المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 343 - بتاريخ: 29 - 01 - 1940 - مجلة الرسالة - جـ ٣٤٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 343

- بتاريخ: 29 - 01 - 1940

ص: -1

‌أثر المؤتمر الطبي ومصرع رستم حيدر

أمل وذكرى. . .

كانت القاهرة في أيام عيد الأضحى حجا للعروبة، كما كانت مكة فيها حجا للإسلام. وكان بين عرفات والمقطم أمواج متعاقبة من شعاع الروح الإلهي تشرق في الأبصار والأفواه والأفئدة فتتعارف وتتآلف وتتكاشف، فيفضي كل قطر إلى أخيه ببنات قلبه وذات صدره وكان ولا شك بين وفود المؤتمر الطبي العربي، كما كان بين حجاج البيت الإسلامي الحرام مذكرات وأحاديث فيما يكرب الأرض ويحزب الناس من انفجار العدوان والطغيان والشر في أكثر بقاع العالم، فكان إصفاق الرأي ولابد على ضرورة الوحدة العربية بأي شكل وعلى أي نظام

والحق أن الوحدة العربية في شتى صورها لم تكن في عهد من العهود ولا في حال من الأحوال ألزم منها لحياة العرب في هذا العهد وعلى هذه الحال. فقد كانت بالأمس سبيلاً من سبل الكمال الإنساني تصد عنها عصبية المكان وحزبية المذهب، ولكنها أصبحت اليوم ضرورة من ضرورات البقاء تدعو إليها طبيعة الحياة وسلامة الذات. لذلك لهج بها وفود المؤتمر وشهوده في حفلاتهم الرسمية والشعبية، واعترف بها ودعا إليها وزير الشؤون الاجتماعية في خطبته الخطيرة بدار الأوبرا الملكية

كان عيد القاهرة بما رأينا من تعاطف الأخوة المؤتمرين مبعث أمل؛ وكان عيد بغداد بما سمعنا عن مصرع الوزير رستم حيدر مثار ذكرى. ولم يكن من السهل على الخاطر - وقد امتلأ البصر والسمع بشباب العراق وأخباره - أن ينصرف عن الفكر في حاضر العراق وماضيه

رحم الله رستم حيدر! لقد كان وحده فصلاً في تاريخ العراق الحديث. وإذا كان في بعض حواشي الملوك رجال للهو والزهو، وآخرون للتجسس والتمويه، فإن رستم حيدر كان وحده في حاشية الملك فيصل رجل الجد والعمل. ولم أر في المهاجرين إلى بغداد مع صقر قريش أعلم ولا أفهم من رستم حيدر وساطع الحصري. وقد أبلى الرجلان في إذكاء النهضة العراقية البلاء الحسن: هذا في ميدان الثقافة، وذاك في ميدان السياسة. وكان بينهما مشابه من جهات كثيرة: فكلاهما مستقل الفكر، له في كل مسألة رأي وعلى كل رأي

ص: 1

اعتراض. وكلاهما متقن العمل، يتقصى أطرافه ويستبطن دخائله. وكلاهما صليب الرأي، يعييك أن يتابعك على ما تريد. وإذا كان بين الرجلين اختلاف، فهو الاختلاف الطبيعي بين رجل السياسة الذي يتأثر بالأحوال والرجال والحوادث، وبين رجل العلم الذي لا يستخدم غير المنطق ولا يتوخى غير الحقيقة

كان المرحوم رستم حيدر ظاهر الوقار، دائم الانقباض، كثير الصمت، خافض الصوت، هادئ الحركة؛ ولكن هدوءه كان كهدوء الماء العميق، تضطرب في جوانبه الأفكار والأسرار وهو ساكن السطح بارد الأديم

وكان منذ اشتغاله بشؤون العراق مستشار المغفور له الملك فيصل في سياسته الداخلية والخارجية، لبصره بعلوم السياسة والمال، وعلمه بمداخل الأمور ومخارج الحيل. فكانت أعمال العاهل العظيم تجد مصاديقها غالباً في أقوال المستشار اليقظ

كان من سياسة رستم الاعتماد بعد التامين على الفرات قبل دجلة. لأن الفرات شيعي المذهب، وعلى ضفافه الخصيبة تنزل القبائل البدوية القوية. وفي تقوّيه بالشيعة حيطة من نجد، ومودة لإيران

وكان يشيح بوجهه عن مصر، لأن هواها في ثورة الحسين على الترك كان مع الخلافة، ولأن اشتغال طلبتها بالسياسة كان في رأيه مرضاً مخطراً لا ينبغي أن تسرى عدواه إلى العراق ولعله كان السياسي العراقي الوحيد الذي لا يهتم بأحوال مصر ولا يتصل برجال مصر

وكان من رأيه توسيع التعليم الأولي والمهني، وتضييق التعليم الثانوي، وحصر التعليم العالي في مدرسة لتخريج الموظفين ورجال الإدارة، خشاة أن يكثر المتعلمون فيكونوا مصدراً للشغب والإضراب والفوضى. وفي ذلك العهد الذي أرجع بذاكرتي إليه أغلقت المدارس العالية جمعاء إلا مدرسة الطب. وكان من أشد المعارضين لهذه السياسة التعليمية الأستاذ ساطع الحصري، لأنه كان يحاول أن ينشئ الثقافة العامة على قواعد العلم الخالص دون أن يحفل بأهواء الطوائف وأغراض الساسة، ولذلك نحى حينئذ عن سياسة المعارف

وكان من خطة المرحوم رستم أن تظل الأراضي الزراعية ملكاً للحكومة لتضمن بمنح الالتزام ومنعه طاعة القبائل وتأديب العصاة. ومتى تحضرت العشائر وتوحد القانون

ص: 2

وعمت المدنية الاجتماعية أمكن أن توزع ملكية الأرض على نظام عادل

تلك هي أقوى الأصول التي كانت تنبت عليها سياسة القصر في ذلك الحين، ولا يعلم غير الله مقدار أثر المستشار في وضع هذه السياسة

لقد كان المرحوم رستم حيدر عنيداً في رأيه صليباً في خطته. والعناد والصلابة صفتان لا يحسنان فيمن يتولى أمراً بالعراق

دخلت عليه ذات يوم من عام 1932 وهو وزير المالية أسأله أن يرد على صديقي أمير بني تميم ما أخذته الحكومة من أراضيه الملتزمة وهو يبلغ خمسة عشر ألف فدان، فأجلسني إلى جانبه عن يسار المكتب الذي سفك عليه دمه منذ أيام؛ ثم أخذ يقنعني بالحجج والشواهد أن الحكومة محقة وأن الشيخ مبطل. ثم عزا المصادرة إلى أمور تتعلق كلها بسلامة العشيرة وإقامة العدل. ولم ير نفسه في حاجة إلى ذكر السبب الأول وهو أن سيد تميم عضو قوي في حزب المعارضة! فأدهشتني جرأة الوزير وأعجبتني لباقته، وعجبت كيف يصر على مناوأة الشيخ وفي سبيل خمسة عشر ألف فدان تخشى الخصومة! ولكنه نجا من مناوأة الأمير لأنه طالب مجد، ولم ينج من مناوأة الموظف لأنه طالب قوت

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌جائزة هذا العام

للأستاذ عباس محمود العقاد

في اعتقادنا أن المحكمين في جائزة نوبل الأدبية والسلمية يلاحظون القضايا العالمية عند اختيار صاحب الجائزة، إذا لم يكن لها مرشح من طراز برناردشو وأناتول فرانس مترلنك ونظرائهم الذين يستحقونها بشهادة العالم قبل شهادة المحكمين

فقد كانت الجائزة من نصيب الكاتبة الأمريكية بيرل بك لأن القضية التي كانت تشغل الأذهان في السنة الماضية هي قضية الصين، وقد اشتهرت الكاتبة الأمريكية برواياتها الصينية العديدة حتى أوشكت أن تقصر على موضوعات الصين كل ما كتبت من الروايات والقصص والمقالات

وكانت الجائزة من نصيب (إيفان بونين) الروسي المهاجر إلى باريس هرباً من طغيان الشيوعيين يوم كانت قضية اليوم هي قضية الحرب بين الحرية والشيوعية وبين عقائد النور وعقائد الظلام في روسيا الحمراء

وقد أصابت الجائزة هذا العام أديباً فنلندياً لم يظهر شأنه قبل ذاك في أمم أوربا الغربية على الخصوص لأن قضية فنلندة هي قضية السلم والحرية وقضية الجهاد النبيل في هذه الأوقات

ومن السهل أن نقرن قبل ذلك بين أصحاب الجوائز وبين القضايا الإنسانية التي نجمت في الهند أو في أيرلندة أو في إيطاليا أو في بولونيا أو في ألمانيا، ولا سيما جائزة السلم التي أصابت كارل فون أوسيتزكي ولم تصل إليه، لأنه كان في قبضة النازيين

ولا غبار عندنا على هذا الميزان وإن لم يكن من موازين الأدب الخالص والنقد المجرد، لأن الجائزة المبذولة إنما هي قبل كل شيء جائزة السلم والمروءة، ولا ضير في الجمع بها بين الاعتراف للأديب الذي ينالها والاعتراف للقضية التي يرتبط بها ذلك الأديب إما ارتباط الموطن أو ارتباط المذهب أو ارتباط العقيدة الاجتماعية

وعلى هذا المعنى لا نرى في هذا العام من هو أحق بها من أدب فنلندة (فراتز إبميل سيلانبا) إذا اجتمع استحقاقه إلى استحقاق أمته للتنويه والتشجيع

ونقول هذا لأننا لم نقرأ للكاتب الفنلندي شيئاً من الكتب والروايات قبل ذيوع اسمه لتلك

ص: 4

المناسبة. وليس في وسعنا أن نحكم على أدبه أو على استحقاقه الفني بمعزل عن استحقاق بلاده، فحسبه شهادة وتزكية انه أديب تلك البلاد التي ارتفعت إلى الذروة العليا من مقاوم البسالة والاستشهاد

لم نقرأ له ولكننا قرأنا عنه فذكرنا ما كتبناه في العام الماضي حين قلنا إن المحكمين يختارون لجوائزهم واحداً من اثنين: (فإما أديب من الأعلام البارزين طبقت شهرته الآفاق وحكم العالم له قبل حكم المجمع ونقاده. . . وإما أديب يخدم الطيبة والمروءة ويشيع بين الناس أواصر المودة والرحمة)

فإن لم يكن (سيلانبا) من الأولين فهو ولا ريب - على حسب أوصاف عارفيه - من الآخرين

ويبدو لنا أن هذا الكاتب الفنلندي قد استطاع ما لا يستطاع في كثير من الأحيان:

استطاع أن يوفق بين معيشته ومعيشة أبطال رواياته ومعيشة أبناء وطنه ومعيشة الإنسان في كل زمان بمعزل عن الأوقات والأوطان

فالأبطال الذين يصورهم في رواياته هم فلاحون فنلنديون، وهم مع ذلك أناسيّ صادقون، وهم مع هذا وذاك صدى ما في عيشه هو وعيش أسرته جميعاً من البساطة والسهولة والطيبة وقلة التعقيد

والظاهر أن سيلانبا قد استمد البساطة من نشأته ومن تعليمه على السواء

فهو بنشأته فلاح. وهو بتعليمه (بيولوجي) من تلاميذ داروين المعجبين بذلك العلامة العظيم. وليس في الدنيا شيء يعلم المفكر البساطة والسداد في النظر إلى الحياة والأحياء إن لم يتعلمهما من أخلاق داروين وعقل داروين وطريقة داروين في الملاحظة والاستقراء

وقد أبدع سيلانبا في الرواية الفنلندية نمطاً جديداً غير النمط الذي كان شائعاً في وطنه بين كتاب الروايات والأقاصيص

فقد كان الولع بالحبكة والتشويق والإطناب غالباً على الكثيرين منهم، وكان فن الحكاية عندهم غالباً على فن الحياة أو فن الملاحظة الصادقة عن كثب

ولعلهم وقعوا في غلطة الأكثرين من أدبائنا الشرقيين الذين حسبوا أن القريب لا يستحق البحث عنه لمجرد أنه قريب، وأن البعيد خليق بالسعي إليه لا لشيء إلا أنه بعيد. فتركوا

ص: 5

البساطة والقرب وأوغلوا وراء الشذوذ والتعسف، ودلوا من حيث لا يقصدون على صعوبة المطلب القريب واستعصائه على غير العباقرة الملهمين

وجاء سيلانبا فعوّد القراء الفنلنديين كيف يسيغون قصة تقوم على مراقبة أم ووليدها الصغير، أو مراقبة الشيخوخة التي تتشابه فيها الأوقات والخواطر والأعمال، أو مراقبة الأفراد الذين لا يخلقون التاريخ ولا يأتون بالعجائب ولا يخرجون من الغمار، ولكنهم هم الطبعة الشائعة من كتاب الحياة الباقية، وفي هذه الطبعة ولا شك يقرأها من يفتش عن معناها الأصيل

وهو يحسب أن الأفضل الأكمل من مؤلفاته هو ما جاد به عفو البداهة وسخاء الساعة، ومن هنا إيثاره لقصة صغيرة اسمها (هلتووراجنار) وقوله إنها كتبت في سهولة وفيض سريع، وهكذا تكتب أحسن الآثار

لكنه كثير المراجعة لمعظم ما يكتب، فقلما يتركه بغير تنقيح وتصحيح على الهامش. ثم يعاد إليه من المطبعة فيزيد عليه ويحذف منه ولا يستريح إليه إلا بعد تبديل كثير

وأشهر رواياته (سيلجا) وهي كما قال قد ظفرت بالحصة الدنيا من التنقيح والتبديل

رأيت صورته فإذا هي تنم على تركيب بنية الفلاح الضليع المستنير.

ورأيت صورته بين أبنائه وزوجته الأولى فإذا هي تنم على رب الأسرة القرير العين بمعيشته البيتية وحمايته الأبوية

وقرأت تلخيص كتاباته فعلمت أنه جدير بأن يكتب مثله، لأنها من معدنه وهو من معدنها

زاره الكاتب الإنجليزي إيفور بنسون وكان في هلسنكي عاصمة فنلندا يوم إعلان نبأ الجائزة فقال:

لبثت أنتظره بعد الموعد نحو خمس دقائق أو ست. ثم اندفع إلى الحجرة وعلى شفتيه ابتسامة عريضة وفي إحدى يديه زجاجة من الجعة، وفي اليد الأخرى كوب ملآن إلى نصفه، وبادر معتذراً يقول:

(لقد تأخرت لأنني عنيت بالحلاقة الجيدة قبل غد لولا علمي أنني سألقى اليوم إنجليزياً فلا مناص من (عملها) اليوم. . . إذ يقال إن الإنجليزي يحكم على من يلقاه بأشياء ثلاثة: أولها حالة ذقنه، ومر بيده على ذقنه مرور الواثق المطمئن؛ ثم لمس رباط رقبته وعلى وجهه

ص: 6

ظل من التوجس ولمحة عصبية ظريفة تشف عن الشك وقلة الوثوق ومضى يقول: أيا كانت الحال فليست هي بالرديئة، وقد أجوز بها الامتحان!

(أما الشيء الثالث فهو الحذاء، ثم جلس على مقعد وسحب بيني وبينه كرسياً يحجب قدميه وقال: ولا أخاله ينجح في هذا الامتحان، ولكنك لا تراه!)

قال إيفور بنسون ما فحواه: إن سيلانبا طفق يتحدث إلي بين الاستحياء والتدفق الصاخب حديث الصاحب الذي قد عرفني طوال حياته، وذكر لي أن الذي يعجبه من التحدث إلى الإنجليز أن جرح شعورهم عسير، وأن معاكستهم مأمونة كل الأمان. وكان يلوح عليه أنه كان يفكر تلك اللحظة فيما يفاجأ به أحياناً من ألم يساوره كلما ظهر له أنه قد أتى بإساءة مستغربة على غير قصد منه

وجملة ما يقال في وصفه أنه رجل بين بساطة الفطرة وتثقيف العلم والحضارة، وأنه في أدبه وفنه وأسلوبه على هذا المثال

عباس محمود العقاد

ص: 7

‌اتقوا الله في أخيكم!

للدكتور زكي مبارك

ذهب الأستاذ الزيات لزيارة صديقه (عين) فوجده مضى لقضاء أيام العيد بين أهله في المنوفية، ثم نظر في غرفة الاستقبال فرأى (منظار) الصديق فوق إحدى المناضد، فوضعه على عينيه ليعرف إلى أي حد تبدو الخفايا لمن يحمل ذلك المنظار العجيب، ثم هام في شوارع القاهرة يتوسم وجوه الناس فرأى فيهم غرائب وعجائب يشيب من هولها الوليد، فتفزّع وقال وهو يحاور ذلك الصديق:

(أتريد أن أرد إليك منظارك، أم تسمح لي أن أجرّبه على عين الدكتور مبارك؟)

وما أحب أن أعود إلى تشريح مقال الأستاذ الزيات، لأنه مقال محزن، وأنا أخاف على نفسي وعلى القراء من النظر فيه من جديد

ولكن لا بأس من النظر في التجربة التي يقترحها أخونا الزيات، وهو يريد أن أرى العالم مرة من وراء ذلك المنظار الذي نقل فهمه للدنيا والناس من حال إلى أحوال

وأسارع فأقول: إن ما رأيته بالعين الطبيعية فيه الكفاية وفوق الكفاية، فمن الرفق برجل في مثل حالي أن تعفى عيناه من النظر إلى الناس بمنظار يفضح ما خفي واستتر من دقائق المساوئ والعيوب

الزيات هو الذي يحتاج إلى منظار يرى به خلائق الناس، لأنه كثير التلطف والترفق، ومن كان كذلك فهو قليل التعرض لآفات الناس، ومن هنا يقلّ علمه بما فيهم من دميم الغرائز وذميم الخصال

أما أنا، فقد دخلت على الناس في جحورهم وأوكارهم، وما زلت أهيجهم بقلمي حتى أسمعوني أعنف ما يملكون من هرير ونباح وعواء. وهل ابتلي أحد بأهل زمانه كما ابتليت؟ وهل عانى أحد من لؤم زمانه بعض ما عانيت؟

وهل بين قراء اللغة العربية في مصر والشرق من يجهل بليتي بزماني؟

لقد شكوت دهري وشكوت ثم شكوت، حتى عطف عليّ أعدائي، فما حاجتي إلى منظار أرى به المستور من خلائق الناس، وقد اكتوت يدي واكتوى قلبي بالسعير الذي يتمرد كلما سمع باسمي أو رآني؟

ص: 8

ويزيد في الغم والكرب عرفاني بأني لم أكن رجلاً لئيماً حتى أقاسي من الناس ما قاسيت. وهل رأى الناس في القديم والحديث صديقاً في مثل أدبي وكرمي وسخائي؟ ومن هو الرجل الذي يجرؤ على القول بأنه أعرف مني بالواجب، وأحفظ للعهد، وأحرص على مقابلة الجميل بالجميل؟

وهل كان الذين ينوشونني بألسنتهم وأقلامهم إلا خلقاً بنيت أقدارهم بقلمي ولساني؟

دلوني على صديق واحد أسأت إليه في محضر أو مغيب!

لو كنت رجلاً لئيما لنسفت أعدائي وخصومي في يوم أو يومين ثم استرحت من التفجع على مصاير الناس إلى مهاوي البغي والعقوق؛ ولكني رجل كريم يكره الغدر ويستعيذ بالله من العدوان على الناس، وذلك باب من الضعف الشريف، وأنا به مزهوّ مختال

وما الذي ينكر عليّ أهل زماني حتى يصدوني بغدرهم عن الثقة بأبناء آدم وحواء؟

أنا أعرف ما ينكرون عليّ، فقد ساءهم أن أسجل ما في زماني من صغائر ومعايب وموبقات. ساءهم أن أفضح سرائر الأدعياء، وأن أقهرهم على الاستهانة بالأدب المزيّف لتقبل عقولهم وأذواقهم على الأدب الصحيح

وهل أخطأت حتى ألقي من بغيهم ما لقيت؟

إن أعدائي يقولون في كل وقت إن مصر هادية الشرق، فكيف يلام من يوجه المصريين إلى أصول الصدق والعدل لتصح لهم السيطرة الأدبية على الشرق؟

وهل يعرفون لي ذنباً غير هذا الذنب الجميل؟

إن كان في هذا البلد من يؤمن بأنه ضحّى في سبيل الأدب بأعظم مما ضحيت فليتقدم ليحمل بعض ما أحمل من ثقال الأعباء

ذلك رأيي في نفسي، وهو حق، فليكذبني من يجرؤ على مصاولتي من أهل الأدب والبيان

وما قيمة مصر في الشرق أو في الغرب إذا صح لأهلها أن يقهروا رجلاً مثلي على اليأس من العدل؟

وبأي حق يدعوني الناس إلى التلطف والترفق وأنا لم أر منهم غير الظلم المبين؟

وفي أية شريعة يفرض على الرجل المظلوم في وطنه أن يعلن أنه من السعداء؟

ومن الذي يراجع الظالمين إذا سكت قلم الأديب؟

ص: 9

حدثوني كيف يسكت من يرى أصدقاءه يأكلون لحمه بلا تهيب ولا إشفاق؟

حدثوني كيف يحرم الغضب على رجل يرى تخلّف العقل في بلد يستطيل أهله على الشرق باسم العقل؟

نحن في مصر التي سبقت جميع الشعوب إلى المدنية، فمن حقنا عليها أن نرجو حرية التعبير عما نعاني من معاطب وحتوف

ومن يسمع شكوانا إذا تجاهلت مصر أننا بفضل جبروتها أشقياء؟!

إلى من نتوجه إذا تعامى الوطن الغالي عن مآسينا الدامية؟ آه! ثم آه!!

