المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 346 - بتاريخ: 19 - 02 - 1940 - مجلة الرسالة - جـ ٣٤٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 346

- بتاريخ: 19 - 02 - 1940

ص: -1

‌الربيع الأحمر!

الربيع الأحمر! ذلك هو الربيع المقبل كما يتصوره الشاعر!

لا يزال الربيع في بطن الأرض، وإن الطبيعة لتهيئ لجذوره وبذوره

الغذاء المريء والكساء الوضيء من دماء البشر!

سيولد ولادة الملوك على حشد الجنود وخفق البنود وقصف المدافع؛ وسيدرج في ظلاله الأرجوانية الموشاة على فجوات القنابل وأُخاديدها، فيبذر الحياة في الموت، وينشر الجمال على القبح، وينثر أزهاره الغضةّ على جثث وقبور! ويومئذ لا تدري وأنت ترى غيم الدخان وبرق النيران، وتسمع صفير الرصاص ورعد القذائف، أنحن في ربيع أبريل أم في شتاء يناير؟

على أن الشتاء كان على الناس سلاماً وبركة! خمدت على جليده لظى الحرب، وجمدت في ثلوجهُ مخالب الموت، واستطاع بفضله الهر الفنلندي الضئيل أن ينشب أظافره في حشا الدب الروسي الهائل؛ ولكن الربيع الذي جعله الله نشوراً للحياة ومعاداً للشباب ومبعثاً للحب، سيعين لؤم الإنسان بدفء نسيمه وصفاء جوه، على أن يجعل الأرض لنفسه مجزرة ومقبرة!

الربيع الأحمر! على ذلك هو الربيع الذي لا يخلقه الله وإنما يخلقه الإنسان! سيخلقه من الذهب واللهب والدم، فيجعل من الجداول خنادق ومن الأغصان بنادق ومن الأدواح مدافع؛ وإذن تصبح الأعشاش الناعمة المغردة المعطارة مثابة بؤس ومناحة شباب ومستودع غاز!

سيعود ربيع الله الأخضر بطيوره وزهوره ونوره وسروره إلى الجنة، وسيستعير الإنسان مادة ربيعه الدامي من جهنم، فينبت في كل بقعة من بقاع الأرض آجام من شجر الزقوم الباسق الألف، تئز في آفاقها الطوائر، وتعج في أجوافها المدافع، وتدب في مدارجها الدبابات، وتهب في مجاريها السموم، وترتد فيها أناشيد السلام وأغاريد الغزل أنات وصرخات تذوب لهولها الهائل قلوب الشياطين!

تبصروا أيها السادرون من ساسة الشعوب، أهذا هو الربيع الريان الذي جعله الله جدة للحياة ومتعة للحي، أم هو الخريف الميت أحرقته الحرب باللهب، وكفنته بالنجيع، وأخذت عواصفها الرعن تكسح الأرواح الساقطة قبل الأوان لتقذف بها في هوى العدم؟ لم

ص: 1

تستعجلون أمر الله، وتستقدمون يوم القارعة، وتحاولون أن تدكوا الأرض، وتشقوا السماء، وتذروا الكون الذي عمرته القرون وحضرته الأمم كمعبد (داجون) أنقاضاً على شمشون وأعدائه؟

هيهات أن تصيخ اليوم لنداء السلم أذن! لقد جمع الهوى بالعقل جموح الفرق الشموس، فلا هو يسمع الصوت المهيب، ولا هو يطيع اللجام الكابح!

تلك مشيئة الله، وما تشاءون إلا أن يشاء. ولعله، عزت حكمته، يريد من هذه القيامة العاجلة أن يحيى الناس حياة أُخرى على نمط من الهداية جديد

الربيع الأحمر! ذلك هو الربيع الخلاق الذي يهز الأرض هزاً فتربو وتنبت! سيهزها هز العافية ليسقط الذاوي وينتعش الهامد. والحرب تشذيب لغرس الله تقوى عليه الغصون ويزكو بعده الثمر. وآفة الحرب أنها تودي بالصالح للحياة وتبقي على الصالح للموت؛ ولكنها كالسيل الآتي يجرف تياره الجني واليابس، ويغرق طغيانه العامر والغامر؛ فإذا انقطعت روافده وجفت مجاريه عادت الأرض به اخصب تربة وأوفر غلة.

مرحباً بالحرب إذا لم يكن من خوض غمارها بد. أنها تقطع الفضول وتنفي الخبث وتذيب الغش وتذهب الوهن. ولعلنا أحوج الأمم إلى طهور الحرب يرحض عنا رخاوة الذلة واستكانة الرق! فقد غبرت على وجوهنا قرون من التبعية المستسلمة لو مرت على الضواري لطمست في جباهها معارف الجرأة، وأماتت في نفوسها معاني الافتراس. كنا نعيش في ظلال المتبوع عيش الأمان والغفلة، لا نعرف الحدود إلا على الورق، ولا نشهد الحروب إلا في السينما، ولا ندرك معنى الدفاع عن النفس في وجود الحامي إلا كما تدركه الزوجة المرفهة في وجود زوجها، والولد المدلل في حضرة أبيه، حتى فشا فينا الجبن، وغلب علينا التواكل، وقعد بنا الرضى، فتركنا ثروتنا للغريب، ووكلنا حمايتنا للحليف، وفرغنا للتنافس في الهزل، والتراشق بالتهم، والتسابق إلى النيابة أو الحكم من غير كفاية ولا غاية!

الربيع الأحمر! ذلك هو الربيع الجبار الذي يأكل غثاء الخريف وحطام الشتاء ليحيلهما في جوفه الناري غذاء لشجره ونماء لثمره!

وهو وحده الذي يستطيع أن يقتطع الحطب، ويقتطع العليق، وينبت على الجذور البالية

ص: 2

خلفة نامية زاكية تهيئ الروض الهامد للنضارة والطهارة والإنتاج والبركة

أن روضنا يا ربيع هشيم وخشب! فأحيه بالماء أو بالدم، وعالجه بالغذاء أو بالسم، فقد استعصى يا ربيع علاجه على النيل، ولابد أن يضحي بجيل في سبيل جيل!

احمد حسن الزيات

ص: 3

‌إلى وزارة المعارف

معارف مصر

في حولية المعارف الأممية

للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك

حمل البريد إلي قبل يومين الحولية التي نشرها مكتب التربية الأممي، عن (التربية والتعليم في جميع أنحاء العالم خلال سنة 1939)

فلما أخذت أقلب صحائفها لألم بها إلماماً إجمالياً - استعداداً لدرسها درساً تفصيلياً فيما بعد - كان بعض الفصول يستوقف نظري قبل غيره أو اكثر من غيره؛ وكان الفصل الخاص بمصر (ص180 إلى 201) من جملة تلك الفصول بطبيعة الحال

وما كدت القي نظرة سريعة على الصفحتين الأوليين من هذا الفصل، وأستعرض الأرقام الإحصائية المدرجة فيهما، حتى وقفت على ما يثير الضحك والألم في وقت واحد. . .

يفهم من هذه الإحصائية أن مدارس الأطفال في مصر تربي 2448 طفلاً، والمدارس الابتدائية الأميرية تعلم 29775 تلميذاً، والمدارس الابتدائية الخصوصية تجلس على كراسيها 53489 من التلاميذ؛ وهذا هو كل ما في مصر من مدارس خاصة بتعليم الأطفال - قبل بلوغهم سن الدراسة الثانوية - حسب ما يظهر من هذه الإحصائية. . .

لو لم أكن أعرف حالة المدارس المصرية معرفة سابقة، وكان عرفاني بها مستنداً إلى هذه الإحصائية وحدها، لقت حالاً:

ما أتعس مصر وما أشق أطفالها. . .

لأن هذه الأرقام تدل على تأخر فظيع، لا بالنسبة إلى الأمم الأوربية والأمريكية فحسب، بل بالنسبة إلى الأمم الشرقية نفسها. وليس هذا التأخر بالكمية النسبية فحسب، بل بالكمية المطلقة أيضاً. . . فإن العراق، يسبق مصر في هذا المضمار بمراحل عديدة. وأما إيران فتسبقها بعشرات المراحل نظراً إلى هذه الأرقام. . .

فان عدد طلاب المدارس الابتدائية الأميرية في العراق يناهز ثلاثة أمثال طلاب تلك المدارس في مصر، مع أن عدد نفوس العراق لا يبلغ ثلث نفوس مصر. . . وأما عدد

ص: 4

طلاب المدارس الابتدائية في إيران فلا يقل عن ثمانية أمثال طلاب مصر، مع أن عدد نفوسها أقل من نفوس مصر على كل حال. . .

ولا مجال للشك في أن كل من يراجع الحولية الأممية المذكورة من الأوربيين والأمريكيين سيلاحظ هذه الملاحظة، وسيقول: ما أفظع هذا التأخر المؤلم في بلاد غنية مثل مصر، في شعب عريق في الحضارة مثل المصريين!

قد يقول بعض من يقرءون هذه الأسطر: لابد من أن يكون هناك خطأ في الأرقام. . . ولا يستبعد أن يكون هذا الخطأ متأتياً من نقص المعلومات التي جمعها مكتب التربية الأممي عن المدارس المصرية. . .

غير أن هناك ما ينفي هذا الاحتمال نفياً باتاً: لأن الفصل الذي يرافق إحصائية المعارف في مصر لسنة 1939 تقرير رسمي رفعه مندوب الحكومة المصرية الدكتور محمود فهمي - كما هو مصرح به في أسفل الصفحة 181 من الحولية - فلا يحق لأحد إذن أن يشك في صحة الأرقام المدرجة هناك. . .

ومع كل هذا، فأنا أعرف أن النتيجة التي يصل إليها الباحث - من هذه الأرقام - لا توافق الحقائق الراهنة بوجه من الوجوه. . . أنا أعرف أن هذا المظهر الغريب الذي تظهر به معارف مصر - في مثل هذه الإحصائيات - يعود إلى سبب مهم، كنت قد وجهت إليه الأنظار - على صفحات الرسالة - قبل نحو ثلاث سنوات. . .

أن نظم التعليم المرعية في مصر لا تفهم من تعبير (المدرسة الابتدائية) ما يفهمه رجال التربية والتعليم وغيرهم في جميع أنحاء العالم. فإن المدرسة الابتدائية في مصر، مدرسة من نوع خاص، وهي غريبة شاذة من وجوه عديدة. . .

لقد انتقدت أوضاع هذه المدارس بشدة في المقالة التي نشرتها في العدد 187 من الرسالة - بتاريخ أول فبراير سنة 1937 - وبعنوان (نقد نظام التعليم في مصر)، وشرحت المحذورات الجوهرية التي تتأنى من الاستمرار على تلك النظم. . .

وما كنت أتصور عندئذ أن كل شيء سيبقى على حاله وسيؤول إلى ظهور مصر بهذا المظهر الغريب في الحولية الأممية بعد ثلاث سنوات. . .

(بغداد)

ص: 5

أبو خلدون

ص: 6

‌إلى الدكتور طه حسين بك

تشريح عاطفة الحب

للدكتور زكي مبارك

أيها الأستاذ الجليل:

سألتني يوم لقيتك بوزارة المعارف في صباح اليوم الثامن من هذا الشهر عن سبب اهتمامي بالحديث عن الحب، وقد جرى ذكر كتاب (ليلى المريضة في العراق)، وكانت الابتسامة التي شع ضوءها في ملامح وجهك، تحمل معنى التعجب من أن تسمح الدنيا بأن أعيش بقلب المحب المتيم المتبول!

فأجبتك بأن شواغلي في الحياة قد تجعل الحب آخر ما يشغل قلبي. ولكن حديثي عن الحب صار مذهباً أدبياً أشرح به ما يتعرض له الناس في ميادين النوازع والأهواء، وأنا أريد أن اخلق جواً من البشاشة أدفع به ظلمات الزمان!

فابتسمت ابتسامة لها معنى وقلت: اخلق البشاشة في الزمن أن استطعت!

ثم خضنا بعد ذلك في شجون من الأحاديث سأرجع إليها بالتدوين بعد حي. . .

ويهمني اليوم أن أشرح ما كان يجب أن أقول في جواب سؤالك لو رأيتك منشرح الصدر لا تشكو تدخل بعض الناس في شؤون قد يجهلونها كل الجهل، أو يتحمسون لها بعقيدة مدخولة وإيمان مصنوع.

ونحن لم نبتكر الكلام عن الحب، فهو عاطفة عرفتها الأرواح منذ أقدم عهود الوجود. وما قيمة الدنيا إذا خلت من الحب؟ ولأي غرض يحيا الناس إذا أصيبت أفئدتهم بالاعتلال فلم تحس ذلك الروح اللطيف؟

وهل ينصرف القلب عن الحب وهو في عافية؟

إن المتوقرين والمتزمتين يتوهمون انهم وجدوا الحجج الدوامغ حين استطاعوا أن يقولوا: أن الدنيا في حرب، وان الظروف لا تسمح بالحديث عن الحب!

وأقول: إن ما هتفوا به لم يصدر إلا عن صدور مراض، فالحب لا يغزو إلا قلوب الأصحاء، وهو يساور قلوب الجنود في أصعب أوقات الحروب. وهل كان عنترة بن شداد ماجناً حين قال:

ص: 7

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

منى وبيض الهند تقطر من دمي

فوددتُ تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبَّسم

وما هتف به عنترة هتف به ضابط مصري سمحت له لجنة الأناشيد العسكرية بأن يقول:

مين زيك عندي يا خضره

في الرقة يا غصن ألبان

ما تجودي عليّ بنظره

وأنا رايح عَ الميدان

وهذا الضابط اسمه عبد المنصف محمود، ولا أعرف كيف اهتدى إلى هذه الفكرة الطريفة وهو يعيش في زمن مثقل بآصار التصنع والرياء

لقد قيل إن هذا نشيد لا يصلح للجنود وهم يتأهبون للقتال

وأقول إن هذا النشيد من شواهد العافية، فلكل جندي في الجيش أوطار روحية يحن إليها حنين الأصحاء، وتلك الأوطار الروحية هي الحافز الأعظم للاستبسال في ميادين الشرف والوطنية. والجندي الفارغ القلب من عاطفة الحب لا يصلح أبداً للاستشهاد في سبيل الوطن الغالي، لأن الوطن لا يغلو إلا في صدور أرباب القلوب.

وأنا أنتظر أن يسود ذلك النشيد على سائر الأناشيد، فقد هتف به جندي سليم الجسد والروح، وهو أفضل من الأناشيد التي ينظمها شعراء لم يعرفوا الفرق بين السيف والرمح، ولم يسمعوا صوت المدفع إلا في ليالي رمضان!

من الفضول أن أحدثك عن أهمية الحب، ولك فيه تاريخ، ولكني احب أن أعرف كيف يندر أن نجد بين كتابنا من يهتم بتشريح عاطفة الحب؟ وكيف يرانا من سيدرسون آثارنا الأدبية بعد جيل أو أجيال حين يظهر لهم أننا كنا نحسب الحديث عن الحب فناً من فنون المزاح؟

الحب جده جد، وهزله جد، ولا يتجاهل هذه العاطفة إلا الغافلون عن تأثيرها الحسن أو السيئ في تلوين الوجود.

الحب جد صراح، والاهتمام بدرسه يؤدي خدمات عظيمة لعلم النفس، فكيف نسكت عن درسه وهو يواجه الناس في جميع الميادين؟ كيف نسكت عن درسه وله قدرة قاهرة على الضر والنفع، وله تأثير شديد في توجيه مصاير الرجال؟

وبأي حق يخلو أدبنا من تشريح عاطفة الحب؟

وكيف يجوز أن يقهرني العيش في عصر التزمت على الدفاع عن كتاب (ليلى المريضة

ص: 8

في العراق) وهو كتاب أردت به خلق الحيوية الأدبية بين أبناء هذا الجيل؟

إن التوقر الذي يصطنعه بعض الناس قضى على عصرنا بالحرمان من البشاشة والأريحية وقطع ما بيننا وبين ماضينا المجيد يوم كان لنا شعراء لا يهتفون بغير أوطار القلوب.

وأين نحن من العصر الذي عاش فيه عمر بن أبي ربيعه، أو العصر الذي عاش فيه العباس بن الأحنف، أو العصر الذي عاش فيه الشريف الرضي؟

وهل يمكن القول بأن الحاسة الدينية في هذا العصر تفوق الحاسة الدينية في أعصر أولئك الشعراء؟

لا يمكن القول بذلك، فنحن بشهادة رجال الدين أقل حرصاً على الواجبات الدينية من الرجال الذين عاصرهم أولئك الشعراء، والله يغفر لي ولك ولسائر أهل هذا الجيل!

الفرق بيننا وبين أسلافنا لا يحتاج إلى توضيح

كان أسلافنا أصحاء، فكانت عصورهم تجمع بين أشرف صنوف الهداية وأعنف ضروب الضلال، وكان الرجل الديان لا يتورع عن رواية أظرف قصائد الغزل والنشيب، وكان هناك توازن بين حقوق القلوب وحقوق العقول، فكانت الحياة أشبه بالحديقة الغنية التي تجمع في شعابها بين حياض الأزهار والرياحين ومسارب الأفاعي والصلال.

وأين نحن اليوم من أولئك الأسلاف؟

في مساجدهم رويت طرائف الأشعار، ونوقشت مذاهب الزيغ بلا تحامل ولا إسراف، وفي بيوت أتقيائهم دونت أوهام القلوب والعقول، وعلى ألسنة أصفيائهم جرت أحاديث الشك والارتياب، وبفضل ذوقهم الأدبي والفني عاشت أضاليل لها صلات بحيوات الآداب والفنون

أما عصرنا الذي أعرف وتعرف فهو عصر الرسوم والأشكال، وأخشى أن يمر بلا أثر ملحوظ في خدمة العقل والقلب والذوق

وإلا فأين الرجل الصالح الذي يقهرك روحه على التزام حدود الدين؟

وأين المفكر الذي يقهرك إخلاصه للفكر على التزام حدود العقل؟

وأين الأديب الذي يحدثك عن نفسه فتشعر بأنه صادق كل الصدق؟

ومن اجل هذه الرخاوة الفكرية والأدبية والدينية فترت حماسة الناس للفكر والأدب والدين،

ص: 9

وأصبحت القلوب في مثل حال الشراب المقتول

وهنا أجد الجواب عن سؤالك، أيها الأستاذ الجليل

فأنا أتحدث عن الحب بصفة جدية، وأتعقب أخباره وآثاره في كل ما أرى وما أسمع، وآية ذلك أني لم أنته ولم أنزجر بعد أن رأيت غضبتك في جريدة السياسة يوم ظهر كتاب (مدامع العشاق) وقد قلت انه يحرض على الشهوات، سامحك الله وغفر لك!

وأنا أجد في كل شيء، أجد في الصداقة والعداوة، وأجد في الشك واليقين، وليس أمامي مجال للمزاح، وكيف يتسع وقتي للمزاح وما قضيت يوماً خالياً من الشقاء بالدنيا والناس؟

فما أرضاك عني فهو حق، وما نفرك مني فهو حق، وما خصصتك بغضبي ورضاي إلا لأني أعرف انك تعاقر من فرح الحياة وحزن الحياة بعض ما أعاني. وأنا موقن بأنك تفهم عني ما أريد، لأنك تعرف من سريرتي ما لا يعرف سواك

فما رأيك في الحب؟

ألا ترى انه عاطفة تستحق أن نتأثرها في جميع المسالك؟

وإذا سكتنا عن تشريح عاطفة الحب فمن يتحدث عنها ونحن ندعي النيابة عن الجمهور في تشريح النوازع والأهواء؟

وهل يرضيك أن نصير إلى ما صار إليه من يختارون المحفوظات لتلاميذ المدارس، وقد تحاشوا جميع الأشعار التي تفصح عن إوطار القلوب.

لو كان جميع المعاصرين من (العارفين بالله) لخف الأمر وهان، ولكن معاصرينا من الأساتذة يسمعون حديث الحب من المذياع، ويرون آثاره على الشاشة البيضاء، وفيهم من يتمنى لو سارت أشعاره بين أغاريد أم كلثوم وعبد الوهاب!

