الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 344
- بتاريخ: 05 - 02 - 1940
الحياة جميلة.
. .
الحياة جميلة، وما يشوّه جمالها غير هذا الحيوان المسمى بالإنسان! لم يعش فيها كما تعيش سائر الأنواع على رسم الفطرة وهدى الطبيعة ووحي الله، وإنما عاش على قوانين من وضعه استمدها من أثرته وكبريائه وهواه فكان شرّاً على نفسه وحرباً على غيره
ربما اقتتل الوحش والوحش أو الطير والطير في سبيل القوت أو النسل؛ ولكنه اقتتال الساعة لا يسبقه تدبير ولا يصحبه حقد ولا تلحقه جريرة. أما الإنسان فهو وحده كدر السلام وقذى الحياة! أحيا لنفسه بفضل ذاكرته ماضياً يحفظ الثأر، وخلق لنفسه بفضل بصيرته مستقبلاً يحمل الخوف، فكان حاضره بينهما قتالاً مستحِراً لا ينقطع ولا يفتر، إما دركاً لثأر الأمس الذي يتذكره، وإما كسباً لقوت اليوم الذي يتبصره، وإما درءاً لخوف الغد يتصوره
الحياة جميلة، وأجمل منها الحي الذي يدرك هذا الجمال ويتذوقه ويستوعبه ويكتسيه. فالطائر أجمل من الروض لأنه عرف كيف ينقل ألوانه على ريشه، ويجمع ألحانه في صوته. والأسد أجمل من الغابة لأنه استطاع أن يجعل رهبتها حية في رهبته، وعظمتها ماثلة في عظمته. والجمل أجمل من الصحراء لأنه أندمج فيها فسير جبلها في هيكله. وصور رملها على أديمه. والحوت أجمل من البحر لأنه قطعة من الحياة صيغت من لين مائه وشدة موجه وسرعة تياره. وكأنما يدرك الطبيعة ويسايرها ويتأثر بها كل شيء من ناطق وصامت إلا هذا الإنسان، فقد خرج عن سنة الله في خلقه حتى اختصه بالأنبياء والرسل والمدارس والكتب! وهيهات أن يدخل النور عين الضرير، ويبلغ الصوت أذن الأصم!
الحياة جميلة؛ وليس جمالها قصراً على قوم دون قوم، ولا على طبقة دون طبقة. إنما الجمال وضاءة الفن الإلهي أشاعه الله في الأرض والسماء وهيأ المدارك للاستغراق فيه والاستمتاع به. فمن كان ذا سمع وبصر وقلب وجده في كل منظر وأحسه في كل حالة. فهؤلاء الذين يمرون عليه وهم معرضون عنه قد فسدت فيهم طبيعة الحياة، وتلبدت فيهم ملكة الحس، فانقطع ما بينهم وبين الوجود الحق والوجدان الصحيح
إن الجمال وسيلة الطبيعة لحفظ الحياة وبقاء النوع، تجمع به ما شت، وتؤلف به ما نفر. وهو بعد ذلك سرور النفس ونور القلب وسلام الروح؛ فمن تملاه في صوره الحسية والمعنوية في الكون كان له منه في كل زمان شباب وفي كل مكان ربيع
الحياة جميلة، ومظهر الشعور بجمالها المرح والبهجة. فأينما تر الخمود والكآبة تر الشعور الذي أدركه الكلال أو أصدأه القبح أو أفسده الشر، فيموت فيه الوعي، أو ينعكس فيه الجمال، أو ينقلب فيه الخير. فالجمال في الطبيعة لابد أن يجاوبه جمال في النفس؛ والصفاء في العيش لابد أن يعادله صفاء في القلب. ومن هنا استسر الجمال والصفو على ذوي الحس المظلم والضمير الخامد
كن جميلاً تر الجمال في كل شيء حتى في الدمامة. ومتى امتلأت قواك المدركة بمفاتنه ومباهجه حَلِي الوجود في صدرك، وساغ المر في فمك، وسعيت إلى مجالي الجمال في النيل والجزيرة والريف فشدوت مع الطير، وطرت مع الفراش، وسبحت مع السمك، واستطعت أن تطاول الأغنياء في العز وتشآهم في الغبطة، وتقول لهم: إن السعادة بالجمال أضعاف السعادة بالمال؛ والمال لكم فجدواه عليكم، ولكن الجمال لله فجدواه على الناس
الحياة جميلة، وأنت يا ابن الحياة وارث هذا الجمال. فلِم تزوي عنه وجهك وترسل عينيك بالحسد والحقد إلى المترفين الخافضين وهم يتلهون بالقنص، أو يتزحلقون على الجليد، أو يتمتعون بالسياحة؟ إن في القاهرة وضواحيها من الجمال المبذول والنعيم المشاع ما يكفكف ثورتك على الغني، ويلطف سخطك على الحياة. هذا هو النيل الجميل يجري بين ضفافه السحر، ويخطر على سواحله الفتون؛ فمن الذي يمنع جمهرة الشعب أن تداعب أمواجه بالمجاديف، وتشق عبابه بالزوارق، وتقيم على شاطئيه مهرجانات السباق ومسارح اللهو؟ إنك لتمر على النيل في أي ساعة شئت من النهار أو الليل فتحسبه من السكون المخيم على شاطئه ومائه يجري في مجاهل الأرض. ولولا أن عليه جسوراً لا مناص من عبورها إلى الشاطئ الغربي لما ذكره القاهريون إلا كما يذكرون المقطم!
إن حياة الكسل والرخاوة والخمود والانقباض التي نحياها ألقت من ظلالها الباردة على النيل والجزيرة، فجعلت النيل في ركود المستنقع، والحدائق في سكون المقبرة ولذلك ترى الناس يمشون على جنباته أو بين جناته مطرقين صامتين كأنهم في مجال التأمل أو في مقام العبرة!
الحياة جميلة، ولكن جمالها يقتضي أن يكون لنا زعماء اللهو يصححون إدراكنا للحياة، ويرهفون أذواقنا للجمال، ويهيئون قلوبنا للسرور، ويشغلون أوقات فراغنا بالمسابقات
الرياضية، والمهرجانات الوطنية، والسباحات النهرية، والملاهي الفنية، والمواكب الشعبية. وليس أقدر على هذه الزعامة اليوم من وزارة الشؤون الاجتماعية، فإن هذا الذي ذكرنا داخل في منهاجها وعلاجها؛ وهو يشبه أن يكون غرضاً أصيلاً من أغراض وزيرها المجاهد المصلح، فإن سياسته في تقويم الشباب قائمة على تقوية رجولته وشجاعته بالعسكرية، وتربية خلقه وذوقه بالرياضة
قصة سامراء
للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك
قصة مدينة سامراء من أغرب وأمتع قصص المدن في التاريخ: (قطعة أرض قفراء) على ضفة مرتفعة من نهر دجلة (لا عمارة فيها ولا أنيس بها، إلا ديراً للنصارى) تتحول - في مثل لمح البصر - إلى مدينة كبيرة، لتكون عاصمة لدولة من أعظم الدول التي عرفها التاريخ، في دور من ألمع أدوار سؤددها. . . تنمو هذه المدينة الجديدة وتزدهر بسرعة هائلة، لم ير التاريخ مثلها في جميع القرون السالفة، ولم يذكر ما يماثلها بعض المماثلة، إلا في القرن الأخير - في بعض المدن التي نشأت تحت ظروف خاصة - في بعض الأقسام من العالم الجديد
غير أن هذا الازدهار العجيب لم يستمر مدة طويلة، لأن المدينة تفقد (صفة العاصمة) التي كانت (علة وجودها وعامل كيانها) قبل أن يمضي نصف قرن على نشأتها، فتأخذ في الإقفار والإندراس بسرعة هائلة، لا تضاهيها سوى تلك السرعة الشاذة التي كان تم بها تأسسها وتوسعها
وبعد أن كان الناس يسمونها باسم (سر من رأى) أضحوا يسمونها باسم (ساء من رأى). . . وبعد أن كان الشعراء يتنافسون في مدح قصورها، أخذوا يسترسلون في رثاء أطلالها
فبعد أن قال ابن الجهم في وصف أحد قصورها:
بدائع لم ترها فارس،
…
ولا الروم في طول أعمارها
صحون تسافر فيها العيون
…
إذا ما تجلت لأبصارها
وقبة مَلك، كان النجو
…
مَ تُفضي إليها بأسراها
يرثيها ابن المعتز، بقوله:
قد أقفرت سر من ري
…
وما لشيء دوام
فالنقض يحمل منها
…
كأنها آجام
ماتت كما مات فيل
…
تسل منه العظام
وفي الواقع ماتت سامراء ميتة فجائية بعد عمر قصير لم يبلغ نصف القرن؛ وأمست رموساً وأطلالاً هائلة، تمتد اليوم أمام أنظار الزائر، وتتوالى تحت أقدام المسافر إلى أبعاد
شاسعة لا يقل امتدادها عن الخمسة والثلاثين من الكيلومترات.
عندما يتجول المرء بين هذه الأطلال المترامية الأطراف، ويتأمل في السرعة العظيمة التي امتاز بها تأسس مدينة سامراء وتوسعها من جهة، وإقفارها وإندراسها من جهة أخرى. . . لا يتمالك نفسه أن يسأل عن العوامل التي سيطرت على مقدرات هذه المدينة العظيمة، وصيرت قصة حياتها بهذا الشكل الغريب
إن العوامل السياسة التي لعبت دوراً هاماً في هذا المضمار، لم تكن كثيرة التعقيد؛ بل إنها تتجلى لنا بكل وضوح عندما نُلقي نظرة عامة على أهم الحوادث التي وقعت في عهود الخلفاء الثمانية الذين توالوا على أريكة الخلافة العباسية في سامراء
يجابه الخليفة المعتصم - وهو ابن هرون الرشيد - مشاكل عظيمة في إدارة البلاد، فيرى أن يتغلب عليها باستخدام جيش من الموالي والمماليك؛ فيكثر من شراء الغلمان - من بلاد المغرب والمشرق - وعلى الأخص من بلاد ما وراء النهر بغية تكوين جيش مطيع ينزل على إرادته على الدوام. غير أن تكاثر هذا الجيش الغريب في العاصمة القديمة - بغداد - المزدحمة بالسكان، يؤدي إلى حدوث بعض الوقائع بين العساكر والأهلين. فيقرر الخليفة إزاء هذه الحال إنشاء عاصمة جديدة - بعيدة عن القديمة - ينتقل إليها بعساكره وقواده ووزرائه وندمائه وكتابه وأتباعه، ويدعو الناس إليها، على أن يرتب كل شيء فيها على حسب ما يتراءى له (مفيداً) لتوطيد دعائم ملكه من جهة ولزيادة جلال عاصمته من جهة أخرى
يمضي الخليفة في تحقيق فكرته هذه بعزم قوي وفي خطة محكمة، فينتخب موقع سامراء، بعد التحري والبحث، ويؤسس عاصمته الجديدة هناك، على أساس القطائع المنظمة، فيجعل كل مجموعة من القطائع قائمة بنفسها، مستقلة عن غيرها بمساجدها وأسواقها وحماماتها
و (يفرد قطائع الأتراك عن قطائع الناس جميعاً، ويجعلهم منعزلين عنهم لا يختلطون بقوم من المولدين) ولو كانوا من التجار حتى أنه يفكر في أمر ذريتهم و (يشتري لهم الجواري، فيزوجهم منهن، ويمنعهم أن يتزوجوا ويصاهروا أحداً من المولدين، إلى أن ينشأ لهم الولد فيتزوج بعضهم من بعض)
لا شك في أن هذه الخطة كانت تنطوي على محاولة سياسية خطيرة، بل كانت بمثابة
تجربة اجتماعية جزئية؛ كما لاشك في أن التدابير التي اتخذها المعتصم في سبيل تنفيذ هذه الخطة كانت دقيقة وحازمة. ومع هذا فإنها لم تأت بالفوائد التي كان يتوخاها منها، بل أفضت إلى نتائج معاكسة للأهداف التي كان قد رمى إليها معاكسة تامة. ونستطيع أن نقول: إن المعتصم كان قد حسب حساباً لكل شيء في هذا الباب غير شيء واحد، وهو التطور الذي يحدث في نفسية الجيش - بطبيعة الحال - عندما يتكون أفراده وقواده من الغرباء، ولو كانوا في الأصل من الأرقاء. . .
أراد المعتصم - بخطته هذه - أن يتخلص من مشاغبات الأهالي، غير أنه لم يدرك أن هذه الخطة ستؤدي - عاجلاً أو آجلاً - إلى جعل الخلافة ألعوبة في أيدي الجنود الغرباء وقوادهم الطامعين
وهذا ما حدث فعلاً: فقبل أن تمضي عشرون سنة على وفاة الخليفة المعتصم الذي وضع هذه الخطة وشرع في تطبيقها، تفاقمت سيطرة القواد، ووصلت بهم الجرأة إلى قتل الخليفة المتوكل قتلاً فظيعاً، وبعد ذلك تتابعت الأحداث والاضطرابات وأفضت إلى قتل الخلفاء وخلعهم ثلاث مرات متواليات خلال عشر سنوات، إلى أن تولى الخلافة المعتمد. وبعد أن بذل بعض الجهود في سبيل توطيد دعائم ملكه في سامراء نفسها، رأى أن يقضي على هذه المحاولات كلها، فقرر أن يترك سامراء وأن يعيد كرسي الخلافة إلى بغداد بصورة نهائية
ولذلك نستطيع أن نقول إن الخطة السياسية التي وضعها المعتصم - والتجربة الاجتماعية التي قام بها تنفيذاً لهذه الخطة - انتهت بفشل تام. .
غير أن قصة هذه المدينة العجيبة، إذا انتهت من الوجهة السياسية بفشل أليم. . . فإنها تكللت - من الوجهة العمرانية - بنجاح كبير يسجله تاريخ الفن والعمران بمداد الإجلال والإكبار. . .
إن إقدام الخليفة المعتصم على تأسيس عاصمته الجديدة كان في عنفوان الخلافة العباسية وعظمتها؛ فكان من الطبيعي أن تتمثل في هذه العاصمة تلك القوة والعظمة أحسن تمثيل. . .
إن الأراضي التي اختارها المعتصم لتشييد المدينة الجديدة، كانت منبسطة واسعة، ولم يكن فيها من المباني القديمة ما يعرقل خطط المباني الجديدة، ولا من التلول والوديان ما يحدد
ساحات البناء؛ فاستطاع الخليفة أن يجعل القطائع كبيرة فسيحة، والطرق عريضة طويلة. . . وسيستطيع أخلافه أن يوالوا عمله هذا، ويمددوا الشوارع ويوسعوا المدينة. . .
إن المملكة التي كان يحكمها الخليفة المعتصم كانت غنية وكثيرة الموارد جداً. فكان في استطاعته أن ينفق أموالاً طائلة لتشييد القصور والمساجد، وسائر المرافق العامة، كما يكون في استطاعة أبنائه أيضاً أن يستمروا على الإنفاق في هذه السبيل بدون حساب
إن المملكة التي تبوأ كرسيها المعتصم كانت فسيحة الأرجاء مترامية الأطراف، فكان في إمكانه أن يجلب أمهر الفعلة والبنائين وأشهر المهندسين والفنانين، من جميع أقطار ملكه العظيم. وفي استطاعته أن يضع تحت تصرف هؤلاء كل ما يطلبونه من مواد الزخرفة والبناء ولو كانت مما يجب جلبها من بلاد بعيدة. . .
إن اجتماع كل هذه العوامل الفعالة بهذه الوجوه المساعدة، سيفسح أمام المهندسين والفنانين مجالاً واسعاً للعمل والإبداع، وسيتحف العاصمة الجديدة بأوسع القصور وأجملها، وأعظم المساجد وأبدعها. . .
وكان من الطبيعي ألا تقف هذه الحركة الإنشائية عند حد القصور والمساجد وحدها. . . بل تتعداها إلى الدور والشوارع والبساتين أيضاً. لأن المعتصم لم يقصد - بعمله هذا - إيجاد (مقر خلافة) و (معسكر جيش) فحسب، بل كان يقصد - فوق ذلك - إيجاد (عاصمة مملكة) بكل معنى الكلمة. إنه أراد إنشاء عاصمة جديدة، تنافس بغداد في السعة والنفوس والعمران. فكان من الحتم عليه أن يستقدم جماعات كبيرة من الناس ومن أصحاب المهن - على اختلاف أنواعهم وأصنافهم -، وأن يقطعهم الأراضي، ويجزل لهم العطايا، ويحثهم على البناء. وكان من الطبيعي أن تتولد من جراء ذلك حركة إنشائية واسعة النطاق شديدة النشاط. . .
غير أن من البديهي أن بناء الحوانيت والدور لا يمكن أن يحاكي بناء المساجد والقصور. فإذا كان في استطاعة الخلفاء وفي مكنة الأمراء أن يزودوا المعماريين والفنانين بكل ما يطلبونه من النفقات، فلم يكن في إمكان الناس أن يقتدوا بهم في هذا المضمار. . . وإذا جاز لمعماري المساجد والقصور أن يبنوا ما يبنونه بأجود المواد الإنشائية - ولو كانت كثيرة الكلفة - وأن يزينوه بأجمل المواد الزخرفية - ولو كانت باهظة الثمن - فلم يكن
معقولاً لبنائي الدور أن يطمعوا في شيء من ذلك، بوجه من الوجوه. بل كان عليهم أن يتسابقوا في إيجاد الطرق والأساليب التي تضمن البناء بأقل ما يمكن من النفقة وأعظم ما يمكن من السرعة، دون أن يبتعدوا عن مقتضيات الطرافة والجمال. . . كان يتحتم عليهم أن يستعملوا المواد المبذولة في محيطهم، ويظهروا قوة ابتكارهم في كيفية استفادتهم من خواص تلك المواد في الزخرفة والبناء. . . ومن حين حظهم أن الطبيعة في سامراء كانت مساعدة على كل ذلك مساعدة كبيرة
لأن موقع المدينة يرتفع عن الضفة الأخرى بعض الأرتفاع، والطبقة الترابية فيه تكوّن قشرة قليلة الثخن تستر طبقة صخرية؛ فالأرض لا تتعرض لخطر الغرق حتى في أشد حالات الفيضان، كما تبقى مصونة من الرطوبة على الدوام. وهناك مناطق طينية واسعة تساعد على صنع اللبِن الجيد. وهنالك أتربة كلسية كثيرة تصلح لتحضير الجص القوي. . . ففي استطاعة البناءين أن يستفيدوا من هذه الوجوه المساعدة؛ فإنهم يستطيعون أن يبنوا المباني الكبيرة باللبِن دون أن يخشوا تأثير الرطوبة والمياه فيها؛ كما أنهم يستطيعون أن يضمنوا متانة تلك الأبنية باستعمال الجص مِلاطا لاحماً بين قِطع اللبن وأسوافها، وبعقد الطوق بالآجر أو بطابوقات مصنوعة من الجص. . وأخيراً يستطيعون أن يستروا رداءة مادة البناء بطلاء الجدران بالجص، كما يستطيعون أن يزخرفوا هذا الطلاء بالتلوين أو بالنقش والحفر
إن هذه الزخرفة يمكن أن تعمل خلال البناء كما يمكن أن تعمل بعد إتمامه؛ والقشرة الجصية التي تتكون عليها هذه الزخارف يمكن أن ترفع بسهولة، كما يمكن أن تعوض بقشرة جديدة تزخرف بأشكال تختلف عن الأشكال السابقة. . .
إن الزخرفة على هذه الطريقة تكون رخيصة، ولذلك تعمم بسهولة. فكل واحد من أصحاب الدور يستطيع أن يزخرف بعض غرفه بمقدار ما تسمح له موارده، كما يستطيع أن يعمم الزخرفة في الغرف الأخرى متى صلحت أحواله المالية، أو يستبدل بها غيرها متى ملّها وأراد الأبدع والأكمل منها. . .
ولهذه الأسباب كلها سيكون أمام الفنانين مجال واسع للعمل في هذا المضمار. . . إذ هناك عشرات الألوف من الدور يطلب أصحابها الزخرفة لمئات الألوف من غرفها. ومن
الطبيعي أن هذا الطلب الشديد المستمر سيؤدي إلى تنشئة جماعة كبيرة من الفنانين الماهرين في الزخرفة، وسيحملهم على التسابق في طريق التفنن والإبداع على الدوام
ولهذا كان من الطبيعي أن تزدهر في سامراء صنعة الزخرفة الجصية ازدهاراً كبيراً؛ وتولد طرازاً خاصّاً مع أشكال لا تعدُّ ولا تحصى، فيرتبط اسم سامراء - في تاريخ الفن - بهذا الطراز الخاص من الزخرفة. . . وتمتاز هذه المدينة، بجانب عظمة قصورها العديدة، وفخامة مساجدها الفسيحة، وامتداد شوارعها العظيمة، ونضارة بساتينها الجميلة - بزخارف دورها الكثيرة
كما كان من الطبيعي ألا يبقى هذا الطراز من الزخرفة محصوراً بسامراء وحدها، بل ينتقل - بواسطة قواد المعتصم وأخلافه - إلى القاهرة أيضاً، ويخلف هناك آثاراً باهرة في جامع ابن طولون من جهة، وفي المنازل المبنية في العهد الطولوني من جهة أخرى
لقد مضى على قصة هذه المدينة العجيبة أكثر من عشرة قرون. . . وأما الآثار والأطلال الباقية منها إلى الآن، فتضيف ذيلاً جديداً إلى غرابة مقدراتها المتسلسلة. إذ من الغريب أن آثار دورها المبنية من اللبِن والمزخرفة بالجبسين، قاومت حدثان الدهر، أكثر من قصورها المبنية بالآجر والمزخرفة بالرخام. . . والسبب في ذلك أن القصور تعرضت لتخريب الناس الذين اعتبروها بمثابة محاجر غنية بالمواد الإنشائية الصالحة للاستعمال، في حين أن الدور سلمت من تخريب الناس، ولم تتعرض لتدمير أيد غير أيدي الطبيعة والزمان. . . ويظهر أن أيدي الإنسان قادرة على التخريب - بوجه عام - أكثر من أيدي الزمان!
أبو خلدون
ويسألونك عن القاهرة
قل القاهرة بغداد الأمس وباريس اليوم
للدكتور زي مبارك
أكتب هذه الرسالة وقد هربت من ضجيج القاهرة في مساء العيد. وهل في شوارع القاهرة في مثل هذا المساء موضع قدم لمن يريد أن يزوِّد قلبه وعينيه بما في أعياد القاهرة من مواكب السحر وملاعب الفتون؟
هي دنيا من الغرائب والأعاجيب تسعد بها قلوب، وتشقى بها قلوب. وهل يعرف حلاوة السعادة أو مرارة الشقاء غير قلب تنطوي عليه أحشاء القاهرة في يوم عيد؟
يقال في كل أرض: إن النكتة المصرية هي أبرع ما عرف الناس من صور الذكاء. وهذا حق. . .
ولكن هل فكر أحد في أسباب هذه الخصوصية؟
إن النكتة هي النافذة التي نشرف منها على مروج الطرب والابتسام. ولو خلت حياتنا من النكتة لقتلنا الغيط على الأيام الجوائر التي لا يلتئم بها شمل ولا يعتدل ميزان
ولعل المقادير لوَّنت القاهرة هذا التلوين العجيب لتَطِبْ لقلوبنا الدامية، القلوب التي مزقها الهيام بالحب والمجد فلم تعرف معنى القرار في صباح أو مساء
قلت لقلبي: أيكون فرارك من ملاعب القاهرة في مساء العيد دليلاً على أنك تُشْبه الطفل الذي يزهد في اللعب؟
فقال: وما حكم الطفل الذي يزهد في اللعب؟
فقلت: ينزعج عليه الأهل، ويستقدمون له الطبيب، لأن الطفل لا يزهد في اللعب إلا وهو عليل
فقال: وأين أهل القلب العليل لينزعجوا عليه ويستقدموا له الطبيب. . .؟ وعندئذ عرفت أن قلبي يعيش في الدنيا بلا أهل!
هنا القاهرة!
