الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 345
- بتاريخ: 12 - 02 - 1940
الموظفون والناس.
. .
ابتليت في هذه الأيام أن أختلف إلى بعض الوزارات في شأن من شؤون الرسالة. وأشيد الأمور على نفسي أن أغشي دواوين الوزارة أو أقسام الإدارة، لأني اعتقد كما يعتقد أمثالي من السوق الأحرار أن الحكومة من الأمة بمثابة الرأس من الجسد، فيه التفكير والتدبير والقيادة، وليس فيه الاختيال والشموخ والسيادة. ولكن الحكومات في أمم الشرق لا تزال تعتقد أن الرأس معناه أن يوضع فوق الجسم ليسمو على أعضائه ويعيش على غذائه. فإذا دخلت دورها لا تجد فيها الروح الوطنية التي تبعث الحياة العامة، ولا الفكرة الاجتماعية التي تدير المنفعة المشتركة، وإنما تجد بها مظاهر شتى للسلطان الجبار والبيرقراطية الصلفة تعطل معنى الإصلاح وتبطل حقيقة العدالة.
ترى أول ما ترى من الشرطة والسكرتيرين والحجاب والسعاة يسد أبواب المكاتب، ويملأ مدارج الطرق، ويشغل فراغ الحجر؛ وهذا الجيش الذي يكلف الخزانة لا ادري كم من المال لا عمل له إلا بث الرهبة وإظهار الأبهة والحيلولة بين الناس وبين القائمين على (مصالحهم) من أولي الأمر. فإذا ساعفتك الفرصة أو ساعدتك اللجاجة فنجوت من شراسة الشرطي أو الحاجب، وخلصت من غطرسة السكرتير أو الكاتب، دخلت على الموظف الكبير بهواً كأبهاء القصور، فرش بالطنافس وأثث بالأرائك وزين بالتحف وأدفئ بالكهرباء وقام في صدره الحالي طرفة من طرف الأثاث يقولون إنها مكتب، ومن وراء هذا المكتب الفاخر كرسي وثير متحرك جلس عليه الموظف العظيم وثيابه تكاد تنشق من ورم الكبر ونفخة السلطة، فلا تستطيع من رهبة السلطان أن تكلمه، ولا يستطيع هو من عزة المنصب أن يكلمك.
هذه المظاهر القائمة على السرف والترف يجب أن تزول أو تخفف، لأنها تحيط الموظف بجو من العظمة المستعارة تزور له ذاته، وتفسد عليه حياته، وتجعل ميزانه الاجتماعي منصوباً على ضميرين مختلفين: يزن في بيته ولنفسه بضمير، ويزن في الديوان وللناس بضمير. ويا ويل ذي الحاجة إذا دخل على الموظف مكتبه وليس منسوباً إليه ولا معروفاً لديه ولا موصى به! أنه لا يجد إلا النظرة القاسية، والكلمة الجاسية، والإشارة المهينة، والهيئة الوقحة التي تصرخ في وجهه بهذه الجملة:
يا بعد ما بيني وبينك! أنا حاكم وأنت محكوم، وأنا (ميري) وأنت (براني). فإن احتمل
المسكين الهون وقف على مضض، وإذا ملكته الحمية انصرف على شجار!
لقيت منذ يومين في فناء الوزارة الفلانية صديقي فلاناً المهندس المقاول خارجاً يزجر من الغيظ وينتفض من الغضب. فقلت له وأنا أربت على كتفه:
- كفاك الله الشر! ماذا بك؟
فقال بصوت يتفجر بالسخط ويتهدج من التأثر:
- والله يا أخي ما أدري أنحن عبيد الموظفين أم نحن وهم عبيد القانون؟ هذا فلان بك. .
- فلان بك؟! إنه الرجل الذي أقصده الساعة في مسألة عامة
- تعال تعال! لا خير في لقائه اليوم. لقد تركنه يفور على الكرسي فوران القدر على الموقد
- ولم كان ذلك؟
طلبت الإذن عليه لأشكو إليه خلل إدارته وإهمال مرءوسيه، فإن لي عملاً يدخل في اختصاصه مضى عليه سنتان، وكان يكفي لإنجاز يومان، فأهملني عند سكرتيره ساعة ثم خرج غير آذن ولا معتذر. فانصرفت خجلان من سوء ايظن بي مدير مكتبه، ثم عدت إليه يوما آخر وطلبت إذنه مع الطالبين وفيهم كما علمت النائب والصاحب والقريب، فدخلوا وخرجوا، ثم دخل قبلي من جاء بعدي، حتى لم يبق في شرف الانتظار إلا أنا ورجلان من أصحاب العمل. حينئذ قال سكرتيره: أن البك مشغول بقية الوقت! فثار في وجهي الدم، وطغى في رأسي الغضب فاقتحمت عليه الباب وقلت له من غير اعتذار ولا تحية: يا سيدي البك! ربما كنت أنا الزائر الوحيد الذي زارك اليوم لعمل من الأعمال التي تجلس لها وتؤجر عليها، فلم يكن من اللائق بأمانة المنصب أن تحجبني مرة بعد مرة لتستجيب إلى طلاب الشفاعات والوساطات من ذوي الصداقة والقرابة.
فحملق البك في وقد استشاط وبربر وصاح: من أنت ومن أذن لك بالدخول؟ فقلت له: أنا فلان! سرى من سراة البلد، وثروة من ثروات الأمة. نشأت في مهد العدم، ثم تعلمت للعمل الحر، وضربت في سبيل العيش الكريم من أفق إلى أفق، حتى أصبح عملي الناجح مرتزقاً لمئات من الأسر العاملة، وأصبحت - وأنا لا أزال في شباب الكهولة - ذا خمسين ألف جنيه ورتبة. أما أنت فالكبير الصغير! كبرك المنصب والمرتب اللذان أدركتهما بمضي المدة، وصغرك العجز والكسل اللذان كشفاك في إدارة العمل. أن سلطان الوظيفة يا سيدي
عرض منفك ومتاع زائل. فإذا شئت أن تعرف أين أنت مني فدع منصبك الحصين وادخل معي في غمرة الدنيا وزحمة الناس، ويومئذ نرى أينا يوطأ بالأقدام، وأينا يرفع على الرؤوس. . .
وهنا رأيت الرجل يكاد يتمزع من الغيظ فأهوى بيده على أزرار الأجراس فصلصلت جميعاً، وقال لحجابه وسعاته: أخرجوا هذا. . . من هنا. فأخرجوني على حال من الهوان لا يصبر عليها إلا رجل حازم أمام موظف أحمق.
فقلت له ونحن نمشي الهويني في طريقنا إلى البيت: هون عليك يا صديقي فإن أكثر الموظفين حالهم مع الناس كحال هذا الموظف معك.
أيها القلم!
لشد ما أتمنى على الله أن يجعلك في يدي سناناً يخز، ومعولاً يهدم! لقد عجزنا يا قلم وعجز الكلام!
أحمد حسن الزيات
اللعب
للأستاذ عباس محمود العقاد
قلتم في مقالكم الجميل (الحياة جميلة):
(. . . ولكن جمالها يقتضي أن يكون لنا زعماء للهو يصححون إدراكنا للحياة، ويرهفون أذواقنا للجمال، ويهيئون قلوبنا للسرور، ويشغلون أوقات فراغنا بالمسابقات الرياضية، والمهرجانات الوطنية، والسياحات النهرية، والملاهي الفنية، والمواكب الشعبية. وليس أقدر على هذه الزعامة اليوم من وازرة الشؤون الاجتماعية)
كلام صديق
وربما كان أرفع من تقريظه بوصف الصدق تقريظه بوصف الجمال. فليس كل صادق بجميل
لكن كم منا نحن المشارقة، يا أخي، يؤمن معك بحاجة اللهو إلى زعامة، وحاجة الأمة إلى لهو؟
وكم منهم يؤمن معك بأن زعامة اللهو واللعب لها من الشرف والمنفعة كفاء ما للزعامات في الجد أو في الأمور التي تتراءى صيغة الجد عليها؟
أقل من القليل
أقل من القليل مع هذه الوقائع الناطقة التي تتوالى عليهم كل يوم بفضل الأمم التي تحسن اللهو واللعب على الأمم التي تتكلف التزمت والوقار.
وأقل من القليل مع تلك الشواهد التاريخية التي ليس بعمى عنها ذو بصيرة تشهد في الدنيا شيئاً من الأشياء.
فما عرف التاريخ قط أمة أحسنت الجد ولم تحسن اللهو واللعب وما عرف التاريخ قط أمة من أمم القوة والسيادة لم تكن لها ألعاب لم يكن لها زعماء في هذا المضمار.
وناهيك بالرومان وملاعبهم في كل مدينة وضعوا حجراً في بنائها.
وباليونان ومحافلهم القومية التي كانت تتعاقب كل عام أو بضعة أعوام.
وبالفرس ومواكب الكرة والصولجان، والعرب وميادين الفروسية ومنازه الصيد والقنص وما اقتبسوه من سائر الأمم والدولات حيثما ارتفع لهم عرش واستقرت لهم إمامة
أما في التاريخ الحديث فيوشك أن يكون السبق في مضمار اللعب قريناً بالسبق في مضمار السيادة. ويصدق من يقول أن بريطانيا العظمى تفردت بالسلطان العالمي يوم تفردت بالسبق في ألعابها، وشوركت في ذلك السلطان يوم شوركت في تلك الألعاب.
فاللعب هو فيض الحياة.
ولن تكون سيادة بغير حياة أولاً. . . ثم فيض في الحياة بعد ذاك
لا يلعب الإنسان وهو عليل
ولا يلعب وهو محسور مغلوب
ولا يلعب وهو مسلوب المشيئة
ولكنه يلعب حين يصح، وحين يفرح، وحين يملك زمامه فيشاء ويفعل ما يشاء
فاللعب والحياة الفائضة صنوان، والسيادة والحياة الفائضة لا تفترقان
لكنهم ضعفوا في الشرق فلم يفقهوا لغة الحياة ولم يلحنوا ما تقول حين تتكلم بكل لسان
رأوا الطفل يلعب وهو قليل العقل
ورأوا الشيخ يتجنب اللعب وهو كثير العقل أو كثير الاختيار فحسبوا أن اللعب ونقصان العقل متلازمان، وإن الوجوم من اللعب ورجاحة العقل مترادفان.
فأخطئوا
أخطئوا في الفهم كما أخطئوا في الشعور
فما لعب الطفل لأنه اقل من الشيخ عقلاً، ولكنه لعب لأنه أوفر نصيباً من جدة الحياة
وما تزمت الشيخ لأنه أعقل من الطفل، ولكنه تزمت لأنه أعجز منه وأدنى إلى الموت
ولو اجتمعت للشيخ حكمة السن وجدة الطفولة لما منعته والحكمة أن يلعب ويلهو، ولعلمته بعد ذلك كيف يفتن في لعبه ويزيد في لهوه، ويبز فيهما الأطفال والشبان.
ورأوا المجنون يلعب والعاقل لا يلعب مثله فجزموا باتصال الجنون واللعب كما جزموا باتصال العقل والسكون.
أخطئوا
أخطئوا في الفهم كما أخطئوا في الشعور
لأن المجنون يلعب من فرط الطلاقة لا من ذهاب لبه واختلاط فكره
وآية ذلك أن بعض المجانين يفقدون اللب والصواب ولا يلعبون، بل ينوحون ويتخبطون ويبتئسون، لأن جنونهم يسلمهم للخوف والفزع ولا يسلمهم للطلاقة والمراح.
فهل يقال انهم إذن أعقل من العقلاء الذين يلعبون حيناً بعد حين؟
كلا. بل يقال أن الطلاقة تلازم اللعب في كل حين. . . أما الجنون واللعب فلا يتلازمان.
وينبغي أن نفرق هنا بين اللعب الذي نعنيه، وبين ما يلتبس به في بعض ظواهره ودواعيه
فاللعب الذي نعنيه غير التسلية
واللعب الذي نعنيه غير الرياضة
لأن الورق والنرد والشطرنج تسمى ألعاباً ولكنها لا تحتاج إلى فيض حياة ولا إلى تمام الشعور. بل لعلها تحتاج إلى الكسل والراحة والفتور، وهي في لبابها شغل من الأشغال ولكنه شغل فراغ.
ولأن الرياضة وسيلة إلى غيرها في كثير من الأحوال، فهي بين رياضة تراد للحرب، ورياضة تراد للعلاج، ورياضة تراد لاحتمال المشقات، ورياضة تراد للتجميل والتقويم.
أما اللعب الذي نعنيه فهو التعبير الملازم لحالة الفيض والإشراق فلا يراد بعد ذلك لغرض من الأغراض
هو شيء كلمعان الزجاج حين ينتفى عنه الكدر وينجلي عنه الغشاء.
فلا يقال أن الزجاج يلمع لهذا الغرض أو لذاك، ولا يقال أن اللمعان وسيلة مقصودة ليبيعه البائعون ويشتريه المشترون ويصنعه الصانعون.
وكل ما يقال أنه يلمع لأن اللمعان طبيعة فيه، وشعاع من نوره السابغ عليه
وعلى هذا المعنى يدخل في باب اللعب ابتكار الفنان، ووحي القريحة، وتوقان النفوس إلى العظائم، وغرام العقول بالكشف عن المجهول، ولألاء الجمال في الوجوه، ولألاء الجمال في الأرواح.
وعلى هذا المعنى كذلك يعم اللعب فطرة الحياة حيثما وجد الأحياء.
فهو في الطير المغرد، وفي الحوت السابح، وفي الحيوان الطافر، وفي كل ما يفيض بحياته فيندفع في ألعابه، ويوشك أن يخرج من إهابه.
أما التسلية فليست من الفطرة
وأما الرياضة فجانب فيها من الفطرة وجانب من ابتداع الجماعة الإنسانية.
وليس اللعب الذي نعنيه تسلية ولا وسيلة اجتماع.
وإنما هو تعبير لحياة كلما امتنع الحائل بينها وبين التعبير
وتبحث يا أخي عن زعامة للعب واللهو بين المشارقة (الموقرين)!
أعانك الله!
أتسبق الرياسة المرؤوسين؟
أم يسبق المرؤوسون الرئيس؟
علمهم أن يفهموا اللعب على معناه وأنت في غنى بعد ذلك عن تعليمهم معنى الجد أو تعليمهم معنى الحياة، وفي غنى عن انتظار الزعماء وهم ما امتنعوا قط حيث وجد المستحقون لزعامة زعيم.
عباس محمود العقاد
حول استقلال الكلمات في المعاجم
للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك
لا أزال أتذكر الحيرة الشديدة التي تملكتني عندما تصفحت المعاجم العربية الحديثة قبل سنوات. فقد كنت أريد تزويد ابني بمعجم صغير يرجع إليه في معرفة معاني الكلمات من جهة، ورسم حروفها من جهة أخرى؛ فاستشرت جماعة من معلمي العربية وعلمائها عن أحسن المعاجم المختصرة التي تحقق هذا الغرض. . . غير أني، عندما قلبت صحائف المعاجم التي دلوني عليها وقعت في حيرة، إذ وجدتها جميعها مرتبة على نمط المعاجم القديمة، وسائرة على خططها، لأنها ترتب الكلمات بحسب موادها الأصلية، ولا تراعي ترتيب الحروف الهجائية إلا في تلك المواد. . .
وحيرتي هذه تحولت إلى دهشة شديدة عندما أفضيت بها إلى جماعة المعلمين والعلماء، ووجدتهم يحارون لحيرتي ويستغربون لاستغرابي، كان الأمر من الأمور الطبيعية التي لا داعي للحيرة فيها، ولا مساغ للاعتراض عليها. . .
ودهشتي هذه وصلت إلى أقصى حدودها عندما رأيت هؤلاء ينبرون للدفاع عن خطط تلك المعاجم. . . إذ قال أحدهم:
- ولكن اللغة العربية لا تشبه سائر اللغات. . .
وقال آخر:
- إن طبيعتها تختلف عن طبيعة تلك اللغات. . .
وما كدت أستفيق من الحيرة التي أوقعتني فيها هذه الكلمات حتى همت بالرد قائلاً:
- وما علاقة المعجم بطبيعة اللغة؟ إن الغرض من المعجم هو ترتيب الكلمات ترتيباً معقولاً، يضمن الوصول إلى إيجاد الكلمة المطلوبة بأعظم ما يمكن من السرعة والسهولة. ولا شك في أن هذه السرعة والسهولة لا تحصلان إلا بترتيب الكلمات بحسب حروفها الهجائية، ومن البديهي أن هذه ليست من الأمور التي تختلف بين لغة وأخرى بوجه من الوجوه.
غير أن معلماً ثالثاً اشترك في البحث سائلاً:
- يعنى، تريد أن تكتب مثلاً كلمة الاستغفار في مادة الألف، وكلمة الغفران في مادة الغين؟
قلت بدون تردد: نعم
فقال المعلم بلهجة المؤمن المعتقد الذي يثورعلى أمثال هذه البدع:
- ولكن هذا لا يجوز في اللغة العربية. . .
فسألته: لماذا؟
فأجابني بحيرة ظاهرة:
- لأننا إذا فعلنا ذلك لا يتعلم الطلاب، مثلاً، أن الاستغفار من باب الاستفعال، وأن مادته الأصلية هي غفر. . . فحاولت أن أقنع مخاطبي ببعض البراهين، فقلت:
- أن لتعليم هذه الأمور ألف وسيلة ووسيلة. . . حتى إن المعجم الذي أتصوره وأقترحه يكون - هو أيضاً - من أحسن الوسائط لذلك: يدرج القاموس كلمة الاستغفار في المحل الذي يتطلبه ترتيب حروفها الهجائية، ويذكر بجانب الكلمة مادتها الأصلية. . . فيجد الطالب الكلمة في المعجم بكل سهولة، ويتعلم - في الوقت نفسه - من قراءة ما كتب عنها أن مادتها الأصلية هي غفر، وأنها تدل على طلب المغفرة. . .
سكت مخاطبي كما سكت زملاؤه. غير أنني لمحت في أعينهم ما يدل على أن هذا السكوت لم يتأت من الاقتناع، بل تأتى من الاعتقاد بأن كل اعتراضاتي هذه ما هي إلا نتيجة عدم إلمامي بقواعد العربية الإلمام الكافي، وعدم فهمي لخصائصها الفهم اللازم. . .
مضى على هذه المناقشة أكثر من عشرة أعوام. . . ثم عدت إلى قضية المعاجم - في هذه الأيام - مرة أخرى، وعلمت - في حيرة جديدة - أن اللغة العربية لم تحظ إلى الآن بمعجم عصري بالمعنى الذي يفهم من كلمة المعجم في جميع لغات العالم. . . كما علمت بأن المجمع اللغوي الملكي نفسه لم يقدر أهمية هذه القضية حتى قدرها، ولم يدخلها في عداد الأعمال التي يسعى لتحقيقها. . .
فرأيت من الواجب على أن ألفت أنظار علماء العربية ومعلميها إلى هذا الأمر إلهام من فوق منبر (الرسالة) الغراء، وأن أدعوهم إلى العمل على إزالة هذا النقص الفادح.
أن المعجم بمثابة مخزن للكلمات، معد لمراجعة جميع الناس، بحيث يستطيع كل شخص أن يدخل هذا المخزن فيتناول منه الكلمة التي يقصدها، دون أن يحتاج إلى مساعدة أحد يدله على موضعها. . . ولهذا السبب تصنف الكلمات في هذه المخازن العامة تصنيفاً يضمن
إيجاد ما يراد منها بأسرع الطرق وأسهلها. ولهذا السبب يختلف التصنيف المعجمي عن التصنيف الصرفي والنحوي اختلافاً كلياً، ويكون هذا التصنيف ألفبائياً - بوجه عام - لكي يستطيع كل فرد أن يجد أية كلمة من الكلمات فيه، بمجرد تذكر ترتيب الحروف الهجائية في الألفباء. . .
غير أن المعاجم العربية تشذ عن هذه القاعدة العامة شذوذاً غريباً، لأنها تصنف الكلمات تصنيفاً مفعماً بالالتواء والتعقيد، بحيث لا يستطيع أحد أن يجد كلمة من الكلمات إلا إذا عرف - مقدماً - مادتها الأصلية وكيفية اشتقاقها من تلك المادة بصورة تفصيلية.
فلو أراد أحد أن يراجع المعجم في كلمة (الاستيلاء) مثلاً، فعليه أن يلاحظ بل كل شيء أن هذه الكلمة من باب (الاستفعال)، كما يعرف - سلفاً - أن مادتها الأصلية هي (ولى)، وعليه أن يبحث عنها - مستنداً إلى هذه المعلومات - في الصحائف الخاصة بحرف الواو فاللام. . . وأما إذا أراد أن يراجع المعجم في كلمة (الاستواء)، فعليه أن يعرف أنها من باب (الافتعال) وإن مادتها الأصلية هي (سوى)، فعليه أن يبحث عنها - مستنداً إلى معلوماته هذه - في الصحائف الخاصة بحرف السين فالواو. . . غير أنه إن كان لا يعرف ذلك فمن العبث أن يراجع القاموس ويقلب صفحاته، لأن القواميس العربية لا تدل على مواضع مثل هذه الكلمات إلا لمن يعرف مثل هذه الدقائق الصرفية واللغوية حق المعرفة.
أليس ذلك مخالفاً لأبسط قواعد التعلم ولأوضح مبادئ التعليم. . .؟
لنأخذ مثالاً آخر: لنفرض أننا طلبنا من أحد الطلاب أن يبحث في المعجم عن كلمتي: الاستعانة، والاستكانة. . . إن هاتين الكلمتين متشابهتان ومتقاربتان من حيث اللفظ والكتابة؛ فإن الحروف الثلاثة الأولى مشتركة كلتيهما، وكذلك الحروف الثلاثة الأخيرة؛ والفرق بينهما ينحصر في الحرف الرابع وحده، مع كل هذا فإن موقع كل منهما في المعجم يتباعد عن موقع الأخرى تباعداً غريباً جداً؛ فعلى الطالب الذي يبحث عن هاتين الكلمتين في المعجم، أن يعرف أن الكلمة الأولى من باب (الاستفعال) من مادة (عون) فيراجع من أجلها حرف العين فالواو؛ كما عليه أن يلاحظ أن الكلمة الثانية قد تكون من باب (الاستفعال) من مادة (كون) أو من باب (الافتعال) من مادة (سكن)؛ فعليه أن يراجع حرف الكاف فالواو نظراً للاحتمال الأول، وحرف السين فالكاف نظراً للاحتمال الثاني.