يجب أن تعرف أني أخاطب الدكتور طه حسين الذي نقل أروع أحاديث الحب عن أهل الغرب، والذي يحاول أن يطبع الجمهور المصري على تذوق الموسيقى الأوربية، لأنها في رأيه من أصلح الأدوات للتعبير عن العواطف والأهواء.

والأوربيون الذي تعرفهم لا يرون الحب من المزاح، وإنما يرونه عاطفة أصيلة تنقل القلب من مكان إلى مكان، وتسبغ عليه أثواب الصحة والعافية، وتشريح عاطفة الحب هو عندي باب لتربية العواطف.

ص: 10

تربية العواطف؟

أعوذ بالله من الجهل بأخلاق زماني ومن التعرض لسفاهة الأقاويل وشناعة الأراجيف!

نعم، أنا أدعو إلى الاهتمام بتربية العواطف، وليقل من شاء ما شاء.

كل شيء في بلادنا موضع اهتمام إلا العواطف، وإهمال العواطف ستكون له آثام أيسرها رياضة الشبان على رذيلة (عدم الاكتراث) وهي أقبح الرذائل وأشدها تأثيراً في قتل حيوية الشعوب.

وهل تستطيع القول بأن الرأي العام عندنا يحس هذه المعاني؟

وما الرأي العام؟ أليس صدى لآراء الباحثين والمدرسين وهم عندنا قوم هيابون خوافون يرون الحديث عن العواطف من فضول القول؟

وخمود العواطف هو الذي قتل الشاعرية في مصر، وهو الذي جعل المصريين أقل الناس إحساساً بمعاني الوجود، وإلا فحدثني عما أقيم على شواطئ النيل من ملاعب، وما أقيم فوق عبابه من سهرات يغنى فيها الشعر ويرقص الخيال؟

هل عندك نبأ عن حدائق القناطر الخيرية؟ وهل سمعت أن إحساس المصريين بالحياة حمل بعض الشركات على أن تنشئ فندقاً هناك؟ ولمن تقام الفنادق في تلك الضاحية السحرية وليس فينا رجل يشوقه قضاء الليل وهو يسمع هدير النيل في شهر آب؟

وهل عندك نبأ عن حديقة الأزبكية؟

ألم تسمع أن حديقة الأزبكية ليس فيها مكان تشرب فيه فنجاناً من القهوة أو الشاي إذا بدا لك أن تقضي فيها ساعة أو ساعتين لمحاسبة نفسك أو مداعبة خيالك؟

ويتحدث الناس في هذه الأيام عن بحيرة قارون بمناسبة زيارة جلالة الملك لإقليم الفيوم، فهل تعرف انه لا يمكن قضاء ليلة بجوار تلك البحيرة إلا في فندق أقامه هناك أحد الألمان؟

وهل سمعت أو سمع أحد من أصحابك أن شاعراً مصرياً قضى ليلة أو بعض ليلة وهو يداعب سمكات تلك البحيرة؟

وما رأيك في (بحيرة التمساح)؟

هل سمعت لها خبراً في قصيدة أو رسالة أو كتاب لأديب من أهل هذه البلاد؟

وهل خطر لك أن تقضي ليلة بجوار تلك البحيرة عساك تعرف شيئاً من أخبار مدينة

ص: 11

الإسماعيلية؟

ولا موجب لتذكيرك بالأقصر وأسوان: فالناس جميعاً يعرفون أن الأجانب هم الذين تشوقهم تلك المغاني، وإليهم يرجع الفضل في إقامة أسواق الحياة بتلك المناسك، على أيامها ولياليها أطيب التحية وأزكى السلام!

وما لي أبعد بك فأنقلك إلى تلك البقاع النائية؟

هل اتفق لك أن تلقى درساً من دروسك بين الأشجار التي تحدق بكلية الآداب؟

وهل فكر أستاذنا لطفي باشا في محادثة طلبة الجامعة عن أرسططاليس تحت الدوح كما كان يصنع فلاسفة اليونان؟

ذلك يشهد بأن إحساسنا بالحياة يكاد يكون في حكم المفقود، فما رأيك في الدعوة إلى الطب لهذا المرض العضال؟

وكيف نطب لهذا المرض ونحن نرى الحديث عن الحب ضرباً من المزاح؟

كيف وقد تهيبت تقديم كتاب (ليلى المريضة في العراق) إلى محرري الجرائد المصرية لئلا أقرأ لأحدهم كلمة تؤذيني بلا موجب معقول؟

وما رأيك إذا حدثتك بأني عجزت في مصر عن بعض ما قدرت عليه في العراق؟

كنت أحب أن أؤلف كتاباً عن (ليلى المريضة في الزمالك) افصل به أسرار المجتمع وسرائر القلوب في هذه البلاد بطريقة روائية تفيض على شبابنا روحاً من أرواح الوجدان، ولكني خشيت ملامة الفارغين من أشباه الأدباء.

فهل أرجو أن يصر قلمك بما تهيب منه قلمي؟

لقد وضعت لك الخطة بكتاب (ليلى المريضة في العراق) فأرني كيف تصنع وكيف تصور عصرك وزمانك كما صورت عصري وزماني. نحن نريد أن نشغل الناس بأخلاقهم وأذواقهم وأوهامهم، نريد أن نسيطر عليهم بالأدب والعقل بعد أن سيطر عليهم السياسيون بالمناوشات الحزبية والسياسية.

فهل أنت مستعد لاقتحام هذا الميدان؟

نحن نفكر في خلق عصبية أدبية تعلو على العصبية الحزبية

ولن نصل إلى ذلك إلا يوم يؤمن الجمهور بأن الأدب هو الترجمان الصادق لشهوات

ص: 12

العقول، وللعقول شهوات أعنف وأخطر من شهوات الأحاسيس، وتثقيف الشهوات العقلية يصل بنا إلى منازل الحكماء، ويطمعنا في الخلود.

ليتني أستطيع مصارحتك بكل ما أريد في خلق الحيوية الأدبية والفنية!

وكيف أستطيع وأنت كثير التلوم والتعتب، ولا يصل إليك الرأي الصريح إلا مشوباً بتهمة التحامل عليك؟

أنت على كل حال من ذخائرنا الأدبية، وأنا أقبلك على علاتك كما تقبلني على علاتي.

فهل يكون من الفضول أن أصارحك بأنك لا تقبل على حياة الوجدان إلا وأنت خائف، مع انك قوي العبارة في الإفصاح عن وساوس نفسك، ونوازع قلبك؟

وما خوفك وقد استقام لك أمر مصيرك الأدبي وصار اسمك من أظهر الأسماء؟

ما خوفك من الاعتراف بأن عاطفة الحب تستحق التشريح؟

وما الذي يدعوك إلى الاحتراس حين أقترح عليك تأليف كتاب عما أحس شعراء العرب من النوازع الوجدانية؟

أتخاف أهل الجمود؟

أطمئن، يا سيدي الدكتور، فهم في شغل عنا بمصايرهم الدنيوية، ولن يفرغوا لنا إلا بعد أن نفرغ من إعلام الناس بما نريد من شرح أوهام العقول والقلوب.

أما بعد فأنا أعلن عتبي عليك، لأنك ابتسمت ابتسامة فيها طيفٌ من الاعتراض على اهتمامي بتشريح عاطفة الحب، وأصارحك بأن هذا مذهبٌ أدبيٌ سأحرص عليه ما دمت أملك القدرة على تشريح العواطف والأحاسيس.

فافتح قلبك، يا سيدي الدكتور، لوحي الحياة والحب، واعلم أن الابتسام الصادق هو أثمن ما يملك الرجال.

وقد شاءت المقادير أن أستطيع مقابلتك في كل يوم بعد أن صرت معنا في وزارة المعارف، وساحولك إلى حزبنا، حزب الأخوة الأدبية الذي يرى أقطار العربية جسماً واحداً إذا شكا منه عضو أسعدته سائر الأعضاء بالسهر والأنين.

وستريك الأيام بعد قليل أن الميزان الذي كنت احتكمت إليه في تقدير العداوات والصداقات لم يكن أدق الموازين. . . والله المسؤول أن يديم عليك عافية القلب وشباب الروح.

ص: 13

زكي مبارك

ص: 14

‌الحق والقوة

للدكتور إبراهيم بيومي مدكور

أستاذ الفلسفة بكلية الآداب

في هذا الجو المملوء بالآلام والويلات، وفي هذه الساعات الرهيبة التي ينبض لها قلب العالم هلعاً وجزعاً من مأساة لا يعلم مداها، وتطاحن لا يستطيع أن يقدر نتائجه؛ في هذه اللحظات التي يعتدي فيها الأقوياء على الضعفاء ويطغي المسلحون على العزل الأبرياء، وفي هذه الأيام التي خفقت فيها موسيقى السلم ذات الألحان الشجية والنغمات الحلوة وحلت محلها نواقيس الحرب ذات الأصوات المدوية؛ بل وفي هذه الأعياد السنوية التي كان يقدسها قديماً الهمجيون أكثر مما يقدسها اليوم المتحضرون، والتي كان يلقى فيها الأسلحة المتحاربون؛ في هذه الظروف كلها رأيت من الخير أن أتحدث عن فكرة الحق والقوة.

وإذا ما تحدثت عن هذه الفكرة فإنما أعرض للمشكلة الرئيسية بين مشاكل الفلسفة السياسية منذ أفلاطون إلى اليوم، فهي مشكلة الماضي والحاضر، ويخيل إلي أنها ستبقى مشكلة المستقبل إلى النهاية. وكأني بالحق والقوة ضدين لا يجتمعان وعدوين لا يتهادنان، يقدر لأحدهما الغلب ثم لا يلبث الآخر أن يعدو عليه وينتزع منه سلطته، وما تنازعهما إلا صراع بين الروحية والمادية، بين المثالية والواقعية، بين الإنسانية والوحشية، بين الحضارة والهمجية. ولن أكون في حديثي هذا المشرع الذي يعني بالقوانين وصوغها بين ما فيها من عقوبات وقصاص تحول دون عدوان المعتدين وظلم الظالمين، ولا السياسي الذي يقدم الحلول المختلفة للمشاكل الدولية الهامة. وإنما سأعرض لموضوع الحق والقوة من ناحيته الفلسفية والأخلاقية والاجتماعية، فأبين كيف نشأت الفكرتان وكيف تطورتا وماذا كان لهما من أثر في حياة المجتمع، ثم أشير إلى أوجه التقابل بينهما وموقف الفلاسفة والأخلاقيين منهما

ليس من السهل أن نحدد بالدقة كيف اتجه الإنسان الأول نحو فكرة القوة، أقاده إليها حسه وبصره وسمعه ولمسه؟ أم هداه إليها شعوره وقلبه وعزمه وإرادته؟ وبعبارة أُخرى هل تبينا القوة لأول مرة في أنفسنا أو في الظواهر الطبيعية المحيطة بنا؟ وهل هي من أصل سيكولوجي أو من مصدر طبيعي؟ وهل هي وليدة العالم الداخلي أو الخارجي؟ وأغلب

ص: 15

الظن أنها نتيجة هذين الجانبين وثمرة هذين المؤثرين، فأدركنا القوى الطبيعية وقوتنا الإنسانية في الوقت الذي اصطدمت فيه الطبيعة بنا واصطدمنا بها. وكيفما كان أمر هذه النشأة فإن الإنسان سلم من قديم بوجود قوى في الكون متعددة: طبيعية وإنسانية، مادية وروحية، ظاهرة وخفية، سماوية وأرضية. فإذا ما سألته عن حقيقة هذه القوى عز عليه كشفها وصعب عليه تحديدها، وجل ما تحظى به منه أن يعرفها بآثارها ويتعرفها بنتائجها، فيقول أنها ما يتم به التغير.

بيد انه على الرغم من كل هذا لم يتردد الفلاسفة والاجتماعيون في أن يبينوا هذه الفكرة الغامضة في نشأتها والخفية في مدلولها، وكان لابد لهم أن يفعلوا ما داموا يدرسون التغير وعلله، أن في عالم الطبيعة أو في عالم الإنسان. فنرى الرواقيين في التاريخ القديم ينتهون إلى مذهب ديناميكي شبيه بذلك المذهب الذي صعد به ليبنتز إلى القمة في القرن السابع عشر. يتصورون أن العالم كائن حي مشتمل على النار والحرارة التي هي المبدأ الفعال والمؤثر في المواد والأجسام المنفعلة، ولا كيان للمادة إلا بواسطة ذلك (النفس الحار)(إلابنيما) الذي يضم أجزاءها ويدفعها إلى الحركة والتغير، فقوة العالم كامنة فيه تسيره على نظام ثابت وتخضعه لقوانين معينة. وان فكرة المادة والصورة التي قال بها أرسطو ولم يوضحها تمام التوضيح ولدت في القرون الوسطى تلك القوى الخفية والخواص الكامنة التي هي مصدر التغيرات الكونية والأحداث الإنسانية، وان كان وراءها قوة عظمى، هي قوة القوى وعلة العلل. وإذا كان لبيكون وديكارت رسالة جديدة في التاريخ الحديث إزاء المسائل الطبيعية فهي أنهما حاولا محاربة الصفات الغامضة والصور الخفية التي رددها المدرسيون. على أن بي كون لم يسلم تماماً من آثار تلك الفلسفة المدرسية، وبدا في بحثه التجريبي وكأنه ينقب عن أمور ذاتية وصفات أولية للأشياء هي سر تميزها وتغيرها، وفكرة الحركة والتدافع التي ذهب إليها ديك أرت ترد التغير في آخر تحليل إلى قوة وحيدة، إلى البارئ جل شأنه. ولعل هذا هو الذي قاد ليبنتز إلى نظرية (النتاد) والذرات الروحية، فكان يتصور الأجسام كلها في صورة معنوية ابلغ مما ذهب إليه الرواقيون، ويتوهم أنها مجموعة ذرات روحية فيها قدر من النشاط والإدراك يتفاوت على حسب مرتبتها، وقد أبدعها ونسقها اله هو روح الأرواح ومناد المنادات، وإذا كان مرجع التغير

ص: 16

كله إلى الله فلم نبحث عن قوى وأسباب أُخرى سواء؟ والأجدر بنا أن نرد كل شيء إليه سواء أكان من الظواهر الطبيعية أو الأعمال الإنسانية. وهكذا رأى مالبرانش وباركلي أن يردا القوى الظاهرية كلها إلى الله، وقررا أن ليس ثمة قوة في نظرهما غير تلك القوة الوحيدة.

هذا هو شأن القوة فيما يتعلق بالظواهر الطبيعية، وليس شأنها بأقل خطراً فيما يتعلق بالأحداث الإنسانية، فقد دالت بسببها دول وقامت أُخرى، وذل جبابرة وعز آخرون. وللقوة في المجتمع مظاهر عدة: فهناك القوة المادية الجسمية، والى جانبها القوة الصناعية والإنتاجية، ثم قوة المال والفكر والعبقرية، وأخيراً قوة العزيمة الماضية وإرادة الشعوب التي بدلت صفات التاريخ. ولا نظننا في حاجة إلى نلاحظ انه إذا كانت قوة الأفراد والطغاة هي التي سادت العالم بالأمس فإن إرادة الشعوب حلت محلها، بل كانت أحياناً أشد أثراً وأعظم إنتاجاً. ومن هذه القوة الشعبية تولدت الحركات الدستورية وبواسطتها تأيدت النهضات الاستقلالية، وعنها صدرت قوة الطوائف والنقابات والأحزاب. وإذا ما تبتعنا الفلاسفة السياسيين في مراحل التاريخ المختلفة، وجدنا أنهم إنما حاولوا أن ينظموا القوى المتباينة أو عولوا على قوة دون سواها. فأفلاطون قديماً أخذ نفسه بالتوفيق بين قوى المجتمع المتباينة: بين حراس المدينة من جانب، والمنتجين من صناع وزراع من جانب أخر، والحكام والقضاة من جانب ثالث؛ فأراد التوفيق في اختصار بين الشجاعة والمنفعة الذاتية والعقل. ومكيافيلي في عصر النهضة أو هوبس في أوائل التاريخ الحديث، ونيتشه بين المعاصرين إنما ناصروا قوة الفرد وأيدوا الحكومة المستبدة ظناً منهم أنها الوسيلة الناجعة لحكم الجماهير. أما لوك وفولتير وروسو، فقد اعتدوا بقوة الشعب كل الاعتداء، ووضعوا دعائم النظم الدستورية والنيابية الحديثة. والى جانب هؤلاء وهؤلاء نجد جورج واشنطون ومازيني وسعد زغلول على راس النهضات الاستقلالية، كما نجد كارل ماركس يصور قوة اليد العاملة في أوضح صورها، ويعلن حقوقها إزاء أصحاب رؤوس الأموال.

في هذه النهضات على اختلافها والثورات على تنوعها ما يشهد بما للقوة من أثر في حياة المجتمع، بل نستطيع أن نقول أن المجتمع الإنساني مجموعة قوى متعددة، متعاونة أحياناً ومتعارضة أحياناً أُخرى. وسعادة الأمة في أن توجه هذه القوى في وجهاتها الملائمة، وان

ص: 17

تتضافر على غرض أسمى. وأي نظام اجتماعي لا ينمو ولا يطرد، بل ولا يحيا ولا يثبت إلا أن كانت وراءه قوى مادية وروحية تغذيه وتعاونه.

(يتبع)

إبراهيم مد كور

ص: 18

‌قابليات العناصر البشرية

للدكتور جواد علي

نشر الكاتب السياسي الفرنسي (كراف كوبينو) كتاباً في أربعة مجلدات ظهرت بين عامي 1853 - 1855 بعنوان (عدم مساواة العناصر البشرية): ? فأثار على مؤلفه سخطاً شديداً ولا سيما من الهيئات الكاثوليكية وأنصار مبادئ الثورة الفرنسية، كانت نتيجته طرد الرجل مراراً من السلك الدبلوماسي الذي كان ينتسب إليه.

وقد استقى كوبينو آراءه من مصدرين: مصدر التتبع والبحث الشخصي الذي قام به خلال تمثيله السياسي للحكومة الفرنسية في طهران والهند والبلقان، ومصدر العلم الطبيعي الذي طغى إذ ذاك وتغلب على الطريقة القديمة باعتماده على التجارب والاختبارات. فقال باختلاف الأجناس وتباين العناصر البشرية كما هو الشان في النباتات والحيوانات وقد كانت هذه نظرية قال بها العالم الألماني ألنتروبولجي بلومنباخ (1752 - 1840)، والعالم الفرنسي كوفيبه (1769 - 1832). غير انه زاد عليهما بنظريته في اختلاف القابليات البشرية والإنتاج المدني والثقافي، فوصل إلى أن التاريخ البشري والحضارة البشرية نتيجة عقلية واحدة، هي العقلية الآرية التي تشتمل الشعوب الأوربية والهندية الأوربية. ويخص من هذه الشعوب أيضاً الشعوب الجرمانية بأعلى القابليات في الاختراع والابتكار والسيادة والإرادة والزعامة في جميع نواحي الحياة.

وكانت أول أرض أجابت هذه الدعوة هي الأرض الألمانية التي بدأت تنمو فيها الروح القومية، وتظهر بأجلى مظاهرها، ورسالة الفيلسوف الألماني فخته بعثت فكرة القوميات في أوربا وهيأت الجو ولا شك لمثل هذه الآراء. وكذلك فلسفة هيكل الذي قسم العالم إلى أدوار بدأ فيه بالدور الشرقي وانتهى بالدور الجرماني الذي هو في نظره خير الأدوار العالمية وأكملها. أضف إلى ذلك كتابات المؤرخ الألماني الشهير (ترايشكه)، والكاتب الاجتماعي الوطني فردريش جان وغيرهم، والوحدة الألمانية التي قام بتأسيسها بسمارك، وآراء نيتشه في القوة وتمجيده للحرب.