في وطن الأزهار والرياحين تموت أفئدة وقلوب

وفي الوطن الذي شرع مذاهب العدل بوحي النيل الذي لا يخلف الميعاد تموت أرواح حساسة واعية معدوا عليها بسهام الظلم البغيض

في وطن النيل الذي لا يخلف الميعاد تضيع جميع المواعيد

احذروا، ثم احذروا من أن أراكم بعين الناقد، يا أبناء هذه البلاد

لقد نظرت إليكم بعين المحب فلم أر غير مآثم ومنكرات، فكيف تكونون لو نظرت إليكم بعين الناقد المنصف؟ كيف تكونون وأنتم حرب على الصديق الأمين؟

ويريد الزيات أن أراكم من وراء المنظار الذي كشف له من الطبائع ما لم يكن يعرف، فهل يظن بي السفه والحمق حتى أتعرض للمستور من عيوبكم ومساويكم!

أنتم أجمل الخلق في أعين من يرونكم من بعد؛ ولكنكم (أجمل) الخلق في أعين من يرونكم من قرب، وأنا منكم قريب، فما أعظم شقائي!

إسمعوا، يابني آدم من أهل هذه البلاد

أنتم وثقتم بأدبي، وليس فيكم من يخاف أن أضيع عليه حظاً غنمه بأي سبب من الأسباب، وبفضل هذه الثقة تجترحون ما تجترحون، فخوضوا كيف شئتم في أوشال الأكاذيب والأراجيف، فلن أجازيكم بغير الصفح والغفران

هات المنظار، يا زيات، هات

هات المنظار لأرى به عيوبي، وأنسى التفكير فيما عانيت من أصدقائي، ويرحم الله عهداً كان لي فيه أصدقاء!

ص: 10

حملت المنظار لأرى عيوبي، فماذا رأيت؟

رأيتني أخطأت أعظم الخطأ حين توهمت أن بني آدم هم جميعاً من طراز ذلك الصديق الغادر الذي صعب عليه أن أعيش وكان يحب أن أموت!

وهل هناك جرم أقبح من الجرم الذي اقترفت؟

مضت أعوام وأعوام وأنا أتلقى في كل يوم رسائل من قلوب تقسم بأنها قادرة على الطب لجروح قلبي، فهل استمعت نداء تلك القلوب؟

أنا أتلقى في كل يوم رسائل من فلسطين وسورية ولبنان والحجاز واليمن والعراق وتونس والجزائر ومراكش فهل فكرت في الإجابة عن تلك الرسائل الودية؟

وكيف وأنا أتجاهل ما يصل إليّ من أصوات القلوب في مصر والسودان؟

وكان ذلك لأني يئست من بني آدم بفضل الأصدقاء الذين سقيتهم الشهد فسقوني الصاب!

فما الذي يمنع من الاستجابة لدعاء تلك القلوب؟

ما الذي يمنع وأنا أعيش محروماً من نعيم الصداقة والحب؟

وهل يرفض من يعيش في مسبعة أن يخرج إلى الحواضر المأهولة بأرواح الناس؟

يمنع من ذلك أن أطياف الغادرين تصدمني حيثما توجهت، فالدنيا كلها هي وجوه الذئاب التي شقيت في تربيتها لتقوي على مضغ لحمي وعرق عظامي

الدنيا كلها هي فلان وفلان وفلان الذين خلدت أسماءهم في مقالاتي ومؤلفاتي ليصح لهم البغي عليّ باسم الأدب والدين

هات المنظار، يا زيات، هات

حملت المنظار لأرى عيوبي، وما أكثر عيوبي!

رباه، رباه!!

ما هذا الذي أرى؟

ذلك صديق أهجم عليه هجوماً صوريا لأرفع اسمه بين الأسماء فيراني من الأعداء

وذلك رفيق أدله على الخير فيراني من الآثمين

وذلك صاحب تشغلني الشواغل عن زيارته فيراني من الغادرين

وذلك أخ عزيز لا تهمه غير الظواهر ويغفل قلبه عن الخدمات التي أؤديها إليه في المغيب

ص: 11

فيراني من الجاحدين

فلأية حكمة خلق الله بعض الناس بلا بصائر ولا قلوب؟

أيكون الله أراد أن يمتحننا بخلقه حتى نؤمن صادقين بأنه صاحب الفضل الأول والأخير في الطب لجراحنا الدامية؟

إن كان ذلك ما يريد فقد رضينا بما يريد

ولكن الله يعلم أننا أصغر من أن نأنس بنجواه. ولابد لنا من مخلوقات نساقيها كؤوس الود حين نشاء، ونرى فيها صور أحلامنا وأوهامنا حين نريد، فمتى يمنّ الله علينا بأطياف تلك المخلوقات؟

كم تمنيت أن أراك في خلقك، يا فاطر الأرض والسموات. ولو استطعت لشغلت نفسي بك عن خلقك. وكيف أستطيع وأنا لا أملك السموّ إليك، أيها الروح المسيطر على جميع الوجود؟

أنا أعترف بذنوبي

لي أصدقاء ضيعتهم، وكنت من الظالمين

منهم ذلك الروح الذي شقي في أن ينطق لساني بالاعتراف بأنه صديق، والذي يكتب إلى ما يكتب ثم لا يظفر بجواب

وكان في يدي أن أملك ذلك الروح ملكا أبدياً وأن أصوغ من نجواه رسائل وقصائد أسيطر بها على الخلود

توسل إلي ذلك الروح أن أحفظ عهد الوفاء وأن أعلن أني له صديق ليحدث أهله بأنه موصول الأواصر برجل له قلب

ومن أجل هذا الروح الذي أخلفت آماله كل الإخلاف تحكم المقادير بأن أعيش في دنياي بلا صديق

فيا أيها الروح الذي يحدث أهله بأني لا أنساه ولن أنساه، أيها الروح الذي يدعوني فلا أجيب، اعرف ثم اعرف أن الله انتقم لك مني، فأنا اليوم بلا صاحب ولا رفيق

هات المنظار، يا زيات، هات

هات المنظار لأرى عيوبي، وما أكثر عيوبي!

ص: 12

هات المنظار لأرى الأسرة المكونة من أربعة أرواح، الأسرة التي ودعتني بالدمع المحرق يوم الفراق

فإن سمعتم، يا قرائي، إنني سأقضي بقية العمر في كرب وبلاء، فاعرفوا أن ذلك جزاء الغدر لمن يتناسى فضل تلك الأرواح

غرتني منزلتي الأدبية فتجاهلت أقدار تلك الأكباد الرقاق، فمتى أرجع إلى مساهرة النجوم في صحبة الأكباد الرقاق؟

فإن قتلني اليأس من عدل الأهل والأصدقاء فقد كنت الظالم الأثيم

والله أرحم من أن يعاقب قلباً يعترف بذنوبه وخطاياه

أنا باقٍ على العهد يا أحبائي، ويرحم الله من قال:

لقد صَدَدنا كما صددتم

فهل ندمتم كما ندمنا

زكي مبارك

ص: 13

‌بين دين محمد ودمه

الأستاذ علي حيدر الركابي

وددت الكتابة في هذا الموضوع بالنظر إلى احتدام الجدل بين طائفتين من الناس في بلاد الشرق العربي: طائفة تنتصر للإسلام وهو دين محمد (ص)، وطائفة تنتصر للعروبة المستندة إلى فكرة الدم - دم محمد صلى الله عليه وسلم

أما أنصار الإسلام فهم في الغالب من رجال الدين الذين خشوا أن تطغى الموجة القومية عليه، فانتصبوا في وجهها يحاربون العروبة ومن ينطق بها ظناً منهم أن ذلك يحمي الإسلام، وفاتهم أن الفكرة القومية مهما تطرفت لا تقضي على الإسلام الصحيح، وإنما يقضي عليه بقاؤه على هذه الحال المؤلمة المشوهة من الانحطاط والبعد - بشكله الحاضر - عن فكر الجيل الحديث وروحه. فهم إن أرادوا نصرة الإسلام وجب عليهم أن يقوموا بإصلاحه وذلك بإعادته إلى أصله الصافي

وأما أنصار العروبة فهم في الغالب من الشباب المندفع، الباحث عن فكرة سامية يعتنقها، الشباب الذي وقف حائراً لأنه وجد نفسه ضائعاً ولا دليل يهديه في موطنه، فتوجه بأنظاره نحو الغرب حيث خيل إليه أن الفكرة القومية سائدة فاعتنقها وتحمس لها بدون روية أو تعمق. وإذا ذكر الإسلام لأنصار العروبة نفروا منه لأنهم باتوا لا يرون في بنائه الفخم الرائع في الأصل سوى جدران بالية عبثت بها يد الزمان وشوهتها الحوادث والبدع فحكموا عليها بالهدم بدلاً من أن يسعوا إلى إزالة التشويه وتقويم البناء. وأغلب الظن أنهم اختاروا الهدم لسهولته، ولأنهم يجهلون هندسة القصر الأصلية وتاريخه الفريد فلا يريدون أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث والتنقيب

لقد استمر الأخذ والرد بين الفريقين فكانت ساحاته المجالس الخاصة والعامة، ثم انتقل إلى الكتب وظهر على صفحات الجرائد والمجلات، ولعبت أصابع المبشرين وغيرها من الأصابع الأجنبية الخبيثة فقوت الخلاف ونجحت في تحويله إلى نزاع مستحكم سيقضي في النتيجة على كلتا الفكرتين القومية والدينية - أي العروبة والإسلام - وإن لم يتدارك الأمر عقلاء القوم، فهم إن سكتوا عن هذه الفوضى في الأفكار والتردد بين المبادئ جعلونا نضيع المشيتين ونخفق في بناء نهضتنا على أساس قويم

ص: 14

ولكي نجلو كل إبهام قد يعلق بالأذهان لا بد لنا من تحديد معنى الفكرتين القومية والدينية بوضوح حتى نتمكن من معرفة ما إذا كانت إحداهما تعارض الأخرى من حيث الأساس أم لا:

دم محمد (ص)

إن المبدأ القومي السائد كما يفهمه المشتغلون بالقضايا العامة في الأقطار العربية كلها - ذو غاية سامية ثابتة، ألا وهي السعي إلى تحرير العرب وتحقيق الوحدة العربية. قد يختلف العرب على الخطة الواجب اتباعها لنيل استقلالهم، فمنهم من يؤمن بالحرية الحمراء ويبذل في سبيلها دمه وماله، ومنهم من يميل إلى اللين ويعتقد الصلاح في التفاهم والمفاوضة على أسلوب (خذ وطالب). وقد يختلف العرب أيضاً على الشكل الذي ستتخذه الدولة العربية العتيدة والزمن الذي تتكون فيه: أتتألف من ولايات متحدة، أم تتكون من حكومات مستقلة متحالفة بمعاهدات تعقدها على غرار الحلف العربي المعقود بين اليمن والمملكة السعودية والعراق، أم تصبح دولة متحدة في كل شيء: في عاصمتها وحكامها وأنظمتها الخ. . .؟ ومتى يمكن تحقيق هذه الوحدة، أفي المستقبل العاجل، أم في المستقبل الآجل؟ قد لا يتفق العرب على كل هذا، إلا أنهم على اختلاف مشاربهم مجمعون على الهدف الأسمى الذي لا يرضون عنه بديلا، وهو الحرية والوحدة.

هذه غاية القوميين، وهي غاية صالحة بدون شك؛ فإن في الأمة العربية العناصر الأساسية الكافية لتشكيل دولة متحدة. هناك تاريخ مشترك قد ولد رابطة قوية لا تفصم عراها، وهناك لغة واحدة وتراث آدمي واحد، وبالإضافة إلى ذلك فإن المصلحتين الاقتصادية والسياسية تقضيان بأن يتحد العرب.

أما من الناحية الاقتصادية فإن البلاد العربية اليوم في حاجة ماسة إلى نوع من الاتحاد الذي يوجد بينها تعاوناً وثيقاً لاستثمار الثروات الطبيعية الموجودة في أراضيها، وتصريف المنتجات المحلية، والسيطرة على التجارة. إن أرضاً تضم كنوزاً من الذهب والفضة والنفط والفحم الحجري والقار والكبريت، وتنتج مقادير كبيرة من الحبوب والفواكه والقطن وغيرها، وتجري فيها الأنهار العظيمة، أو تهطل الأمطار الغزيرة فتروي التربة الغنية، وتتمتع بمناخ ممتاز يصلح لمختلف الأعمال في مختلف المواسم، وتقع في مركز متوسط

ص: 15

بين دول العالم تستفيد منه تجارتها. . . إن بلاداً هذا شأنها يجب أن تنمو ثرواتها العامة والخاصة بشكل يضمن لها استقلالها الاقتصادي، حتى يصبح لها اعتبار في الأسواق العالمية يمكنها من تسخير مالها الوافر لتشييد صرح نهضتها الشامخ. إن أمة أسبغ الله عليها هذه النعم لا يجوز أن تعيش عيشة المتكل الكسول الذي يكتفي من زمانه بلقمة حقيرة يطعمه إياها من هو غريب عنه: يطعمه القليل بيده اليسرى ويتناول الكثير لنفسه بيده اليمنى، ولن يقضي على هذا الاتكال غير الاتحاد.

وأما من الناحية السياسية، فالأمة العربية ضعيفة في أجزائها قوية في مجموعها. ومن درس التاريخ استنتج أمرين: الأول أن حياة الأمم الصغيرة قصيرة، والثاني أن البلاد العربية - وهي حلقة الوصل بين الشرق والغرب، والجسر الذي تتبارى الدول للاستيلاء عليه - لم تنجح في رد المعتدي إلا عندما كانت متعاونة على دفعه، كما أنها لم تنل حظها من العظمة إلا بالاتحاد. ولذا فلن يبقى للدول العربية الحالية وجود مستقل، ولن تنمو وتتقوى إلا بالوحدة العربية، لأنها عاجزة عن الوقوف، منفردة في وجه الطامع.

هذه حقيقة الفكرة العربية القومية وهذه دوافعها، ومتى أوضح أنصارها مراميهم الآنفة الذكر قضوا على كل اعتراض، لأنها فكرة صحيحة تدعمها الحجج والبراهين القوية. ومع ذلك فإن بعض القوميين المتطرفين يسيئون إلى الفكرة الأصلية باندفاعهم الطائش ولجوئهم إلى نظرية لا لزوم لها، ألا وهي نظرية الدم. فالمناداة بالفكرة القومية المستندة إلى أساس العنصرية الضيقة لا يزيد المبدأ القومي قوة وإنما ينفر بعض العناصر التي تعيش في الأقطار العربية ولكنها لا تنتمي إلى أصل عربي. هذا فضلاً عن أن نظرية الدم فاسدة من أصلها وخصوصاً في الأقطار العربية وذلك بسبب الموجات البشرية التي اكتسحتها في شتى العصور مما أدى إلى اختلاط الدماء حتى بات إرجاع الأفراد إلى أصلهم الحقيقي أمراً يكاد يكون - في الغالب - في حكم المستحيل. إن الأقليات العنصرية الموجودة في البلاد العربية قادرة على تعطيل سيرنا إذا عوملت معاملة الغريب المحروم الاشتراك معنا في تحقيق أهدافنا بدرجة ما هي راغبة في التعاون معنا إذا أدركت القصد الحقيقي من الفكرة العربية، واطلعت على الفوائد الجمة التي ستجنيها هي من جراء اتحادها بأمة متحدة قوية. فلنكن مخلصين ولنبدد مخاوفها التي يغذيها المستعمر. علينا أن نؤكد لها أننا لا نريد القضاء

ص: 16

عليها. وعلينا أن نفهمها أنها جزء مهم من أجزاء الأمة العربية التي لا تتألف من جماعة من الناس ينتمون إلى عدنان أو قحطان، بل هي مجموعة من الأفراد الذين اشتركوا في تاريخ واحد فبعثت ذكرياته القريبة والبعيدة فيهم شعوراً مشتركاً ألف بينهم فدفعهم إلى السير نحو هدف واحد يرمي إلى تحقيق حريتهم ووحدتهم. ويضاف إلى هذه الرابطة العاطفية التي هي الأساس روابط أخرى توثق العلاقة بين هؤلاء الأفراد، كاشتراكهم في اللغة وتجاورهم في الديار وأن دين الأكثرية منهم واحد

إننا إن عملنا على نشر المبدأ القومي على حقيقته هذه حفظناه من كل شائبة وضمنا نجاحه.

دين محمد (ص)

إن للفكرة الإسلامية مفهومين مستقلين ومتناقضين ويجب بيانهما بادئ ذي بدء:

فهي في نظر البعض حركة ترمي إلى (ا) سيادة المسلمين على غيرهم من أتباع الأديان الأخرى و (ب) تحقيق الوحدة الإسلامية الكبرى و (ج) تنصيب خليفة للمسلمين. هذه هي الأهداف التي يتصور أصحاب المبدأ القومي أن كل مؤيد للمبدأ الديني يقصدها. وهي الأهداف التي يهاجمونها بشدة ويتخذونها سبباً مبرراً لانصرافهم عن كل ما له صلة بالدين. والواقع أن الكثرة من أنصار الإسلام - أو، على الأقل، الشباب منهم - لا تحمل هذه المبادئ، وإنما يعتنقها ويحلم بتحقيقها جماعة من (الجموديين) الذين قبعوا في بيوتهم بعد أن أقاموا بينهم وبين العالم الخارجي جداراً كثيفاً يقيهم حر (التطور) وبرده، ويحفظ آذانهم من أن تصل إليها صيحات المسلمين الضالين في كل قطر. إنهم لا يسمعونها ولذا لا يقومون بإرشادهم إلى تعاليم دينهم البسيطة والتي هم في أشد الحاجة إليها، بل يقفون في مكانهم وهم يرددون بعناد عجيب:(المسلم أفضل من غيره، وسينصره الله عما قريب!. . . الوحدة الإسلامية أولاً وأخيراً!. . . لابد للمسلمين من خليفة!. . .) لقد فاتهم أن المسلم الذي ينصره الله قد كاد ينمحي أثره حتى لم يبق اليوم سوى أشباه المسلمين، كما فاتهم أن الوحدة الإسلامية لن تتحقق إلا بعد أن يعود المسلمون إلى حظيرة الدين وتبعث فيهم الروح الإسلامية من جديد، وأما تنصيب خليفة للمسلمين فهو أضعف مطالبهم، ويكفي أن يعودوا إلى كتبهم ويطالعوا بحث (الخلافة) فيها ليدركوا أن شرطاً واحداً من شروطها غير متوفر الآن، لا في الخليفة العتيد ولا في الرعية. ولذا فإن أهدافهم، مهما سمت، تظل بعيدة عن

ص: 17

حدود الإمكان ولا بد من أن يسبق تطبيقها أمور كثيرة تمهد لها السبيل

إن فهم الفكرة الإسلامية بهذا المعنى مما يضعفها ويجعلها عرضة للانتقاد، كما أنه يجعل الأمم والملل الأخرى تنظر إلى كل ما هو إسلامي بعين المرتاب، فضلاً عن أنه يصرف كل مخلص محب للإسلام مؤمن برسالة نبيه (ص) عن الاشتغال بالقضايا الإسلامية.

فما هي إذاً الفكرة الإسلامية الصحيحة الخالية من كل هذه المحاذير؟

(للبحث صلة)

علي حيدر الركابي

بغداد (الرستمية) دار المعلمين الريفية

ص: 18

‌قصيدة لم تنشر

لشاعر الحب والجمال لامرتين

بقلم الأستاذ صلاح الدين المنجد

عاد لامرتين في عام 1844 إلى نابولي، تلك المدينة التي ألقت قدميها في الماء، وتركت البحر يدغدغها والنسيم يقبلها. وكانت زيارته الثالثة لهذه البلدة التي خلّفها في صباه، وخلّف وراءه فيما (جرازيلا) الحبيبة تعاني فجعة البين، ولوعة الحب، ووله الحنين. وطاب له المقام، فأقام في جزيرة صغيرة بالقرب منها، يرتع بين حلم موشّى، وعيش هادئ، وتذكر قاتل. وطافت به أشباح الأحباب في السنين الخوالي، ورأى جرازيّلا تهدهده بالنغم البارع فوق ثبج البحر، وتحزنه بالشكوى المحرقة في ذلك القصر العتيق. فجاش في صدره شعر باك حزين، برغم السنين الأربعين التي عمرها، وبرغم هذه الشعور التي تشبه غبشة الفجر. وماله لا يقول الشعر الحزين وقد مات الهوى وفقد الحبيب، وهو بعيد عن وطنه، وحيد على سيف هذا البحر الهائج كالغلام اليافع، فقال عشرين بيتاً من الشعر عثر عليها منذ حين في مجموعة نادرة مخطوطة لأشعار لامرتين في مكتبة السيد لويس بارتو الخاصة، ولم تكن قد نشرت من قبل. وهأنذا أنقلها للناس:

عندما كنت فتى، ملءُ بردىّ الفخار،

نشرت أجنحتي أمام أرواح البحار

فحملت شُرُع القوارب أفكاري وسارت

وراحت أحلامي تتوثب فوق مُرّ الأمواج

كنتُ أرى في ثنايا الموج الذي يغرق الأفق فيه

عوالم تزخر بالحياة، وجزائر تطفح بالسرور؛

تطفوا، موشاة بالياسمين، مزدانة بأغصان الكروم.

وكان الحب يناديني منها، والنصر أيمد لي معه اليدين

كنت أغبط كل سفينة يبيضَّ من حيزومها الزبدُ

تسعى جذلانة تبغي الشاطئ المجهول.

واليوم، أجلس على سيف الخليج الثائر

ص: 19

أذكر الماضي، فأخوض تلك الأواذيَّ ثم أعود

لشد ما أحببت هذه البحار التي ما أزال أهواها

كما أهوى حقلاً رفرف الحزن عليه،

دفنت فيه أجنحتي، فمعالمها تنطق في كل مكان:

ذلك، لا كما هويت من قبل عالم المنى والأحلام

لقد رقد هذا الشاطئ بحزن، وأذابت هذه الصخرة نفسي،

وذوت سعادتي في هذا الهدوء الخادع.