نعم، هنا القاهرة. ولكن أين تقع القاهرة مما يريد القلب المفطور؟ أين وهي أصل العلة التي ردّت الفؤاد وهو صديع؟
كانت القاهرة في ماضيها مدينة محدودة النطاق. وكان لها أسوار وأبواب. وكان حراسها يطوفون أرجاءها في ساعة أو ساعتين ثم يصعد رئيسهم فوق منارة ويصيح:
(ناموا، أيها المسلمون، فأنتم في أمان)
فأين نحن من ذلك الأمان وقد جَدَّت في دنيانا معاطب غير عدوان اللصوص على المتاجر والبيوت؟
يستطيع كل قاهريّ أن يطمئن إلى أن منزله أو متْجره في أمان من سطوات الليل؛ ولكن أين الأمان من عدوان الشياطين، شياطين الغرائز والنحائز والطباع؟
من يضمن لك الأمان في مدينة القاهرة وهي اليوم مَسْبَعَة عقلية تصطرع فيها المذاهب والآراء، ولا يغمض فيها جفن إلا وهو مروَّع بقلب ساهر لا يعرف السكون إلا يوم تمن عليه المقادير بالموت؟
من يضمن لك الأمان في مدينة مثل القاهرة وأنت من نفسك في حرب، ومن الزمان في قتال، ومن الزملاء في نضال؟
يجب أن تعرف أنك في دنيا جديدة لا يَسلَم من خطوبها وصروفها غير من أمدته المقادير بالصبر عما في القاهرة من اصطراع العواطف واصطخاب الأهواء
فهل أنت من الصابرين؟ وكيف تصبر عن القاهرة، وهي قاهرة وفي دمك وروحك أقباسٌ من سعيرها العَصُوف؟
ألم تسمع ما وقع يوم أقيمت مباراة الأناشيد العسكرية؟
تلقت اللجنة خمسمائة نشيد ولم تختر غير خمسة أناشيد. فقال القائلون: هذا شاهد جديد على أن دولة الشعر يكثر فيها الأدعياء!
وكان ذلك لأننا نعيش في القاهرة مدينة الأناقة والفخامة والزخرف والبريق، وفي مثل القاهرة تُقهر العواطف وتُظلَم القلوب. وإلا فكيف جاز أن ينسى المحكّمون ما في تلك الثروة الشعرية أو النظمية من الدلالة على حرارة الأفئدة وشهامة العقول؟
خمسمائة نشيد؟ معنى ذلك، أيها الناس، أن القاهرة فيها خمسمائة قلب، وذلك مغنمٌ عظيم. ولكن أين من يقيم الميزان لحَيَوات القلوب وهي لا تُوزن ولا تقاس ولا تكال؟
وهل يَشقى في المدائن العظيمة غير أصحاب القلوب؟
هنا القاهرة!
نعم، هنا القاهرة، ولكن أين مكان الأديب في المدينة التي أصبحت عاصمة الشرق؟ أين مكان الأديب في القاهرة وبفضل قلم الأديب صارت القاهرة عاصمة الشرق؟ وهل خُلِّدت ليلى إلا بفضل أشعار قيس؟
أين مكان الأديب في القاهرة، ومن دم قلبه خُطَّ تاريخها الحديث؟ بل أين من تسمح له القاهرة بأن يقول إنه في هواها مجنون؟
إني وإياها كمفتتنٍ
…
بالنار تحرقه ويعبدها
هنا - في القاهرة - زاد العقول والقلوب والعواطف والأحاسيس، فأين مكان الأديب يا قاهرة ليؤدي ما أداه عشاق بغداد في القديم وعشاق باريس في الحديث؟
زرت حديقة الأزبكية في صباح اليوم وهو يوم عيد فلم أر فيها غير شراذم من غلف القلوب، فأين الأديب الذي يُشعر الدنيا بأن في القاهرة حديقة اسمها حديقة الأزبكية؟ وكيف جاز أن تخلو هذه الحديقة في يوم العيد من مواكب الحُسن الوضاح، والجمال الفضاح؟ ومتى نعيش إذا ألهانا جِدُّ القاهرة عن مداعبة الملاح في يوم العيد؟
متى نعيش إذا استطاعت مُحرِجات الحياة أن تقهرنا على التفكير في منافعنا الدنيوية في المواسم والأعياد؟ وهل عًمرنا عمر نوح حتى نصبر عن مواسم الأفئدة إلى أجل قريب أو بعيد؟
هي أيام نقضيها مشدودين بسلاسل وأغلال إلى (قطار المفاجآت) في هذه الحياة. فمتى نلتفت إلى ما أنبت الغيث في صحراء الحياة من أزهار ورياحين؟
سيندم قومٌ على ما ضيّعوا من مواسم القلوب في القاهرة. وسأذكر بعد فوات الوقت أنني جنيت على شبابي حين أضعته بين سواد المداد وبياض القرطاس في زمن لا ينفع فيه غير الاتجار بالتراب. فهل أخرج من داري إلى معاقرة الحياة بالقاهرة في هذا المساء؟ وكيف ولي شواغل تحرمني الحرية في مساء العيد؟
وهل يستطيع قاهريّ أن يُمضي يوماً واحداً بلا كفاح وهو يعيش في مدينة مقدودة من صخور الصبر على مصاولة الحياة
إن هذه المدينة التي تفتنكم لم تُخلق في يوم وليلة، وإنما هي عُصارة العزائم الشداد في
الأجيال الطوال. فمن أقام في القاهرة وله عقل وذوق فليحاسب نفسه على اللمحات واللحظات ليؤدي الزكاة عن قلبه وعقله وذوقه إن كان من الموفّقين، وإلا فهو نفاية ملفوظة في المدينة (القاهرة) التي تنكر خمود الغرائز وجمود الأحاسيس
هنا القاهرة!
أي، والله، هنا القاهرة. وما أسعد من يرى القاهرة أول مرة!
لقد فتنت هذه (القاهرة) من زاروها في هذه الأيام للاشتراك في المؤتمر الطبي العربي، وحمدوا الله على أن جعل للعروبة مدينة مثل القاهرة تتكلم اللغة العربية. فإن لم تكن القاهرة أعظم مدينة في العالم كله فهي بالتأكيد أعظم مدينة في الشرق بفضل ما جمعت من الخصائص الذاتية التي تحكم لها بالفضل على جميع مدن الشرق، وليس ذلك بالقليل
ولكن أين من يعرف أننا بسبب هذه العظمة أشقياء؟
أين من يعرف أن القاهرة لا تعظُم من يوم إلى يوم إلا لتزيد أعبائنا في الحياة؟ وإلى المنصفين من إخواننا في الشرق أقدّم الظاهرة الآتية ليعرفوا في أي جحيم يعيش القاهريون
في كل بلد من بلاد الشرق يستطيع الرجل الوسط أن يعيش لأن الدنيا في بلاد الشرق لا تزال تتسع للأوساط من الرجال
أما مصر - ويرحم الله أهل مصر! - فليس فيها للرجل الوسط مكان
العالم الوسط لا يستطيع العيش
والأديب الوسط لا يجد الرزق
والمغني الوسط يضيع
والطبيب الوسط لا يجد ثمن الدواء حين يمرض
والصحفي الوسط لا يملك الوصول إلى خبر صغير
والمثل الوسط قد لا يجد الفرصة لشهود رواية صغيرة، فضلاً عن القدرة على الاشتراك في التمثيل
القاهرة تقول في كل وقت: كن قاهريّاً
وهل يستطيع كل مصري أن يكون قاهريّاً؟
أليست القاهرة هي التي فرضت الخمول على مئات من الشعراء لأنهم لم يكونوا في
عبقرية شوقي وحافظ وصبري ومطران؟
أليست القاهرة هي التي فرضت الخمول على مئات من الكتاب لأنهم لم يكونوا في عظمة محمد عبده وعلي يوسف وعبد العزيز جاويش ومصطفى المنفلوطي ومحمد المويلحي؟
ومن كتّاب اليوم وشعراء اليوم؟
عندنا مئات من الكتاب والشعراء، ولكنهم سيموتون بغصة الحسرة على أن نشئوا في القاهرة لهذا العهد، عهد الزحام العنيف الذي لا يسلم من كربه غير الفحول الصوّالين
لقد قيل إن الرحمة فوق العدل. فأين نحن من الرحمة وأين نحن من العدل؟ أين من يرحم الأديب الوسط أو يعدل في الحكم على الأديب الوسط فيقضي بأن من حقه أن يعيش لأنه قد يكون أقدر من بعض الذين خلّدهم أبو الفرج الأصفهاني؟
وأين الراحم أو العادل الذي يقول بأن في شعراء اليوم، الشعراء الذين أخملتهم القاهرة، من يفوق عشرات من شعراء (اليتيمة) و (الذخيرة) و (قلائد العقيان)؟
القاهرة لا تتسع أبداً لغير الأفذاذ الذين يغلبون الزمان
وهنا جواب السؤال الذي يوجَّه إليّ في كل يوم:
(كيف يتسع وقتك لكل ما يَصدُر عن قلمك من الدراسات الأدبية والفلسفية؟)
وهل عندي وقت وأنا موظف مسئول أمام الواجب؟
إنما أنا قاهريٌ يحبس نفسه في البيت يوم العيد ليحفر بسنان القلم ثقباً يتطلع منه على ضوء العظمة القاهرية عساه يُقنع القاهرة بأنه رجل مجاهد يستحق أن يعيش
فإن رأيتم قاهرياً يصنع مثل الذي أصنع فاعرفوا أنه رجل مكدود يحاول الظفر بكلمة ثناء من المدينة العاتية التي حكمت بألا يعيش فيها غير من يقدرون على أمواج المحيط في غضبة العواصف الهُوج، ودهرُنا كله عواصف هُوج يتفزّع من هولها المحيط
لا تصدقوا أبداً أننا نسعى في سبيل المجد، فذلك مَطلبٌ لا يخطر لنا في بال، وإنما نسعى للخلاص من شماتة الشامتين وسفاهة الكائدين
آه ثم آه!!
لو كان الماضي ينفع لجاز لرجل مثلي أن يعتمد على ماضيه في خدمة الحياة الأدبية والفلسفية، ولكن القاهرة تعبس في وجه الرجل الذي يعتمد على ماضيه، لأن ذاكرتها
تضيق عن مراجعة الأسماء، أسماء المجاهدين الذين عطروا باسمها أرجاء الشرق. هي حسناء لعوب لا تعرف غير العاشق المزوَّد بأطايب الثروة والعافية. فيا ربّ كيف أكون في وطني يوم يتعب قلمي فأنصرف عن الخلوة إليه في يوم عيد؟ حتى يوم العيد نقضيه في نضال؟
في مثل هذا العيد من سنة 1932 كذبت على أبي مرة، ولم أكذب عليه غير تلك المرة. كتبت إليه أقول إني سأقضي أيام العيد في الإسكندرية فلا ينزعج أهلي إن حرمتني هذه النزهة من الأنس بهم يوم العيد في سنتريس
فهل قضيت تلك الأيام في الإسكندرية؟
لم تكن إلا حيلة لأحبس نفسي أيام العيد في البيت لأكتب فصلاً من فصول (النثر الفني) وهو الفصل الخاص بتطور السجع في اللغة العربية
وهل يصنع بنفسه هذا الصنيع إلى قاهري تقهره القاهرة على النضال المميت ليجد مجالاً في المدينة التي تصطرع فيها أقلام المازني والعقاد والزيات والبشري وهيكل وطه حسين، ومن إليهم من الباحثين الذين سيموتون قبل الأوان بفضل الكفاح الموصول؟
القاهرة لا تعرف الرجل الوسط، فافهموا هذه الحقيقة يا أبناء هذا الزمان، وإلا فهناك (سلّة المهملات) تنتظر الألوف ممن يراسلون الجرائد والمجلات؟
يمنّ علينا من يحمله التلطف على القول بأن القاهرة عاصمة الشرق. فهل تعرف القاهرة أن أقلامنا هي التي صاغت لها تلك العقود من الثناء؟ وكيف وعندها (سفح المقطم) الذي وسع الألوف من أجسام العبقريين؟
زرت سفح المقطم منذ أعوام لأستوحي روح ابن الفارض قبل أن أشرع في كتابة الفصل الخاص به في كتاب التصوف الإسلامي، فراعني أن أعرف أن تلك الناحية هي أنفع مكان في القاهرة من الوجهة الصحية. وكذلك أيقنت أن القاهرة تدخر أجمل بقاعها للأموات. وما أحسبها تصنع ذلك وفاءً، وإنما أخشى أن تكون أرادت التنبيه إلى أن عظمة الرجل في مصر لا تكون إلا بعد الموت!
يرحمك الله أيها القلب الذي يشغله الكفاح عن ملاهي العيد!
الآن، وقد انتصف الليل أو كاد، أفكر في مصيري بين قومي
أفكر في الشباب المضيَّع بلا لهو ولا فُتون!
وهل كنت أول من ندم على الشباب المحروم!
ولكن، هل أملك غير الذي صنعت وغير الذي سأصنع؟
فيا أيها الوطن الغالي، تذكَّر ثم تذكر. تذكر أنني كنت ولا أزال مجنون ليلاك! فإن رأيتني صدفتُ عن أفراحك في يوم عيد، فاعرف أن ذلك لم يقع عن جهل أو عقوق، وإنما هي إرادتك العالية التي قضت بأن يعيش أبناؤك وهم دائماً في حومة قتال!
وما أدعوك، أيها الوطن، إلى التصدق عليَّ بنظرة عطف، فأنا لا أقبل الصدقات، وإنما أدعوك إلى مقابلة الجميل بالجميل، فإن رفق الآباء يزيد في بِر الأبناء!
وطني! لقد شقيتُ بعظمتك، ومن أجل هذا أحبك وأستعذب الصاب والعلقم في هواك!
وطني! إليك أسلمتُ قلبي وعقلي، فخذ بزمامي إلى حيث تشاء، يا أنضر دوحة تغنّت فوقها البلابل، ويا أجمل روضة رنَّت فيها القبُلات، ويا أطهر بقعة أقيمت فيها المحاريب، ويا أشرف صحيفة أرهفت آذانها الواعية لصرير القلم البليغ.
زكي مبارك
الفروق السيكولوجية بين الأفراد
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
الفروق العقلية
ما هو الذكاء؟. . . سؤال طبيعي ومعقول بعد هذه المقالات المتعددة التي شغلت الوفير من صفحات الرسالة. ولعلي لا أستطيع أن أجيب عن هذا السؤال بأكثر مما يجيب القارئ عن هذه الأسئلة: ما هو الزمن؟ وما هي الكهرباء؟ وما هو الثقل؟
والحقيقة أننا حين نقيس الذكاء لا نقيسه مباشرة، لأننا لم نصل بعدُ إلى معرفة طبيعته ومكوناته، وإنما نقيس مظاهره في الحياة والتصرفات والأفعال الذكاوية للإنسان. والمفروض علميّاً أن كل إنسان عنده قدر من الذكاء قل أو كثر، بل إن الرأي الحديث في علم النفس هو أن بعض الحيوان الأعلى كالشمبانزي والغوريلا والكلب على نصيب من الذكاء يظهر في تصرفاته
ولقد حاول علماء النفس منذ أن وضعت أول مقاييس للذكاء أن يحدوه، ولكنهم ما وصلوا إلى رأي متفق عليه. وفي سنة 1921 نشرت مجلة علم النفس التربوية الأمريكية آراء لأربعة عشر عالماً نفسيَّاً كلٌّ يحاول أن يعرف الذكاء. وكان تعريف ترمان صاحب المقاييس المشهورة بأنه (القدرة على التفكير المعنوي المجرد) وعرفه كلفن بأنه (القدرة على التعلم)، وعرفه بكنجهام بأنه (القدرة على العمل والتصرف تصرفاً إنتاجياً تحت ظروف معينة). ومهما يكن من أجوبتهم فإنها تدل على أنهم لم يتفقوا على تعريف الذكاء الذي أنفقوا السنوات الطويلة في بحثه ووضع مقاييس له
وفي سنة 1924 صدر تقرير من وزارة التربية البريطانية وضعته لجنة اشترك معها قادة رجال التربية وعلماء النفس الإنجليز للبحث في قوى الذكاء المختلفة، والاختبارات السيكولوجية المناسبة لها. ويشير هذا التقرير إلى أن هناك ثلاث نظريات شائعة حول تعريف الذكاء
النظرية الأولى هي نظرية من يعتبره نتيجة وأثراً لبضع ملكات أو وظائف عقلية عامة. وتعزى هذه النظرية لألفريد بينيه السيكولوجي الفرنسي. وهو يقول في بعض مقالاته عن مقاييس الذكاء: إنه يقيس بها ملكة الإرادة، وملكة الانتباه، وملكة الحافظة، وملكة التعقل. ثم
هو بعد ذلك يتحدث عن الذكاء في مقالة أخرى فيقول: (إن للذكاء ملكة أساسية أصلية، تلك هي ملكة الحكم على الأشياء، وإن شئت فسمها الحاسة العملية. وهي الملكة التي بها يكيف المرء نفسه للظروف المختلفة. . .) ثم هو ينشر مقالاً في مجلة (العام السيكولوجي) في سنة 1909 بعنوان (ذكاء ضعاف العقول) يرى فيه أن الذكاء العام هو صفة عقلية ذات ثلاثة وجوه على الأقل: (1) إدراك المعضلات والمسائل والاتجاه العقلي المناسب لحلها وتنفيذها (2) القدرة على التكيف المناسب الضروري للوصول إلى غاية معينة (3) القوة التي بها يستطيع أن ينقد المرء نفسه
والنظرية الثانية هي نظرية من يرى أن الذكاء إنما هو لفظ يطلق على مجموعة من القدرات العقلية الخاصة المستقلة. وهذه القدرات موروثة ويرتبط بعضها ببعض بنسب مختلفة. وصاحب هذه النظرية هو البروفيسور إدوارد لي تورندايك. وهو يرى أن الطفل إذا كانت قدرته العقلية الموروثة على فهم مسائل الحساب ممتازة وظاهرة فإن ذلك يرجح أن قدرته العقلية الموروثة على فهم موضوعات الجغرافيا فوق المتوسط. ويقول: إن الفرد الذي له قدرة عقلية ممتازة في نوع من الأعمال لترجح هذه القوة فيه أن القوى العقلية الأخرى فوق المتوسط). ويعود فيقرر أن هناك ثلاثة أنواع من القدرات الذكاوية الخاصة والموروثة، وهي الذكاء الذي يظهر في فهم معاني الكلمات والأفكار المعنوية المجردة والذكاء الحركي أو المهارة العملية في استعمال الأيدي، والذكاء الاجتماعي، أو القدرة على التفاهم والانسجام مع من يتصل بهم الفرد في المجتمع. ومن أنصار هذه النظرية أيضاً البروفيسور جودفري تومسون
والنظرية الثالثة وهي الشائعة المعتمدة الآن هي التي تقول بوجود عامل عقلي رئيسي عام يؤثر في كل ما يدركه الفرد، ويؤثر في كل المعليات الادراكية الخاصة التي يقوم بها الفرد. ومن أنصار هذه النظرية ويليام شترن الألماني. ويعرف الذكاء بأنه (القدرة على التهيؤ العام للمعضلات الجديدة وظروف الحياة). والأستاذ كارل سبيرمان الذي زار مصر في العام الدراسي الماضي وحاضر في الجامعة وخارجها. أعلن سبيرمان في سنة 1904 النظرية المشهورة (بنظرية العاملين) - وفيها يرد على القائلين بأن القوى العقلية مستقلة بعضها عن بعض - كما في النظريتين السابقتين - ويقول بوجود عامل مركزي
مشترك بين جميع القدرات العقلية. ويسمى هذا العامل بالعامل العام ويرمز له بالحرف وهذا العامل يختلف من فرد لآخر، ولكن يبقى ثابتاً في الفرد الواحد، وبوجود عوامل أخرى خاصة مستقلة إلى حد ما بعضها عن بعض وتختلف قواتها في الفرد الواحد ويرمز لها بالحرف وسنرمز للعامل العام الجامع هنا بالحرف (ج)، وللعامل الخاص بالحرف (ص). فكل عملية عقلية - على رأي سبيرمان - إنما هي نتيجة مؤثرين: العامل العام الجامع وهو ثابت في الفرد الواحد، والعامل النوعي الخاص بهذه العملية. فقدرة الفرد على حل معضلة حسابية تتوقف على مقدار العامل الذكاوي العام عنده، وعلى العامل النوعي الحسابي الخاص، والحال كذلك في الأعمال الموسيقية والفنية. وقد يكون العامل العام قوياً عند فرد ولكن العامل النوعي الخاص بالرسم مثلاً ضعيف عنده. وقد نجد فردين والعامل العام عند أولهما أقوى منه عند الثاني، على حين أن العامل الخاص بقرض الشعر عند الثاني أقوى منه عند الأول. ولذلك نجد الثاني شاعراً أجود من الأول، مع أن الأول أذكى من الثاني - إن صح هذا التعبير سيكولوجياً، ولا يدخل العامل العام في كل العمليات العقلية بنسبة واحدة، بل نجده في بعضها قوياً وفي بعضها ضعيفاً، فهو يدخل في المسائل المنطقية والتي تحتاج إلى استنباط علاقات أكثر من دخوله في عمليات الرسم النظري مثلاً أو العزف على البيانو. ويفسر سبيرمان هذا بأن بعض العمليات العقلية أكثر تشبعاً بالعامل العام من البعض الآخر. ولكن بِمَ نسمي هذا العامل العام؟ أنسميه الذكاء بالمعنى العادي الذي يفهمه الناس، وهو في الحقيقة جزء من هذا الذكاء بالمعنى العادي؟ إن سيبرمان ليكره أن تطلق كلمة الذكاء بالمعنى المعروف عند الناس على هذا العامل العام، ولكن لا بأس من أن ننفق اصطلاحاً على تسمية هذا العامل العام الثابت بالذكاء
ثم يعود سبيرمان ويزيد عاملاً ثالثاً يسمى العامل الطائفي. وذلك أن أية عملية عقلية كحل مسألة حسابية عن القسمة مثلاً تتوقف على ثلاثة عوامل: العامل العام (ج)، والعامل النوعي الخاص بهذه العملية (ص)، والعامل الثالث هو العامل الطائفي (ط) الذي يدخل في كل المسائل الحسابية من جمع أو طرح أو قسمة الخ، ويسمى وقد أثبتت التجارب وجود عدد من هذه العوامل أو القدرات الطائفية أهمها: القدرة الحسابية، والقدرة اللغوية، والقدرة العملية أو الميكانيكية والقدرة الموسيقية، والقدرة الفنية ومن أنصار هذه
النظرية الأستاذ سرل برث، وقد عرف الذكاء بأنه:(كفاية عقلية عامة موروثة) ، ' وقد أجرى تجارب كثيرة لقياس ذكاء الأطفال بالمدارس الأولية في ليفربول وأكسفورد ولندن، ووضع مقاييس تناسب الأطفال الإنجليز. وبناها على قياس القدرات العقلية العالية كإدراك العلاقات بين الأشياء. وهو يرى - بعد التجارب - أن هذه القدرات العقلية العالية متشابهة بين الأبناء والآباء ولذلك فهي موروثة. وهو يقول بوجود ذكاء عام وقدرات خاصة كتلك التي ذكرها سبيرمان. . .
ومع أن علماء النفس لم يتفقوا بعد على ما هو الذكاء الذي يقيسونه، فإنهم متفقون على (ما هو ليس بالذكاء). فهم متفقون على أن الذكاء ليس الخلق ولا المزاج والعاطفة. وهم متفقون على أن الذكاء ليس المعارف المكتسبة بالتعلم، ولذلك يجب ألا تتعرض مقاييسه لما يعرفه الطفل بالتعلم: كالقراءة والهجاء والحساب والجغرافيا. وكذلك هم متفقون على أن أي موهبة خاصة محدودة - كالموهبة الشعرية أو الموهبة الموسيقية - لست المقصود بالذكاء، لأن الذكاء عامل عام يدخل في كل العمليات العقلية الخاصة ومن بينها الشعر والموسيقى
عبد العزيز عبد المجيد
لوبيا المجهولة
للأستاذ علي معمر الطرابلسي
قال الأستاذ الجليل الحصري بك في مقاله (بين الوحدة العربية والوحدة الإسلامية) في الرسالة عدد 328: (إن العالم الإسلامي يشمل: الأقطار العربية وتركيا وإيران والأفغان وتركستان. مع قسم من: الهند وجزر الهند الشرقية وبلاد القفقاس، وأفريقيا الشمالية مع قسم من أفريقيا الوسطى).