ومن أشهر من تأثر بهذه النظرية الكاتب الإنكليزي الألماني شامبرلين 1855 - 1927 مؤسس الفلسفة النازية الأولى وأول فيلسوف يعتبره أتباع هتلر من بين صفوفهم. والرجل

ص: 19

مع انه إنكليزي يختلف عقلية عن العقلية الألمانية، تأثر بالمحيط الألماني وهجر وطنه وترك لغته وغدا ألمانيا يخلص لألمانيا ويدافع عنها ويطعن على الإنكليز وقساوتهم في معاملة الألمان في الحرب العظمى. اتخذ هذه النظرية قاعدة له في جميع أبحاثه ومقياساً يقيس به للعالم طرّا. وفي كتابه الشهير (أسس القرن التاسع عشر) الذي ظهر في سنة 1899 19 يحمل أفكاره. وقد ترجم إلى لغات عديدة وطبع عشرات المرات

يرى في كتابه هذا أن الحضارة البشرية من أولها إلى آخرها نتيجة العمل الجرماني الآري. وكل حضارة ظهرت أو بقعة ازدهرت لابد أن يكون للعنصر الآري، وعلى الأخص الجرماني، يداً فيها فهو في بحثه كالفاحص الكيميائي يحاول تحليل الحضارات ليجد العنصر المسبب وهو العنصر الجرماني الذي خص من بين الشعوب بميزة هداية البشرية والقيادة العالمية. حتى الكتابة أو الأرقام يرى أصلها من الجرمان ومن الجرمان انحدرت إلى الشرق. وعلى ذلك ففكرة كونها شرقية خطأ لا يغتفر. وكذلك آراء العلماء في أن الحضارة أصلها من الشرق لا يرى لها مبرراً ولا دليلاً. والشعوب الأُخرى كلها مقلدة لم تنتج من عندها شيئاً. والحضارة العربية التي يراها ظهرت صدفة كسائر الحضارات السامية أن جاز تسميتها حضارة هي صورة ظاهرية لعمل آري مكتوم

أثر كتاب شامبرلين في الأوساط الألمانية أثراً كبيراً ولاسيما في الأوساط السياسية منها والأوساط الشعبية والوطنية المتطرفة، إلى درجة جعلتها تعتقد أن هنالك مهمة واجبة تقع على عاتق ألمانيا الجرمانية، وهي مهمة قيادة العالم وحق الإشراف عليه، مهمة تكاد تكون سماوية وتحدثنا بعض المصادر أن القيصر الألماني كان معجباً جداً بهذا الكتاب أيما إعجاب ولا سيما بعقيدة الزعامة الألمانية والتبشير بالدين الجديد، على أساس القوة والسيادة التي هي من صفات الجرمان، وان الكاتب هذا وكذلك الفيلسوف النمساوي الاجتماعي كانا من أهم أبطال الدعوة إلى الحرب قبل دول ألمانيا الحرب بحجة أن الحرب أساس كل حضارة، ولإثبات أن العنصر الجرماني هو العنصر الفعال الذي تقع على عاتقه وحدة أمور العالم وحقوق التصرف منذ آلاف السنين.

وفي سنة 1894 أسست هنالك جمعية عرفت باسم (جمعية كوبينو) لتقوم بإتمام أبحاث هذا العالم. وقد رأس هذه الجمعية العالم وليمان الذي ألف كتاباً عن عصر النهضة في إيطاليا

ص: 20

وأبى إلا أن يرجع أصل جميع علماء النهضة في إيطاليا وأبطالها إلى أصل جرماني شمالي. يعرف هذا الكتاب بعنوان ، 1905 أعقبت هذه الجمعية جمعية أُخرى عرفت باسم:(جمعية العناية بالأبحاث العنصرية) ألفها الفريد بلوتني أخذت على عاتقها مهمة البحث العنصري على أسس طبيعية تجريبية لا على الطريقة التاريخية الفلسفية. فعادوا إلى طريقة بلومنباخ وهي الاستعانة بأشكال قحف الرأس في تقسيم العناصر البشرية، وهيئة الجسم وتكوينه، وتكوين علم خاص يتفرع من علم الأنتروبولوجي وهي الطريقة التي اتبعت اليوم في ألمانيا بعد سيطرة هتلر عليها وخضوع الجامعة لإرادة النازي وآرائه.

راجت عقيدة العنصرية خلال الحرب وبعد الحرب ولا سيما بعد استيلاء اليهود على معظم الكراسي في ألمانيا وتشكيلها المجالس المحلية بعد ثورة شهر نوفمبر سنة 1918 إذ حصلوا على أغلبية كراسي الحكم. وهذا ما روج دعوة أنصار العقيدة العنصرية، إذ تحولت إلى دعاية وطنية غايتها تطهير ألمانيا من العناصر الأجنبية بإعادة الأخلاق الجرمانية القديمة، وهي السيادة والقوة، هذه المبادئ التي تنافي المبادئ الأوربية الغربية الديمقراطية التي حملتها الحرب إلى ألمانيا بطريق اليهودية الحاكمة على ألمانيا ومحاربة كل فكرة تدعو إلى المساواة بين الشعوب والقابليات على حد سواء. فظهر هنالك أساتذة وكتاب أمثال ادلف بارتلس ووغيرهم اتسفادوا من الفرصة وحملوا على اليهودية والماسونية والشيوعية حملات شعواء موجهين نظر الألمان إلى هذه الناحية الحساسة لتمهيد الحكم للدولة الألمانية الثالثة وإعادة حلم الدولة الألمانية المقدسة.

غير أن هنالك جماعة من الفلاسفة شعرت في نفس الوقت بتدهور ألمانيا ووجوب إعادة مجدها. غير أنها رأت تحقيق ذلك عن طريق آخر وهو طريق الثقافة واللغة بتحويل العناصر الغربية والقوميات إلى عنصر ألماني واحد مستدلة على ذلك بأدلة أُخرى ساخرة من قحف الرأس وتركيب الجسم مستدلة بالشعب الأمريكي الذي كون له قحف رأس جديد لا هو إنكليزي ولا هو ألماني ولا هولندي ولا فرنسي، وباللغة التي يدافع عنها ويحاول نشرها مع أن أصله قد يكون من البلطيق أو السويد أو ألمانيا أو غيرها، وكذلك باختلاف شكل الفلاح الألماني وتركيبه عن سكان المدن الألمان، وكذلك أصحاب المهن، وكذلك

ص: 21

الإنكليز الذين هم من عناصر مختلفة، ومع ذلك، فقد أصبح لهم قحف رأس مخصوص، متخذ في الأرض والمحيط عاملاً مهماً في العنصرية والقابلية البشرية. وغايتهم من ذلك غاية وطنية كذلك، وهي ربط اليهود والألمان الذين في الخارج، وتجنسوا بجنسيات أجنبية عن طريق الثقافة واللغة، وتكوين ألمانيا عظيمة بدلاً من تنفير هؤلاء، وجلب السخط العالمي العام على الشعب الألماني.

غير أن استيلاء هتلر على زمام الحكم قضى على كل معارضة طبعاً للعنصرية، وحرم أي كتاب يعارض العقيدة. وأخذ يصنف للألمان العناصر الموجودة في ألمانيا، فتوصل إلى وجود خمسة عناصر أصلية وخمسة أُخرى فرعية في الدماء الألمانية ولم يتوصل إلا إلى نسبة تقدر باثنين في المائة من الدماء الجرمانية الشمالية النقية. ولكن هنالك مع ذلك اختلافاً أيضاً في التقسيم: هل تعتبر المظاهر الخارجية والتركيب العضوي للجسم أساس التقسيم، أو العوامل الروحية والنفسية فقط أو كلاهما؛ فظهرت آراء للأساتذة: وغيرهم. وقد أعدت لأجل ذلك معاهد خاصة ومستشفيات ومختبرات تقوم بالتجارب المختلفة لتكوين علم جديد كسائر العلوم الأُخرى أن لم نقل انه أهمها

ويمكن أن نعتبر هذا العلم الذي تكون حديثاً قطب العلوم طرأ في ألمانيا الحالية، فعليه أن يقسم العناصر البشرية إلى أصول وفروع، والى أمم منتجة ذات قرابة مع الأمم الجرمانية وصلة، والى أمم كتب عليها ألا تقوم في التاريخ بأي دور أو حدث كالشعوب السامية والحامية وما يتفرع منها. ووظيفة الجامعة الألمانية الحديثة أن تكيف علومها وفق هذه العقيدة. ولاشك أن تلك مهمة صعبة شاقة ولاسيما في العلوم العقلية منها فالتاريخ يجب أن يقلب رأسا على عقب، والقرون الأولى ستبدأ بالجرمان وتاريخ أوربا، ثم ينتقل إلى التاريخ الآشوري والبابلي والمصري والحوادث التاريخية والحضارة البشرية يجب أن تغربل غربلة ليعثر على العنصر الآري الفعال الذي هو بذرة كل حضارة. وتلك مهمة صعبة جداً كما يظهر، لذلك لاقى أساتذة التاريخ خصوصاً المتقدمين منهم صعوبات في هذا الفن، أدت إلى إخراج معظم مدرسي التاريخ من الجامعات وإحلال عناصر جديدة من الشباب محلهم. وكذلك قل عن الفلسفة وعلم التربية والاجتماع والاقتصاد وغيرها بل حتى العلوم الطبيعية منها يجب إهمال أعمال وأسماء الأساتذة الذين ليست لهم صلة بالعرق الآري أو نسب.

ص: 22

أساس الحضارة العالمية والمدنية وكل إنتاج بشري عقلي أو مادي هو (الدماء) فعلى الشعب الآري لذلك أن يحافظ على دمه من الاختلاط بالدماء الأخرى، إذ متى اختلط بالدماء البعيدة حلت بالشعب الكارثة العظمى وذهبت السعادة الأبدية إلى الأبد وفسدت الروح والبدن، وسقط العنصر القوي إلى أسفل درجة من الضعف والاستسلام. على هذا وضعت قوانين (نورنبرك) في منع أي آري في ألمانيا من الزواج بغير الآريين مهددة المخالف بأقسى العقوبات، وكذلك في طرد نصف الآري، أي الذي ينتسب إلى أب أو أم غير آرية، أو ربع الآري أي الذي ينحدر من جد أو جدة غير آرية - من الخدمة لفساد الدماء في مثل الأجسام.

ويرى معارضو هتلر والنازية في عقيدة العنصرية هذه فكرة (الجبر) فما دام الدم هو العنصر المنتج للحضارة فلم إذا هذه المدارس وتلك الجامعات، ولم تلك النفقات الباهظة التي تنفق في سبيل تربية الأحداث؟ ومن الغريب أن هتلر ينعى على اليهودية قولها بنظرية الشعب المختار والنازية نفسها تقول بهذه الفكرة باختيار الشعب الجرماني وحده بين الشعوب وتفضيله على الشعوب الأُخرى بالإنتاج والعلم والابتكار.

معالجة مشكلة الدماء تحل كل مشكلة، ولذلك يجب تقوية الجسم والمحافظة على الدم فيه نقياً سالماً. ومتى حوفظ عليه حوفظ على الحضارة العالمية والمدنية البشرية، والسيادة الأوربية. الحضارة هم وليدة الدماء، والقوة هي وليدة الدماء، والجمال والفن كذلك.

هذه هي فلسفة الوطنية الاشتراكية، تجعل الروح وليدة المادة. ومن الغريب أيضاً أن الشيوعية التي يقومها هتلر في كتبه تجعل العوامل الروحية مصدرها المادة، مع أن هتلر وروز نبرك يعتمدان في آرائهما العالمية ووجهة نظرهما الفلسفية على الروح.

بين هذه النظرة وبين مبدأ الأوجينيك قرابة عظيمة. والوطنية الاشتراكية في نظرتها العنصرية مدينة لهذا المبدأ أيضاً. القواعد التي وضعها العالم الفرنسي (1820 - 1911) والتي أطلق عليها الاسم المتقدم لأجل تكوين أجيال صالحة بمعالجة الجسم بقواعد عرفت (بقواعد كالتون) والتي تعتمد على الوراثة في الدرجة الأولى ونظريات (1822 - 1884)(1744 - 1829) وداروين

أراد نيتشه الفيلسوف الألماني في زمانه إصلاح الأخلاق بالإصلاح العضوي لتقوية

ص: 23

الأجسام وتقوية العقل والإنتاج بالطرق المباشرة كالأكل والرياضة لا بالنظريات الأخلاقية والأدبية العقيمة. وأراد فيوبرباخ إصلاح الإنسان بالأكل وطرد الدين. وأرادت الشيوعية إصلاح المجتمع بتقويض الأنظمة القديمة، وأراد هتلر بعث الجرمان والسيادة على البشر بتقوية الدماء. وكل له في هذا العالم مذهب ورأي، ولكل غاية ومثال. ولكن لكل شخص أن يقرأ ويرى كما يرى في دور الصور المتحركة دون أن يسخر من كل رأي أو يضحك من كل فكرة.

جواد علي

خريج جامعة هامبرج بألمانيا

ص: 24

‌هذه هي.

. .!

للأستاذ كامل محمود حبيب

أحب أبا مروان من أجل تمره=وأعلم أن الجار بالجار أرفق

وأقسم لولا تمره ما حبيتهُ

وكان عياض منه أدنى ومشرق

(غيلان النهشلي)

أطرق الرجل ساعة، وأنا بازائه أتفرس فيه، وهو زري الهيئة مضطرب الهندام: قد تخدد لحمه، وذوى عوده، وأدبر شبابه. . . وإن في عينيه عبرات مكفوفة يدفعها اليأس ويحبسها الحياء، وعلى شفتيه آهة عميقة لا تجد لها متنفساً. . . وتبدت لي خواطره تصطرع في رأسه، وهو يشرب القهوة في نهم، وينفث دخان سيجارته في لذة. . . فأردت أن أجذبه إلي، فقلت:(ما بالك تكتم عني ذات نفسك، وقد خلا بنا المكان؟) قال: (إن في النفس حديثاً طويلاً، ولكني ألفيتك رجلاً غير من صورتُ في خيالي!). . . ورقت رنات صوته، حتى خيل إلي أن آلام قلبه تعتلج في صدره، فتتحدث هي حديثاً كله أنات، ثم قال:(. . . وأنا لا أستطيع أن أؤمن بأنك أنت صاحب (ذريني)، ومن بعدها (شيطانه تتفلسف)، وكيف يتأتى لك أن تكتب ما قرأت وما في دارك إلا الأمر والطاعة، وإلا الهدوء والطمأنينة، وإلا السعادة و. . .)

قلت: (يا سيدي، أن المرأة لا تجلب السعادة، ولكنها أبداً تنضج الشقاء!)

قال: (كأنك تعني أن نصف العالم خلق شقاء للنصف الأخر)

قلت: (ولم لا؟)

قال: (وبماذا رمتك المرأة فتتهدم عليها بمثل كلامك هذا؟)

قلت: (يا عجباً! أفلا ترى أن المرأة كالماء الآسن حين تنعكس عليه أشعة الشمس الذهبية، فيبدو جميلاً صافياً خلاباً، فإذا اغتمرت فيه اغتمرت في النتن والوحل معاً؟)

قال: (وهذا معنى آخر مما يضطرب في نفسك، فهل لك أن تسمع قصة عذابي علك تجد فيها مادة!)

قلت: (هات!)

ص: 25

قال: (أما انا، فقد نالني من المرأة عنت كبير. . . كنا - أنا وهي - زوجين في رغد من العيش، ودعة من الزمان ورخاء في البال؛ وأنا موظف في الحكومة يغل عليّ عملي ما يكفي عدداً، وفي القناعة والرضا، وهي لا تبسط يدها كل البسط؛ وتصرمت الأيام، وأنا أجد فيها سلوه عن الابن، وقد ضنت به الأيام، وعزاء عن الام، وقد سلبتها مني يد القدر. . .)

ثم غدر بي الدهر غدرة واحدة، فقذف بي بين براثن المرض لا أبرأ ولا أستقل. . . وانطوت الأشهر وأنا بين الطبيب والدواء والحكومة في مرض آخر: فالطبيب شره لا يطفئ السيل غلته، والدواء لا يشفي ولا ينقطع، والحكومة من ورائهما تضع من راتبي قليلاً قليلاً. وأحسست بالهاوية التي أنحدر إليها رويداً رويداً. . . فأشفقت على زوجتي أن تجد لذع الفقر وقد أشفيت عليه، أو أن ينسرب إلى قلبها الملل وقد طالت علتي، وفي رأيي أن أسرحها لتنطلق إلى متعة قلبها ولذة نفسها، وهي شابة فيها عقل المرأة ونزعات الأنوثة. . .

ونشرت على عيني أمها حديث نفسي، فراحت العجوز إلى ابنتها توسوس. . . وجاءت الزوجة - وفي عينيها عبرات تترقرق - تزور حديثاً:(كيف أتخلى عنك الآن؟ أفأعيش إلى جانبك سنوات لا أستشعر منك إلا الشهامة والكرم، وإلا الرجولة والتضحية؛ ثم أفزع عنك وأنت بين المرض والعوز، لأكون معولاً آخر يهدم بقية فيك نترجاها؟)

واطمأنت نفسي إلى حديثها، فاستقرت

لقد كانت فكرة ابرة، غير أنها بعثرت حياتها، فانبعثت هي تكشف لي عن أدران نفسها

ألحت علي الحاجة فتحولت عن داري إلى حجرات ضيقة وضيعة، ومكرت هي بي فحملت أثاثها إلى دار أبيها إلا حاجات عبث بها البلى، وجاءت أمها تريد أن تعينني على علتي بكلام يتوثب من أضعافه الصلف والزهو، فأبت كبريائي أن تذل لها، على حين تعصرني الفاقة ويثقلني الدين، وليس لي من أفزع إليه سوى أخي، وهو بين أولاده وزوجته ورقة حاله في هموم. . .

وأحسست من الزوجة الشابة الإغضاء والإهمال، فهي تنفلت من لدني - بين الحين والحين - في تطريتها وزينتها، تزعم أنها تزور أهلها وصاحباتها، وهي تنطوي عني ساعات من

ص: 26

النهار؛ وأنا بين الشك واليقين لا أستطيع أن أمسكها فتجد مس الضيق والملل، ولا أن أرسلها فأذوق مرارة الوحدة وعذاب المرض معاً

وضاق بي صدر الحكومة فلفظتني، وللحكومة قانون يحكم على المرض بالإعدام. وظلت زوجتي تداجيني وتفتن في مرضاتي حتى أرسلت الحكومة إلي مكافأة مالية لا ترد عادية ولا تدفع فقراً، غير أن قطرة منها تروي حِزَّني. . . أرسلتها الحكومة فأخذتها الزوجة وطارت. . . طارت أحوج ما أكون إليها، لتذرني وحيداً على فراش المرض والضيق، لا أجد إلى جانبي سوى خادم صغيرة لا تستطيع شيئاً).

وسكت سكتة طويلة حين اضطربت الكلمات على شفتيه، وتدفقت العبرات من محجريه لا يستطيع كبتها. فقلت:(لا بأس عليك، يا صاحبي؟) قال: (هذا ضعفي، ولعمري لقد كنت أضن به أن يبدو أمام الناس، وهانذا أريقه على عينيك!) قلت: (لا ضير، لقد طارت فلا تدعها تنفث فيك من هموم الحياة، لقد طارت فماذا كان. . .؟)

قال: (وجاء أخي يرفه عني بكلمات. . . على حين قد حضرني بثي

ثم تماثلت للشفاء وأنا أرزح تحت عبء الدين وشدة الصدمة، وتحدثت إلي رجولتي ساعة من زمان، فإذا زوجتي غريبة عني

وترامى إليها الخير، فهبت تحدثني بلغة المحاكم الشرعية، وللمحاكم الشرعية لغة هي عقل المرأة انتقام وتنكيل، وفي عقل القاضي ثأر واقتصاص، وفي رأى الزوج مثله وعبرة، وفي عيني العزب زجر وعظة. ثم هي - دائماُ - تقول للزوج (أيها الأحمق، لم تزوجت؟) وللعزب (أيها العاقل، إياك إياك!)