وهنا، صعقتني صاعقة هبطت من السماء

فولّت الموجات تسعى، تحمل كل واحدة منها

قطعة من قلبي المكلوم. . .

(دمشق)

صلاح الدين المنجد

ص: 20

‌الفروق السيكلوجية بين الأفراد

للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد

الفروق العقلية

يعتبر الفريد بينيه - كما ذكرنا في المقال السابق - زعيم النفسيين الذين وضعوا مقاييس علمية للذكاء، وقد ترجمت مقاييسه مهذبة إلى الإنجليزية في أميركا وإنجلترا، وإلى معظم اللغات الأوربية، وإلى اليابانية أيضاً. ومن هذه المقاييس المترجمة والمعتمدة حتى الآن مقياس (استنفورد بينيه المهذب). غير أن مقياس بينيه بصيغته ووضعه يتطلب أن يمتحن كل فرد على حدة، وتلك عملية طويلة مملة، ويحتاج إلى زمن ومجهود، كما أنه لا يناسب الأفراد الذين يرهبون الامتحانات الشفهية التي يواجهون فيها الممتحنين، ولذلك فكر علماء النفس في نوع آخر من المقاييس يقاس به الجمع من الأفراد. وكان دخول أمريكا في الحرب الكبرى سنة 1917 من العوامل التي جعلت الحاجة إلى هذا النوع من المقاييس الجمعية ملحة. فقد أرادت السلطات الحربية الأمريكية أن تعزل من المتقدمين للخدمة العسكرية ضعاف العقول لأن هؤلاء لا يصلحون لحمل السلاح ونزول الميدان، كما أرادت أن تختار من بين الصالحين لحمل السلاح أفراداً ذوي ذكاء يمرنون للوظائف ذات التبعات كوظيفة الضباط والقواد، ولم يكن من الممكن عملياً استخدام (مقياس استنفورد المهذب) ولذلك اجتمع علماء النفس الأمريكيون ووضعوا نوعين من المقاييس الجمعية: نوع يسمى (مقياس ألفا)، وهو لفظي تحريري لمن يقرءون الإنجليزية ويكتبونها، ونوع يسمى (مقياس بيتا)، وهو تحريري غير لفظي للأجانب الذين لا يعرفون الإنجليزية والأميين الأمريكيين، وقد طبع كل من النوعين، وكان يوزع في كراسات على المجندين. وبذلك أمكن اختبار آلاف منهم في دقائق معدودة

ومن الاختبارات التي احتواها (مقياس ألفا) عمليات حسابية عادية في الجمع والطرح تتدرج في الصعوبة من أول الصفحة إلى آخرها. وعلى الممتحن أن يقوم بهذه العمليات بأسرع ما يمكن وفي زمن محدود. وكذلك منها صفحة بها عمودان من الكلمات المألوفة، والكلمة التي في العمود التالي إما مرادفة للكلمة التي قبلها في العمود الأول أو مضادة. وكل ما يطلب من الممتحن هو أن يكتب أمام الكلمتين حرف (ر) إذا كانتا مترادفتين، أو حرف

ص: 21

(ض) إذا كانتا متضادتين. ومنها صفحة بها جمل كلماتها موضوعة في غير نظام معنوي، وعلى الممتحن أن يضعها في نظام بحيث يستقيم المعنى مثل: النور شروق يظهر الشمس عند. ومثل جملة: جريمة النفس الدرجة عن القتل للدفاع من الأولى، ثم يذكر إذا كانت الجملة قضية صادقة أم كاذبة. ومنها أيضاً صفحة ملأى بالأسئلة لمعرفة الأسباب المعقولة لحوادث عادية مألوفة كالسؤال: لم يستعمل معدن النحاس في الأسلاك الكهربائية؟ ألانه يوجد في الولايات المتحدة، أم لأنه جيد التوصيل، أم لأنه أرخص المعادن؟ وعلى الممتحن أن يضع علامة على السبب المعقول. وأما (مقياس بيتا) فهو لا يحتاج إلى قراءة أو كتابة لفظية، ومن اختباراته: اختبار تكملة الأجزاء الناقصة في الصور المرسومة في صفحة من الكراسة، كتكملة العين الناقصة في وجه إنسان، أو الأذن في وجه حمار. ومنها تكرار رموز على نظام خاص مرسوم في الكراسة كهذا النظام مثلاً: + +. . . أو هذا النظام - + - +. . . ولكل من هذه الاختبارات درجة. والنسبة المئوية لدرجات كل فرد تعين مقدار ذكائه. وقد ظهرت صلاحية هذين النوعين من الاختبارات في الجيش الأمريكي، وانتشر استعمالها وبخاصة (مقياس ألفا) في المدارس الأمريكية والإنجليزية. وقد بلغ عدد الجنود الذين امتحن ذكاؤهم بهذين المقياسين نحو مليونين

وقد استرعت نتائج هذه المقاييس أنظار علماء النفس، فقد وجدوا - بصفة عامة - أن أذكى الجنود هم أولئك الذين يحترفون مهناً علمية أو فنية كالمحامين والأطباء والمدرسين والمهندسين الخ ويليهم في الذكاء التجار والكتبة، وبعدهم الميكانيكيون العاديون، وأخيراً يجئ العمال وذوو المهن اليدوية. وليس معنى ذلك أن كل فرد من طبقة المحامين والأطباء والمدرسين الخ أذكى من أي فرد من طبقة التجار والكتبة. لا، بل الذي وجد هو أن الطبقة الأولى كمجموعة أذكى من الطبقة الثانية كمجموعة. وإن كان من بين أفراد الطبقة الثانية من يفوق في الذكاء بعض أفراد في الطبقة الأولى. وربما يتساءل القارئ: وهل لنوع المهنة أثر في الذكاء؟ والجواب على ذلك هو أن للذكاء أثراً في اختيار المهنة لا العكس. لأن القاعدة العلمية هي أن من لا يواتيه ذكاؤه للدراسات الجامعية أو العالية يقف دونها، وبذلك يختار من المهن ما يناسب مؤهلاته دون الجامعية، ويناسب في الوقت نفسه ذكاءه المحدود

ص: 22

كان من عناية رجال التعليم في أميركا وأوربا باختبارات الذكاء الجمعية، أن استعملوها مع امتحانات القبول بالمدارس مختلفة الأنواع والجامعات. ففي إنجلترا مثلاً يعقد امتحان لتلاميذ المدارس الأولية في سن الحادية عشرة لاختيار من يصلح منهم للمدارس الثانوية، ومن يصلح للمدارس الوسطى الفنية، ولمنح المجانية للمتفوقين ذكائياً. وقد أصبحت اختبارات الذكاء الجمعية مستعملة مع امتحانات التحصيل المدرسي. وأثبتت نتائج اختبارات الذكاء الجمعية تلازماً مع نتائج الامتحانات المدرسية في معظم الحالات. وفي الحالات التي حصل فيها اختلاف ظهر بعد البحث والتحليل مرة أخرى أن اختبارات الذكاء إنما قاست الذكاء الفطري الذي لم تستطع الاختبارات المدرسية كشفه. أو أن الاختبارات المدرسية قاست مقدار التحصيل المدرسي فقط. ولذلك يوصي المربون وعلماء النفس أن تستعمل اختبارات الذكاء مع الاختبارات المدرسية، حتى نحكم حكماً صحيحاً على ذكاء الفرد وتحصيله

وهناك نوع من اختبارات الذكاء يسمى (الاختبارات العلمية) وميزة هذه الاختبارات أنه يسهل استعمالها مع صغار الأطفال الذين لم يألفوا بعد استعمال الورق والقلم كالتلاميذ عند التحاقهم بالمدارس الأولية، وفيها تقاس أيضاً القدرات الذكائية العملية التي تتطلب الانتباه والتفكير، كما تستعمل بدلاً من مقاييس الذكاء اللفظية التي لا بد فيها أن يكون المختبر ملماً بالقراءة والكتابة واللغة، وفي هذا النوع من الاختبارات العلمية يطلب إلى المختبر أن يكوّن صورة لشيء، أو شخص من عدة قطع من الورق المقوى أو أن يبني مكعباً كبيراً من مكعبات صغيرة في أقل زمن ممكن وبأقل عدد ممكن من محاولات خاطئة أو أن يملأ فراغات منتظمة في لوحة خشبية، كفراغ مثلث أو مربع أو نجمة أو متوازي أضلاع أو جزء من دائرة. وهذا النوع من اختبارات الذكاء هو أقدم الأنواع التي حاولها علماء النفس. وتوجد منه الآن عدة مجموعات مقننة شائعة الاستعمال في المدارس الفنية والمصانع والشركات في أوربا وأمريكا

ولعل القارئ بعد هذا العرض لأنواع مقاييس الذكاء يتساءل: وما هو ذلك الذكاء الذي كثر الكلام عنه، وما طبيعته، وما الفرق بين الذكاء الطبيعي والذكاء المكتسب؟

وموعدنا المقال القادم للإجابة عن هذا كله.

ص: 23

(بخت الرضا - السودان)

عبد العزيز عبد المجيد

ص: 24

‌من وراء المنظار

أيام في القرية

لن أجد إذا أردت التعبير عن مبلغ حبي لقريتي كلاماً أجمل ولا أصدق

من كلام أستاذنا صاحب (الرسالة). ولست أزيد عليه سوى أني أعيش

في القرية أبداً إذا جئتها كواحد من فلاحيها؛ فأنا أخالط هؤلاء

الفلاحين، وأتكلم بلهجتهم، وأؤدي ما أريد من المعاني بألفاظهم،

وأضرب في الحديث أمثالهم، وأنهج في سوق الكلام نهجهم، لا أتكلف

ولا أتعسف؛ إذ لا حاجة بي إلى ذلك، وأنا قروي قبل كل شيء، ومثلي

إذا عدت إلى قريتي كمثل النبات، تنقله إلى بيئته، فيبدو لك من

خصائصه ما لا يبدو إلا في تلك البيئة. . .

هبطت القرية وبيني وبين العيد يومان، وتركت منظاري لينظر من ورائه صاحب (الرسالة)، فيستعيذ بالله آخر الأمر منه، ويسألني في ختام حديثه البارع الممتع: أيرسله إلي أم يجرّبه على عين الأستاذ المبارك. . . وما درى أن لي في القرية غير ذلك المنظار الذي لا ينفذ فيها إلى مثل ما ينفذ إليه في المدينة، ونسى أن للمبارك عيناً لا تحب المنظار، لأنها تنفذ وهي عارية إلى كل شيء ولو كان بينها وبينه أكثف ستار!

درت بمنظاري هذا فوقع من حياة (القرية) ومجاليها على ما لو طاوعت قلمي في سرده، لضاق عنه عشرة أمثال هذا المجال. وحسبي أن أقصر الكلام على ما كان أعمق أثراً في نفسي بين ما شاهدت. . .

شاعت الخضرة في الحقول، ورف في مزارعه بين بطاح البرسيم نوّار الفول، واهتزت الأرض أخيراً وزخرت بالحياة، بعد أن فعلت بها دودة البرسيم أياماً طويلة ما لا يفعل الجراد، فالتهمت جموعها الخفية العنيدة، البراعم الطرية الوليدة، وتركت الناس حيارى لا يجدون لما أصابهم من علة، إلا أنه غضب من الله. . . وأبهجت نفسي مظاهر الحياة والبشر في النبات الرفيف والشمس الصاحية؛ بيد أني وا أسفاه رأيت إلى جانبها، مظاهر

ص: 25

الموت والعبوس في الغدران الناضبة والأشجار العارية إلى جانبيها، ثم في تلك البهائم العجاف الهزيلة التي تلتهم البرسيم في نهم، ولا تنال منه إلا بقدر.

وجاء العيد فكان أجمل معانيه وقعاً في نفسي تحية أهل القرية جميعاً بعضهم بعضاً وتصافحهم إذا ما التقوا لا فرق بين غني وفقير، ولا بين كبير وصغير، ثم تزاور الناس منذ خروجهم من صلاة العيد إلى متوع النهار جرياً على أصول لن تعرف في المدن إلا بين من تربطهم صلة من قرابة أو من صداقة. وكثيراً ما يقوم فيها مقام الشخص ما يدفع إلى الخادم أو في صندوق البريد من بطاقة. . .

وارتاحت نفسي لحظة لهذا المعنى؛ غير أني ما لبثت أن كدرني خاطر طاف بنفسي؛ وهو أن عيد هؤلاء القرويين كطبيعة حقولهم، فهذا البشر الذي يبدو على وجوههم يكاد يشف عما وراءه من همّ جلبته عليهم الأزمة التي حلت بهم من هلاك الزرع وبيع القطن بثمن بخس، ولن تغرب شمس هذا اليوم حتى يعودوا إلى ما كانوا فيه من عناء ونكد

ورأيت العيد في دنيا الأطفال غير العيد في دنيا الكبار، فهؤلاء الصغار هم الذين ينعمون حقاً بالعيد؛ وهم الذين ينجلي بهم معنى العيد؛ ولكم بث مرآهم من النشوة في قلبي، وبعث من جميل الذكريات في أطواء نفسي، فذقت السرور الصادق برهة في تذكري أيامي التي خلت، والتي كان قصاراي فيها حلتي الجديدة وقروشي القليلة وتمتعي ساعة بالأرجوحة التي اسمع صليل (جلاجلها) النحاسية وصرير أخشابها العالية، ولكن بأذن وا أسفاه غير تلك الأذن الصغيرة! وما أعجب هذا السرور الذي يجر في أعقابه الأسف والكآبة. . .

وخرج الصبايا أسراباً عصر يوم العيد كعادتهن إلى الترعة البعيدة، يحملن جرارهن ويتجملن بحليهن ويخطرن في جديد ملابسهن والشباب يأخذون عليهن الطريق جماعات جماعات، وهم مزهوون بحللهم الجديدة وطواقيهم الناصعة البياض وعصيهم الرفيعة من الخيزران. . . ولكن نظرات البنات فاترة ساهمة، فليس من هؤلاء الفتية في هذا العام الباحث الخاطب والزوج المرتقب، وقد قل المال ورفعت الحرب ثمن كل شيء

وتجمعت في الأفق ظلال الغروب وراحت تطوي نور النهار وبهجة العيد معاً، وأويت إلى داري أعد في نفسي ما تصرم من أيامي في القرية وأحصى ما بقي منها، وأعجب لسرعة انقضاء الأيام هنا على هذا النحو، وأقول متى يقبل الصيف لأقضي في قريتي ما أقضي

ص: 26

كل عام من شهوره. وكان آخر سؤال طرأ على خاطري: متى يعني أدباؤنا بالريف وحياته فيصدق هذا الأدب وتتضح معالمه ويذهب عنه ما يعلق به من بهرج زائف وتقليد سخيف

(عين)

ص: 27

‌أفانين

بين الخوارزمي والهمذاني

للأستاذ علي الجندي

(تتمة)

كان دخول الرئيس أبي جعفر وصاحبيه الحربي والحيري، بمثابة هدنة نَّفست عن المتناظرين، وأتاحت لهما قسطاً من الجمام، فهدأت الشقاشق، وسكنت الزماجر، وأحسبهما أنسا بدخول الرئيس، وارتاحا إلى هذه الهدنة وودَّا أن يمتد أجلها! ولكن الرئيس لم يحضر لفض النزاع وحسم الخلاف، بل أتى كغيره تصاول العقول وتخاطر الفحول في ميدان المعقول والمنقول!

فما إن فرغ من السلام، وأخذ مجلسه بين الصدور المقدمين حتى تولى توجيه المناظرة، فاقترح أن ينشدا روّية على وزن اختاره

فتلمّظ البديع بلسانه، وسرعان ما أنشد اثني عشر بيتاً

منها:

برز الربيع لنا برونق مائه

فانظر لروعة أرضه وسمائه

والترب بين مُمسَّك ومُعنبر

من نَوْره، بل مائه ورُوائه

والماء بين مُصَندل ومُكفَّر

في حسن كُدرته ولون صفائه

والطير مثل المحْصنات صوادح

مثل المغّني شادياً بغنائه

زمن الربيع جلبت أزكى متَجر

وجلوت للرائين خير جلائه

فكأنه هذا الرئيس إذا بدا

في خلقه وصفائه وعطائه

ما البحر في تزخاره، والغيث في

أمطاره، والجوّ في أنوائه

بأجلَّ منه مواهبا ورغائبا

لا زال هذا المجد حِلْف فنائه

ثم أنشد الخوارزمي على هذا المثال تسعة أبيات لم نعثر عليها في مظانها

وقد وصفها البديع: بأنها جمعت بين إقواء وأكفاء وأخطاء وإبطاء! وأنه أخذ عليها عشرين مأخذاً! وذكر أنه اتجه إلى عميدي المجلس الوزير والرئيس، فقال - مشيراً إلى

ص: 28

الخوارزمي بعد فراغه من الإنشاد -: لو أن رجلاً حلف بالطلاق أني لا أقول شعراً، ثم نظم تلك الأبيات التي قالها الخوارزمي، هل كنتم تطلقون عليه امرأته؟ فهتف الجماعة: لا يقع بهذا طلاق!

ثم طلب البديع إلى الخوارزمي أن ينقد أبياته المتقدمة (برز الربيع لنا برونق مائه. . .) فقال الخوارزمي: قلت: أنظر لروعة أرضه وسمائه، ويقال: أنظر إلى كذا. فلم تسمع منه الجماعة

وشبهتَ الطير بالمحصنات، ثم شبهتها بالمغنيات. وأي شبه بين المحصنات والطير؟ ثم كيف توصف المحصنات بالغناء؟

فرد البديع: يا رقيع! إذا جاء الربيع كانت شوادي الأطيار تحت ورق الأشجار، فيكن كأنهن المخدرات بين الأستار، والطيور في الخدور كالمحصنات، وكالطير في ترجيع الأصوات

ثم قال الخوارزمي: وقلت: زمن الربيع جلبت أزكى متجر. هلا قلت: جلبت أربح متجر؟ فقال البديع: ليس الربيع بتاجر يجلب البضائع المربحة

ثم قلت: كالبحر في تزخاره، والغيث في أمطاره، والغيث هو المطر. فقال البديع: لا سقى الغيث أديباً لا يعرف الغيث! الغيث هو المطر، وهو السحاب. فصدقه الحاضرون

وهنا قال الإمام أبو الطيب الصعلوكي: قد علمنا أي الرجلين أشعر، وأي الخصمين أقدر، وأي البديهيتين أسرع، وأي الرؤيتين أصنع!

ثم مال المتناظران إلى فنون أخرى ظهر فيها فوقُ البديع، ووافق ذلك ملالة الحضور فشرعوا في الانصراف، وهم يثنون على البديع ويسلقون الخوارزمي بألسنة حداد!

وهمّ الخوارزمي بالقيام فأصيب بإغماء! فانحنى عليه البديع متمثلاً بقول بشر بن عوانة:

يعزّ عليّ في الميدان أني

قتلت منافسي جلَداً وقهْرا

ولكن رمتَ شيئاً لم يرمه

سواك، فلم أطق يا ليث صبرا

ثم أخذ يمسح عن وجهه! ويقبل بين عينيه! ويقول - على سبيل الاستهزاء -: أشهدوا أن الغلبة له!

ثم مدت الموائد وتكوّف حولها الحضور لتناول الطعام، وكأن الظفر فتح شاهية البديع!

ص: 29

فجعل - كما يصف نفسه ويصف خصمه - يكرع في الجفان، ويسرع إلى الرغفان! ويمعن في الألوان! والخوارزمي يتناول الطعام بأطراف الأظفار! فلا يأكل إلا قضماً، ولا ينال إلا شمّا!

وقد بلغ من جفوة البديع وتحجر مشاعره أنه لم يرع للطعام حرمة! فاتخذ خصمه هزئا وسخرية! وتناوله بفنون من التندر اللاذع حتى استكفَّه الوزير بقوله: قد ملكت فأسجح

ولما قام الخوارزمي عن المائدة - وقد خنقه تبريح الغيظ - قال للبديع: لأتركنك بين الميمات. قال: ما معنى الميمات؟ قال: بين مهدوم، مهزوم، محموم، مرجوم، محروم! فقال البديع: وأتركك بين الميمات أيضاً: بين الهيام، والصدام، والجذام، والحمام والسَّام، والزكام، والبرسام، والسقام! وبين السينات: بين منحوس، منخوس، منكوس، معكوس! وبين الخاءات. من مطبوخ، ومسلوخ، ومشدوخ، ومفسوخ، وممسوخ! وبين الباءات: بين مغلوب، مسلوب، مرعوب، مصلوب، مركوب، منكوب، منهوب، مغصوب!

ثم انفض المجلس وخرج البديع تحفه هالة من أصحاب الشافعي السٍّنية، يتبارون في تعظيمه وإجلاله! ويوسعونه ضماً وتقبيلاً!

وقبع الخوارزمي في مكانه حتى غربت الشمس، فعاد إلى داره كسير القلب خافض الطرف كاسف البال!

