السيرافي:(لو حضرْت الحلْقةَ استفدتَ)

وكتب المصححان الفاضلان على قوله: (الحلقة) ما يفيد أن في الأصل (المختلفة) مكان قوله: الحلقة وهو تحريف

ويقول الدكتور زكي: إن قوله (المختِلفة) ليس فيها تحريف وإنها صحيحة لاشك فيها؛ وفسر قوله: (المختلفة) بأن معناها الطلبة الذين يختلفون إلى المعلم

ونقول: إن قوله (المختلفة) تحريف لاشك فيه كما رأى المصححان الفاضلان، وأن الصواب (الحلقة) كما رأيا، فإن المعلم لا يقول:(إذا حضرت الطلبة استفدت) وإنما يقول: (إذا حضرت مع الطلبة). أو يقول: (إذا حضرت الحلقة) أي حلقة الدرس؛ فهذا أقرب إلى الأحاديث العادية، وأشبه بأسلوب أبي حيان والسيرافي وغيرهما من الأئمة

أما أن يقول المعّلم لإنسان ما: (إذا حضرتَ الطلَبَةَ استفدتَ) فهي عبارة ركيكة لا تلتئم مع أساليب الكتّاب العاديّين فضلاً عن أعلام الكتابة كأبي حيان. ودليل ذلك قوله بعد هذه

ص: 79

العبارة: (فليس هنا مكان التدريس)؛ وهذه عبارة تنادي بصواب ما أثبته المصححان الفاضلان

روى أبو حيان في هذه المناظرة السابقة من كلام أبي سعيد السيرافي الذي وجّهه إلى متي بن يونس المنطقيّ يعنّفه ويلومه، قال:(وإنما يودِّكم أن تشغَلوا جاهلاً وتستذلّوا عزيزاً)

وكتب المصححان الفاضلان على قوله: (بودّكم) ما يفيد أن في الأصل: (قولكم)؛ وهو تحريف

ويقول الناقد: (إن لفظ الأصل صحيح لاشك فيه، فلا موجب لتغييره بكلمة أخرى)

ونقول: إن الصواب ما فعله المصححان الفاضلان: فإن قوله: (وإنما قولكم أن تشغلوا جاهلاً وتستذلوا عزيزاً) حسب عبارة الأصل، غير سائغ في أي أسلوب مهما انحط في درجات الكتابة؛ فهي عبارة ممزّقة النسج، فاسدة المعنى، فإن كون المناطقة يشغلون الجاهل ويستذلون العزيز ليس قولاً، وإنما ذلك قصد وإرادة، بدليل قوله بعد:(غايتكم أن تهوِّلوا بالجنس والنوع)

وإذن فالملائم لسياق الكلام أن يقول: وإنما بودكم أن تفعلوا كذا، وغايتكم أن تفعلوا كذا. . .

ومنها ما رواه أبو حيان في هذه المناظرة أيضاً من كلام متي ابن يونس المنطقي، يقول:(لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل والصدق من الكذب. . . إلا بما حوَيْناه من المنطق، وملكْناه من القيام به)

وقد كتب المصححان الفاضلان على قوله: (حويناه) ما يفيد أنه في الأصل: (جربناه) مكان قوله: (حويناه)؛ وهو تحريف ويقول الناقد: أن قوله (جربناه) صحيح لا تحريف فيه

ونقول ردا عليه: إن فعله مصححا الكتاب هو الصواب بعينه؛ وقوله (جرَّبناه) في هذا الموضع تحريف لاشك فيه ولا معنى له؛ فإن قول المؤلف بعد: (وملكناه من القيام به) ينادي بصحة ما أثبت مصححا الكتاب، فإن (حويناه) و (ملكناه) بمعنى واحد وإن اختلفا في اللفظ، كما هو ظاهر

ومنها ما قاله السيرافيّ أيضاً موجها الخطاب إلى متّي يعرّفه فضل اللغة العربية، قال:(وإذا لم يكن لك بُدٌّ من قليل هذه اللغة من أجل الترجمة)

وقد كتب مصححا الكتاب على قوله: (الترجمة) ما يفيد أن في الأصل: (التجربة) مكان

ص: 80

قوله: (الترجمة) وهو تحريف

ويقول الناقد: إن لفظ الأصل صحيح

ونقول: إنه تحريف كما رأى مصححا الكتاب، إذ لا معنى لقوله:(التجربة) في هذا الموضع؛ وإلا فما معنى أنه محتاج إلى قليل اللغة لأجل التجربة؟ وما المراد بالتجربة هنا؟