وهل يمكن للمرء أن يتصور طريقة تصنيف أعقم من هذه الطريقة، وخطة تبويب أسخف من هذه الخطة. . . من وجهة مقتضيات العقل والمنطق من جهة، ومطالب التربية والتعليم من جهة أخرى؟
إن المعاجم العربية الموجودة بين الأيدي لا تزال تضع الاشتقاق في الموضع الأول من الاعتبار، فتهتم بأنساب الكلمات قبل كل شيء وفوق كل شيء، كأنها لا تريد أن تعترف بشيء من حق الاستقلال للكلمات المشتقة، مهما كان مبلغ تخصصها في معنى من المعاني، ومهما كانت درجة تباعد هذا المعنى الخاص عن المعنى الأصلي. . . إنها لا تعترف لها بحق الاستقلال في بيت خاص حتى ولو كانت قد أصبحت رئيسة أسرة خاصة، ومنشأ ذرية كبيرة، كأنها تريد أن تبقيها تحت وصاية مستمرة وتحتم عليها أن تسكن على الدوام، في دار (جدها الأعلى) مع جميع أفراد العشيرة التي تنتسب إليها. . .
فلنترك الألفة المخدرة جانباً، ولنفسح لأذهاننا مجال التفكير الحر خارجاً عن الطرق المألوفة قليلاً: هل من المعقول أن نستمر على هذه الخطة في معاجمنا، ولا سيما في المدرسية منها.
هل من المعقول - مثلاً - أن نستمر على إدخال كلمة المصباح في مادة الصبح، فنتركها في معاجمنا ضائعة بين كلمات الصباح، والصباحة، والصبوح، والصبيحة والاصطباح والاستصباح. . .؟ وهل من المعقول أن نستمر على عدم اعتبار لفظة (الأنبوبة) كلمة قائمة بنفسها، وعلى إدخالها في درج الـ (نب) ونظل نطلب من أطفالنا وطلابنا أن يجدوها هناك؟ وهل من الحكمة في شيء إلا توجد محلاً ملائماً لوضع كلمة (الميزانية) في غير الخزانة المخصصة لمادة (الوزن). . .؟
وعندما ما أكتب هذه الأسطر يتوارد على ذهني أمثلة كثيرة من هذا القبيل، كأنها تتسابق في التباعد عن قواعد العقل والمنطق ومبادئ التربية والتعليم إلى أقصى حدود التباعد. . .
أن كلمة الاستئناف - مثلاً - بالرغم من معناها الخاص الذي يلعب دوراً هاماً في الحقوق والقوانين، وبالرغم من كثرة المحاكم التي تسمى بها لا تزال تلتجئ في المعاجم إلى ظل كلمة (الأنف)!. . .
وكلمة (الاستراحة) - التي يستعملها الناس في كل يوم مئات من المرات - لا تزال
محبوسة في المعاجم في دار (الراح)، ومحشورة بين كلمات شتى المعاني والألفاظ: كالرياح والرائحة والأريحية والريحان!. . .
حتى أن كلمة (المدرسة) نفسها لم تكتسب في معاجمنا حق الاستقلال؛ فهي لا تزال تابعة - في نظرها - إلى كلمة الدرس ومجبرة على الاندساس بين كلمات متخالفة النزعات مثل (اندراس) المعالم والمباني و (دراسة) الحنطة والحبوب!. . .
وكلمة (الاقتصاد) التي أصبحت بمعناها الاصطلاحي الجديد من أهم محاور الحياة الاجتماعية - لا تزال مختفية في معاجمنا بين الكلمات التي من طراز القصد والمقصود، والقاصد والقصيدة وبين المعاني التي تدل على موت الكلب، واستقامة الطريق، وأغصان العوسج!. . .
ولكن، لماذا أطيل الكلام في هذه الأمثلة العجيبة؟ إن معاجمنا لم تعترف بحق الاستقلال، حتى لكلمة الاستقلال نفسها! فهي لا تزال تعتبرها تابعة لـ (قل)، فتحتم عليها السكنى في مسكن (القلة والقليل)!. . .
نعم، إن كلمة الاستقلال التي تثير في النفوس ما تثيره من العواطف الجياشة على الدوام، والتي تتكرر في القصائد الوطنية والأناشيد المدرسية كل يوم مئات، بل آلاف المرات. . . كلمة الاستقلال التي كان معناها - ولا يزال - سبباً لتضحيات كبيرة في الجهود والأموال والأنفس - كلمة الاستقلال هذه لم تستقل في معاجمنا إلى الآن.
فعلى كل من يود التعرف إليها في القاموس أن يطرق باب الـ (قل) وإن يعرف أنه سيلاقيها بجانب كلمة (لقليل)!
أنا لا أدري بماذا أنعت معاجمنا لاتباعها هذه الخطط العوجاء، وسكوت علمائنا عن هذه النقائض الفادحة. غير انني أميل إلى تعليل هذا الاستمرار وذلك السكوت بتأثير عاملين أساسيين:
أولاً: عمل قانون الألفة الذي يجعل الإنسان لا يشعر بأكره الروائح، ولا ينتبه إلى أفدح النقائض، عندما يألفها ألفة طويلة، ولا سيما عندما تكون ألفته هذه اجتماعية. . .
ثانياً: عمل روح المحافظة التي تطلب إبقاء القديم على قدمه فتعطل نوازع العمل عندما ترمي إلى تغييرات أساسية في الأمور المقررة سابقاً، ولا سيما عندما تكون تلك الأمور
متعلقة بالتقاليد الاجتماعية. . .
إنني أستطيع أن أضيف إلى هذين العاملين الأصليين عاملاً فرعياً ثالثاً، وهو عمل نزعة الاهتمام بالأمور الرنانة التي تلفت الأنظار، أكثر من الانصراف إلى معالجة المسائل الجوهرية التي لا تأتي بنتائج تبهر الأبصار وإن كانت كثيرة الفائدة. . .
إنني اعتقد أن الخروج على هذه العادات والنزعات بوضع معاجم عصرية بالمعنى المشروح آنفا - أصبح من أهم الواجبات التي تجب على رجال العلم والتعليم، ومحافل اللغة والأدب، ووزارات التربية والمعارف - في جميع البلاد العربية. . . كما اعتقد أن وضع مثل هذه المعاجم العصرية التي تعترف باستقلال الكلمات، وتجعل الوصول إلى كل واحدة منها من الأمور المتيسرة لكل شخص - لهو أهم بكثير من البحث عن الكلمات التي تقابل: التلفون، والكلور، والراديوم. . . وحتى من إيجاد الاصطلاحات التي تدل على أسماء الأمراض، ودقائق التشريح.
وأما الخطة التي يجب السير عليها لوضع هذه المعاجم فهي بسيطة وجلية:
أولاً - يجب أن تبذل الجهود اللازمة لوضع معجم مختصر يحتوي على الكلمات التي يستعملها الناس ويحتاج إليها طلاب المدارس الابتدائية. ولتعيين هذه الكلمات يجب أن تستعرض طائفة من الكتب المدرسية من جهة، وتدرس كمية من الأخبار والإعلانات المنتشرة في الجرائد اليومية من جهة أخرى؛ وتستحضر بطاقات خاصة بكل كلمة من الكلمات التي تصادف خلال هذا الدرس والاستعراض؛ ثم ترتب هذه الكلمات حسب نظام حروفها الهجائية، ويكتب إزاء كل واحدة منها معناها الاصطلاحي، كما يشار إلى مادتها الأصلية، وإلى كيفية اشتقاقها من تلك المادة. وأخيراً تذكر أهم الكلمات المشتقة منها، تسهيلاً لمراجعتها في سائر أقسام المعجم.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى تبذل الجهود اللازمة لتنظيم معجم أكثر تفصيلاً من ذلك، ليكون مرجعاً لطلاب المدارس الثانوية والعالية، ولرجال الطبقة المثقفة بوجه عام، على أن تعين كلماته على طريقة استعراض الكتب المدرسية من جهة، ودرس المجلات العلمية والأدبية من جهة أخرى.
وأخيراً يجب أن يسعى لوضع معجم مفصل عام. . . يتضمن جميع الكلمات المستعملة في
الكتب القديمة والحديثة على اختلاف أنواعها وتواريخها. . .
وأما المعاجم القديمة، فتبقى كمراجع أساسية يرجع إليها العلماء والاختصاصيون.
واعتقد أنه لا يحق لنا أن نتوقع تقدماً حقيقياً في تعليم اللغة العربية ما لم توجد مثل هذه المعاجم. . . ويحمل أمر (مراجعة المعجم) من الواجبات المدرسية. . .
أنا لا أدري كم يكون طول المدة التي ستمضي بين كتابة هذه الأسطر وبين ظهور المعاجم التي نشير إليها. . . كما لا أدري ماذا يكون مبلغ ونوع مساهمة كل من الكتاب والناشرين والهيئات العلمية والدوائر الرسمية في تحقيق هذا المشروع المهم عن طريق العمل المباشر أو التشجيع والمساعدة. . .
مع هذا أتمنى بكل قلبي أن تتضافر جهود الأفراد والهيئات والحكومات في هذا السبيل - بكل الوسائل الممكنة - لكي تقر أعيننا بمعاجم عصرية من هذا القبيل. . . قبل أن يمضي وقت طويل.
(بغداد)
أبو خلدون
إنذار
فيم البكاء والاستعطاف والاستجداء؟ إنما المرأة - في دخيلة
نفسها - تهوى الرجل الذي يستخف بكبريائها.
سئمتكِ حتى سئمتُ النساَء
…
فأمسيتُ أخشى على هزتي
جبينُكِ جفَّ عليه الجمالُ
…
كِرهتُ المهابةَ بالميتِ
وطرفكِ يزويه روْعُ الصراعِ
…
إنِ التهبتْ شِرةٌ مقلتي
ونهدكِ يحتالُ طيشي له
…
تَدرَّعَ حُمْقَ الحياءِ العتى
وخصركِ خاذلَه الرخصُ حتى
…
تماسك حَرْباً على صبوتى
وساقكِ لفتْ بشفِ مصون
…
تفاريجه سُخْرةُ العُثَّةِ
مفاتنكِ الفاتراتُ أساطيرُ
…
تفترُّ في كتبٍ رثتِ
برلين، فبراير 1935
بشر فارس
إلى الدكتور طه حسين بك
للدكتور زكي مبارك
أيها الأستاذ الجليل:
تلطفت فأوصيتني بكتمان الحديث الذي دار بيني وبينك في حضرة (الصديق العظيم) الذي يحل وداده من قلبي وقلبك أعز مكان، وأنا أستطيع النص على اسم ذلك (الصديق العظيم) بلا تهيب لعواقب العتاب، لأن للحديث الذي جرى بين وبينك في حضرته صلة وثيقة بأصول المذاهب الأدبية التي يشتجر حولها الخلاف في كثير من الأحايين. فإن قلت أن هذا (الصديق العظيم) خلع على ذلك الحديث حلة من الدعابة التي نشهد بما يملك من عذوبة الروح، وأنه قد يكره أن يشار إلى اسمه في مجال الدعابة والظرف، فإني أجيب بأن ذلك (الصديق العظيم) أرحب صدراً مما تظن، وهو أكبر من أن يرى أن جلال المنصب يمنع من التندر الجميل.
لا خوف من النص على اسم ذلك الصديق، ولكني سأعمل بوصيتك ليصح لي القول بأني لا أتمرد عليك في كل وقت، وليصح لك الظن بأني اقدر على مراعاة الظروف حين أشاء.
ثم ماذا؟
ثم أستطيع لنفسي التحدث عن بعض ما شجر بيني وبينك. ويظهر أن المقادير لا تريد أن أسكت عنك أو تسكت عني، وفي ذلك الخير كل الخير لو تعرف وأعرف. وهل ارتفع العقل إلا بفضل الخلاف؟ وهل يتصور الناس وجوداً للحيوية التشريعية لو لم يثر الخلاف بين الشافعية والحنفية؟ وهل تأصلت مشكلات النحو والصرف إلا بفضل الجدال بين البصريين والكوفيين؟ وهل تفوق العقل المصري في العصر الحديث إلا بسبب النزاع حول القديم والجديد، والصراع حول المذاهب الاجتماعية والأحزاب السياسية؟
أن الخلاف نعمة عظيمة جدا، ويا ويلنا إذا لم نختلف فكيف تريد أن أكون صديقاً ظريفاً لا تسمع منه غير الكلام المعسول؟
وهل قل الظرفاء من أصدقائك حتى تطالبني بما تعجز عنه سجيتي؟
إن (بداوة الطبع) التي كثر الكلام في ذمها وتجريحها لم تكن من المثالب إلا في كلام الشعوبية، وهم قوم أرادوا الغض من الشمائل العربية، ولولا ذلك الهجوم الأثيم لبقيت من
المحامد، فكيف تنكر على رجل مثلي أن يظل بدوي الطبع في زمن توارت فيه الصراحة وكثر فيه تنميق الأحاديث؟
لابد من خلاف بيني وبينك لتجد الأبحاث الأدبية والفلسفية وقوداً يحيا به اللهب المقدس في حياة العقل والوجدان.
فإن ضاق صدرك بهذه الحقيقة واكتفيت بمحاورة الرجل اللطيف الذي يقول أن الصحراء تشكو الظمأ وأن البحر يشكو الري وأن الخير في امتزاج البحر بالصحراء. إن كان ذلك ما يرضيك فشرق في محاورته وغرب كيف شئت وكيف شاء.
ولكن ما رأيك فيمن يصارحك بأن الحيوية لن تشيع في أبحاثك إلا إذا حاورت (الرجل الذي لا يخلو إلى قلمه إلا وفي رأسه عفريت)؟
تلك كلمتك، يا سيدي الدكتور، وأنا عنها راض وبها مختال؟
فما هو العفريت الذي يحتل رأسي حين أخلو إلى قلمي؟
أيكون هو الجن الذي سماه الفرنسيون
إن كان ذلك فأنت تشهد لي بالعبقرية، والقول ما قال طه حسين وهل تكون العبقرية إلا من نصيب من يخاصم رجلاً مثلك في سبيل الحق؟
وما هي المنفعة التي أرجوها من مخاصمتك وأنت رجل يضر وينفع؟
ما هي المنفعة التي أجنيها من مخاصمتك وقد صاحبتك عشر سنين كانت أطيب الأوقات في حياتي؟
يظهر انك لا تعلم انك على جانب عظيم من الجاذبية وأن الرجل العاقل لا يترك مودتك وهو طائع
فما سبب الخصومة بيني وبينك؟
إليك أقباساً من البيان:
منذ أكثر من سبعة أعوام ألقيت محاضرة في الجامعة الأمريكية عن البحتري سجلتها جريدة كوكب الشرق، وشاء (العفريت الذي يحتل رأسي حين أخلو إلى قلمي) أن أنشر في جريدة البلاغ مقالاً عنوانه.
(الدكتور طه حسين يغلط خمس مرات فقط في محاضرة واحدة)
ثم لقيتني بعد ذلك في الجامعة الأمريكية وجادلتني في تلك الأغلاط فأعلنت أني أخطأت، وكان ذلك لأن الجمهور أحاط بنا من كل جانب ليرى كيف أدفع هجومك، وما كان يجوز لي أن أصنع غير الذي صنعت، لأن أدبي لا يسمح لي بمصاولتك أمام الناس، ولان وجهك يشفع لك، فهو وجه لا يلقاه الرجل الحر بغير الإعزاز والتبجيل.
فما الذي صنعت أنت في تصحيح الأغلاط التي أخذتها عليك؟
مضيت فنشرت محاضرتك عن البحتري في كتابك: (حديث النثر والشعر)، وأبقيت تلك الأغلاط، أستغفر الله، بل (تفضلت) فشكلت الكلمات المغلوطة لتقول: إنك لا تعبأ بأي نقد يوجه إليك!!
فما الذي كان يمنع من تدارك تلك الأغلاط؟ وما الذي كان يمنع من شرح رأيك في الهامش إن كنت تؤمن بأني لم أكن على حق؟؟
ثم ماذا؟
ثم حدث في صيف سنة 1929 أن أنكرت على أن أتخذ شواهد لتطور (النثر الفني) من رسائل عبد الحميد بن يحيى. وقلت: إن عبد الحميد بن يحيى شخصية خرافية كشخصية امرئ القيس! وكان ذلك بمسمع من شابين واعيين هما: محمد مندور وعلي حافظ. وكانت حجتك أن عبد الحميد بن يحيى لم يرد اسمه في مؤلفات الجاحظ، فرجعت إليك بعد أيام وأخبرتك أن الجاحظ تكلم عن عبد الحميد بن يحيى مرات كثيرة، وإن مؤلفات الجاحظ تعرف رجلين: أحدهما عبد الحميد الأكبر والثاني عبد الحميد الأصغر، فلم تجب بحرف واحد. ثم ألقيت وأنا في باريس محاضرة قلت فيها: إن عبد الحميد بن يحيى أخذ أشياء من أدب اليونان؛ وفاتك أن تنص على اسم الرجل الذي أقنعك بأنه لم يكن شخصية خرافية.
وقد حملني (العفريت الذي يحتل رأسي حين أخلو إلى قلمي) على أن أسجل هذه القضية في أحد هوامش كتاب النثر الفني، فكانت فرصة اغتنمها صديقك الأستاذ أحمد أمين ليقول في مقال كتبه في مجلة الرسالة: إن زكي مبارك يعوزه الذوق في بعض الأحيان!!
ثم ماذا؟
ثم كانت لك يد مؤثرة في شؤون الدراسة الثانوية بحجة أنها تمهيد للدراسة الجامعية، وكان من أثر ذلك أن فرضت على طلبة السنة الخامسة بالمدارس الثانوية كتاباً في نقد النثر
لقدامة بن جعفر لا يفهمه المدرسون إلا بعناء فضلاً عن التلاميذ.
وأقول بصراحة إني لم أفلح في حمل المفتشين على مقاومتك، فبرزت لك بنفسي في مقال نشرته بمجلة الرسالة، فهل استجبت لصوت الحق وأعفيت التلاميذ من كتاب تقوم تعاريفه على منطق أرسططالس وهم يجهلونه كل الجهل؟
أنت عزيز علينا يا سيدي الدكتور، لأنك رجل شهم، ولكن ما رأيك في أغلاطك؟ ومن يدلك عليها إذا سكت عنك؟
هل تذكر كلمة (الصديق العظيم) منذ أيام حين قال لك وهو يبتسم: كيف صيرتم زكي مبارك دكتوراً وهو رجلٌ مشاغب؟
أنت تذكر ذلك ولا ريب، ولكنك تعرف أني لم أنل ألقاب الجامعة المصرية بلا جهاد، وأنت نفسك أسقطتني في امتحان الليسانس مرتين، واشتركت في امتحان الدكتوراه الذي أديته أول مرة مع انك لم تكن عضواً في لجنة الامتحان، وكان لخصومتك الصورية تأثير في الدكتوراه التي ظفرت بها للمرة الثالثة فلم أصل إليها إلا بعد جهاد سبع سنين.
فما فضلك علي أن لم يكن فضل المؤدب الحصيف؟
هل تذكر يا دكتور ما وقع في نوفمبر سنة 1919؟
هل تذكر ما وقع يوم غاب سكرتيرك وكنت وحدي الطالب الذي يفهم العبارة الفرنسية لكتاب نظام الآتينيين لأرسططاليس؟
وهل تذكر انك أعلنت سرورك بأن يكون في طلبة الجامعة المصرية من يفهم أسرار اللغة الفرنسية؟
فمن يبلغك أن الشاب الذي أدخل السرور على قلبك في سنة 1919 هو الكهل الذي تنكره في سنة 1940؟
أنا أعرف ما تكره مني. أنت تكره مني الكبرياء، وكيف أتواضع وقد أعانني الله على بناء نفسي؟ كيف وقد أقمت الدليل على أن الشباب المصري خليق بعظمة الاعتماد على النفس؟ وهل رأيت رجلاً قبلي أتم دراسته في أوربا وهو مثقل بتكاليف الأهل والأبناء؟ هل رأيت رجلاً قبلي يهتف بأوطار الشباب وهو مثخن بجراح الزمان بعد الأربعين؟ هل رأيت رجلاً قبلي يؤلف الكتب الجيدة في البواخر والقطارات والسيارات؟
ومن يصدق أني أنفق في سبيل الورق والمداد أضعاف ما ينفق بعض الناس في سبيل الطعام والشراب؟
إن الدكتور هـ من ذخائرنا الأدبية، ويجب أن يعيش، ونحن سناده في الخطأ والصواب رعاية لمركزه في الجامعة وفي وزارة المعارف، وهو خليقٌ بمركزه في الجامعة وفي وزارة المعارف أيها الأستاذ الجليل:
في صدري أشياء وشؤون وشجون، فمتى أنفض همومي بين يديك وقد رأيت الشيب يشتعل في شعرك الجميل؟
متى نلتقي أيها الأستاذ الجليل لتصفية الحساب؟
إن (العفريت الذي يحتل رأسي حين أخلو إلى قلمي) لا يحضر حين ألقاك، لأني لا أرى وجهك إلا تذكرت أني أحببتك إلى حد العشق.
فمتى نلتقي وحولك أرصاد يؤذيهم أن أصل إلى قلبك الرفيق؟
وهل أجهل أو تجهل أن في الدنيا ناساً عاشوا بإفساد ما بيني وبينك؟ الله وحده يشهد أني لم أخاصمك إلا في سبيل الحق.
والله وحده يشهد أني لم أقل فيك غير ما استبحت نشره في الجرائد والمجلات. ومن ذلك تعرف أن (العفريت الذي يحتل رأسي حين أخلو إلى قلمي) لم يكن عفريتاً لئيماً، وإنما هو عفريت تلميذك وزميلك وصديقك:
زكي مبارك
الفروق السيكلوجية بين الأفراد
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
العلاقة بين الذكاء والخلق
الشخصية من الموضوعات التي اهتم بدراستها علماء النفس منذ أوائل القرن الحالي. وقد ذهبوا في تحليلها إلى أنها تتكون من عوامل بعضها فيزيولوجي، وبعضها كيميائي، وبعضها عقلي، وبعضها خلقي ومزاجي. وقالوا إن نتيجة تفاعل هذه العوامل المختلفة تحت تأثير البيئة التي يعيش فيها الفرد هي التي تكون شخصيته. ومعنى ذلك أنه توجد علاقات فعالة بين كل مجموعة من هذه العوامل وبين بقية المجموعات الأخرى. وسأعالج في هذا الحديث موضوع العلاقة بين الذكاء والخلق، وأثر هذه العلاقة في حياة الفرد.