وكان لهذه الهزيمة وما لابسها من تألب بلده عليه، وخذلانهم له، وقع شديد على نفسه! فدلفت إليه العلل، وألحت عليه الأوجاع، فلم ينقض الحول حتى وافته المنية في شوال سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة هـ ـ

ومن الغريب أن اعتلاله لم يخفف من حقد خصومه عليه! فكتب بعض سفْلتهم إلى البديع يهنئه بمرضه! فرد عليه البديع بكتاب ليس فيه مسوح الرهبان، ومرقْعات الصوفية! ومن الإنصاف. أن نشيد بما انطوى عليه من أريحية ونبل ولعل مرد ذلك إلى الصفاء الذي يعاود النفوس بعد أن تهدأ فورتها، وتنجلي عنها غشاوة الباطل! فتوقن أن المجد كله لله والعزة له جميعا! ولعل مرد ذلك أيضاً إلى أن الظفر بالقرن يٍحلّ الضغينة ويمحو غليل الصدور، بل يستحيل - على تراخي الأيام - إلى عطف ورثاء! وشواهد التاريخ على ذلك كثيرة

ص: 30

قال البديع في كتابه: الحرٍّ - أطال الله بقاءك - لاسيما إذا عرف الدهر معرفتي، ووصف أحواله صفتي، إذا نظر، علم أن نعم الدهر ما دامت معدودة فهي أمانيّ، وإن وجدت فهي عواريّ، وأن محن الأيام - وإن مطلت - فستفد، وإن لم تصب فكأن قد، فكيف يشمت بالمحنة من لا يأمنها في نفسه، ولا يعدمها في جنسه، والشامت إن أفلت، فليس يفوت، وإن لم يمت فسيموت. وما أقبح الشماتة بمن أمن الأمانة، فكيف بمن يتوقعها بعد كل لحظة، وعقب كل لفظة، والدهر غرثان، طعمه الخيار، وظمآن شربه الأحرار. فهل يشمت المرء بأنياب آكله؟ أم يسّر العاقل بسلاح قاتله؟ وهذا الفاضل - شفاه الله - إن ظاهرناه بالعداوة قليلاً، فقد باطناه ودا جميلاً. والحر عند الحمية لا يصطاد، ولكنه عند الكرم ينقاد، وعند الشدائد تذهب الأحقاد. فلا تتصور حالتي إلا بصورتها من التوجع لعلته، والتحزن لمرضته. وقاه الله المكروه، ووقاني سماع المحذور فيه، بمنّه وحوله، ولطفه وطوله!

ولما مات الخوارزمي رثاه البديع، ولعله اقتدى في ذلك بجرير في رثائه للفرزدق قال:

حنانيْك من نفَس خافت

ولبيْك عن كمد ثابت

تحمّلت فيك من الحزن ما

تحمّله ابنُك من صامت

حلفتُ: لقد متَّ من معشر

غنيِّن عن خطَر المائت

يقولون: أنت به شامت

فقلت: الثرَى بفم الشامت

وعزَّت عليَّ معاداته

ولا مُتَدارَك للفائت

ورثاه أبو الحسن الرقماتي فأحسن وأساء:

مات أبو بكرٍ وكان امرأَ

أدْهَم في آدابه الغرِّ

ولم يكن حُراَّ ولكنه

كان أمير المنطق الحرّ

ورثاء البديع للخوارزمي قد يصور لنا طَرفاً من الحرقة واللوعة التي يجدها النظير لفقد نظيره! ولكنه لا يكشف عن شيء من فضائل المرثي كما هي سنة الرثاء، حتى لقد قال بعض النقاد: إنه لم يخل من الدس والسعاية!

ومهما يكن من شيء فقد كان البديع أكرم نفساً وأسنى طبعاً وأعف بياناً من الصاحب بن عباد الذي قال حين بلغه موته:

أقول لركْب من خُراسانَ قافل

: أمات خُوارزْميكم؟ قيل: لي نعمْ

ص: 31

فقلت: اكتبوا بالجص من فوق قبره

: ألا لمن الرحمن مَن كفر النّعم!

وبانتصار البديع أولاً وبموت الخوارزمي ثانياً، نبه ذكره واستطارت شهرته، ونفقت سوقه لدى الملوك والأمراء والوزراء، وتهادته الأقطار والأمصار، فلم تبق بلدة في خراسان وسجستان وغزلة إلا دخلها، فحسنت حاله وكثر ماله وفشت نعمته

وأراد - بعد امتلاء الوطاب وانتفاخ الجراب - أن يستمتع بالراحة، ويتملى النعيم، فتخير (هراة) دار قَرار، وصاهر فيها الحسيب النسيب أبا علي الحسين الخشنامي، فآوى منه إلى ركن شديد، وأقتنى بمعونته ضياعاً فاخرة

ولكن القضاء العادل كان واقفاً له بالمرصاد فأخذه ولم يفلته!

وما من يد إلا يد الله فوقها

ولا ظالم إلا سيُبلى بظالم

فمن قائل: إنه مات مسموماً؛ ومن قائل: إنه أصيب بالجنون؛

وهناك رواية وثيقة تقول: إنه اعترته غشية فظن به الموت وعجل له الدفن، فأفاق في قبره وسمع صياحه بالليل، فشقوا عنه فأصابوه قابضاً على لحيته وهو ميت من هول القبر ووحشته!

وكان ذلك يوم الجمعة الحادي عشر من جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة هـ

نسأله تعالى حسن الخواتيم!

علي الجندي

ص: 32

‌الفنان

للآنسة زينب الحكيم

الفنان إنسان منقب، يغريه الأمل فيسبح في خيالات خلابة، أو يوئسه القدر فيراع، وهو على أية حال يكونها متنقل متفنن. . .

تعاف نفسه الاستقرار، ويؤلمه الجمود، هو إنسان دقيق مرهف الحس، يدرك من وراء الظواهر ما لا يدركه غيره؛ فإذا أصاب الهدف فبشّره بفلاح عظيم، إذ تسمو مداركه ويمرن نشاطه ويخلد فنه؛ وهو كلما طال وقت اختباراته دقّ إدراكه ونفذ إلى ما وراء خيالاته ومشاهداته، وكلما صمت نطقت ريشته، ودوى نغم وتره. . .

امتحان

اختبر مرة فنان صيني ماهر تلاميذه - فكلفهم رسم جبل في بلادهم يسمى (جبل الأسرار)، ومن فوقه وحوله الهياكل للعبادة.

رسم الطلاب الجبل بإتقان، وأظهروا حوله الهياكل، فجاءت رسومهم نماذج باهرة، وراحوا إلى أستاذهم فخورين؛ ولكن كان نصيبهم جميعاً الرسوب في الامتحان، إذ قال لهم أستاذهم: إن رسومكم التي أرى، إن دلت على شيء، فلا تدل على أكثر من أشياء ظاهرية مادية ساذجة، مما يشير إلى أن خيالكم قاحل وفنكم بدائي، ولم تحاولوا تفهم نفوسكم حتى تستطيعوا نحت شيء منها يخلد به تصوركم لجبل الأسرار وما يحيط به.

لقد كان يكفي تلاميذي أن ترسموا هيكل الجبل من بعيد، وقد اختفت أجزاء منه: إما في ضباب، أو زوبعة، أو وراء السحب؛ وقد كان يكفي الرمز إلى وجود هياكل حوله وعلى قمته بأن ترسموا راهباً أو اثنين يجلبان ماءً من مجرى الماء بالوادي، أو من مساقط المياه القريبة ليصعدا به على الجبل. ويكفي ما يشير إليه عملهما من وجود الرحمة والتضحية والتجرد، كما يكفي هذا لفهم دلالة الرسم على ما قصد به.

هكذا الحياة شك ويقين، ووضوح وغموض، ويأس وأمل، وصدق وكذب، وخداع ووفاء، وشدة ورخاء، وحب وكره، وغير ذلك مما لا حصر له من الأضداد.

مسكين الإنسان يضل بين هذه جميعاً، يخدعه البصر حيناً وتخادعه الحواس أحياناً، تثيره الموسيقى وتشمعه الفلسفة، فيصير نوراً في الأنوار أو روحاً في الأرواح. حياته نهب بين

ص: 33

الشدائد والتأملات. الشدائد تصقل نفسه من جهة وتنمي خياله التأملات من جهة أخرى، فيضيف إلى شخصيته شخصيات متعددة كلما مرت به حادثة أو اختلجت قسماته وتأثرت أعصابه. ولكن هل إدراكه محدود؟ هذا ما يحيرني. أما نشاطه فمحدود بتحلل هيكله، ولكن نشاطه الادراكي هل يزول أيضاً وينتهي إلى الأبد كما ينتهي الجسم؟!

صورة

أتخيل الآن تحفة من روائع الخيال والفن الصيني، أهدتها إلي بعثة الإخاء الإسلامية الصينية (نزيلة القاهرة في شهري مارس وإبريل 1939)

هذه الصورة بها أعشاب مزهرة، وبها طيور خواضة. وقف ثلاثة منها معاً على العشب المائي، ولفت نظري سماتها المختلفة

فواحدة كأنما تجدّ في إخفاء وجهها، وتحاول إغماض عينها فلا تريد أن يراها أحد أو ترى أحداً؛ وواحدة تكابد يأساً قاتلاً وهماًّ مقيماً؛ والثالثة تطأطأ رأسها وقد وقفت على ساق واحدة في إعياء وخفض جناح

والناظر إلى ثلاثتها لا بد أن يشفق عليها، ويعجب من أمرها. وفي أعلى الصورة طائران يحلقان معاً في ضوء البدر الخلاب وقد قاربا أزهار العشب وهما يهبطان بالتدرج، ويطمئن الناظر إليهما لما تضفيان عليه من سمات الانشراح والاطمئنان والسعادة

في الصورة شيء أخر أحاول تذكره فلا تسعفني الذاكرة، وقد صممت ألا أرى

الإطار حتى أذكر ذلك الشيء، الذي أذكر موضعه في الجهة اليسرى من أعلى الصورة، ولكني لا أذكر إذا كان جبلاً أو إنساناً أو حيواناً أو غير ذلك. . . غريب هذا! إن جميع ألوان الصورة حاضرة في مخيلتي بجميع دقائقها من ظل وألوان وحجم وتناسق وكل شيء إلا ذلك الشيء المنسي في أعلى الصورة من الجهة اليسرى. . . ترى ما هو وما دلالته، ولماذا أهملته باصرتي وذاكرتي، ولا يمكن أن أتصوره فقد انمحى أثره من مخيلتي تماماً؟!

إن زهر العشب السامق بألوانه المشوبة بالحمرة والصفرة، والمتناثرة زهوره ينطوي فيها كل معاني فصل الخريف، الذي يهيج في كل قلب ما يكمن، ويثير في كل نفس مشجاة شجنها

والطير الممثل في الصورة هو نوع من البط غير الأليف الطيار، يتصف بشدة الوفاء، فإذا

ص: 34

مات إلف وترك أليفه، فإنما قد ورثه الحزن والوحدة، فيموت كمداً وحزناً على إلفه الراحل، فيقاطع الطعام والشراب، ولا يطير إلا منفرداً، ولا يمكن أبداً أن يتخذ إلفاً غير إلفه في الفترة التي يعيشها بعده طالت أو قصرت

وهذا الطير من الطيور المهاجرة (القواطع) فيعرف فصول السنة ويميزها، ولذلك ينتقل من الشمال إلى الجنوب في الشتاء، ولما عرف عن هذا البط الطيار من شدة الوفاء، يهدي للعروسين في بلاد الصين يوم عقد القران لهما دليلاً على الوفاء

أخيراً أذهب إلى الصورة لأرى الشيء المنسي،. . . إنه بيت من الشعر، مكتوب في سطرين باللغة الصينية معناه:(وراء هذه الزهرة تكمن معاني الخريف)

هل كان يصح مني أن أنسى هذا البيت من الشعر وهو الذي يفسر معنى الصورة؟! لقد مررت وأنا أكتب هذا المقال بمواضع فيها من تداعى المعاني ما يذكرني بالشيء المنسي ولم أذكره، وكان لا بد لي من الذهاب إلى الإطار لأراه

عجباً! كأن المصور اتهم بيان صورته عما أراده منها، أو اتهم الجمهور في فهم بيانه وما تشير إليه صورته؛ إن يكن قد اتهم نفسه فقد قسا في اتهامه، وإن يكن قد اتهم الجمهور فقد عدل فيه، فلا يفهم الصور فيما تشير إليه من معان إلا أهل الفن والخواص من الناس

وإنسان الفن لا يريد إيضاحاً كلاميا، ولهذا كان بيت الشعر بالنسبة للذاكرة شيئاً قليل الأهمية

وكيف يمكن أن أذكر هذا وأنسى براعة الفنان المدهشة في الإلماع إلى كمون معاني الخريف وراء أزهاره الشاحبة في ضوء القمر الكامل الاستدارة! لقد أخفت أزهار العشب الملوحة بالحمرة والصفرة جزءاً يسيراً غائراً من طرف القمر، فكان قلباً دامياً - نعم يقطر دماً

فيا أيها الفنانون المدعون، هل تسيرون وفق طبائعكم أو تخالفونها - فلا تبصرون ولا تفقهون، ولا تؤدون رسالاتكم المتوقف أداؤها على البصيرة؟!!

زينب الحكيم

ص: 35

‌رسالة الشعر

موكب الوداع

(بمناسبة مرور العام الأول على وفاة فقيد الأدب والشباب

الشاعر (الهمشري))

للأستاذ علي محمود طه المهندس

هذا الرحيقُ فأين كأس الشاعر؟

قد أَوحش الأحبابَ لَيلُ السامر!

لمَ يا حياةُ وقد أحَّلك قلبَه

لمْ تؤثريه هوى المحبِّ الشاكر؟

أخليتِ منه يديكِ حينُ حلاهما

من ذلك الأدب الرفيع الباهر

لو عاش زادكِ من غرائب فنِّه

ما لا يُشبَّهُ حسنُه بنظائر

وظفرتِ من تمثيلهِ وغنائه

بأدقِّ مثَّالٍ وأرخم طائر

أملٌ محا المقدارُ طيفَ خياله

وتخطفته يدُ الزمان الجائر

وأصار فرحتَنا بمُقبِل يومه

مأساةَ ميْتٍ في الشباب الباكر

متوسِّداً شوكَ الطريق، مُلثمّا

بجراحه، مثل الشهيد الطاهر

رُدُّوا المراثيَ يا رفاقَ شبابِه

لن تُطفئوا بالدمع لوعةَ ذاكر

هذا فتًى نظم الشبابَ وصاغه

وحياً تحدّر من أرقِّ مشاعر

جعل الثلاثين القِصارَ مدًى له

والخلدَ غايةَ عمره المتقاصر!

غنُّوهُ بالشعر الذي صدحتْ به

أشواقه لحنَ الحبيب الزائر

غنُّوهُ بالشعر الذي خفقت به

أنفاسه لحنَ الحبيب الهاجر

تلك القوافي الشارداتُ حشاشة

ذابتْ على وَتَر المغنِّي الساحر

فتسمَّعوا أصداءها في موكب

للموت محتشدِ الفواجع زاخر

مشتْ الطبيعةُ فيه بين جداولٍ

خرسٍ، وأدواحٍ هناك حواسر

ولو استطاعت نضَّدتْ أوراقَها

كفناً له، والنعشَ غضَّ أزاهر

ودَعتْ سواجع طيرها فتألفت

أمماً تخفُّ إلى وداع الشاعر!

يا ابن الخيال تساءلت عنك الذُّرى

والشهبُ بين خوافقٍ وزواهر

ص: 36

وشواطئ محجوبةً شارفتَها

فوق العواصف والخضمِّ الهادر

أيرُىَ جناحُكَ في السماء كعهده

متوشِّحاً فَلَقَ الصباحِ السافر!

أيرُى شراعُك في المساءِ كعهده

متقلداً حلقَ السحاب الماطر؟

هدأ الصراعُ وكفَّ عن غمراتهِ

من عاش في الدنيا بروح مغامر

وطوى البلى إلا قصيدةَ شاعر

أبقى من المثل الشرود السائر

شعرٌ تمثَّلَ كلَّ حسّ مرهفِ

لا رصفَ ألفاظٍ ورصَّ خواطر

وَدُمّي مفضَّحةَ الطلاءِ كأنها

خُشبُ المسارح مُوِّهتْ بستائر

تتمثل التاريخ في أزيائه

بين المصفِّقِِ وابتسام الساخر

من صنع نظَّامين جهدُ خيالهم

مسحُ الزجاج من الغبار الثائر

متخلفين عن الزمان كأنهم

أشباحُ كهفٍ أو ظلال مساحر

يا قوم إنَّ الشعر روحانيةٌ

وذكاءُ قلبٍ في توقّدِ خاطر

نظر الضريرُ به فأدرك فوق ما

لمستْ يدُ الآسى وعينُ الناظر

متعرفاً صور الخلائق، سابراً

أعماقَ أرواحٍ وغوْرَ سرائر

هذى عروس الزَّنج ليلتُه التي

أدمتْ بكفّ حُلِّيتْ بأساور

والنجمُ أشواقٌ، فمهجة عاشق

وذراع معتنق، ووجنة عاصر!

الشعرُ موسيقى الحياة موقَّعاً

متدفعاً من كلِّ عرق فائر

عشاق (بابل) لو سُقوا بنشيده

لم يذكروها بالرحيق الساكر

وتنصتتْ أقداحُهم لمغرِّد

مَرِحٍ يصفق بالبيان الساحر

أو كان كلّمَ برجها بلسانهِ

والقوم شَّتى ألسنٍ وحناجر

لم نِشك من عوَج اللسان ووحِّدت

لهجات هذا العالم المتنافر!

علي محمود طه

ص: 37

‌الأدب في أسبوع

العيد

أيتها الأيام السعيدة الهاربة من عمل الدنيا ببراءتها من الشقاء،

أيتها الأيام الصغيرة المتلألئة في ظلام الزمن بأفراح السعادة،

أيتها الأيام الذاهلة عن معاني الآلام!

أنت هكذا أبداً، وهكذا أبداً تعودين. . .

ولكن هل تستطيعين أن تمنحي الناس جميعاً بعض سعادتك وأفراحك ولذاتك البريئة؟

هل تستطيعين أن تمنحي العقول المتغضّنة من الهم والكبَر أفكاراً غضّة ناعمة كأحلام

العذارى؟

الحرب

كانت أيام العيد هدنة سكنت فيها الأخبار المحاربة بمعانيها في أذهان الناس وعواطفهم؛ وانقطعت الصحف الأخبارية أياماً عن الظهور، فانقطع أكثر الحديث عن الحرب المخيفة بأوهامها قبل حقائقها، وهدأ الناس

أذكرتني هذه الأيام المسالمة بتأثير الحرب في الأدب، وحملت إليّ صوراً كثيرة مما قرأت في الصحف والمجلات الأدبية، ولا أدري، فيخيل إلي أن المجلات الأدبية منذ بدأت الحرب إلى اليوم قد أفرغت كثيراً من صفحاتها للحرب، وشرحت صدرها لكثير مما يتعلق بها، ومع ذلك لا أكاد أجد إلا القليل من هذه الأحاديث يصلح أن يكون من أغراض المجلات الأدبية، وإنما هو بأغراض الصحف اليومية الإخبارية أليق والصق. ومن الوهم المتفشي أن يدّعي مدع أن اثر الحرب لا بد أن يكون كذلك، وأن مثل هذه الأحاديث هي سمة الحرب على أدب الأدباء، فإن أثرها في فكر العامة لا يكاد يخرج عن مثل ذلك. أما أثرها على الأدباء فهو اشد تغلغلاً في طوايا النفس، وأشد هزاً لعواطف الإنسانية. فإذا أقررنا أن الحرب إنما تتدافع في صدور الأدباء والشعراء ورجال الفن لتكون كالتيار الذي يتدافع بالبحر فينشئ له الأمواج المتصارعة المتدفقة مخافة أن يركد فيأسن، لم نجد بدّاً من اعتبارها كالمدد للمعاني الخائفة التي تنزوي في كهوف النفس الإنسانية السامية الطامحة، تجرؤها وتذمرها وتؤلبها من هنا وهنا لتتعارف وتتساند وتندفع إلى غمارها مجدة إلى

ص: 38

المثل الأعلى الذي هو أحلام النفوس الرفيعة الدائبة أبداً إلى الأغراض النبيلة

فإذا كان كذلك، فأثر الحرب إنما هو تنبيه للمعاني والأغراض التي تحيك في صدور الأدباء والشعراء، وتطريق للمسالك الغامضة التي راد منهم أن يمهدوها ويكونوا إدلاء للناس في مجاهلها ومنكراتها. إن الصحف اليومية الأخبارية عليها أن تمد الناس بأخبار الحرب وصفاتها وصفات بلادها المتحاربة، وعواقبها الدانية أو البعيدة لأحداثها، ولكن مهمة الأدباء الذين يمارسون تحرير المجلات الأدبية أن يتعقبوا معاني أسمى من هذه المعاني المبتذلة التي توضَعُ عن أفكار الناس حين تضع الحرب أوزارها؛ عليهم أن يسبقوا أحداث الحرب بتمهيد جديد إلى حياة أخرى تبرأ من الغرائز الدنيئة التي دفعت العالم إلى هذا الشر البغيض الذي لا غرض له إلا استبداد السلطان، واستعباد الناس بعضهم لبعض. وإذن فهم - لا بد - يبحثون عن العلل والأمراض التي داخلت المدنية الحديثة، فجعلت قوة الافتراس فيها هي الأصل الذي بنيت عليه عقائدها وأعمالها، غير متحيزين إلى فئة بعينها. فإن الأسلحة المشرعة الآن في جميع الصفوف لن تعرف بعدُ معنىً إلا معنى الحرب وحدها بوحشيتها وجوعها وقرمها. . . لن تعرف إلا الدَّم وشهوة الدم، وتنقرض العواطف الرقيقة التي تملأ النفس ورعاً وتقوى وحناناً. وإذا استبان لهم مكنون هذه العلل استطاعوا أن يمهدوا السبيل للحياة الجديدة المبرأة من أسبابها الباغية، فمنعونا شرها ثم شر الآثار والعواقب التي تأبى شياطين الحرب إلا أن تزينها للباقين والناجين من أحلامها.