وردَّ عليه الأستاذ أبو الوفا بقوله: (فالأستاذ الحصري يوهم أن الأقطار العربية هي فقط مصر والشام والعراق والحجاز واليمن. أما أفريقيا الشمالية التي تبتدئ من تونس وتنتهي بمراكش، فهذه عنده بلاد إسلامية وليست بعربية. فهل هذا هو الحق يا سيدي الأستاذ؟) - الرسالة عدد 334.
فالأستاذ ساطع الحصري بك عدد البلاد الإسلامية ولم يهتد إلى ذكر لوبيا منفردة، لأنها في رأيه ورأي الحقيقة الجغرافية قطر من أقطار أفريقيا الشمالية، لا فرق بينها وبين تونس والجزائر والمغرب الأقصى. ولكن الأستاذ أبو الوفا لم يصل إلى علمه أنها من أفريقيا الشمالية، ولم يفهم من كلمة الأستاذ الحصري دخولها في هذا القسم من البلاد الإسلامية، فذهب يحدد أفريقيا الشمالية بأنها تبتدئ من تونس وتنتهي بمراكش. فأخرج هذا القطر لذي يدعوه التاريخ (لوبيا)، وموقعه بين مصر وتونس من حساب الإسلام والعربية.
ولسنا ندري متى انتحل هذا القطر ديناً غير الإسلام، ومتى اختار له لغة غير العربية! وقد فارقته سنة 1936 وتركته بخير وعافية، وقضيت ثلاث سنين بين تونس والجزائر، فلم أسمع عنه ما يريب.
لو ترك الأستاذ تبيين كلمة الأستاذ الحصري، أو شرحها بغير هذا الشرح المحصور، لما سمع منا شيئاً، ولكنه حرك فينا عاطفة قد آذاها ما كانت تراه من إخواننا في تونس والجزائر والمغرب من إعراض وازورار. وجرحنا مرة أخرى بنكرانه عربية بلادنا وإسلاميتها بما يفهمه شرحه لكلمة الأستاذ الحصري بك قصد ذلك أو لم يقصد. وقد آلمه ألا تعد أمته من الأمم العربية، فما رأيه وقد أخرجنا من العروبة والإسلام؟
ما رأيه في إسلام لوبيا وقد سبقته إلى الفتح الإسلامي سنين وكانت معقلاً وممراً لغزاة
العرب لما أرادوا فتح بلاده وتعريبها؟
ما رأيه إذا أخبرته أن فتح لوبيا كان في زمن عمر، ولم يكن فتح بلاده إلا في خلافة عثمان؟
لو كانت هذه الكلمة أول ما رأينا من إخواننا في الأقطار الثلاثة لما احتجنا إلى كلام. ولكنهم - عفا الله عنهم - لا يحبون أن تكون لوبيا من أفريقيا الشمالية برغم ما بذلته من جهود. وعند الأستاذ عبد الحميد بن باديس الخبر اليقين. ولعله لم ينس بعدُ رحلته إلى تونس سنة 1936 وما لاقته به البعثة الطرابلسية من حفاوة وما وجهته إليه من لوم وعتاب. ولعله لا يزال يذكر ذلك العهد الذي عاهدهم عليه بحضرة رئيس جمعية الشبان المسلمين. ذلك العهد الذي أكد لهم فيه ألا يتحدث عن شمال أفريقيا إلا ويبدأ من لوبيا، بعد أن حاضر وحاضَر فلم تجرِ له على لسان
إن إخواننا بتونس والجائر والمغرب لا يعترفون أو لا يريدون أن يعترفوا أن لوبيا من الشمال الأفريقي، ولذا لا يرعون لها حق الشقيقة وواجبات الأخوة. وليس يضيرها أن تكون من هذا الشمال أو لا تكون، ما دامت لا ترجو لمستقبلها غير أبنائها.
ولكن يؤلمها أن تفصل عن أخوات يربطها بهن لحمة النسب والأخوة، وأواصر اللغة والدين، ويؤذيها أن تتحبب إليهن فيصغرنها ويتجاهلنها
إن لوبيا، وهي في جهادها الشريف العنيف، تكابد آلامها المرة، وتحمل أعباءها الثقال، بدون مناصر ولا معين - لا يحسن بمسلم أن يؤلم عاطفتها المكلومة وقلبها الدامي، بشيء يشعرها بانفرادها عن العالم العربي الإسلامي. ولا يجمل بإخواننا - وهي فيما هي فيه من محنة وعذاب، أن يزودها ألماً على ألم
إن إخواننا بالأقطار الثلاثة لا يذكرون، أو لا يحبون أن يذكروا أن لوبيا أخت لبلادهم. فهل كانوا في ذلك من المصيبين؟
الحق أنهم أخطئوا خطأً فادحاً، ولن يستطيعوا قطع الجوار وحجز الثقافة، وتفريق اللغة والدين، بفضل ما بذله اللوبيون من جهود، وقاسوه في ربط العلائق من جهاد
وإنهم إن استطاعوا أن يتناسوا ذكرها مع أفريقيا الشمالية، فلن يستطيعوا إنكار ما لها في هذه الأقطار من أياد، وما خلفته فيها من آثار
إن لوبيا أيها الناس! ليست بالقطر الذي أغفله التاريخ وعدم المجد والشرف، وهي صاحبة قورناء في التاريخ القديم. إنها لازالت تضرب المثل العليا لبني الإنسان في علو الهمة وطهارة الضمير، وأبناؤها المشردون في البلاد العربية، الشرقية والغربية شهداء على ذلك. فهل وعيتم ماذا أقول؟
هل تذكرون أن من بواعث نهضة الشرق ويقظة العرب صليل السيوف ودوي المدافع في لوبيا؟
ولعلها من أول بلاد أحيت الروح العربية، وذكرت الناس مجدهم المهدوم وتاريخهم الوضاء! فهل تحفظون لها هذا الجميل؟
لم تكن لوبيا ميتة الإحساس ولا خامدة المشاعر، ولم تكن خافتة الصوت ولا الحركة، كما قد يخطر ببال كثير
إن في لوبيا حركة أدبية وعلمية لا بأس بها، لعلها تفوق في ذلك بعض أقطار عربية أخرى، ولكن من ذا يرى مقدار تقدم ثقافتها، ويلمس من قريب دلائل الحياة وسمات القوة فيها؟
هل زارها أدباء عرب طوفوا بالغرب، وعلموا خبايا الشرق، لعلهم يرجعون منها بخبر؟
هل أنبئونا عما شاهدوا فيه من مظاهر الحياة أو نذر الموت؟
هل رأوا ما فيه من مساجد وجوامع وكليات؟
وكيف رأوا حالة المكاتب والمطابع ونظم التعليم هناك؟
إن رجال العربية - عفا الله عنهم - نسوا هذا القطر، وانمحت من ذكرتهم كلمة لوبيا. ولو قدر لأحدهم أن يدخل إيطاليا من بحر العرب، أو يزور صقلية، أو ينتقل من الشرق إلى الغرب، أو من الغرب إلى الشرق، لما حدثته نفسه، أن يقف بمرسى طرابلس، أو يتأمل شواطئ بنغازي، ولما طاوعته إرادته أن يدخل خليج السرت، أو يمتع نظره بجمال الجبل الأخضر
إن لوبيا - أيها الناس - لم تنس حظها في خدمة اللغة العربية، برغم ما يعوقها من عقبات، ويعترض سبيلها من صعاب: فأرسلت بعثات علمية إلى الأزهر كما كان لأخواتها في الغرب والشرق من البلاد العربية، وإن كنت أعترف أنها فقيرة إلى كثير من الإصلاحات
والنظم، وزينت حِلق (الزيتونة) بعدد لا يستهان به وإن كان لا يزال محتاجاً إلى تنظيم أموره وتوحيد مسكنه ورعاية مصالحه، ورأت الحاجة ماسة إلى تعلم بعض اللغات الحية غير العربية، فكونت بعثة أخرى بإيطاليا منبثة في معاهدها
أيها الأستاذ! سأحدثك عما قريب عن العربية والإسلام في هذا القطر، سأحدثك عما يصطرع فيه من أهواء وآمال، ويتغالب من حقائق وأباطيل
وسأنبئك عن حالة التعليم والثقافة هناك، ومظاهر الحياة والطموح، وسأريك كيف يعمل الرجال في ذلك القطر الذي جهلته وجهله كثير من الناس
سأحدثك كثيراً أيها الأستاذ يوم أرجع من (مجاهل) أفريقيا الشمالية، وأكون بين أهلي وأبناء وطني، أما اليوم فقد لا أستطيع الاتصال بكثير من الحقائق التي تدعم حديثي، وقد تغيب عني كثير من الشئون التي يجب أن أحدثك عنها
ولولا لحظات مسترقات يا سيدي، لما استطعت كتابة هذه الكلمات. وأخيراً أقدم أعطر الثناء إلى كل من ذكر لوبيا بخير وتحدث عنها بالجميل. ولا يسعني إلا أن أزف إلى الأستاذين اللذين حملاني على كتابة هذه الكلمات - الحصري بك وأبي الوفا - أرق التحايا وأزكى التسلميات
(الجزائر)
علي معمر الطرابلسي
شيطانة تتفلسف!!
للأستاذ محمود كامل حبيب
(إن المرأة خلقت من ضلع، لن تستقيم لك على طريقة واحدة، فان استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها)
حديث شريف
هي شيطانة شابة فتانة، تخرجت في مدرستها بعد أن نالت حظاً من الأدب والفلسفة والمنطق، وشدت طرفاً من الكيمياء والطبيعة والرياضة، وغذت خيالها بألوان من قصص الحب وروايات الغرام؛ ووعت علم السيما فما تنسى منه حرفاً؛ وتعلمتْ - فيما بين المدرسة والبيت - فنوناً شيطانية خلابة أرسلت الشاب في إثرها يتلمس إليها الطريق - الفينة بعد الفينة - وهي بين الطمع والخوف لا تدفعه إلى اليأس ولا تجذبه إلى الملل
ودار الفلك دورة فإذا هي مُسماة على هذا الفتى. ثم خطبت له
وجلست الشيطانة المتعلمة إلى نفسها - ليلة الزفاف - تتفلسف. . . وتناهي إليّ الحدث كله. وهاأنذا أنقله إلى قراء (الرسالة) الغراء، لا يعبث عقلي برأي ولا يعيث قلمي في خاطرة إلا أن أدير الأسلوب - وهو عَرَض - على طريقة لا أمس بها الجوهر. . .
قالت:
يا صاحبي لا تلمني فإنها جِبلّتي الشيطانية هي التي توحي إليّ
لقد عرفتك فتى ريِّق الشباب، بهيّ الطلعة، لا يعوزك المال ولا العلم، فآثرتُ أن تكون. . .
ولجّ بك الهوى على حين كنتُ أمكر بك وأوسوس لك عَلي أنال بُغيتي
لشدّ ما أفظعني - وأنا في المدرسة - أن أرى أستاذتي العجوز الشمطاء قد خذلها العلم وضيَّعها الدرس، فتناثرت زهرة شبابها وهي تتخبَّط في عَماء الحياة لا تستطيع أن تأوي إلى ركن. . .
وأفزعني أن أكون - بعد سنوات وسنوات - صورة منها، فذهبتُ أتحسس منك
يا صاحبي لا تلمني فما بي هوى لك، ولكن حب نفسي لنفسي
إن المرأة المتعلمة تتفلسف في الحب فإذا هو نظرية فلسفية ذات طرفين: الأنانية والخداع
والحب - في عيني المرأة - هو خداع الرجل عن نفسه وأهله وماله!
هو التضحية العظمى التي أردتك عليها
لقد سلكت إلى قلبكُ سبلاً ضللت أنت فيها، لأجذبك إليّ
أنا لا أحبك، غير أني سأجد في الحب والغيرة مادة عَمى تترهَّج أنت في قَتَمها. . .
وكيف أحبك - يا زوجي - وأنا لا أستطيع أن أنفذ إلى أعماق تاريخك؟ لست أنت من ذوي قرباي فينجذب إليك دمي، ولست رفيق صباي فأرى فيك الذكرى، وأجد في الذكرى نشوة ولذة؛ ولست تِرْبي فأضنّ بك. إنْ هي إلاّ نزوة من نزوات الشباب طارت ثم استقرت فيك!
وبعد، فأنا لا أستبطن لك بُغضاً، لأنه يتراءى لي أن نفسك صافية طيبة.
ولكن. . . ولكن كتابك الذي تعتز به، هو عدوي الذي أفرق منه. . .!
سأستلبه منك بحيلة شيطانية، فلا تفزع!
لا جرم - يا صاحبي - إن المرأة لا تستطيع أن تكون زوجة إلا أن تكون بلهاء، أو يكون زوجها مغفلاً!
فلا معدل لي عن أن أتغفّلك بالرياء، وأغترّك بالتصنُّع، وأخدعك بالحيلة لتكون ابناً لأمي لم تلدك، وولداً لأبي لم يُربِّبْك!
إن أمي تتشوق إلى فتى يملأ الدار حياة، وأبي يتشوَّف إلى شاب يضطلع بأعبائه، وقد كبرتْ سنه. . .
فتعال أنت لتشفي غلّة أمي، وتنقع صدى أبي!
يا صاحبي، إن تنازع السيادة في الدار - بين الرجل والمرأة - صَفَاة تتكسر عليها السعادة
والمرأة الجاهلة تستأسر لزوجها في سهولة، وتتصاغر أمامه في ذلّة، لأن عقلها الفاسد لا يستطيع أن ينفذ إلى قلبه إلا أن ينشر على عينيه ضعفها النسويّ الوضيع
أما أنا فتنسمتُ روح الحرية، وعشتُ عمري سيدة نفسي، لا أخضع لأمر أبي ولا أستسلم لرأي أمي. . . ثم وجدت حلاوة الطاعة حين استذلك جمالي وأسرك حديثي
فهل تطمع في أن تتعبّدني؟
لا ضير، فسأعيش عند رأيك ساعة ليطمئن قلبك؛ ثم أمكر بك المكر الأعظم فأحصّ جناحك فلا تنفلت من لدني إلاّ أن يؤذن لك
ثم أترفق بك فأنتزعك - رويداً رويداً - من بين سُجراء نفسك وأحباء قلبك، لتكون لي وحدي
وأبذر غراس الشقاق بينك وبين أهلك فأصرفك عنهم لتكون ابن أمي وأبي
يزعم الناس - يا صاحبي - أن البيت سجن المرأة
حقاً، غير أني سأحيله بنفثة شيطانية إلى قفص أدفعك بين قضبانه، وأطير أنا إلى حيث يحلو لي
وإذا ورم أنفك وطأتك بابتسامة تصدع كبرياءك
وإن ثرتَ نثرتُ بين يديك ضعفي القوي. . . عبراتي، فتتخاذل لها لأنك تحبني
وإن نازعتني الأمر - بعد هذا وذاك - وأصررتَ على رأيك واستكبرتَ، سْعرتُ في دارك ناراً حامية تعصف بسعادتك، ثم أنفلت أنا لأجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة
وابني. . . ابني الذي يتراءى لك - من وراء حجب الغيب - قرة عين، هو عينيّ مادة شقاء لك إن سولت لك نفسك أمراً
وإذن تسقم معي بالعافية، وتفتقر بالمال، وتشقى بالسعادة، وتضيقُ نفسك بالفَرَج، وتزلّ بالرأي الصواب، وأعيشُ أنا إلى جانبك - أو في منأى عنك - داءك الذي لا تبرأ منه
وإن شئتَ ولدتُ لك كل يوم فلسفة شيطانية تلقي بك في تيهاء مظلمة تحار أنت فيها، وأنا أرى وأبسم
وغداً أدخل دارك أرفل في الحرير والديباج، أتأود في فتنة وأتثنى في كبرياء
فتلقاني - يا صاحبي - بين ذراعي حبك
لأنك لا تعلم بما توسوس به نفسي
ولا تلمني فإنها جبلتي الشيطانية هي التي توحي إلي
(طبق الأصل)
كامل محمود حبيب
من وراء المنظار
شاعر عبقري
رأيت هذا الشاعر العبقري، استغفر الله، بل حظيت بشرف لقائه والاستمتاع مرة بسماع بعض درره الغوالي، وليس بالأمر الهين لقاء مثل هذا الشاعر في زمن قل فيه العباقرة، وحط فيه من قدر الشعر، حتى اعتبره بعض الناس شيئاً لا غناء فيه ولا متعة من ورائه؛ وذهبوا في ذلك إلى أنه لن تمضي سنوات معدودات، ولا يتصل الشعر بحياة هذا الزمن بسبب من الأسباب. . .
ولئن سعد جدك فمثلت ساعة مثلي بين يدي هذا الشاعر، لوقعت منه على شاب تتوزع الظنون فيه عقلك وخيالك. فإن كنت ممن يجهلون سمات العبقرية، ظللت في حيرتك ودهشتك بل لقد يذهب بك جهلك إلى أن تعزوا ما يبدوا لك منه إلى الحماقة والبله. فتلحد بذلك في الفن من حيث لا تدري إلحاداً شديداً.
والحق أني حرت في أمره برهة حين رأيته. . . فهو يطيل النظر في وجوه جلسائه في صمت عميق، فيحسبونه معهم وما هو معهم. . . ثم هو يرفع عينيه في بطء إلى السقف، ويظل كذلك برهة غير قصيرة كمن أخذته عن نفسه حال من غم أو من ذهول، على أني لم ألبث أن رددت أمره إلى ما علمت عن العباقرة، فهم كثيراً ما يذهلون عن أنفسهم بما تعرج فيه أرواحهم من معارج علوية، وكيف يكون عبقرياً ولا تسبح روحه وتعرج إلى السموات كما تسبح أرواح العباقرة وتعرج؟
ورأيت الشاعر قد أطال شعر رأسه، ثم تركه دون ترتيب، حتى تهدل على فوديه، فغطت خصلات منه أذنيه، وتدلت خصلات فوق عنقه؛ بينما تراكم بعضه على بعض، حتى كان منه ما يشبه الأكمة فوق جبينه. . . وهو لا يحرص على شيء من مظهره حرصه على أن يكون شعره هكذا كشعر أقرانه من كبار الفلاسفة ونوابغ أصحاب الفنون دليلاً في رؤوسهم لا يكذب على النبوغ، وبرهاناً لا يخطئ على الفن. وتكلم الشاعر الشاب في نبرات الشيوخ ولهجتهم، فأخذ يشكو من قلة فهم أهل زمانه لشعره وعدم تفطنهم إلى فنه، ولكنه ما لبث أن أشرقت أسارير وجهه حينما ذكره بعض من يفهمونه بأنه جاء قبل أوانه، وأنه لابد أن تعرف قيمة فنه يوم تنجاب عن العقول حجب الغفلة. . . أولم يشك المتنبي بأنه كان في
أمته غريباً كصالح في ثمود؟. . . ولكم سر الشاعر بهذه المقارنة البارعة بينه وبين عبقري آخر على شاكلته
وأفاض شاعرنا العبقري في أنه يسير على نهجه رضي الناس - أو لم يرضوا - فإنه إنما يغني خلجات وجدانه، وعرض للمادة والحياة الدنيا وزينتها، فأكد أنه ليس من ذلك كله في شيء. . . ولست أدري لم وثبت إلى رأسي حينذاك قصائده الطويلة - وكنت نسيتها - في مدح فلان وفلان ممن لا يكون مدحهم إلا وجهاً من الزلفى!؟ ولكني لفرط هيبتي من الشاعر، أو قل لفرط إيماني بعبقريته لم أستطع أن أشير إلى شيء من هذا. . وهل أرضى أن أضع نفسي عنده موضع الأغرار والحمقى؟ ولعل ما فعله كان سراً من أسرار العبقرية لا ينهض له خيالي اليوم
وأشار أحد أصحابه إشارة خفية إلى تلك الروح السامية التي ألهمته أغانيه، فبدت على وجهه مثل إمارات الخجل وضحك ضحكة غريبة، ثم رمى صاحبه بنظرة غاضبة كأنما خيل إليه أن ذلك الصديق يشك في وجود تلك الروح، أو يظن أنها بعض ما يجري فيه الكلام في مجالس بني الطين. . . وما كان شعره فيها إلا صلوات قدسية تتنزل عليه من عليين، وهي كعبقريته، أمر لا يعلق به شك إلا في رؤوس الجاحدين والهازلين.
وألح عليه صاحب آخر أن يطربنا ببعض ترانيمه، فتفرس في وجهي يتبين: أأنا ممن تبدو عليهم مخايل الفطنة، أم أنا من الذين لا يفهمون. . . ولعله كان أقرب إلى الأولى، إذ قد أخذ يسمعنا من شعره. . وأشهد لقد وقعت منه على كلام من السحر الحلال تتقطع دون بلاغته الأوهام. . . ولكم وددت لو أني استطعت أن احفظ شيئاً منه، على أني أذكر من أوصافه ما لست أشك لو ذكرتها لك أنك كنت ترى معي أنها آيات من الفن تقصر عنها بدائع ابن هانيء وروائع بشار؛ ويتخاذل دونها فن الطائي وسحر الوليد ومعجز احمد وبدع ابن الرومي وقدرة شيخ المعرة. . . دع عنك شوقي وجيل شوقي ومن خلا من قبله في مصر ومن خلف من بعده من الشعراء. . . وليس يهمه أن ينكر الأغفال في هذا الجيل أسلوبه ومعانيه، فليس عليه أن يُفهم من لا يفهمون
وإنه لينكر على شوقي ما توافى له من ذهاب الصيت، ويستكثر عليه لقبه الذي عرف به، ويعزو ذلك أيضاً إلى غفلة هذا الجيل، وتتحرك في نفسه العبقرية، فيتساءل: ماذا يجد
الإنسان لشوقي من الشعر الحق، ولقد كان كلامه مرثيات ومدائح لا روح فيها؟ ولعله لم يقرأ فيما أرى شعر شوقي، ولست أدري، فلعل هذا كذلك سر من أسرار العبقرية. وتوسلنا إلى الشاعر أن يجود على الناس بنشر ما أسمعنا فرفض قائلاً: إنه يضيق بهؤلاء الناس حتى ليودّ ألا ينظم بعد اليوم بيتاً من الشعر. . . فتوسلنا إليه ألا يفعل حرصاً على دولة الشعر، وإشفاقاً على مكانة العربية. . .
(عين)
وحي الذكرى والحنين
(ابنة تناجي أباها بمناسبة مرور العام الثاني على وفاته)
للسيدة وداد صادق عنبر
في ظلام ذلك الليل الدامس، وفي صدى سكونه المهيب، جلست مطرقة أفكر فيك وكل فكري دمع، وأبكيك وكل دمعي فكر، فريسة ذكراك، وقد طال حتى حسبت أن ليس له صباح. فيا لطول الليل على حزن الثكلى! ويا لحزن الثكلى من طول الليل!
جلست لمناجاتك فدعوتك أبتاه!. . .
وأجبتني كعهدي بك في الدنيا حاضر الابتسامة حين تخصني بالحديث في كثير من أوقاتك، ترفرف علينا أثناءها العناية الإلهية وقد عادت حدب أبوة وبرَّ بنوة. فوا أسفاه على تلك النعمة السابغة الذيل التي ما تمتعت بها طويلاً حتى بكيت متفجعة على فقدها ورزئت بسلبها، ولولا إيماني بسالبها القدير لأكبرت على القدر أن يفجعني فيك
أجل. لولا إيماني لأكبرت عليه أن يفجعني فيك وقد كنت سكناً لقلبك كما كان قلبي سكناً لك. فيا لذاك البث الذي خيم على قلبي ونفسي معاً، والذي لم أجد لهما منه مخرجاً سوى وقوفي أمام قبرك العزيز، فقد أجد فيه بعضاً من سلواهما وبردهما، فأنفح جوه هتافاً باسمك ولثماً لرسمك، وأنفث عن حسرة مما يقدح الأسى على كبدك حين تحس أي جرح هذا الذي فتحه القدر في قلبي فهو لا يبرأ ولا يلتئم، وأي جمهرة من الآلام تركتها فجيعتي فيك في أطواء نفسي، وكل ألم منها في وقعه مني فن من العذاب أستعذب مذاقه ولا أرجو فراقه. وأي كتيبة من الأحزان تحمل علي في عزلتي وأيسرها يسحق النفس وبذورها، ويمحق الحياة ويمحوها. وأي ثورة في نفسي لا تسكن أبداً ولا تهدأ، ومناحة لا تنفض فهي في كل ساعة تبدأ، وأي ضغط ينعصر تحته قلبي الواهن المستطار فيظل على حاله واهناً مستطاراً، وأي همّ وغمّ أخذت به عن نفسي فأصبحت في شبه سكرة أو غمرة. . .