إن قارئاً أو ملاحظاً ليتعسر عليه - من غير دراسة وإحصاء - أن يجزم بوجود تلازم بين الذكاء والخلق الكريم، أو العكس؛ أي بين الذكاء والخلق السيئ أو الغباء والخلق الكريم. لأن الملاحظة العادية تدل على أنه يوجد بين الأذكياء، كما يوجد بين الأغبياء، الشرير المتمرد وكريم الخلق والوديع، وإن كانت بعض الروايات والأفلام نظهر شخصيات المجرمين والمحتالين في مظهر الأذكياء والعبقريين. وقديماً كان الإغريق يبيحون السرقة لأنها آية الذكاء، وكانوا يعاقبون من يقبض عليه سارقاً، أو تثبت عليه التهمة، لأنه غبي لم يستطع أن يفعل فعلته بمهارة ودهاء، فيفلت من أعين الرقباء، شأن الذكي الماهر.
والذكاء - ولاشك - عامل من عوامل النجاح في الحياة فهو الذي يعين الطالب في حياته الدراسية، والمحامي في مكتبه ومحكمته، والتاجر في تجارته، والزارع في حقله وحديقته. ويختلف أثره في نجاح حياة الفرد باختلاف نوع المهنة التي يقوم بها؛ فأثره في مهنة التاجر مثلاً أقوى وأظهر منه في وظيفة عامل البريد. هذا إذا استعمل كل منهما ذكاءه في إجادة عمله، ولكن الذكاء وحده غير كاف ما لم يؤازره خلق كريم متين. والتاريخ يثبت أن عظماء العالم، والعصاميين المبرزين في الأعمال العامة، قد امتازوا بالعقل الذكي، والخلق القوي، وإن من لم يتمتع منهم - إلى جانب الذكاء - بالخلق القويم، قد رأى انهيار عظمته المؤقتة قبل وفاته.
وفي الحياة اليومية يساعد الذكاء على التهيؤ الخلقي المناسب. فالذكي يعرف الظروف
المحيطة به بسرعة، ويدرك ما تتطلبه هذه الظروف، ويعرف أيضاً قانون بيئته الخلقي والاجتماعي، فيتهيأ بلباقة، ويتكيف بمهارة وقدرة ليناسب بين تصرفاته وبين بيئته وفقاً لقانونها الخلقي الاجتماعي المعتمد، بعكس الغبي أو قليل الذكاء الذي لا يدرك بسرعة - أو مطلقاً - العلاقات بينه وبين الأحوال الطارئة عليه، أو بينه وبين القانون الخلقي، فتصدر تصرفاته عن خطل وحمق، ويحاول العمل في تخبط.
وقد يكون ذكاء المرء مصدر شقائه وفساد أخلاقه، فيجعل منه تأثراً على نفسه وعلى المجتمع، أو لصاً ماكراً، أو مجرماً غادراً. ويحدث ذلك في الغالب إذا كثرت حاجات الفرد ومطالبه ورغباته، ولم يقو إنتاجه المادي المحدود، أو لم تساعده البيئة، على الوفاء بهذه الحاجات والرغبات، فهو أما أن يضحي بهذه المطالب ويكبت هذه الرغبات ويكون حينئذ عرضة للنوبات العصبية والاضطرابات النفسية، وأما أن يلجأ إلى تحقيق هذه المطالب وتلبية الرغبات بطريق غير مشروع، فيحتال ويسرق ويغش، ويصطنع كل السبل التي يصل بها إلى غاياته ويفلت من عقاب القانون. وقد يخونه ذكاؤه فيقع في يد القضاء، ويلقى الجزاء. ثم يعود سيرته الأولى بعد الجزاء، ويستسيغ هذا النوع الجديد من حياته الشريرة. لأنه سقط فهوى ولم يجد من ينقذه بمعرفة سبب الجرم؛ فإن كان في نفس المجرم حاول إزالته وتوجيهه إلى الصالح المنتج المفيد، وإن كان في البيئة عمل على محوه وخلق تناسب بين البيئة وبين الفرد. ولذلك نجد في السجون الأوربية معاهد للتثقيف والإصلاح، ولتعليم الفنون والصناعات المختلفة كالزراعة، والتجارة والطباعة، والحياكة الخ حتى يجد السجين أمامه بعد مغادرة السجن وسائل الحياة التي تتناسب مع ذكائه. والتي تساعده على كسب ما يحقق رغباته فيتجه بذلك ذكاؤه اتجاها مستقيماً صالحاً ويتحقق المثل السائر (السجن مدرسة وتهذيب وإصلاح)
وقد لاحظ علماء القيادة المهنية أن أكثر العمال في المصانع تذمراً، والموظفين في الشركات طمعاً هم أولئك الذين وضعوا في مهنة أو وظيفة دون مستواهم الذكاوي، فيكون هؤلاء دائماً مصدراً للمؤامرات، وتدبير الإضراب، والخروج على النظام. وكذلك وجدوا أن قليلي الذكاء أو الأغبياء إذا ما وضعوا في مناصب ذات تبعة وفوق مستواهم الذكاوي، قصر ذكاؤهم دون القيام بتبعاتهم، فيعروهم الاضطراب والهم، وينغمسون في الشهوات
والملاذ غير المشروعة، ويسرفون، وتكون عاقبتهم الجنون. فعدم التناسب بين الذكاء وبين العمل الذي يقوم به الفرد قد يقود لا إلى فساد الأخلاق فحسب بل إلى الأمراض العصبية والجنون.
أنفق البروفسور سرل برت، رئيس معمل علم النفس وأستاذ المادة بجامعة كوليدج في لندن، ست سنوات يفحص فيها سيكولوجيا الأطفال ويقيس ذكاءهم. وقد قاس ذكاء ما يزيد على مائة ممن تتراوح أعمارهم بين ست سنوات وخمس عشرة، وكان هؤلاء الأطفال يمثلون كل أنواع البيئات المختلفة في لندن، وقد أرسلوا إليه لارتكابهم بعض الذنوب الاجتماعية كسرقة بخس الأشياء، وكالشحاذة والاعتداء على المارة أو على زملائهم بقذف الأحجار، وكإتلاف مال الغير، والسقوط الجنسي، وخروجهم عن طاعة آبائهم. وقد وجد أن متوسط العمر الزمني لهؤلاء الأطفال المتمردين هو 13. 2 بينما كان متوسط عمرهم العقلي هو 11. 3. وقد استنبط من هذه النتيجة (أن الأطفال المتمردين ينقص عمرهم العقلي عن عمرهم الزمني بنحو سنتين) ثم استنبط - بعد دراسة وإحصاء - أن (7 % من هؤلاء الأطفال ضعاف العقول أو ناقصوها) هذا وإذا علمنا أن نسبة ضعاف العقول بين جميع السكان - كما ثبت نظرياً - هي 2 % اتضح لنا مقدار زيادة ضعاف العقول من الأطفال المجرمين والمتمردين. ويقول الأستاذ برت أيضاً:(ولا يتعارض الذكاء الفائق مع التمرد، ولكن المشاهدة تدل على أن وجوده بأية درجة بين المتمردين يعد نادراً)
ويرى الأستاذ في كتابه (الطفل المتمرد) أنه من الضروري أن ندرس الطفل المتمرد لا من ناحية ذكائه وضعفه العقلي فقط، بل يجب أن تدرس بيئته ولا سيما المنزلية، لأن حال الأسرة الوجدانية المضطربة، وإهمال الطفل وترك حبله على غاربه، كل هذا له من الأثر ما لضعف العقل في إيجاد روح التمرد والإجرام عند الطفل. والفتاة البالغة التي لا تجد في المنزل إلا شقاء وسوء معاملة تسرع إلى هاوية الفساد، وبخاصة لأن ضعف عقلها يعرقل نجاحها في الحياة الاقتصادية والعملية والاجتماعية فلا تعرف كيف تحل معضلاتها، وتخلص من شقاء المنزل بطريق تضمن لها الحياة وشرف العرض.
وقد أجرى الأستاذ لويس ترمان بعض التجارب لمعرفة العلاقة بين الذكاء والخلق وقارن بين مجموعة من الأطفال ذوي ذكاء مختلف الدرجات تبلغ 533 ومجموعة أخرى مساوية
لها من الأطفال النابغين، ووجد أن المجموعة الثانية على خلق أسمى من الأولى في صفات الصدق والأمانة والشفقة ويقظة الضمير، كما وجدها تمتاز جداً بالمثابرة والإرادة القوية.
من أجل هذه عنيت الأمم الأوربية والأمريكية بتعيين علماء نفسيين في المحاكم، وفي أقسام البوليس، وفي مجالس التعليم الإقليمية والمدينة، ليعينوا القضاة ورجال البوليس ورجال التعليم بدراسة الأطفال والكبار المتمردين والمجرمين الذين يشك في ذكائهم ومقدرتهم العقلية، حتى يكون الجزاء مبيناً على ظروف الجريمة وحال المجرم العقلية. وفي لندن والمدن الأمريكية الكبرى - غير علماء النفس هؤلاء - عيادات سيكولوجية يرسل إليها المتمردون والمجرمون لفحصهم والتقرير عن حالهم.
(بخت الرضا - السودان)
عبد العزيز عبد الحميد
حول (السفاح) أيضاً
للأستاذ عبد الحميد العبادي
من حسن حظ أمير المؤمنين أبي العباس أن انتدب عالمان جليلان هما الأستاذ أحمد أمين والأستاذ محمود شاكر لمناقشة رأيي في لقب (السفاح) الذي ألصقه بأبي العباس بعض أدباء المؤرخين أو مؤرخي الأدباء ظلماً، كما اعتقد وكما دلني البحث والتتبع. نعم أن الأستاذين الجليلين أخذا برواية المؤرخين الأدباء أمثال الجاحظ وابن قتيبة وأبى الفرج الأصفهاني، ولكن تدليلهما، على طرافته وبراعته، لم ينقض حتى اليوم ما سقت من الأدلة فضلاً عن أن يهدمها. وإني مجمل لقراء الرسالة الغراء رأيي في هذا الموضوع، ثم متبع ذلك باستدراكي على ما اعترض به علي الأستاذ شاكر.
لقد رجعت إلى سيرة أمير المؤمنين أبى العباس قبل الخلافة وأثناءها، فلم أجد فيها ما يسوغ تلقيبه بالسفاح بمعنى القتال. ثم رجعت إلى قصيدة ابن أبى شبة العبلي التي يرثى بها بني أمية، وهي المصدر المعاصر الوحيد لأبى العباس، فلم أجد الشاعر ذكر فيها الكوفة ولا الحيرة ولا الأنبار، وهي المواضع التي أقام فيها أبو العباس في خلافته، في حين أنه ذكر المواضع التي قتل فيها بنو أمية على أيدي عبد الله بن علي وداود بن علي بالشام والحجاز. ثم انتقلت بعد ذلك إلى الرواية التاريخية القديمة القائمة على الضبط والتحقيق كرواية ابن سعد، وابن عبد الحكم، والبلاذري، وأبى حنيفة الدينوري، وطيفور، واليعقوبي، والطبري، والنوبختي، والكندي، فلم أجد من هؤلاء الأعلام واحداً لقب أمير المؤمنين أبا العباس بالسفاح. هنالك ترجح عندي أن لقب (السفاح) لم يكن أصلاً لقب أبي العباس. ثم رأيت أن ابن سعد واليعقوبي وصاحب (أخبار مجموعة)، وصاحب كتاب الإمامة والسياسة، يسندون لقب (السفاح) إلى عبد الله بن علي عم الخليفة أبي العباس وعامله على الشام. ووجدت أن سيرة عبد الله ابن علي هذا مما يسوغ تلقيبه بهذا اللقب كل التسويغ، فهي سيرة جبار طاغية قتال حقاً. فثبت عندي أن اللقب لقب به أصلاً عبد الله بن علي المذكور. ولما كان عبد الله بن علي قد ادعى الخلافة فعلاً وثار على أبى جعفر المنصور بالشام، وخاطبه الشعراء بالخليفة، فقد اصبح معروفاً بالشام لذلك العهد بأمير المؤمنين عبد الله السفاح. ولكن الخليفة أبا العباس هو أيضاً يسمى عبد الله، فقد وجد نوع من اللبس بين
الخليفة الأصلي والمدعي للخلافة. ومما يقوي فكرة وقوع هذا اللبس أن ابن الأثير عندما ذكر حادثة تحريض سديف الشاعر على قتل بني أمية أسندها أول الأمر إلى عبد الله بن علي ثم عاد فقال: (وقيل أن سديفاً أنشد هذا الشعر للسفاح ومعه كانت الحادثة) فقد نسب إلى أبى العباس مأساة قتل بني أمية مع أن المرتكب لها على التحقيق هو عبد الله بن علي، والخلط في نسبة الحوادث المفظعة التي أتاها عبد الله بن علي إلى أبى العباس جر معه انتقال لقب (السفاح) إلى أبى العباس. وأني اعترف بأن هذا تأول مني واجتهاد، ولكنه اجتهاد في حدود النصوص والوقائع الثابتة، وليس مجرد ادعاء كما وصفه الأستاذ شاكر في العدد 342 من الرسالة الغراء.
هذه خلاصة بحثي في هذا الموضوع. ولقد نشر الأستاذ شاكر في مجلة (الثقافة) مقالاً قيماً عنوانه (كلمة في التاريخ) امتدح في بعض حواشيه بحثي هذا حتى لحيل إلى أن الأستاذ اخذ بوجهة نظري في هذا الموضوع واغتبطت بذلك أيما اغتباط، ولكني رأيت الأستاذ عاد فأعلن في العدد 340 من الرسالة أنه يخالفني كل المخالفة ووعد ببحث الموضوع. وقد بحثه في العدد 342 من الرسالة، وبحثه يقوم على أمور: أولها أن لقب (السفاح) مضافاً إلى أبى العباس إنما هو للمدح لا للذم، ومعناه الكريم المعطاء للأموال. وثانيها أن أحاديث من أحاديث النبوءات يراها الأستاذ صحيحة قد ذكرت (السفاح) بالمعنى المذكور، فليس بعيداً أن يكون أبو العباس قد لقبه أبوه بهذا اللقب قبل الخلافة تفاؤلاً. وثالثها يقول بوجوب الأخذ برواية الجاحظ التي تلقب أبا العباس بالسفاح. والذي يمنع عندي من الأخذ بالأمر الأول هو أنه ليس له سند تاريخي، واللفظ من حيث اللغة يحتمل أن يكون للمدح وإن يكون للذم. فما النص التاريخي الذي يخصصه للمدح؟ أما من حيث الأمر الثاني فلنفرض أن الأحاديث والروايات الواردة في السفاح والمهدي والسفياني والفخطاني والملاحم صحيحة، فما الدليل على أن أبا العباس قد لقبه أبوه بالسفاح تفاؤلاً واستنجازاً لموعود هذه الأحاديث؟
أما من حيث رواية الجاحظ فلست أدري كيف يوفق الأستاذ شاكر بينها وبين تفسيره السفاح (بالكريم المعطاء فإن السفاح) في كتب الجاحظ وابن قتيبة وأبى الفرج معناه (القتال السفاك للدماء)
أليس يرى الأستاذ شاكر بعد ذلك أن الأدلة التي أقمت عليها رأيي أكثر تظاهراً وتسانداً، وأشد رجحاناً من رواية المؤرخين الأدباء؟ هذا اعتقادي على كل حال.
على أني قبل أن أختم هذه الكلمة، أحب أن اعترف بأني أفدت من بحث الأستاذ شاكر فائدة كبيرة، فقد علمت منه أن نص اليعقوب القائل بأن عبد الله بن علي هو السفاح، منقول عن ابن سعد في طبقاته.
عبد الحميد العبادي
ذكرى مولد الفاروق
11 فبراير
خلدي يا مصر أيام المليك
للأستاذ مراد الكرداني
. . . وهذا يوم من أيامك الزهر الوضاء يا مولاي، يعتز ويتيه على الزمن كله، ويختال على أيام هذا البلد الأمين، بأنه كان فجر السعد وفتح اليمن، وبداءة النصر بعد عنت الجهاد، ولمعة الأمل في ألم الليل الذي تحلك وتدجي، قم امتد واستطال.
هذا يا مولاي أول أيامك على الدنيا يعود، وما يزال يعود. أشرق - يوم أشرق - على هذه البلد السعيد إشراق العز، وهل عليه كصيب الغيث. ثم سعى فيه كسعي النسيم الريان، فكان بشراً بين يدي رحمة الله التي غمرت أقاصي هذا الوادي ودانيه، وكان نعمة فاضت بمددها الذي لا يفيض، وخيرها الذي لا ينتهي، وبرها الموصول أن شاء الله.
هذا يا مولاي أسعد يوم أحق أن أقول فيه. . . عادت مصر به وكأنها نفس سابحة على مد أملها تستشرف العز الذي انحسرت عنه ظلمات الأفق وتستحث المجد الذي بدا صوراً آخذاً بعضها بيد بعض، وتتعجل النصر الذي رصدت مطلعه متلهفة صابرة منذ آماد طوال!
ولقد شاء القدر الراحم أن يكون ميلادك، يا زين الشباب، أول منحة بعد أطول محنة، وإن يكون بهاء بعد رهق البلاء. وذلك فيض من الله عميم، فإن الفضل للمحنة أن تكون طهرة واستعداداً وتهيؤاً لتكون المنحة إثرها وثوباً إلى الغد، وتطلعاً نحو المجد.
ثم أشفق هذا القدر على هذا البلد، وأنت يا مولاي حل بهذا البلد، فوسم أيامك عليه بالخير واليمن وجرى فيه أمداداً متلاحقة من العز واليسر، وتبدي في رحابه رؤى رائعة كلها نصر وتوفيق، حتى بلغ القمة، وتسنم الذروة. . . ثم حمل الراية ومضى يقود الشرق العظيم إلى منازل العزة ومشارف المجد. . .
ومن ثم كانت ذكرك يا مولاي تدرج على ربوع هذا الوادي الأمين. وكأنها منى حلوة تراوح قلب عذراء موعودة. أو كأنها نسمة تناسم روح حبيب فكنت يا مولاي المنى والنسمة. . . وكان شعبك الوفي الكريم، القلب الموعود، والروح المنتظر!
لقد سنحت يا مولاي سنوح الرضا، ولحت كما يلوح الحق بين شبه الباطل، فكنت فينا معجزة إلهية لمحت بالنور العجيب، يتطيف هادياً مشرقاً من نبع قبسه الذي هو أنت. فكأنك يا حبيب الحبيب عرق من النور الأعلى ما يزال يترسل ويتضوأ على نسقه وطبعه حتى يضح كل الذي حوله. ومن ثم يشرق به ومنه، ومن ثم يتضوءان معاً. . . وأنت يا مولاي كما أنت نور على نور، وهو، لا كما هو، وإنما استحال خلفاً آخر غير الذي كان، اعني أنه أشماس، وكان قبل فجراً من طول ما ران عليه! سبحان الذي ألهمك يا مولاي أن الأسوة خير من القسوة، وإن القدوة أفعل في النفس من القدرة، فجعل كمالك وحياً وحياً يفعل في النفوس على طبيعته وفي طبيعتها، فلا يزال بها حتى يحيلها كمالاً كلها، وطهراً كلها، وسلاماً كلها. كما أنت - يا أمير المؤمنين - جمع ذلك كله. . . والسعود أقدار يا مولاي. . . فلله ما أكرمك عليه حين جعل سبيلها إليك أجر من اهتدوا بهديك وسعوا وراء خطوك. . ولله ما أكرمك عليه، حين عمرت بالشباب أبهاء المسجد، وحين نضرت بهم وجه الدين، ويوم انطوت أيديهم على حبات المسبحة، وكانت قبل لا تفلت الدخينة، ويوم جمعتهم على الهدى وكانوا شيعاً على الحقد والضغينة.
مولاي يا وارث المجدين، ويا فارق العهدين، يا أمير المؤمنين. . . يا سليل الأمجاد، ويا شبل فؤاد، عيدك يا مولاي سيد الأعياد. . . ويومك عزة الأيام. . . وزين الزمان. . .
صان الله شبابك الغالي، وأمدك بالعافية كلها. . . ونضر بالخير أيامك. ووسم بالسعد عهدك وزمانك. . .
وليحفظ الله الأميرة الغالية في مجد المليك، وعز المليكة، وهناءة البيت الملكي الكريم. . .
مراد الكرداني
من وراء المنظار
ساع في الدرجة الخامسة!
بلغها بدمائه خلقه، لا ريب عندي في ذلك. ومن كان في ريب مما أقول فليعرفه من كتب كما أعرفه، ثم لينظر فإن لم يمح اليقين من نفسه الريبة فأنا المخطئ وهو المصيب. . .
وإن أنداده ليعجبون كيف يتخطى أكثرهم إلى تلك الدرجة التي باتت عندهم حلماً من الأحلام، وانهم ليقسمون أنه دونهم في الكفاية، ويستدلون على ذلك، إذا لم يغن القسم، بأخطائه الجسيمة التي لم يسأل قط عن شيء منها، وذلك ما يزيد دهشتهم وحيرتهم.
ولكني أنا أعجب كيف فاتتهم دمائه خلقه ورقة شمائله ولطف معاشرته، واليها مرد ما نال من حظوة! ومتى كانت تقدر الأعمال بالكفاية فحسب؟ وإن من الكفاية ما يلحق بصاحبه الأذى، وإن منها ما يقف بينه وبين ما يشتهي.
رأيته أول مرة فرحب بمقدمي ترحيباً ملك قلبي، وأقبل على يحدثني ويجود على من الألقاب بما كاد يعتريني الزهو ويداخلني الغرور من اجله. وما هي إلا دقائق حتى كنت منه كما لو كان يعرفني من زمن بعيد. وآية ذلك أنه صار يعرفني إلى أقرانه وهو يشير إلى فطنتي وسعة اطلاعي ويثني على كرم خلقي، كل ذلك في طلاقة أدهشتني وإن كادت تضحكني ضحكات لست أدري ماذا كنت أسميها!
وتاقت نفسي إلى رؤيته أمام رئيسه. ولم يطل تطلعي فقد أقبل الرئيس فرأيته يثب من موضعه فينظم وضع طربوشه على رأسه ويزر حلته ويهرول تجاه القادم مبتسماً، حتى إذا دنا منه أقبل على يده في لهفة ولسانه يلهج بالسؤال عن صحة (سعادة البك) وأنجال (سعادة البك) ويجيب في سرعة ونشاط على سؤال وجه إليه بقوله:(نعم كما أمرت سعادتك يا سعادة البك). . . وأعجبني لعمر لحق دماثة خلقه هذه واستيقنت نفسي من أدبه وظرفه.