هذا هو عمل الأدباء والشعراء على الاختصار والإجمال. أما أن يتوهم متوهم أن أثر الحرب إنما يكون إذ يلوك أخبارها وأحداثها ويمضغها في لفظه وعبارته مضغ الكلأ، فذلك شيء لا يقع عليه إلا عقل العامة الذين لا ينفذون في المعاني إلا على الوهن والضعف والفساد. إن أفكار الأدباء التي تسموا بألفاظها ومعانيها سمو الروح بين خوافق السماء، وإن أحلام الشعراء التي تختال في زينتها رقيقة ناعمة أو ثائرة متفجرة - هي أحبُ إلى نفوس الناس في زمن الحرب، لأنها تنفيس عنهم من كرب الحروب، وإخراج لهم من حمأة الدم الذي ينشر رائحته مع كل نَفَس، ثم هي التمهيد الصحيح لتهذيب النفس الإنسانية وتربيتها والتسامي بها عن المعنى الحيواني الضاري الذي تنشئه الحروب في مهد من الأشلاء والدم

العقل المصري!!

ص: 39

كتب الأستاذ (محمود المنجوري) كلمة في السياسة الأسبوعية (155) يريد أن يكشف بها عن (طبيعة العقل المصري، ومدى تأثرها بالانقلابات) الاجتماعية أو السياسية أو الدينية. وساق حديثه فيها إلى وزارة الشؤون الاجتماعية. ونحن نتجاوز عن بعض الخطأ الذي وقع الأستاذ فيه عصبية للعقل المصري كما يسميه، كدعواه أن إنشاء الأزهر كان نتيجة للأسباب الفكرية والاجتماعية والروحية - التي نشأت في مصر فيما يرى - فأريد إقامة الدعوة الفكرية المتميزة عن صواحباتها في سائر العالم الإسلامي بإنشاء هذا المعهد العلمي العظيم. ولا شك في أن هذا تأويل غير جيد لحقائق التاريخ، فإن الفاطميين هم أنشئوا هذا المسجد الجامع الأول فتحهم لمصر، ولم يكن للعقل المصري إذ ذلك كبير شأن ولا صغيره في دفع الفاتحين إلى إقامة هذه العمارة في مصر، وإنشاء الأزهر كان لغرض في نفس الفاطميين أصابوه أو أخطأوه. . . فليس ذلك من شأننا هنا

وأيضاً فأنا إلى اليوم لا أكاد أعرف شيئاً يمكن أن يسمى (العقل المصري) أو (العقل الإنجليزي) أو (العقل الفرنسي) وهلم جراً، حتى يوضع في كفة وحده أعدت له في موازين العقول، وليس قيام المدنيات بأجزائها على (العقل) حتى يمكن أن يقال إن العقل المصري هو استطاع أن يبقى خالداً والمدنيات من حوله تفني وتبيد. حقاً إن مصر - وغير مصر من الأمم التي كانت منزلاً لمدنيات كثيرة متباينة - قد احتفظت مع هذه المدنيات بأشياء امتازت بها، ولكن هذه الأشياء المميزة لم يكن مَرَّدُ أكثرها إلى العقل بل كان مردها إلى الطبائع التي أنشأتها إرادة الإقليم المسيطرة على الطبائع الإنسانية، وإلى العادات المتوازنة التي لم تقاومها هذه المدنيات مقاومة الحرب والإبادة، فلذلك بقيت هذه المميزات قائمة سائرة متعارفة، فيخيل لبعض من لم يَغُرْ إلى أعماق هذه المخلفات أنها ظواهر عقلية مع أن الحق غير ذلك

ونحن نجد الجنس من الناس ينزل أرضاً غير أرض، فما يمضي الجيل أو الجيلان حتى تفنى المميزات الجنسية في نسلهم من أبنائهم وأحفادهم، ويبدأ الوطن الجديد بطبيعته المستبدة في تحويل هذا النسل إلى طبائعه التي تلائم تربته وسماءه وجوه وحاجات سكانه، فكذلك المدنيات إذا نزلت أرضاً خضعت لما يخضع له الإنسان الحي المتحدر من أصلاب قوم غير سكانه الأوائل، وجعلت تتميز بضرورات الإقليم الطبيعية

ص: 40

ولماذا يريد كثير من الكتاب أن يجعلوا عقول أممهم بدعْاً في العقل الإنساني؟ لا أدري؛ وما يكاد يدري أحد من هؤلاء ما هو العقل، وكيف يتميز في الإنسان، أو كيف يتبين في الأفكار أو المدنيات مكان العقل من مكان غيره من الغرائز والطبائع والدوافع وما إلى ذلك من الأشياء التي تشترك في نتاج الفرد ثم في إنشاء المدنيات الاجتماعية؟ ولو استطاعوا لأبانوا لنا - على كثرة ما يقولون - عن موضع واحد يقولون فيه هذا (صنع العقل) الفلانة. إن العقل المصري كغيره من العقول يقبل كل شيء، ولكن طبائع الإقليم تريد أشياء وتنفي أشياء لأنها لا تستطيع البقاء في سلطانها. إن جوهر الأشياء كلها لا يتغير في العقل بعد العقل، ولكن الأعراض هي التي يصيبها التبدُّل والتغيير لأنه من طبيعتها أول، ولأن العقل لا يعمل فيها عملاً إلا للتدبير والتصريف وحسب

وقد عَرض الأستاذ (المنجوري) في مقاله هذا إلى عهد الاحتلال وما صنعت سياسته في أخلاق مصر وتعليمها، وكيف حطم بجوره وعدوانه كل الصلات القوية التي يعتمد عليها ترابط الكيان الاجتماعي؛ فتمزقت الجهود المصرية في الإصلاح، واستبدت الشهوات الجارفة بأخلاق الطبقات كلها، ففشل الاجتماع المصري في إرادته، وقام على أساس فاسد من الأخلاق حتى صار أكثر ما نرمي إليه غرضاً فردياً لا قيمة له في البناء الاجتماعي، ومن هنا استبد المستبد وصارت السيطرة الفردية في كل أعمالنا هي المبدأ، فلم يقم بيننا التعاون على أساس صحيح، وكذلك تنازعت الشهوات أعمالنا فصار الآخر بأنانيته يريد هدم عمل الأول لينفرد بأحدوثته وصيته، كالذي رأيناه في الحكومات الكثيرة التي تعاقبت على الدولة المصرية فشرعت ووعدت وبدأت وسارت؛ ثم جاءت أختها من بعدها لتقف كل ذلك وتبدأ من جديد بلجانها وتقريراتها واقتراحاتها، تريد أن تخالف وأن تنشئ وان توجد؛ ثم هكذا دواليك حتى غدت وعود الحكومات عند المصريين خاصة والشرقيين عامة إلى مثل التي يقول فيها كثَير عزَّة:

تمتع بها ما ساعفتك، ولا تكن

عليك شجى في الصدر حين تبينُ

وإن هي أعطتك الليان، فإنها

لآخرَ من خُلانها ستلين

وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها

فليس لمخضوب البنان يمين

فهذه أمراض وأوبئة لا تزال تنتشر، ولا بد من مكافحتها مكافحة صارمة بغير هوادة. فهل

ص: 41

في الذين يصير إليهم السلطان الوازع العامل من يستطيع أن يتجرد لمكافحة هذه الأوبئة، ولو كان في كفاحها كفاح لنفسه وشهواته وأغراضه؟ هل تجد مصر أخيراً طبيبها المغامر؟ ليتها تجد. . .

المنطلق

قرأت في العدد 341 من (الرسالة) أغنية - أو هكذا سماها صديقنا - بعنوان (الناي). قال الأستاذ بشر فارس: وهي على بحرين مختلفين رغبة في تنويع مجرى النغم، والبحر الأول وضعه الشاعر، وأجزاؤه:(فاعلاتن مفاعلتن) مرتين وليكن اسمه (المنطلق) انتهى.

وصديقنا بشر شخصية جوالة في معاني الدعة والرقة واللطف والظرف والابتسام والمرح، وسائر هذه الكلمات الراقصة بألفاظها قبل معانيها. وهو كالبحر الذي زعم انه اخترعه وسماه (المنطلق). . . فهو منطلق في كل أشياء الحياة بأحلام كأحلام الليل جميلة هادئة ساكنة. . . ولكن إذا فجئها النهار تطاردت له هاربة وقد تركت آثارها أخاديد نديّة كذكريات الحبيب الهاجر في قلب العاشق. . .

وهذا البحر (المنطلق) كما يسميه، قد أرسله على مثل هذه الأبيات:

(جنَّبوا الناي عن أُذني

أُذُني زلزلتْ طَربَا

مثلَ قلب تُحَدِّثهُ

سرَّه السرْدُ فاضطرَبا)

وقد زعم (بشرٌ) أنه وضعه، ونحن نُسلم لبشر ما يقول، ولكن أصحاب العروض هم أبداً كبحورهم لا يهدءون، فقد زعموا أن الأخفش قد تدارك على الخليل بحراً سموه (الشقيق) يزعمونه أخا (المتقارب)، وسموه المحدث والمخترع والخبب إلى غير ذلك وعرف عندنا باسم (المتدارك) - أي الذي تداركه الأخفش على الخليل بن أحمد - وأصل تفاعيله عندهم:(فاعلن، فاعلن، فاعلن، فاعلن) مكررة، وله عروضان تامة ومجزوءة، فالعروض المجزوءة هي:(فاعلن، فاعلن، فاعلن) مكررة.

وهذه العروض المجزوءة من بحر المتدارك، هي زنَةُ شعر بشر قد دخلها من رفّته ما جعلها تتأود عند قوافيها لتستريح؛ فالبحر ليس إذن (منطلقاً)، ولكنه (خليع المتدارك).

وسائر أبيات القصيدة في قوله مثلاً:

(أوتار الخاطر تغمزها

أَنَّاتُ الناي فترتجف)

ص: 42

هي أيضاً من عروض المتدارك التامة دخلها التشعيث والخبن كقول ابن حمديس

(صادَتك مَهاةٌ لم تُصَدِ

فلواحظُها شركُ الأسَدِ

من توحي السِّحر بناظرة

لا تنفثُ منه في العُقد)

هذا في مخترع (بشر) ولكن ما بال هذا الصديق يريد أن يزلزل أذنه، ونحن لم نفرغ بعد من حديث الزلازل التي هدمت ما هدمت في الأناضول. لماذا أيها الصديق؟ ولماذا تريدنا أن نشعر أن أذنك وحدها - دون سائرك - هي التي تطرب، ولا يكون طربها إلا زلزلة

كفى. . . كفى، فإني إذا نقدت (بشراً) فلن أجد الراحة بعد؛ وإن كنت أضن أني لم أفهم الشعر كله جيداً. . . فلعله شعر جديد، والجديد على من بدأ الشيب يغزوه يبليه ويخيفه فينتشر عليه فهمه فلا يفهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. . .

محمود محمد شاكر

ص: 43

‌رسالة الفن

دراسات في الفن

فكرة. . .

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

- أين قضيت عيدك؟ وماذا نعمت به من الفن فيه؟

- قضيت العيد في البيت والشارع كما أقضي كل يوم، ولم أنعم فيه من الفن المعروض إلا بسهرة في سينما أوليمبيا الوطني الكبير شاهدت فيها فلم العزيمة.

- دائماً متأخر!

- إني على سجيتي ولكنكم تتعجلون!

- وماذا رأيت في العزيمة؟

- كمال سليم

- إنه لم يظهر في الفلم، أنا شاهدت الفلم في سينما أستوديو مصر قبل أن يعرض في أوليمبيا بشهور.

- لم يظهر إلا اسمه، ظهر بعد ما عرضت أسماء الممثلين منسوباً إليه تأليف الرواية وإخراجها.

- وكيف إذن لم تريه؟

- لأنه لم يمثل دوراً!

- آه. . . إذن، فأنت لا ترين إلا بعينيك؟ وإذن فأنت تربحين كثيراً إذا اشتغلت مخرجة سينما في مصر. . .

- ما هذه اللغة؟ تثير مسألة لتروغ من مسألة؟

- لست أنا من يلف، وإنما أنت الثابتة المثبتة لا يتنقل تفكيرك ولا يتحرك إلا إذا اقتعد قاعدة لتسير هي به. . . فأركبي ما أقول يجرك إلى ما أريد. . . إنه مادام قد ألف رجل قصة وأخرجها هو نفسه، فهو صاحب كل ما فيها وإن لم يعرض صورة بدنه للناس قانعاً بصورة نفسه التي يعرضها

ص: 44

- آه!

- حمداً لله على السلامة

- وفيم كان قولك إني أصلح مخرجة؟

- هذه كنت أقصد بها - ولا مؤاخذة - السخرية بكثير من المخرجين في مصر. أولئك الذين يحسبون الإخراج للسينما ليس إلا عرض لوحات من الصور المتتابعة. . . والذي ذكرني بهؤلاء هو قولك أنك لم ترى صاحب العزيمة مع أنك شاهدت الفيلم، وهذا وجه شبه بينك وبين هؤلاء المخرجين الذين يعيشون في الدنيا على أنهم مخرجون وفنانون فلا يقفون بجمهورهم وشعبهم إلا عند كل لوحة ولوح. . .

- وكمال سليم من هؤلاء؟

- ألم تقولي إنك شاهدت العزيمة؟ ثم أليس لك عقل تستطيعين به بعد مشاهدة فيلم أن تحكمي على مخرجه أهو من أهل اللوحات والألواح أم هو من أهل الحياة؟ فإذا كان عقلك لا يقوى على استخلاص الحكم وحده، أفلا تستطيعين أن ترى مدى اهتمام الصحف والناس بهذا العمل الفني لتحكمي بهذا وحده على قدر ما فيه من الدسم؟

- حاسب، حاسب. . . هذه بعثرة لا أطيق التمزق معها. . . قل لي: ما رأيك في فيلم العزيمة، أو إذا شئت في كمال سليم؟

- أول كل شيء أنه ليس من أصحاب اللوحات والحمد لله. فهو مخرج له عقل وراء عينيه. ولهذا فالذي ينتظر منه دائماً خير. ولكني لست أدري إذا كان سيوفق إلى خير بعد (العزيمة) أو أنه سيظل بعدها وقتاً طويلاً إلى أن يواتيه الخير؟. . .

- ولم هذا التشاؤم؟

- لأنه حشد في هذا الفيلم (محصولاً) كان عسيراً على أن أتصوره قد أتيح لشاب في سنه. . . فإذا كان قد أتيح له كل هذا فإني أظن إنه كل ما يملك. . .

- ناس كثيرون قالوا هذا، وأنا قلته أيضاً. . .

- إه! أنت أيضاً قلته؟!. لابد إذن أن يكون الحق غير ذلك؟

- أعوذ بالله منك مشاكساً. . . رأيت رأياً، وكنت تراه، ألأني رأيته تنقض عليه؟

- التجارب علمتني أنك لا ترين الحق. . . فكلما رأيتني اتفقت معك على رأي أدركت أن

ص: 45

عقلي نائم. . . إسمعي، لاشك في أن صور الحياة وحوادثها هي موارد المؤلف والمخرج، ولكن الذي لا شك فيه أن كل صورة مفتاح إلى صور، كل صورة منها مفتاح صور، وأن كل حادثة مفتاح إلى حوادث، كل حادثة منها مفتاح إلى حوادث. وهذا شيء لا نهاية له، ولهذا كان الفنان يستطيع أن يجعل من الحبة قبة كما يقولون

- كلام معقول. فانقضه لأني اقتنعت به

- قد كنت أنقضه لو كنت سبقت إليه. . .

- إذن فانقض ما يأتي: صور الحياة وحوادثها التي يستخلص منها الفنانون فنونهم لها ناحيتان: إحداهما وراء الأخرى. أما الأولى فهي الناحية المادية المتجسدة ولا يستطيع إنسان أن ينكر ما فيها من جمال وروعة لا يخلوان من المعاني، والناحية الأخرى هي تلك الناحية الشفافة (الغائرة) في أعماق هذه الصور والحوادث، وهي أيضاً فيها جمال وروعة ومعان. وللناحية الأولى مخرجون يشغفون بها ويهتمون، وللناحية الثانية مخرجون، وهناك مخرجون لهم في هذه وفي تلك. وعلى كل صورة وحادثة من صور هاتين الناحيتين وحوادثهما تنطبق القاعدة التي قررتها أنت وهي أن كل صورة مفتاح لصور، وأن كل حادثة مفتاح لحوادث. فكما أن أصحاب الصور والحوادث المعنوية لا تفرغ من عندهم الصور والحوادث، كذلك لا تفرغ الصور والحوادث المادية من عند أصحابها لأن آيات الله لا نهاية لها، ولأن كل آية منها مفتاح لآيات كل منها مفتاح لآيات. . . انقض هذا، أو قل لي لماذا تفضل أصحاب المعاني على غيرهم؟

- من قال لك إني أفضل أصحاب المعاني على غيرهم. . . هؤلاء وأولئك من غير شك فنانون

- حرت معك. . . ألم تسخر من أصحاب اللوحات والألواح. . . أنت؟!

- يا هذه!. . . إنما كرهت منهم أن يتركوا ميدانهم وأن يعملوا في السينما، هؤلاء الواحد منهم يصلح لأن يكون مصوراً بالفوتغرافية، يجمع ما يشاء من صور الناس الذين يحلون في عينيه، ومن صور المناظر التي تروقه، ومن صور الحوادث التي يقابلها وتعجبه. . . ليعرضها في (فترينة) أو ليطبعها في كتاب؛ أما أن يلصق عدداً من هذه الصور بعضها إلى بعض ويقول للناس تعالوا شاهدوني إني أخرجت فيلما، فهو إذن يسخر من الناس ويستحق

ص: 46

منهم السخرية. . . فالسينما لم تعد كما كانت منذ نصف قرن (صوراً متحركة) يرضى جمهورها (بالزغللة)، وإنما أصبحت السينما اليوم (سينما) أول ما يطلبه جمهورها فيها شيء (يدلك) أرواحهم، فإذا لم يعطهم العاملون في السينما هذا كانوا كأصحاب المقاهي الذين يسقون قصادهم بدلاً من البن فولاً محمصاً مطحوناً مغلياً قهوة لا تمس الأعصاب وإن كان فيها غذاء للمصارين

- لو ضربت لي مثلاً يوضح ما تقول؟

- لو ضربت مثلاً لغضب الدكتور زكي مبارك؟

- زكي مبارك؟ وما له هو والسينما والإخراج وما إلى ذلك؟

- إنه صديق الناس جميعاً ولا يحب من أحد أن ينقد أحداً. . . إن فيه طبع المسالمة

- لم يقلها عنه أحد، فالناس يعرفونه يناوش الحجر. . . أنسيت معركته مع الأستاذ أحمد أمين؟

- هذا لأن الأستاذ أحمد أمين (ابن كاره) كما يقولون. . . وعلى أي حال مالنا نحن وهذا. . . ألا تحبين أن نعود إلى ما كنا فيه فنتحدث عن العزيمة. . .

- فلنعد. . .

- فلنعد. . . ما رأيك فيها؟

- لقد كنت أنت الذي تبدي الرأي فأتمم حديثك. . .

- لقد قلت ما كنت أريد أن أقوله. . . أليس لك أنت ملحوظة. . .؟

- لي. . . وهي إن كانت لا تدل على ضعف في الإخراج، فهي تدل على ضعف في نفس المخرج. . .

- يا عظمة! وما هي ملحوظتك هذه يا مدموازيل فرويد. . .

- لقد عني كمال سليم عناية كبيرة بتقديم أبطال قصته بطلاً بطلاً قبل أن يدخل في صلب الرواية، وأظنه لم يفعل هذا إلا لأنه خشي لو بدأ الرواية من غير هذا التقديم أن يضطرب النظارة فلا يحددون كل بطل من أبطالها التحديد الصحيح أو التحديد الذي يريده هو على الأقل. . . وهذا ولا شك اعتراف منه بأنه عاجز عن أن يقدم الأبطال في تلافيف الحوادث تقديماً واحداً

ص: 47

- قد يكون هذا، وقد يكون انه لا يحسن الظن كثيراً بالجمهور المصري، فهو يكلف نفسه في هذا التقديم، وإن كان يعرف فيما بينه وبين نفسه أنه تقديم لا لزوم له. . . أليس لك ملحوظة أخرى؟

- لي. . . وهي أيضاً وإن كانت لا تدل على ضعف في التأليف ولا في الإخراج فهي تدل على فراغ في رجولة كمال سليم. .

- ما شاء الله. . . إن عقلك اليوم منساب. . . ما ملحوظتك هذه؟

- ليس في روايته امرأة

- ماذا كانت فاطمة رشدي؟!

- بنتاً. كانت بنتاً حتى بعد أن تزوجها البطل. فقد كانت تنساق بسهولة لما يثيره فيها الناس ولما تثيره فيها الحوادث من النزعات، وكانت تقف مواقف صريحة قاطعة، وليس هذا من طبع المرأة وإنما هو في طبع البنت أقرب ما تكون إلى الطفولة والسذاجة. ليست المرأة التي أخرجها كمال سليم امرأة وإنما هي طفلة. . .