يا حر قلبي عليك من حر قلبك عليَّ! كنت في حياتك تحرص كل الحرص على ألا يسكب دمع من عيني لعارضة تحدث أو نازلة تكون، لأنك أحببتني حباً ضربته الأبوة أعلى مثل، بيد أنه أصبح مثلاً يتيماً من أنه ينظر إليه ولا يقاس عليه
على أن العهد بالحزن أن يرثّ على الزمن أو يبلى في القلب الحزين. وإني لأعيذ قلبي أن
يرث أو يبلى في حزنه. على أنني أعود فأتخيلك وأنا ذاهلة على وعي قلقة على سكينة، مضطربة على قرار، مأخوذة على استقرار. أتخيلك في سنة نومي إذا دعوتك أجبتني فأدعوك، ثم أدعوك، وأتسمع عليك ثم أتسمع، فإذا هو القبر في سكتته، وإذا هو الحزن في فورته وثورته. وإذا بصدى دعاني يردد إلى نفسي خافتاً خافتاً
أبتاه:
إني لألمحك الساعة وأنا أكتب كلمتي في ذكراك الثانية، ألمحك من وراء قبرك، من وراء الموت، من وراء الزمن، من وراء الخلود، قاراً متضوئ النفس رضيها بما أزلفت في حياتك لقومك من برٍ هم به ذاكروك، وبما تلقى عند ربك من ثواب ما قدمت يداك لأمتك لا لنفسك فخلعت عليها شبابك ونبهت للمجد أترابك، ومن ثمَّ كانت خلاصة حياتك مثالاً سامياً من أمثلة الجهاد والعمل. فحملت نفسك وحمَّلتها غير عابئ بالمرض يداخلك من حيث لا تتقيه، ويهدُّ من صحتك ما لا يَرُمُّهُ العلاج ولا يبنيه
لا، بل ألمحك في آثارك الحية بين يدي وكل أثر منها هو قطعة من حياتك عليها طيفك يرف
وألمحك في أخي الوحيد (كمال) الذي كان كل همك حيَّاً وتركزت فيه آمالك وأحلامك، وقد تركته في هذه السن الصغيرة، ملقياً عليه أمانة هي ذلك العبء الثقيل الذي أراه في طريقه إلى النهوض به ناشط الكاهل مرجو لمخايل
ألا فنم هانئاً هادئاً مطمئناً فإنه وإن لم يبلغ مداك، فحسبه أن يسير على هداك
رحمك الله يا أبي بقدر ذلك النور الفياض الذي نقتبس منه طريقنا السوي، وأنال ولدك الحظ الذي أملته، وأمطر جسدك الكريم وابلاً من فيض رحمته، وألهمنا بقدر مصابنا فيك السلوى
وإلى يوم الملتقى عليك مني السلام
ابنتك البارة
وداد صادق عنبر
الأدب في سير أعلامه
بيرون
ذلك العبقري المتمرد الذي غنى أروع أناشيد الحرية، ولاقى
الموت في سبيل الحرية
للأستاذ محمود الخفيف
وانصرف بيرون في كمبردج عن دروسه كما كان يفعل في هارو وراح يقرأ ما تحب نفسه من الكتب، وأخذ يتسلى بنظم الشعر في شتى المناسبات؛ ولقد اصطفى فريقاً من الصحاب في الجامعة كما فعل في المدرسة، وظل في الجامعة حريصاً على أن تكون له الزعامة على من هم دونه في السن. وأحب في الجامعة شيئاً واحداً وذلك هو حياتها الحرة الخالية من قيود المدرسة، وعاش في سعة بما أتيح له من المال، وبسط يده لإخوانه كل البسط، وكان من الأمور الشائعة يومئذ لعب الورق وشرب الخمر، حتى لقد كان يعرف الشاب بمقدار ما يشرب من الراح في جلسة، وبمبلغ حذقه في اللعب أكثر ما يعرف بما يحصل من درسه؛ وكان طبيعياً أن يجاري شاب مثل بيرون أقرانه فيما انغمسوا فيه، وإن كان يكره الخمر بطبعه؛ وأقبل الشاب على حياة اللهو، لا يتقيد بعرف ولا يهتم بلوم، حتى نفد ماله، فاستدان بضع مئات. ولما ضاق نطاق الجامعة عن لهوه استأجر مسكناً خارج أسوارها، واتخذ له خليلة ألبسها ملابس الرجال وادعى أنها أخ له، وأطلق لحياة المجون عنانه؛ فهل كان يريد بهذا العبث أن يسخر سخرية عملية من الحب وأحلام الحب، أم هل كان يجري فيه على ما ورث من آبائه من خلال؟ الحق أننا نستطيع أن نرد ما أسرف فيه على نفسه من اللهو إلى الأمرين معاً؛ ونستطيع كذلك أن نضيف إليهما ولعه بالرياضة التي جعلها بعض لهوه، وكان يريد من الرياضة أن يكتنز لحمه فيضمر جسمه، لأنه كان أميل إلى البدانة، وكان كرهه للبدانة شديداً؛ وكانت أحب ضروب الرياضة إليه السباحة التي كان يجيدها والملاكمة التي أخذ يتعلمها على أحد كبار معلميها.
ولما انتهى العام ترك بيرون الجامعة وذهب إلى سوثول حيث كانت تقيم أمه، فما أن وقع بصرها عليه حتى ثارت في وجهه وقذفته بما كان في يدها، فعول على الرحيل مسرعاً وقد
كانت له يومئذ مركبة اشتراها فركبها مع أحد أصدقائه وركب إلى جانب السائق خادم، له واصطحب معه كلبيه وكان يحبهما أشد الحب، وغاب زمناً عن أمه حتى أنفق ماله فعاد إليها على رغمه
وتغيب عن الجامعة عاماً جمع فيه شعره بإشارة من فتاة كان قد تعرف إليها في سوثول حين ذهب إليها أول مرة مع أمه وكانت تحترمه وتكبره فاطمأن إليها؛ ولما تم له جمع قصائده دفعها إلى ناشر تحت عنوان (ساعات الكسل) وذهب إلى لندن ليشرف بنفسه على بيع ذلك الكتيب، وكان مما يشبع كبرياءه أن يرى اسمه في (فترينات) بائعي الكتب؛ وراح يترقب ما عسى أن تنشر الصحف من نقد لشعره، ولما عاد إلى الجامعة كان يطرب فؤاده لما يسمعه من ذيوع شعره بين طلابها؛ على أن هذا الشعر يومئذ لم يكن من النوع الذي يبشر بمستقبل عظيم. وما لبث بيرون أن سمع أن صحيفة أدنبرج حملت عليه حملة شديدة، ولامته على نشر مثل هذا العبث، وكان بيرون في التاسعة عشرة وفد أشار إلى سنه في مقدمة كتابه، فعدت الصحيفة ذلك منه توقياً للنقد فأشارت إلى ذلك المعنى في حملتها عليه ذاكرة أن كثيرين غيره نشروا قصائد وهم في سن مثل سنه أو أصغر منها فكانت خيراً من قصائده كثيراً. ماذا يفعل ذلك المتمرد تلقاء هذا النقد الشديد؟ لقد ثقل عليه الهم أول الأمر، لقد كان يضيق بالحياة بعد ما كان بينه وبين ماري، وظن أن سيكون له في الشعر من ذهاب الصيت ما يتأسى به وما يتخذ به فخراً يرفع به رأسه ويدرأ به عن نفسه بعض الخزي الذي كان يلحقه من عاهته والذي ظل ملازماً له كما يتجلى ذلك في حديث له يومئذ مع قسيس في سوثول كان يجادله ويذكره بما من به عليه خالقه من نعم منها أنه وهبه عقلاً يسمو به على الناس، وكان جواب بيرون أنه يسمو بعقله عن الناس ولكنه ينحط برجله عنهم
ماذا يفعل ذلك المتكبر المحنق؟ لقد فكر أن يرد لتوه على هذا النقد بقصيدة ثائرة، ولكنه عاد فآثر التمهل ليكون رده محكماً وليفرغ فيه كل ما يجيش في نفسه، وأخذ ينظم وقلبه مملوء بالغيظ والحقد على ناقده وعلى شعراء عصره جميعاً
وأخلى اللورد جراي قصر نيوستد فذهب اللورد بيرون ليقيم فيه وكانت يد البلى قد شوهت جمال ذلك القصر القديم؛ على أن الشاعر ظل على الرغم من ذلك شديد الحب له
والإعجاب به، وكان أول ما التفت إليه عقب عودته شجرته الحبيبة فأزال بيده ما التف بها من الحشائش وما عاق من نموها من متسلق العساليج، وعاش في عزلة عن جيرانه فلا يرد لهم مودتهم ليقطعوها، فإنه بالناس برم منذ يفاعته، على أنه لم يستطع أن يرفض دعوة وجهت إليه من نيوستد فذهب ليرى مارى وقد تزوجت وصار لها طفلة صغيرة وكأنه لم يبتعد عنها أكثر من يوم فلقد نبض قلبه وهو إلى جوارها بما كان ينبض به أمس، وحاول الكلام فلم يطاوعه لسانه إلا بعبارات متقطعة لا معنى لها، وعاد لهفان إلى قصره يلذع الأسى قلبه ويتنازع الهم مشاعره فكتب لساعته قصيدة تعد من أروع قصائده تلمس فيها اللوعة في قوله
(ودعاً يا حبيبتي العزيزة: لابد لي من الرحيل، وما دمت أنت سعيدة فليس هناك ما يكربني، أما أن أبقى إلى جوارك فذلك ما لا أطيقه إذ سرعان ما يعود قلبي طوع يديك. . .
لقد طالما ظننت أن الزمن في دورانه، وأن ما فطرت عليه نفسي من فخار وكبرياء، كفيلان أن يخمدا في قلبي تلك الشعلة الثائرة شعلة الحب أو شعلة الطفولة، ولكنني لم أتبين حتى جلست إلى جانبك أن قلبي لم يزل في كل شيء هو هو. . . إلا من جهة واحدة. . . هي الأمل!
غير أنني على الرغم من ذلك جلست هادئاً بين يديك؛ نعم إني لم أنس تلك اللحظات التي كان يثب فيها قلبي بين ضلوعي عند لمحة من عينيك، أما الآن فالرعدة جريمة، ولذلك التقينا فلم ينبض فينا عرق. . .)
وعول الشاعر على مغادرة قصره الحبيب يلتمس الشفاء في رحلة طويلة في أنحاء القارة أو إلى الشرق، ولكنه بقي حتى يفرغ من كتيبه الذي كان ينظمه للرد على ناقده
واحتفل الشاعر في نيوستد في مستهل عام 1809 ببلوغه السن، فدعا إلى القصر بعض أصدقائه حيث أقاموا ليلة ساهرة صاخبة، ثم ذهب ليأخذ معقده في مجلس اللوردات فاستقبل استقبالاً فاتراً، وقد ذهب إليه بمفرده على خلاف التقاليد التي كانت تقضي بأن يذهب اللورد الجديد في حاشية من أهله أو من أصحابه؛ ولكن اللورد بيرون لم يجد من يصحبه، وسرعان ما ضاق بالمجلس ومن بالمجلس. وفرغ من كتبيه وقد نحا فيه منحى الشاعر بوب في الأسلوب والنزعة التهكمية وملأه بالهجوم العنيف على ناقده وعلى شعراء عصره
لم يستثن منهم أحداً، وإنه ليتساءل كيف يحل لهم النقاد ما يحرمونه عليه؟ ونشر الكتيب فصادف من النجاح أكثر مما قدر له الشاعر الشاب، ولقد ظهرت فيه براعته في التهكم ولباقته في سوق الحج، وتجلت قوة عبارته وإشراق معانيه ولذع سخريته؛ واطمأن الشاعر إلى مكانته وقد ظهر على ناقد من أكبر نقاد العصر، وهو بعد في الحادية والعشرين من عمره، وأحس أنه شفى غليل نفسه فعاد من جديد يسرف في لهوه، وكان قد بات في شغل عن أكثره بما كان يملأ فؤاده من غل. ولم ير الشاعر آخر الأمر بداً من الرحيل فقد آده عبء ديونه، ومل اللهو بعد أن أسرف فيه على نفسه، ولذع الهم فؤاده لوجوده قرب ماري وما له إليها من سبيل اليوم. . . على أنه قبل أن يرحل دعا نفراً من خلانه في كمبردج إلى قصره فقضوا شهراً في العبث والمجون، وحسبك أنهم كانوا يديرون الراح جمجمة آدمية هي جمجمة قسيس أخرجت عظامه من الأرض فأس البستاني. وحان يوم الرحيل فلم يأس الشاعر على فراق أحد غير كلبه؛ ولم يجد حوله من يأسون على فراقه هو، فإنه لم ير أخته منذ فترة طويلة، ونال من نفسه أنه لم ير في وجوه صحابه ما يشعره أنهم يحزنون لسفره. وركب البحر وهو لا يعلم أين يذهب ولا متى يعود
وسافر معه من خلانه شاب يدعى هبهوس، فكانت لشبونة أول أرض نزلا بها، ومن لشبونة ذهبا إلى قادس، ومنها إلى جبل طارق؛ وكانت أسبانيا يومئذ في صراعها ضد نابليون، وكانت الجيوش الإنجليزية تساعد أهلها على الخلاص من نيره؛ وأعجب بيرون بشجاعة أهل أسبانيا بقدر ما أعجب بجمال طبيعتها
وركب وصديقه سفينة من جبل طارق فبلغا مالطة، ومنها توجها إلى ألبانيا حيث نزلا ضيفين على علي باشا وإلى يانينا، وشد ما أعجب بيرون ببسالة الألبانيين وبمظاهر الحياة الشرقية في قصر الباشا، وكان له من ذلك مادة غزيرة سوف تظهر فيما بعد في آثاره
وذهبا من ألبانيا إلى بلاد اليونان، موطن السحر والحكمة بلاد هوميروس وأفلاطون، وادي الأساطير الخالدة، ووقف الشاعر أمام آثارها يقضي أرب مشاعره مما تحدث من أخبارها وما توحي من معانيه. . . وتوجها بعد ذلك إلى القسطنطينية مدينة الشرق العظيمة، بيزنطة الساحرة ذات المجد التالد والجمال الطريف، وأنس بمظاهر الحياة في عاصمة العثمانيين. . .
وعاد الشاعر إلى وطنه بعد أن قضى في هذه الرحلة زهاء عامين؛ عاد وفي جيبه قصيدة طويلة لم تكن إلا خلاصة مشاهداته في رحلته هذه؛ وتردد الشاعر في نشرها أياماً؛ ثم دفعها إلى صديق له يسأله رأيه فيها فألح الصديق عليه أن يذيعها في الناس فإنها لجديرة بذلك أي جدارة
وفعل بيرون ما أشار به الصديق، ولم تكد تتداول لندن هذا الكتيب الجديد، ويطلع أهلها على ما جاء به من وصف لهذه الرحلة، حتى كان اسم الشاعر اللورد على كل لسان، وفعلت بها براعة وصفه وحماسة شعره وقوة عاطفته ما يفعل السحر؛ وهكذا يتوافى للشاعر بهذا الكتيب الذي خاف من نشره أول الأمر من ذهاب الصيت ما لم يتواف لشاعر قبله؛ بل لقد حاز بيرون من الشهرة ما لم يحز رجل آخر في أي ناحية من نواحي الحياة الاجتماعية، حتى لقد شبه يومئذ بالشهاب اللامع، الذي يخطف بريقه الأبصار على حين غفلة، وقال هو يصف نفسه:(لقد أفقت ذات صباح فوجدتني من ذوي الشهرة)
منذ ذلك اليوم صار بيرون شاعر عصره في إنجلترا، فأخذ ينظم الشعر في سرعة عجيبة أدهشت الناس وحيرت النقاد، وسعى إليه كثير من ذوي المكانة يهنئونه ويثنون عليه، وأصبح يشار إليه في كل ناد، ويبتغي الوسيلة إلى مودته الشباب والكهول، وهو يزداد بذلك شهرة ويمتلئ قلبه زهواً وفخراً. ولم تكن إنجلترا يومئذ خلواً من الشعراء، حتى تعزى شهرة بيرون إلى أنه لم يكن في الميدان غيره؛ فقد كان في تلك البلاد عدد من فطاحل هذا الفن من أمثال: وردثورث، وكلردج، وسوذي، وتوماس مور، وكامبل، وشبلي وولتر سكوت، وغيرهم. وكان معظم هؤلاء أكبر سناً منه وأسبق في قرض الشعر
ولقد فاقت شهرة بيرون شهرة كل من هؤلاء جميعاً على الرغم مما كان لأكثرهم من سمو المكانة في الشعر مثل: وردثورث، وزميله كلردج. وليس معنى ذلك أنه بذهم في ذلك المضمار، فقد كان لكل منهم ناحية تفوق فيها، وإنما اتفق له من الصيت ما لم يتفق لأحدهم؛ الأمر الذي جعل ولتر سكوت على نباهة شأنه يومئذ يترك الشعر ويبحث لعبقريته عن مجال آخر هو مجال القصص قائلاً في صراحة إنه إنما يفعل ذلك لأن بيرون قد أخذ عليه طريق الشعر، وهو قول كان له وقعه في الأندية، وكان له كذلك أثره البعيد في تزايد شهرة الشاعر الشاب، الذي لم يكن يومئذ يزيد على الرابعة والعشرين من عمره
على أن بعض النقاد يعزون ما أصاب بيرون من النجاح إلى عوامل أخرى تتصل بشخصه أكثر مما يعزون ذلك إلى جمال قصيدته؛ فهو شاب في ربيع العمر وهو يتمتع بلقب من اكبر ألقاب الدولة، وهو إلى ذلك جميل الصورة موفور الوجاهة. . . ولكن آخرين ينكرون على هؤلاء رأيهم هذا قائلين إنه نشر قصيدته قبل أن يعرف عنه كل ذلك اللهم إلا بين نفر قليلين من أصحابه. ويلتمس غير هؤلاء وهؤلاء أسباب شهرته هذه في موضوع قصيدته لا في قوة شاعريتها، فهي سياحة في القارة في وقت كانت تتجه فيه الأنظار إلى ما يجري فيها من حروب يبعثها نابليون في أنحائها. . . ولكن القصيدة لم تكن وصفاً لتلك الحروب حتى يصح هذا الرأي
فهل كان ما أصابت القصيدة من شهرة يرجع إلى قوة شاعرية صاحبها فحسب؟ إن الذين يقولون ذلك أيضاً بعيدون فيما نرى عن الإنصاف بعد سالفيهم، ولما كانت القصيدة أشهر حادث أدبي في حياة الشاعر وأحد العوامل الهامة في الحركة الأدبية يومئذ وجب أن نتبين حقيقة أسباب نجاحها على مثل هذه الصورة الفائقة
(يتبع)
الخفيف
رسالة الشعر
نجوى
اذكري قلبي. . .
للأستاذ محمود محمد شاكر
اذكُري قلبي. . . فقد يَنْضَر من ذِكِراك عودي
أنا غُصنٌ في رياضِ الدَّهرِ ظمآنُ الصَّعيدِ
صوَّحتْني غُلّةُ الوجْدِ وأَجَّتْ في بُرودي
ومشتَ ناراً على أنوارِ زَهري ووُرودي
فهيَ أَلقاءٌ على أَرْضيَ آثارَ وقودِ
فاذكري قلبي. . فقد يَنضَر من ذِكراك عودي
أنا غصنٌ كخيالِ السَّيفِ في وَهمِ الطريدِ
ناحلُ الشخصِ، قضيفُ العودِ، خُمصانُ الغُمودِ
لوّحتْني وَقْدَةُ الشمسِ على وجهي وجِيدي
كمْ شُعاعٍ غارَ في قَلبِيَ كالسهمِ السديدِ
عَبّ في مائي، فغاضَ الماءُ كالحُبِّ الشّرُودِ
فاذكري قلبي. . . فقد يَنضَر من ذِكراك عودي
أنا غصنٌ شاخصُ الطَّرْفِ إلى رِيٍّ بعيدِ
أَسَرَابٌ هُوَ أم ماءٌ؟ فيا ويحَ جُدودي!
أثْبتتني حيثُ أشتاقُ إلى الماءِ البَرُودِ
هِيَ أشواقٌ من الموتِ كأشواقِ الحَسودِ
ترَكتْني مُوقَدَ الغُلّةِ كالصَّبِّ الحَقُودِ
فاذكري قلبي. . . فقد يَنضَر من ذِكراك عودي
أنا غصنٌ حائرُ الأحلامِ كالنائِي الشريدِ
غُرْبةُ الرُّوحِ تَهاوتْ بي إلى أرْضِ الجُحودِ
قذفتْنِي همةُ الأحرارِ في ذُلِّ العبيدِ
الصدَى، والجَدْبُ، والغرْبةُ، سجني وقيودي
مَزَّقتْ نَضرَةَ أيَّامِي بأنياب الخمودِ
فاذكري قلبي. . . فقد يَنضَر من ذِكراك عودي
أنا غُصنٌ يُفزِعُ الفجرَ بليْلٍ من رُكود
يتلقّى مَوْلدَ الشمسِ بأحزانٍ هجُود
لوْ بكيَ عُودٌ من الوَحشة في ذُلِّ الوُجود
لأَذابتْ شَخصِيَ الآلامُ. . . كالدَّمع البَديدِ
أنكرتْني الشمسُ والفجرُ ودُولاتُ العهودِ
فاذكري قلبي. . . فقد يَنضَر من ذِكراك عودي
أنا غصنٌ فارَقتْه الطَّيْرُ رَبَّاتُ العُقودِ
مُسكِراتُ الزَّهرِ والنَّوْرِ بألحانِ النشيدِ
نغَمٌ همْسٌ كهمسِ الغيثِ للرّوْض المجُودِ
وشبابٌ ضاحكُ النُّورِ بترْجيعٍ فَريدِ
وأنا. . . الحسرة والأنَّاتُ لحْنِي ونشِيدي
فاذكري قلبي. . . فقد يَنضَر من ذِكراك عودي
غُصُنٌ عارٍ. . .، وأغصانكِ في بُرْدٍ جديدِ
قد كساكِ الرِّيُّ والنَّعمةُ من وَشْيِ البُرُودِ
وتَحلَّى عُودُكِ الريَّانُ نُوَّارَ الخُدُودِ
فإذا النشوَةُ هزَّتكِ بأنفاسي. . . فمِيدي
وإذا غَنَّاكِ ساقِي الطَّيْرِ لحْني أو قصيدي
فاذكري قلبي. . . فقد يَنضَر من ذِكراك عودي
محمود محمد شاكر
من وحي الطبيعة المصرية
تحت الشراع
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
املئي أُذْني بألحان الصباحْ
…
واسكُبي فيها شُعاعَ المغربِ
فشَذا العشبِ على الضِّفةِ فاحْ
…
وتمشَّى في الأصيل المُذْهَب
وجرى النيلُ على تلك البطاحْ
…
فضّةً قد مُزجتْ بالذَّهب
وشدا الملاحُ للركْبِ وراحْ
…
يتلهَّى في شِراع المركَب. . .
اسمعي للنيل هَمْساً وخريراً
…
مثلَ هَمْسِ الخائفِ المرتقب
موَّجتْه الريحُ. . . فارتدّ كسيراً
…
كلُجينٍ ذائبٍ مُنْسكب
إن للموج شهيقاً وزفيراً
…
كفؤاد العاشق المضطرب. . .