وعشت سنة لا أبرح السجن إلا ريثما أعود إلى غيابته، وما في يدي ما أستطيع أن أدفع به تهم الزوجة ولا غفلة القاضي)

ثم اطرق وقد نفث حديثه في روح الأسى والحزن، وإن في نفسي غيظاً يحتدم. . . ثم قلت:(وهي؟) قال: (أما هي فقضت أيام محنتي بين ذراعي حبها الجديد، ثم مكرت به - بعد أن عصفت بي - فإذا هو زوجها) قلت: (يا الله! ويل للرجل من المرأة)

فقال في هدوء: (من النساء غل قمل يقذفها الله في عنق من يشاء ثم لا يخرجها إلا هو)

قلت: (صدق رسول الله، فعلام إذن تذهب نفسك حسرات، وأنت ما تفتأ في شبابك؟)

ص: 27

قال: (لا بأس، فلقد قرّ رأيي على أن أطوي الماضي لأكون رجلاً غيري)

قلت: (نعم ولتكون رجلاً. . . رجلاً فيك الرجولة)

كامل محمود حبيب

ص: 28

‌أفانين

أثر الإيحاء في جلب التفاؤل

للأستاذ علي الجندي

- 1 -

للإيحاء سلطان كبير على النفوس، يدفعها إلى القيام بأعمال جليلة ما كانت لتقوم بها لو عداها أثره الحافز القوي

ولا نبالغ إذا قلنا: أن جل الناس يضربون في زحمة الحياة ومعتركها الهائل تحت تأثيرها ذلك الإلهام الباطني وان لم يشعروا به أحياناً لأنه أخفى دبيباً من السحر

وفضل هذا الإيحاء عظيم في انه يشد عزائمنا ويستجيش قوانا، ويملؤنا رجاء وأملاً، ويهون علينا اجتياز الصعاب والعقبات

فالتاجر لا تتفتح نفسه للتجارة ويقبل عليها بشغف ولذة، إلا إذا ألهم نفسه أن من وراء ذلك المكسب الطائل والربح الوفير

والجندي في ساحة الوغى إذا فقد الروح المعنوية - وهي فن من الإيحاء - فقد أمضى أسلحة القتال، ولم يجد عليه أن يكون شجاع القلب حسن الدرية قوي العدة. وقد عبر عن هذا المعنى بأجلى عبارة فارس الإسلام (علي أبن أبي طالب) حين سئل: بم كنت تنال النصر؟ فأجاب: كنت أبرز للخصم وأنا أعتقد أني أغلبه، وهو يعتقد أني أغلبه، فكنت أنا ونفسه عليه

والإيحاء بمعناه العلمي يؤمن به أطباء هذا العصر كل الإيمان ويستخدمونه علاجاً ناجعاً في شفاء الأمراض العصبية والعقد النفسية والعادات الشاذة. وقد حدثني بعض من درسوا الحياة الإنجليزية أن الأمم هناك تعود طفلها قبل النوم أن يقول لنفسه: (إني سعيد) عشر مرات والغرض من هذا أن يتدسس هذا الاعتقاد إلى عقله الباطن فيخالط نفسه بمر السنين ويمتزج بمشاعره، فيستقبل الحياة مرحاً متفائلاً ريان الأمل بساماً على السراء والضراء.

وأقول بهذه المناسبة: إني شفيت بفضله بعض الشفاء من الخجل المفرط والحياء الغالي، وهو مرض موروث كثيراً ما قعد بي عن غثيان الأندية والمحافل، ومنعني من أداء

ص: 29

الواجبات وزيارة الأصدقاء.

كما أشهد أنني انتفعت به في قرض الشعر؛ ذلك أنني كنت مكثراً منه في مفتتح حياتي الأدبية، ثم صرفتني عنه الكتابة صرفاً تاماً حتى عسر الرجوع إليه، فما زلت أوحي بأن من الجناية تعطيل هذه الموهبة، وان الشعر أروع ألوان الأدب وأجلها خطراً ولا يسد مكانه غيره، حتى عدت إليه تدريجاً. . . والعود أحمد أن شاء الله. وليس التشاؤم إلا ضرباً من الأوهام تتحكم في ضعفاء الإرادة رقاق الإيمان، فيمكن التخلص منها بالإيحاء.

وهذا الدواء - أعنى الإيحاء - عرفه الناس قديماً لأنه دواء فطري، إذ لا يخرج في حقيقته عن المغالطة التي لجأ إليها الإنسان أحياناً ليدخل الروح على نفسه ويستل منها القلق والاضطراب.

ولنعرض الآن صورتين متشابهتين يغلب في الأولى التشاؤم فيلونها بلون قاتم كريه تقرأ فيه اللوعة والحيرة والتبلبل! ويتجلى في الثانية التفاؤل فيشيع فيها النضارة والبهجة والإيناس!

في الصورة الأولى نرى (ذا الرمة) الشاعر، مر في طريقه بغراب ينعب فوق بانة، فمثل له خياله المظلم أن الغراب نذير الاغتراب! وأن البانة عنوان البين! وقد نمهد له العذر في الغراب، ولكن كيف يسوغ التشاؤم بالبان؟ وبه تشبه قدود الحسان!

قال ذو الرمة:

رأيت غراباً ناعباً فوق بانةٍ

من الغضب لم ينبت لها ورق نضر

فقلت غرابٌ غراب، وبانة

لبين النوى، تلك العيافة والزجر

ومثله جحدر اللص في قوله:

ومما هاجني فازددت شوقاً

بكاء حمامتين تَجاوبانِ

تجاوبتا بلحن أعجميّ

على غصنين من غرَبٍ وبان

فكان ألبان أن بانتّ سليمى

وفي الغرَب اغتراب غير داني

وفي الصورة الثانية نرى الأمر على نقيض ذلك مع أن بواعث التشاؤم أشد واكثر، نرى (إباحية النمري) أنشأ سفراً، فسنحت له عقاب، وطالعته حمائم تنوح على شجرة طلح، وهدهد ساقط على غصن بان، تحته بقعة من دم مسفوح!

ص: 30

وكانت هذه المرائي الغريبة التي يسودها التنافر خليقة بأن يتطير منها، ولكنه طرد عن نفسه طوارق السوء، وأوحى لها أن كل أولئك من إمارات الخير والبركة، فما عتم أن انقلب الشؤم في عينيه يمناً، واستحال الليل نهاراً! قال:

بدا يوم رحنا عامدين لأرضها

سنيحٌ، فقال القوم مرّ سنيحُ

فهاب رجال منهمو وتقاعسوا

فقلت لهم جاري إليّ ربيح

عُقاب بأعقاب من الدار بعد ما

جرت نية تسلى المحب طروح

وقالوا حمامات فَحُمّ لقاؤها

وطلح، فزيرت والمطيُّ طليح

وقال صاحبي هدهد فوق بانة

هدى وبيان بالنجاح يلوح

وقالوا: دَمٌ، دامت مواثيقُ بيننا

ودام لنا حُلوُ الصفاء صريح

ويمتد بنا القول إذا وقفنا عند كل شاهد وعمدنا لتحليله، فنكتفي لضيق المقام بإيراد الأمثلة وفيها غنية عن البيان.

دخل الحجاج الكوفة متوجهاً إلى عبد الملك فصعد المنبر، فأنكسر تحت قدمه لوح، ففطن إلى أن الكوفيين قد تطيروا له بذلك، فالتفت إلى الناس قبل أن يحمد الله وقال: شاهت الوجوه وتبت الأيدي! وبؤتم بغضب الله! أئن أنكسر عود جذعٍ ضعيف تحت قدم أسد شديد تفاءلتم بالشؤم؟! ألا وإني على أعداء الله تعالى لأنكد من الغراب ألابقع، وأشأم من يوم نحس مستمر!

وخطب قتيبة بن مسلم على منبر خراسان، فسقط القضيب من يده، فتطير له عدوه بالشر، واغتم صديقه، فعرف قتيبة ذلك فقال: ليس الأمر على ما ظن العدو وخاف الصديق، ولكن كما قال الشاعر:

فألقت عصاها واستقر بها النوى

كما قر عيناً بالإياب المسافرُ

وكان الوزير أبو نصر الكندري يتولى في أول أمره حجب الناس، وكان الباخرزي رفيقه في الدرس فقال مداعباً إياه:

إقبل من كندر مُسَيْخرةٌ

للنحس في وجهه علاماتُ

يحضر دُورَ الأمير وهو فتىً

موضع أمثاله الخَرَاباتُ

ثم ارتقت الحال بالكندري حتى صار وزيراً محكماً، فورد عليه الباخرزي وهو في صدر

ص: 31

الوزارة ببغداد، فلما رآه قال له: أنت صاحب (أقبل من كندر مسيخرة. . .) قال: نعم. فقال الكندري: مرحباً وأهلاً! إني تفاءلت بقولك (أقبل. . .) ثم خلع عليه قبل أن ينشده مديحه فيه. ومن الأمثلة الشعرية قول نور الدين المايورقي من شعراء نفح الطيب:

وذهيفٍ راق العيون انثناؤه

بقد كريّان من ألبان مُورق

كتبتُ إليه: هل تجود بزورة؟

فوقع (لا) خوفَ الرقيب المصّدق

فأيقنت من (لا) بالعناق تفاؤلاً

كما اعتنقت (لا) ثم لم تتفرق

ويقول عبد الرحمن من شعراء اليتيمة:

إذا دهاك الوداع فاصبرْ

ولا يهولنّك البعادُ

وانتظر العوْد عن قريب

فإن قلب الوداع (عادوا)

ومن أروع الشعر في ذلك: ما كتب به أبو الفضل الميكالي إلى قوم من أهل (مَرو) انخلعوا من طاعته وحلوا لواءه وتألفوا فرقتين تعيثان في الأرض فساداً! قال:

يا راكباً أضحى يخبُّ بِعنسِه

ليؤمّ مَرْ وعلى الطريق المهْيعِ

أبلغْ بها قوماً أثاروا فتنةً

ظلَّت لها الأكبادُ رهن تَقطُّع

إذ قدَّموا ظلماً على سلطانهم

بالغدر والخلع الذميم المفظِع

وبحلِّ عقد لوائِه وإباحةٍ

لجنابه وحريمه المتمنع

أبلغهمُ أني اتخذتُ لفعلهم

فألاً، له في القوم أسوأ موقع

أما اللواء وحلُّه فمخِّبرٌ

عن حَلَّ عقدٍ بينهم مستجمع

والخلعُ يخبر أن ستُخلع عنهم الْ

أرواح بالقتل الأشد الأشنع

والغدر يُنبئ أن تغادر في الورى

أشلاؤهم لنسوره والأضُبع

والفِرْقتان فشاهدٌ معناهما

بتفرُّقٍ لجميعهم وتصدُّع

ويلاحظ في هذه الأمثلة أنها من نوع الإيحاء الذاتي (إيحاء الإنسان إلى نفسه) وسنتبع هذا المقال بطائفة من غرر الإيحاء الخارجي، فيها قرة العيون وشفاء الصدور والله المستعان!

علي الجندي

ص: 32

‌من الذروة

هذا القطيع. . .!

(إلى الذين ما مست مزاهرهم يد الله)

. . . ولمحتُ ركباً في الحضيضِ مُغنَّياً

طَمرَ الخَنا تحْتَ النَّشيدِ وَدَسَّهُ

مِنْ كلَّ نَشْوانِ الرَّبابِ طَهارَةً

وَحَشاهُ للأِكْوانِ يُترِعُ رِجْسَهُ

لَبِسَ الُمسُوحَ فَقيلَ: قِدِّيسُ الحِمى!

والجِيفةُ الشَّنعاءُ تَلفِظُ قُدْسَهُ

وبَكى الغرامَ فَقيلَ: أرْخمُ عاشق

غَنَّى! ونَتْنُ الفُحشِ يَزْحَمُ نفسَهُ

كَذِبٌ يُجلجِلُ في الصّدى، وخواطرٌ

إفْكُ الرّحيقِ بها يُعاتِبُ كأسَهُ

فكأنها في الشَّدْوِ مَنطِقُ مُومِسٍ

نَعْشُ الحياءِ بها يواثِبُ جَرْسهُ. . .!

فمضَيتُ أسألُ: أيُّ جَوْقٍ مُزْعِجٍ

للِمُلْهَمِين شدَا ليُطرِبَ رَمْسَهُ؟

فَأُجِبْتُ: دَعْ هذا القَطيعَ، فَانهُ=بُومٌ يُؤبِّنُ في المفاوزِ حِسّهُ!!

محمود حسن إسماعيل

ص: 33

‌من وراء المنظار

من الفأس إلى السلاح

خففت إلى القرية منذ بضعة ايام، وقد أغراني الصحو والدفء أن أنعم بهما هناك يوماً أو يومين في ملاعب صباي ومسارح هواي وجنة أحلامي؛ ورحت في رونق الضحى أثب كالفراشة من حقل إلى حقل ومن غدير إلى غدير، وفي قلبي فرحة الغلام، وفي خيالي أحلام الشاعر.

وجلست أستريح ساعة في مصلى على جانب الطريق، أستند إلى جذع شجرة التوت العتيقة التي جردتها يد الشتاء العاتية من أوراقها، والتي طالما استروحت نسيم الأصل الرخي في ظلها السابغ أثناء الصيف؛ وأخذت عيناي من بعد شخصاً قادماً في زي (الأفندية)، فلما صار بحيث أتبيه، رأيته في زي (الجند) وما لبث أن دنا مني فعرفته، ولما بلغ حيث أجلس نطق بالسلام متبسماً ورفع يده إلى رأسه محيياً بالتحية التي تعلمها في الميدان. . . وعجب إذ نهضت واقفاً له وإذ مددت إليه يدي مصافحاً، وأشرت إليه فجلس على استحياء على حافة المصلى.

هذا هو حسن الفتى القروي المرح، القسيم المحيا الذي تعرفه القرية كلها بمواويله الساحرة العذبة التي كان يمليها عليه في الأفراح ما هز قلبه حب عف شديد والتي ما لحق به في مضمارها أحد من منافسيه. . ولقد طالما رأيته بالأمس يخطر في ملابسه القروية في تلك البقاع، ولقد طالما سمعته من قريب أو من بعيد يبدأ أغانيه الحلوة بقوله:(آه. . . يا ما جرى لك قلبي)

واليوم أراه في حلته العسكرية ينتعل ذلك الحذاء الضخم ويضع على رأسه الطربوش ويمسك بيده عصا رفيعة من الخيزران، وقد زال عن وجهه سفع الشمس إلا قليلاً فبدا أكثر وضاءة وأجمل قسامة وأنضر عافية.

ولمحت في عينيه شيئاً من القلق ولكن لم يغب عني سببه، فأنا أعرف أن ذلك المصلى مكان انتظاره لمن يهوى قلبه وهي قافلة من الترعة أو ذاهبة إليها؛ وأشرت إلى ذلك مداعباً ممازحاً فضحك ضحكة جميلة مازج الطلاقة فيها الخجل. . . ولكن إشارتي إلى ما في نفسه زادت قلقه، فوجم برهة، وأدركت انه يهم بالانصراف فأخذت أهدئ بالحديث روعه.

ص: 34

ولم يطل ذلك الحديث فقد رأيت الصفرة تغشي وجهه الخجل يتزايد في عينيه؛ فالتفت فإذا هي مقبلة تحمل جرتها، ورأيتها حينما دنت منا قد أخذتها ربكة المفاجأة فأضطرب هيكلها ثم أسرعت فأخفت وجهها بطرحتها. . . وبدا لي فناديتها حين مرت فأبطأت ولكنها لم ترد ولم تلتفت، فأكدت، فوقفت ثم تغاضبت فأقبلت في حياء شديد، فصحت بها لتقدم وإلا نهضت فجئت بها على رغمها، فجاءت ووضعت يدها في يد خطيبها ثم انتزعتها مسرعة دون أن تتكلم، وأشرت إليه فحط عنها الجرة وأرغمتها على الجلوس، فجلست إلى جانب المصلى تحجب طرحتها نصف وجهها المتورد الجميل.

وانعقد لسان الجندي فلم يدر ماذا يقول (فأنقذت الموقف) أنا بامتداحي حياة الجندية وبثنائي في عبارة يفهمانها على أولئك البواسل الذين يفتدون بلادهم بأرواحهم. . . ولمعت عينا الجندي الشاب، ثم تندت بدموع الفرح وأنسته الحماسة خجله؛ فقال وهو الذي كان يحمل الفأس بالأمس انه يفتدي بلاده بدمه إذا لزم الفداء. . . ونظرت إليه الفتاة نظرة لم أر فيها إلا معاني الإعجاب والارتياح؛ ونهضت قائلاً إني أتركهما برهة ليقولا ما بنفسيها.

وعدت إذ رأيته يضع على رأسها الجرة وواجهتني ذاهبة، فإذا هي مستبشرة راضية تكتم ضحكتها؛ ودنوت من ذلك الجندي أسأله لم لا يصف ذلك في موال من مواويله وهو ذلك الشاعر الذي ما عي لسانه في موقف. . . ولكنه لم ينطق بموال حينذاك، وإنما راح يتكلم عن حب الوطن وعن معاني الفداء والبطولة. ولشد ما أعجبني قوله (الواحد منا ما يستهلش خير بلاده إذا ما دفعش عنها بدمه، والراجل إيه فائدة عافيته وشبابه؟ يا ترى يقعد زي البنت؟) وأكد لي انه لا يأسف على فراق قريته في سبيل وطنه وله فيها من يهواها قلبه فحب بلاده فوق كل حب!

واستأذن الجندي الفلاح فوقفت أصافحه في حماسة وشيعته بنظرات الإكبار وهو يمشي مشية متزنة سريع، وعجبت كيف تغير الجندية عقلية هؤلاء الفلاحين بمثل هذه السرعة، وأثلج صدري أن أرى في ذلك الفتى المتحمس الدليل الحي على صحة ما يقوم أبداً في نفسي من أن هذا الذي يجيل الفأس في تربة وادينا الوديع الهادئ كفيل بأن يدير في يده السلاح بنفس المهارة إذا هو قلد السلاح. . . ومن أين جاءت جنود تحتمس ورمسيس وابراهيم؟ وكم بين هؤلاء السذج زرق الجلابيب من قادة أمجاد وعلماء أفذاذ وشعراء

ص: 35

فطاحل وساسة أماثل ولكنهم تركوا في غمار الجهل والفاقة لا يعلمون إلا أن يجيلوا الفأس في ثرى الوادي في صمت وصبر جاهدين

(عين)

ص: 36

‌لقب السفاح

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

هذا موضوع كنت قيدته في مذكرتي منذ سنين تحت هذا العنوان (لمن لقب)، وكان هذا بعد أن قرأت في كتاب (الإمامة والسياسة) المنسوب لابن قتيبة وصف عبد الله بن علي ابن عبد الله بن عباس بالسفاح، وتركه وصف أبي العباس به، وهو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس؛ فالأول عم الثاني، وكان والياً على الشام، وهو الذي تولى فيه حرب بني مروان، وسفك فيه ما سفك من دمائهم، ثم أخذت في تحقيق ما رأيته من الاضطراب في ذلك الوصف، ودونت تحقيقاً في مذكرتي على هذا الترتيب:

1 -

جاء في ص127 من كتاب المعارف لأبن قتيبة وصف أبي العباس بالسفاح.

2 -

جاء في تاريخ بغداد ص46 جـ10 تلقيبه بالمرتضى والقائم.

3 -

جاء في كتاب (خلاصة الذهب) المسبوك للأربلي ص40 تلقيب أبي العباس بالسفاح والمرتضى والقائم

4 -

جاء في ص477 ج5 من كتاب (صبح الأعشى) للقلقشندي أن الخلف وقع في لقب السفاح، فقيل القائم، وقيل المهتدى، وقيل المرتضى.

5 -

جاء في ص207 من تاريخ ابن العبري أن أبا العباس كان رجلاً طويلاً أبيض اللون حسن الوجه، يكره الدماء، ويحامي على أهل البيت.

6 -

قرأت ما كتبه ابن جرير الطبري عن أبي العباس فلم أجد فيه وصف أبي العباس بالسفاح.

7 -

جاء في كتاب (الفاطميون في مصر) للأستاذ حسن إبراهيم حسن أن الأستاذ دي غويه كان يرى أن السفاح معناه الرجل الكثير العطايا أو المناح.