- ربما يرجع هذا إلى أن كمال سليم نفسه حينما أحب. . . أحب طفلة صغيرة هي التي أخرجها بطلة لهذا الفيلم. . . ولعله قد حدث له بعد ذلك ما أبعد بينه وبين المرأة، وما زاد على ذلك، حتى حمله على كراهية النساء، فكانت كل نساء الفيلم ما عدا البطلة وأم البطل بغيضات مُنْكَرات أخرجهن جميعاً ولهن مآرب ملتوية وأغراض خاطئة خبيثة. فمنهن من تبيع بنتها وتقسو على زوجها، ومنهن من تسخر في الكارثة، ومنهن من تحرض على السخرية فيها، ومنهن من تفرح لها وتشمت. . . وهذه الكراهية للمرأة التي تسمينها أنت فراغاً في الرجولة يعوضها في هذا المخرج تمكن ظاهر من نفوس الرجال، واهتمام ظاهر بنفوس الصبيان، فقد وفق كمال توفيقاً تاماً في اختيار أبطال قصته من الرجال، وفي إسناد كل دور للممثل الملائم له القادر عليه حتى إنه لا يستطيع الناقد مهما أشتد ومهما تحامل أن يشير إلى ذات واحدة من ذوات الفيلم ويقول إنها قلقة في مكانها غير مطمئنة إلى دورها، وقد أتيح هذا التوفيق لكمال لأنه فيما أعتقد لا يكره رجال الدنيا ولا يحبهم وإنما هو يعيش بين الناس متفرجاً متفحصاً مختبراً متعلماً متذوقاً. . . ولا ريب أن هذا هو الذي أفاده في اختياره لأبطال روايته. . .

ص: 48

- والصبيان؟. . .

- لقد جعل لبطلة الفيلم أخاً ولم يكن في القصة ما يوجب أن يكون للبطلة أخ. ولكنه لم يستطع أن يحبس ما يجيش في نفسه من الإلمام بأحوال الصبيان، فتنفس عن هذا الصبي الذي جعله أخاً للبطلة وعرضه في صورة من (السهتنة) والخبث المتظاهرين بمظهر البلاهة والبراءة. . . وليس هذا عجباً من فنان ينفر من النساء، ويحب الفتيات الصغيرات، ويستغرق في عشرته للرجال تأملاً ودراسة. . . أنها طبيعته وظروف حياته، ولو كان لي أن أقترح على هذا المخرج موضوعاً لفيلم جديد فإني أقترح عليه أن يسرع إلى موضوع تجري حوادثه في مدرسة للبنين ابتدائية، أو ثانوية. . . ولا يكون في هذا الفيلم امرأة على وجه الإطلاق، وإنما يكون فيه ناظر ومعلمون وتلاميذ وفراشون. . . ولن يستطيع أحد أن يعترض على هذا النوع فقد سبقتنا أمريكا إليه واستقبلته الجماهير بالارتياح والإعجاب، وقد برز من ممثليه سبنسر تراسي، وفريدي بارتولوميو، وميكي روني. . . كما برز من مؤلفيه مارك تواين. . .

- وهل تحسب كمالاً يوافقك؟. . .

- أنا لا أطلب منه أن يوافقني اليوم، ولكني أبشره بأن هذا النوع هو نوعه، ولا يبعد أن يقتنع بهذه الفكرة قريباً أو غير قريب فيخطو بالسينما المصرية هذه الخطوة الجديدة. . . وإني أحس أن في نفسه أن يصنع شيئاً جديداً. . .

- ولكن أين يجد المخرج الذي يريد هذا - الممثلين بين الأطفال والصبيان بينما أنت ترى أن في مصر أزمة ممثلين وممثلات. . .

- يا ما فيا لمدارس، ويا ما في الشوارع، ويا ما في البيوت! وإني واثق من أن كمالاً إذا بحث وجد. . فإن فيه القدرة على أن يجد. . .

- صديقك كمال أليس كذلك؟

- والله إني لم أراه ولم أعرفه. ولكني رأيته في فنه عيوبه قليلة، ومميزاته هي هذه التي ذكرناها وهي كما ترين جديرة بالاهتمام

عزيز أحمد فهمي

ص: 49

‌رسالة العلم

الأسماك العجيبة

للأستاذ أحمد علي السيد

الأسماك الطائرة

قد تعجب إن علمت أن هناك بعض الأسماك تطير في الهواء، ولكنها الحقيقة، إذ أن بعض الأجناس البحرية تستطيع الطيران في الجو لمدة محدودة، ثم تهبط إلى مطارها وهو سطح الماء

ولما أن كان الطيران يقتضي تحوراً في شكل الجسم، فإن الزعانف الصدرية في هذه الأسماك قد اتخذت شكل الأجنحة. ويتراوح طول هذه الأسماك بين بوصات معدودات وبين قدمين وتعيش في البحار القطبية والمعتدلة

وأشهر الأجناس الطائرة هو المسمى ويعيش في البحر الأبيض والمحيط الهندي واستراليا والصين، والزعانف الصدرية طويلة تصل إلى الذيل وهذا مشقوق إلى شقين السفلي منهما أطول من العلوي. وطول هذه الأسماك يتراوح بين قدم ونصف وقدمين.

أما كيف تستطيع الأسماك الطائرة حفظ توازنها أثناء الطيران فقد قام جدل عنيف بين العلماء حول هذا الأمر فقال بعضهم: إن أجنحتها (وهي الزعانف الصدرية) تكون منبسطة أثناء الطيران كأجنحة الطائرات، وقال آخرون: إن هذه الأجنحة تكون في حركة مستمرة كما يحرك الطائر أجنحته إلا أن حركتها سريعة فيصعب على العين تميزها بوضوح

والنظرية الأخيرة هي المقبولة الآن لدى الأغلبية من رجال العلم، لأننا لو سلمنا جدلاً بأن الأجنحة تكون منبسطة ولا تتحرك فإن مقاومتها للهواء تكون محدودة بحيث لا تفي بإبقاء جسم السمكة في حالة اتزان في الهواء. على أن الفريقين المتجادلين يسلمان معاً بأن السرعة العظيمة لحركة هذه الأسماك في الماء وقوة اندفاعها من العوامل المساعدة على طيرانها في الفضاء. وأقصى مسافة تقطعها السمكة في الطيران في مرحلة واحدة خمسمائة ياردة، كما أنها لا تستطيع أن تطير لأكثر من نصف دقيقة. ثم تهبط إلى مطارها وتغوص في الماء، على أنها قد تستأنف مرحلة أخرى بعد أن تستجم وتأخذ كفايتها من الأكسجين

ص: 50

المذاب في الماء لتتنفس. والأسماك الطائرة تطير في اتجاه مستقيم إن لم تقاومها التيارات الهوائية أو ترتطم بأمواج الماء، وترتفع في طيرانها قدمين أو ثلاث أقدام عن سطع الماء، إلا أنه في الجو العاصف قد يبلغ ارتفاعها أكثر من ذلك. والسؤال الذي قد يطرأ على ذهن القارئ هو إذا كانت الأسماك قد خلقت لتعيش في الماء فلماذا يطير بعضها في جو غير الذي خلقت لتعيش فيه؟ والجواب على ذلك أن طيرانها هو الهروب من عدو يطاردها، وأعداؤها كثيرون كخنزير البحر والدرفيل وغيرهما. على أنها إذ كانت تطير لتنجو من عدو يطاردها في الماء فقد لا تسلم أيضاً من عدو يطاردها في الهواء كالجَنْقلَة وسائر الطيور المائية، والأسماك الطائرة تصلح كغذاء شهي للإنسان

الأسماك الحاضنة -

حنان الأمومة ورعاية الصغار غريزة سامية وعاطفة نبيلة، ومن آيات الله أن هذه العاطفة التي تدل على شعور مرهف وإحساس عميق تتجلى أيضاً في بعض المراتب الدنيا من الكائنات الحية. وإننا وإن كنا نعلم جميعاً أن الأسماك تضع بويضاتها في الماء ليخصبها الذكر ثم تتركها وشأنها إلا أن بعض الأسماك تتعهد بويضاتها حتى تفقس وإذا ما خرجت منها يرقاتها تعهدتها أيضاً حتى تصبح قادرة على القيام بأمرها بنفسها ثم تتركها بعد أن تطمئن على مقدرتها وعلى أنها قد أصبحت غنية عن مساعدتها لها

ومن الأمثلة الرائعة لذلك أن جنساً من الأسماك المائية العذبة موجوداً في أمريكا الجنوبية وأفريقية واسمه تحمل الأنثى منه البيض في فمها ثم يحفر الذكر حفرة في قاع القناة حيث تضع الأنثى البيض ويتناوب الأبوان حراسته حتى إذا ما فقس وضعت الأم الصغار في فمها لمدة حتى تصبح هذه قادرة على أن تستقل بنفسها وحين تخرج هذه الصغار من الفم تبقى بجانب أمها مخافة أن يهاجمها عدو فإذا هاجمها فتحت الأم فمها بسرعة ودخلت الصغار

وفي بعض أنواع السمك - في مياه البرازيل يقوم الذكر بدور الحضانة فيحفظ البويضات في فمه حتى تفقس، وفي خلال هذه الفترة تفقد الأنثى والذكر شهية الأكل ما دامت البويضات في الفم، هناك نوع آخر من هذا السمك يعيش في غانا له طريقة عجيبة لحماية البيض، إذ بعد أن تضع الأم البويضات تضغط عليها بالجزء الأسفل من جسمها الذي

ص: 51

يصبح في هذه المدة ناعماً إسفنجياً فتلتصق به البويضات وتحملها الأم حتى تفقس

وفي حصان البحر - يحمل الذكر جيباً يشبه الذي يحمله الكنغر، وفي هذا الجيب تضع الأم البويضات ثم تقفل فتحة الجيب بإفراز لزج فتصبح البويضات في أمان حتى تفقس

وفي أحد الأجناس القانطة بالمحيط الهندي تلتصق الزعنفتان الصدريتان وهما كبيرتان متقاربتان بالجزء الأمامي من جسم السمكة بحيث يتكون ما يشبه الكأس، وهذا الالتصاق لا يحدث إلا مدة إفراز البويضات فقط، وفي هذا الكأس تُحمل البويضات وتثبت في مكانها بسائل لزج من قنوات في خيوط تتكون داخل الكأس وتبقى البويضات حتى تفقس

وفي سمكة - تتكون كتلة البويضات ويلتف جسم الأنثى والذكر حول هذه الكتلة بالتبادل لحمايتها

وفي أسماك - يثقب الأب البويضات برأسه ثم يدفع تياراً مائياً بواسطة حركات نفسه إلى هذه الثقوب فيدخل الماء في البويضات وبذلك يمدها بالأكسجين الكافي، وفي هذه الفترة يكون الأب عصبياً جداً ويهتز جسمه باستمرار

وفي الأسماك الماصة - يوجد قرص على السطح السفلي للجسم تستطيع السمكة أن تلتصق بالصخور؛ وفي هذه الأسماك تضع الأنثى بويضاتها في محار فارغ ويتولى الذكر الحراسة بأن يلتصق جسمه بهذا المحار حتى يفقس البيض

وفي نهر الأمازون وروافده جنس من السمك الصغير تضع الأنثى بيضها على حافة النهر بحيث يكون قريباً ما أمكن من الماء؛ ولكيلا يجف البيض فإن الذكر والأنثى يتبادلان دفع الماء دفعاً قوياً نحو البيض بواسطة حركات ذيلهما ويتعهدان البيض على هذه الوتيرة حتى يفقس

أحمد علي السيد

ص: 52

‌القَصَصُ

قلب أم. . .

للأستاذ محمد سعيد العريان

صباحٌ ومساء، يقظةٌ ونوم، وأمنيةٌ بالنهار تتراءى حُلماً بالليل، وعجلةُ الزمن تدور فتطوي العمر وتختزل الحياة. . . هذه هي الدنيا. . .!

يا ويلتا!. . . وفي الناس من يعيش دنياه كما يدور الثور في الطاحون: يدور ويدور ولا يزال يدور؛ لا يدري أين ينتهي؛ ويمضي على وجهه في طريق طويلٍ لا يقف عند حد ولا ينتهي إلى غاية، وحوله أربعة جدران!

وهل الحياة إلا يومٌ مكرر؟

ما أمس؟ وما اليوم؟ وما غد؟. . . إن هي إلا رسومٌ متشابهة تتعاقب على مرآة مثبتة في جدار قائم. الصورة واحدة ولكنها تلوح وتختفي، وتزعم المرآة أنها ثلاثة شخوص أطافت بذاك المكان!

ولولا خداع النفس وأباطيل المنى ما طابت الحياة!

. . . واستيقضت (الأم) ذات صباح كما تستيقظ كل صباح؛ فأبدلت ثوباً بثوب وجثَتْ في محرابها تصلي لله وتدعو. . .

كانت تعيش وحدها في هذه الدار المتداعية منذ سنوات!

لقد فارقها (الرجلُ) فراق الأبد، وحمله الرجال على الأعناق إلى مثواه؛ ولكن ذكراه بقيت معها في ولديه. . .

. . . وبكرتْ إليه في الغداة تنثر الزهر على قبره وفي نفسها لهفة وفي عينيها دموع؛ ثم تحولت عنه إلى ولديه لتجفف في صدرهما دموعها!

وآلت منذ اليوم أن تكون لهذا الطفل وأخته أما وأباً. . . وبَرّت بما وعدتْ!

كان ذلك منذ أربع عشرة سنة!

أما الفتاة فقد شبَّت واكتملت ونضجت ثمرتُها فانتقلت من دار إلى دار. . . وباحت بمكنونها إلى زوجها الشاب واستمعت إلى نجواه. . . وعرفت دنيا جديدة!. . أتراها تذكر اليوم أمها؟. . . أَلَا إن أمها لقانعةٌ راضية بما بلغتْ من أمانيها. . لقد تحققت لها أمنية من

ص: 53

أمنيتين. . .

وأما الفتى فقد قطع في سبيله مرحلتين وانتهى إلى الجامعة؛ فما أهون ما بقى!. . إنه يعيد عن أمه منذ سنوات ثلاث، يجاهد جهاده ليبلغ مأمله، ولم يبق إلا خطوة واحدة!. . .

وأما الأم فإنها في وحدتها من تلك الدار، وما تزال تصلي لله وتدعو ليحقق لها ما بقي!

يا لله! أهذه هي؟ لَشَدَ ما غيَّرَتها الأيام!

. . . كان لها جاه ومال، وكان لها شباب وفتنة، وكانت حياتها أغنية ضاحكة، كلها مَرَح ونشوة ودلال. . . يا للمسكينة! أين هي اليوم مما كانت منذ أربع عشرة سنة؟

أتُرى مرآتها تحدثها بما كان وبما صار، كعهدها يوم كانت. . .؟ أين تلك المرآة؟. . . لقد علاها غبارُ السنين فما لها عينٌ تنظر ولا لسانٌ يصف!

هاتان عينان قد انطفأ بريقهما فما لهما هَمْس ولا نجوى!

وهاتان وجنتان ذابلتان ليس لهما أَرَجٌ ولا شذى!

وهاتان شفتان قد أطبقتا على ابتسامة حزينة ليس لها صوت ولا صَدى! َ

وهذا الشَّعر - ما كان أجمله يوم كان! - قد خَطَّت عليه الليالي سطوراً بيضاء في صحيفة مسودة؛ إن فيها تاريخَ جهادٍ نبيل، أربعة عشر عاماً بلا وَني ولا كلال!

. . . لقد بذلت لولديها أغلى ما كانت تملك: بذلت المالَ والشباب، وبرّئت من شهوات النفس وأوهام المنى؛ ونسيتْ كل شيء مما كانت تطمح إليه، إلا شيئاً واحداً، عاشت ما عاشت له، وبذلت ما بذلت من أجله، وخاطرت بما خاطرت في سبيله. . .: ولَديها العزيزين!. . . أما إحداهما فقد بلغتْ، وأما الثاني. . .

إنها لقريرة العين على ما جاهدت وبذلت؛ لأنها من الغاية التي تهدف إليها على خطوات!

. . . وفرغت الأم من صلاتها ودعائها؛ فنهضت متثاقلة إلى صوانها، ففتحته، فأخرجت منه كِسرة جافة، فبلَّتها تحت الحنفية وأخذت تلوكها بين فكيها؛ ثم صعدت إلى سطح الدار تتشمس!. . .

وأمسكت عوداً من الحطب تهش به على دجاجها وهي تنثر له الحبّ وفتات الخبز الناشف. إن لها في هذا المكان لسَلوة وأنساً، وإنها لتجد من هذه الطيور أُسرة تأنس إليها وتتسلى بمرآها؛ بضع دجاجات وديك؛ هذا كل ما بقى لها من أُنس العشير!

ص: 54

وانحنت على خمَّ الدجاج فأخذت ما فيه من بيض، ثم هبطت الدَرج تستند إلى الحائط حتى بلغت غرفتها، فوضعت ما معها من البيض في كيس النخالة، وجلست في النافذة ترقب ساعي البريد. . .

إنه يوم السبت، وقد تعودتْ أن تلتقي في مثل هذا اليوم من كل أسبوع رسالة من ولدها لتطمئن. . .

وجاء ساعي البريد فسلَّم إليها الرسالة، ففضَّتها معجلةً وقرأت. . .

إنه قادم بعد يومين ليراها. . .

يا فرحتا! إن لها عيداً من دون الناس!

ووفَرتْ الأمُّ من غذائها لعشائها، وقامت إلى الصوان فأخرجتْ ثوبها الجديد الذي خاطته منذ عامين؛ فرتقتْ ما فيه من فتوق، استعداداً ليوم الاستقبال السعيد!

وكنستْ، ونظفتْ، وهيأت فراش الضيف؛ وجلست تعدّ الساعات وتهيئ برنامج الاستقبال؛ ونامت ليلتها تحلم. . .

ومضى اليومان وحلَّ الميعاد، وجلست الأم وراء الباب ترقب تقدم فتاها وقد هيأت ما هيأت لاستقباله. . .

هكذا كانت تفعل كلما حان موعد زيارته وإن له زيارة في كل شهر:

وتلقت الأم ولدها بالترحيب والعناق؛ وكأنما عاد إليها الشباب؛ فإن في عينيها بريقاً، وفي خديها حمرة، وعلى شفتيها ابتسام، وفي جبينها ألق!

وجلس إليها ساعة يحدثها وتحدثه؛ ثم نهض يتهيأ للخروج ليجول في المدينة جولة؛ ومشى يختال في زيَهِ وزينته، وأمه تشيّعه بعينيها من النافذة فرحانة!

لا عليها مما تقاسي من الجوع والظمأ والحرمان وإنه لسعيد! حسبها من سعادة العيش أن يكون ولدها كما يتمنى لنفسه؛ إنها لتكتم عنه وعن الناس ما تجد من الضيق والحرج وقسوة الحياة؛ وماذا يجدي عليها أن يعرف إلا أن يحزن ويتألم؟

. . وتوارى الفتى عن عينيها في منعطفات الطريق، فابتعدت عن النافذة وعلى خديها دموع وراحت إلى الصوان تفتحه لتخرج صندوقها الصغير، الصندوق العزيز الذي يضم ذكريات الماضي جميعاً؛ ويضم أماني المستقبل. .

ص: 55

في هذا الصندوق أهدى إليها زوجها الذي فقدتْه منذ بضع عشرة سنة - هديةَ العرس الغالية؛ وفي هذا الصندوق كانت تحفظ ما تحفظ من حلاها وجواهرها، يوم كان لها حلي وجواهر؛ وفي هذا الصندوق كانت تدخر ما تدخر من مال لتنفق على ولديها حتى تبلغ بهما مبلغها. . . فماذا يضم صندوقها العزيز اليوم؟

بضعة جنيهات، وقرط مكسور، وسوار من الذهب: هذا كل ما هناك!. . . وإن بين ولدها وبين الغاية التي يهدف إليها بضعة أشهر!. . . ماذا يجدي كل ذلك؟

. . . وتركته في فراشه نائماً يحلم، وبكرت إلى السوق وفي يدها القرط المكسور وسوارها، تشد عليهما أناملها المرتجفة! وعادت بعد ساعة ومعها مال!

واستيقظ الفتى ليقص على أمه رؤياه وهو يضحك في مرح ونشوة، ويمنَّها بما ينتظر من السعادة يوم يكون ويكون! وابتسمت. . .!

ورفعت عينيها إلى السماء وعلى شفتيها نجوى خافتة، وفي قلبها أمل!

وقامت تودعه إلى الباب وأعطته ما طلب، لم تحرمه من شيء في نفسه؛ وانثنت إلى غرفتها لتضع الصندوق الفارغ في موضعه من الصوان!

ومضى الفتى على وجهه لا يبالي ما خلف وراء ظهره!

منذا الذي يرى هذا الفتى المتأنق الجواد فيعرف من يكون؟ إنه هو نفسه لا يعرف!. . . وأمه حيث تركها، تعيش من دنياها بين صباح ومساء، ويقظة ونوم، وأمنية بالنهار تتراءى حُلماً بالليل، وعجلة الزمن تدور فتطوي الحياة وتختزل العمر، وهي لا تدري. هذه هي دنياها! ولكن لها يوماً تترقب مطلعه على شوق ولهفة؛ ولكن متى. . .؟ أترى هذا اليوم حين يجيء يرد عليها الشباب المدبر والعمر الذي ضاع!

وانقضت بضعة أشهر، وحان اليوم الذي كانت تنتظر؛ ودخل إليها زوجُ ابنتها ليزف إليها البشرى. . . وكانت راقدة في فراشها تحلم!. . .

وجلست في فراشها، وأشرق وجهها بابتسامة راضية، وقبلَّت البشير قبلة، ثم مال رأسها على الوسادة. . . وكانت تبتسم. . .!

وهتفت في صوت خافت: الآن أديت واجبي! وعادت الابتسامة إلى شفتيها أكثر إشراقاً وفتنة!

ص: 56

ودارت بعينيها في أرجاء الغرفة حتى استقرت على صورته في إطارها ثم أطبقت أجفانها!

وتراقصت أشعة المصباح الذابل في الغرفة الخالية من الأثاث إلا من سرير محطم عليه جسدٌ محطم!

وهبت نسمةٌ عابرةٌ فأطفأت المصباحَ وعمَّ الظلام!

وخرج الرجلُ ناكسَ الرأس يتعثر في خطاه ليلقي إلى زوجته النبأ الفاجع. . .

وكانت زوجته جالسة إلى المرآة تتزين!. . . . . .