وانقضى يوم فازددت اطلاعاً على حسن شمائله وجميل تواضعه، فهو يعزو كل شيء إلى همة سعادة البك، وهو لا يفعل شيئاً إلا (بأنفاس سعادته) وهو لا يكتم خبراً ولا يضن بحديث سمعه على رئيسه، فذلك عنده من الأمانة والإخلاص. وإن عبارات الإجلال والتعظيم لهذا الرئيس ليثب إلى ذهنه في سرعة عجيبة ولباقة مدهشة، أعجب معهما لمن ينكرون عليه الكفاية حتى لا يسعني إلا أن أنكرها عليهم هم، وإن كنت في ذلك مثلهم إلا
أنني لا تحركني الغيرة للعيب عليه.
ورأيته لا يقع بصره على رئيسه مبارحاً إلا حضر إليه مودعاً ولكنه يمشي على قيد خطوة أو خطوتين وراءه، وذلك لاشك تأدب منه، وإن تقول عليه خلاف ذلك المبطلون الذين يحقدون عليه لبلوغه دونهم الدرجة التي يتحرقون شوقاً إليها.
وهو مرب على رغم ما سماه به بعض المغيظين منه؛ وإنه ليشعر أن من واجبات مهنته أن يوحي إلى تلاميذه دماثته وأدبه وإن يلهمهم الصدق ويعودهم احترام النفس. وأنه ليعتقد أنه يفيد طلابه من هذه الناحية أكثر مما يفيدهم غيره من أقرانه؛ وإلا فمن بلغ مبلغه منهم من الدماثة وكرم الطبع؟
ولن تفوته فرصة لإظهار دماثته تلك التي أصبحت مضرب المثل بين عارفيه، وهو لا يرمي من وراء ذلك إلا إلى أن يكون فيه لأبنائه أسوة حسنة، ولن يبتغي عليه جزاء ولا شكوراً. ومن أروع مواقفه التي لست أشك أنها من خير ما يقتدي به، أنه التقط ذات مرة على مرأى من الطلاب جميعاً دخينة سقطت على الأرض من يد رئيسه فأعادها إلى الرئيس، ولكن ما كان أعظم دهشة الطلاب أن يروا ذلك الرئيس يقذف بها بعيداً بعد أن يأخذها منه وهو عابس الوجه وعلى شفتيه ما يشبه الازدراء وما لا يكون إلا استنكاراً. ولقد قارن الطلاب لاشك بين رقة الأستاذ وغلظة الرئيس، ولست أدري إيهما كانت أقرب إلى نفوسهم البريئة.
وشاعت الحادثة في الزملاء الحاقدين منهم والمسالمين، فقال أحدهم:(ما أراه إلا ساعياً في الدرجة الخامسة). فقلت: وكيف يكون ساعياً من كان في الدرجة الخامسة؟ فنظر إلى آخر نظرة غاضبة كأنما ضايقه جهلي وقال: وإنك لترى من هؤلاء من هم في الرابعة وإن شئت ففي الثالثة. . . والطريق إليها جميعاً سهل معبد ولكن لمن يرضى أن يكون ساعياً.
(عين)
رسالة الشعر
الأمسية الحزينة
للأستاذ محمود الخفيف
حطت على الأفق ظلال الغروبْ
…
كالشجنِ الطارقِ
وراحَ يمحو البشرَ فيهِ القطوبْ
…
في خطوهِ السارقِ
هذا السنا عما قليلٍ تذوب
…
ألوانهُ في سيله الدافق
صور لي يا عين هذا الشحوب
…
برح الضنى في وجنةِ العاشق
يا ويلتا ما بالُ هذا المساء
…
يهيجُ أشجاِنَيهْ
توحي إلى النفسِ معاني الفَناءْ
…
أضْوَاؤهُ الفاِنيَهْ
والريحُ كم غنَّتِ لسمعي البُكاء
…
وأسلَمتْ للوجدِ ألحاِنيَه
كم أحزنَتْ روحي هذى الظَّلالْ
…
وأزعْجَتْ ناِظرِي
كم أيقظَتْ في خاطري من خيالْ
…
عنْ أمسىَ الدابرِ
كأنما ألمحُ فيها المآل
…
لكلَّ موْموقِ السَّنا باِهر
وا لهفتا أغرَى بقِلبي الضلال
…
هذا الأسى الحيرانُ في خاِطري
أرقبُ في الأفْق تهاويلَهُ
…
طافيةً لاِعَبةْ
يا مُجْتلًى ما إنْ أرى مثلهُ
…
إلا المُنى الكاذِبهْ
تلك التَّصاويرُ التي حَوْلَه
…
كم أشبَهتْ أحلامِيَ الذاهبه
بالأمسِ قَلبي كان يَهفو له
…
جذْلانَ يهَوَى شمسَهُ الغاربه!
تذكري أنَّ وراَء الأُفولْ
…
والليلِ صبحاً يُرَى
يُلبِسُ معنى الحُزن هذى الفُلول
…
حتى تُرَى أكْدرا
يا ليتَ (لَيْلِى) مُعقِباً إذ يَطول
…
فْجَراً أُرَجى صُبْحهُ المسِفرا
الله لي في حُلْكةٍ لا تحول
…
في يَقظةِ الليلِ ولا في الكرَى!
تَزاَيُد الكدرةُ بين الغصونْ
…
ما ازداد غشيانُها
تُذكَرُ القلبَ غواشي الظنونْ
…
وَسوَسَ شَيطانُها
ستشربُ الخضرة هذى الدُجون
…
وُيغرقُ الأرْواحَ طُوفانُها
وتُشبِهُ الظُّلمةُ فيها المَنون
…
تَعِجُّ بالوحشةِ شُطآنُها
يا ظُلمةَ الليلِ نَسيتُ السّنا
…
وِنمتُ عنْ رَوْعِتهْ
قلبي المعنَّى قبلَ مَوْتِ المُنى
…
كم هامَ في فتْنتِهْ
كم هامَ بالصُّبحِ كسا الأغصُنا
…
بالساِكبِ المُنهلَّ من عُرْته
يَرفُّ مأخوذاً بهِ ما دنَا
…
وينَهلُ الفَرْحةَ من طَلْعتِه
الويلُ لي! يَزدادُ حولي السُّكونْ
…
إلا أنينَ الريّاحْ
كأنما طافَ الكرَى بالغُصونْ
…
ولفَّها باَلجناحْ
ساهمةٌ تقرأ فيها العيون
…
هذا الأسى الساري بكلَّ النَّواح
يا ويَح قلبي أذْهلَتهُ الشُّجون
…
حتى كأنْ لم يَدرِ معنى المِراح!
ذابتْ على الجوَّ فلولُ الرَّقيعْ
…
وماتَ فيهِ السَّنا
وأنكرَتْ عينايَ هذا القطيعْ
…
أقبلَ وانِى الُخطى
في إثْرهِ يَشكو وما مِن شَفيع
…
الصامتُ المكدودُ، طولَ العنا
وَدَوَّمَ الخُفَّاشُ حَوْلي يُذيع
…
في خَفقِتهِ قُرْبَ نُزول الدُّجى
وا حربَا ما انفكَّ مرْأَى الأصيلْ
…
يوقظُ أوهاِمَيهْ
يُعيدُ للنفسِ مَساَء الرَّحيل
…
وسُودِ أياِميَهْ
حينَ افترقنا بعد صَمتٍ طَويل
…
لا قَوْلَ إلا الأدمعُ الهاِمَيه
والشمسُ تمضي غير نورٍ ضئيل
…
مُحتضَرٍ يَفنَى كأحلاِميَه
مضَيتُ لهفانَ أذودُ الجوَى
…
عنْ قَلْبَي اليائسِ
أقولُ دَعْ ذكرانَ يَوْمِ النَّوَى
…
وعَهْدِهِ الدارسِ
قدْ كنتَ يا قلبُ نَسيتَ الهوَى
…
إلاّ بَقايا من أسًى هاِجس
رَبيعُكَ الطّلقُ توَلىِ سوَى
…
وسَاِوس من زَهْرهِ اليابِس
الضَّنَى
الضنى - لامسَّك العمرَ ضنى -
…
إنه دنيا بلاء وعَنا
طيفُ عزربلَ إذا دقْ على
…
منزل فزَّع فيه السكنا
ومحا الفرحة منه، ومضى
…
يملأ الأرجاء فيه حَزَنا
الضنى - لا ذقت أهوال الضنى -
…
يَطحن العزم ويُوهٍى البدَنا
يومه كالليل، والليلُ به
…
وقفة الحشر وأقسى مِحَنا
يتمنَّى الموتَ صرعاه، وكم
…
يركب المضطر ظهراً خشنا
صُوَر الدارِ إذا طاف بها
…
طائف الأدواء تدمى الأعيُنا
راقد يشكو، وزوج حوله
…
ترسل الدمع سحاباً هَتَنا
وأخ يدعو، وأم رفرفت
…
روحها حيرَى على ابن وَهَنا
وصغار خشعت أصواتهم
…
واستكانوا يَنشدون الوَسَنا
ويحهم! كم زلزلوا الأرض وكم
…
غمروا الدارَ صياحاً وِغنا
يا صحيح الجسم نُعماَك! فلا
…
تأس إن فاتَكَ موفور الغنَى
إنما الصحة نْبعٌ طالما
…
فاض بالخير ومعسول المُنَى
فريد عين شوكة
خطرة في داء
مطمحي في الشفاء، أين الشفاء؟
…
أقعد العجز همتي والداء
إنما مطمح الحياة شباب
…
ما لمن يفقد الشباب رجاء
كنتُ والريح طالما نتبارى
…
بجناح تُطوى به الأجواء
كنتُ والطير طالما نتناجى
…
بلسان يسيل منه الغناء
فلساني قد أخرسته العوادي
…
وفؤادي أودت به اللأواء
أقعدتني عن التنقل رِجلٌ
…
لست أدري ما خطبها، ما تشاء؟
تتأذى إذا همتُ بسير
…
وإذا ساء جانب لي تُساء
بينما الداء ها هنا يتفشَّى
…
يتمشى كأنه الكهرباء
فإذا بالبلاء لا يبرح المد
…
نف حتى يجيء منه بلاء
يا عليلاً سميره الألم المضني
…
وعواد دائه الأرزاء
هل تهدمتَ، فاعتزمتَ أُفولاً
…
أو تمثلت أن تدانى انتهاء؟
لم تزل قمة تناديك فانهض
…
إنما مطمح الحياة ارتقاء
مد داِمَي الجناح واخفق صعوداً
…
تتلقى دماءك الغبراء
يا خيالي! إن أقعدتنيَ رجلي
…
فلك الأُفق مسرحاً والسماء
إن روحي تأبى التقيد بالج
…
سم وتمشي، والغاية العمياء
(حلب)
خليل هنداوي
صراع!
تعاودني الأوهام في كل آنة
…
فيا ليت أوهامي تزايل وحدتي
أرى بين هذا الناس فراداً، وإنني
…
لجمع كثير لو دروا ما بطيتي
بفكري أضداد تغرب نورَه
…
فليس بفكري غير أشباح ظلمة
فطوراً أراني هادئاً متبتلاً
…
وطوراً أراني في ضلال وريبة
وقلبي مذعورُ الأناشيد تارة
…
وطوراً يغني في صفاء وفرحة
صراع عنيف كدت من لَزَباته
…
أعيش بلا رشد ووعي وفطنة
نشأت على الدنيا أغنى. . فليتني
…
بقيت على الدنيا أردد غُنوتي
وهتْ من يدي قيثارتي فتركتها
…
محطمة تبكي غيابي وغربتي
وسرتُ كأني مدبر من هزيمة
…
عليه من الآلام أطياف خيبة
أنا الصارخ الشاكي الحزين فليتني
…
أعود لأنغامي ونايي وأيكتي
تشاكيت. لكن لم تفدني شكايتي
…
وما زال صبحي غائماً مثل ليلتي
يقولون: مجنون فقلت: نعم نعم!
…
وسر جنوني حيرتي وتعلتي
كرهت الذي بالأمس كنت أحبه
…
وأحجمت عما كان بالأمس شِرعتي
يعيش بنو الصلصال يلهون في السنى
…
ويحيا بنو الأنوار نهب الدجنة
خذوا من فؤادي وهمه وضلاله
…
ومدوا على دربي شعاعي وسكتَّي
تروني على قيثارتي مترنماً
…
أغني أغاريدَ الهوى والمسرة
وأنتم حيالي مطربون. . تهزكم
…
لحون سعاداتي وأقداح كرمتي
عبد العليم عيسى
الأدب في أسبوع
الفن
كنت أرجأت الحديث عن (الفن الفرعوني) الذي أراد الدكتور طه حسين أن يجعله أحد العناصر في (الغذاء الروحي والعقلي للشباب) في عصرنا هذا، وهو رأى متداول قد عاد إليه فلان وفلان ممن استطارتهم العصبية فعصفت أعاصير بعماد الرأي وحسن البصر وكمال التقدير لما ينبغي أن نقيم عليه حضارتنا المصرية الإسلامية. والعصبية هي دليل الضعف، وهي الآفة التي تتخون الرأي، وهي الهدم الذي يأتي بنيان العقل والعاطفة من القواعد حتى يدمره تدميراً. وسنوجز القول ما استطعنا، فإن الإفاضة والشرح والبيان مما لا يتسع لها هذا الباب.
فالفنان هو القلب النابض الذي يفضي إليه الدم الحي الذي تعيش به حضارة أمته في عصره، وهو الفكر القلق النافذ المتلقف الذي ينقد الحياة الاجتماعية في عصره بألفها أو ينكرها، وهو العبقرية الماردة التي لا تخضع إلا لناموس الحياة الأعظم. والفنان بطبيعته الإنسانية فكرة معبرة عن حقيقة الاجتماع الإنساني الذي يعيش عليه، وعن طبيعة الأرض التي يمشي فيها، والسماء التي يستظل بها؛ وكل أولئك ينشئ للفنان أفكاراً وأخيلة وأحلاماً تستمد غذاءها من ينبوعها الذي يتفجر بين يديه ولعينيه وفي قلبه.
ونحن لو تتبعنا الآثار الفنية وتاريخها في كل أجيال الناس من الهند والصين والعرب والترك والروم، وكل الأمم القديمة، وسائر الأمم الحديثة - لم نخطئ أثر الحياة الاجتماعية في الأثر الفني، ولا أثر الطبيعة الجغرافية في جوه الفني. ونعني بالحياة الاجتماعية كل ما تقوم عليه من الدين وعقائده وشرائعه، وما يتميز به العصر من الأخلاق والعادات والوراثات والأساطير الشعبية التي انحدرت إليه من القدم، ثم سائر أسباب الحضارة المعاصرة بكل مادتها وألوانها وحقائقها وأباطيلها. وأما الطبيعة الجغرافية، فهي صورة الأرض بنباتها وأنهارها وفدافدها وحيوانها وغابها، وما إلى ذلك، وجو السماء بصفائه والتماعه وشمسه وقمره ونجومه وسحابه وثلوجه وصيفه وشتائه وربيعه، وغير ذلك مما يولد في نفس الفنان ألواناً من أخيلة الفن التي يريد تحقيقها أو تمثيلها أو ابداعها؛ والأثر الفني لا يمكن أن يكون خالياً من تأثير هذين العنصرين المميزين.
فالفن - ولاشك - نتيجة من نتائج الاجتماع الإنساني والطبيعة التي تحتضنه، فهو يتأثر بها تأثراً بينا، لمكان الإحساس المرهف البليغ من الفنان القدير المتمكن. فأعظم الآثار الفنية التي يعدها الجيل الأوربي - مثلاً - في طليعة العبقرية الفنية، هي الآثار العظيمة الخالدة، التي نشأت وربت وترعرت وامتدت تحت ظلال الكنيسة والعقائد المسيحية، التي عاش في مدنيتها الفنانون الذين أبدعوها، وتأنقوا فيها وبالغوا في إتقانها؛ ونحن لا نحتاج هنا إلى أن نضرب المثل بفلان وفلان من الفنانين الإيطاليين والفرنسيين وغيرهم، ولا أن نعدد آثارهم التي بقيت إلى اليوم أصلا للفن الأوربي الحديث. وهذه الآثار كما يشاهدها المشاهدون تختلف باختلاف الطبيعة الجغرافية التي هي سبب ثان في إنتاج الفنان. فكذلك الفنون الصينية والهندية تتميز بالاجتماع الوثني الذي يعيش فيه الفنان الصيني أو الهندي، وبطبيعة البلاد الهندية والصينية. ونحن لا نشك أن أعظم الفنون والآثار عامة قد كان نتيجة لازمة للعقيدة الدينية - وثنية كانت أو إلهية - وللطبيعة الجغرافية التي تمد عليها من ظلالها؛ وإن الدين والعقيدة هما عماد الاجتماع وأصله وأعظم مؤثر في توجيه أغراضه وحياطتها وتدبيرها وتوليدها، فهما إذن اصل قائم في الحضارة التي تدين بهما مهما تطورت بعد ذلك وخرجت عليهما فأهملتهما. وذلك لأن الشعوب تحتفظ من الأديان بخصائص كثيرة لا يمكن أن تؤثر فيها تطورات الحضارة المدنية الخاضعة للعلم والسياسة وما إليهما.
الفن الفرعوني
فالفن الفرعوني - بغير شك - ليس إلا نتاجاً مركباً من الوثنية المصرية الفرعونية والطبيعة المصرية الرائعة القوية، وأثرها بين في هذه الأبنية الضخمة بتماثيلها الغريبة المتقنة المختلفة الدلالات على المعاني الدينية المصرية القديمة، وعلى الأصول الاجتماعية الخاضعة للوثنية الفرعونية التي كان يعيش عليها الشعب المصري القديم. فهذه الديانة القديمة الجاهلية التي عبدت أوثانها وتقدست بعقائدها الباطلة، وخضعت لأساطيرها الرهيبة المخيفة، واستمدت تهاويلها من الإيمان بجبرية هذه الأوثان والقوى الطبيعية المختلفة كالشمس والنيل والتمساح وكذا وكذا من الأوهام الغالية، هي أنتجت هذا الفن المصري القديم بمعابده وتماثيله وكتابته الهيروغليفية المعبرة أدق تعبير عن حقيقة المدد الفني للآثار
المصرية الفرعونية.
والفنان الفرعوني لم يستطع أن ينشئ هذه الآثار الهائلة الغريبة التي بقيت هذه القرون الطوال تتحدى الزمان المتطاول عليها، ولم يمنحها هذا الجبروت الهائل والاستبداد الطاغي إلا بالقوة التي أنشأنها ودبرتها له عقائده الوثنية الرهيبة، وإيمان المجتمع المصري بها إيماناً خاضعاً متعقباً أيضاً، وأعانتها الطبيعة الجغرافية المصرية العظيمة بشمسها وقمرها وصيفها وشتائها، وصحرائها التي تحف بالنيل العنيف المتدفق بسلطان طاغ كسلطان الفراعنة الملوك. كل أولئك أثار الفنان وأمد إحساسه المرهف بالمادة التي استطاع أن يصوغ فيها فنه الوثني العبقري
وعلى ذلك فيجب أن تقرر أن الفن المصري الفرعوني - على دقته وروعته وجبروته - أن هو إلا فن وثني جاهلي قائم على التهاويل والأساطير والخرافات التي تمحق العقل الإنساني، فهو إذن لا يمكن أن يكون مرة أخرى في أرض تدين بدين غير الوثنية الفرعونية الطاغية - سواء أكان هذا الدين يهودياً أم نصرانياً أو إسلامياً أو غير ذلك من أشياء الأديان.
تمثال نهضة مصر
وهذا (تمثال نهضة مصر) القائم في (ميدان المحطة)، والذي أقامه المثال القدير (مختار)، أنا أراه فلا أرى فيه إلا تقليداً فاسداً لآثار حضارة قد دثرت وبادت ولا يمكن أن تعود في أرض مصر مرة أخرى بوثنيتها وأباطيلها وأساطيرها وخرافاتها. نعم، هو تقليد رائع يدل على قدرة الفنان الذي نحته، ولكنه لا معنى له الآن في مصر الإسلامية. هل يستطيع الفنان الذي نحته وأقامه أن يعيد في مصر تاريخ الوثنية الجاهلية، واجتماع الحضارة الفرعونية، وما يحيط بذلك من الأبنية الضخمة التي شادها أوائله، والتي كانت وحياً للفنان الفرعوني الذي عبد الشمس وخضع لفرعون وأقر له بكل معاني الربوبية، وآمن بالأباطيل والأساطير والتهاويل الدينية الوثنية الضخمة الهائلة المخيفة التي قذفها في قلبه أبالسة عصره من الجبارين والطغاة؟ وهل يستطيع أن يجعل في أرض مصر شعباً وثنياً متعبداً للفراعنة والجبابرة بالخوف والرهبة والرعب حتى يتأثر بمعنى هذا الضرب من الفن المصري القديم؟ ولكن أفي مصر الآن من الشعب من يستطيع أن يجد له معنى أو تأثيراً أو
اهتزازاً إلا من القدم وأخيلة القدم؟ كلا. . . كلا.
لقد ذهب كل هذا، لقد دثر، لقد باد. إن الأصول الفنية التي يكون بها الفن فناً قلما تتغير، وهي ممكنة دانية في كل الآثار على اختلاف أنواعها وبلادها وأراضيها وأديانها، ولكن روح الفن هي دين المجتمع وعقائده وطبيعة أرضه وسائر أسباب حضارته، وهي التي تمنح الفنان القوة والقدرة على الإبداع، وهي التي ترفع فنه أو تضعه.
وإذن فدعوة الدكتور طه إلى الاستعداد من الفن الفرعوني - كما استمد (مختار) - ثم دعوته إلى جعل اجتماعنا اجتماعاً إسلامياً، ثم استمدادنا أيضاً من الفن الإسلامي - تناقض عجيب في أصل الرأي، لا يمكن أن يكون ولا أن يعمل به إلا إذا شئنا أن نوجد لمصر حضارة مقلدة ضعيفة ملفقة من أشياء ليست نتيجة ولا شبه نتيجة للاجتماع المصري الإسلامي الحديث الذي تدعو إليه ويدعو إليه الدكتور طه حسين!!
وبشر أيضاً!!
يقول بشار بن برد لخلف بن أبى عمرو في حديث جرى بينهما معابثة ومزاحاً:
ارفْق بعمرو إذا حركتَ نسبته
…
فإنه عربيٌ من قواريرِ
وصديقي (بشر) قارورة عطر نشوان من نفحات روحه، قارورة عربية معربدة تختال بطيها تياهة من الخفة والطرب. وأنا أرفق به ولكنه يأبى - كرماً منه - إلا أن يتحطم في يدي ليسكب طيبه عليها فيعبق بها، ويبقى أبداً يتضوع منها نسيماً يسكر، ويعلق بهذا القلم من عطره أثر خالد كرائحة الحبيبة في ذكرى المحب، و (للرسالة) بعد ذلك من شذاه ما يفور وما يتوهج وما يسطع من نضج عبيره.