وجرى ماؤكَ يا نهرُ نَميراً
…
سائغَ الطعم هنيَء المشرب
الغواني جِئنَ يملأنَ الجِرارا
…
يَتَثنَّينَ كلُدْنِ القُضب
ويسابقن مع الطيرِ النهارا
…
نُفُرَ الخَطوِ خِفافَ الموْثب
آه ما أجمل هاتيك العذراى
…
رافلاتٍ في الثيابِ القُشب
آنساتٍ قد تكلَّفنَ الوقارا
…
وتعلمن نِفارَ الربْرب
والضحى يَسكب في النهر لجينا
…
فبدا مثلَ بياض السُّحُب
وإذا النهرُ كمرآة تُسنَّى
…
في إطارٍ مُثْقلٍ بالعشُب
والنسيمُ الرطبُ فيها يتثنَّى
…
ويوشِّيها بمثْلِ الحَبَب
وشدا الطيرُ على الماء وغنَّى
…
فوقه من خِفَّةٍ أو طرب
وهنا الصفصاف منشور الذوائب
…
كالعذارى النافراتِ العُرُب
وسوادُ الظل في الجدول ذائبْ
…
كبياضٍ فاتن مختصب
ترتمي في حضنه تلك القواربْ
…
هارباتٍ من لسان اللهب
يلتقي الأحبابُ فيه بالحبائبْ
…
ويُثَنَّى جِدُّه باللعبِ
محمد عبد الغني حسن
الأدب في أسبوع
الغذاء العقلي والروحي للشباب
ألقى الدكتور طه حسين في قاعة الجامعة الأمريكية كلمة أريد عليها، كما قال في أول كلامه، فاستغرقت هذه الكلمة من الوقت ساعة أو أشفّ قليلاً، افتتحت بالتصفيق الشديد للدكتور طه حسن خرج على الناس ليتكلم!!
ولستُ هنا في مقام التلخيص لهذه الكلمة، ولكني بالمكان الذي يجب عليَّ فيه أن أشقّ للقراءِ موضع الرأي الذي ينبغي لهم أن يشغلوا أفكارهم به ولو ساعةً من نهارٍ، كما شغل الدكتور طه سامعيه ساعةً من ليل يوم الاثنين 29 يناير سنة 1940. وليس في القراء الذين يعرفون الدكتور طه من يجهلُ أن أولّ ما يتكلم به الدكتور إِنْ هو إلا أن يجعل مَردّ كل شيء إلى (يونان) ومدن يونان. . . فلاشك إذن في أن أول نظام عرف للغذاء العقليّ والروحي للشباب، إنما كان في المدن اليونانية والحضارة اليونانية والعقلية اليونانية!! فهذا شيءٌ مفروغٌ منه قد جعله الدكتور طه مذهباً لا يحيدُ عنه، وأسلوباً لا يسُلك غيرَه، ولا بأس بذلك. . . فأنا أعتقد أن اختلاط المدنيات المتعاقبة على الأزمان المتقادمة، قد جعلت لصاحب الرأي سعةً يذهبُ فيها حيث يشاء. فلو قلت أنا مثلاً: إن أول نظامٍ عرفه التاريخ لتنظيم الغذاء الروحي والعقلي للشباب، إنما كان بالصين، وقد فصّله لنا ما بقي من آثار (كونفوشيوس) فيلسوف الصين الأكبر، لوجدت من الدليل ما أستطيع أن أقيم بها عوِجَ الرأي، وأردُّ به على مخالفيّ رد إِلزامٍ وخضوغٍ. . . وكيف لا أستطيع ذلك وفي كل كلمةٍ من كلام هذا الفيلسوف العظيم توجيهٌ لقوى الشاب الصينيّ إلى الخير المحض، وهو الذي يقول:(من حق الشاب أن ننظر إليه بعين الاحترام، فما يدرينا أن علمه في المستقبل سيكون فوق علمنا في الحاضر؟ أمّا من أسند في الأربعين أو الخمسين من عمره ولم يشتهر بعلمٍ من العلوم، فلا يستحق أن ننظر إليه بعين الاحترام). وقد جَعَل كل جهده في تدبير شؤون الدولة الصينية؛ يقول: (إن الاضطراب قد مزّق البلاد بالفوضى، فمن الذي يُعيدُ نظامها)، (لا يمكن أن أعاشر الطيور والوحوش. . . وإذا أنا لم أعاشر هذه الأمة، فمن أعاشر؟ لو كانت البلاد تحت سياسة عادلة لما كنت في حاجة إلى أن أُحاول إعادة نظامها). . .
هذا وغيره من تاريخ الأمة الصينية وتاريخ فيلسوفها يعلمنا أن أول نظام كما إنما كان بالصين؛ فإن شئت أن أقول الهند وأسوق الدليل فعلت. فأنت ترى أن المذهب يتسع في الحضارات القديمة لكل رأي يحتمل به صاحبه إن شاء. واليونان من الأمم القديمة ذاتِ الحضارات القديمة، وإنما نفَعَها وجعَلَها مثابة لبحثِ كلُّ باحثٍ يريدُ أن يردّ إليها مذهباً من المذاهب، بقاءُ كثير من آثارها، ثم قيام أوربا الحديثة بإحياء ما ظمّ عليه الزمن من مدنيتها، وأخفى أمر الحضارات الأخرى ضياع أكثر آثارها أو بقاؤها في قبر من الإهمال والنسيان، وهمود النشاط في البلاد الشرقية التي هي أحق بإحياء آثارها. هذا قليل من كثير يمكن أن يقال في مثل هذا الأمر من أمور التاريخ القديم
وبعد هذه المقدمة، ساق الدكتور طه حديثه ببراعته التي لا يستعصي عليها غامض ولا بعيد ولا متشامخ. وأنا وإن كنت أظن أن الدكتور طه لم يوفق في كلمته كل التوفيق ولم يمس أغراضها إلا مسَّاً رفيقاً غامضاً بعيداً، فإني أعترف بأنه قد استطاع بحسن تحدُّره في المعاني أن يثير من الآراء ما يجبُ أن يُثَار في أفكار هذا الجيل، حتى يمكن بعد ذلك أن نستصلح من أمورنا ما أفسده طغيان الجهل واستبداد الحاكمين، وتوالي المصائب المرهقة على شعب نائم لا يستطيع أن يدفع عن نفسه أسبابها، ولا أن يذُودَ الوحوش الضاربة التي فَرَضتْ عليه بالاستعباد أقسى ما يمكن أن تبتدعه من ضروب الفتك والعدوان
الدولة والثقافة
فأهم ما تناوله الدكتور في حديثه هذا هو بيانُ موقف الحكومة من الأمة التي رضيتها أن تقبضَ على زمام الأمر فيها تصرفه بما ينفع الناس ويزيدهم قوة على قوتهم. فالأمم كلها قد أسلمت إلى حكوماتها أمر القيام على الثقافة والتعليم، وأعطتها من حُرِّ مالها ما تستطيع أن تنشئ به نظاماً كاملاً للتعليم يكون فيه رضي الشعب وحياطته وتوفير أسباب النهوض العقلي له، وحماية أفراده من أمراض الجهل وأوبئته التي تهد قوى الشعوب وتفتك بالعقول التي خلقها الله لتعمل في تدبير الحياة الإنسانية للوصول بها إلى الكمال الممكن على هذه الأرض
وإذا كانت الحكومة - أو الحكومات - تأخذ من الشعب الأموال المتوافرة الكثيرة بالضرائب التي تفرضها عليه في كثير من مرافق حياته كتجارته وزراعته، لتتخذ هذه
الأموال في تدبير الجيش وإعداده وتسليحه وتقويته ليدفع عن الأمة شر المطامع الأجنبية التي لا تلبث أن تغزو البلاد إذا وجدت منه ثغراً مُضاعاً تنفذ إليه منه؛ فمن العبث أن تهمل شأن الفرد الذي يقوم به معنى الجيش، والذي هو المدد الأول للجيش بروحه وعقيدته وفكره وقوته. فالجيش الذي يتكون ويتجمع من شعب جاهل معذب بالجهل محطم بالضعف العقلي والخلقي، لا يمكن أن يكون جيشاً مؤتمناً على ثغور البلاد يحميها من غوائل الحروب
الأغنياء والفقراء
وإذا كانت الحكومات جميعاً لا تفرِّقُ في إمداد الجيش بين طبقات الشعب كلها ناظرة إلى الغنى والفقر، فمن الخطل الذي ليس بعده خطلٌ أن يقوم نظام تعليم هذا الشعب على التفريق بين الغني والفقير؛ فكلاهما قد فرض عليه أن يبذل دمه وماله وقوته وجهده في الدفاع عن أوطانه التي تحكمها هذه الحكومة؛ فمن حقه على الحكومة أن تمده بالأسباب التي يستطيع أن يدافع بها عن هذا الوطن. والأسلحة المختلفة هي بعض أدوات الدفاع، ولكن الأداة الكبرى في الدفاع إنما هي الرجل الذي يحمل هذه الأسلحة، فيجب أن ينصرف أعظم هَمِّها إلى أحياء الرجل في طبقات الشعب غنيها وفقيرها على السواء بالحرص على إعطاء الشعب غذاءه كاملاً من الألوان المختلفة من الثقافات المتعددة، كلٌّ على قدر طاقته ورغبته واستعداده، مكفولاً له الحرية في الاختيار مع التسديد والحياطة والنصح
والحكومة حين تنظر إلى قوى الدفاع تفرض الضرائب على نسبة الأموال التي يملكها الشعب غير مفرقة بين الغني والفقير في نسبة الضريبة التي تتقاضاها منه اقتساراً وفريضة، فكذلك يشترك الغني والفقير على السواء في تحمل واجبات الحرب. فأولى إذن أن يشترك الغني والفقير معاً في القيام بأعباء التعليم والثقافة ونشرهما والمساواة في منحهما للغني والفقير على المساواة بغير تفريق. وليست تفرق الحكومات على الحقيقة بين الغني والفقير بقانون موضوع، وإنما هي تفرق بما هو أعظم خطراً من القانون الوضعي لأنه قانون الطبيعة وقانون القدر. فالغني يستطيع أن يدخل أبناءه جميعاً بيوت العلم من الابتدائي إلى العالي مستعيناً على ذلك بماله الذي استخلفه الله عليه، والفقير لا يستطيع أن يفعل مثل ذلك فيبقي أبناءه طعاماً للجهل الضاري وبقايا من فرائس الفقر المتوحش
ومن العجيب الذي لا يعجب إلا منه أن يكون في أمة من الأمم رجل تفضي إليه ثلاثة آلاف جنيه في العام، وليس له من الولد إلا ثلاثة أو أربعة يتكلف في تعليمهم ما لا يزيد عن مائة جنيه في العام كله، ورجل آخر يكون مالاً يدخل عليه مائتا جنيه في العام وله من الولد مثل الذي للأول فهو يدفع مائة مثل مائته أي نصف دخله! فما بالك إذن بالذين ينصبّ عليهم من الأموال ما لا يستطيعون التصرف فيه إلا أن يسفكوه على اللذات والمنكرات من النساء والخمر والقمار وحالقات المال والخُلُق وليس لهم ولدٌ، ثم يكون في الأمة آلاف مركومة من الإنسانية إلى ملايين تنسل وتلد وتمد الأمة بأسباب حياتها من الأبناء والبنات ولا يملك أحدهم ما يقوت به نفسه فضلاً عما يقوت به ولده، فضلاً عما يدفعه لوزارة المعارف أجراً للتعليم. . .! إذن فواجب الأمة أن تحمل الحكومات على تغيير نظام التعليم ونظام الضرائب، فتحصل الضرائب من الشعب كله على نسبة رأس المال والدخل، ليستخدم هذا المال المجموع من الضريبة في تعليم الشعب كله على المساواة بين غنيه وفقيره، ويلغى من وزارة المعارف نظام التحصيل، (تحصيل المصروفات المدرسية من أولياء أمور التلاميذ)! ويكون التعليم كله من أوله إلى نهايته مجاناً مبذولاً معرضاً لكل مستطيع وطالب وراغب بغير تفريق
وأحب أن أقول للدكتور طه، ولغيره من كتابنا، إنه حقٌّ عليهم أن يقوموا بالدعوة، وبالكتابة في مثل هذا الغرض النبيل الذي ينفع الناس ويرفع عن أعناقهم نِير العبودية التي يفرضها الجهل مرة والفقر مرات كثيرة. فإن كلمة الدكتور طه التي ألقاها، إنما سمعها عدد من الناس - أكبر الظن فيهم انهم قد طرحوا عبء التفكير فيها حين خرجوا من باب (قاعة يورت التذكارية)، كما تطرح الأعباء المثقلة. وليس شيء يحمل الحكومة على الجادة وعلى سواء السبيل كالصحافة وكتابها إذا أخلصت وتطهرت من الغرض والهوى والحقد والبغي والعدوان. . . فهل يمكن أن يكون هذا في مصر؟
فإن تسألينا: كيف نحن؟ فإننا
…
عصافير من هذا الأنام المسحَّرِ
عناصر الثقافة المصرية
وقد حدد الدكتور طه ألوان الغذاء الروحي والعقلي الذي يجب أن يقدم للشباب، فجعله مركباً من ثلاثة عناصر: العنصر المتحدرُ من تاريخ مصر القديم - الفرعوني - وهو
الفن؛ والعنصر المتغلغل في مصر الإسلامية، وهو الدين والأدب والفن العربي الإسلامي؛ والعنصر المتلبس بحياتنا الحاضرة منذ اتصلنا بغيرنا من الأمم التي نتعاون معها أو ننافسها، وهو العنصر الأوربي الجديد، وسترى بعد ما هو عند الدكتور طه
أما العنصر الأول، وهو الفن الفرعوني القديم، فأنا أدعه للكلمة الآتية، فإن اللَّبس كثير فيه، وقد زلّ على مزالقه أكثر أصحابنا ممن فُتنوا به عن صواب الرأي. وأنا أحب أن أتناوله بالبيان الذي يدفع عن مصر شرّاً كثيراً ويحقق لها ما نتمناه جميعاً من الخير
وأما العنصر الإسلامي من الدين والأدب والفن، فقد أجاد الدكتور طه في الدعوة إلى العناية به لأنه أصل المدنية، ومن جَهِل في بلاد مصر - أو بلاد العربية على اختلافها - تاريخ الإسلام فقد حطّ في مَهوىً ينقطع به حبله الذي يصله إلى قومه وإلى حضارته وإلى مستقبل هذه الحضارة التي سوف تنبعث بنورها مرة ثانية في جنبات الشرق فيما أرى. ولكن الدكتور طه بعد أن تكلم عن الاجتماع العربي أو الإسلامي الذي عاشت عليه الأمة المصرية هذه الأجيال ولم تجد به بأساً - كما يقول - عاد فاستدرك عليه بقوله:(بشرط أن يتابع تطور المدنية الحديثة). فأنا والدكتور طه وكل عربي قد درِب بالحضارة وجرَّبها يعرف أن البناء الاجتماعي هو أصل المدينة، وأن الاجتماع إذا صلح استطاعت كل القوى أن تعمل في بناء الحضارة بعقائدها وآرائها وإيمانها وفلسفتها؛ فإذا أردنا أن نجعل النظام الاجتماعي الإسلامي في العمل والتشريع والسياسة هو النظام فمن الخطأ الذاهب في الفساد أن نخضعه لتطور مدنية أخرى قد بُني اجتماعها على المسيحية في التشريع والسياسة والأخلاق. فمصر والشرق الإسلامي إذا أراد أن ينهض فلا بد له - كما قال الدكتور طه - أن يستمد نهضته من أصول الاجتماع الذي يربطه به التاريخ والدم والوطن واللسان والدين والوراثة، وإذا ساير فإنما يساير في فكرة مطلقة وهي (النهضة والحضارة والمدنية الإنسانية) على الطريق الذي يوافق طبيعة هذا الاجتماع. أما المدنية الحديثة فقد بنيت على غير ذلك وقد تطورت على أصوله؛ وليس بعد خطبة الملك جورج ملك الإنجليز ما يدع موضعاً للشك، فقد خطب الملك يوم 25 ديسمبر سنة 1939 في الاحتفال بعيد ميلاد المسيح - صلوات الله عليه - فذكر الاتحاد الإنجليزي الفرنسي للحرب ضد ألمانيا النازية فكان مما جاء في خطبته (ترجمة الأهرام): (إني أومن من أعماق قلبي بأن القضية التي
تربط شعوبي معاً، وتربطنا بحلفائنا المخلصين الأمجاد هي (قضية المدنية المسيحية). وليس ثمة قاعدة أخرى يمكن أن تبنى عليها مدنية صحيحة)
ونحن ننظر إلى المدنية الأوربية هذا النظر، وكلام الملك جورج هو من أدق التصوير لحقيقة الحضارة الأوربية في نظر كل باحث نصراني أو يهودي أو مسلم. فإذا أردنا أن نتابع تطوّر هذا الضرب من المدنية بتبديل اجتماعنا - الذي دعا إليه الدكتور طه في حديثه - ليطابقه؛ فكأنما ندعو إلى (تنصير الإسلام). وما أظن الدكتور طه يرضى أن نصير هذا المصير!
والعجيب بعد ذلك أن يذكر الدكتور طه العنصر الثالث وهو الحضارة الحديثة الأوربية، فلا يدعو إلى الأخذ بشيء مما فيها دعوة صريحة إلا في الذي يتصل بالخلق ليكون عندنا الرجل الصريح الذي يتحرى ألا يكذب نفسه قبل اجتنابه الكذب على الناس، والرجل الذي يستطيع أن يقول:(لا) أو (نعم) حين يريد أن يقولها، لا حين يكره عليها!!
ألا إن أخلاق المدنية الأوربية قد استعلنت جميعها في هذا البغي المتفجر في الحرب التي لا يعلم خَبْأها إلا عالم الغيب والشهادة، وإن أردنا أن نأخذ - أي نقلد - فلنأخذ من تاريخنا، من ديننا، من أخلاق رجالنا. . . من الذين استطاع أحدهم أن ينكر على عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، ويقول له:(أتق الله يا عمر) فيقوم رجل يستأذن عمر في أن يأمره فيه بأمره، فينهاه عمر ويقول:(دعه، فلا خير فيكم إذا لم تقولوها لنا، ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم). فالرجولة هنا ليست أن يقول الرجل، ولكن أن يتقبل صاحب السلطان هذا القول بالخضوع والرضا؛ فهل فينا من يقبلها يا دكتور طه. . .؟
أو في النفاق الأوربي المتلبس بالرجولة طبقاً للمنافع في أكثر أمره إلا مَنْ عصم الله. . .؟ لا أدري
محمود محمد شاكر
رسالة الفن
من أسرار الفن
بطلة شارلي
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- تحدثت الصحف كثيراً عن الفلم الذي يخرجه شارلي شابلن الآن، وعينت موضوعه، وقالت إنه سيتناول حياة الديكتاتور هتلر، وزادت بعضها فسردت ملخصاً للفلم. وقد أهتم العالم كله بأنباء هذا الفلم لأنه سيكون الحرب التي يشنها الفن على القوة. . . ولكن هذا الاهتمام الكبير لم يتجه منه ولا جانب تافه إلى بطلة هذا الفيلم. . . ألست ترى شارلي مقصراً في الدعاية لبطلته، وأن الذي يدفعه إلى هذا التقصير أنانية في نفسه.
- يجب عليك أن تعلمي قبل كل شيء أن شارلي ليس هو المسئول عن هذا، فهو فيما أعتقد أبعد الناس عن الدعاية لأنه أقرب الناس من الفن الصادق. ثم يجب عليك أن تعلمي بعد ذلك أن حياة هتلر خالية من المرأة فيما يرى الناس. فإذا علمت هذا وذاك فإني أظنك ستعودين وتعتذرين لشارلي عن اتهامك إياه بالأنانية لأنه لم يقم الدنيا ويقعدها من أجل ممثلة تافهة سيمنحها المجد حين يبيح لها أن تقف إلى جانبه. . .
- يا سلام! أوليست هذه الممثلة التافهة هي التي سيبلغ بها نصف النجاح الذي ينشده؟ إنه رجل غدار لا وفاء له. وأكثر من هذا أنه يقصر حتى في أيسر المجالات
- بل إن شارلي متسامح. ويكفيه تسامحاً أنه لا يزال بسمح للنساء أن يظهرن على يديه، وأن يرقين إلى المجد على كتفيه، مع أنه بلغ بالمرأة كل الآلام التي تغمره. . . إنه رجل غفار، لا حقد عنده وأكثر من هذا أنه يجامل حتى في المعارك التي يخوضها في حياته. . .
- أية معارك هذه التي يخوضها شارلي في حياته؟
- كل أعماله معارك، وكل رواياته مواقع. وهو ينتصر فيها جميعاً، ويأبى دائماً إلا أن تكون إلى جانبه في كل نصر واحدة من بنات حواء، ينتشلها من غياهب الخمول انتشالاً وسموا بها إلى آفاق الذكر سمواً، ثم يرى نفسه مضطراً بعد ذلك إلى أن يتركها وأن يدعو
غيرها. . . فله في كل رواية بطلة. . .
- إن هذا هو ما أعيبه فيه. فقد كان يجب عليه أن تكون له بطلة واحدة يفهمها تمام الفهم، ويحملها بمقدرته على أن تفهمه تمام الفهم، ثم لا يتركها ولا تتركه، فإذا كان قد عجز عن هذا لسبب من الأسباب فلم يكن عليه أقل من أن يعنى باختيار بطلة من المشهود لهن بالنبوغ تقف أمامه في أفلامه. . . فهكذا يفعل كل الممثلين الكبار في كل زمان ومكان. . . فلماذا لا يفعله هو إذا لم يكن الحقد يأكل قلبه، أو إذا لم يكن يخاف أن تكتسحه ممثلة قادرة؟
- وهل تعتقدين أنت أن الله خلق ممثلة تستطيع أن تكتسح شارلي؟ أنا لا أظن ذلك
- إذن فلماذا لا يقف أمام ممثلة نابغة؟ أهو أعظم من جورج آرليس، ووالاس بيري، وبول موني، وهاري بور، وشارلس لاوتون. . .
- ما أبعد الفرق بين هؤلاء وبين شارلي. . . هؤلاء كل منهم يمثل ذاتاً حدثت في زمن ما وفي مكان ما، أما هو فيمثل النكرة الذي يعرفه كل زمان وكل مكان
- وهل كان هتلر نكرة حتى يمثله؟
- إنه على الرغم مما فيه من شر فهتلر معرفة، ولكنه أصاب ذيوع تلك النكرة
- واعتماداً على شهرة هتلر واهتمام العالم بما يثيره فيه فإن شارلي يهمل بطلته. . .
- من قال هذا؟ إنه يهدي إلى العالم في كل فلم بطلة. . .
- إن هذا الجود وهذا الكرم مرجعهما عجزه عن أن يحتفظ لنفسه بواحدة
- بل هو عجزهن جميعاً عن البقاء إلى جانبه
- معذورات! فهو عجوز شاخ
- وما هذا عند التي تريد شارلي! شارلي الذي تحبه الدنيا ولم تشبع منه ولن تشبع. ألا تقبل امرأة واحدة من عرفهن أن تحتفظ به؟ حقاً إن للمرأة ذوقاً لا أدرك كنهه
- لعل شارلي الذي تحبه الدنيا غير شارلي الذي تجده المرأة في البيت. . .
- من غير شك، وإن شارلي الذي تجده المرأة في البيت لهو أروع بكثير من شارلي الذي يعرفه العالم. فهو فنان، وحياته خارج الأستوديو إنما هي تحضير لحياته داخل الأستوديو، فلو أن شارلي وجد التي تحب هذا التحضير كما تحب الوقوف إلى جانبه أمام الكاميرا لوهب لها حياته، ولوهب لها ماله ولوهب لها فنه، ولوهب لها نفسه مختاراً ومجبراً. . .