وقد وقفت عند هذا في مذكرتي، وشغلت عن الكتابة في هذا الموضوع بما فيها من الموضوعات الكثيرة، إلى أن قرأت في مجلة (الثقافة) الغراء بعض ما كتبه فيه الأستاذان الجليلان عبد الحميد العبادي وأحمد أمين، فكنت والله كأني فقدت بعض أولادي لأن أفكاري تبلغ عندي منزلة الأولاد، وقد تكون أعز منها عندي، وفي سبيلها يهون علي ما ألاقيه من عنت واضطهاد في هذه الحياة.

ص: 37

ثم عزيت نفسي عن ذلك بما أغناها الله به من مثل هذه الآراء والأفكار، وانتظرت ما ينتهي إليه أمر الأستاذين الجليلين في ذلك الموضوع، فلعلهما يتركان لمثلي الكلام بعدهما، ويكون لي ما أعقب به عليهما. فلما فرغا منه وجدت الموضوع لا يزال في حاجة إلى التحقيق، ورأيت أنهما لم يصلا إلى تلك النصوص السابقة، ولو أنهما وصلا إليها لتغير نظرهما في ذلك الموضوع

لقد ذكر الأستاذ العبادي في أول ما كتبه عن السفاح انه كان شاباً متصوفاً، عفيفاً، حسن المعاشرة، كريماً، معطاء، ذا شعرة جعده، طويلاً، أبيض، اقني الأنف، حسن الوجه واللحية، ورتب على هذا رأيه في معنى لقب السفاح الذي عرف به انه بمعنى الكثير العطاء، وليس بمعنى السفاك للدم، لأن مثل تلك الصفات التي كان السفاح يتحلى بها إنما تلتئم مع المعنى الأول للسفاح وهو المعطاء، ولا تلتئم مع المعنى الثاني، لأنه معنى ذم لا يلتئم مع تلك الصفات الكريمة.

والأستاذ العبادي مسبوق بهذه النظرة إلى معنى السفاح الذي لقب به أبو العباس، فقد ذكر الأستاذ حسن إبراهيم حسن في بعض تعليقاته على كتابه (الفاطميون في مصر) أن الأستاذ نيكلسن قال في بعض كتبه: يقول الأستاذ بيفان الذي أدين له بهذه الملاحظات أن ترجمة لفظ السفاح ولو أن استعمالها قد شاع بين الكتاب الأوربيين لا تزال مثار الكثير من الشك، وقد ذهب الأستاذ دي غويه إلى القول بأن السفاح معناه الرجل الكثير العطايا أو المناح، وانه مما يهمنا ملاحظته أن هذا الاسم قد أطلق على بعض شيوخ القبائل في الجاهلية، ويقال إن سلمة بن خالد الذي قاد بني تغلب في موقعة بني كلاب الأولى (ابن الأثير - طبعة ترنبرج ج1 ص246) سمي السفاح لأنه أفرغ مزاد جيشه قبيل الموقعة، ثم قال: والذي أميل إليه انه إنما سمى بهذا الاسم لقوله في أول خطبة له (فأنا السفاح المبيح والثائر المنيح)

وفي هذا النقل بعض من الاستقصاء العلمي الذي عرف به المستعربون الأوربيون، ولكن فيه مع هذا تخليطاً كثيراً نحب أن ننبه هنا إليه، ثم نعود إلى موضوعنا، فقد سميت الموقعة في ذلك النقل موقعة بني كلاب، وهو خطأ في التسمية، وإنما هو يوم الكلاب الأول من أيام بكر وتغلب، وقد جاء في القاموس (وكلاب كغراب موضع وماء له يوم) وكان هذا اليوم

ص: 38

بين شرحبيل وسلمة أبني الحارث بن عمرو ملك بكر بن وائل، فإنهما اختلفا بعد موت أبيهما على الملك، وتواعدا الكلاب، فأقبل شرحبيل في ضبة والرباب كلها وبكر بن وائل، وأقبل سلمة في تغلب والنمر وبهراء ومن تبعه من بني مالك بن حنظلة، وعليهم سفيان بن مجاشع، وعلي تغلب السفاح بن خالد، وإنما قيل له السفاح لأنه سفح أوعية قومه وقال لهم: ابتدروا إلى ماء الكلاب فسبقوا ونزلوا عليه، وقد قتل في ذلك اليوم شرحبيل بن الحارث وجيء برأسه إلى أخيه سلمة، فلما رآه دمعت عيناه، قال:

ألا أبلغ أبا حَنَشٍ رسولاً

فمالك لا تجيء إلى الثوابِ

تَعَلمْ أن خير الناس طُراَّ

قتيلٌ بين أحجار الكُلابِ

تداعت حولهُ جُشَمُ بن بكر

وأسلمه جَعَاسيسُ الرِّبابِ

وكان أبو حنش هو الذي قتله، ثم بعث برأسه إلى سلمة مع عسيف له، ولم يحضر مخافة منه، فقال سلمة لعسيفه: أنت قتلته؟ قال: لا، ولكنه قتله أبو حنش، فقال: إنما أدفع الثواب إلى قاتله، وكان قد جعل لمن يأتيه برأس أخيه مائة من الإبل.

وقد رد الأستاذ أحمد أمين على استبعاد أن يكون أبو العباس سفاحاً بمعنى سفاح ما كان له من تلك الصفات الكريمة، بأن هذا لا شيء فيه، لأن كثيراً من أبطال الجاهلية كان سفاكاً للدماء، ومع هذا كان يتحلى بمثل تلك الصفات التي كان يتحلى بها أبو العباس، كعنترة العبسي وغيره. ورد عليه الأستاذ محمود محمد شاكر بأن الرقة والجمال ولين الخلق تخفي وراءها أحياناً قسوة لا يدانيها قسوة، كالذي يكون في النساء، فإنهن قد عرفن بين الناس بالرقة، وهن أغلظ أكباداً من الإبل. ومع هذا يرى الأستاذ محمود أن السفاح لقب أبي العباس من سفح المال لا من سفح الدم، لأن أبا العباس كان يسمى عبد الله الأصغر، وكان أخوه أبو جعفر يسمى عبد الله الأكبر، وأبو جعفر قد لقبه أبوه فيما يعلم الأستاذ محمود بالمنصور، فلا غرو أن يكون أبو العباس قد لقبه أبوه كما لقب أخاه، ولا يعقل أن يلقب أحد ولده بمذمة سفح الدماء وهو ينصبه للناس خليفة، وقد روى عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم:(يخرج منا رجل في انقطاع من الزمن وظهور من الفتن يقال له السفاح، يكون عطاؤه للمال حثياً) وأئمة الحديث لا يصرفون هذا الاسم إلى أبي العباس، ولكن بني العباس استخدموا مثل هذا في دعوتهم. فالسفاح إذن ليس من سفح الدم، وهو

ص: 39

بهذا المعنى مجاز مقصود لغرض بعينه

وإني لا أوافق على أن العباسيين كانوا ينظرون إلى لقب السفاح بمعنى السفاك للدم مثل نظر الأستاذ العبادي والأستاذ محمود شاكر، لأنهم كانوا يريدون منه السفاك لدماء أعدائهم، وهذا عندهم لقب مدح لا ذم، وقد تمدح به أبو العباس في أول خطبة له فقال:(فأنا السفاح المبيح، والثائر المنيح) وفي رواية الطبري (والثائر المبير). ولا شك انه إذا أمكننا أن نحمل السفاح المبيح على معنى سفح المال وإباحته، فإنه لا يمكننا أن نحمل الثائر المنيح أو المبير إلا على معنى إهلاك الأعداء وسفح دمائهم وإناحة أهلهم عليهم. ولا مانع بعد هذا عندي في أن يكون في السفاح معنى سفح الدم وسفح المال، ورأيي في الحديث الذي جاء فيه ذكر السفاح انه من الأحاديث الضعيفة، والظاهر أنه لم يظهر إلا بعد انقضاء عهد السفاح، وأنه كان يقصد به التقرب إلى العباسيين، كالحديث الذي روى عن ابن عباس أنه قال: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لأدال الله من بني أمية، ليكونن منا السفاح والمنصور والمهدي.

وأما ما ذكره الأستاذ محمود من أن السفاح بمعنى سفح الدم مجاز فينا فيه ما ذكره الزمخشري في أساس البلاغة، وهو الكتاب الذي يرجع إليه في تمييز المعاني الحقيقية والمجازية، فقد ذكر السفاح بمعنى السفاك للدماء في الاستعمال الحقيقي لمادة س ف ح، ولم يذكر فيه ولا في الاستعمال المجازي معنى سفح المال، وهذا يدل على أن استعماله في الأول أقرب من استعماله الثاني، ولنقف الآن عند هذا الحد، لنتم بحث ذلك الموضوع بعد

عبد المتعال الصعيدي

ص: 40

‌الأدب في الأسبوع

الهجرة

يا نبي الله!!

إن الإسلام قد قعدَ به أهلهُ، والزمنُ بالناس يعدو، والحياةُ في العالم فكرٌ يتحقق، وهي عندنا حلمٌ يتبدد، هذه أُمتك تملأُ الارض، ولكن قد فرغت قلوبها من الإيمان والإيمان في دينك قولٌ وعملٌ، كانت به المعجزةُ الإسلامية ولكنه عندنا قولٌ وجدلُ، تكون به الفرقة الجاهلية. . .

فاللهمَّ هِجْرةً كهجرِةَ نبيِّكَ بالعزِم والإيمان

اللهمِّ جهاداً كجهادِهِ يُجدِّد القلوبَ والأوطان

الشباب والأدب

الطفل حياةٌ صغيرة غضه لينة تقبل التشكل وتطاوع على ضغط البيئة التي تكتنفها وتطيف بها وتميل عليها؛ وبيئة الطفل هي أخلاق أبويه، ومعاملتهما وحديثهما وما يحيط بهما من الأقارب والأصحاب والخدم وكل من يعود البيت من زواره. وقد حمل الإنسان طبيعة التشكل من أول عمره ليكون بعد إنساناً اجتماعياً مقتدراً على التصرف في نظام الجماعة بما لا يخرجه من جوها ويقذفه وراء حدودها التي ضربتها عليها الأحوال الاجتماعية التي يتميز بها الجيل من الناس الذين يعاشرهم. وتتصل بهذه الطبيعة من قريب طبيعة أُخرى هي التقليد، ليسوغ له أن يثقف الحياة ويتلقف أسبابها وطرائقها وأساليبها في مدى قصير، فلا ينقطع دون إدراك الطلائع الإنسانية السابقة التي بدرت أمامه في الحياة ومارستها وعملت لها وجددت فيها بعض ما يمكن تجديده في نظام الجماعات. ولا يزال الإنسان - من أول عمره - خاضعاً خضوعاً تاماً لهاتين الطبيعتين ولقانونهما المستبد، حتى يأتي عليه زمان يستطيع أن يتحرر في بعض نواحيه بالخضوع لقانون آخر هو قانون الاستقلال الفكري والعملي الذي تقوم عليه رجولة الإنسان وقوته، ولكنه مع ذلك يبقى أبداً متلبساً بأسباب القوانين الأولى التي تخضعه في بعض النواحي للتشكل والتقليد في زحمة الجماعات وضغطها وتأثيرها. فهو إذن لا يبلغ مرتبة الاستقلال إلا بعد أن يكون قد قبل من الأشكال - بالضعف والتقليد - ما لا يستطيع أن ينفك منه أو أن يتفصى من قيوده التي

ص: 41

تحبسه على ضروراتها. . .

فمن هنا يبين مقدار الخطر الذي تنذر به هذه الفترة الأولى من حياة الإنسان؛ ونحن لا نستطيع أن نحدد عمر هذه الفترة، ولكنها تستمر على الأقل إلى نهاية روق الشباب ما بين العشرين والثلاثين، بل ربما جاوزت إلى نهاية العمر إذا ما انتكست الحياة في الحي وصار إلى حيوانية آكلة شاربة غير مفكرة!

فالشاب حين يخرج إلى الحياة العقلية والفكرية تستهويه أسماء المفكرين من الكتاب والشعراء والفلاسفة فتستهيمه وتذهب بهواه وعقله إلى الأخذ عنهم والاقتداء بهم والسير على مناهجهم، ولا يزال كذلك في تحصيل وجمع وتأثر واتباع حتى يتكون له قوام عقلي يجرئه على الاستقلال بفكره ورأيه ومذهبه. فالقدوة والأسوة هي مادة الشباب التي يتم بها تكوينه العقلي على امتداد الزمن وكثرة التحصيل وطول الدربة، فإذا كان ذلك كذلك فالكتاب والشعراء والفلاسفة وأصحاب الرأي وكل من يعرض نتاجه العقلي للشباب، ويكون عرضة الاقتداء والتأسي والتأثر - يحملون تبعة تكوين العقول الشابة التي ترث علومهم وأفكارهم ثم تستقل بها وبإنتاجها الخاص، وكذلك يكون هذا الإنتاج الخاص ضارباً بعرق ونسب إلى الأصل الأول الذي استمد منه واتبعه وتلقى عنه.

هذا. . .، فتبعة الكتاب والأدباء أمانة قد تقلدوها وحملوها، ثم ارتزقوا منها أيضاً وأكلوا بها وعاشوا في الدنيا الحاضرة بأسبابها، فهم على اثنتين: على أمانة قد فرض عليهم أن يؤدوها إلى من يخلفهم من الشباب الذي يتبعهم ويتأثر آدابهم، وعلى شكر للمعونة التي يقدمها لهم الجيل الشاب الذي يبذل من ماله ليشتري منهم ما يكتبون وما يؤلفون وما يقدمون للتاريخ من آثارهم ليكسبوا به خلود الاسم وبقاء الذكر.

وشبابنا اليوم قد تهدمت عليه الآراء، وتقسمته المدنية الأوربية الطاغية، وهو لا يجد عصاماً يعصمه من التدهور في كل هوة تنخسف بين يديه وهو مقبل عليها بشبابه ونشاطه واندفاعه وعنفوان قوته في الشوط الذي يجريه من أشواط حياته. والمدارس في بلادنا لا تكاد تعطيه من الرأي أو من الفن أو من الأدب ما يبل أدنى ظمأه إلى شيء من هذه الأشياء؛ وإذن فليس يجد أمامه إلا المجلات والصحف والكتب التي يقدمها له أصحاب الشهرة من كتابه الذين ترفع أسماؤهم في كل خاطرة وعند كل نظرة. وهو لا يني

ص: 42

يستوعب منهم أساليبهم وأفكارهم وآراءهم وما يدعونه إليه من موائدهم.

فهل ينصف هؤلاء الكتاب هذا الشباب؟ أتراهم قد عرفوا قدر أنفسهم عند الشباب فعبئوا له قواهم احتفالاً بشأنه وحرصاً على مصيره الذي هو مصير الأمة ومصير مدنيتها؟ أنا لا أرى ذلك إلا في القليل ممن عرفهم الشباب وجعلهم نصب عينه، واتخذ أساليبهم فتنة يهوى إليها

ناقد يتكلم

وأنا أدع أحد الكتاب من إخواننا الشآميين يتحدث بعض ما نحن بسبيله، وهو الأخ (قسطنطين زريق) في كتابه (الوعي القومي) فقد قال في ص (162 - 163):

(لسنا نعيش اليوم في عصر ترف عقلي ورفاهية فكرية. في عصور الترف والرفاهية قد يسمح للكاتب أن يقول: (لي الحق أن أكتب ما أريد وأعبر عما في نفسي كما أشاء). . . إن عصرنا عصر أزمة فكرية وضيق عقلي. وكما أنه لا يسمح للناس في زمن الأزمة المالية أن يبذروا أموالهم في سبيل شهواتهم الخاصة وأمورهم التافهة، فكذلك يجب إلا يسمح لقادة الفكر في عصر الضيق العقلي والأزمة الفكرية أن بددوا قواهم على المسائل الطفيفة والأبحاث الجزئية.

فعلى كل منا عندما يهم بكتابة مقال أن يتساءل بصراحة: (إلى ماذا أرمي؟ أتراني أضيف بمقالي فوضى إلى هذه الفوضى الفكرية التي يتخبط فيها عالمي، وأقذف بعنصر جديد إلى العناصر التي تتطاحن في محيطي، فأزيد في بلبلة أمتي واضطرابها الفكري، أم أنا أعمل لتوجيه قوى هذه الأمة العقلية نحو فكرة صائبة أو عقيدة واضحة؟)

فإذا لم تكن غايته من هذا النوع الأخير، فخير له وللأمة أن تظل كلماته مدفونة في نفسه، وان يبحث له عن طريقة أُخرى يخدم بها أمته ولغته). اهـ

إن هذه الكلمات القلائل التي ختم بها الأستاذ زريق بحثه عن الأدب الذي يقود الأمة وشبابها إلى إنقاذ المدنية العربية والإسلامية والشرقية من ردغه الخبال التي تورط أهلها في أوحالها ومستنقعاتها - حقيقة بأن تكون من (محفوظات). كبار الأدباء الذين يرمون عن أقلامهم أراء وعقائد وأساليب لا يمكن أن تكون مما يحتملها مخلص لأمته، ينظر إلى المستقبل الذي هو ثمرة الماضي والحاضر، ونتاج اللقاح الفكري الذي تتقبله عقول الشباب

ص: 43

حين تبدأ تتفتح عن أكمامها لتعمل عملها في إنتاج الثمر إما غضا شهياً وإما فجاً متعفناً موبوءاً.

هل يمكن؟

فهل يمكن أن يكون أدباؤنا ممن يتقبل النصح الخالص الذي لا تحمل عليه ضغينة أو رياء أو حيلة؟ وهل يمكن أن يعرف أحدهم أن ليس في الدنيا أحد هو أعلى من أن يتعلم، ولا أحد أقل من أن يعلم؟ وهل يمكن أن تفرغ النفوس التي نفختها الكبرياء من الروح النافشة التي لا طائل تحتها؟

لقد جعلت مقامي في هذا الباب مقام المذكر الذي يجب أن يؤدي واجبه لمن يقرأ كلامه، فأنا لا أستطيع إلا أن أتكلم بكلامي وإن أغضب من لا يرضى إلا بما يرضيه من الملق والدهان والمماسحة، وقد انقضت أسابيع طوال من أسابيع الأدب، وأنا أزداد كل يوم شكاً في مقدرة أدبائنا على الإنتاج الأدبي الرفيع الذي يمكن أن يخلد في تاريخ الأدب؛ وقد تتبعت أقوال هؤلاء وأساليبهم فلم أجد إلا كل ما يحفزني على المصارحة والنصح وإبداء الرأي مكشوفاً غير مكفن.

وأنا لو كنت أحمل نفسي على تتبع هؤلاء واحداً بعد واحد أنقد أقوالهم على التفصيل دون الجملة، ثم أقيد ما أريد بالكتابة في هذا الباب من (الرسالة) لما كفاني القدر الذي أكتبه، ولما استطعت أن أستوعب الرأي في كل ذلك على أسبوع أسبوع، فلذلك تجنبت جهدي أن أعرض لأشياء كانت تقتضيني أسابيع في تقصيها وتفصيل أجزائها، وبيان مكان الفساد منها، والدلالة على قلة عناية هؤلاء بقرائهم، وصغر احتفالهم بالأدب الذي اتخذوه لهم صناعة عرفوا بها عند الناس، حتى صاروا للشباب أئمة بهم يقتدون. نعم، وكأنهم لا يعرفون أن ما يخرجونه للناس أن هو إلا غذاء جيل من الشبان يأخذ عنهم ويحتذي عليهم، فإن يكن في الذي يأتون به فساد فهو إلى إفساد الشباب الجديد أسرع، وفي طبائعه اللينة أعمل وأوغل؛ فأيما خطأ صغير منهم فهو عدة أخطاء كبار في الذين يلونهم من الشباب المقلد المسكين.