وبشر - هذا الإنسان الرقيق - يتجهم لي ويملأ علي (بريد الرسالة) زلزلة ورعداً وبرقاً وصواعق. . . ويبصرني بفروق اللغة بين (وضع بحراً) و (اخترعه)!! وأنا بلا شك لا أستطيع أن أشغل نفسي بتبصيره بمنطق اللسان العربي. ثم لا يكتفي بهذا بل هو يغلو في تقديري فيعدني من (الخلق) الذي يقف على معاني الألفاظ العربية من (إلا كباب على قراءة الصحف اليومية)!! كلا، بل يجوز ذلك فيعلمني مجاز العربية وحقائق بيانها ودقائق ألفاظها!! أوه، بل هو يعرفني بالقرآن لأني (من عامة الناس في هذا الزمان) ممن يفهمون القرآن - كلام الله - بما يغلب عليهم من عامية العصر!! ولا يكون كل ما يكتبه (بشر) من
علمه هذا (إلا على جهة التسلي والتلهي)! بلى، فهو يرحمني ويشفق على أن يدخل بي في المقاييس العربية الدقيقة الغامضة التي تستهلك قوة العقل والإدراك، فهو يأخذني من قريب!! وأنا قد أخطأت وأسأت وأثمت وحبط عملي، ومحقني اندفاعي إلى شعر بشر (أتلمس) - هكذا قال بشر - أتلمس له الخطأ!!
ولا كل هذا أيها العزيز، (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة)، وأنا يا بشر لا أطاولك في علم ولا فقه ولا بيان ولا معرفة، فأنت أنت، وأنا حيث أنا من العجز والبلادة، ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه.
ومن جَهِلتْ نَفْسُه قدرهُ
…
رَأَى غيرهُ منْه ما لا يَرَى
وأنا يا صديقي أقل شأناً وأضعف من أن أجرى في عنانك، ولكنك - إذ كتبت ورددت وأعطيتني فوق ما أستحق في نفسي - تحملني على المركب الصعب، فكان أولى بك أن تهملني، فإما إذ أبيت فلا بأس عليك إذ أنا أقحمت نفسي معك؛ فاصبر على هذا البلاء (فالحر يظلم أحياناً فيظلم)
وقد زعموا - أيها العزيز - أنه كان رجل عبادي بالحيرة البيضاء، فلاقى ضحضاحاً من الماء لابد له أن يجوزه ويخوض فيه، فاستعان الله وأقبل على الماء - وهو إلى الكعبين حسب - فلما دخله صاح:(الغريق، الغريق!) يستنجد أصحابه، فتناولوه يسألونه: ما دعاك إلى هذا وليس غرق؟ فقال: (أردت أن آخذ بالحزم)
وأنت - أيها الصديق - تأخذ بهذا الزم، فتهرول إلى (لسان العرب)، و (أساس البلاغة) و (الألفاظ الكتابية) تحشد لي ما جاء فيها من مادة العربية في قولهم (زلزل) ولا تكتفي بهذا بل تسعى إلى (الأغاني)(طبعة بولاق!) تقلب أوراقه، تستخرج تراجم المغنين وأصحاب الملاهي كإسماعيل بن جامع وإبراهيم ابن ميمون الموصلي - وغيرهما في دواوين العربية وأصولها - فتفلي ألفاظها وتجري عينيك وراء إصبعك على حروف الكلمات عساك تقع على جملة يكون فيها (زلزل) وما يخرج منها وما يتداعى إليها، ولا تكتفي أيضاً فتتناول من بين كتبك أحد فهارس القرآن الكريم - (وهو الحجة العليا في مثل هذه المشكلات) - كما قلت وإن لم تقل، فتجد اللفظ في آيات بينات منه. فتجمع ذلك كله في مقالك - أو ردك على - حشداً بارعاً عظيما تضاهي به عمل (المستشرقين) الثقات الإثبات المتضلعين
المتقنين المجيدين! الذين لا يدعون للحرف مكاناً إلا نبشوه وتقصوه ورموا بعضة فوق بعض (أخذاً بحزم العبادي. . .) الذي عرفت. وهو أسلوب فاسد عندنا لا يعول عليه في الحجة، وإنما هو أسلوب ضروري حسن حين يراد منه المقارنة والتدبر لاستخراج المعاني من الألفاظ وبيان سرها من الحقيقة والمجاز ودقة التصوير للأغراض التي نصبت لها هذه الألفاظ.
والنصوص التي جمعتها وحشدتها ورتبتها تختلف في حقائقها ومجازها في العربية، وأنت لم تشرح حرفاً واحداً منها تبين عن وجه مجازه على العبارة التي وقع عليها، ولو كنت فعلت ذلك أو أحسنته لطويت كل الذي نشرته عليّ وعلى القراء. . . تعلمني به ما غاب عني من (القرآن وهو في صدري، والتفسير والحديث واللغة وهي شواغلي) - كما تقول - وأنا لا أضن عليك، أيها الصديق، بما يجعل لحشدك هذا - الذي رعتنا به حين قذفته علينا - قراناً ونظاماً يسلك فيه ويمضي عليه، ويعرف به من لا يعرف سر البيان وكيف يكون مجازه على طريق اللسان العربي المبين!!
فأصل الحرف (زلزل) من (زلّ الشيء إذا زلق فتحرك فتدأدأ، فمر مراً سريعاً في ذهابه عن مستقره). فلما ضعفت العرب الحرف، فقالوا:(زلزل وتزلزل)، ضاعفوا معنى هذه الحركة، فكان معناها الحركة الشديدة العظيمة والاضطراب والتزعزع، وتكرار هذه الحركة مرة بعد مرة، حتى كأن بعض الشيء يزل عن مكانه، فينقض على بعض ويتساقط ويتقوض. وإذن، فشرط مجاز هذا الحرف أن يكون لشيء يتحرك حركة عظيمة شديدة، فالرجل يتزلزل، والأقدام والأيدي والرؤوس والقلوب وما إليها من أعضاء الإنسان المتحركة حركة ما، وكذلك الحيوان كالإبل جاء راعيها بها (يزلزلها) أي يسوقها سوقاً عنيفاً كأنها تزل معه مرة بعد مرة، والمكيل في مكياله كالبر والشعير كل يتزلزل لأنه يحرك فيتحرك، والدار والأرض والدنيا كلها تتزلزل لأنها تتحرك أو يجوز عليها الحركة فيتهدم بعضها على بعض، والنفس كذلك لأنها تضطرب في حيزوم المحتضر اضطراباً شديداً يتجلى في الكرب الذي يلحقه والضيق الذي يأخذه، فينتزع الأنفاس، ويضطرب القلب بالنبض الشديد، ويزيغ البصر، وتتحرك اليد والرجل في الحشرجة حركة كثيرة شديدة بتردد النفس في نزاع الموت والحياة. ومع ذلك فأنا أدع أشياء كثيرة لا أتناولك منها أيها
الصديق.
أما الأُذن. . . فالإنسان من بين جميع الحيوان هو الذي لا يحرك أذنيه ألبتة، لا في طرب ولا غضب، فما بالك وهي ليست مجرد حركة، وإنما هي حركة شديدة مهدمة لأنها زلزلة. فإذا علمت ذلك وتلقيت وتدبرته وأحكمته ولم يأخذك العناد عليه عرفت أنه لا يمكن أن تقول (أذني زلزلت) لأن الزلزلة تتطلب أصلها المقرر وهو الحركة والانتقال والزلة بعد الزلة من مكان إلى مكان ولو على وجه المبالغة. فدع أذنك من آذان خلق الله الذين صورهم فأحسن صورهم - إن شئت. وأنا لا أصنع في كلامك هذا تعباً فأتلمس لك الخطأ كما تزعم، ولكن انظر يا بشر كيف يتكلم الشعراء عن الآذان وعن الزلزلة؛ يقول بشار في مغنية:
لعمُر أَبى زُوَّارِها الصّيدِ، إنهم
…
لفي مَنظر منها وحسنِ متاعِ
(تُصلى لها آذانُنا) وعُيوننا
…
إذا ما التقينا والقلوبُ دَوَاع
إذا قَلدَت أطراَفها العود (زَلزلتْ
…
قلوباً) دَعاها للوساوِس داعِ
يروحون من تغريدها وحديثها
…
نَشاوَى، وما تسقيهم بصُواع
لعوبٌ بألباب الرجال وإن دنت
…
أطيع التُّقى والغي غير مُطاعِ
فانظر صلاة الآذان بالخشوع والإنصات والسجود للصوت، وتأمل زلزلة أوتار العود التي تزلزل القلب بوقعها وتوقيعها. وكيف أتم المعنى بذكر الوساوس وهي قلق واضطراب. . . وأما أنت أيها العزيز
فلا تذهبْ بحلْمك طامياتٌ
…
من الخُيلاءِ ليس لهن بابُ
فإنك سوف تحكمُ أو تَناهَى
…
إذا ما شبتَ أو شاب الغرابُ
محمد محمود شاكر
رسالة الفن
من لوازم الفن
لو أكلت الشجرة أثمارها!
(إلى الذين يريدون مني أن أكون مؤدباً)
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- مالك مقطب الجبين؟
- بعض الذين أحبهم ساخطون علي
- من طول لسانك. تعلم الصمت. . . دارِ الناس. . . تأدب تجدهم يحبونك. . .
- إذا فعلت كذلك كرهت نفسي
- عجباً! ألا تحب نفسك إلا إذا كنت شتاما؟
- لست أشتم أحداً، لكن أرى، وافهم، وأصف. والله يعلم أني لا أقصد من وراء ذلك شيئاً. . .
- هذا أنكى وأمر. فقد كنت أحسب أنك تقصد من وراء ذلك إصلاح الذين تذكر عيوبهم
- ربما كان ذلك يجول بخاطري أحياناً. ولكن عندما تحتد بي الحكمة أشهد على نفسي بأني عاجز عن هذا الإصلاح. فلهذا الكون إله يديره، وهو قد رضى عن ناس فهداهم، وهو قد أضل ناساً لم يرض عنهم، وقد أنبأ الله رسوله المحمد بأنه لن يهدي من أضل الله، ومن أنا إلى جانب الرسول حتى أزعم أني أهدي وأرشد؟!
- إذن فما لك لا تسكت؟
- لأن الله خلقني ناطقاً، فإذا لم أنطق عطلت رغبة من رغبات إلهي، وأعدمت بيدي مبرر وجودي، وكنت بعد ذلك جديراً بالفناء، فليس لي في هذه الدنيا عمل إلا أن أقول. . .
- تستطيع أن تعمل شيئا غير ذلك. . . ألست إنساناً عاقلاً؟
إنك تزعم أنك عاقل، وإني أرى أكثر اهتمامك متجهاً إلى التأمل في الناس ودراسة نفوسهم، ولا أكتمك إعجابي بكثير من دراساتك هذى، فلماذا لا تستغل قدرتك هذه على الإلمام بالناس ونفوسهم، في السيطرة عليهم واستغلالهم؟. . . لماذا تصدمني بذكر عيوبي مجسدة
مكبرة مهولة، وأنت تستطيع أن تسيطر على وإن تعبث بعقلي ما دمت تعرف مواطن الضعف فيه. . .؟
- هذا الذي تطلبينه يصنعه التاجر، ويصنعه رجل السلك السياسي، ويصنعه الجاسوس، وتصنعه المرأة؛ ولكن لا يصنعه الكاتب، ولا الرسام، ولا الشاعر. . . ألم تقرئي تاريخ المتنبي؟ أو لم تقرئي شعره؟ هل رأيت في الناس من هو أحكم منه، ومن هو أشد خبرة بالنقوش منه؟ إلا تظنين أن المتنبي كان يستطيع العبث بكل ملك من أولئك الملوك الذين قربوه وفضلوه على غيره من المقربين؟ إلا تظنين أنه كان يستطيع أن يبيع سيف الدولة وإن يشتري الإخشيدي؟ أنه كان من غير شك يستطيع، فلماذا لم يفعل؟!
- لأنه كان سخيفاً؟
- قولي أنه كان سخيفاً في هذه، وقولي أنه كان مجنوناً، ولكنني أقلوا أنه كان أميناً.
- أميناً لمن؟ ما كان أميناً لنفسه، فلو كان كذلك لأفاد نفسه، وما كان أميناً لسادته أو أصحابه، فلو كان كذلك لما سبهم وذكر عيوبهم. . .
- كان المتنبي أمينا لك أنت، وكان أميناً لي أنا، وكان أميناً لكل الذين عاشوا بعده وقرءوا شعره، فقد كشف لنا المتنبي عن حقيقة ربما كنا سنظل نجهلها لو لم يقفنا عليها، ولكنه صرح بها، وذكرها وقال لنا: يا خلق الله لا تشتروا العبد إلا والعصا معه، أن العبيد لأنجاس مناكيد. . .
- أو لم يكن المتنبي يعرف أن العبيد أنجاس مناكيد قبل أن تضطره الظروف إلى أن يقول هذا؟
- صدقي أني أكره في المتنبي احتماله الطويل لكافور قبل أن يصفه هذا الوصف، وصدقي أني لا أغفر هذا الاحتمال للمتنبي إلا بهذه الثورة التي ثارها على كافور آخر الأمر، وصدقي أني لو كنت مكان المتنبي ما كنت تقربت من كافور ولا من غيره، لأني رأيت أصحاب السلطان يعتزون بسلطانهم، كما يعتز أصحاب المال بأموالهم، وكما يعتز أصحاب الفكر بأفكارهم، ولا يمكن أن يعاشر معتز معتزاً إلا إذا كان أساس العلاقة بينهما استغناء كل منهما عن الآخر، وكان المتنبي يستطيع أن يستغني كما استغنى أبو العلاء، ولكن أطماعه ثقلت على نفسه فسوأت بعض تاريخه، وإن كانت أطماعه هذه هانت عليه أحياناً
عندما استعصت فانقلب عليها مستهجناً ولكن كما يغضب الطفل على مشتهاه إن قصرت عنه يداه.
- فالمتنبي عندك رجل سوء.
- لا. ولا يمكن أن يكون كذلك. فالرجل الذي يغاضب أصحاب السلطة حين يشعر أن كرامته مست لا يمكن أن يكون رجل سوء. وإنما رجل السوء الذي تمس كرامته كل يوم فيرضى، والذي تهون عليه الإساءة بما يأكل من السمن والعسل. . . هبي المتنبي احتمل سيف الدولة، وطأطأ الرأس لغضبه، وهبيه لأن الكافور واستمسك بعشرته وتعلق بنعمائه. . . أفما كان يستلزم منه هذا أن يسكت عن الإفاضة بما يشعر به من وخز الألم، أو أن يفيض بالذي لا يشعر به من الراحة والسعادة؟ وهبيه قد فعل هذا. . . أفما كنا نخسر هذه الثروة الفنية التي خلفها لنا غضبه والتي بعثتها ثورته؟ ثم ألم يكن المتنبي مضطراً في المجاملة أن يقول شعراً كذباً ككل شعر كذب قيل في عصره فمات ولم يخلد غير شعر المتنبي. . .؟
- ولكن المتنبي قال شعراً كذباً
- أي شعر هذا الكذب الذي قاله؟
- مدحه الأول لكافور. . . أفكان كافور يستحق أن يمدحه شاعر كالمتنبي. . .؟
- ولم لا؟ ألم يمدح الشعراء الحيوانات؟ كافور رجل أحسن الظن بالمتنبي في البدء، وأحسن على هذا استقباله، وأحسن بعد هذا تكريمه، وكل هذا جدير بأن يبعث في نفس الشاعر الراحة وهذه الراحة تبعث في نفسه حب جالبها، وهذا الحب يبعث المدح. . . على أنك إذا قرأت مدح المتنبي لكافور رأيت فيه تحوطاً ملحوظاً، ورأيت المتنبي يقول وكأنه يحس أن مدحه أكبر من ممدوحه، ويكفيك هذا - فيما أظن - تصويراً صادقاً لإحساس هذا الفنان الذي رأى رجلاً هو يعرف النقص فيه ومع هذا فهو يحبه لتكريمه إياه. . .
- إذن فالمسألة تدخل فيها الاعتبارات وليست مجردة منها، والمتنبي كان يحب الذين يعطونه لا الذين يستحقون حب الإنسانية الخالصة. . .
- هذا عيب كان في المتنبي، وأنت تلحظين هذا العيب وتذكرينه، وأنا أوافقك على ذكره وأعده من مساوئ المتنبي لا من حسناته، وأزيد على ذلك فأقول لك أن هذا العيب هو الذي
قضي على حياة المتنبي بعد أن قضى على كرامته أيضاً، فأنت تذكرين أنه هوجم في الطريق فأراد أن يهرب، ولكن غلامه ذكره بكلام ينسب له لنفسه فيه الشجاعة، فارتد ونازل مهاجمه حتى لاقى حتفه. . . فلو لم يكن المتنبي يتهاون في الحق أحياناً لما فخر بشجاعته وهو يعلم أنه غير شجاع، ولو كان قد أظهر نفسه على حقيقتها في شعره لما اضطر إلى أن يقف في آخر ساعة من ساعات حياته هذا الموقف المضطرب الذي مات فيه. . إن المتنبي لم ينته هذه النهاية إلا لأنه اضطرب بين فنه وأطماعه. . . بين بيت الشعر الذي يفخر فيه بشجاعته وبين حبه للنجاة ورغبته في مواصلة التجوال بين أرباب العروش. . .
- فإذا كنت أنت في موقفه فماذا كنت تصنع؟
- أما أنا فإني لا أفخر إلا بالذي أتحلى به من الفضائل أن كانت في فضائل، وإني لا أذكرها على سبيل الفخر، وإنما أسردها سرداً كما أسرد كل ما في من العيوب، ولعلك تقرين بأني أكثر من رأيت من الناس إظهاراً لعيوبهم، وهذا من غير شك هو انتقام الطبيعة إلى سلطتني على عيوب الناس ومحامدهم أذكرها وأرددها، فأنا مع نفسي مثلما أنا مع الناس، وما دمت غير شجاع فلا يمكنني أن أقول أني شجاع ومقاتل، وهذا هو الذي كان يمكنني من الهرب عند هجوم العدو لو أني كنت المتنبي. . .
- وما الذي يمنعك ما دمت تعترف بأن لك عيوباً من إصلاح هذه العيوب؟
- لا شيء. ولا ريب أن من ذكر عيوبه كان هذا دليلاً منه على نية إصلاحها، وهو من غير شك ينصلح قليلاً قليلاً، ويتخلص من نواحي الضعف فيه شيئاً فشيئاً، ومهما يكن فإن الصدق الذي يميزه ليس شيئاً هيناً. . .
- أنا لا أوافق على أن يكون هذا الصدق مبرراً يستبقي الإنسان به عيوبه، ويفضح به عيوب الناس. أن هذا صدق قبيح يجب أن يزول. . .
- أما أنه قبيح فانه يكون قبيحاً. . . ولكن هذا لا يعنيني ولا يعنيه، ولا يحط من قدره، فليس بعيب الصبر أنه مر، ولا يعيب الليمون أنه حامض، وإنما الصبر المعيب هو الذي فقد مرارته، والليمون المعيب هو الذي عطب فذهبت حموضته. . .
- يا لباقتك! أما تستطيع أن تحبس هذه اللباقة لنفسك وإن تنتفع بها. . .؟
- يا أنانيتك! أي زهرة في الدنيا تحبس أريجها عن الحياة؟ أنها لا تستطيع ذلك لأنها وجدت للوجود لا لنفسها. . . إن الكون ينادي في الخلائق ما منحها. . . الثمرة تنضج فتقفز من غصنها إلى الأرض إذا لم تقطفها يد، وأنت تريدين مني أن تنضج الفكرة في رأسها وإن أزدردها لنفسي؟ كنت أستطيع هذا لو أكلت الشجرة أثمارها!. . .
- إذن فأنت تطلب من يأكلك. . .
- الذي يأكلني هو الذي يسمعني. . .
- وقد يمقتك من يسمعك فيقتلك. . .
- فلتكن إرادة الله، ولست أجهل أن الله خلق من يأكل ومن يؤكل، ومن يقتل ومن يقتل، وكم مات أصحاب الفكر في إيمانهم
- ستعود فتكسو نفسك بطولة لست أنت أهلها، وأنت وقعت الآن فيما عبت على المتنبي الوقوع فيه. . .
- لا يا هذه، إني لم أقل إني مقاتل مغوار، وإنما قلت إني مؤمن بالله وقضائه، وإني لازم رأيي، وإن شاء الله قضاءه. . . وأما المقاومة، وأما هذه الشجاعة البدنية فإني أعجز الناس عنها. . . إنما أنا كالجرذ أعرف أن لي في الحياة حقا آخذه، وأحاول أن آخذ هذا الحق، ولا يمنعني من هذا علمي بأن في الدنيا قططاً وسنانير هي أقوى مني. ولست أفكر إن لاقيت القط أن أقاومه لأنه لا جرذ يقاوم قطا، وإنما هو يحاول الهرب إذا كان للهرب سبيل، أما إذا فاجأه القط استسلم له، وربما هفا إليه. . . تلك هي الطبيعة، والكائنات - كما قلت لك - تتنادى و (تتهاتف) ويفنى بعضها في بعض ولا يبقى غير وجه الله الكريم. والكائنات تطاوع هذا القانون ولا تتكبر عليه، وحق الإنسان أن يكون انصياعه له أكثر واظهر من انصياع غيره مما لم يميزه الله بنعمة العقل، ولعلك ترين أن أهل الفن وحدهم والصالحين هم الذين يستسلمون لهذا القانون وأن غيرهم من الناس ينتكسون بعقولهم على أنفسهم، ويلحظون في حياتهم من الاعتبارات ما لا تقيم له الطبيعة وزناً. . . مثلما فعل المتنبي. . .
- وهلا تريد أن تحسب المتنبي بين الفنانين؟. . . هذا الشاعر المجيد الخالد؟
- إنه فنان من غير شك، ولكنه - غفر الله له - كان يتذبذب كما قلت لك بين الفن وبين
أطماعه في الدنيا، وكان يستطيع أن ينقى من هذا، وأن يصقل في نفسه كبرياءه بأن يحرم عليها الترجي في الخلق دون الله، ولكنه ضعف أمام بهارج الدنيا فاختل. . .