ولكن شارلي لم يجد هذه الفنانة بين اللواتي عملن معه، وبين اللواتي تزوج منهن، فهو معذور إذا تولى بالتبديل والتغيير بطلاته، وإذا فر من زوجاته. فبطلاته يتعشقنه في عمله يردن منه أن يربحن الثروة والمجد، وزوجاته يتعشقن اسمه وجاهه وغناه ويردن منه بعد ذلك أن يكون خارج عمله لهن هن لا لهذه الدنيا التي يستخلص منها مادة فنه
- أليس هذا حق المرأة على زوجها. . .؟
- قد يكون من حق المرأة على زوجها أن تستخلصه لنفسها إذا لم يكن زوجها فناناً صاحب رسالة. أما إذا كان زوجها مشغولاً حتى عن نفسه بما في الكون من آيات وبدائع، وإذا يعيش في هذه الدنيا مباحاً لكل من يريد أن يتذوقه وأن يأخذ منه، فلماذا لا تنكب عليه هي تستوعب كل ما يمكنها أن تستوعبه منه. . . ولماذا لا تجد في فنه المتعة. . . لماذا؟ إلا أن تكون نفسها عاجزة عن تذوق الفن والاستمتاع به. . .
- وهل تريد من زوجة الفنان أو من تلميذته أن تقضي معه الحياة متنقلة من ملحوظة إلى ملحوظة، ومن عبرة إلى عبرة، ومن أغنية إلى أغنية، ومن قصيدة إلى قصيدة. . . ولا يكون لها منه ذلك؟
- وماذا تريد منه غير ذلك؟
- تريده هو؟
- وأي شيء فيه هو غير ذلك؟
- فيه أنه رجل، وأنها امرأة
- وإنه رجل وإنها امرأة. . . أوأنكر أحد ذلك؟
- إنه هو الذي ينكره. . . فهو فيما أظن لا يكاد يقيم علاقته مع صاحبته حتى يحسب أنه قد تم له ما يريد من الاستيلاء عليها، ثم يعمد بعد ذلك إلى ما يرضيه هو لا ما يرضيها هي. . . فهو يكثر معها من الحديث عما يراه في الدنيا وفي الكون وفي الملكوت. . . يحدثها عن النجوم والشموس والصراصير والنمل، وقد لا يخطر على باله طول السنين أن يذكر جمالها بكلمة، أو أن يمدح ثوباً من ثيابها أو أن يطري بعض زينتها ناسياً في هذا أن المرأة مخلوق لا يطيق الحياة وحده، وأنها تفزع كل الفرع ما لم تحس التهافت عليها. . . إنها يا أخي قد خلقها الله لغيرها. . . خلقها للرجل وهي لا تقوم بذاتها
- آمنت بالله، وبهذا لحق الذي تذكرين وما أقل ما تذكرين من الحق. . . ولكن ألا ترين يا سيدتي ويا تاج رأسي أن الرجل إذا تزوج من امرأة كان هذا منه كافياً يشهد بأنه معجب بها وبذوقها وبجمالها وبملابسها وبزينتها. . . ثم ألا ترين أنه إذا اختار تلميذة له فوجه إليها اهتمامه وجهوده كان هذا منه كافياً أيضاً يشهد بأنه راض عنها وعن كيانها بما فيه عقلها وجسمها وعلى الخصوص إذا كانت هذه التلميذة ممثلة ممن يلقن أن يكن بطلات في أفلام شارلي. . . إني أعتقد أن هذه الشهادة تكفي، وأنه لا داعي بعد ذلك يدعو شارلي أو غيره من الرجال إذا استيقظ من النوم في الصباح أن يقول لامرأته: ما أبهاك وما أروعك؛ وإذا عاد إليها في المساء أن يقول لها: ما أحلاك وما أجملك؛ وإذا صحبها في عمل أو في لهو أن يقول لها: ما أذكاك وما أبدعك. . . ألا ترين أن هذا لا يمكن أن يكون إلا خداعاً لا طعم له. . . إنني أرى في الصمت والهدوء علامة من علامات الرضى، وأحسب أن شارلي كذلك، فهو ما دام صامتاً وهادئاً مع زوجه أو تلميذته كان معنى هذا أنه راض عنها، وأظن أنه إذا رأى فيها عوجاً لفتها إليه. . . وهكذا يجب أن تكون حياة الناس. . . أساسها التسليم والرضا الصامتان لا تبادل الإطراء والمخادعة. . .
- إنك تقول هذا لأنك خائب مثلما أن شارلي خائب فأنا منذ رماني الدهر في طريقك لم أسمع منك كلمة واحدة ترضيني ولم أجد عندك إلا الكلام الذي يسمم البدن ويكسر النفس. . . تذكر شارلي، وتذكر مواقعه الغرامية في أفلامه، وقل لي بالله عليك هل رأيته يوماً عاشقاً لبقاً. . .
- إذا كانت اللباقة هي صناعة الغرام، فشارلي عاشق غير لبق. أما إذا كانت اللباقة هي الغرام الصادق، فاذكريه يا جاحدة في (أنوار المدينة) كيف عشق العمياء وكيف أخلص لها وكيف كان يضحك الناس من غرامه هذا والدموع يسيلها من مآقيهم تأثراً له وتفجعاً، ثم اذكريه في (العصر الحديث) كيف أحب المشردة الصغيرة، وكيف كان يحنو على اخوتها ويطعمها وإياهم طعامه هو. وإذا استطعت فاذكريه في (البحث عن الذهب) كيف زين مسكنه لحبيبته، وكيف جلس ينتظرها والطعام أمامه لا يذوقه ولا يمسه، وكيف تخلفت عنه وهو مازال ينتظرها إلى أن غفا، فكان الحب أحلامه، وكانت هي عروسها. فلما أفاق وأدرك أنها تخلفت، جن حزناً وطاشت أحلامه، ولكنها ظلت عروس أحلامه الطائشة. . .
إن شارلي من غير شك هو أروع وأخلد عشاق السينما، يقدره حق قدره الذين أحرق الحب قلوبهم وأفنى أفئدتهم، ولكنكن يعجبكن أدولف مانجو المتأنق السمج وكلارك جيبل المتحلي المباهي بقوته. . . أنتن لا يرضيكن إلا المنازلون. . . أما العشاق، فلهن منكن الزراية والسخرية. . . إن شارلي صادق كل الصدق يا هذه، وإن حياته الفنية لهي صورة حقة من حياته الطبيعية. . .
- وهذا هو ما أريد أن أقول. . . فكما أنه في حياته الفنية لا وفاء فيه لممثلة زميلة فإنه في حياته الطبيعية لا وفاء فيه لامرأة
- قلت لك إنه لا يخلص في زمالة امرأة لأنه لم يجد المرأة التي تخلص في زمالته، وهو لا يزال يرتجل بطلات لأفلامه لأنه لا يزال يبحث عن سكنه بين النساء، ولعلك تذكرين أنه جن يوماً فأخرج فلم (الغلام) من غير بطلة امرأة وزامل فيه جاكي كوجان، وقد كان ذلك لأنه جن يوماً فطاش في الحياة لا يقف عند امرأة ولا يرتاح إلى أنثى. ولعلك ترين أنه قد عدل أخيراً عن الممثلات الناضجات الأنوثة ذوات التجارب في الرجال إلى ممثلات أخريات صغيرات لم يعرفن الرجال لا الممثلين منهم ولا غير الممثلين، وقد حدث ذلك لأنه في حياته عدل عن تقصي الحب بين النساء ذوات التجارب إلى تقصيه بين الفتيات الساذجات
- وإلى أين سينتهي شارلي في بحثه هذا يا ترى؟
- أغلب الظن أنه إذا لم يسعفه القدر سريعاً بما يصبو إليه من الحب، فإنه ربما عدل عنه، وعندئذ سنرى شارلي في أفلام لا نساء فيها. . .
- وهل يمكن أن يظهر فلم من غير نساء؟ إنه لن يكون غير خرافة، فالدنيا ليست الدنيا مما لم تزينها المرأة. . .
- هذا هو كلامكن، وكلام الذين يضحكون على عقولكن. وإلا فقولي لي من هي المرأة التي كانت في حياة كافور الإخشيدي
- أولم تجد غير هذا الأغا مثلاً. . .
- وهل أبرع وأبرز من مثل هذا العبد يشتريه سادته بالمال فإذا هو الملك الحاكم؟
- إن شارلي نفسه مقتنع بأنه لابد لفلمه من بطلة، وأنا أؤكد لك أن بوليت جودار التي
أظهرها في فلمه الأخير (العصر الحديث) سوف تظهر إلى جانبه في الديكتاتور
- ومن أين جاءك هذا؟
- روته صحف أمريكا. بعد أن قيل إن بوليت غادرته. . .
- إذن فلن يكون شارلي أنانياً كما قلت في البدء
- إنه أناني وأناني وأنا لازلت أشك في إخلاصه لتلميذته الصغيرة
- أما هو فثقي أنه مخلص كل الإخلاص، وهو لا ريب يرجو السماء والأرض أن تحفظ عليه بوليت، ولكن الشيء الذي أخشاه، والذي قد يخشاه هو أيضاً هو أن تكون بوليت هذه على الرغم مما يبدو عليها من ملامح الطهر والبراءة. . . امرأة صغيرة قد تنكرت بالطهر والبراءة وركبت بهما ظهر شارلي حتى استطاعت أن تظهر معه في فلمين متتابعين، وهذا من غير شك يعتبر حادثة في تاريخ ذلك الفنان العظيم. . . وبعدئذ. . . من يدري إذا ذاع اسم بوليت، واعتبرها الناس نجمة مستقلة لا تحتاج إلى شارلي ولا إلى اسمه في تجارة الفن، وآمن بهذا المخرجون وأصحاب رؤوس الأموال. . . أتظل على وفائها له فتبقى معه. . . أم تفر منه كما فرت الأخريات. . . من يردي. . . إنها على أي حال تجربة شارلي الأخيرة فيما أعتقد. . .
عزيز أحمد فهمي
رسالة العلم
أرقام تتحدث
طريقة تعداد الذرات
للدكتور محمد محمود عالي
من (أحمس) المصري إلى (بيران) الفرنسي - الجسيمات التي استخدمها (بيران) في تجاربه - كيف تتوزع هذه الجسيمات الدائمة الحركة - يختلف الجو الذي ابتدعه (بيران) عن الجو الذي نعيش فيه
لقد تنفس العالم الكبير (بيران) في القرن العشرين بعد الميلاد الهواء ذاته الذي تنفسه (أحمس) في القرن العشرين قبل الميلاد أو ما يقرب من ذلك العهد، ومع ذلك استطاع الأول بتجارب علمية دقيقة، وعمليات رياضية عالية، أن يعرف عدد ما في حجم معين من الهواء من ذرات؛ بينما وقفت معارف الثاني عند حد معرفة القواعد الحسابية الأربعة: الجمع والطرح والضرب والقسمة، ومعرفة الكسور والتقسيم التناسبي وحساب المتواليات، ولم يكن يجهل معادلات الدرجة الأولى.
والذين يراجعون معنا الآن أعمال (بيران) يدركون كيف اهتدى إلى إحصاء الذرات الدقيقة، دون أن يكون في حاجة إلى رؤيتها، وكيف خلص من هذا إلى معرفة قدر الإلكترون، أصغر ما في الكهرباء وأحد المكونات الهامة في الوجود، دون التجاء إلى استخدام عمليات كهربائية، وهو بتعيينه قدر الذرة وقدر الإلكترون أقام في نفس الوقت الدليل على وجودهما، فقطع بذلك مرحلة من أهم مراحل العلم، تتخلص في كلمات هامة ومحدودة: ذلك أن التجزؤ المادي وعدم الاتصال في أجزاء المادة حقيقة موجودة.
والذين يستعيدون منا أعمال (أحمس)، ويتلمسون ذلك في كتابه الذي ترجمه (إلْسِنلوهر) إلى الألمانية من الأصل المخطوط على أوراق البردي المحفوظة في المتحف البريطاني يعلمون أنه كان يعرف أن يقوم بحساب أبعاد فاكهة مستديرة أو تحديد مساحة قطعة من الأرض، وأنه كان يعرف قدر الخبز لحجم معين من الدقيق، بل يعرف قدر الطعام الذي يزدرده الإوز وتلتهمه العجول
أما (أحمس) فقد صاغ الفكر في نسق يتسق وما كان يحتاج إليه معاصروه، فلمس ببراعة حاجات هذا العهد، وعرف كيف يعالج ما يعرض له من مسائل بتفكير إنساني منسق، وبمجهوده ومجهود من تقدموه ارتقى الإنسان وصار يثوارث المعرفة جيلاً عن جيل، واحتفظت الإنسانية بطابع من التقدم عهداً إثر عهد، ونمت المعارف فوصلت إلينا سلمية قوية - أما (بيران) فقد وجد ميراثاً علمياً سليماً كانت أعمال (أحمس)، والإغريق من بعده من أهم ما مهد لهذا الميراث العظيم، فلا يستضعف أحد ما ذكرنا من حساب (أحمس) لما تزدرده الإوز وتلتهمه العجول، وغير ذلك مما كان شغله الشاغل عندما نذكر مشاغل إنسان اليوم جلية فيما قام به (بيران) من تعداد للذرات ومعرفة لأقدارها، فعند ظني أن ما عرفه الأول يصل إلى النصف من كل ما ورثناه من علوم، وأننا لسنا إلا على أبواب مرحلة جديدة في تاريخ الفكر البشري
ولندع الآن حديثاً أرجو أن يكون قد بعث في النفس صورة من الماضي البعيد في شيء من التأمل لنعود لبيران فنذكر عمله الإنشائي ونرى معاً ماذا أفاد من المسائل الرئيسية الثلاث الخاصة بالغازات التي ذكرناها في المقال السابق: المسألة الأولى أن ثمة علاقة تربط الضغط والحجم والحرارة للغاز، بحيث أن حاصل ضرب اثنين من هذه المتغيرات يساوي المتغير الثالث مضروباً في عدد ثابت؛ والثانية أن في الحجم الواحد يوجد في الضغط الواحد والحرارة الواحدة العدد ذاته من الذرات الغازية مهما اختلف نوع الغاز؛ والثالثة هو تَغيّر الضغط في عامود غازي وفق متوالية هندسية
ولقد ذكرنا أنه قد أدت هذه المسائل الثلاث إلى استنباط علاقة أوردناها في مقالنا السابق علاقة نعرف منها النسبة الواقعة بين ضغطين في غاز في موضعين تفصلهما مسافة رأسية، إذا عرفنا الوزن الجزيئي للغاز والعجلة الأرضية وثابت الغازات والحرارة المطلقة، ولقد ذكرنا أن النسبة الواقعة بين ضغطين في الغاز في موضعين مختلفين هي النسبة بين عدد الجزيئات في هذين الموضعين، بحيث إذا عرفنا الضغط أو عدد الجزيئات عند مكان معين أمكننا أن نعرف الضغط أو عدد الجزيئات عند مكان يرتفع عنه مسافة معينة، وقد ذكرنا فرض (أفوجادرو) القائل بأن هذا العدد للجزيئات الموجود في الوزن الجزيئي - أي الموجود في الحجم الواحد لجميع الغازات هو عدد ثابت لا يتغير - يسميه
العلماء عدد (أفوجادرو) ومن المناسب أن نورد هنا للقارئ فكرة عن هذا العدد الكبير، فهو يبلغ حوالي 68 2210 من الجزيئات، وهو العدد الموجود في 32 جراماً من الأوكسجين مثلاً أو 22. 4 لتراً منه، أو من غاز آخر، وهو العدد الذي حاول (بيران) بعمله الإنشائي أن يعرفه، فيعرف منه قدر الذرة وقدر الإلكترون.
وطبيعي أنه لا يجوز أن يخطر ببال هذا العالم أو غيره أو
يحاول بطريقة مباشرة أن يحصل على أحد هذه الجزيئات أو
إحدى هذه الذرات ليتمكن من قياس وزنها أو قطرها أو
كثافتها فهي متناهية في الصغر إن قورنت بكل ما نستطيع أن
نتناوله على حدة من الأجسام، ويكفي القارئ أن يعلم أنها من
الضآلة بحيث يمكن أن تندمج في جسمنا بالنسبة ذاتها التي
يندمج فيها هذا الجسم في الشمس، أو بالنسبة التي تندمج فيها
حشرة صغيرة في جسم الأرض، ولكن (بيران) عمد إلى
العثور على هذا النوع من التوزيع الغازي في وسط آخر غير
الغازات ذات الجزيئات أو الجسيمات الصغيرة، وسط يستطيع
أن يقيس ويزن فيه الجسيمات ويعرف خصائصها بوسائلنا
العادية ومقدرتنا المعهودة، فعمد إلى الحصول على كرات
صغيرة من أنواع مختلفة من الأصماغ يبلغ قطر الواحدة
منها في معظم تجاربه كسراً ضئيلاً من الميكرون (الميكرون
10001 من المليمتر) وقد ترك (بيران) هذه الكرات في عمود
من السائل. ومما يلاحظ أن هذه الكرات الصغيرة، عندما
تدخل السائل، تقع في حرب شعواء بين الجاذبية الأرضية التي
تدفع بهذه الجسيمات نحو الأرض وبين الحركة البروانية التي
سبق أن أشرنا إليها في مقالاتنا، وهي الحركة الناتجة من
حركة جزيئات السائل ذاته والتي تدفع بها في كل جهة، بحيث
أنه بعد فترة معينة يحدث نوع من الاتزان بين كل هذه
العوامل، تتوزع بعدها هذه الجسيمات في السائل أي بين
جزيئات السائل توزيعاً خاصاً، بحيث تكون كثيفة العدد في
أسفله قليلة كلما ارتفعنا فيه
ومما يجدر بالملاحظة أن هذه الحالة من التوزيع لا تفترق عن
حالة توزيع الجزيئات الغازية في عمود غازي أو في الجو
مثلاً، وهو التوزيع الذي تحدثنا عنه سابقاً، فهذه الأجسام كلها
صُغرَتْ أو كُبرت واقعة تحت تأثير عاملين: العامل الأول
اجتذاب الأرض إياها والعامل الثاني حركة الجزيئات نفسها
أي الحركة البروانية، وليس ثمة فارق بين الحالتين حالة
الجزيئات الغازية وحالة الجسيمات الكولوبدية سوى أنه في
هذه الحالة الأخيرة يوجد تفاوت في درجة التوزيع بالنسبة
للارتفاع يرجع إلى التفاوت الذي بين وزن هذه ووزن
الجزيئات الغازية، فمثلاً يكفي أن ترتفع في سائل يحوي كرات
من التي قطرها كسر من الميكرون (وهي الكرات التي
صاغها (بيران)) حوالي 201 من المليمتر حتى ينقص عدد
الجسيمات في الحجم الواحد إلى نصف عددها الأول حين يجب
أن ترتفع في عامود من الغاز مثل الأوكسجين حوالي خمسة
كيلومترات لينقص عدد الجزيئات في الحجم الواحد إلى هذه
النسبة، وهذا يحملنا على التفكير في أن وزن أحد هذه
الجسيمات التي استخدمها بيران يصح أن يكون حوالي مائة
مليون مرة قدر وزن الجزيء من الأوكسجين
والواقع أنه كان من الميسور أن يصل الباحثون إلى علاقة تربط نسبة عدد جسيمات ميكروسكوبية متروكة في سائل تتوزع فيه مع عدد (أفوجادرو) السابق الذكر، وهي علاقة يمكن استنتاجها من العلاقة أو المعادلة التي سبق أن نوَّهنا عنها في الغازات التي ذكرناها في مقالنا السابق، وهذه العلاقة الثانية التي نذكرها في هامش هذه الصفحة هي علاقة تجد في أحد طرفيها النسبة بين عدد الجسيمات الميكروسكوبية أي الكولويدية الحائرة في السائل في موضعين مختلفين، وتجد في الطرف الثاني عدة متغيرات وثوابت، أهم ما في هذه الثوابت عدد (أفوجادرو) الذي ذكرناه والذي هو محل بحثنا
ولعل القارئ يرى أن وزن هذه الحبيبات أو حجمها الذي في استطاعتنا الوصول إليه هو الوصلة للأوزان الذرية التي يعتبر الوصول إلى وزنها بالذات خارجاً عن طوقنا
ولا ريب في أنه يعوزنا كتاب كامل لنشرح للقارئ العقبات
الكبرى التي ذللها (بيران) وتلاميذه للقيام بهذه التجارب التي
استخدموا فيها جسيمات قطرها 102 من الميكرون وجسيمات
أخرى يختلف قطرها عن هذه. وثمة صعوبات في صوغ هذه
الجسيمات بطرق مختلفة ومواد مختلفة، وتتفادى الاستقصاء
في وصف الوسائل المختلفة التي عمد إليها هذا العالم في
قياس هذه الجسيمات، وسائل تمت إلى التطبيق
الهيدروديناميكي طوراً وإلى الطرق الطبيعية تارة أخرى،
وهي الوسائل العديدة التي صدرت عنها أطروحات جامعية
عديدة طالعنا بعضها وناقشنا البعض الآخر
ترى هل وجد (بيران) بعد ذلك المجهود وبدراسة هذه الجسيمات الحائرة أبداً ذلك التوزيع اللوغاريتمي الموجود في الغازات؟ وهل استطاع أن يعثر من دراسة هذا التوزيع فيما اختاره من جسيمات على عدد (أفوجادرو) ذاته الذي كان يتوقعه والذي كانت تدل عليه عمليات أخرى تختلف في طريقها وجوهرها عن موضوع (جان بيران) الحالي؟ هذا ما ندل عليه القارئ في مقال قادم حيث يقف على ما استنبطه بيران من ملاحظة مستمرة لهذا الجو الجديد الذي ابتدعه وصنعه لنفسه، هذا الجو الجديد ذو الجزيئات الكبيرة يختلف جد الاختلاف عن الجو الذي نعيش فيه، ففيه تمثل أهرام الجيزة مثلاً مقداراً أقل من الواحد على ألف من المليمتر
وسيرى القارئ كيف أوصلنا عمل (بيران) المضني إلى شيء جدي في الوجود وكيف طلع علينا هذا العالم بأسطورة خالدة من قصص الكون وكيف اقتنع كغيره أن المادة وسط منفصل غير متصل وأنها مكونة من ذرات تحمل في طياتها إلكتروناتها الأبدية وكيف وثق أن للذرة قدراً وللإلكترون قدراً لا يتجزأ وأن هذه وحدات في الكون تُعد من خصائصه كما
تعد الأصابع العشر من خصائص الإنسان.
(يتيع)
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة
القصص
الاعتراف
للكاتب الفرنسي موريس ليفل
وقفت لحظة أمام الباب وأنا ساكن متردد في الدخول. ولم أخط العتبة إلا حين نبهتني المرأة التي جاءت بي بقولها: (هنا يا سيدي تفضل!)
لم أر شيئاً عند دخولي سوى المصباح الخافت الموضوع في ركن الغرفة. ثم أخذت أتبين إلى جانب الحائط فراشاً تمدد عليه جسم طويل هزيل حاد التقاطيع. وكانت رائحة النفط تملأ فضاء الغرفة، والصمت شامل كصمت القبور.
ومالت المرأة على الفراش صائحة: (هاهو ذا السيد الذي أرسلتني في طلبه. . .)
فنهض الشيخ المدد على الفراش نصف نهوض وتمتم في صوت خافت:
- حسن. . . حسن. . . اتركينا معاً. . .
فلما أغلقت المرأة الباب وراءها، قال الرجل:
- أدن مني يا سيدي. . . أجلس هنا على الكرسي الموضوع بجانب الفراش. . . إنني أكاد أكون أعمى أصم. معذرة من إقلاقي إياك، فلديّ شيء خطير أريد أن أفضي إليك به
كان وجه ذلك الرجل بارز العظام شديد الشحوب. وقد ظل برهة يحدّق فيّ بعينيه الواسعتين. ثم واصل حديثه بصوت متهدج:
- ولكن قبل كل شيء، هل أنت السيد جرينو النائب العمومي؟
- نعم
فتنفس الصعداء ثم قال:
(إذن يمكنني الآن أن أدلي باعترافي. لقد أمضيت خطابي لك باسم برييه، وليس هذا اسمي الحقيقي. ومن الجائر أنك كنت تتذكر معرفتي لولا ما غير الموت من معالم وجهي. . . ولكن دعنا من هذا. . .