إن أمثال الدكتور طه حسين والأستاذ أحمد أمين والدكتور زكي مبارك والأستاذ الزيات وفلان وفلان من كبار الأدباء هم من هذه الأمة الشابة من الناس بمنزلة السراج الذي

ص: 44

يضيء للشباب معاني الحياة المظلمة بالجهل، فإذا انقلب السراج فإنما هو الحريق وانتشاره ومعمعته ومضغه قوة الشباب بفكين من نار حطمة

الرحلتان

ويذكرني هذا ما يقطع عليّ نهاية الرأي. فقد قرأت أخيراً مقالتين، إحداهما للدكتور طه، والأخرى للأستاذ أحمد امين، وهما بهذا العنوان (رحلة). وقد تعود الأستاذان أن يتقارضا المقالات منذ أسابيع طويلة، وأكثرا في ذلك إكثاراً لا يمكن أن يغضي عنه؛ وكنت أحب إلا أعرض له لعله ينتهي إلى نهايته، فإذا هو شيء لا ينقطع. فمن يوم أن كتب الأستاذ أحمد أمين ما كتب وسماه (مدرسة الزوجات) وقارضه الدكتور طه (بمدرسة الأزواج) ثم (مدرسة المروءة) ثم (مدرسة. . .) إلى آخر هذه الأشياء، وافتتنا بهذه الطاحون التي تدور على دقيق مطحون قد فرغ منه - من ذلك اليوم وأنا لا أرى فيما يكتبان إلا استسلاماً للقلم وبدواته وبوادره، واجتلبا في ذلك من الرأي ما لا يستقر ولا يتماسك.

وفي هاتين الرحلتين رأيت العجب!! فالدكتور طه مثلاً قد أطال في تحقير مصر والزراية عليها وعلى أرضها بما احتمله عليه الغضب الذي رغب في إنشاء مدرسة له يسميها (مدرسة الغضب) رحل الدكتور طه بالسيارة في الطريق الزراعية فغاظه التراب الذي يثور من حوله فيطلق لسانه بهذه الأسئلة (لماذا ندفع الضرائب؟ وفيم تنفق الدولة أموالنا؟ وماذا تصنع الدولة؟ ولماذا ننشئ الدولة؟)

فليخبرنا الدكتور طه عن السبيل الذي نتقي به الزراية على أرض مصر! ماذا تصنع الدولة في طريق عن جانبيه تلك الأرض الخصبة الواسعة التي تسقي لتطعم أهل مصر من خيراتها؟ كيف تتقي الدولة مرور الناس والدواب وأرجلهم تحمل أوحال الأرض الخصبة فتمر بها على الطريق الزراعي الممهد، فتأتي الشمس المصرية الملتهبة فتجفف الوحل فيثور تراباً؟ أن هذا كلام يقال في البلاد الباردة التي لا تفعل الشمس فيها ما تفعل في أرض مصر الغبراء، هناك في (قرية من قرى السفوا أو الدوفنييه أو الكانتال، على قمة جبل من هذه الجبال التي ألف الدكتور طه الاعتصام بها إذا أقبل الصف، والتي فارقها في الصيف وقلبه يتقطع حسرات) أو كما قال. . .! أن مثل هذا يجب أن يلغي من آراء أدبائنا، أن لم يكن من أجل أنفسهم فمن أجل من يتولاهم من الشباب. وليس أكثر آراء

ص: 45

الأستاذ أحمد أمين في هذا المقال بأقل ابتعاداً عن الحق من الذي عرضنا له

جناية!!

والأستاذ أحمد أمين هو الذي حمل على الأدب العربي، وحقر الشعر الجاهلي، ودفع بحجته في وجوب نبذ هذا الأدب وذلك الشعر الجاهلي لأنه كان جناية على أدبنا. وأنا كنت هممت أن أؤدي واجبي للأدب العربي وبإظهار فساد هذه الآراء التي لم تنضج ثمراتها، ثم رجعت عن ذلك، رغبة أن يترك مثل هذا الرأي حتى يفنى في نفسه، لعلمي - بالاستنتاج - أن الأستاذ ليس أديباً ناقداً، والناقد أديب مضاعف، وقدرته على الأدب أكبر من قدرة الأديب المحض. وقد أحببت أن أقف على كلمة في مقالة الأستاذ أحمد أمين (رحلة) تدلك على أن رأي الأستاذ في الأدب العربي والشعر الجاهلي رأي لا يؤخذ به، فقد قال:(وهاهم أولاء رفقة كأن أخلاقهم سبكت من الذهب المصفى، وكأن شمائلهم عصرت من قطر المزن) وهي جملة لا ينطق بها أديب متمكن ألبته، فما ظنك بأديب ناقد، وأنا لا أعرف كيف يعصر قطر المزن (أي الماء)، وهو لا يمكن أن يعصر. ونحن لا نشك في أن الذنب ليس للأستاذ الجليل، وإلا فهو ذنب الشيخ اليازجي صاحب (نجعة الرائد، وشرعة الوارد، في المترادف والمتوارد). . . الخ، الذي ذكر هاتين العبارتين بنصهما وترتيبهما في فصل (كرم الأخلاق ولؤمها) ص70 الطبعة الثانية، وهما من حشد الشيخ الذي لا يقوم على أصل من البيان والبلاغة.

أجل، إن كثيراً مما وقع في كتاب الشيخ اليازجي - على جلالته -، إن هو إلا مجازات واستعارات كأخيلة المحموم مادتها من الهذيان اللغوي الذي لا يصل إلى الحقيقة بأسباب من منطق العقل. والبلاغة ليست إلا حفظ النسبة بين الحقيقة اللغوية، والمجاز البياني، فكل ما لم يكن كذلك من المجاز والاستعارة فهو لغو يتشدق به من ليس له طبع أدبي رفيع. وجهد اليازجي كان حشداً من كلام العصور المتقدمة في العربية، فأخذ من الجيد والرديء على غير نقد أو تمييز.

فكان واجب الأستاذ أحمد أمين - الآري على الشعر الجاهلي وواصمه بالجناية على الأدب العربي - أن ينقد مثل هذه العبارات الضعيفة المتهالكة التي لا تتصل بسبب إلى البلاغة العربية على اختلاف عصورها - لا أن ينقلها إلى كلامه. وإلا فلينظر الأستاذ إلى أثر هذه

ص: 46

المجازات في بيان الشباب الذي يحبه ويعجب بأدبه، ويتلقى كلامه بالإجلال وحب الاقتداء

محمود محمد شاكر

ص: 47

‌رسالة الفن

الموسيقى فن وإلهام

للأستاذ محمد السيد المويلحي

أكثر الناس في هذا الزمن يعتقدون أن الموسيقى (علم) ككل العلوم لها قواعد ومبادئ، ولها مناح ونواح متشعبة متفرقة لا يمكن جمعها وهضمها إلا بالبحث والفحص والدرس، بل هم يعتقدون أكثر من هذا؛ يعتقدون أنها تخضع للدأب والكد، وتعطي سرها وسحرها لمن يتعب أكثر من غيره في طلبها. . .!

وليس هذا في مصر والشرق فحسب؛ بل في جميع بقاع العالم، وفي كل البلاد التي بلغت ذروة الحضارة وأدركت نهاية المدنية. . . فهناك المدارس المختلفة، والمعاهد المتباينة، والجامعات المختصة في تدريس كل (مادة) من مواد الموسيقى؛ وهناك الأساتذة الذين قطعوا كل عمرهم أو جله في التخصص والانقطاع لتجويد ناحية واحدة يكررونها صباحا ومساء. . . حتى (الصوت) استطاعوا أن يوهموا الناس أن في مكنتهم السيطرة عليه بل وخلقه خلقاً جديداً. . .!

ولكن هذا ليس من الواقع في شيء، فإن كان للموسيقى فروع وأصول، وقواعد ونظريات، فليس معنى هذا أن كل من يلم بها أو يهضمها يسمى (موسيقياً) أو فناناً يعبر عن خوالج الناس بروحه الشفافة الملهمة.

الموسيقى ليست مهنة تعلم، ولا حرفة تجاد، ولا صنعة تكتسب، وإنما هي فن وإلهام كما قلت في رأس هذا الكلام. . . هي إلهام لأنها أسمى من أن تخضع لقوى البشر الذي يخضع لها، وهي قوة سحرية روحية تفعل في النفوس ما لا تفعله قوى الأرض مجتمعة متضامنة. . . فهي تضحك وتبكي، وتفرح وتحزن، وتسعد وتؤلم في لحظات، فهل ثمة قوة إنسانية (مكتسبة) تستطيع أن تملك مثل هذا السحر؟

إن (العالم) الذي يقسم لك الموسيقى إلى قواعد غربية وقواعد شرقية وموشحات وادوار ثم يقول لك أن الموسيقى عبارة عن (دواوين) وان كل ديوان له درجات أساسية و (نيمات) وعربات و (تيكات) وان بين اليكاه والعشيران كذا من المسافات، أو أن يقول لك إن الديوان الأول (مثلاً) يحتوي على ثلاثة (تكوك) وسبعة عربات. . . الخ ويروح مقارناً بين

ص: 48

الموسيقى الغربية، والموسيقى العربية، ويفضل إحداهما على الأُخرى ناسياً الذوق، والطبع، والعادة، والبيئة - لهو أبعد الناس عن الموسيقى وعن الفن الصحيح وان كان هو يأبى ذلك. فليس الفن أرقاماً تجمع وتطرح وتحفظ وتعرف وإنما هو قوة هائلة معجزة يسوقها الملهم العبقري أمواجاً سحرية ولو كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ولا يعرف النيمات والتيكات والعربات. . .!!

(فموزار) الموسيقار الألماني الخالد عزف وهو في طفولته على البيان والكمان والأرغن من غير أن يتعلم درساً واحداً عليها!! ولعل القارئ يدهش حينما يعلم أنه كان يسبق الأساتذة الذين أتى بهم لتعليمه، وتوجيه عبقريته في الوجهة الصحيحة (كما كانوا يزعمون) حتى إن أحدهم بكى أمام سحر الطفل، وقال لوالده:

(ليس عندي ولا عند غيري ما يجهله ابنك، إنه ابن الموسيقى وقد علمته سرها وسحرها!)(وبتهوفن) الذي كان يطلق عليه (إله الموسيقى) والذي أرهقه أبوه في طفولته وظن أن كثرة (التعليم والإرشاد) تنفعه. كان يبكى لأمه ويشكو ظلم هذا الوالد ويقول لها: لقد أوشك أبي أن يبغضني في الموسيقى وفي الحياة نفسها. . . فلما تركوه وشأنه كان لا يفارق البيان أبداً إلا ليأكل أو لينام. . .!! وبعدها أخرج آياته الخالدة التي لا تزال إلى اليوم سمواً لا يدانى. . .

قد يقول قائل وما فائدة تلك المدارس إذن، وما فائدة هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم للتدريس وجعلوا من أنفسهم حفظة لقواعد الموسيقى وعلومها. . .؟

فائدتهم التوجيه والتهذيب فقط. أما الخلق والابتكار والقدرة والسيطرة والتحكم في ميدان العواطف، أما التغلغل في الأعماق والسريان في الدم والتلاعب بالأرواح، فهذا كله لا يعرف العلم، ولا يخضع للعلماء. . .!

أن الذي يغني أو يعزف لا يصف النظريات، ولا ينتقل من نغم إلى نغم مرسوم موضوع، وإنما هو ينطلق بروحه فتتحكم في لسانه أو بنانه وتروح مستولية على خلجات المستمعين، وطوبى لمن يأسره فنه أولاً قبل أن يأسر غيره لأنه يفعل العجب. . . ولا يهمه بعد ذلك أخرج على (الوحدة) أم ظل محافظا عليها، ولعل من هذا الباب قصة المرحوم (عبد الحي حلمي) الذي كان يشدو ليلة كبلبل نشوان والناس من حوله سكارى من خمر الطرب فخرج

ص: 49

على (الوحدة) فأرشده (عازف القانون) فزجر قائلاً: خلَّ الوحدة لك ولأمثالك، إنني أغني لهؤلاء الذين يفهمون الموسيقى!

ولهذا لا يمكن لمطرب يغني لحن غيره، ويترجم إحساس غيره، أن يصل إلى درجة مطرب يلحن لنفسه ويترجم إحساسه مهما أوتي من حسن الصوت وجمال الإلقاء، لأنه يكون ممثلاً وحاكياً، بل يكون كاذباً في رسالته، والموسيقى لا تعرف الكذب لأنها هي نفسها رسالة صادقة!

رب قارئ يقول إنه يسمع بعض المطربين والمطربات من الذين يغنون تلحينات غيرهم قد وصلوا إلى مرتبة سامية لا تدانى، حتى من الذين يلحنون لأنفسهم؟ وردي على هذا الاعتراض أن القارئ سيقتنع إذا عرف أن هؤلاء المطربات والمطربين لا ينتزعون الإعجاب ولا يسيطرون بسحر فنهم وصوتهم إلا إذا انطلقوا من جو تلحين الموضوع وتصرفوا من عندهم التصرف الذي يمليه إحساسهم. . .

إن بعضنا يسمع (أم كلثوم) مثلاً وهي تغني قطعة موضوعة مرسومة فيظل هادئاً أو مشجعاً حتى إذا تصرفت وترجمت إحساسها هاج وماج وفقد سلطانه على نفسه!

وعبد الوهاب، هناك من هو ألمع منه صوتاً وأصفى نبرة ومع ذلك لا يقاس أليه، لم؟ لأن عبد الوهاب لا يترجم للناس إلا إحساسه، ولا يصور لهم إلا روحه. . .

وما لنا نذهب بعيداً؟ أن القصبجي والسنباطي وزكريا وهاشم ومحمود صبح، وهم أئمة التلحين في مصر والشرق قاطبة، لو غنوا تلحيناتهم بأنفسهم - وبعضهم قبيح الصوت - لأدوها أحسن من غيرهم ولو كان أجمل صوتاً وأقوى أداء، وليس هذا بعجب أو غريب، فلن يكون المقلد كالمقلد أبداً. . .!

لنرجع إلى الفن الملهم والفن المكتسب. . .

في الشرق والغرب بعض العلماء الذي تخصصوا في دراسة النظريات والقواعد الموسيقية فألموا بها إلماماً تاماً، وأصبحوا (علماء) ينتفع بعلمهم وطرقهم في دراسة الموسيقى الذين يعتقدون أن الموسيقى تخضع للدرس والبحث كما قلنا، ومع ذلك ترى هؤلاء العلماء تساوون مع الجميع - إلا الموهوبين - في العجز عن فهم الموسيقى الحقة وعدم القدرة على الوصول إليها! لأنهم يصفون الطرق والمسالك التي تؤدي إليها ويزعمون أن الإنسان

ص: 50

إذا فحص وصل، فإذا سألتهم ولم لم تصلوا انتم بعد طول بحثكم وفحصكم إلى مرتبة الملهم العبقري الذي لم يقطع زهرة عمره في الجري وراء النظرية والقاعدة؟ قلبوا شفاههم، ولووا رءوسهم، ورأيتهم يستكبرون ويتعامون، ويصفونك مع الملهمين بالجهل الفاضح والعجز الواضح. . .!! ولعلهم معذورون، لأنهم يعتقدون أن الفن يخضع للعلم، وكذلك تراهم - في كل عصر - ينكرون ويحاربون نتاج العباقرة الملهمين. . . وكم شهدت مصر - أيام سيد درويش - من صنوف الدس والتحقير لفن هذا العبقري الأوحد الذي ذاق الأمرين من رجال معهد الموسيقى، لا لشيء، إلا لأنه في عرفهم من الجاهلين، نعم، كم شاهدت مصر - ولا تزال - من صنوف الاضطهاد لفن سيد من هؤلاء الناس الذين لو عاشوا ألف سنة ما استطاعوا أن يصلوا - مجتمعين - إلى فهم قطعة واحدة من قطعه. . .!!

لم يعرف عن سيد أنه كان عالماً يفكر قبل أن يلحن ليخرج تلحينه من نغمة - كذا - كما يريد المغني أو المغنية، بل كان ينتزع اللحن الخالد من صميم الحياة، ومن صميم البيئة المصرية، دون أن يزن أو يقيس بمعيار النظريات ومقياس القواعد والدم، والتك، والوحدة. ومع ذلك، فقد كانت تلحيناته سماوية خالدة يضرب بها لمثل في الربط والضبط. . .!!

وقبل أنت أنتهي، أحب أن أقول: إن الموسيقى فن ملهم أكثر منها علماً مكتسباً، وهي وحي سماوي يهبط من عل فينقله ويترجمه الملهمون لغة تفهمها القلوب والأرواح. . . لغة لا تخضع للقواعد ولا للنظريات، لأنها ليس من صنع البشر. . .!

نعم، إنني أعتقد أن مرتبة (الفنان) أسمى من مرتبة البشر، لأن الله اصطفاه بأنبل ما في الحياة وأطهر ما في الوجود. . . وهو (الفن)، بل وأعتقد أكثر من هذا، أعتقد أن الله اصطفاه (بنفسية) لا تخضع لعوامل الشر، ولا تنتحي أمام مغريات الشيطان، فالفنان لا يعرف الغل ولا الحقد، ولا المال ولا الجاه، لأنه يعيش كما تريد له الحياة أن يعيش، وينتج كما يريد له الله، لا كما يريد له العلم والتعليم. . .!!

محمد السيد المويلحي

ص: 51

‌القصص

في ظلمة الليل

أسطورة فرعونية

(تحية للأستاذ يحيى حقي)

للأستاذ محمود بك تيمور

في أصيل يوم من الأيام، كان (الشيخ حابي) في بستانه الصغير، أمام داره المتواضعة، يتعهد تخيلاته ويستريض. فاسترعى انتباهه خفق أقدام، فالتفت نحو مصدر الصوت، فإذا بفتى يسير صوبه، وهو يدفع - في جهد - قدميه المتعبتين، وقد علاه الغبار، فاختفت ملامحه؛ بيد أن الناظر إليه يستطيع أن يلمح في عينيه على الفور حيرة الغريب. وكان يحمل في يده صرة؛ فخف الشيخ للقائه، وما إن اقترب منه، حتى سمع الفتى يقول في صوت الهامس:

- الشيخ حابي؟

- هأنذا. . . ما مطلبك؟

ووجد (حابي) الفتى يتخاذل أمامه، فأسرع إليه، وأسنده إلى صدره، محيطاً إياه بذراعيه، وقال له:

- أمريض أنت؟

- بل جائع!

وسار به (حابي) إلى داره في رفق، وأجلسه بجوار الباب على مصطبة عارية، وتركه برهة. . . ثم عاد إليه بإبريق مملوء باللبن، فأخذ يعب منه الغريب، حتى شبع. . . وبعد أن تنفس طويلاً، تمتم بكلمات الشكر لمضيفه، ثم أطرق وقتاً. . . وأخيراً، رفع رأسه، وسرح بصره في الشيخ، والكلمات تتراءى حيرى على شفتيه. . . وابتسم الشيخ ابتسامة تنطوي على عطف وطيبة، وقال:

تكلم يا بني، ولا تخش بأساً. . . ما حاجتك؟ أن حابي لا يرد حاجة الغريب!

فأمسك الفتى بيد الشيخ، وضغطها في انفعال، وقال:

ص: 52

- لقد حدثوني انك تأتي بالمعجزات، فسعيت إليك أطلب معجزة!. . .

فتأمل الشيخ وجه فتاه طويلاً، يحاول أن يستكنه ما خلف تلك الصفحة المتربة التعبة من خفية نفسه، وقال:

- معجزة؟. . . لست كاهناً يا بني!

- أنت أعظم من كاهن. . .

- أفصح عن غرضك!

- إن قوة تعاويذك وعقاقيرك يا أبت مستمدة من روح الآلهة. . .

- أنا حكيم زاهد، قد أنجح في مداواة النفوس وتطيب الأجسام. . .

وحدق الفتى في الشيخ بعيون جاحظة، ثم هبط أمامه، وقال وقد تشبث بثوبه:

- وحق إيزيس لتنتزعن نفسي من بين جوانجي، ولتلقين بها بعيداً عن جسدي!

- هدئ من روعك. . .

- إني أمقت هذه النفس الخاملة الميتة. . . لتخلقني خلقاً جديداً، ولتجعلن مني رجلاً ذا بأس واقتدار!

وجعل الشيخ يلاطف رأس الفتى، ثم أنهضه في وداعة، وأجلسه بجواره. وبعد حين، قال له في هدوء ورزانة:

ارو لي قصتك يا بني. . . إني مصغ إليك في انتباه!