إنها على هذا الوجه عبارة غير مفهوم المراد منها. على أن سياق الكلام يدل على أن الصواب كلمة (الترجمة) كما رآه المصححان الفاضلان

وأنا أروي لك هذه الجملة والجمل التي بعدها ليتبين لك أن السياق يقتضي لفظ (الترجمة) لا (التجربة). قال: (وإذا لم يكن لك بد من قليل هذه اللغة من أجل الترجمة فلا بد لك أيضاً من كثيرها من أجل تحقيق الترجمة واجتلاب الثقة)(يريد الترجمة من اليونانية إلى العربية)

ومنها ما رواه التوحيدي من كلام السيرافي أيضاً الذي وجهه إلى متى المنطقيِّ يقول له ما نصه: (ثم أنتم في منطقكم على نقص ظاهر، لأنكم لا تفون بالكتب ولا هي مشروحة) أه ومعنى قوله: (لا تفون بالكتب) أنهم لا يقومون بحقها وما يجب لها من الشروح والتعليقات، فهي كتب ناقصة غير مستوفاة

وكتب المصححان الفاضلان على قوله: (لا تفون بالكتب ما يفيد أن في الأصل: (لا تقولون)؛ وهو تحريف أه

ويقول الدكتور مبارك: إن كلمة الأصل صحيحة وإن عمل المصححين لا موجب له

ونقول: ما معنى أن المناطقة لا يقولون بالكتب - كما يرى الناقد -؟ الحق أنها عبارة فاسدة، لأن المناطقة يقولون بالكتب ويؤلفونها ويقرءونها؛ وأن ما فعله المصححان الفاضلان هو الصواب بعينه، بدليل قول المؤلف بعد:(ولا هي مشروحة) فإن هذه العبارة تدل دلالة واضحة على أن السيرافيّ يريد أن المناطقة لا يفون بالكتب وأن كتبهم ناقصة

ومن أمثلة هذا النقد التافه أيضاً قول الناقد في عبارة التوحيدي ونصها: (بل الأشياء منها ما يوزَن، ومنها ما يُكال، ومنها ما يُذرع، ومنها ما يُمْسح، ومنها ما يُحزَر) وقد كتب المصححان الفاضلان على قوله: (ومنها ما يحزر) وهي العبارة الأخيرة ما يفيد أن في الأصل: (ومنها ما يمسح ويحزر) بسقوط كلمة (ومنها ما) قبل قوله: (يحزر) وأنهما قد زادا

ص: 81

هذه الكلمة كما يقتضيه سياق الكلام، فإن المؤلف قد عبر في كل ما سبقها بقوله:(ومنها ما)

ويقول الناقد: (انه لا موجب لزيادة (ومنها ما) وإن الصواب ترك العبارة هكذا: (ومنها ما يمسح ويحزر) كما هي عبارة الأصل أه

ففي أي لغة يسوغ هذا الكلام؟ إن ما يمسَحُ يا دكتور زكي غير ما يحزر، فإن الحذر هو تقديرك الشيء بالحدس والتخمين كما تفعل في نقدك، وما يُمسح معروف

وإذا كان المؤلف قد قال: (منها ما يكال ومنها ما يوزن) الخ ألا يقول: (ومنها ما يمسح ومنها ما يحزر)؟

وقد كان بودّنا أن نترك عبارة المؤلف تردّ بنفسها على الدكتور زكي مبارك دون أن نعلْق عليها هذا التعليق الطويل

تلك أمثلة من نقد هذين الكاتبين الدكتور زكي مبارك وبشر فارس قد أتينا بها ليعلم القراء قيمة ما نقدا به هذا الكتاب القيم في تصحيحه ومادته

ولا نريد أن نقف أمام كل ملاحظة من ملاحظاتهما موقف الرد والمناقشة فشرح ذلك يطول، ولا تتسع الصحف لمثل هذه الفضول. وإن أتفه الأمور المناقشة في توافه الأمور

ولنا عودة إلى الحديث عن قيمة هذا الكتاب من ناحية مادته، وما أودَعَه فيه مؤلفه من علم غزير وأدب جمّ

ع. ص

ص: 82