- كيف تقول إنه اختل، مع أنك قلت إنه كان حكيما أو كما قلت أحكم الناس؟
- كان حكيما لأنه كان يراقب الناس، وكان إذا راقب تيقظ عقله ووقف على الحق والباطل من أمثالهم وأقوالهم، وكان مختلاً لأنه لم يكن يراقب نفسه، بل إنه لم يكن يعرف فيم يعيش، فهو يقول عن نفسه: إنه عاقل، وإنه ذكي، وإنه عالم، وإنه حساس، وإنه فصيح، وإنه أهل لكل جاه وكل سلطان؛ ثم لا يفعل شيئاً أكثر من أن يسأل الناس أن يعطوه، فإذا أعطوه فهم فضلاء، وإذا لم يعطوه فهو أهل لهجائه. . . وليس بعد هذا خلل وليس بعده اضطراب.
- وماذا كنت تحسبه يستطيع أن يفعل، والحكمة لا سوق لها ولا ربح وراءها؟
- كان يستطيع أن يرتزق من صناعة أو من عمل، وإلا فكان يستطيع أن يصبر على فاقة الحكمة. . . وأن يسعد بنعمائها.
عزيز أحمد فهمي
رسالة العلم
أرقام تتحدث وتنبئنا عن أسرار الكون
للدكتور محمد محمود غالي
آنية (بيران) وجوها العجيب - رقصة الكرات في الآنية -
نظام توزيعها - أمثلة عملية من هذا التوزيع - في زرقة
السماء دليل على مقدار الذرة - عندما نطالع هذه السطور
تسيطر علينا الفوتونات.
استغرقت تجارب (بيران) مقالين ولم نتمها بعد، وفي هذه الأسطر نحاول أن ننتهي من أسطورته الخالدة، لهذا نترك المقدمات لنتكلم على صميم عمله التجريبي.
في آنية صغيرة بها سائل يبلغ ما يعنينا فيها من ارتفاع 110
المليمتر أجريت كل تجارب (بيران) الذي ترك فيها عدداً
كبيراُ من الكرات الصمغية الصغيرة التي يبلغ قطرها كسراً
من الميكرون (الميكرون 10001 من المليمتر)، ودرس هذا
العالم النظام الذي تتوزع بمقتضاه هذه الكريات في المسائل،
وكان عليه أن يرى بعد فترة من الزمن، تتنازع خلالها هذه
الجسيمات عوامل مختلفة، هل كان ينتج من ذلك توزيع شبيه
بتوزيع الذرات الغازية، وقد وجد (بيران) بالفعل هذا النوع
من التوزيع الذي يتبع متوالية هندسية، وللقارئ نورد مثالاً
للحالة التي توزعت بها كرات صمغية من التي نصف
قطرها 0. 212 من الميكرون كما لاحظها (بيران)
نسبة عدد الجسيمات
الارتفاع الموجودة عنده الجسيمات محسوباً من قاع الإناء ومقدراً بالميكرون
(الميكرون 10001 من المليمتر)
100
5
47
35
22.
6
65
12
95
ويلاحظ أنه بينما اختار (بيران) الارتفاعات المذكورة وهي: 5، 35، 65، 95 التي هي متوالية عددية فإن الجسيمات تبعت في أعدادها ومن تلقاء نفسها الأعداد 100، 47، 22. 6، 12 التي هي متوالية هندسية إذ يلاحظ أن هذه الأعداد تتساوى تقريباً مع الأعداد 100، 48، 23، 11. 1 التي تكون متوالية هندسية مضبوطة.
وفي المثال الآتي يرى القارئ كيف توزعت كرات أخرى
أكبر من الأولى ويبلغ قطرها 0. 25 من الميكرون أي حوالي
20001 من المليمتر، وقد أمكن عد هذه الجسيمات بطريقة
فوتوغرافية بتصويرها في أربعة مستويات يرتفع الواحد منها
عن الآخر بمقدار ميكرون أي 10006 من المليمتر وقد وجد
(بيران) أن عدد الجسيمات عند هذه المستويات الأربعة
كالآتي:
1880، 940، 530، 305
ويرى القارئ أنها مقادير قريبة جداً من الأعداد:
1880، 945، 5288، 280
التي تكون متوالية هندسية.
هذا توافق واضح في الأعداد، ولكن هل أدى هذا إلى أن يصل
(بيران) إلى عدد (أفوجادرو) الذي ينتظره فعرف عدد ما في
الوزن الجزيئي من الذرات؟ هذا ما نتناوله الآن فنبحث ما تدل
عليه الأرقام في المثال الأخير: عندما نرتفع بين طبقات الإناء
مسافة قدرها 10006 من المليمتر نلاحظ أن عدد الجسيمات
ينخفض إلى النصف، على أننا نعلم من تجارب أخرى في
الضغط الجوي أنه لكي نحصل على مثل هذا الانخفاض في
عدد الذرات الهوائية يجب أن نرتفع في طبقات الجو إلى
ارتفاع ستة كيلو مترات أي إلى مسافة تبلغ الألف مليون
(مليار) مرة قدر الارتفاع السابق، وعلى ذلك فإن وزن جزئ
من الهواء يبلغ الواحد على ألف من المليون من وزن إحدى
الحبيبات الصمغية المشار إليها ولو أن الغاز الذي نعتبره هو
غاز الهيدروجين، فإنه من الممكن بنفس الطريقة الحصول
على وزن ذرة الهيدروجين من وزن الجسيم السابق، وهكذا
توصل (بيران) من التجربة السابقة ومن أمثالها إلى معرفة
وزن ذرة الهيدروجين، وكان عليه أن يتساءل بعد ذلك هل
كان هذا الوزن لذرة الهيدروجين يتفق مع الرقم ذاته الذي
أمكن العلماء الحصول عليه من باب آخر يختلف في
موضوعه عن تجارب (بيران)، وهذا ما حدث بالذات عندما
قارن ذا العالم وزن الذرة الذي توصل إليه بوزنها الذي عرفه
العلماء من النظرية السينيتيكية.
وندع للقارئ أن يقدر مبلغ ما كان لهذا من الأثر العميق على نفسه، عند ذلك أراد أن يستوثق العالم من صحة ما وصل إليه فعمد إلى تغيير ظروف التجربة بإبدال الحبيبات حتى جعل حجم بعضها يبلغ الخمسين مرة حجم الأخرى، ولم يكتف بذلك بل غير طبيعة هذه الجسيمات، ثم عمد إلى تغيير السائل ذاته بما يجعل ميوعته تبلغ 125 مرة ميوعة السائل الأول، ولم يفت هذا الباحث الكبير تغيير كثافة المواد المستعملة التي كانت طوراً أضعاف كثافة السائل وتارة أقل من كثافته، إذ تعمل الأرض في الحالة الأخيرة على صعود الكرات بدل سقوطها، بعد ذلك غير حرارة السائل من درجة (- 9) إلى درجة (60) مئوية، ومع كل ذلك وجد (بيران) ومدرسته طوال هذه الحالات المختلفة القوانين ذاتها والأقدار الذرية ذاتها، وكان ذلك بلا ريب فوزاً علمياً كبيراً يذكره له التاريخ.
تلك كانت السبيل عند (بيران) ليتعرف على قدر الذرة من دراسة توزيع رأسي لجسيمات صلبة دخلت في الماء أو في أي سائل، وشاء لها القدر أن تتجاذبها جزيئات السائل فنتج بفعل ذلك، وفعل جاذبية الأرض التوزيع الذي ذكرناه، ونجتزئ الحديث، فلا نشرح للقارئ من عمل (بيران) الجزء الخاص بالحركة البراونية بالذات، فقد عين أيضاً عدد أفوجادرو، كما عين شحنة الإلكترون من دراسة دقيقة قام بها على مسارات الجسيمات كل على حدة داخل السائل، ويكفي أن نذكر أنه بدراسة مستفيضة على الحركة البراونية ذاتها وبتطبيق
لقوانين أينشتاين الخاصة بها تمكن من طريق جديد للوصول إلى هذه الأقدار الذرية والإلكترونية.
ولا يمكن في عجالة كالتي نحاولها أن نعطي للقارئ صورة دقيقة لما قام به أينشتاين في سنة 1905 من الناحية النظرية وما قام به بيران في سنة 1908 من الناحية العملية في هذا الصدد، وكل ما يعني القارئ أن يعرفه هو أن الأول قد استطاع الحصول على علاقة يمكن أن نعرف منها عدد أفوجادرو إذا عرفنا المسافة المتوسطة التي يقطعها جسيم يتحرك تحت تأثير صدمات جزيئات السائل، وعرفنا طول الزمن المتوسط الذي يستغرقه الجسيم في قطع تلك المسافة المتوسطة، أما الثاني فقد توصل من متابعة رصد الجسيمات إلى تعيين عدد أفوجادرو فوجد بهذه الطريقة أنه (68. 2 2210)، ومن ثم وجد وسيلة في الواقع لإثبات صحة قانون أينشتاتين، ولقد كان من السهل بدراسة توزيع وحركة جسيمات مكهربة الوصول إلى معرفة شحنة الإلكترون، وهذا ما قام به أيضاً الباحث الشاب في ذلك الوقت من سنة 1908 الدوق (موريس دي بروي) الذي يعتبر الآن من أكبر علماء الأكاديمية الفرنسية عندما درس وتتبع بالميكرسكوب كرات من الدخان أو الأتربة المعدنية المكهربة
أن يتحرك جسيم صلب موجود في سائل في إناء على منضدة ثابتة حركة تصادفية هي الحركة البراونية المعرفة التي كشفها (براون) وعرف العلماء أنها ناشئة عن تحرك جزيئات السائل، وأن يتخبط هذا الجسيم بين هذه الجزيئات تتقاذفه ذات اليمين وذات الشمال دون أن يكون ثمة قانون ينتظم كلا من هذه الصدمات، وإن يكون هناك من هذا التخبط الأعمى ومن جاذبية الأرض توزيع خاص شبيه بتوزيع الذرات الغازية في اتجاه رأسي وإن يكون من حساب التوزيع في الحالين سبيل لمعرفة قدر الجسيم الحائر بين بلايين جزيئات السائل وسبيل لمعرفة قدر الذرة بل قدر الإلكترون - فإن ذلك كله لأمر له خطره وموضوع يقف بذاته دليلاً على صحة هذه الأقدار الغريبة عن مداركنا البعيدة عن حواسنا، ولكن هذا التعيين يتركنا في نوع من الشك فيما وصلنا إليه من نتائج إذا ظلت الطريقة المتقدمة هي الطريقة الوحيدة لمعرفة هذه الأقدار. أما أن نصل إلى معرفتها بطريقة أخرى طريقة مليكان التي شرحناها في مقالات سابقة فإن هذا الاتفاق في النتائج
بطريقتين لأتمت إحداهما بصلة إلى الأخرى ليقوم دليلاً قاطعاً على حقيقة وجود الذرات والإلكترونات وبرهاناً ساطعاً على صحة أقدارها، ولقد حدث هذا الاتفاق في النتائج بين أعمال (بيران) وأعمال (مليكان) على وجه يبعث على الاطمئنان.
وعند ظني أن كليهما ازدادت ثقته بعمله عندما طالع نشرات الآخر، وثبت في يقينه أن هذا الذي توصل إليه يمثل بلا أدنى ريب حقيقة في الكون، وزادت بينته بأن عمله الفردي يعيد جد البعد عن أن يكون وليد المصادفة التي لا تمت لقوانين العالم في شيء.
ومع ذلك فثمة ظواهر أخرى عديدة دلت هي أيضاً وبطريقة تختلف عن طريقتي (بيران) و (مليكان) على قدر الذرة وقدر الإلكترون، وعلى أن المادة هي المادة كما عرفها بيران وكما فهمها مليكان.
على أننا نذكر بعض هذه الظواهر الأخرى التي توصل بها علماء عديدون إلى كشف الذرة والإلكترون، والى تعيين أقدارها، ففي دراسة لون السماء أو ميوعة الغازات أو نظام انتشار الضوء في الأرجون، بل في تتبع طيف ما يسميه الطبيعيون بالجسم الأسود أو في تكوين الهيليوم من العناصر المشعة، في دراسة هذه الظواهر الخمسة، المختلفة نشأة، المتباينة طريقة، وجد الباحثون كل بدوره سبيلاً آخر لتعيين عدد أفوجادرو هذا العدد الذي يبلغ في تجارب عديدة 68 2210 وبالتالي وصل الباحثون إلى معرفة قدر الذرة وقدر الإلكترون.
هذه أرقام تتحدث وفي حديثها الشائق دليل على وجود هذا العدد للذرات في حجم معين ودليل على قدرها وقدر الإلكترون بالدرجة التي قررها الباحثون.
أجل. أن تكون السماء زرقاء صافية هذه الزرقة التي نراها والتي تعودتها العيون، وإن يكون للغازات ميوعة تدل عليها النظرية السينيتيكية التي أشرنا إليها وأن ينتشر الضوء في الأرجون بنظام خاص، وأن يكون لطيف الجسم الأسود دلالة معينة، وأن يكون للأجسام المشعة نظام في إشعاعها فإن هذه مظاهر مختلفة ومرئيات متباينة، ولكنها تدل جميعها على وجود الذرات بالحجم والوزن اللذين لها، وتدل على عدد ما يوجد منها في الغازات في الحجم الواحد وتدل أيضاً على ما للإلكترون من كيان.
هذا الاتفاق في النتائج وفي الرقم السابق الذي يتعدى كل خيال يحمل الإنسان المفكر على
أن ينتهي إلى نتيجة حتمية هي أن ما عرفناه عن الذرة وعن وليدها الإلكترون أمر لا شك فيه ولا نستعرض هنا هذه الموضوعات كلا على حدة، فالقارئ الذي يعرف منذ حداثته أن السماء زرقاء وليست بخضراء، وأنها زرقاء هذه الزرقة المعينة أود أن يعرف أن لذلك علاقة بقدر الذرة وإن ثمة سبباً في هذه الزرقة عند الإنسان المفكر يتوسل بها إلى النتائج ذاتها التي وصل إليها أمثال (مليكان) و (بيران). إنما نقصد أن ندفع بالقارئ إلى إيمان علمي بهذه الحقائق التي نود أن تحل عنده محل الإعجاب والاحترام.
إلى هنا انتهينا من قصة الذرات وأسطورة الإلكترونات وهي مكونات المادة التي منها نوجد وعليها نعيش واليها نعود، وليس الإلكترون بالساكن الوحيد في هذا الكون فثمة كائنات أخرى تختلف عنه، ودورها في الخليقة يختلف عن دوره، وإذا كنت عندما تستمع إلى الإذاعة بواسطة المذياع (الراديو) أو عندما تحادث في المسرة (التليفون) صديقاً لك فد استخدمت الإلكترون واسطة جديدة للاستماع أو التكلم، فكذلك لا يفوتك وأنت تطالع هذه السطور أن تفكر في أنك رأيتها قبل أن تطالعها ولا تنس أنه لكي تراها لابد أن تكون هناك مكونات أخرى في الكون مثلت في طريق بصرك ووصلت إلى العين، وهي التي بوجودها وما اعتراها من حركة استطعت أن ترى هذه الأسطر وتقرأها، فاتصل تفكيرك بتفكيري ومجهودك بمجهودي؛ وثمة موجودات هامة لعبت دوراً خطيراً، وبلغت العين، ومن العين إلى الرأس وعاونتك في مطالعة هذا الحديث مطالعة يستطيعها كل من وهب هذه العيون.
هذا الشعاع الضوئي، هذا الذي يقررون أنه مركب من فوتونات كما يقال عن الكهرباء إنها مكونة من إلكترونات هو بدوره مكون هام من مكونات الكون، هذا الفوتون الذي يسافر من الشمس إليك في ثمان دقائق، نريد أن نحدثك عنه وعن غيره من المكونات، حتى لا نكون قد وصفنا قصراً عظيماً له حديقة هي مثار الأحاديث، ولكن فاتنا عند وصفنا إياه أن نذكر أن للقصر حديقة.
هذه المكونات الأخرى سنعمد أن يكون لنا مع القارئ حديث عنها أو اثنان قبل أن نتناول موضوعات النسبية والكم والتفتت، وهي الموضوعات الرئيسية الثلاثة التي نقصد من ورائها أن يكون لدى القارئ أقرب صورة للكون وإن يعرف أحدث الآراء عنه.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم من (السوربون)
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة
القصص
من أدباء الجيل!
للأستاذ محمد سعيد العريان
كانت أشعة المصباح ذابلة صفراء ترتعش لكل نسمة تهب؛ وكان الجو عاصفاً، والمطر يلطم زجاج النافذة فينفذ رشاشه من فروجها، ويسيل قطرات على الجدار؛ وفي زاوية من الغرفة كان الفتى النحيل جالساً إلى نضد صغير يكتب. . .
منذ ساعات، والفتى في مجلسه ذاك يستنزل الوحي ويؤلف أشتات المعاني، لا يكاد يحس شيئاً حوله، والناس نيام! يجب أن يفرغ من إعداد هذه الخطبة التي يكتبها قبل الصباح؛ أن هنالك من ينتظر. . . . . .
ودقت الساعة اثنتي عشرة دقة، فرفع الفتى رأسه عن أوراقه ووضع القلم وفي عينيه أثر الجهد والإعياء. . . وارتفق بذراعه على النضد الذي يتخذه خواناً بالنهار ومكتباً بالليل، فسمع له مثل صرير الباب تضربه الريح. . . ودار بعينيه في الغرفة التي تضم كل ما يملك من متاع، ينقل بصره بين البذلة المعلقة بالشجب، والطربوش الملقى على الوسادة، والفراش المشعث منذ غادره في الصباح الباكر؛ ثم زفر زفرة. . . وخرجت من بين الكتب المركومة إلى جانب الحائط دويبة صغيرة تلتمس طريقها إلى الباب في تثاقل وبطء. . . وارتمى إليها نظر الفتى، فابتسم. . . ثم قلب شفته في رثاء:(آه، حتى أنت يا مسكينة. . . تسهرين الليل مثلي في البحث عن القوت!)
ثم عاد إلى مكتبه وأوراقه. . .
وفرغ الفتى من عمله، فأشعل آخر دخينة في علبته. . . ثم أخذ يقرأ لنفسه ما كتب. . .
وأشرق وجهه راضياً، كأنما مسحت على آلامه يد رحيمة؛ ثم هب واقفاً وعلى شفتيه ابتسامة الرضى والسلام، وبسط أوراقه أمام عينيه. . . وعاد يقرأ:
(أيها السادة!. . .)
وخيل إليه في موقفه ذاك، أنه هو ما هو بين الناس، في جمع حاشد تشرئب أعناقهم إليه، فلعب به الزهو واستخفته الكبرياء، واستمر يخطب. . .
(. . . شكراً لكم هذا التقدير الغالي. . . إن أمة تحتفي بأدبائها هذه الحفاوة العظيمة. . . .
)
وأحس شيئاً يخزه في صدره فلم يتم. . . (التقدير الغالي. . . والحفاوة العظيمة. . .) أين هو من هذه المعاني؟
إنه منذ سنوات وسنوات يجاهد جهاده للفن والأدب، وينشئ كل يوم في تاريخ الآداب فصلاً جديداً، وها هو ذا اليوم حيث بدأ منذ سنوات وسنوات: لا يذكره أحد، ولا يعترف له إنسان؛ ولم يجد عليه جهاد السنين شيئاً. . . ولكنه مع ذلك مسؤول أن يعمل، وإن يدأب، لا يني ولا يستريح؛ لأنه يريد أن يعيش!
وغام وجهه بعد صفاء؛ وذبلت الابتسامة على شفتيه، وتخاذلت كبرياؤه، وعاد إلى نفسه يفكر فيما عليه من فرائض الحياة
لقد أوشك الصبح أن يسفر، وإن عليه موعداً أن يغدو مبكراً على (الأديب الكبير فلان. . .) ليدفع إليه الخطبة التي أعدها وبذل فيها سواد ليله وعصارة قلبه، ويقبض ثمنها، شأنه معه منذ سنوات. . .!
وطوى الفتى أوراقه كأنما يلف ميتاً في أكفانه؛ ثم أطفأ المصباح وأوى إلى فراشه!
واستيقظ بعد ساعات، فلبس بذلته، ونفض الغبار عن طربوشه؛ ثم سك باب غرفته ومضى يهبط السلالم درجة درجة، وفي يمناه الخطبة التي أعدها ليلقيها الأديب الكبير. . . في حفلة تكريمه! يا للسخرية!
وسار على حيد الطريق ويسراه في جيبه تعبث بما فيه من قروش، وفي رأسه خواطر تصطرع وتموج. . .
أرأيت إلى الأب يمشي وحيداً في جنازة ولده العزيز ليشيعه إلى مثواه؟ كذلك كان يمشي هذا الفتى وفي يمناه أوراقه مطوية في غلافها!
وعاج على بائع الصحف فاشترى واحدة؛ فأخذ يقلب صفحاتها حتى انتهى إلى الموضوع الذي يبحث عنه، فمضى يقرؤه. . .
. . . لم يكن موضوعاً جديداً عليه، لقد قرأه من قبل مرات حتى ليعرف دلالة كل حرف فيه. أراه يقرأ الساعة من الصحيفة التي في يده أم يقرأ من غيب صدره؟. . . وانقبضت نفسه حين انتهى إلى الإمضاء؛ ثم ابتسم. . .!
ماذا عليه أن يبيع المجد لطلابه بالمال؟. . . أنه يعطيهم مما يملك لينتفع منهم بما لا يملك. وماذا يجدي عليه المجد والشهرة وذيوع الصيت وأنه لمحتاج إلى الرغيف؟
ليت شعري، أي الرجلين أكثر جدوى على صاحبه؟ ذلك الذي يعطي القرش أم هذا الذي يأخذه؟
وخيل إلى الفتى أنه عرف الجواب، فطاب نفسه وعاوده الشعور بالرضا والاطمئنان!
ونام الفتى في تلك الليلة ملء عينيه وملء بطنه. . . لا يعنيه من أمر الحياة شيء. . .!
وسهر (الأديب الكبير) ليلته يستظهر الخطبة المعدة ليلقيها مساء غد في حفلة تكريمه. . .!
وأشرق الصبح، فنهض الفتى من فراشه ولبس بذلته وخرج لبعض شأنه، وعاج على ندى في الطريق يتناول فطوره، فطاب له المجلس. . .