ودعم الفتى وجهه براحتيه، وراح يرسل الطرف أمامه في ذلك الفضاء العظيم، حيث يبسط الغسق على الكون غلالته السوداء. وأنصت برهة إلى ما يحيط به من صمت شامل. ثم تكلم فإذا به يقول:

أنا راموسي. . . ولكن ماذا يهمك من أسمي؟ أن راموسي نكرة لا يحس وجوده أحد

- تكلم!

- إني أسكن على مسيرة شهر من هنا. . .

- في بلدة رنسي؟

- نعم!

- ذات المعابد الأربعة، والمسلات الخمس؟!

ص: 53

فواصل (راموسي) حديثه، وقد رق صوته وضعف: وحيث تسكن الأميرة أشمس. . .!

وطأطأ رأسه حيناً، ثم رفع عينه بغتة، وسددها في وجه (حابي) وقال في صوت غير متساوق النبرات:

أريد أن أكون عظيما. . . أريد أن أكون مثرياً. . . تزخر خزائني بالأموال. . . أريد!. . .

فابتسم الشيخ في هدوء، وقاطعه قائلاً:

أنه ليس بالطلب المستحيل. . .

فاستنار وجه الشاب بلمعة متلألئة. . . وقال:

إذا ستأتي لي بمعجزة!

- أن ما تسميه أنت معجزة يا بني، أسميه أنا أمراً قد يستعصي على بعض الناس، ولكنه في مقدور آخرين!

فهوى (راموسي) على يدي الشيخ، وانهال عليها تقبيلاً، وهو يقول:

شكراً شكرا، ًسأذكر لك ذلك الجميل ما حييت، وسأعوضك عنه أضعافاً مضاعفة. . .

ثم رفع رأسه، وقال:

أما الآن، فليس لي ما أقدمه لك سوى. . .

وتعثر لسانه بالكلمات، فسكت وأشار إلى الصرة التي بجواره، وفتحها بيد راعشة أمام (حابي) فنظر فيها الشيخ، فإذا بخليط من قطع المعادن، بينها شيء قليل من الفضة والذهب. وتابع (راموسي) كلامه وقد غض من بصره:

- هي كل ما تبقى لي مما أملك!

- أبقها لك. . .

- إنها قليلة. . . أعرف ذلك!

- كلا، فهي كثيرة إذا كانت منك. وهذا يكفي. . . ولكنني لست في حاجة إلى عطاء الناس. . .

- أبت!

ونهض (حابي) في هدوء وهو يقول:

ص: 54

- إلا ترى يا بني أن الليل قد أقبل يحمل في أعطافه برد المساء، وأنا كما ترى شيخ. . .

- هيا. . .

وتركا المصطبة، ودخلا قاعة غير رحيبة، بسقف منخفض تكاد تكون عارية إلا من حصير وغطاء

وأشعل (حابي) مصباحه الزيتي، ثم جلس وأراح ظهره على الجدار وقد طوى يديه إلى صدره. وجلس (راموسي) قبالته متربعاً، لا يفصله عن الشيخ إلا المصباح. . .

وانقضت برهة لم يتكلم فيها أحد منهما

ثم سمع (حابي) يردد في صوته الرزين:

- إني مصغ إليك!

فلم يحول الفتى عينيه عن المصباح وقال:

- كيف ابدأ لك قصتي. . . حقاً أنه لجنونٌ ما فكرتُ فيه. . . غير أني لست نادماً على شيء. . . لقد كنت أحيا يا أبت متبطلاً، أخرج من داري المهدمة إلى النهر أرتاض على شاطئه حيث بساتين الأمراء، أقضي اليوم كله متنقلاً بينها، أستمتع بمرأى الرياحين، وأستنشق عرفها الزكي. فإذا تعبت استرحت بجوار الماء وأخرجت نايي أناجيه ويناجيني!

- أموسيقي أنت؟

لم أجرب أن أصفر إلا لنفسي. . .

وأخرج (راموسي) من ثنايا ثيابه ناياً من غاب ساذج المظهر، وأراه الشيخ قائلاً:

- أنه زميلي الذي لا يفارقني أبداً. . . زميلي المطلع على سري، العالم بما يجيش في قلبي من أمان وأطماع!

- أمان وأطماع قد تبدو لك بعيدة التحقيق!

- أنني أضعها بين يديك، فافعل بها ما أنت صانع!

- ألم تكن راضياً عن حياتك الهادئة؟

- كل الرضا!

- إذاً (هي) التي غيرت حالك. . .

- من هي؟

ص: 55

- تلك التي ذكرت اسمها، مشرفاً بذكره مدينة رنسي!

- نعم، هي أشمس، أميرة الأميرات، وأقربهن صلة بفرعون الأعلى!

- أتمم حديثك. . .

- رأيتها يوماً تتنزه في بستانها، فسحرني لأول نظرة جمالها؛ رأيتها ترتاد الخمائل في حاشيتها؛ فجعلت أرقبها خلف دغل من الأشجار، وأضاءت نفسي على التو شمس وهاجة أنارت لي دنيا عظيمة كانت مختفية عني. وإذا بي أقطع على نفسي عهداً بأنها لن تكون لسواي. . . ولما عدت إلى داري، وراجعت هجسات ضميري، هزئت بنفسي، وكلي سخط وألم. ولكن عهدي ما زال ثابتاً على الرغم من كل شيء، لا يتقهقر ولا يتزايل، بل يتقدم في جرأة وإقدام. . . ولكن كيف أنفذ ذلك العهد؟ هذا ما كان يحيرني ويحز في قلبي. منذ ذلك اليوم جعلت طريقي إلى بستانها لا أعرف سواه، أقضي على مقربة منه يومي، أراها ولا تراني. فإذا ما صعدت في قصرها انتحيت نحو الشاطئ، وتخيرت مكاناً ظليلاً، وبثثت شكواي للناي، فكنت أسمعه أحياناً يهمس لي:(لماذا لا تحاول التقرب إليها؟. . . . . . لماذا لا تكشف لها عن كوامن صدرك؟. . .)

- ولماذا لم تصدع بما أوحي لك به نايك؟

- أتريد مني أن أستمع لذلك الساذج الغرير؟ ألم أقل لك من هي؟ أن فيها من دم الآلهة يا أبت!. . . وكلنا نعلم أن عظاماً تقدموا إليها بقلوبهم، فردتهم خائبين. . . لقد أمضيت يا أبت الليالي الطوال أفكر في مصيري معها. . . لابد أن تقع معجزة تحولني من صعلوك بائس إلى أمير يفوق جميع الأمراء، يرضاه فرعون وترعاها ايزيس. . . وكان أن اشتد بي الضيق يوماً، فجريت صوب النهر، وهممت أن ألقي بنفسي إلى التماسيح. . . في تلك الساعة الفاصلة، سمعت هاتفاً يقول لي:(اذهب إلى حابي الحكيم، فعنده تتم المعجزة)

فتمتم (الشيخ حابي):

- أقال لك الهاتف ذلك؟

- قسما بإيزيس ربة الأرباب، لقد سمعت صوته واضحاً يرن في أذني. وكانت التماسيح قد خرجت برءوسها تنظر إلي متنمرة فوجدتني في لحظة أقفز متراجعاً عن النهر، وانطلقت أعدوا. . . أكنت أعدو حقا؟ لا أدري! كنت أحس أني محمول بقوة خارقة غير منظورة. .

ص: 56

وفي الغد بعت ما أملك، واستصفيت مالي، وحملت زادي، وسرت ووجهتي دارك!

فأمسك (حابي) بيدي (راموسي) وضغطهما وقال:

- ستتم المعجزة يا ولدي، فاعتمد علي

- إذاً ستجعلني أمير الأمراء؟ وإذاً ستجعل من أشمس زوجة لي؟

- أن علمي لا يتطاول إلى مثل هذه الأمور!

- كيف؟

- كل ما أقدر عليه أن أعمل على تغيير نفسيتك. . .

- أوضح يا أبت!

- سيتغير فيك كل شيء، شمائلك الأصيلة ستنقلب إلى ضدها، الخمول سيغدو نشاطاً متأججاً، والقناعة ستكون طمعاً صاخباً، والرحمة ستفسح مكانها للقسوة والعنف. . . ستكون حياتك يا راموسي كالبركان الفوار، لا يخبو له لهب، ولا يسكن له زئير!

فطأطأ (راموسي) رأسه، وقال:

- أبت!

- ليس ثمة طريق ينيلك ما تطلب من ثروة وجاه ومجد، إلا هذا الطريق!

وصمت (راموسي) فترة، ورأسه منحن على صدره، وبغتة رفع وجهه إلى (حابي) وقال:

- ولكن حبي، حبي. . . أيعتريه تغير؟

- حبك باق بقاء الروح الخالدة. . . ولكن!

- ماذا؟

- أواثق أنك ستكون سعيداً بنفسك الجديدة، بعد أن تتم المعجزة؟ وانه لن يطول بك الحنين إلى نفسك الأولى؟

-. . . افعل بي ما تريد!

ودارت عجلة الحياة: الأيام تلو الأيام، والأشهر إثر الأشهر. . .

وكان ملك الغرب قد دفعه الطمع إلى امتلاك مصر، فسير إليها الجيوش الكثيفة؛ فغزت المناطق الشمالية في غير عسر، ثم اندفعت في طريقها تكتسح أمامها جند الوطن. ولم يجد تعيين القائد الكبير (رودا) أميراً على الجيش الذي أرسله فرعون لإنقاذ البلاد. . . إذ

ص: 57

أصيب (رودا) بهزيمة نكراء، وقتل في المعركة، وكاد الجيش يتفكك ويندثر، لولا أن قيض الله له شاباً من بين المحاربين تزعمه، فأخذ يجمع شمله، ويبث فيه روحاً جديداً؛ فلم ينقض وقت طويل حتى انقلبت الهزيمة إلى هجوم، ثم انته الهجوم إلى مطاردة للعدو، فاكتساح كامل له. واصبح هذا الشاب قائداً للجيش، ولقب نفسه بالأمير الأسود، إذ كان يرتدي السواد دائماً. . . ولم يقتصر هذا الأمير على تطهير البلاد من جيش العدو، بل تابع زحفه في جرأة غريبة، ففتح (مملكة الغرب) بأسرها، وأخضعها لسلطان مصر، فصارت تابعة لها. . .

كانت (رنسي) المدينة ذات أربعة المعابد وخمس المسلات حاضرة مصر الثانية، تحتفل احتفالاً شائقاً بقدوم الجيش المنتصر، وعلى رأسه أميره الأسود، فقد عاد محملاً بأسلاب وغنائم لم يأت بها قائد منتصر من قبل. وكان موكبه حافلاً بالأسرى العظام من الأمراء والحكام وسراة الدولة المغلوبة. أما بقية الأسرى من الدهماء، فقد اكتفى بقطع أيديهم، وأطلق سراحهم، حتى لا يعطلوا سير الموكب بكثرة عددهم. ولكنه احتفظ بتلك الأيدي، فحملها معه ليقدمها إلى فرعون، رمزاً للخضوع والطاعة!

وتمت مراسيم الاستقبال في عظمة وفخامة جديرتين بالقائد العظيم والفاتح الكبير!. . . ولكن الأميرة (أشمس) أولى أميرات البيت الفرعوني، تخلفت عن حضور الاحتفال، وأرسلت تعتذر لفرعون. وكان فرعون يعرف شذوذ طباعها واعتزالها العالم، فقبل عذرها على مضض. ولكن رسول الأمير الأسود جاءها يحمل من الأمير نفسه رغبته في زيارتها قبل الغروب لأمر ذي بال؛ فلم تجد مخلصاً من استقباله، وأمرت أن يعدوا القصر لهذا القدوم.

وأخذ الأتباع يعلمون بجد واهتمام في تزيين القصر، فما كادت الشمس تؤذن بالغروب حتى برز القصر في غبشة الظلام كأنه قطعة من لؤلؤ تتألق؛ وانتشر الطيب الذكي في أرجائه، فكأنه روضة فواحة من الأزاهر النضرة.

وجاء الأمير في الموعد في حفل من قواده، ودخل القصر وهو يضرب بقدميه الصلبتين الأرض ضربات شديدة تردد صداها جوانب المكان، ويلتفت يمنة ويسر بوجهه الرائع الذي تنم كل لمحة من لمحاته على رجولة قوية قاسية. وكانت لعيونه الواسعة إشعاعات قوية

ص: 58

باهرة لا تقوى عين أُخرى على تحديها. . .

وما أن دخل البهو الكبير، ورأى الأميرة واقفة في صدره تحف بها وصيفاتها، حتى توقف بغتة، واتسعت حدقتا عينيه، وتفتح وجهه في لحظة بنور متألق تشيع فيه الأحلام. وأمسك بيد رفيق له بجانبه، وشد عليها؛ وطالت وقفته على هذه الحال والناس من حوله صامتون. وأخيراً همس رفيقه في أذنه:

- مولاي! إن الأميرة تنتظرك. . . تقدم!

وتقدم الأمير الأسود بخطوات لم تردد صداها جوانب المكان هذه المرة، وركع أمامها ركعة المتبتل أمام ربه فأنهضته، وهي تقول:

نحن الذين يجب أن نركع أمام المنقذ العظيم!

ورفع وجهه أليها، وقال في صوت خفيض:

عفواً مولاتي!. . . أمام هذا الجمال الإلهي الذي هو قبسة من رع، ونفحة من إيزيس، يستشعر القائد العظيم ظآلة نفسه وتفاهة مجده!

- سيدي!

- ليس ثمة عظيم أمامك يا مولاتي!. . . كلنا من أتباعك المخلصين!

وتهامس الناس فيما بينهم دهشين حيارى:

لم يشاهد الأمير على هذه الصورة، حتى في حضرة فرعون الأعلى!

وبدأت الجموع تتفرق والمكان يخلو للضيف وربة القصر، وأخذ القائد يروي وقائعه، ويعدد أسلابه، ويذكر ما ناله من مال وضياع تتعادل معها أموال فرعون العظيم. وختم حديثه قائلاً:

إن الأميرة لتعلم أن فرعون بلا عقب، وهو الآن شيخ مثقل بالمرض، وقد طالبته الكهنة بتبني أمير يجعله ولياً للعهد، أمير أهل لهذا المنصب الخطير. . .

- وهل وقع اختيار الملك على هذا المحظوظ؟

فابتسم الأمير ابتسامة ذات معنى، وقال:

لقد أتم اختياره سراً، وسيعلنه غداً في الهيكل الكبير!

وصمتت (أشمس) وهي تتفحص الأمير طويلاً. . . ثم انحنت في خشوع وهي تقول:

ص: 59

يسعدني أن أكون أول من يقدم طاعته لصحب التاجين، وريث ملك الفراعنة العظيم!

فأمسك الأمير بيدها، وقال:

هذا الملك العظيم، وهذا النصر الباهر، وهذه الأموال التي لا يستطيع أن يحصيها أحد. كل ما كسبته وما سأكبه، أضعه تحت قدميك أنت يا أميرتي، ويا مولاتي!. . . أقدم لك كل هذا مقابل شيء واحد منك. . .

فأسبلت الأميرة جفنيها، وتابع الأمير حديثه في لهجة مشبوبة:

كلمة منك يا أشمس تجعل هذا الوادي الفسيح بسكانه وكنوزه، هذا الملك الضخم طوع يديك. . . قولي كلمة الرضا، ثم مري، فلن يعصي لك أحد أمراً. . .

ونهضت الأميرة، وهي تقولي في صوت حبيس:

ألا نذهب إلى الشرفة فنلقي نظرة على البستان؟

فأجابها الأمير، وهو حائر:

كما تريدين!

وذهبا إلى الشرفة، وأطالت الأميرة النظر إلى الحديقة، وهي تصعد بصرها في أشجارها وأزاهيرها. ثم قالت:

أيسمح لي الأمير أن أقص عليه قصة صغيرة؟

فأجابها، وهو يزداد عجبا:

إني مصغ إليك يا أميرة!

- كان في الزمان الغابر فتاة من الأثرياء، من أسرة رفيعة النسب؛ تحيا ناعمة البال في قصرها ذي البستان الكبير حياة ترف ورغد، ولم يكن لها مطمع تصبو إليه إلا العثور على أليف تنعم معه بحب ووفاء، شأنها في ذلك شأن كل فتاة. وحج إلى قصرها أعلى الأمراء شأناً، وأكثرهم جمالاً وثراء يطلبونها للزواج فردتهم بلا أمل. . .

- ولم ذلك!

- لأنها كانت مخدوعة بنفسها، مغرورة بجمالها، فلم يرقها واحد من هؤلاء الأمراء!

- ومن كانت تنتظر أن يتقدم لها بعد هؤلاء، وهم صفوة البلد. . .؟!

وتريثت الأميرة في إجابتها، وهي تسرح طرفها في الأفق حيث الظلام مقبل في وحشته

ص: 60

وصمته وأسراره. . . وقالت:

- هي نفسها لم تكن تدري، ولكنها على الرغم من ذلك كانت تنتظر وتؤمل!

- وهل طال انتظارها؟

- كلا!

- إذاً عثرت على ضالتها؟!

- نعم أيها الأمير. . .

- أكان قائداً غازياً؟

- كلا!

- أوزير خطير هو؟

- كلا!

- إذا هو ملك من نسل الآلهة!

- ولا هذا أيضاً. . .

- من يكون؟!

- وأرسلت الأميرة تنهدة خفيفة وقالت في صوت الهامس:

- شاب رقيق الحال، مرهف الشعور!

- وما مهنته؟

- ليست له مهنة، كان يقضي أيامه يجوب البساتين، ويتنزه على ضفاف الانهار، يستمتع بمحاسن الطبيعة!

- أنها حياة أقرب إلى التبطل والصعلكة. . .

فتمتمت الأميرة بلهجة الحال، وهي تستقبل بعينيها كتائب الظلام المكدس بعضها فوق بعض:

- قد يكون ذلك، ولكنه الوحيد الذي استطاع أن يصهر كبرياءها، ويحطم تاج غرورها!

فندت عن الأمير صرخة:

هو؟!. . . أممكن ذلك؟

أجل لقد أحبته الفتاة، أحبت فيه ذلك الشاعر المرهف الحس، ينشدها أعذب ألحانه وأرقها!

ص: 61

- أكان شاعراً ينظم لها القصائد، وينشدها إياها؟

- كان ينظم قصائده بلا كلام، وينشدها إياها من مزماره الرخيم!. . .

فأصابت الأمير هزة شديدة، وقال في صوت جياش:

- وهل تقابلا؟

- كلا، فهي لم تره، بل أغرمت به على البعد!. . . ولا تدري أراها، أم لا؟!

- لا ريب في أنه رآها. . .

- ليس ذلك مؤكداً، فعيون هذا الشاعر الجوال، كانت أقصر من أن تخترق خمائل البستان أو جدران القصر، لتكشف عن الفتاة وتلتقي بعيونها!

- يا للفتى البائس!. . . لو علم أنها تضمر له هذا الحب لطار إليها، وارتمى تحت قدميها يلثمها في عبادة. . .

- من يدري أيها الأمير؟. . . أنه فتى غريب الأطوار، يعيش وفق هواه. . . قد يرفض حبها لو تقدمت به إليه!!

- محال!

- ولكنه لو كان يعلم كم أحبته هذه الفتاة، وكيف أنه ترضي أن تعيش معه تقاسمه حياته الطليقة في دنياه الرحبة الوضاءة لقبل منها هذا الحب!

وتمتم الأمير بكلمات متقطعة، وقد شد بيده على حاجز الشرفة حتى كادت أصابعه تدمى، وتابعت الأميرة حديثها:

- لقد برمت الفتاة بحياة الثروة والجاه التي تحياها، وتوضحت أمامها بشاعتها، وأحست ثقلها المرهق يحبس أنفاسها. فرغبت أن تفر من بيئتها، تستبدل الكوخ الساذج الهادي بالقصر المنيف الصاخب، والرداء الخفيف المزين بالأزهار بالثوب الثمين اللامع بأوصال اللآلئ. . . لقد برمت بكل شيء يحوطها، واشتدت بها الرغبة أن تهرب، فتلحق بشاعرها تقضي حياتها في حمى مزماره!!