منذ سنوات كثيرة، كنت وكيل نيابة. كنت واحداً من الرجال الذين يقول الناس عنهم: إن أمامه مستقبل باهر. وكنت عاقداً العزم على تحقيق هذا الرجاء. ما كان ينقصني سوى الفرصة لإظهار مقدرتي؛ وقد هيأت لي تلك الفرصة قضية في محكمة الجنايات. حدثت
تلك الجناية في إحدى ضواحي باريس، وقد أثارت في حينها اهتماماً شديداً بين الناس وخاصة في البيئات القانونية. كانت الشبهات قوية في المتهم، ولكن ينقصها الإثبات القاطع. ولقد دافع المتهم عن نفسه دفاعاً قوياً حتى أحسست وأنا في كرسي النيابة بشعور الشك بل بالعطف يستولي على المحكمة. وأنت تعلم ما لهذا الشعور من تأثير!
ولكني كذبت بالبراهين المنطقة القاطعة كل ما أنكره المتهم، وأزحت الستار أمام القضاء عن سلسلة من الحقائق لا مجال للشك فيها. ولأستطيع أن أقوي أدلة اتهامي، كشفت عن نفسية الرجل وعن ماضي حياته مظهراً كل ما في خلقه من ضعف وما في أعماله من دناءة. وختمت مرافعتي القوية بطلب القصاص من المجرم! وقام الدفاع بعد ذلك بكل ما في مكنته لتفنيد أدلتي، ولكنه حاول عبثاً. . . وحكم على الرجل بالإعدام
لم يكن للعطف على السجين حينذاك مجال للوصول إلى نفسي. فلقد كنت مندفعاً في إثبات مقدرتي وفصاحتي، وكان الحكم عليه انتصاراً باهراً لي
ورأيت الرجل ثانية في صباح يوم التنفيذ. ذهبت لأراه وهم يسوقونه إلى المقصلة. فلما رأيت وجهه الغامض اعتراني فجأة شيء من الاضطراب والضيق. . . إن تفصيلات تلك الساعة المشؤومة لا تزال ماثلة في مخيلتي!. . . لم يبد أي مقاومة وهم يوثقون يديه وقدميه. لم أجسر في تلك اللحظة على النظر إليه، لأني شعرت بأن عينيه مصوبتان نحوي في هدوء غير معهود. ولقد صاح حين خروجه من باب السجن ومواجهته المقصلة: إني بريء! وخيّم السكون على الحاضرين كأن على رؤوسهم الطير. ووجه الرجل الكلام إليّ قائلاً: أنظر إليّ وأنا أموت، فإن ذلك يستحق بضع دقائق من وقتك. ثم عانق القسيس ومحاميه. . . وكانت برهة من أفظع ما مر في حياتي
في خلال الأيام التي مرت على ذلك الحادث، كنت مبلبل الخاطر مضطرب الفكر. كان موت ذلك الرجل هو الشيء الوحيد الذي يستولي على ذهني فلا يدع مكاناً لسواه. وقد كان زملائي يطمئنونني بقولهم: إن ذلك يحدث دائماً في أول مرة
وكنت أصدقهم. إلا أني أدركت على تراخي الزمن أن هناك سبباً لهذا الاضطراب وهو: الشك! ومنذ اللحظة التي فطنت فيها إلى ذلك لم يهدأ لي بال. كنت لا ألبث أن أسائل نفسي: ترى هل كان الرجل بريئاً؟
جاهدت بكل ما في استطاعتي أن أبعد عن خاطري تلك الفكرة، محاولاً أن أقنع نفسي أنه مجرم؛ ومحال ألا يكون كذلك، ولكني كنت أعود فأسائل نفسي: أي دليل حقيقي على إجرامه؟ وتتمثل في مخيلتي لحظات الرجل الأخيرة وهو واقف على المقصلة في هدوء، ويطن في أذني صوته وهو يقول: إني بريء!
قال لي يوماً أحد الزملاء:
ما كان أبدع دفاع هذا الدفاع عن نفسه! لقد كان من المدهش أنه لم يُبرّأ. . . أقسم لك أني لو لم أسمع مرافعتك لاعتقدت أنه بريء!
إذن كان سحر كلامي وقوة رغبتي في النجاح، هما اللذين تغلبا على تردد النظارة، وربما كان لهما أكبر الأثر في تكوين رأي المحكمين. أنا وحدي كنت السبب في قتل هذا الرجل. فإذا كان بريئاً، فأنا وحدي المجرم المسئول عن موت هذا البريء. . .
إن الإنسان لا يتهم نفسه بشيء دون أن يحاول الدفاع عنها وقبل أن يقوم بكل ما يمكن ليريح ضميره. ولقد كان هذا شأني بالنسبة لهذه القضية: فلكي أنجو بنفسي من هذا الشك المؤلم، راجعت أوراق القضية من جديد. . . ولما أعدت قراءة مذكراتي ومستنداتي، وجدت كل ما بها منطقياً معقولاً. . . إلا أنها مذكراتي أنا ومستنداتي أنا، وهي عمل عقلي الذي حكم على المجرم أولاً، ثم راح يبحث عن الأدلة، عمل إرادتي، وقد استعبدتها الرغبة في إثبات الجريمة على المتهم. . . فدرست وجهة نظر الدفاع من جميع وجوهها. . . أعدت قراءة إجابات المتهم وشهادات النفي الخ. . . وقررت أن أتأكد من بضع نقط فيها شيء من الغموض، ففحصت المكان الذي وقعت فيه الجريمة بدقة، وسألت شهوداً كان قد أُهمل استجوابهم. فلما فرغت من دراسة هذه التفاصيل انتهيت إلى نتيجة حاسمة: وهي أن الرجل كان بريئاً!
وكأن الظروف أرادت أن تشغل ضميري، فصدر الأمر وقتئذ بترقيتي!. . . ترقية هي في الواقع ثمرة لجريمتي الشنيعة.
كانت الشهامة تقضي بأن أعترف بخطئي على الملأ حتى يكون في ذلك عبرة وعظة لغيري. إلا أني كنت أجبن من أن أفعل ذلك. كنت أخشى غضب الناس واحتقار الزملاء، فاكتفيت بتقديم استقالتي دون أن أبين بها الأسباب، ثم سافرت بعيداً عن باريس. ولكن وا
أسفاه!. . . إن البعد لا يجلب النسيان
ولقد صار كل همي في الحياة بعدئذ أن أكفر عن خطيئتي التي لا تقبل إصلاحاً. كان الرجل شريداً لا أهل له ولا أصدقاء يمكنني أن أعوضهم عن فقده بالمال. فقررت أن أخصص كل ما أملك من ثروة لمساعدة البؤساء والمنكوبين من أمثاله، عازفاً عن مسرات الحياة. وهكذا عشت وحيداً منسياً حتى هرمت قبل الأوان
ولقد أنقصت نفقاتي الخاصة إلى أدنى حد ممكن. . . ففي هذا الجحر عشت شهوراً وفيه أدركني المرض الذي أموت به الآن. . . والآن يا سيدي قد وصلنا إلى ما أريده منك. . .)
وازداد خفوت صوته حتى صرت مضطراً أن أراقب شفتيه المختلجتين لأستعين برؤية حركتهما على تفهم كلماته
(لا أريد أن تموت هذه القصة بموتي. أريد منك أن تعلنها على الناس درساً لأولئك الذين من واجبهم أن يقتصوا من الناس ولكن بالحق، لا أن يجلبوا العقاب للناس على أي حال. أريد أن تكون هذه القصة ماثلة أمام عيون رجال النيابة العمومية وهم يؤدون واجبهم في طلب رأس المجرم)
فأكدت له أني سأفعل ما يطلبه
وازدادت رعشة الرجل وهو يواصل حديثه قائلاً:
(ولكن ذلك ليس كل شيء. . . لا يزال لديّ بعض المال. . . لم يتسع الوقت لتوزيعه. . . إنه هناك في درج هذه الخزانة. أريد منك أن توزّعه بعد موتي. . . لا باسمي، بل باسم ذلك الرجل الذي كنت سبباً في إعدامه منذ ثلاثين عاماً. . . وزّعه على الفقراء باسم راناي)
فحملقت مردداً:
- راناي؟!. . . لقد كنت أنا المحامي عنه فهز رأسه متمتماً:
- أعرف ذلك. وهذا هو السبب في طلبي إياك. لقد كنت مديناً لك أنت بهذا الاعتراف. أنا ديرو، وكيل النيابة
ثم غمغم ببضع كلمات أخرى لم أتبين منها سوى كلمة راناي
هل خنت سر المهنة؟ هل خرقت القواعد التي تحتمها صناعتي؟ إن المنظر المؤلم لهذا
الشخص الذي يموت على تلك الحالة التعسة، قد استدرج الحقيقة إلى لساني رغماً عني، فصحت قائلاً:
- مسيو ديرو! مسيو ديرو! لقد كان راناي مجرماً!. . . لقد اعترف لي وهو في طريقه إلى المقصلة. أخبرني بالحقيقة حين كان يودّعني. . .
ولكن مسيو ديرو كان قد سقط على الوسادة ميتاً
ومازلت حتى الآن، كلما مرّت هذه الحادثة بفكري أحاول إقناع نفسي بأنه سمعني
صلاح الدين كامل
من هنا ومن هناك
لا تلم فرساي!
(ملخصة عن مقال (للمركيز أوف لوثيان))
أود قبل كل شيء أن أقول كلمة عن معاهدة فرساي. فقد أصبح الأسلوب الجديد لدعاية الدكتور (جوبلز) أن ينسب إلى هذه المعاهدة المظلومة كل سيئة. . . إن معاهدة فرساي لا تخلو من أوجه للنقص. إلا أنه من السخف أن نعزو إليها كل شر في الوجود
قال أحد الرجال البارزين من الألمان الديمقراطيين بتمهل: إن ثلاثين في المائة من الأسباب التي أدت إلى ظهور الاشتراكية الوطنية تعزى إلى معاهدة فرساي، وثلاثين في المائة إلى نقص الروح الديمقراطية في نفوس الألمان، وثلاثين في المائة إلى وسائل الضغط التي اتخذت ضد الشعب منذ عام 1929. ولكني أود أن أدخل شيئاً من التحوير على هذا الوضع، فالهتلرية في نظري هي وليد نمته البلشفية وغذته بنظامها الوطني الاقتصادي الذي وضعته ليشمل سائر أنحاء العالم
نحن حريون ألا ننسى تلك المبادئ التي دافعنا عنها دفاعنا المعهود ما بين 1914 - 1920. لقد بدأنا عهداً جديداً في تلك الفترة إذ قضى عالم قديم، وظهر في الوجود عالم جديد. وكانت العلاقات الدولية قبل سنة 1914 تسير على مقتضى السياسة القديمة. فكان من الطبيعي أن تفكر كل أمة فيما يهمها ويهم أبناءها وحدهم، وقل أن تفكر في شأن من شؤون الأمم الأخرى
إلا أننا في سنة 1914 رأينا الأمم الديمقراطية التي كانت لا تهتم إلا بشئونها الداخلية، بدأت تفكر في العلاقات الدولية العامة. والديمقراطية بحكم وجودها لا تحلم بالقوة، ولكنها تحلم بالمثل الأخلاقية العالية. وإذا كانت الأمم الديمقراطية لا تعيش لهذه المثل على الدوام، فمنها ولا شك الكواكب التي تسهر على حراستها، وتصونها من الضياع
ومنذ ظهرت عناية الأمم الديمقراطية بالشؤون الدولية العامة، أخذت تفرض مبادئها على سائر الأمم. فالإنسانية في نظرها وحدة لا تتجزأ. وسائر الأمم والأفراد لهم الحق في الحياة والحرية والسعادة. والشعوب المتأخرة لها أن تتخلص من الاستغلال الممقوت وتتمتع بنظام الحكم الذاتي. والدول الصغيرة والكبيرة سواء أمام القانون. وقد رؤى أن خير وسيلة
لتجنب الحرب هي إيجاد قانون صحيح يحكم بين الأمم
هذه هي المبادئ التي آتت ثمرها الحرب العظمى بعد توقيع معاهدة السلام في باريس عام 1919 وهي مبادئ قويمة ذات أثر لا ينكر في إسعاد العالم. وقد دافع عنها الرئيس ولسن دفاعاً مأثوراً، ولكن الدول الديمقراطية لم تكن تقدر أن العالم لازالت تحركه المطامع وحب السيادة والسلطان، وأن المبادئ القديمة لازال لها أنصار يتعلقون بأذيالها
وليس هذا هو السبب الوحيد في نشوب الحرب مرة ثانية، ولكنه من الأسباب القوية التي أدت إليها، ونحن لا ندري إذا كانت هذه الحرب ستنتهي بنا إلى الحرية المنشودة، أم أنها سترجع بنا إلى همجية العصور الخالية
لقد وفت الدول الديمقراطية بعهودها التي قطعتها على نفسها في معاهدة فرساي، فأعطت كل أمة الحق في تقرير مصيرها، وبذلت ما في وسعها لحماية الأقليات
أما هتلر فهو في الحقيقة لا يناضل من أجل الحدود التي قررتها هذه المعاهدة، ولكنه يناضل لهدم فكرة الديمقراطية من أساسها.
الفن والحرب
(ملخصة عن (ذي إيفننج نيوس)
يشترك في الحرب الحاضرة عدد كبير من الفنانين رجالاً ونساء، إما بالعمل في ميادين القتال أو المشاركة في الأعمال الأخرى التي تقتضيها الحرب. وقد يجد هؤلاء بعض العزاء فيما يسمعون عن حياة رجال الفكر الذين عاشوا قبلهم في أيام الحروب
هل أسكتت الرحب شكسبير؟ أو أخمدت المنازعات صرخات وجنر الغاضبة، أو أثرت في شجاعة بيتهوفن؟ لا، والحمد لله!
لقد نشأ شوبان في بولندا وهي تناضل بغير جدوى لاستعادة استقلالها، وقد كان في (سنتجارت) حين جاءه نبأ سقوط (وارسو) في أيدي الروس، فكان لهذه الحوادث أثر لا ينكر في شحذ قريحته، وإمداد بالإلهام الصادق والدراسة الرفيعة. فلما رحل شوبان إلى باريس صارت له باريس وطناً ثانياً، وأحلته منها مكاناً مرموقاً لما يحمله الفرنسيون لبولندا من العواطف الجميلة. وقد كتبت جورج ساند التي أحبها شوبان وعاشت بعد وفاته - كثيراً
من مؤلفاتها الرائعة ووطنها فرنسا في حرب عنيفة مع الأعداء. لاشك أن الحرب لم تكن عاملاً مخيفاً في تلك الأيام كما هي اليوم، ولكن مهما تكن الحال فإن الفنانين يشعرون بمآسي الحرب أكثر من سواهم، وهذا مما يزيد ارتباطهم بالعالم إبان الحرب
أخبرتنا (فيولا مينل) في الكتاب الذي وضعته عن أمها، أن (آليس مينل) كانت تشعر بصدمة قوية في أعماق نفسها عند نشوب الحرب. ومع ذلك فقد كتبت آليس الكثير من أرق وأبدع أشعارها في تلك الأيام العصيبة
وقد يتحرك الشعراء بعامل الدفاع عن الحرية كما فعل (بيرون) باشتراكه في الحرب للدفاع عن استقلال اليونان. ومن الشعراء من هزوا النفوس بأشعارهم في الحرب العظمى 1914 - 1918 مثل روبرت بردك، وليم نويل هودجسون، جوليان جرنفيل، سيسيل شسرين، إدوارد توماس. وقد ذهبوا جميعاً ولم يعد أحد منهم إلى عالم الوجود. أما الذين عاشوا ليمدوا العالم بمزيد من أشعارهم فمنهم (سيجفريد ساسون) الذي كتب عن الحرب أشعاراً تعد من الحجج البينات التي ظهرت لتوطيد دعائم السلام
وقد قام كثير من المصورين بأعمالهم الفنية إبان الحرب العظمى ومنهم من كانوا يعملون في ميادين القتال، فأخرجوا للعالم تحفاً من بدائع الفن التصويري، يرمزون بها إلى شتى التجارب والاحساسات التي صادفتهم في حياتهم الحربية
وليس من همنا أن نثبت هنا أن الفنانين يؤثرون موضوع الحرب لإبراز روائع فنهم، ولكنا نرى أن من واجبهم الرسمي أن يهزوا القلوب نحو جانب من الجوانب في أيام الحروب
نساء ستالين
(عن مجلة (باريد) عدد فبراير)
لا تنقطع محاولات اغتيال دكتاتور روسيا ولكنها في أغلب الأحيان تظل في الخفاء. ولما كنت أعمل في قلم الاستعلامات الملحق بالكرملين مقر دكتاتور روسيا، فقد أتيح لي أن أقف على تفاصيل آخر محاولة لاغتياله. وكان عملي في الظاهر يتلخص في إمداد مكاتبي الصحف الأجنبية بالأخبار، ولكن في الواقع كانت مهمتي هي العمل على عدم تسرب الأخبار الخاصة بحياة ستالين الداخلية إلى الخارج. وبذلك تمكنت من معرفة تفاصيل هذه
المحاولة الجريئة التي قات بها فتاة جميلة استخدمها الدكتاتور لتقرأ له الصحف الأجنبية مترجمة
في ذلك الوقت كان الرفيق آبل انيكايدز صديق ستالين الحميم سكرتيراً عاماً للجنة التنفيذية لمقاطعات روسيا البلشفية المتحدة، وبذلك كان يتمتع بسلطة لا تحدها إلا سلطة ستالين نفسه. وكان يخضع له كبار رجال الدولة لإشرافه على موارد الترف ورفه العيش، وحتى ياجودا رئيس البوليس السري السابق كان ينحني له، ويمتد إشرافه أيضاً إلى المسارح والهيئات الفنية، ولذلك كان مطمح أنظار جميلات النساء الراغبات في المجد الفني اعتماداً على موهبة الجمال وحدها. وقد أدى تهافت النساء عليه إلى سقوطه السريع. وفي ذات يوم أبدى الدكتاتور رغبته فيمن يترجم له الصحف الأجنبية؛ فعيّن انيكايدز فتاة جميلة تنتمي إلى أصل أرستقراطي قديم. وفي صباح كل يوم يضطجع الدكتاتور الأحمر على أريكة وتجلس الفتاة على منضدة أمامه تقرأ، ولا يكف هو عن السؤال والتعليق، وبجنبه على منضدة أخرى وضعت أطباق الحلوى والفاكهة وراقت هذه القراءات ستالين وسر بها كثيراً. وفي ذات صباح أمر بقدحين من البن التركي الذي يحبه، وبعد أن تظاهرت الفتاة بتذوق فنجالها قامت فوضعت كمية من السكر في القدحين، وبعد ذلك تناولت القهوة فشربتها؛ أما هو فلم يشرب. وبعد ذهاب الفتاة أخذت القهوة، وبعد تحليلها وجد بها قدر كبير من السم فألقي عليها القبض، وألقيت في أحقر السجون مدة ثلاثة أسابيع، ولكنها لم تعترف بوجود شركاء لها. وأخيراً نفذ فيها حكم الإعدام رمياً بالرصاص بأمر صادر من ستالين نفسه
وقامت الشكوك في نفسه واتهم إنيكايدز بتدبير هذه المؤامرة ولكنه لم يعثر على دليل لإدانته، ولكن هذا لم يعفه من تهمة مد يد المساعدة للأرستقراطيين أعداء النظام البلشفي، فنفي إلى سيبيريا ويشاع أنه لقي حتفه هناك
وقلائل جداً من يعرفون شيئاً عن زوجة ستالين الأولى التي رزق منها بولد يعمل الآن صانعاً في أحد معامل موسكو، متخذاً أسم دجيفاشفيلي، وهو الاسم الأول لأبيه قبل قيام الثورة
أما عن زوجته الثانية فسأحدثكم عنها بإسهاب لأن ستالين يحبها جداً وقد تزوج بها وهي
في الثلاثين واسمها الأصلي اليلوفا وهي ابنة قسيس. وكان زواجه بها غير معروف عند عامة الناس الذين فوجئوا بنبأ موتها في الصحف ذات يوم. ومما زاد في عجبهم الاحتفال بدفنها بمشهد وطني على غير تقاليد البلاشفة، ولما تضاربت الأخبار عن أسباب موتها أوعز إلى أن أذيع لمراسلي الصحف أنها ماتت بسبب التهاب الزائدة الدودية. ولم تكن هذه آخر الإشاعات عن موتها، فذكر أنها ماتت إثر تناول شاي مسموم أريد به ستالين نفسه، وقيل أيضاً إنها انتحرت متأثرة بكثرة الاغتيالات وحوادث القتل التي ارتكبها زوجها، ولكن هاك الحقيقة كما وقفت عليها.
من حين إلى آخر يقيم زعماء البلاشفة حفلات للهو العنيف يحضرها النساء، وتسيل فيها الخمر أنهاراً، وفي حفل كهذا أفرط الدكتاتور الأحمر في الشرب وأخذ يبدي ولعاً مكشوفاً بسيدة خاصة، فأحفظ ذلك زوجته (اليلوفا) التي لم تكن أقل منه سكراً فتشاجرا وصخبت زوجته وهددت بأنها ستنتحر، فهزأ منها ستالين أمام النساء اللائى عيرنها بأنها لن تقدم على الانتحار، فما كان منها إلا أن غادرت القاعة، وعلى الأثر سمع طلق ناري، فهرعوا إلى الخارج ووجدوها ميتة برصاصة استقرت في رأسها.
فتأثر ستالين الصخري الفؤاد بموتها وأظهر جزعاً شديداً، فاقترح الحاضرون دفنها بمشهد حافل تعزية له. فدفنت في قبر فخم بكنيسة العذراء بموسكو، ولا يزال ستالين يتردد على قبرها سراً لوضع باقات الزهور
وقد تزوج دكتاتور روسيا للمرة الثالثة بامرأة من مقاطعة جورجيا ولكنها لم تظهر معه أبداً في المحافل الرسمية، وإن كانت ترافقه إلى دور التمثيل أحياناً.
حسن الظاهر
البريد الأدبي
(أذني زلزلت طربا)
في العدد الماضي من (الرسالة) بدا للصديق الصالح الخاشع محمود محمد شاكر أن ينظر في قصيدة (الناي) التي كنت نشرتها في العدد ألـ 341. وجاء نظر الصديق على شطرين: الأول في علم العروض، والثاني في فن اللغة عامة والمجاز خاصة
فأما قول الصديق إن بحر (المنطلق) الذي وضعتُه إنما هو مجزوء (المتدارك) أو من نحو ذلك فوهم قد سبقه إليه كاتب آخر. وفي هذا المكان من العدد الماضي وقف القارئ على ما يبدِّد ذاك الوهم. ومن الغريب أن كاتباً بمكانة الأستاذ محمود محمد شاكر يخلط (وضع) الشيء بـ (اختراعه). إني لم أخترع البحر يا محمود، بل وضعته. وما أنا بباخل عليك بهذا التبصير ،
وأما الشطر الثاني فمحصور في قول الأستاذ: (ولكن ما بال هذا الصديق (يعنيني) يريد أن يزلزل أُذنه، ونحن لم نفرغ بعد من حديث الزلازل التي هدمت ما هدمت في الأناضول. لماذا أيها الصديق؟ ولماذا تريد أن نشعر أن أذنك وحدها - دون سائرك - هي التي تطرب، ولا يكون طربها إلا زلزلة) أهـ.