وجلس إلى جانب الباب يتبع عينيه كل غادية ورائحة في الطريق، وتسرحت خواطره فنوناً من مشهد قريب إلى معنى بعيد، وانفتل من دنياه يجري في عنان الأوهام. . . فما صحا من أحلامه إلا على صوت النادل يمد إليه يده بورقة الحساب، وعاد إلى الحقيقة، ولكن بعد مشوار طويل في وادي المنى. . .
ودفع ما عليه ونهض، ليعود إلى غرفته فيغلق بابها عليه ويجلس إلى مكتبه يستنزل الوحي ويؤلف أشتات المعنى، وانتهى مما كتب والشمس في صفرة الأصيل: فغادر غرفته عجلان ليشهد حفلة التكريم!
. . . وكانت الردهة الفسيحة ليس فيها موقع لقدم، وقد نصت المقاعد صفوفاً صفوفاً فما بينها فرجة تتسع لعابر؛ واختلطت أصوات المجتمعين فما يبين صوت من صوت، وسكنت الأصوات فجأة حين بدت طلعة الأديب الكبير، وتطاولت إليه الأعناق تنظر؛ ومضى الأديب الكبير في طريقه ثابت الخطو وهو يرفع يديه إلى رأسه، حتى انتهى إلى مقعده في صدر المكان والعيون ناظرة إليه. . .
ووجد الفتى مكاناً في أدنى الردهة إلى الباب؛ فجلس وإنه ليشعر مما به كأنه غريب في هذا المكان!
وتعاقب الخطباء خطيباً بعد خطيب وشاعراً بعد شاعر، يمدحون الأديب الكبير ويعددون أياديه، وهو مطرق الرأس من خجل، لا يزيد على أن يبتسم!
وخيل إلى الفتى في مجلسه البعيد من خياله أشياء؛ فكأنما هذا الاجتماع الحاشد، وهذا الثناء الرطب، من اجله هو وحده، وكأنه هو هو ولا أحد هناك، فأطرق رأسه من خجل كذلك، لا يزيد على أن يبتسم!
وماذا يضيره أن يجهل الناس اسمه ومكانه وانهم ليعرفون من يكون بآثاره وأدبه؟ ماذا يضيره أن يكون كتابه في أيدي القراء بلا غلاف ولا عنوان. . .؟
ومضت ساعة ووقف الأديب الكبير ليؤدي واجبه لهؤلاء الذين اجتمعوا لتكريم أدبه والحفاوة به، وأخذ يقرأ من غيب صدره:
(أيها السادة!)
(. . . وأشكر لكم هذا التقدير الغالي. . . وإن أمة تحتفي هذه الحفاوة بالنابغين من أدبائها لحقيقة بالخلود. . .)
وقال الرجل الذي يجلس إلى جانب الفتى في الصف الأخير ونظر إليه: لله ما أحكم منطقه وأسد بيانه!
قال الفتى: شكراً!
وسمعها الرجل وابتسم؛ فما يملك أكثر من أن يبتسم، وأنه ليعرف أن مجالس الأدب هي أحفل المجالس بالمجانين
واستمر الأديب الكبير يخطب:
(إني لمدين للأمة بما أبذل لها من أعصابي ومن دمي؛ شاكر لله ما وهب لي من قدرة تهيئني لأن أكون بهذا المحل الرفيع بين أبناء قومي. . .
(. . . إن الأدب الذي يسمو بضمير الأمة، ويشرع لها طريقاً إلى المجد والخلود. . .)
والتفت الفتى إلى جاره يقول: (لقد نسى فقرة طويلة. . . إنها كانت أجمل ما في خطبته!)
ونظر إليه جاره فلم يتمالك أن ضحك؛ فوضع راحته على فمه يكتم ضحكته أن تسمع؛ وتنبه الفتى بعد سهوة، فأحمر وجهه ثم أصفر؛ ثم نهض فغادر المكان. . .!
ونهض الفتى من فراشه مبكراً بعد ليلة ساهدة؛ فقصد إلى دار الأديب الكبير يهنئه على ما نال من إعجاب الناس وما ظفر به من التقدير والمكانة، ويستعينه على أمر. . .
وقرأ صحف الصباح في الطرق؛ فعرف ما فاته مما كان في الليل. . .
ودق الجرس فانفتح الباب، وقدم الفتى بطاقته إلى الخادم، فخلفه واقفاً بالباب ينتظر ودخل يستأذن سيده؛ ثم عاد إليه بعد لحظة يعتذر، لأن سيده نائم!
وأحمر وجهه من الغيظ ولبث واقفاً بالباب برهة، ثم مشى وفي نفسه ثورة تضطرم، ومضى على غير وجه!
وتذكر الفصل البديع الذي انتهى من كتابته أمس قبل أن يغادر غرفته إلى مكان الاحتفال؛ فأخرجه من جيبه ومشى يقرؤه. . .
لا، لا؛ لن يكون بعد اليوم ذيلاً لأحد يبيعه نفسه برغيف من الخبر؛ أنه ليعرف اليوم قدر نفسه أكثر مما عرف في يوم من الأيام؛ لقد قالها الناس أمس كلمة صريحة وعتها أذناه؛ أنه هو هو وإن جهل الناس اسمه ومكانه!
وسعى إلى إدارة الصحيفة التي نشر فيها أول ما نشر من منشآته منسوباً إلى الأديب الكبير؛ وأي الصحف أولى بتقدير أدبه والاعتراف بفضله غير الصحيفة التي عرف منها (الأديب الكبير) أول ما عرف، ثم كانت أول من دعا إلى تكريمه والحفاوة به؟. . . لهو هو وإن جهلت الصحيفة اسمه ومكانه!
واستأذن على المحرر ودخل، فدفع إليه الورقات التي في يده. . .
ونظر المحرر نظرة إلى وجهه هندامه، ثم أثبت وضع النظارة على عينيه واخذ يقرأ هذه الورقات، ولكن من آخرها؛ ثم دفعها إلى الفتى. . . وفي صوت متأنق سمعه الفتى يقول:(يا بني، إنها محاولة، وإني لأرجو أن يكون قريباً ذلك اليوم الذي نشر فيه ما تكتب، بعد أن تأخذ عدتك وتنضج. . .!)
وفتح الفتى فمه وهم أن يتكلم، ثم سكت، واتخذ طريقه إلى الباب في صمت. . .
ومن النافذة التي طالما سهر بجانبها الليالي إلى مكتبه يستنزل الوحي ويؤلف أشتات المعاني، وقف يطل على الناس ساخراً، ثم أخرج الورقات من جيبه فمزقها وأسلمها إلى الريح تنثرها على الرؤوس كسرب مذعور من الطير الأبيض!
. . . وحين نشرت الصحف أن الحكومة قد رصدت من مال الدولة بضعة آلاف لمعاونة الأديب الكبير فلان. . . على تنفيذ مشروعه الأدبي العظيم. . . كان الفتى جالساً يقرأ الجريدة في ظل شجرة على رأس الحقل، ويستريح برهة مما جهد في الحرث ولزراعة؛
وخار الثور المربوط إلى المحراث، كأنما يريد أن ينبه الفتى إلى أنه قد آن أوان العمل!
. . . ولكن الصحف لم تلبث أن عادت فنشرت في الغد، أن الأديب الكبير قد كتب إلى الحكومة يشكر ويعتذر؛ لأنه قد اعتزل الأدب فما له هفوة إليه بعد!
وأسف الناس إذ قرءوا، ولكن شخصاً واحداً كان يعرف، وكان يبتسم!
محمد سعيد العريان
من هنا ومن هناك
الجيش الأحمر في الشرق
(ملخصة عن مجلة (باربيد))
كتب الجنرال (ليشكوف) مقالاً في مجلة (كونتمبروري جابان) التي تصدر في طوكيو قال فيه: إن حركة القبض المتوالية على قادة الجيش الأحمر، قد أوجدت نوعاً من عدم الثقة في ضباط الجيش الباقين. خذ مثلاً حالة الجنرال (بلتشر) الذي كان يوماً ما قائد الجيش الأحمر في الشرق الأقصى، فقد طالما بزغ اسمه أمام الجنود الروسية، إلى جانب الأبطال المخلصين والقادة المقربين، وطالما ذكر تاريخه مقروناً بعبارات الإخلاص والوفاء، حتى عد من رجال ستالين المقربين وأبتاعه الثابتين. فلم يلبث أن اختفى بين عشيه وضحاها، وصدرت الأوامر بتمزيق صورته ومحو اسمه من الوجود، فإذا سأل سائل عن الأسباب التي انتهت به إلى هذه الغاية، حيكت حوله الأكاذيب ولفقت عليه التهم، وانقلب القائد الذي كان مثلاً أعلى بين رجال الجيش فصار خائناً لبلاده، عدواً لأبناء وطنه.
نستطيع أن نتصور مبلغ تأثير هذا في رجال الجيش - انهم ولا شك يفقدون ثقتهم برؤسائهم المباشرين. فإذا كان القادة العظام الذين كانوا يوما ما فوق متناول الشبهة، قد دلوا على انهم كانوا مجرمين في حياتهم الوطنية والعسكرية، فلا معنى إذن للثقة بغيرهم من القواد الحديثين الذين ليس له ماض يجعلهم أكثر إخلاصاً وأمانة من القواد السابقين. ومن ثم انتشرت بين رجال الجيش الأحمر عقيدة ثابتة بأن رؤساء جميعهم متآمرين مارقون، بل لقد ذهب بعضهم إلى أبعد من هذا فقالوا صراحة ما دام قواد الجيش المخلصون قد ظهروا بمظهر الخيانة لبلادهم، فلا يبعد على هذا أن يتبين قريباً أن ستالين نفسه عدو للشعب. من هنا نستطيع أن نعرف إلى أي حد وصلت الحال، فقد انتشر الشعور بعدم الثقة بين الشعب فسمم أفكار الجميع.
وقد انتشر بين شباب الجيل الحديث، وعلى الأخص ضباط الجيش الأحمر، آلاف ممن يسمون أنفسهم (أعداء السوفييت) الثائرين على النظام، وهمهم أن يهاجموا النظام القائم ويحطوا من شأنه في نظر الشعب، ويرون أن ستالين هو رأس كل خطيئة وإن الجيش الأحمر هو القوة الوحيدة التي في يدها أن تحد من سلطانه وتقف دكتاتوريته المخيفة عند
حدها.
ومما يزيد إضعاف الروح المعنوية بين قوات الجيش الأحمر في الشرق الأقصى، عدم كفاية مواصلات السكك الحديدية، وعلى الأخص في فصل الشتاء، وعدم وجود قواعد محلية للتمرين، مما يتسبب عنه قطع المؤنة عن الكتائب المرابطة في تلك الأنحاء.
ويجد رجال الجيش الروسي صعوبات كثيرة في الحصول على الأماكن الكافية لإيوائهم وإيواء عائلاتهم، فإذا استطاعوا على الرغم منهم أن يقضوا فصل الصيف في الخيام فانهم لا يستطيعون ذلك في الخريف والشتاء حيث تشتد الحالة إلى درجة لا يتصورها العقل. هذا فضلاً عن انتشار الأوبئة والأمراض، مما لا يمكن اجتنابه بحال من الأحوال.
ولا تسل عن الفوضى وضياع النظام في الجيش، إذا نظرنا إلى هذه الحالة، مع فقد نفوذ القواد، وقيامهم بأعمالهم بغير حافز من رغبة أو اقتناع.
الاشتراكية الزائفة في ألمانيا
(ملخصة عن (داي واهرن دتشلاندز))
جرى هتلر في معاملة العمال وتسليمهم إلى طبقة الرأسماليين، وتقوية هذه الطبقة على سائر أبناء الشعب، على أسلوب لا شبيه له في تاريخ الرأسمالية الحديثة على الإطلاق.
فمنذ قضى على اتحادات العمال في مايو سنة 1933، فقدت الطبقة العاملة حقها في الدفاع عن نفسها والمطالبة بتحسين الأجور. وقد حل محل هذه الاتحادات، جبهة العمال التي أسسها مستر (لي) وتقوم هذه الجبهة تحت إشراف لي هتلر على كم أفواه العمال كلما هموا بالشكوى من توزيع الأجور.
لم ير العامل منذ العهود الرأسمالية السحيقة نظاماً كذلك النظام الدكتاتوري الذي وضعه هتلر لإخماد أنفاسه وتجريده من كل قوة.
فمدير المصنع له الكلمة الأخيرة في كل ما يتعلق بالعمال المشتغلين بمصنعه. ويقوم كل رئيس بتقديم بيان لموظفيه، موضحاً فيه الشروط الآتية ليكون على بينة منها.
(1)
ساعات العمل اليومية وأوقات الفراغ (2) الأجور والأوقات المحددة لدفهما (3) القواعد التي تتبع في حساب القطعة (4) الشروط المحددة للغرامات وغيرها من أنواع
العقوبات (5) الأحوال التي يفصل فيها العامل بغير إنذار.
أما حقوق العامل الثابتة في اختيار عمله، وهي الحقوق التي طالما رفع هتلر عقيرته بها، فقد تحولت في السنين الأخيرة إلى لعنة أبدية، فلا يصبح للعامل بمقتضاها أن يغير العمل الذي يشتغل فيه، أو يرفض العمل الذي يقدم اليه، ولا يسمح له حتى بالانتقال من بلد إلى بلد آخر.
لقد كان العبد الرقيق في القرون الوسطى، يستطيع أن يأبق من مقره بالمدن إلى الموانئ إذا رأى قسوة من سيده، ولكن رقيق النازي - على خلاف ذلك - فعليه أن يبقى حيث هو، فاقد الحيلة محروماً من المساعدة إذا نشدها من أي إنسان، أو ذهب يبغيها في أي مكان.
أما صغار التجار فهم يعاملون معاملة أقسى من هذه المعاملة، فبينما هم يعملون على التخلص من منافسة المخازن الكبرى - التي تحولت ملكيتها إلى أيدي الرأسمالية الآرية - إذا بهم يواجهون حرباً لا هوادة فيها تسوقهم بغير رحمة إلى الدمار والضياع. فعلى الرغم مما يعانون من نظام الاحتكار، يرهقون بزيادة الضرائب الفادحة على تجارتهم، مما جعل الإفلاس والدمار يحل بآلاف وآلاف من هؤلاء التجار، فلم يجدوا أمامهم غير الالتجاء إلى المصانع للاشتغال فيها.
وقد أعلنت الحكومة الاشتراكية الوطنية جميع التجار الذين تقل ماليتهم عن مقدار معين، بأن يغلقوا أبوابهم، فترتب على ذلك إغلاق ستمائة مخزن للألبان (بهامبورج) وحدها في نهاية سنة 1938، وكذلك الشأن في غيرها من البلدان. وقد صدرت أوامر حديثة من الحكومة إلى تجار التبغ باعتزامها إغلاق أكثر من أربعين ألف من محلات تجارة الطباق. أما عذر الحكومة في هذا التعسف الغريب، فهو حاجتها إلى العمال لصناعة السلاح.
البريد الأدبي
أدب المازني
قال الكاتب القدير البصير إبراهيم عبد القادر المازني في نقد لكتاب أخرجه لسنة مضت صديق له يوده ويجله: (نحن للثرثرة وهو للعصر والتقتير. وأحسب أني لو تسنى لي أن أكون مثله لضاق صدري لطول ما ألفت السح والهطلان).
وكأني بالأستاذ ههنا يصارح الخلق بخاصية كتابته. والسح والهطلان - في غالب الأمر وأكثر الحال - من الثرثرة، وما هذه بفضيلة في الكاتب. إلا أن استرسال صديقي المازني من الترسل اللطيف: لا استكراه لبسط العبارة ولا فضول في تدوين الفكرة. وإنما الحديث ينبثق ويسهل ويسيح على غير كدر ولا أسن. وإن تنقص صديقي المازني - على سخريته المعروفة - أسلوبه المدود، ففي الناس من يرغب عن قطرات الماء ورشحه إلى بثق النهر وغمره.
غير أن المد مكروه إن انقلب الإنشاء به حذلقة ولغواً. والأستاذ المازني بنجوة من هذين العيبين. فإنه إذا أطلق القلم عرف ما يريد، ثم تخطر له الفكرة، فيصل أطراف السلك بعضها ببعض ويسيرها إلى الغاية التي تشغل صدره. ويعينه على ذلك ما وقع إليه من مفردات اللغة وصيغها - وينافسه في محصول اللغة صديقي صاحب (الرسالة) - وهل أنا أبث سراً إذا قلت: أن المازني لزم كتاب (الأغاني) زماناً فتأدب عليه وأجرى على أنامله من سحر عبارته؟ وليت الكتاب المحدثين يصنعون صنيعه!
ويزين الأستاذ المازني ترسله المحكم بالحديث الموشى، والحديث الموشى - في أدب القصة خاصة - من الخيال لا من الكذب كما زعم بعضهم. وأحسن مثل على تلك التوشية قصة للأستاذ لمازني عنوانها (الجارة) وهي منشودة في كتابه (في الطريق). ولاشك عندي أن للقصة وتداً مرزوزاً في الحقيبة، فجاء الكاتب وصاغ له حادثة من هنا ونسج عليه فكرة من هنا. وصدق كنه هذه القصة ملموس فيما يبرز من خلال مجراها. وهو أن إشراق المرأة في حياتنا الاجتماعية شاحب وأن معرفة الرجل المصري بنفسية المرأة قليلة. والمرأة في تلك القصة على جرأة والرجل على حياء وإن كان يحلم (بالمغامرات)، وهو يحلم بها لأن المرأة عندنا لا تزال على تحفظ ولان حريتها ضيقة المسالك. وهذه امرأة
القصة على خلاف ذلك، فكيف لا يدور رأس الرجل؟ وقد استطاع الأستاذ المازني - في قصته - أن ثبت من طريق الفن الرفيق لمعان الاضطراب المكتم.
وهذا الصديق يخرج لنا اليوم (مختارات من القصص الإنجليزي). وأسلوبه هنا غير أسلوبه في التأليف، وذلك لأنه ينقل من لغة إلى لغة، وهو يتحرى الأمانة في الترجمة. فتقرأ العبارة العربية فتقول: أن التركيب سليم واللفظ متخير، ولكن الماء غير عربي. وسيغضب ذلك المتشددين عباد الديباجة للديباجة. وأما أنا وأمثالي ففرحون بالتزام المترجم أسرار الروح الأجنبي. لأنك إذا طلبت ناحية من نواحي الأدب الأعجمي فإنما تريد أن تقف على دخائلها لتميزها مما تعرفه من أدبك، أو لتقتبس منها نحواً جديداً. فجريان الجملة ونبضان الفكرة كلاهما رهين بالأداء، فإذا نقلت على خصائص لغتك وشرائط تفكيرك عطلت طرائف الأصل. وعلى هذا فإن كتاب (مختارات من القصص الإنجليزي) حقيق بالحفاوة والانبساط.
وقد تتبعت الأستاذ المازني - وإن كان فوق التتبع لإحكامه اللغتين - فوجدته يعتنق الأصل اعتناقاً. وربما عبر من الكلمة الإنجليزية المنتشرة بكلمتين أو ثلاث مخافة أن يزيغ المعنى بتمامه (مثلاً: مفتون، متحذلق: ص105) وربما حافظ على الاستعارة الإنجليزية وإن شذت في العربية بعض الشذوذ (مثلاً على رأس مرغريت مادار في اجتماعنا). وهو إلى جانب هذا يحسن استعمال اللفظ الوافي على إيجازه (مثلاً: أقصرت: ص106). ولعل تركيباً أتى به الأستاذ أرى غيره مكانه. ولكن مثل هذا يرجع إلى محض الذوق، وليس لك أن تفرض ذوقك الخاص على غيرك ممن يتصرف في ضروب الإنشاء ألطف تصرف، ويوجه مذاهب الكلام في دراية وتبصر.
بشر فارس
التكتم
في مقالة للباحث الأديب الكبير الدكتور بشر فارس باحث فيها العالم الأستاذ أحمد العوامري بك في أشياء - إلماع إلى ألفاظ في المعجمات في غير مظانها. ومما يضاف إلى الذي ذكره الدكتور المفضال هذه الكلمة: (التكتم) فقد سطوت في القاموس والتاج في مادة (د ل س)
مغفلة أو منسية في مادة (ك ت م). وكان العلامة اللغوي الكبير الشيخ إبراهيم اليازجي استعمل (تكتم) في مجلته (الضياء) فخطأه العالم الأستاذ محمد سليم الجندي قائلاً: (أنه لم يعثر عليها في كتب اللغة التي بين أيدينا)، فرد عيه العالم الأديب الكبير الأستاذ قسطاكي بك الحمصي المشهور دفاعاً عن خليله إبراهيم مستنداً إلى القياس، والقياس لا يعين في كل حين. و (التكتم) هو في اللغة، والإمام البوريني يقول في مقطوعة حين حذق الفارسية:
تعلمت لفظ الأعجمي وإنني
…
من العرب العرباء لا أتكتم!
وقد تبع المعجمان (أقرب الموارد والبستان) في هذا الفعل القاموس والتاج ناقلين عنهما، فأورد الأول (تكتم) والثاني (التكتم) في (د ل س) ولم يثبتا الفعل أو مصدره في (ك ت م) والمأمول أن يحظى العرب بمعجم كامل حاشد مجود التنسيق في هذه الدنيا قبل يوم القيامة. . . إذ لا يحتاج في الآخرة إلى مجامع لغوية ولا معجمات ولا بلاغات ولا فصاحات. . .
(طنطا)
(أزهري)
وفاة الدكتور علي العناني
نعى إلينا صباح الخميس الماضي المرحوم الدكتور علي العناني، وهو من رجال الأدب الذين تخرج على أيديهم طائفة ممتازة من شبابنا المثقفين.
تخرج الدكتور العناني في دار العلوم سنة 1909، ثم اتصل بالجامعة المصرية في أول عهدها، فكان هو والدكتور أحمد ضيف أول مبعوثيها إلى أوربا، فدرس الدكتور العناني في ألمانيا الفلسفة واللغات الشرقية إلى جانب دراسة اللغة الألمانية؛ وعاد من أوربا بعد الحرب العظمى الماضية، فاشتغل محاضراً بالجامعة، ثم انتقل إلى دار العلوم العليا أستاذاً للأدب؛ فما زال قائماً بعمله حتى سنة 1938، ثم اختير كبيراً لمفتشي الفلسفة في وزارة المعارف العمومية، وظل قائماً بعمله حتى أحيل إلى المعاش منذ قريب
المنفلوطي في رأى مستشرق إنجليزي
نشرت مجلة (اسلاميك كلنشر) مقالاً عن المرحوم المنفلوطي نلخصه فيما يأتي:
تناول بعض كتاب مصر المعاصرين وفي مقدمتهم العقاد والمازني وطه حسين مقالات
المنفلوطي بنقد مر عنيف، ولكن هذه المقالات ذات أهمية خاصة لأنها تمثل مرحلة من مراحل إحياء الأدب العربي
نشرت هذه المقالات الموجزة في الصحف تحت عنوان (النظرات) وقد جمعت بين الأدب العالمي وبين إرضاء ذوق القراء لأنها كتبت بلغة موسيقية صافية، فكانت بمثابة الوحي يهبط على جمهور تعود قراءة أدب الكلفة والتصنع. وقد انتشرت انتشاراً واسعاً بين قراء العربية من بغداد إلى مراكش؛ مما يدل على أنهم ألفوا فيها شيئاً قيماً، كما كانت تمثل الشعور الذي تردد صداه في العالم الإسلامي أبلغ تمثيل.