وعلى حين كانت الدار تموج بالأهل والجيران يتهيئون لتشييع الأم إلى مقرها، كان الفتى جالساً في ثلة من أصدقائه وصديقاته يحتفلون باليوم السعيد!

محمد سعيد العريان

ص: 57

‌من هنا وهناك

الخلق الذي سيكسب الحرب

(عن مجلة (باريد))

للحرب الحاضرة نواح كثيرة يجب أن ينظر إليها قبل أن ينظر إلى

تقدير قوى الجيوش المحاربة، وعدد طائرات العدو وحجمها والسرعة

التي تسير بها. ومما لا شك فيه أن الجانب الذي سيكون له الفوز

النهائي في هذه الحرب، هو الجانب الذي يمتاز العنصر الإنساني فيه

بقواه الأخلاقية، ومزاياه العقلية. ولا جرم أن البريطانيين والفرنسيين

يمتازون من هذه الناحية عن الألمان.

وقد كتب المؤلف الأمريكي المشهور (فنسنت شيان) في مجلة (رديوك) التي تصدر في كندا مقالاً قيماً تناول فيه أخلاق هذه الأمم بالبحث والتحليل. فقال: إن في الرجل الألماني لا بأس به على وجه العموم، فهو شجاع، صلد، جلد على احتمال الشدائد، ذو مقدرة على الاضطلاع بسائر الأعمال الجسدية، يعمل بيديه وقدميه فيها كما يعمل برأسه.

إلا أن هذا الخلق الألماني بما فيه من العناصر الطيبة، لم يخل من ناحية ضعف لها أثرها السيئ على سائر النواحي القوية فيه. فالشعب الألماني ينقصه الإدراك السياسي الرشيد. فسياسته لا ترتفع عن سياسة العامة، وأخلاقه السياسية لا ترتفع عن الجهالة والسخف

والألماني لا يعرف التشكك في أموره السياسية. وقد عرف النازيون كيف يستغلون هذه الصفات، فاستحوذوا على نفوس الشعب بطرق لا تخلو من المهارة والحذق. فإذا كان الشعب الألماني وعدده ثمانون مليوناً من الأنفس قد اعد لتصديق كل شيء يلقي عليه بغير تردد، فلماذا يكلف النازي أنفسهم إخباره بالحقائق المريرة المتعسفة. والأكاذيب المتقنة والوعود الخلابة أسهل وأجدى

إلا أن هذه الظاهرة المعهودة في الخلق الألماني منذ قرون، لا تلبث أن تثير غضب الرأي العام حينما يصل خداع الشعب إلى أقصى حدوده وتفتضح الحقائق التي كانت في طي

ص: 58

الكتمان، وفي هذه الحالة يكون اليهود وغير اليهود سواء في التألب على هتلر وعصابته وإقصائهم عن الحكم، كما أقصى القيصر وحكومته عام 1918. أمام الشعب يقف الشعبان الإيطالي والفرنسي وهما يستمتعان بالحرية السياسية منذ مائة وخمسين سنة، ويعرف كل فرد من أفرادهما المبادئ التي يدافع عنها

فالإنجليزي لا يسير بالطريقة الآلية التي يسير بها الألماني، وهو يحاسب رجاله على كل صغيرة وكبيرة. طبع على ذلك منذ قرون، وهو يرى الحرية خيراً من الكفاية. وإذا كان الإنجليزي يضيع كثيراً من الوقت قبل أن يدخل مع خصومه في حرب طويلة المدى فهو في الحق من النوع الذي يميل بطبعه إلى الدقة والنظام، ويسير على خير التقاليد دون أن يثير ضجة أو لجباً

والإنجليزي لا ينطق كثيراً بألفاظ البطولة أو التضحية، ولكنه يعرف دائماً كيف يحافظ على الروح المعنوية فيه، ويحتفظ بروح الفكاهة ولو كان على فراش الموت

هذا هو الرجل الذي سيقف على قدميه إلى نهاية الحرب. فأعصاب الإنجليزي من النوع الذي لا يعرف السطحيات وإن كانت في الحقيقة أقوى وأشد من الصلب.

والفرنسيون كذلك لهم مقدرة على احتمال الشدائد، وقد برهنوا على ذلك مراراً عديدة في تاريخهم الماضي، وعلى الأخص في حرب 1914 - 1918.

ولعل أهم الميزات التي خص بها رجل الشارع في بريطانيا وفرنسا، هي انه على علم تام بأحواله السياسية. فالصحافة تمد الشعب بكل ما يحتاج إلى علم، والحكومة لا تكتم عنه شيئاً لتظهره فيما بعد، ولا يفكر أحد في خديعته عن الموقف الجوهري الذي يدافع عنه.

ولا يمكننا أن نقول ذلك عن الشعب الألماني، فقد قطع ما بينه وبين الحقائق منذ ست سنوات، إلا أنه إذا عرفها عاجلاً أو آجلاً وتبين له أنه كان مخدوعاً، فسوف لا يوجه غضبته إلى الأجانب، ولكن سيوجهها إلى الذين خدعوه، وهم قادة النازي

لابد من التعاون لتوطيد دعائم السلام

(عن (دان آند أول))

ليس كل أنواع السلام مما يستحق السعي إليه. فالسلام القائم على التعاون بين الأمم

ص: 59

كبيراتها وصغيراتها، يختلف ولا شك في جوهره عن السلام الذي يقوم على الغلبة وإخضاع النفوس، فالأول وحده هو الذي يستحق الاهتمام، ولكنا إذا سعينا إليه فلا بد أن نحتاج - عاجلاً أو آجلاً - إلى شيء من التعاون مع الشعبين الروسي والألماني، حتى تكون دعائم هذا السلام موطدة الأركان. وما دام هذان الشعبان يعيشان تحت سلطان الدكتاتورية، التي تنفذ مشيئتها في خصومها السياسيين بالقتل أو السجن، فهما حريان بألا يسعيا وراء هذه المبادئ، لتكون أساساً لعلاقتهما بالأمم الأخرى، وقد نبذوها أنفسهم في حدود بلادهم

على أننا جديرون - على كل حال - بأن نعرف كل العرفان أننا لا نملك الحق في إلزام الأمم الأخرى بتغيير نوع الحكومة التي ترتضيها. فإذا كان الألمان يفضلون أسلوب هتلر في الحكم، أو كانوا على الأقل، لا يستطيعون تغييره من تلقاء أنفسهم، فأي حكومة تقوم في ألمانيا تحت تأثير القوات المسلحة التي لبريطانيا العظمى وفرنسا لا يقدر لها البقاء

فحكومة هتلر هي ثمرة من ثمرات العقلية الألمانية. وقد جاء هتلر نتيجة لانهزام ألمانيا في حرب 1914 - 1918، وليس بمستبعد أن تكون للحرب الحاضرة نتيجة شر من تلك النتيجة، إذا هزمت ألمانيا مرة ثانية. وقد يتعلم الشعب الألماني هذه المرة كيف يؤسس حكومة أقل سذاجة ونقصاً من حكومته الحاضرة. وعلى أي حال من الأحوال فسوف يكون من شانهم وحدهم - لا من شأننا - اختيار الأسلوب الذي به يحكمون

بهذا المبدأ نطلب أن يعامل البولنديون والتشك والاستونيون واللتوان، وإن يكن هذا المبدأ لم يساعدنا على إنقاذ السلم العام. هو ضد إخضاع أمة لأمة أخرى. ولكنه لا يعترض مبدأ آخر أكثر أهمية، وهو مبدأ التعاون بين الدول. وقد حُووِلت محاولة طيبة في معاهدة عام 1919 للمناداة بهذين المبدأين، فنالت بعض الأمم المستعبدة حريتها، وتخلصت من تبعيتها لأمم أخرى تحت تأثير من تقرير المصير؛ وتم التعاون من ناحية أخرى بين جميع الدول بقيام عصبة الأمم. إلا أن هذا المبدأ مبدأ التعاون الدولي قد سار بخطى وئيدة إلى الغاية التي ينشدها الجميع

بل إن التعاون بين الأمم التي تنتمي للعصبة كان من الناحية العملية محدوداً وغير محقق للرجاء. فكل حكومة كانت تعمل مستقلة لصلاح حالتها الاقتصادية والمالية، وتستغل

ص: 60

الظروف لإصلاح سياستها الحربية. فالتعاون بمعناه الصحيح لم يكن معروفاً في علاقات بعض الدول بالدول الأخرى. وما زالت بعض الحكومات إلى اليوم تعد نفسها غير مسئولة إلا عن مصالح الأهالي الذين ينتمون إليها.

وما زالت هذه الحكومات تقف موقف الصمت بازاء المصالح العامة، وليست هذه هي السياسة التي تؤدي إلى توطيد أسس السلام. إن مبدأ التعاون الذي ننشده لتدعيم قواعد السلام لا بد أن يدخل في سياقه التعاون التجاري والصناعي بين مختلف الأمم؛ ولا بد أن يقضي على فكرة الحرب الأهلية أو حرب الطبقات. وأي حكومة تبيح تلك الحروب الأهلية في بلادها لا تستطيع ولا شك أن تتعاون تعاوناً شريفاً لتوطيد طرق السلام.

النشر والحرب

(عن (ذي سبكتاتور))

قليل من الذين كانوا يشتغلون بالنشر في الحرب الماضية، يعيشون إلى اليوم ويزاولون أعمال النشر بيننا. ومما يدعو إلى العجب أنك لا تجد عند هؤلاء إلا النزر القليل مما يروون عن مثل الحالة التي نواجهها اليوم. فإذا كانت هذه الحالة تماثل ما عرف من قبل فيما بين عام 1914 و1918، فإن عالم النشر سيشاهد بعد المرحلة الأولى من الحرب تجارب لم تتح له منذ عدة سنين

إن الحرب تشجع على القراءة، فهي تؤثر في نفوس المحاربين وغير المحاربين من الأهالي بما يضجر ويقلق مما لا يخفف وطأته شيء كقراءة الكتب. فهي تثير الحماسة الوجدانية وتعد الأذهان لتلقي ما ينتجه العقل، وتجعل النفوس أشد رغبة في أن يفكروا ويحسوا، وتضعها في الوقت ذاته في موقف يكون فيه أشد حاجة إلى الراحة والتسلية من أي وقت آخر. ولا يضيرنا هنا أن نقول إن هذه العوامل لا تقل قوة وتأثيراً اليوم عما كانت عام 1914، بل قد يكون الأمر على النقيض، فالقيود التي تحيط بنا وحالة الشعب العامة قد تساعد على تقوية هذه العوامل

إلا أن عالم النشر تعترضه صعوبات كثيرة إلى جانب الصعوبات المتعلقة بالطبع والتوزيع، مما قد يخفي على الجمهور. وسوف تعاني بيوت النشر والطباعة الكثير من هذه

ص: 61

الصعاب، فعمل الناشر في الحقيقة أكثر دقة مما يتصور الكثير من الناس

وهناك صعوبة قد لا تخطر على البال، وقد يكون علاجها من المستحيلات، فما قيمة الورق والطبع وما قيمة الناشرين إذا لم تؤلف الكتب؟ وقد لوحظ هذا العام هبوط محسوس في عدد الكتب التي قدمت للمطابع وكذلك في نوعها. والسبب في ذلك واضح، فقد أصبح العالم الأوربي منذ اجتماع ميونخ قليل الاهتمام بالأعمال الأدبية، فتلك الأزمات المتوالية، التي تعقبها فترات من القلق والتفكير في مصير المدنية المزعج، كل ذلك من شأنه أن يجفف ينابيع التفكير.

ولكن ما دمنا قد وطدنا العزم على إزالة هذه الهمجية من أوربا، فمن الواجب أن يزول ذلك الشبح المخيف من أذهان الكتاب. فنحن في حرب يشترك فيها العالم كل بما أهل له، وكل ما يطلب من الكاتب - إذا ترك وشانه في هذه الحرب - هو أن يؤلف ويغذي الأفكار

ص: 62

‌البريد الأدبي

في العروض

في العدد الماضي من (الرسالة) تعقيب عنوانه (التجديد في العروض)، وغايته مناقشتي في بحر (وضعتُه)، وكنت نشرت أبياتاً منظومة عليه (قصيدة (الناي) في العدد ال340، وجعلت اسم البحر:(المنطلق). ولن أجاذب صاحب التعقيب. بل عليّ عهد أني كلما رأيت كاتباً يعرض لي وهو غير مستوثق مما يكتب ولا متقصّ في التدقيق عدلت عن الجدَل إلى ما يجلب لصديقي القارئ بعض الفائدة. ولك أن تسألني عن مواضيع النبوّ في تعقيب الكاتب. وإليك الجواب مختصراً:

يقول الكاتب إن البحر الذي قلت إني (وضعتُه)(وهو: فاعلاتن مفاعلتن، مرتين) قد (خيل إليّ أني اخترعته). وهنا أحب أن أبصّر الكاتب، على عجل، مواقع ألفاظ العربية: فإن (الوضع) غير (الاختراع)

وقد علّل الكاتب كيف (خيل إليّ) وضع البحر بقوله: (يوجد هذا الضرب نفسه بأجزاء أخرى هي (فاعلن فاعلن فَعِلُن) فهو إذاً الضرب الأول من العروض الثاني (يريد: الثانية) من المتدارك، وهو المجزوء الصحيح، وأقرب أمثلته لوزن الدكتور بشر هو الضرب المخبون المرفَّل من هذا المجزوء الصحيح، ومثاله في (متن الكافي) هو:

دار سُعدى بشحرِ عمان

قد كساها البلى الملوانْ

على أن هنالك فرقاً يسيراً قد يلحظه القارئ بين الوزنين، فذلك أن وزن الدكتور بشر ينقصه الترفيل (وهو زيادة سبب خفيف. . .) والسبب الخفيف متحرك بعده ساكن كقَدْ. فهو يمثل الألف والنون الأخيرتين في (عمان) و (الملوانْ) واللتين بحذفهما نحصل على نفس الوزن المنطلق الذي جاء به الدكتور بشر) 1 هـ.

أولاً: ليراجع الكاتب (متن الكافي) الذي استند إليه، وشرحه (المختصر الشافي) للدمنهوري وغيرهما ليعلم أن للعروض الثانية المجزوءة من المتدارك ثلاثة أضرب هي: فَعِلاتن، فاعلان، فاعلن. فأين (فَعِلُن) الذي أتى به؟ وإذا بدا له أن يتذرع بالخبن، فليذكر أن (الخبن) من (الزحاف) فما هو بلازم في فاعلن، وإن لزم في فعلاتن الوارد هكذا على أنه ضرب.

ثانياً: قرأ الكاتب البيت الذي استشهد به (متن الكافي)، وهو غير مشكول. فسكن النون من

ص: 63

(عمانِ) و (الملوانِ). والصواب: كسر النون (عمان، الملوان) - كما يعينَّ ذلك موضع الشاهد من الكتاب - فيكون الوزن (فعلاتن) لا (فعلان)

ثالثاً: والظريف أن الكاتب يزيد أن في البيت ترفيلاً. فيشرح الترفيل، ويضرب المثل بكلمة (قد)، ثم يقول:(إن الترفيل يمثل الألف والنون) من (عمانْ) و (الملوانْ). والصواب: (أنه يمثل النون المكسورة)، مع إشباع الكسرة. وأما (الألف والنون) فالألف تتمة التفعيلة السابقة، النون هي التذبيل، فلا ترفيل كما وهم الكاتب

رابعاً: يقول الكاتب إن بين الوزن الذي استكرهه والوزن الذي وضعتُه (فرقاً يسيراً. . . وبحذف اللف والنون (والصواب كما رأيت: بحذف النون مع حركتها المشبعة) نحصل على نفس الوزن المنطلق الذي جاء به الدكتور بشر). فكأن الأوزان على يد الكاتب تنقص وتزيد وتضغط وتمط بجرة قلم. وإن توهم أن الترفيل في العروض لا يقدم ولا يؤخر كما يقولون، فليسأل أهل التلحين والغناء عن النقرة التي تبعد إيقاعاً من إيقاع، والغمزة التي تجنَّب (الصبا) من (البياتي) مثلاً. ولينشدهم (قصيدة الناي) يخبروه هل البحر الأول (وهو في وهمه مجزوء المتدارك) على ميزان البحر الثاني (وهو المتدارك). إلا إن الشعر والموسيقى من منبع واحد. أليس لكليهما دوائر قائمة على الأسباب والأوتاد والفواصل عند أرباب الفنين؟ ليفطن الكاتب إلى هذا

وخلاصة القول أن أركان صناعة الشعر وشواهدها تختلط على قلم الكاتب وتتلوى. فكيف أجاذبه فيما انحرف إليه؟ هذا وإن لي حديثاً في (بحر المنطلق): كيف خطر لي وما أصوله، وإني لسائق الحديث يوم يخرج الديوان تسبقه توطئة

بشر فارس

ثناء ورجاء

أُثني على مطالعة الأستاذ عوض السيد السحل الفاحصة، وأعلمه كي يبتهج أن قد حُذف القول الخامس من جريدة (قد لا يكون)، وإن أراد الإمام العكبري - كما ظن قبل - (وقيل أن مصدرية، وقد لا تمنع من ذلك).

وأرجو من الأستاذ توفيق الفكيكي أن يتفضل بقراءة: (كلمة في اللغة العربية، والأسلاك

ص: 64

الصحيح). فمقالته الكريمة (نهج البلاغة أيضاً) في (الرسالة الهادية) تخبر أنه لم ير الكتابين. وإذا تلا قولهما، ولم يقنعاه، فإني أهنيه بإيمانه.

محمد إسعاف النشاشيبي

اقتراح

كنت نشرت في (الرسالة) مقالاً به فصلاً واحداً من كتاب (الإمتاع والمؤانسة) الذي أخرجته لجنة التأليف والترجمة والنشر بتصحيح الأستاذين الفاضلين أحمد أمين وأحمد الزين. وقد نبهت المصححين إلى سبع وعشرين غلطة أساسية في ذلك الفصل الواحد. وبعد أسابيع كتب أديب أخفي اسمه مقالاً مطولاً في الرد عليّ، ولكنه لم يستطيع أن يثبت أني أخطأت في كلمة واحدة مما نبهت إليه، ومع ذلك دار حول بعض الألفاظ ليوهم للقراء أنه فند كلامي

وأقول: إنه لا خوف من أن ينخدع القراء بمحاولة ذلك الأديب، وإنما الخوف على ذلك الأديب نفسه! فهل أستطيع أن أقترح على الأستاذ الزيات أن يدعوه لمقابلتي ومعه الكتاب لأهديه إلى ما خفي عليه من عبارات التوحيدي. . .

إن كان طالب علم فليحضر (مع المختلفة) للاستفادة، وإلا فليعرف أن وقتي يضيق عن محاورة من كان في مثل حاله من الجهل بأساليب القدماء.