ألا إن من مساوئ الإكباب على قراءة الصحف اليومية أن يغلب على الألفاظ المتواترة معنىً يقف الخلق عنده فينسوا مُفاده الأول ويُغفلوا ألوان استعماله في الأدب الموروث بجلاله وثروته. فإن الصديق محموداً قنع بزلزال الأرض، والأناضول من الأرض. كيف فاته أن زلزال الأرض معنى طارئ على زل زل؟ ففي (لسان العرب) ج5 ص327:(وفي الحديث: أهزم الأحزاب وزلزلهم - الزلزلة في الأصل: الحركة العظيمة والإزعاج الشديد، ومنه زلزلة الأرض، وهو هاهنا كناية عن التخويف والتحذير، أي: أجعل أمرهم مضطرباً متقلقلاً غير ثابت). هذا، وفي القرآن نفسه - وهو الحجة العليا في مثل هذه المشكلات - تصيب إلى جانب (زلزال الأرض) و (زلزلة الساعة)(سورة الزلزال، والحج) آيتين إليك حروفهما: (1)(وزلزلوا حتى يقول الرسول) البقرة، (أي (أزعجوا إزعاجاً شديداً مما أصابهم من الشدائد): عن البيضاوي) - (2)(هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً) الأحزاب (أي (من شدة الفزع). وعلى هذا، فإنك ترى أن الزلزلة
تفيد الاضطراب والتقلقل والتحرك، حقيقة ومجازاً، ثم إنها خرجت من ذلك - من باب إطلاق العام على الخاص - إلى المعنى الذي تمهل عنده الصديق، والذي غلب عند عامة الناس لهذا الزمان. ومن ذلك المعنى الأول، وهو الأصل، ما جاء في حديث عطاء:(لا دق ولا زلزلة في الكيل، أي لا يحرّك فيه)، وفي حديث أبي ذرّ:(حتى يخرج من حلمة ثدييه يتزلزل)، (عن (لسان العرب)). وعلى ذلك أيضاً قولهم:(جاء بالإبل يزلزلها: يسوقها بعنف)(عن (أساس البلاغة) مادة ز ل ل). كيف غاب كل هذا عن صديقي والقرآن في صدره والتفسير والحديث واللغة شواغله. هل زلزل (الناي) ذاكرته؟
وقد خطر للصديق محمود - ومحمود كثير الخواطر - أن يقول لي: (لماذا تريد ألا يكون طرب أذنك إلا زلزلة؟). فإني ألوذ بالصبر فأقول: لأن الزلزلة والطرب على مجاورة. مصداق ذلك أن استعمال لفظ الزلزلة للدلالة على الطرب الشديد قديم في أدبنا. ففي (الأغاني)(ط بولاق ج6 ص80): (فتغنيت (والمتكلم إسماعيل بن جامع المغني) بصوت لي. . . فتزلزلت والله الدار عليهم) وفي (الأغاني) أيضاً (ج5 ص24) عند الكلام على غناء إبراهيم الموصلي وضرب منصور زَلزَل بالعود في حضرة الرشيد: (فزلزلا الدنيا)، ومن ذلك قول العرب:(والزُلزُل: الطبّال الماهر)(عن لسان العرب)، ولعل اسم (زَلزَل) المتقدم ذكره من هاهنا كذلك
وأما أن تُزلزَل الأذن من شدة الطرب دون سائر البدن فكلام أُنزله منزلة الدعابة، وإلا فَلْيسْتفسرْ الصديقُ العربَ قولَهم:(تزلزلت نفسه: رجعت عند الموت في صدره)(لسان العرب: ز ل ل)، وقولهم في وصف النزال:(وزلزلت الأقدام من ولولة الأنجاد)((الألفاظ الكتابية) للهمذاني بيروت 1913 ص117 ثم 235). . . إن لكل مقام مقالاً: على هذا تلقَّينا البلاغة!
فالطرب الشديد يزلزل الأذن أية زلزلة حتى إن السامع المطراب يتمنى لو يجنب الناي أو العود خشية الإعياء، كالعاشق أضناه عشقه وعناه فيود لو يفر من معشوقه اتقاء التلف
وإن استكثر محمود زلزلت الأذن أي اضطرابها وتقلقلها ساعة الطرب الشديد، فليسأل صاحب (الأغاني) عن صحة قوله (ج18 ص127): (اندفع عمرو بن الكنات يغني على جسر بغداد أيام الرشيد، فحبس الناس واضطرب المحامل ومدت الإبل أعناقها وكادت
الفتنة تقع). . . ألا إن الطرب لأهله - عفا الله عنهم - وصديقي محمود ربيب بيت صلاح وورع وتحرّج وتقوى وأما أنا فكما قال هو: صاحبُ (مرح وانطلاق إلى سائر هذه الألفاظ الراقصة بألفاظها قبل معانيها) بل إن أهلي أنفذوني إلى باريس يأساً، وفي باريس وغيرها لهوت وعبثت وتلمست الطرب على ألوانه حتى أمست أذني - لا قوّمها الله ولا أصلحها - تنعم بالزلزال
ثم هل الأذن التي تزلزل فوق أقوالٍ للعرب مثل هذه: (طار القلب فرحاً، وخلع الحزن قلبه، ومزق أحشاءه، وفتّ كبده) إلى آخر ما هنالك من التعبيرات التي تذوي اللغة من دونها فينفض لونها
وهكذا ترى أن الأستاذ محموداً خذله الحظ هذه المرة. وذلك لأنه عدّ قصيدة الناي من (الشعر الجديد)، فخف يتلمس في مطاويها النبوَّ. فسقط على مطوي عربي صميم. ولعل الحظ ينصره عند قصيدة خارجة في عدد آت، إذ هي أبعد ذهاباً عن المألوف. وليطمئن الصديق إلى أني لن أجاذبه فيما يدق عن المقاييس القريبة فإنما أكتب اليوم على جهة التسلّي والتلهي
بشر فارس
جواب
عند الأستاذ صاحب الرسالة أخبار وأخبار عن المفتونين والمفتونات بمقالاتي ومؤلفاتي، وهو يتجاهل تلك الأخبار كما أتجاهل، ولكن من العقوق أن أتجاهل الخطاب الوارد من (ليلى من الليالي) على وزن (كاتب من الكتاب) كما تقول تلك الغيداء. ويظهر أن الدنيا بدأت تبتسم للروح الحزين الذي قضى دهره في نضال وصيال
وعطفُ قرائي عليّ هو تلك الابتسامة التي أستعين بها على دفع ظلمات الخطوب، وما خلا دهري من خطوب منذ اليوم الذي تقدمت فيه لرفع راية النقد الأدبي، وعند الله والحق جزائي.
وفي خطاب (ليلى من الليالي) أمرٌ كريم بأن يظل خطابها سرّاً مصوناً، وسيظل كذلك إلى أن ترفع الحجاب وتعترف بأن الأدب كالحب يجوز فيه الافتضاح
نفسي فداء الأنامل اللطاف التي كتبت ثلاث صحائف لتعلن فتنتها بأسلوبي!
وسألني ذلك الروح عن قدوم ليلى المريضة في العراق مع وفد المؤتمر الطبي العربي، وأقول إني انتظرت ليلى في محطة باب الحديد إلى منتصف الساعة الثانية بعد نصف الليل مع الأستاذ عبده حسن الزيات ولم تحضر كما وعدني الدكتور عبد المجيد القصاب، ومن أجل ذلك قضيت أيام العيد وأنا حزين
أما بعد فقد وجب عليّ أن أعلن ثنائي، وأن أقول بعبارة صريحة إن عطفهم عليّ هو أثمن ما ظفرت به في حياتي، ولولا الخوف من حسد الزملاء لقدمت الأسماء الكريمة التي أعلنت رغبتها السامية في أن تنصفني من زماني، وهل يقبل الزيات ذلك وهو يخاف عليّ فتنة الغرور بثقة القراء؟
حَسْبُ الزيات أن يلهو بقراءة ما يصل إليه من أقوال المفتونين بأسلوبي، وأن يحفظها لأطلع عليها حين أشاء، وأن ينشر منها ما يريد، ولكن متى يريد؟
إن لم يصنع فسأنوب عنه وأقول إني كاتب محبوب، والله يختص بكرمه من يشاء
زكي مبارك
حول الكهربائية تعتاد
صديقي الأديب الكبير الأستاذ الزيات
بعد التحية والاحترام طالعت في العدد الأخير من (الرسالة) الغراء ما أشار إليه الدكتور إسماعيل أدهم من تردُّد فريق من الأدباء في تصديق ما ورد في كتابي (آفاق العلم الحديث) عن تجارب تبين أن بعض الأجهزة الكهربائية المعدة خاصة لهذه التجارب تقوم بأعمال من قبيل التذكير والنسيان والتعدد (آفاق العلم الحديث: فصل (دراسة الحياة العقلية بتجارب آلية) صفحة 216 - 223) وقد أنحى الدكتور باللائمة على أولئك الأدباء لترددهم هذا لأن هذه الأقوال (نتائج العلم التطبيقي في أوربا. . . ومع أن هذه المباحث ليست نظرية وإنما هي وليدة التجربة والاختبار، ولاشك أنه ليس للأفكار ولا للمنطق أن ينازع في حقيقتها مادامت التجربة تثبتها)(الرسالة العدد 343 الصفحة 196)
ومن لطف الاتفاق أنني تلقيت أمس بالبريد الأميركي جزء يناير من (المجلة العلمية
الشهرية) بعد مطالعة كلمة الدكتور أدهم في (الرسالة) الغراء، فقلبت صفحاتها وإذا صورة الدكتور هَلْ (وهو الذي عزيت إليه هذه التجارب) في رأس الصفحة التاسعة والثمانين منها. وقد نشرت هناك لأنه كان رئيساً لقسم علم النفس (السيكلوجيا) في مجمع تقدم العلوم الأميركي في مؤتمره الأخير. وعلى هذا أيجوز أن نهمل ما يقدمه أستاذ علم النفس في جامعة (بيل) ورئيس قسم علم النفس في (مجمع تقدم العلم الأميركي)؟
إنني أعلم أن الشك أول مدارج اليقين. ولكن هذا الشك يجب أن يستقيم على تقصي الموضوع فيفضي إلى توضيحه بالبحث الدقيق. أما أن نغفل ما يقدمه أساطين العلم الحديث أو أن نتردد في قبوله لأن قولهم لا يوافق هوى في النفس، أو لأنه لا يساير فكرة سنحت في الذهن، فذلك دليل على الضعف والتصلب وأي تفكير صحيح يقوم على هذين الأسَّين؟
ولست أعلم من هم الأدباء الذين أشار إليهم الدكتور أدهم في كلمته ورد عليهم. وإنما استرعى نظري قوله في ما بين العلم والثقافة الصحيحة من صلة موثقة. فاسمحوا لي أن أشير في هذا الصدد إلى فصل نفيس في (ضآلة ثقافتنا العلمية) حواه كتاب جديد للدكتور قسطنطين زربق، أستاذ التاريخ الشرقي في جامعة بيروت الأميركية عنوانه (الوعي القومي)
وتفضلوا بقبول مودتي واحترامي
فؤاد صروف
هل في الإمكان زيادة بحر جديد في العروض؟
إن البحور المعروفة في علم العروض العربي، هي البحور الممكن تأليفها فعلاً من التفاعيل التي تجيء في لغة العرب. وأساس هذا الكلام لا يتعدى معرفة التفاعيل وصيغها التي تجيء في العربية، ثم تركيب الأبحر الممكن مجيئها منها على أساس حسابات الأمثال. والنتيجة أنه لا يمكن زيادة بحر جديد مستقل على البحور المعروفة في علم العروض، وإن أمكن استحداث تركيبات في أجزاء هذه البحور. ولأحد المستشرقين الروس بحث مستفيض في هذا الشأن، نال عليه إجازة الدكتوراه من لينغراد
(الإسكندرية)
إسماعيل أدهم
(يوم سعيد)
إن صناعة السينما في مصر قد نشطت وجدَّت وأخذت تتلمس طرق الفن الصحيح. وهي تخفق مرة وتفلح مرة، ثم إنها أدركت أنه لابد لها من استيفاء العدة على توزع نواحيها: من تصوير وتمثيل وغناء ورقص إلى جانب القصة نفسها.
بدا لنا هذا بمناسبة عرض فلم الأستاذ محمد عبد الوهاب الجديد وهو (يوم سعيد)، ولاشك أن هذا الفلم يدل على تقدم ملموس في صناعة السينما المصرية. فقد وجدنا القصة متساوقة الأغراض لا تبث الملالة والمضايقة في أنفس النظّارة كمعظم القصص التي تعرض هنا. وأما التمثيل، فكان على الغالب غاية في البساطة، فلا تكلف في التعبير، ولا إفراط في الأداء. وكان الإخراج لطيفاً، فيه تبصر وترفق.
وقد جلب المخرج الأستاذ محمد كريم أوجهاً جديدة وعرفها إلى الجمهور. وأنصع هذه الأوجه وجه الفتاة (فاتن حمامة). فكثيراً ما حبست الأنفاس، وحركت القلوب، ومدت الأعناق وهزت الشفاه بالابتسام الرقيق. وكان الأستاذ فؤاد شفيق بارعاً في تمثيل المصري المرح صاحب النكتة المستملحة والقلب الطيب الساذج. وفي الفلم مشاهد كثيرة طريفة. وفيه مشهدان محكمان: الأول إذ تؤدَّى قطعة من مسرحية (مجنون ليلى) لأمير الشعراء أحمد شوقي، وقد جاءت على سبيل التخيل الطريف. والثاني حين يبيع الأستاذ عبد الوهاب الوان الزهر في ظرف أخاذ
بقي الغناء، وقد جاء على لونين: لون الأغاني الشعبية وفيها الشجي المقيم والنغم المحبب إلى نفوس العامة. ولون التلاحين الرفيعة الخاصة بالشعر الرائع الجميل. وفي هذا اللون الأخير بلغ الأستاذ محمد عبد الوهاب مبلغاً فنياً رفيعاً. وحسبه تلحينه الحوار الذي يجري بين قيس وليلى في الصحراء. وقد فطن هنا إلى أن يكف عن المزج المباشر بين النغم العربي والنغم الإفرنجي. وأنا لنرقب من الأستاذ محمد عبد الوهاب مثل هذا التلحين الحسن فنهنئ ممثل الفلم ومخرجه بهذا التوفيق ونرجو أن نعود إلى الحديث عنه مرة أخرى
معنى بيت في الحماسة
في صفحة (81 و82) من الجزء الثاني من كتاب ديوان الحماسة (الطبعة الثالثة) الأبيات الآتية وهي من شعر لعبد الله ابن الدمينة الخثعمي:
ولما لحقنا بالحمول ودونها
…
خميص الحشا توهي القميص عواتقه
قليلُ قَذى العينين يُعلم أنه
…
هو الموت إن لم تُصْرَ عنَّا بوائقُه
عرَضْنا فسلّمنا فسلّم كارهاً
…
علينا وتبريحٌ من الغيظ خانقهُ
وقد جاء في شرحها: (ومعنى الأبيات الثلاثة ولما لحقنا بالهوادج التي فيها الحبيبة وخلفها قيم خفيف اللحم لا يقع القميص من عاتقه على لين وطئ لأن عظامه غير مكسوة باللحم وذلك القيم حاد النظر ليس بعينيه قذىً شديد الغيرة على أهله فنحن من شدة صولته نعلم أنه الموت إن لم تهلكنا دواهيه دنونا منه الخ)
وإني أرى أن الشارح (العلامة التبريزي أو غيره) يشرح جملة (يعلم أنه هو الموت إن لم تُصرّعنَّا بوائقه) بأنه الموت إن لم تهلكنا دواهيه فهو يقابل (تُصرعنَّا) بكلمة (تُهلكْنا) وهذا غير صحيح لأن (تُصرعنَّا) بضم التاء لا يمكن أن يكون معناها تهلكنا وإذا فرضنا أنها (تَصرَعنَّا) بفتح التاء فمعنى الشعر لا يستقيم إذ كيف يكون هو الموت إن لم تهلكهم دواهيه! ولم تكن جملة (إن لم تهلكنا دواهيه) مسبوقة بواو الحال فتفهم أنها جملة حالية!
فالحقيقة أن (تُصرَعنَّا) كلمتان (تُصْرَ) و (عَنَّا) وتُصْرَ فعل مبني للمجهول مجزوم بحذف حرف العلة من صرى أي حبس أو منع. وهنا يستقيم المعنى ونفهم أن الشاعر إنما قصد تشبيه ذلك القيم بالموت إن لم تتلطف بهم المقادير وتحبس أو تمنع عنهم دواهيه.
(الخرطوم بحري)
ا. م. س
(الرسالة): أصاب الكاتب وأخطأ الشارح الذي نقل عنه، وهو غير التبريزي من غير شك؛ فإن التبريزي يقول في شرحه:(يصفه بحدة النظر، وأنه ليس بعينه غمص فهو أحدُّ لنظره؛ وإنما يريد مراعاته أهله لشدة الغيرة، فنحن نخاف من صولته إن لم تُصْرَ عنا، ويروي إن لم تلْق عنا)
ورواها صاحب الأمالي ج1 ص156 وفيها (إن لم تُلْقَ) وذكر البكري في شرح الأمالي رواية أبي تمام في الحماسة ثم قال وروي: (وإن لم تُسْرَ عنا بالسين والصاد)
وقوله (تصر عنا)، من قولهم (صَرَى الشيء صرْياً قطعه ودفعه، وصرى الله عنك شر فلان أي دفعه يقول ذو الرمة
فودّعنَ مُشْتاقاً أصبنَ فؤاده
…
هَواهن إن لم يَصرِهِ الله قاتله
وروايتهم (تسر عنا) من قولهم سروت الشيء إذا نزعته وكشفت عنه ومنه قولهم سُرِّيَ عنه تجلى همه وانكشف
الكتب
وحي الرسالة
من واجب (الرسالة) أن تنشر ما يتفضل به عليها الأدباء الزملاء والأصدقاء من صادق النقد وجميل الرأي في كتاب (وحي الرسالة) تسجيلاً للفضل منهم وللشكر منا
قال الأستاذ مصطفى الصباحي في جريدة (الدستور):
كتاب أخرجه للناس الأستاذ أحمد حسن الزيات، وهو جملة من مقالاته التي كان يصدر بها مجلته (الرسالة) كل أسبوع جمعها بين دفتي هذا الكتاب؛ فكان كأنما انتقى من روضة مونقة الربيع أزهاراً ذات أرج خاص في باقة واحدة علم رغبة الناس في تنسم عبيرها، فيسر عليهم سبيل اقتنائها وتشممها والإفادة بما يستروحون له من عبقها دون كبير سعي أو عظيم جهد
وللأستاذ الزيات أسلوب يتميز به على كثير من كتاب العصر، وسياقة لن تجدها لكاتب من أهل العصر، وتفتقدها من لدن ازدهرت اللغة وعمت آدابها في العصر العباسي حتى الآن، فلا تجد إلا نفحات مبعثرة في تاريخ أدبها لا صلة بينها وبين بعضها، فذلك كاتب وقعت له عبارة جزلة، وهذا خطيب أنفق له معنى فحل، وغير هذين جمعت له بعض ألوان من فنون العبارة أو بلاغة المعاني
ولكن قلما وقعت على كاتب وفق في الغابتين فامتلك ناصية العبارة وبرز في خلق المعاني
فأنت إذن حين تقرأ للزيات إنما تجتمع لك طلاوة العبارة وجمال المعاني، وتلك هي الغاية التي تنتهي عندها آداب الكتاب وتقف دونها ملكات المبرزين من أرباب الأقلام
وفي زماننا هذا قل أن يعني الكاتب والقارئ إلا بما وراء اللفظ، فإذا برز إنسان في إيراد المعاني الجليلة واتفقت له سلسلة من الآراء والأفكار القويمة تجاوز النقاد من أهل العصر عن ركاكة عبارته وفساد سياقته
ولقد كنت أعجب للتيار الذي نساق إليه هذه الأيام من إهمال الجانب الأدبي في التحرير، وكنت أرجو أن تنقشع تلك الغمة التي دعيت (تجديداً) وهي ليست من التجديد في شيء. . . إذ قنع المنشئون بمحاكاة أهل الغرب في أخيلتهم والأخذ عنهم في إيراد الأحاديث وتقليدهم في الأوصاف ونحوها من فنون الكتابة دون إعارة أصول الأدب العربي شيئاً من
عنايتهم، حتى ذهب كبير من أعلام دولة القلم يتحدث إلي في مجلس خاص فيقول إن اللفظ للمعنى كالثوب على الرجل، فهو إن كان رجلاً فاضلاً لم ينتقص خلق ثوبه من فضله، وإن الرجل مهما يكن لباسه شريفاً ولكن نفسه فقيرة من الفضل وقلبه خلى من العلم لا ينفعه اللباس في شيء!
وعلى الرغم مما في ظاهر هذا القول من تعبير حق عن جوهر الموضوع فإن اللفظ الشريف يزيد المعنى الجليل شرفاً، كما يسبغ الثوب الكريم على الرجل العظيم مهابة ويزيده توقيراً ويكون أدعى إلى احترامه لدى غشيانه المجلس
فإن أول ما يطالبك من الرجل لباسه، وأول ما يفاجئك من المعنى ظاهر لفظه. ورب معان كريمة ضاعت لسوء صياغتها وركاكة أسلوبها. ورب مقالة خلدتها الرواية لطلاوة السياق وبلاغة الإيراد ورقة الحاشية
والزيات كاتب جمعت له إلى رصانة الأسلوب ووضوح السياق حلاوة المعنى، وبلاغة العبارة. ولعله في ذلك متميز بالجمال في الناحيتين. ذلك الجمال الذي تلمس منه ميلاً إليه في شتى صوره وتفصيلاً له في جميع معانيه. فأنت أول ما تطالع من كتابه الجديد مقالة (في الجمال)، فهو يحدثك في هذه المقالة عن الجمال حديث الشاعر الملهم، والكاتب الصادق الحس، ورجل الفن الذي استغرق الفن مشاعره واستجاب لحاسته الفنية الدقيقة.
فهو بهذه الصفات كلها يقولك:
(الطبيعة والفن إنما يحدثان أثرهما في النفس، إما بالفكرة وإما بالعاطفة وإما بالشعور الصادر عن آلات الحس، ومن ذلك تنوع الجمال، فكان عقلياً وأدبياً ومادياً).
هذا مذهب يذهب إليه الرجل وهو يتحدث لا بعقله وحده وإنما بحسه أيضاً، ذلك الحس الذي يشعر بالجمال ويقدره، يشعر به جمالاً عقلياً وأدبياً ومادياً لا يخطئ في الشعور به ولا يغفله في أية صورة ظهر أو خفي. . . وآية ذلك أنه يقول بفعل ذلك الإحساس وحده: (وجمال المرأة يحتفظ بدوامه وسحره مادامت له روح العاطفة تشع في نظراتها، وتنسم في بسماتها، وتشيع في قسماتها، وتنشر أضواءها السحرية على أعصاب الرجل - وهو بطبعه ولوع - فيتمتع بنعمة اختياره ولذة إيثاره، ويجد في الضعف الذي يستسلم ويستكين، الحب الذي يطول ويحكم. .
ثم إن الأستاذ الزيات يتحدث إليك بعد هذه المقالة عن (الربيع) فإذا هو يقول (ففي الربيع يشتد الشعور بالجمال والحاجة إلى التجمل، فترى الشباب بجنسيه يستعير ألوان الرياض وعبير الخمائل ومرح الطيور، ويحتشد في دور الملاهي وصدور الشوارع، فيخلع على الوجود وضاءة الحسن، وعلى الحياة رونق السعادة)
وفي المقالة الثالثة يتحدث الأستاذ عن العيد فيقول: (والأعياد الأجنبية التي تشهدها مصر في ذكرى الميلاد ورأس السنة غاية في نعيم الروح والجسم، وآية في سلامة الذوق والطبع، وفرصة ترى فيها القاهرة - وهي منفرجة - كيف تفيض الكناس بالجلال، وتزخر الفنادق بالجمال، وتشرق المنازل بالأنس. . . الخ)
ألا ترى أن في ولوع الأستاذ الزيات بالحديث عن الجمال وتحليل مذاهبه وترديد أوصافه ما يهديك إلى سر ذلك الأسلوب الرائق الجميل وتلك الديباجة الموشاة البديعة؟
ثم ألا ترى في طريقة أخذه الموضوعات أخذاً منطقياً يشرف به الأسلوب ما يدل على ملكة مطواعة وبديهة مواتية ومقدرة على الترسل فذة عجيبة!
وصل (وحي الرسالة) إلى يدي أمس وكنت قد طالعت فصولاً مما احتوى نشرت قبل في الرسالة، وفيه فصول فاتتني قراءتها، وإني لشديد الحرص على ألا تفوتني، ولكنني تعجلت إرسال هذه الكلمة إيماء إلى فضل الكاتب وعظيم يده على الأدب العربي في العصر الحديث. والكتاب يعد جوهرة نفيسة دائمة الإشراق لا تخلق ديباجتها ولا يخبو بريقها؛ فهي ذخر مقتنيها ومتاع روحه
مصطفى الصياحي