ومن السهل أن ندرك اليوم قيمة هذه المقالات، فإن رجال الأدب يشعرون بالأثر القوى الذي أحدثته كتب المنفلوطي التي يحفظ منها طلبة المدارس عن ظهر قلب صفحات برمتها ملكت ألبابهم، واستولت على مشاعرهم.
وهي إلى جانب هذا تمثل حالة الأدب في الشرق العربي الذي اصطبغ بصيغة الآداب الغربية.
أما أفكار المنفلوطي، أو بمعنى أصح عواطف المنفلوطي، فيلاحظ عليها التناقص والتضارب. فهو لا يستطيع مثلاً أن يخفى أسفه على الاعتقاد بشفاعة الأولياء وإن كان يرى أن هذه الاعتقادات هي السبب في ضعف العالم الإسلامي ويقول أن اختلاف الآراء هو القانون الأساسي لتقدم الإنسان، بينا يندد بتعدد الأحزاب السياسية في مصر. ويرفض الجمود الديني ويحذر قراء العربية من اقتباس مدنية الغرب دون تمحيص، مع أنه قد تأثر في أدبه بالطريقة الإبداعية (رومانتزم) في الأدب الفرنسي.
وكان المنفلوطي وطنياً غيوراً، وقد قضى هذا الكاتب الرقيق ستة أشهر في السجن عقاباً له على قصيدة هجا بها الخديو عباس حلمي. وانضم إلى الزعيم سعد زغلول الذي قام يطالب بالحرية لمصر المتحدة الناهضة. وكان إلى هذا رجلاً يحافظ على التقاليد ويرعاها فظل طول حياته يلبس الزي الوطني ورفض أن يستبدل به الملابس الأوربية. أما مطالبته باحترام المرأة والطبقات الفقيرة فإنما يقوم على أساس من قواعد الدين الإسلامي.
البستاني
توالى مجلة (السياسة الأسبوعية) في هذه الأيام نشر ترجمة أناشيد (البستاني) للشاعر
الفيلسوف طاغور، وهي بقلم الأستاذين فؤاد البهي وتوفيق أبو السعد. ولقد كنت أطالع هذه الترجمة في شيء من الإكبار والإعجاب، وأغض البصر والعقل عن أخطاء لا تشوه المعنى ولا تضع من المجهود الضخم؛ حتى كانت القطعة الرابعة في العدد 156 المؤرخ 27 يناير سنة 1940، فذهبت أقابل بينها وبين الأصل الإنجليزي مرة، وبين الترجمة التي حملت نفسي عليها مرة أخرى - كدأبي فيما سبق منها - فألفيت هناك اضطراباً يحط من قدر الترجمة.
وأول شيء أخذته على الترجمة هو أن تحيد عن الطريق الذي اتخذه طاغور لنفسه أول ما كتب أناشيده، فهو قد رتبها على نسق يجعل كل نشيد وحدة قائمة بذاتها قد لا تمت إلى ما قبلها ولا إلى ما بعدها بسبب، فميزها بأرقام هي إحصاء لعدد الأناشيد في كل كتاب من كتبه، هذا الترتيب قد أغضى عنه في القطعة الرابعة مما لا يقر الأستاذين عليه أحد.
ثم ابتدأت القطعة الرابعة - ولست أدري كيف خول الأستاذان لنفسيهما أن يضعا هذا الترقيم - بالنشيد العاشر الذي اختلط آخره بأول النشيد السادس عشر طفرة واحدة، وبذلك يكون قد سقط من الترجمة خمسة أناشيد كاملة تقع في اثنتي عشرة صفحة من الأصل الإنجليزي أو قرابة جزء من ثلاثة عشر جزءاً من الكتاب كله. . . ثم راحت الأناشيد يدغم بعضها في بعض دون أي إشارة تنبئ بأن نشيداً انتهى أو أن آخر ابتدأ. . . وفي النشيد السابع عشر جاء المقطع الثاني قبل المقطع الأول. . . وهكذا. . . وهكذا. . . مما يضيق عنه وقتي ولعل هذا الجهد قد ناء بالأستاذين فأرادا أن يتحللا منه في سرعة أو أن يخلصا إلى آخره في غير عناء.
وإنني أناشد الأستاذين في غير تعنت، أن يبذلا في ترجمة هذه الأناشيد ما تستحقه من جهد، وأن يخصاها بما تحتاجه من وقت لتكون الترجمة أقرب شيء إلى الأصل، والسلام.
كامل محمود حبيب
نقود ذهبية من عهد العباسيين
بينما كان أحد الفلاحين يستخرج السماد من بعض التلال الأثرية بناحية سيدي سالم بمديرية الغربية، إذ عثر على 19 قطعة ذهبية يرجع عصرها إلى الخلفاء العباسيين، وقد صكت
في عهد هارون الرشيد والمأمون والمهدي.
وقد أبلغ الأمر إلى إدارة حفظ الآثار العربية فأوفدت أحد مفتشيها فتسلم القطع الذهبية التي عثر عليها
وقد نقش على أحد وجهيها بالخط الكوفي (لا إله إلا الله وحده لا شريك له) ونقش على الوجه الثاني (محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله) وأرخت بالتاريخ الهجري. وهي من الذهب الخالص في حجم القطعة الفضية ذات القرشين ولكنها أثقل منها وزناً.
شعراء البيوتات
يذيع الأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي سلسلة أحاديث أدبية من محطة الإذاعة بهذا العنوان، وقد سمعناه أخيراً في مساء الاثنين 5 فبراير يتحدث عن الشاعر الأمير أبى فراس الحمداني، فتناول في حديثه جميع أطوار الشاعر، وعرض لفنه ومذهبه في النظر فوفى الكلام في هذا الصدد. ونحن مع إعجابنا بما سمعنا لا نسلم بكل ما جاء في حديثه، فمثلاً يقرر أن أبا فراس لم يكن في غزله كعامة الشعراء، بل كان إذا تغزل تمثل شخصيته العسكرية، وطبيعته الباسلة. ويعنى الأستاذ المحاضر بهذا أن الشاعر لم يذب قلبه في قصائده ومقطوعاته. ويؤيد حكمه على الشاعر بهذه الأبيات:
أراميتي كل السهام مصيبة
…
وأنت لي الرامي فكلي مقاتل
وإني لمقدام وعندك هائب
…
وفي الحي سحبان وعندك باقل
تسائلني من أنت وهي عليمة
…
وهل بفتى مثلي على حاله نكر
ونحن أناس لا توسط بيننا
…
لنا الصدر دون العالمين أو القبر
وفي كلتي ذاك الخباء خريدة
…
لها من طعان الدارعين ستائر
تقول إذا ما جئتها متدرعاً
…
أزائر شوق أنت أم أنت ثائر
والأستاذ الغزالي بقوله هذا ينكر على الرجل عمق إحساسه وشعوره وعواطفه وهي الصفات التي تتفاوت بها معايير الشعر. ولو تروى الأستاذ قليلاً لأدرك أن للرجل في الغزل شعراً يفيض عن إحساس قوى مشبوب، وعاطفة مضطرمة مضطربة. وإن خالجه في هذا شك فليسمع:
إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى
…
وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر
تكاد تضئ النار بين جوانحي
…
إذا هي أذكتها الصبابة والهجر
ومن غزله السافر:
بات الحبيب إلى الصبا
…
ح معانقي خداً بخدْ
يمتار فيْ وناظري
…
ما شئت من خمر وورد
ومن أبيات له:
تثنت فغصن ناعم أم شمائل
…
وولت فليل فاحم أم غدائر
كأن الحجى والصون والعقل والتقى
…
لدى، وربات الحجال ضرائر
أقول وقد ضج الحلي بجرسه
…
ولم تر فيها للصباح بشائر
فيا رب حتى الحلي مما نخافه
…
وحتى بياض الصبح مما نحاذر
هذا ولو شئت أن أذكر للأستاذ المحاضر من شعر أبى فراس الذي لا ينهض مع حكمه الجريء على غزله وتشبيبه لما اتسعت هذه الكلمة العابرة لذلك!
عبد العليم عيسى
إلى مؤلف (الأسمار والأحاديث)
هاأنذا يا سيدي أحد هؤلاء القراء الذين فتنوا بأدبك، وغزوت قلوبهم بسحر بيانك.
هاأنذا يا سيدي أحد هؤلاء القراء الذين أنصفتهم في مقدمة كتابك (الأسمار) وصورت لهم خلجات نفسك فكنت كريماً في مناجاتك، نبيلاً في عباراتك.
لقد زخرت العربية بمؤلفات المفكرين بيد أن كاتباً واحداً لم يسجل آراء الناس وأسمارهم بذلك الأسلوب الحكيم الذي يدعو إلى قراءته، والإعجاب به كما تهيأ ذلك لك.
ذاك فن الأسمار الذي نحن أحوج ما نكون إليه في عصرنا هذا وقد أصبح أدبنا بعيداً عن مجتمعاتنا وأفكارنا.
لقد تهيأ لك ابتكار فن جديد قبل ذلك، حينما نقلت الغزل والتشبيب من الشعر إلى النثر، في كتابك (ليلى المريضة) كما نبه إلى ذلك الأستاذ الجارم بك، واليوم تبتكر جديداً في عالم الأدب فتصور المجتمع وفيه أصحاب العقول الفطرية تصاول العقول المثقفة فتطلق الحكمة
على لسانها سائغة دامغة.
تلك هي (الأسمار والأحاديث)
دراسة واسعة، ونقد صائب، وفكاهة راقية، وتمثيل لصور المجتمع. ولعمري لقد ترددت كثيراً عند كتابة هذه الكلمة بعد أن رأيت المؤلف يوصد الأبواب أمام من يحاول تزكية (أسماره) ولكن إذا كان من حق المؤلف أن يبث القارئ شجونه ويقدم إليه عصارة أفكاره، فإن من حق القارئ أن يصرح بإعجابه.
وإني لأتقدم إلى رجال المعارف أن يقرروا مطالعته في مرحلة الثقافة العامة حتى يتقن الطلبة لغة الحوار والمناظرة؛ ويقفوا على ما يصطرع في الجو الأدبي والاجتماعي من آراء وأهواء، وحقائق وأباطيل، ويتذوقوا جمال اللغة العربية وقد تركت حجر الدراسة إلى تصوير أحوال الناس، وما يدور في المجتمعات.
سيد محمد مسعود
كتاب الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية
صدر المجلد الثالث من تاريخ الأندلس المسمى (بالحلل السندسية) للعلامة الكبير الأمير شكيب أرسلان في نحو سبعمائة صفحة بالقطع الكامل.
وقد أثبت المجلدان الأول والثاني من كتاب (الحلل السندسية) أنه أعظم تاريخ عصري للأندلس.
وقد تناول هذا المجلد الكلام على شرقي الأندلس ومملكة بلنسية ومملكة مرسية وجغرافيتها وأحوالها وأهلها ووصف مدن الأندلس وحصونها وتراجم رجالها وملوكها والكلام على طرطوشة ودول الأندلس وملوك الطوائف وسقوط مرسية وحوادث الموريسك وغير ذلك من الأبحاث الجليلة.
رسالة النقد
آفاق العلم الحديث
للأستاذ فؤاد صروف محرر (المقتطف)
بقلم الدكتور إسماعيل أحمد أدهم
البحوث العلمية لا وجود لها في العالم العربي اليوم، والدراسات العلمية نادرة في لغة العرب، وهي أن جاءت فيها، فعادة تجئ من القسط الشائع من الآراء الذائعة اليوم في العالم الأوربي عن العلم الحديث، وهي بذلك دراسات - غالباً - تدور حول كليات لا تنزل منها للتفاصيل والجزئيات التي تتقوم بها. ومن هنا كانت عامية التفكير العلمي عند الكثيرين من كتاب العرب وخلطهم في المسائل العلمية وما يتصل بها بوشائج الصلة من الآراء والأفكار. ولهذا كانت المحاولات التي تبذلها مجلة (المقتطف) شيخة المجلات العربية منذ نشأتها لا تقدر قيمتها من حيث تعمل على القضاء على عنصر العامية في الفكر العلمي العربي - إن صح مثل هذا التعبير هنا - والنتائج التي تتركها هذه المحاولات في الفكر العربي كبيرة، آثارها غير أن قد لا تبدو اليوم للجميع واضحة، إلا أنه لا شك في كونها مع الزمن ستنكشف وتتوضح خطوطها وتستبين معالمها. والواقع أن مجلة (المقتطف) منذ عهد مؤسسها المرحوم الدكتور يعقوب صروف، أعطت الدراسات العلمية اهتماماً كبيراً. وهذا الاهتمام يبدو اليوم على صفحات (المقتطف) في الجهود الطيبة التي يبذلها خلفه الأستاذ فؤاد صروف في تقريب صورة العلم كما ترسمها المباحث الحديثة في الهيئة والفيزياء وعلم الحياة والنفس، وفي تقريب الأفكار العلمية إلى الأذهان. وهذه الجهود ظاهرة في الفصول المبسطة التي تنشرها (المقتطف) في كل عدد منها، والتي يجيء معظمها من قلم محررها، والتي يجمعها بعد نشرها في مجاميع، منها كتاب اليوم (آفاق العلم الحديث) الذي خرج بديلاً عن عددي سبتمبر وأكتوبر المنصرمين.
والكتاب مقسم إلى مقدمة وبابين، أما المقدمة ففي أثر العلم الحديث في خلق الغدد، وأما الباب الأول ففي عالم المادة الجامدة وهو ينطوي على سبعة فصول تتدرج من أقصى آفاق الكون في عالم الأفلاك إلى أدق ما في الوجود، في عالم الذرة والكهرباء والباب الثاني
وقف على عالم الحياة، وهو ينطوي على ستة فصول تتدرج من أسرار الحياة في الخلية المفردة إلى أسرار النمو والخلق والتعبد والتقى في الأحياء المتعددة الخلايا والمركبة التكوين والتي يجيء منها الإنسان، فتم البحث في عقل ونفسية الإنسان. وهذه الفصول كلها يجمعها وحدة واحدة، الأصل فيها الاستناد إلى التحقيق العلمي القائم على المشاهدة والاختبار، وليس فيها من هنا أحلام وتصورات خيالية أو أفكار أولية مفروضة فرضاً. فكل ما تقف عليه في فصول هذا الكتاب أن يسنده الاختبار البشري القائم على التدقيق والفحص، ومن هنا فهي أسس صالحة لكتاب العربية، لتتطور معها فكرتهم الغيبية عن الوجود والحياة المتوارثة عن الماضي؛ إلى فكرة وضعية إثباتية قائمة على علم اليوم تسندها التجربة والاختبار البشري.
أما مقدمة الكتاب فهي من خير الفصول التي دبجت في اللغة العربية في العصر الحديث عن العلم الحديث وآثاره المشهورة، وفيها ملاحظات قيمة ومطالعات خطيرة - ولكن لمن يتفهمها على حقها - وقد جاءت في سبع فقرات؛ ففي الفقرة الأولى نرى الأستاذ صروف يكشف عن الأثر المشهود للعلم الحديث في مختلف نواحي الحياة اليوم. وهو في الفقرة الثانية يبين مقدار تأثر حياتنا العقلية والدولية ومثلنا الخلقية بالعلم الحديث ونتائجه التطبيقية. وهو في هذه الفقرة يكشف عن منابع العلم الحديث من حيث هي قوة ديناميكية مؤثرة في حياة البشر اليوم، وهو يرى هذه المناهج في ثلاثة مصادر: الأول الانتفاع بنتائج العلم التطبيقية أو بتعبير أدق إمكان الانتفاع. والثاني منطق العلم الذي قلب نظرة الإنسان إلى الكون والحياة ونفسه. والثالث في التحول الدائم في مذاهب العلم، والذي نتج عنه اعتبار الحقيقة شيئاً متغيراً يتطور وينمو مع تطور العلم الدائم الذي لا ينقطع. على أن لنا على هذه الأسس الثلاثة التي يقدرها الكاتب مأخذاً لا نظنه ينكره علينا، وقد أشرت إليه في المحاضرة التي ألقيتها عن (أثر الرياضيات في الحياة البشرية) مساء 18 ديسمبر 1939 بجمعية الشبان المسيحية بالإسكندرية؛ وذلك أنه اعتبر أساس الأسلوب العلمي التجربة والمشاهدة، وهذا صحيح من الناحية الشكلية فقط. أما في الواقع فالعنصر الرياضي الذي يجمع المشاهدات والتجارب والاختبارات في نظم موحدة على أساس العلاقة، هو الأساس في الأسلوب العلمي. أما التجربة والاختبار، فهي بمثابة الآلات أو المنابع التي تقدم المواد
الأولية إلى الآلة الرياضية لتشتغل عليها؛ وفهم العلاقة بين الآلة الرياضية والتجربة والاختبار مهم جداً في فهم حقيقة الأسلوب العلمي، وأقل انحراف في ذلك، نتيجته أن يتردى الإنسان في أوهام مثل التي وقع فيها الدارثورادنجتون في كتابيه (طبيعة العالم الفوزيقي) و (فلسفة العلم الفوزيقي). وأظنني قد أشرت إلى هذه المسألة في نقد لي لكتاب (هندسة الكون حسب ناموس النسبية)، نشرناه في (المقتطف) عام 1938، وفيه تعرضت بالبحث لآراء إينشتين وإدنجتون وجينز، وبينت بعض أوهامهم في هذا الموضوع.
فإذا صرفنا النظر عن هذه المسألة، فإن المقدمة تنتظم حلقاتها على أساس دقيق. فالكاتب يتناول في الفقرة الثالثة تطور الفكرة الإنسانية تحت تأثير العلم تجاه كل من الطبيعة والخالق. وهنا تجد الأستاذ صروف يبين كيف أن فكرة القدسية التي كان الإنسان يخلعها على نفسه باعتبار سيد المخلوقات قد انهارت. وفكرة اعتبار الأرض التي يعيش عليها مركز الكون وأنه محط الرعاية الربانية قد تلاشت.
على أننا نلمس هنا بعض الحذر من الكاتب فهو لم ينته بفكرته إلى النتائج الأخيرة التي لابد منها؛ ولعقيدته وبيئة كتابته التي نتسلط عليها الأفكار القديمة، بعض الأثر في التزامه هذه التحوط. وفي الفقرة الرابعة بين الكاتب نشوء شريعة الآداب النفسية كنتيجة للحياة التي عاشها الإنسان في الماضي. وتدرج من ذلك في الفقرة الخامسة إلى بيان أوجه الانقلاب الذي ابتدأ يطرأ على شريعة آداب النفس نتيجة لظهور المدنية الصناعية في الغرب، وكيف أنها عملت على تحطيم القدسية والمثالية المخلوعة على المذاهب الأدبية التقليدية. وهكذا أصبح اليوم في العالم المتمدن الأمومة ضرباً من الاستعباد، والزواج ضرباً من الرق، وخصصت فكرة إخلاف النسل للقواعد العالية التي أخذت تعمل على تقييدها. وكان نتيجة كل هذا أن وقف الإنسان اليوم بين عالمين، أحدهما ذهب إلى سبيله في جوف الماضي، والآخر لم يولد بعد، أو هو لا يزال في المهد صبيا. . . وهكذا وقف العالم حائراً؛ والكاتب يصور هذه الحيرة في الفقرة السابعة من بحثه تصويراً دقيقاً، ويبين في الفقرة الثامنة والأخيرة. من البحث أن نظريات العلم التي قلبت نظرية الإنسان في الكون ونفسه التي أنشأت هوة سحيقة بين الحياة التقليدية التي ورثها عن الماضي ومستلزمات الحياة التي تستلزمها اعتبارات اليوم تنطوي رغم كل العوامل الهدامة التي تبدو فيها، على بذور
لحل المشكلة التي تركت الإنسان عليها الآن، وهذه البذور تكمن في التصوف العلمي وفي النزعة الإنسانية التي أخذت تذيع في الناس بانتشار الفكر العلمي. وفي هذه المقدمة التي عرضنا لك موجزاً لخطوطها الأساسية، تفكير سليم، ومنطق حصيف، لاشك أنه وليد ذهنية صافية أرهفها للتزود من المسائل العلمية الدقيقة وصقلها التمرن على البحوث العلمية، ولهذا جاءت طابعاً وحدها بين العقول العلمية التي تشتغل في الحقل العلمي في العالم الناطق بالعربية.
على أن لنا ملاحظة على استعمال عبارة (المذهب البشري) ناظرة إلى كلمة الإفرنجية. ذلك أننا نعرف أن لفظة تفيد اصطلاحياً الآداب اليونانية واللاتينية لتفشي النزعة الإنسانية فيها (بمعنى الرجوع إلى الإنسان لا إلى الله أو الغيب). وأظن أن صديقنا الأستاذ إسماعيل مظهر نبه إلى ذلك في النقد الذي كتبه لكتاب (البراجتزم) للأستاذ يعقوب قام في المقتطف لأعوام خلت. وفيما عدا ذلك فاللغة مثال اللغة العلمية الواضحة القائمة على التدقيق.
وبالرغم من المآخذ التي أخذناها، وهي لا تنقص من قيمة الجهد الكبير المبذول في هذا الكتاب، فانه يمكن بكل اطمئنان القول بأن هذا الكتاب من خيرة الكتب التي ظفرت بها المكتبة العلمية العربية، وهو كتاب لا يستغني عنه العالم ولا المنشئ ولا الأديب. فالكل يجد فيها ما يفيده، وهو بالتالي موضع الثناء والتقدير. وأظن أن أدباء العربية - خصوصاً الذين لا يعرفون لغة أجنبية، أو ليست لهم ثقافة علمية - بتزودهم من الحقائق التي بهذا الكتاب، سيعلمون على التغلب على عنصر الضعف العلمي الملحوظ على أدبهم، والذي سبقهم إلى التغلب عليه أدباء الغرب.
(الإسكندرية)
إسماعيل أدهم
1
1