زكي مبارك

الكهربائية تعتاد

مما استوقف نظر بعض الأدباء في شيء من الإنكار ما جاء به في كتاب (آفاق العلم الحديث) من مبحث الأستاذين هل وكرم عن الأفعال العكسية الأصيلة والمتحولة وأساسها في عالم المادة، ذلك أنه قرر أنه إذا اقترن مؤثران في إحداث أثرين معاً، وتكرر هذا الإحداث عدة مرات، فإن أحد المؤثرين منفرداً يمكنه أن يقوم بعمل الاثنين معاً في إحداث الأثرين. وهذا التفسير المادَي أراد به إيضاح قاعدة بافلوف في الأفعال العكسية المؤصلة والمتحولة. والتجربة التي أجراها في هذا الموضوع أنه أتى بمصباحين كهربائيين أو جرسين متصلين، كلاهما ينير أو يدق بالضغط على زرين، وبتكرار هذه العملية تمكن من

ص: 65

إيجاد شبه عادة في أن يجعل الكهربائية تسري في السلكين المتفرعين من الزرين، وأن تنير المصباحين أو تجعل الجرسين يدقان. وتفاصيل هذه التجربة مذكورة بإيضاح في كتاب (آفاق العلم الحديث)، وهي في الأصل مقال نشر بمجلة المقتطف لأعوام خلت

ولست أعرف كيف يوجد في الشرق العربي أناس يزعمون أنهم متصلون بالثقافة الأوربية الحديثة، وأن لهم دراية بآخر نتائج العلم التطبيقي في أوربا، ومع ذلك يجهلون مثل هذه النتائج التجريبية التي انتهت إليها أوربا، ويعتبرونها من أضغاث أحلام الكتاب الفرنجة؛ مع أن هذه المباحث ليست نظرية إنما هي وليدة التجربة والاختبار. ولا شك أنه ليس للأفكار ولا للمنطلق أن ينازع في حقيقتها، ما دامت التجربة والاختبار. ولا شك أنه ليس للأفكار ولا للمنطق أن ينازع في حقيقتها، ما دامت التجربة تثبتها؛ وهذا الموقف يذكرني تماماً بتلك المحاولات الفاشلة التي كان يثيرها البعض أمام كل اكتشاف علمي جديد

ولكم أرجو أن يتمكن أدباؤنا من الأسس العلمية التي تقوم عليها الفكرات الحديثة قبل التعرض لها

(الإسكندرية)

إسماعيل ادهم

فهم معكوس في معنى بيت وإعرابه

من الخطأ ما يلتمس لصاحبه فيه العذر، وهو الخطأ الذي يكون عندما يستغلق الأمر، ويصعب فهم المراد من الكلام؛ أما الخطأ الذي لا يعذر فيه صاحبه فهو الذي يكون عند وضوح الرأي، وظهور المعنى غاية الظهور، ومن هذا الخطأ الأخير ما وقع فيه الأديب الفاضل محمد رجب البيومي، فقد فهم فهماً معكوساً ما كتبته في معنى بيت الأعشى وإعرابه:

ألم تفيض عيناك ليلة أرمدا

وبتّ كما بات السَّليم مسّهدا

ومع هذا يبتدئ ما كتبه بهذه الجملة التي لا معنى لها: (للأستاذ عبد المتعال الصعيدي انتقادات ومباحث تصيب مرماها مرة وتخطئه أخرى) ولله الشكوى من مثل ذلك الفهم المعكوس وذلك الاشتباه الظاهر، وفي النفس ما فيها من هذا الزمان وأهله

ص: 66

لقد ذكرت أيها الأديب الفاضل أني أنا الذي أعرب (أرمدا) في بيت الأعشى فعلاً ماضياً مسنداً إلى ألف الاثنين العائدة على قوله عيناك، وعلى هذا تكون (ليلة) في البيت منصوبة على الظرفية، ولا تكون مفعولاً مطلقاً كما يقول الأستاذ أبو رجاء نقلاً عن حذاق النحاة

ولو أنك أيها الأديب الفاضل تأملت قليلاً في كلامي لوجدت أن الإعراب الذي نسبته إلي هو إعراب الأستاذ أبي رجاء، وليس هو إعرابي ولا إعراب حذاق النحاة، لأني أوافقهم على إعرابهم، والذي يخالفهم هو الأستاذ أبو رجاء

ولو أنك تأملت أيضاً قليلاً في كلامي لعلمت أن السبب في فساد إعراب ليلة على الظرفية وأرمدا فعلاً ماضياً هو أن الأعشى لم يكن في مقام الشكوى من رمد في عينيه. أما الذي ذكرته في فساد ذلك فخطؤه ظاهر أيضاً، لأنك ذكرت في فساده أنه لا يتأتى انطباق جفون العين وذوق حلاوة الكرى في وقت ألم السن من الرمد، فأما أن ذلك لا يتأتى في ذوق حلاوة الكرى فصحيح، وأما أنه لا يتأتى في انطباق جفون العين فهذا هو الخطأ الظاهر، لأن اغتماض العين من الرمد لا يمكن إنكاره، وهو الذي يمكن أن يراد في بيت الأعشى على الإعرابيين، ولكنه يكون صحيحاً جارياً على التشبيه في إعراب النحاة، ونابياً عن المقام في إعراب الأستاذ أبي رجاء. أما اغتماض العين في الكرى فبعيد عن البيت كل البعد، ولا يريده من يجري إعراب ليلة على الظرفية. ونصيحتي بعد هذا إلى الأديب الفاضل ألا يهجم على الكتابة قبل التأمل، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته

عبد المتعال الصعيدي

مميزات بني أمية - محاضرة للأستاذ محمد كرد علي

هذه هي المحاضرة الثانية التي ألقاها الأستاذ العالم محمد كرد علي بك في دمشق. ولقد كنا نقدنا في (الرسالة) محاضرته الأولى (كتبنا وتآليفنا) التي ألقاها قبل شهور، وقلنا إنها محاضرة لا ترتيب فيها ولا استقصاء، وقال عنها الأستاذ الشيخ علي الطنطاوي إنها لا تزيد عما كتبه مؤلفو (الوسيط) للتلاميذ في كتابهم، فلنر هذه المحاضرة ونصيبها من التوفيق

موضوع المحاضرة (مميزات بني أمية) ألقاها الأستاذ في قاعة الجامعة السورية الكبرى

ص: 67

وسمعها ناس كثيرون، من تلاميذ وطلاب ومعلمين، وأساتذة، وموظفي وزارة المعارف، وبعض المتأدبين الناشئين من تلاميذ (أصمعي هذا العصر الشيخ مارسه) كما يقول الشيخ الطنطاوي. وكانت المحاضرة على عين من مدير المعارف العام معالي عبد اللطيف الشطي بك

بدأ الأستاذ ببحث لغوي عن كلمة (أمة) والنسبة إليها، وتصغيرها. ثم خطأ من يقول (أموي) بالفتح وصوب من قالها بالضم، ثم انتقل الأستاذ فأطرف السامعين بحديث عن أنساب أميّة، ملّه الناس منه، لأن الأنساب ليس مما يتحدث به إلى الناس في حفل عام. وذكر أنهم كانوا تجاراً، وبيّن شأن تجارتهم في تلك الأوقات وقال إنهم (أدخلوا مكة في دور مدني، وأن منهم عرفت قريش أرض العجم والروم. .)

وانتقل الأستاذ إلى أبي سفيان، فأفاض في ذكر أحواله في الجاهلية، وانتقل فجاءة إلى معاوية فذكر ما كان يقوله عمر إذا رآه. ثم عاد إلى أبي سفيان فذكر أن له الفضل بنقل الخط إلى الجزيرة، وانتقل بعد ذلك إلى عثمان بن عفان؛ فقال إنه جمع القرآن، ولولاه لكان القرآن اليوم ضائعاً. . . وأنه كان يكرم حرملة الشاعر النصراني. . . وانتقل إلى خالد بن يزيد وذكر أنه أول من ترجم الكتب القبطية والسريانية إلى العربية. وتخطى الأستاذ الخلفاء، حتى أتى عمر بن عبد العزيز؛ فقال إنه أول من عنى بتدوين الحديث

ثم رجع القهقري وقال: (ولم يكن بنو أمية من النابغين لما استعملهم الرسول على الولايات. وقد انتقل رسول الله وأكثر العمال من بني أمية، وأنهم كانوا في الجاهلية أمراء، وكذلك كانوا في الإسلام)

وقفز الأستاذ إلى معاوية فقال وأفاض، وأبان عن علم، حتى حسبنا أن المحاضرة قد انقلبت إلى محاضرة عن معاوية لا عن بني أمية. فذكر تشبه معاوية بالروم (وهذه وكل ما سيأتي من مميزاته)، وما اقتبسه من الأمم المجاورة من الأبهة والعظمة، وما ألف من مجالس الوفود، وذكر استخدامه النصارى والعلوج في وظائف الدولة، وقال إن بني سرجون كانوا وزراء المال عنده، وإنه كان ذا عقل ناضج، واستدل على سعة عقله بخبر عبد الله بن قيس إذ لقي في (صقلية) أصناماً من الذهب فأخذها معاوية وأرسلها إلى الهند لتباع ويؤخذ ثمنها. وقال إن معاوية حسن حال الحكومة، واستطاع بدهائه أن يأخذ الخلافة من علي وهو

ص: 68

راض، ومن أبنائه وهم راضون. . . وأنه أول من وضع الحشم للملوك وأمر برفع الحراب بين أيديهم، ونظم الجيش، وأعطى الجند رواتب، ووضع البريد، وعلم الناس التجسس إذ عين صاحب الخبر (أي مأمور استخبارات)، وأوجد في مصر رجلاً كان يطوف على الناس كل ذي ليلة فينادي:(هل ولد فيكم ولد، هل ولدت فيكم جارية، فيقولون ولد لفلان كذا. . . فيكتب اسمه)

وقال الأستاذ إن معاوية كان يعتمد على العطاء ثم الإقناع والرضاء، فإن لم تفد هذه الأشياء عمد إلى القسر، وذكر إسرافه في الأموال ليسكت العلويين والهاشميين، واستخدامه الشعراء والقصاص للدعاية. . . الخ

ويترك الأستاذ معاوية ويأتي إلى عمر بن عبد العزيز فيذكر ورعه وتقواه، وعفته وصدقه. . .

ثم قال: ولقد كانت دولة الأمويين دولة عربية صرفة بكل مظاهرها و. . . (والحق أن هذا القول ينطبق على أيام معاوية!!؟) ثم ذكر مروان بن محمد الملقب بالحمار (ولم يذكر الأستاذ لقبه) وقال إنه كان على جانب عظيم من العقل، وانتقل إلى ذكر قصر الحير الذي بناه هشام في الشام (والذي كشف أخيراً خارج دمشق من جهة البادية، ووضع في متحف دمشق الأثري)

ويجعل الأستاذ من مميزات معاوية جعله الشام (جمعية أمم) فقد رحب بالناصري واليهود والسريان والروم والسود والبيض والحمر والصفر. . . إلى ما هناك من شعوب وأمم، ثم انتقل إلى ذكر ولاة بني أمية، فأشاد بمناقب الحجاج، وأكبر أفعال موسى ابن نصير وعظم غيرهما. . .

وقال الأستاذ: إن هواه كان وما يزال مع بني أمية، لأنهم ظهروا له بعد البحث والدراسة جديرين بهذا الهوى. وقد حاول الأستاذ أن يكذب ما نسب إلى بعضهم من الأخبار التي لا تشرف

وختم الأستاذ محاضرته بقصيدة شوقي في بني أمية. ولعل أحسن ما في المحاضرة هذه الأبيات التي ختم بها الأستاذ محاضرته فأحيت السامعين، وترنحوا منها طرباً ونشوة.

تلك هي المحاضرة لخصتها في هذه الأسطر، والقارئ رأى معنا هذا الاضطراب وهذا

ص: 69

التفكك الذي فيها!. . . وما ندري، أأصبح عدم الترتيب والاضطراب في السرد من مميزات محاضرات الأستاذ في هذه الأيام؟ على أننا لا ننكر أن هذه الأخبار التي ذكرها الأستاذ تدل على معرفة واسعة وقراءة دائمة، وهذا ما عرف به الأستاذ. ونحن وإن كنا ننكر عدم الترتيب وذاك الاضطراب، وهنات نحوية بسيطة، فإننا نعجب بالأستاذ وبعلمه، وبتلك الأبيات التي ختم محاضرته بها.

(دمشق)

(ص. م)

توفيق الحكيم في نظر كاتب أوربي

كتب المستشرق المجري الأستاذ جرمانوس أستاذ التاريخ بجامعة بودابست فصلاً عن الأستاذ توفيق الحكيم في كتاب له ظهر بالألمانية حديثاً بعنوان: (الله أكبر) نلخصه فيما يلي:

. . . يميل اليوم كثير من الكتاب المصريين إلى استخدام اللغة الشعبية والتعبير بها عن كل ما يراد التعبير عنه. لكن الكتابة بهذه اللغة اعتبرت بدعة جريئة عن ما قام مفكر حر واستطاع بفضل ما أوتيه من موهبة أن ينفذ عقيدته الفنية. ونعني بهذا المفكر الحر توفيق الحكيم

درس توفيق وعاش في باريس. هناك تغيرت عقليته. وحينما عاد إلى القاهرة ليشغل منصباً رفيعاً في وزارة المعارف، نشر حوله ظلال أفكاره وثمرة تأملاته. أراد أن يكتب كما أحس وتكلم، ثم نقل كل شعوره وإحساسه الفكري إلى العربية مباشرة

اقتبس توفيق الحكيم موضوعاته من تقاليد الإسلام، ووفق لتمثيل خيالاته على أحسن صورة؛ لكن الشكل والأسلوب جديدان تماماً. وهو يصف أسطورة شهرزاد بأسلوب حواري أقرب ما يكون إلى البساطة والرمزية في الوقت نفسه. وهو يعرف - بأزميله الفني - كيف يصب أشخاصه في قوالب من لحم وعظم

وقد قال لي توفيق الحكيم في إحدى محادثاته: (ليس في وسعي أن أكتب إلا في جو الحرية). والواقع أنه بشخصيته المتواضعة، ورقته ودماثة أخلاقه، يمثل لنا الكاتب الشرقي

ص: 70

في أحسن صورة

ثم أردف قائلاً: (إنني أحس أن قلمي وكذلك فكري شبه محجور عليهما في الشرق. إن شعوري متوثب، وفكري متقد؛ ولكن يصعب علي تحديد هذا الفكر ورسمه على الورق باللغة التي أريدها، فإن الفكر والشعور يتجمدان تماماً. نحن لا نملك بعد لغة مرنة ولا نحيا حياة أدبية صحيحة. إننا نعرف من المعاني عظاماً قد تسرب السوس إليها من قرون. لأننا فقدنا شهيتنا لتذوق طعم اللحم الطازج. لهذا السبب أميل إلى الطبقات الشعبية لأنها لم تشبع بعد ولا تزال على فطرتها وسذاجتها. فلعل الشعب يفهمني)

صديقي العزيز توفيق! حقاً! اليوم لا يفهمك ويقدرك حق قدرك سوى بعض المستشرقين الذين في وسعهم مطالعة أعمالك وتفهمها على وجه صحيح، وكذلك فئة قليلة من المصريين المثقفين؛ ولكن صبراً ستتطور إفهام الجماهير، وستنمو لشعبك أسنان جديدة؛ ويومئذ يقبلون على التهام آثارك الأدبية الشعبية

ثم تكلم الكاتب بعد ذلك عن شهرزاد وأهل الكهف وعودة الروح وحياة محمد، ثم ختم مقاله بقوله: ومهما يكن من شيء فإن الذي أعتقده وأؤمن به أن توفيق الحكيم يستحق تعضيد العالم العربي، فيقدر جهوده الفكرية حق قدرها ويعني بتفهمها على وجهها الصحيح لييسر للشرق المضي في السير نحو مثله الأعلى.

ص: 71

‌الكتب

علي الطنطاوي وكتابه

في بلاد العرب

بقلم الأستاذ صلاح الدين المنجد

. . . وهاهو ذا الطنطاوي يخرج كتابه الجديد بعد تردد، وهاهو ذا يلقى بنفسه بين أيدي أهل النقد لينال ما يناله المؤلفون من نقد جارح وتقريظ ناعم، ومن تهجم لاذع ومداعبة لينة. . . ويرمى بكتابه إلى الناس ليقرءوه ويشرحوه، ثم ليطنبوا في مديحه أو يدركوا به ثأراً قديماً لهم، فينالوه بالتعريض. فلنشمر إذن مع هذا الناس ولننقد هذا الكتاب كما ينقد الطائر الأرض لينبش منها حبها وزوانها. ولنحدث الناس عن الطنطاوي الذي يخشى الناس غضبه، ويخافون على أنفسهم منه، ولنلق بأنفسنا بين يديه يتحدث عنا ما يشاء. فقلد تربصت طويلاً، وحاولت أن انقده كثيراً. ولكني كنت في كل مرة أغلب على أمري. أما وقد أخرج الآن كتابه، فلن أبطئ أبداً، فقد ألقى بنفسه بين يديّ، وأصبح كتابه بين عينيّ. وليت شعري أأمن صديقي على نفسه عندما أهدي إليّ كتابه وسألني أن اكتب عنه ما أشاء!. . .

لقد سمرت يا صديقي مع كتابك طول هذه الليالي المظلمة التي فاجأنا بها هذا العام الوليد. وكنت أقرأ فيه فأسمع تلك النغمة الحزينة تارة والطروب أخرى التي كانت تتعالى من سطورك وكلماتك، فتهيج حسي كما أهاجته تلك النغمة التي كان يحدثها المطر وهو يقرع زجاج النافذة، ويتساقط على أوراق الليمون والبرتقال التي هزتها الريح المعولة وروعها السحاب الهتون. والحق إني استمعت إلى نغمتين حزينتين: نغمتك وأنت تصف مآسي هذا الوطن الباكي، ونغمة المطر وهي تحدث الأوراق الذابلة. ثم خرجت من الكتاب وأنا أسيان نشوان، طروب معجب. فاسمح لي يا صاحب الرسالة أن أتحدث عما رأيت وما سمعت

لقد قرأت قولك في مقدمة الكتاب إنك كنت في حرب مع الحياة فذكرت بلدك هذا، وكيف أنكرك، فلقد اعتادت الشام أن تعظم الجاهل الغريب، وتحطم النابغ القريب. فلما رأيت ما رأيت تركت دمشق تبتغي مصراً، فعشت بها أمداً اتخذت فيه من الأماكن والناس أصدقاء

ص: 72

لقلبك وأحبة لنفسك، وأنفقت أيامك فيها في دار العلوم طالباً وكلية الآداب مستمعاً، وفي (الفتح) و (الزهراء) كاتباً ومحرراً، وعند خالك محب الدين الخطيب سعيداً ومستفيداً. ثم بدا لك. . . وعاودك الحنين إلى وطنك، فعدت إليه فعينوك للصبيان معلماً، وقدمّوا الجاهلين عليك؛ فهزأت بهم وسخرت منهم، وخرجت من بلدك تبتغي العراق فعلمّت في ثانوياتها الأدب، ثم قصدت الحجاز وعبرت الصحراء، ثم عدت إلى بغداد، ثم رجعت إلى دمشق وإذا بهم يمكرون بك مرة أخرى

ذلك لأنك من هذا البلد. . . وأن هذا البلد قد اعتاد وأد أبنائه. . .

عفواً يا بلدي الحبيب!

فتلك شيمة أبنائك. . . يكرمون الغريب ولو كان جاهلاً، ويفتحون له صدورهم، ويوسعون له في دورهم، ويؤثرونه على أنفسهم. . . ويموتون هم من الجوع. . . فإذا تولى عنهم رماهم بكل قبيح، ولكنهم يصفحون عنه، ويسعون لاستقبال غريب آخر. . .

نعم، تلك شيمتك وشيمة أبنائك يا بلدي. . .

ولقد أعجبني أنك ظهرت في كتابك أديباً حقاً، يهزك كل شيء، وتحن إلى كل شيء. . . والأديب الحق من إذا رأى شيئاً أثر فيه، فحرك نفسه، ودفعها إلى الكتابة. لقد طوفت في ربوع الشام. . . فحركت نفسك روائع دمشق، هذه الزهرة الناعمة التي نبتت على أطراف الصحراء، يسقيها بردى بدموعه، ويحرسها قاسيون الجليل بنفسه، والتي يسعى إليها الملوك ليتمتعوا بنظرة منها، ويستنشقوا عطرها. . . فوصفت ما رأيت وأبدعت. وقد أعرض قومك عن تلك الروائع ولم يحفلوا بها، ثم ذهبت إلى العراق، فرأيت وسمعت، وتذكرت الماضي المجيد يرقص على شطآن دجلة، ويرتع في جنبات بغداد، فقلت عنه ما قلت، ثم أوليت العروس حبك. . . فلما رأيت الإيوان هاج حسك، ثم زرت سر من رأى، فهاجت شجونك. . وأنت في كل مرة تكتب وتغني. ثم ذهبت إلى الحجاز - فذكرت محمداً سيد العالم - عليه صلوات الله وسلامه، ورأيت النور ينبثق من هاتيك النجود، فيغمر الدنيا. . . فذرفت دمعة على الماضي الفخم يواريه أبناؤه التراب ولا يحفظونه، ويستبدلون بالعز ذلاً، وبالحرية قيداً، وبالسيادة عبودية. ثم ذكرت العقيق وأيامه، وسمعت الشعر الطروب والغناء الراقص والحب الرفاف. . . فحننت ووصفت، ثم عدت إلى بيروت

ص: 73

فهمت على سيف هذا البحر الحبيب، وشردت في الجبال الخضر ووصفتها أيضاً، وأنت في كل مرة تذكر وتبكي، وفي كل مرة تحن وتطرب، وفي كل مرة تدع قطعة من قلبك هنا. . . وقطعة منه هناك. . .

فقل لي ما بقي من قلبك يا صديقي!

لقد نثرته هنا وهناك. . . (في بلاد العرب) فكيف تعيش بدون قلب؟ وكيف تحيا بدون فؤاد؟

وميزة أخرى أعجبتني. . . ذلك أنك لست أديباً فقط، ولكنك أديب إقليميٌّ. والأدب المحلي ينقصنا يا صاحبي. وكما أن بمصر أدباً محلياً، فيجب أن يكون مثله في شامنا وعراقنا وحجازنا، وأن تبدو في كل أدب مظاهر القوم وشعورهم وعواطفهم. ومجموع هذه الآداب كلها يؤلف الأدب العربي في القرن العشرين، كما ألف الأدب العربي من قبل أدب الشام، وأدب العراق، وأدب الأندلس. ولو حاولنا أن نبحث عما أنتجته أدباء الشام في أيامنا، وما ظهر فيه أثر الشام جنة الله، ومهبط السحر، وينبوع الالهام، لوجدته قليلاً نادراً

أين من وصف سورية الجميلة الوادعة؟

وأين من كتب عن سورية أم الأبطال؟

وأين من أشاد بذكر الوطن، فبكى آلامه، ومجد أفراحه، وحن إليه؟. . .

أين الأدب الذي يبدو فيه غلظة نفوسنا عند الكريهة وصفاءها في الأمن والسلم؟

أين. . . أين. . .!

كل ذلك لن تجد منه إلا قسماً واحداً عند أدبائنا كلهم. . . أما أنت. . . فعندك كل شيء. . فاهنأ فأنت (كاتب الوطن)

ولست في كتابك أديباً دمشقيَّا، ولكنك أديب مسلم عربي إنك لم تنس العراق فأشدت بأيامه الخوالي، وبكيت بطله غازي ومجدت أباه فيصل؛ ثم ذكرت فلسطين فوصفت بؤسها وجمالها ورجالها وجبل نارها؛ ثم وصفت مصر وعظمتها، وكتبت عن الحجاز وماضيها وحاضرها. . .

فيا أهل الشام!

إذا أردتم أن تسمعوا الأغاني التي قيلت في بلادكم. . .

ص: 74

وتعلموا أن ربوعكم ربوع شعر وبشر وعطر فاقرءوا هذا الكتاب

ويا أهل العراق!

إذا أردتم أن تسمعوا أناشيد محب لبلدكم، عاشق لها، بكى مليكها، ومجد بطلها، وأشاد بماضيها، فاقرءوا هذا الكتاب

ويا أهل مصر!

إذا أردتم أن تعلموا شيئاً عن هذه البلاد العربية، وتروا ما فيها من جلال وجمال وما أصابها من ألم وأسى، وتسمعوا أقاصيص هذه البلاد التي تهفو قلوبها إليكم. . . فاقرءوا كتاب الطنطاوي الشامي المسلم العربي:(في بلاد العرب)

(دمشق)

صلاح الدين المنجد

ص: 75