- ولكنها لم تفعل!

- لقد كادت. . . ولكن الفتى اختفى فجأة!

- أهرب؟

ص: 62

- إن الناس يرجفون بموته، فقد تكون التماسيح أكلته. . . ومن ثم أسدلت الفتاة على حياتها ستراً غليظاً يحجبها عن العالم أجمع!

- قد تسلوه يوماً، فترضى الزواج بأمير كبير!

- إن القصة تحدثنا أن الفتاة قضت في عزلتها عامين، وهي لم تتغير. . . إنها لا تطلب الأمير، ولن تطلبه، بل ستحيا مترقبة شاعرها الفقير كما هو بردائه الساذج، وقلبه الكبير. . . لن تستبدل به أحداً مهما يعظم قدره ويتسع ماله!

- وهنا تنتهي القصة. . . أليس كذلك!

- تكاد تنتهي، والبقية في كلمتين، أتريد أن أتمها لك؟ فقال الأمير، وهو يضغط كلماته في حسرة مكتومة:

- إذا رغبت، أتممتها أنا لك!

فتمايلت الأميرة، وعرضت على وجهها ابتسامة، وقالت:

- كيف؟ أو تعرفها؟

فقال في شيء من السهوم:

- إن حذقك في رواية القصة، قد جعلني أحزر خاتمتها!

وراح الأمير يحد بصره في نجوم الليل البعيدة، كأنه يريد أن يستلهم منها كلمة نصح أو هداية. . . ولكن لم تطل وقفته على هذه الصورة، فانحنى أمام الأميرة، وقال:

- لن أنسى ما حييت حسن احتفائك بي!

وقبل يدها قبلة طويلة عميقة، ثم ترك المكان لا يلوي على شيء. . .

واستقل على الفور عجلته الحربية، واستأذن رفاقه!

وانطلقت به العربة، هائمة في أديم الصحراء، تشق أمامها سجف الظلام شقاً!. . .

محمود تيمور

ص: 63

‌من هنا ومن هناك

مطلب عادل

(لشاعر الهند (رابندرانات تاجور))

إن علاقة الإنجليز بتاريخ الهند تدعو إلى الإعجاب الكثير. فقد توطدت بيننا وبينهم وشائج القربى، باعتبارهم رسل الثقافة الأوربية، ونالوا من نفوسنا ما لم تنله أمة من الأمم.

وإذا كانت المزنه تحمل إلى الأرض ماء السماء من آفاق بعيدة المدى، فيتغلغل في أعماقها ويسري إلى أحشائها، فيخرج منها نباتاً وأزهاراً تسر الناظرين، فإن سيل الفكر والثقافة الأوربية قد انحدر الينا، فأنبت في قلوبنا حياة جديدة، وأيقظ نفوسنا من سبات طالت عليه السنون.

بدأنا نتذوق الأدب الإنجليزي، ولم تكن فائدته لنا مقصورة على الفن الجديد الذي يفيض به، أو المتعة النفسية التي يهديها ألينا، فقد حرك قلوبنا إلى إصلاح كثير من أخطاء الإنسان نحو أخيه الإنسان، فدقت لأسماعنا أجراس رنانة الصوت تعلن تحطيم أغلال الإنسانية المعذبة، وخالجت أذهاننا حماسة نحو النضال في سيل مكافحة الاتجار بالإنسان.

لقد نيفت على السبعين من عمري، وكان عهدي بذلك أول العصر من تاريخنا الذي يجدر بي أن أسميه العصر الاوربي، في منتصف القرن التاسع عشر وهو العصر الفكتوري الذي يسخر منه شباب اليوم. لم تكن أوربا في ذلك العهد قد فقدت عقيدتها في حرية الفكر وحقوق الفرد التي حاربت من أجلها في عصور الإصلاح والثورة الفرنسية، وكان الأخ في أمريكا يحارب أخاه لمكافحة الاتجار بالرقيق. ويصح للعصر الفيكتوري أن يفخر بأنه العصر الذي سمعت فيه كلمات مازيني النبيلة وصيحات غاربيلدي الجريئة، وأنه العصر الذي ارتفع فيه صوت غلادستون مدوياً كالرعد في أنحاء العالم المتمدن، بالحملة على أعمال سلطان تركيا. وقد بدأنا نحن كذلك في الهند نفكر في استقلالنا في ذلك العهد. لم تكن حركتنا تخلو من العداء للإنجليز. ولكنا على الرغم من ذلك كنا على ثقة تامة من الخلق الإنجليزي. فقويت عزيمتنا على المطالبة بمشاركة بريطانيا باسم الإنسانية في الإدارة الهندية.

لقد رأينا الأمم الشرقية تسير قدماً نحو عصر جديد، فأملنا أن نندمج في صفوفهم لنتبوأ

ص: 64

مركزنا من التاريخ، ولكن كم كان ذعرنا شديداً حينما رأينا عجلة التقدم تقف بنا عن المسير. إن الدين الثقيل الذي تطالبنا به إدارة السواحل يثقل كاهلنا ويحرمنا نحن الفقراء المفلسين نصيبنا الضئيل من الحياة. فلا تستطيع أمتنا البائسة أن تزحزح عنها أثقال الهمجية التي ترزح على صدرها كالصخرة الشماء، فتخنق أنفاسها حتى الممات.

مالطة البلطيق

(ملخصة عن (لابرس دي تونسيا))

إن السر في حملة السوفيت على فنلندا هو رغبتها في الحصول على مركز وطيد في الأرخبيل الواقع بين فنلندا والسويد. وقد يجهل الكثير من سكان أوربا الذين يعيشون بعيداً عن منطقة بحر البلطيق أهمية جزر آلند التي يعد موقعها من الناحية الحربية كموقع جزيرة مالطة في البحر الأبيض المتوسط.

تتكون هذه الجزر التي قضت عصبة الأمم سنة 1921 بأن تظل محرومة من التحصينات، من ستمائة جزيرة صغيرة، مائتين منها يعمرهما السكان الذين يبلغ عددهم 28. 000 نفس كلهم من الصيادين.

وتقع هذه الجزر على بعد 50 ميلاً من الشاطئ الفنلندي، و25 ميلاً من السويد و350 ميلاً لننجراد و700 ميل من موسكو و350 ميل من دانزج و300 ميل من ممل و400 ميل من كوبنهاجن. وعاصمتها (ماريهامن) وهي مدينة صغيرة للصيد، ينتشر على أرضها بعض المساكن الخشبية، وتفوح منها رائحة الأسماك الشديدة.

ونظراً لاستقالة عضوين من أعضاء عصبة الأمم (ألمانيا وإيطاليا) التي عرضت عليها مشكلة جزائر آلند أصبح من المستحيل على فنلندا أن تحصن هذه الجزر. إلا أن الاتفاق الألماني السوفيتي قد أتاح لفنلندا في الأيام الأخيرة أن تنال موافقة باقي الأعضاء (بريطانيا العظمى، وفرنسا، واستونيا، والدنمارك) على تحصينها، فقامت حامية صغيرة لحماية ماريهامن وأعد أسطول خاص لحماية الجزر. ومما لا شك فيه أن وجود قوة من البحرية والطيران في جزائر آلند يجعل من السهل على أية أمة أن تسيطر على شمال غربي أوربا. فمن هذه الجزائر تصد أي غارة للسوفيت ودول البلطيق، ويسهل تهديد الدنمارك

ص: 65

والنرويج وشرق بروسيا.

وفضلاً عن هذا فإن جزائر آلند محصنة بحجب كثيفة من الضباب الذي يلفها طول العام فيصعب معه مهاجمتها، فإذا استولت امة على هذه الجزر أصبح لها السيادة على شبه الجزيرة (اسكاندينافيا) وأقاليم بحر البلطيق. ومن اليسير أن تصبح الزاوية المؤلفة من روسيا الغربية واسكاندينافيا وشمال ألمانيا تحت سيطرة هذه الجزر القائمة وسطها، فتحل الدمار بتجارتها في بضعة أيام.

ومن هنا يسهل علينا أن نقدر القيمة التي لجزائر آلند في نظر السوفيت. ونعرف أن كل محاولات روسيا للاستيلاء على موانئ حرة على دول البلطيق وليتوانيا واستونيا لا قيمة لها بغير هذه الجزر

هل ينبغي لنا أن نكره الرذيلة

(ملخصة عن (ذي إيريان بات) بومباي)

كانت دهشتي عظيمة لحملة النقد الشديد التي ثارت منذ بضع سنين، حول تصريح سبر أوليفر لدج الذي قال فيه (إن الرجل الممتاز لا يهتم كثيراً بآثامه، في هذه الأيام)

فقد أثار هذا القول غضب رجال الكنائس على اختلاف مذاهبهم، وجعل الوعاظ يبذلون غاية جهدهم لتفنيده، وإقناع الناس بأن أول واجب على المسيحي هو أن يكره الرذيلة. وهذا مذهب طالما رددته الأوساط الدينية في السنين الغابرة، وهو راجع إلى ضعف طبعي في الإنسان. فقد كان الرجل المتدين يعتقد أن كراهية الرذيلة أسهل كثيراً عليه من حب الفضيلة. ولهذا المبدأ وجوه تختلف باختلاف الطوائف، وكان بعض رجال الدين يعتقدون انهم لا يستطيعون أن يعيشوا في مأمن من الرذيلة التي يكرهونها كل الكره، ويشفقون من الوقوع فيها، إلا بالعزلة والانفصال التام عن العالم.

والطبقة التي يعنيها سير أوليفر لودج بعبارته السابقة لها آراء خاصة في كراهة الرذيلة، فيقول بعضهم: إن الوصية التي تقول أحب جارك كما تحب نفسك. وهي إحدى الوصايا العشر المقدسة لا يمكن التوفيق بينها وبين كراهية الرذيلة. بل أن كره الرذيلة يجعل هذه الوصية في حكم المستحيلات. إذ أن الشعور بالعمل السيئ يسوقنا إلى كراهية فاعله الذي

ص: 66

قد يكون جاراً لنا. وهنا لا يمكن التوفيق بين الحب والكراهية.

إن كراهة الرذيلة والخوف منها يساعدان على بقائها. فنحن إذ نجعل من الرذيلة قوة فعالة في حياتنا تعمل على إحياء ما نريد أن نقتله ونقضي عليه، فإنما نخلق (لأهريمن) إله الشر تمثالاً خالداً، وان كنا نصنع هذا التمثال لنبصق عليه. إن النظر إلى الرذيلة أمر فعال في حياتنا، يجعل لشخصية الشيطان شأناً أي شأن في حياتنا اليومية.

كيف تنام نوماً هادئاً

(ملخصة عن (ذي سيكولجست))

الرجال بطبيعتهم أهدأ نوماً من النساء، فأعمالهم الكثيرة تساعدهم على النوم العميق، والرجل الذي ينهمك في الأعمال البدنية أياماً متوالية، ينام في العادة نوماً عميقاً، لما يبذله من الجهد الذي ينهك قواه، في حين لا يظهر بمثل ذلك الرجل الذي يلازم مكتبه طيلة النهار ولا تسمح له أعماله بالحركة والنشاط.

إلا أن المشاغل الفكرية التي تلازمنا في بعض الأحيان كثيراً ما تحرمنا لذة النوم. فإذا لم نتخذ وسيلة لإرقاد همومنا ونحن في وقت اليقظة، فسوف لا تبارحنا حتى تحرمنا الهدوء والراحة عند النوم. فمن الواجب إذن أن نعمل على ترويح النفس وإخلائها من مشاغلها إذا انتهى اليوم وذهبنا نلتمس الرقاد.

فإذا أمسى المساء وجب علينا أن نخلد إلى الراحة، ونأخذ في تصفية حساب اليوم فنعرض على الذهن حوادث اليوم من الصباح إلى المساء: هل كان يومنا يوماً مرضياً؟ إذا لم يكن كذلك، فما السبب؟ ما هو الخطأ الذي جعله كذلك؟ ماذا كان علينا أن نفعل لنوجهه نحو الصواب؟ فإذا آنست من نفسك ضعفاً ولو بسيطاً فيما تقوم به من الأعمال، وجب عليك أن تبحث عن الطريقة التي تساعدك على إزالة هذا الضعف، وتجعل كل همك أن تعرف متى يمكنك أن تقوم بأعمالك على الوجه الصحيح.

أما من الناحية الجسدية فيجب أن تعرف مقدار ما أديته لجسمك من الحقوق. هل كانت أعمالك الفكرية من الكثرة بحيث لا تترك الفرصة الكافية للجسد ليأخذ حقه من النشاط؟ إذا كان الأمر كذلك، فلابد من الموازنة بين حاجات الفكر والبدن، إذا أردت أن تنام نوماً

ص: 67

صحيحاً هادئاً.

أن متاعب الليل، هي أثر من متاعب النهار. فمن الواجب أن تتفحص حالتك العامة: هل هي متجهة إلى طريق الصواب من سائر الوجوه؟ هل يقوم جسمك وعقلك وعواطفك بما هو مطلوب منها؟ إذا لم يكن ذلك فإن هذا النقص الذي تراه في الواقع سيكون له أثره في أحلامك عند الرقاد.

من الواجب إذن أن تراقب نفسك مراقبة دقيقة إذا كنت لا تنام نوماً مريحاً، وتصرف عنك ما يشغلك في النهار لتستريح في المساء.

ماذا يربح كبار المؤلفين؟

(عن (استرليان ديجست))

ماذا يربح كبار المؤلفين؟ هذا سؤال لا نستطيع أن نجيب عنه على وجه التخصيص. ولكننا نستطيع بمراجعة الأرقام التي تنشر من آن لآخر، أن تعرف الشيء الكثير، فمن المعروف مثلاً أن سير جيمس باري خلف بعد موته 174. 000 من الجنيهات الإنجليزية، ويعد هذا المبلغ الكبير من أكثر ما عرف في مخلفات الكتاب الإنكليز. وإذا علمنا أن (باري) أسس مستشفى عظيما في فرنسا إبان الحرب العظمى، وأنه كان ينفق أموالاً طائلة في وجوه الإحسان، أمكننا أن نقدر الأرباح العظيمة التي كان يكسبها من أدبه الغزير. وترك الشاعر الإنجليزي المعروف رديارد كبلنج 155000 من الجنيهات.

ويقال إن شارلس دكنز العظيم ترك بعد موته 93. 000 من الجنيهات، وجورج مور 75. 000 جنيه، أما توماس هاردي فقد خلف 91. 000 جنيه، على وجه التحقيق.

فإذا اتجهنا إلى كل مؤلف وما أفاء على صاحبه من الأرباح، فنستطيع أن نقول أنه دفع (لهارفي ألن)، في حقوق طبع مؤلفه (كارثة أنطوان) في الأربعة الأعوام الأولى من صدوره 40. 000 من الجنيهات لكل عام، ويعد هذا المبلغ من أكبر ما ربحه مؤلف من كتاب واحد، وربح (باري) من قصة (الوزير الصغير) 50. 000 جنيه، وأعطى لماري كورللي 20. 000 من الجنيهات في إحدى قصصها المعروفة، ودفع إلى (إليس مجان رايس) 20. 000 من الجنيهات في قصة مؤلفة من 20. 000 كلمة بمعدل جنيه للكلمة

ص: 68

الواحدة. وألف رديارد كبلنج ثماني أقاصيص، فدفع إليه في كل منها 240 جنيه للطبعة الإنجليزية، وعلى هذه النسبة نستطيع أن نقدر لهذه القصص 8. 000 من الجنيهات للطبع في أنحاء العالم التي يقرأ فيها هذا المؤلف المشهور، ودفع إلى كنلنج 5000 من الجنيهات في حقوق طبع (كم) في إنجلترا وأمريكا، ودفعت إليه مجلة (كولير) الأسبوعية مبلغ 200 جنيه في قصيدة واحدة.

أما بين المؤلفين الأحياء، فقد قدر ربح (سومرست مرجام)1. 000 جنيه في قصة من نوع القصص الصغيرة وبلغت أرباح (ماك نيل) في مؤلفاته الموسومة باسم (بول دج دموند) 100. 000 من الجنيهات في سبعة عشر عاماً. وبلغت أرباح (بيفرلي نيكولس)25. 000 من الجنيهات في بضعة مؤلفات عن كوخه وحديقته في هانتنجدن.

وبلغت أرباح لورد مورلي من كتاب (حياة جلادستون)10. 000، وربح ونستون تشرشل 8000 جنيه في كتاب عن حياة أبيه. وقد بلغت أرباح كل من (درويك ديبنج) و (أ. أ. ميلن) في العام 30. 000 من الجنيهات.

وقد فتحت (هوليود) باباً جديداً للربح لكبار المؤلفين وتتراوح المبالغ التي تدفع لحقوق إخراج مؤلف من المؤلفات للسينما من 1500 جنيه إلى 15. 000 جنيه، وقد تزيد على ذلك في بعض الأحيان. فقد دفع مثلاً في (وودسورث)32. 000 جنيه. وفي قصة (منظر في شارع)25. 000 من الجنيهات.

ص: 69

‌البريد الأدبي

مناقلة ومثاقفة

هذان لفظان أستخرجهما من لغتنا الزاخرة بالمفردات والتعبيرات لأدل بهما على ما يقال له (المناظرة).

والمناقلة في المنطق أن تحدثه ويحدثك، كما جاء في (القاموس) مادة ن ق ل؛ وتجد اللفظة أيضاً في (المخصص) ج2 ص129. وقد استعمل الجاحظ هذا الحرف في رسالته الظريفة (التربيع والتدوير) (مجموعة رسائل، مصر 1324 ص107) إذ قال: (ولو ظهر لما سألته كسؤالي إياك، ولما ناقلته الكلام كمناقلتي لك). وأما المثاقفة فقد استعملها التوحيدي في (الإمتاع والمؤانسة) ص9 حيث قال: (فلعل هذه المثاقفة تبقى وتروى)؛ وشرحها ناشراً الكتاب هكذا: (المثاقفة: المطارحة في العلم والأدب ومذاكرتهما). والمثاقفة حرف حقيق بالحفاوة لهذا العهد، أفلا نستعمل كلمة الثقافة لذلك الجمع من ألوان الأدب وصنوف العلوم وضروب الفنون؟

وأما الذي يحدوني إلى عرض ذينك اللفظين بدلاً من (المناظرة) فانزلاق هذه، على أقلام المتعالين وصغار الكتبة، إلى المهاترة: تأخذهم بالحجة أخذ عزيز متمكن، فتدور رؤوسهم وتزلزل أقلامهم، فيفزعون من الجدل إلى الثلب. فإذا الذي يكتبونه يذكرك بقول ابن شبرمة:(ذهب العلم إلا غبارات في أوعية سوء). غير أننا صرنا - ولله الحمد - إلى عهد لا تفصل فيه سلاطة اللسان ساعة إفلات البرهان.

وإني ليحلو لي أن أثاقف أشراف الرجال وأناقل أثبات العلماء وأكابر الأدباء. وقديماُ ثاقفت المازل في (السياسة والأدب)، وناقلت بعد ذلك الأدب الكرملي والشيخ البشري، ثم الزكيين: مبارك وطليمات. واليوم أناقل (أستاذاً جليلاً) عالماً ثقة. ومما يورث الأسف اني لا أقوى على بث اسمه، وهو اسم عريض الجاه وضاح الحسب. لا أقوى على بثه لأن صاحبه يريد أن يكتمه من الناس تواضعاً؛ فتارة يوقع مقاله هكذا:(ن)، وأخرى هكذا:(القارئ) أو (أزهري (طنطا)). على أن قراء (الرسالة) يعرفون من وراء تلك الرموز.

علق (أزهري (طنطا)) في العدد الماضي من (الرسالة) على مقال كنت نشرته في (الثقافة)(العدد الـ 56) جاء فيه أن أصحاب المعجمات ربما أثبتوا لفظاً في غير مظنته. فأضاف

ص: 70

العالم المتواضع إلى الأمثال التي كنت أوردتها مثلاً آخر هو كلمة (تكتم)، ثم ختم مقالته بأمنية تشغل صدور العرب والمشتغلين بالعربية.

وإني متبع تلك الأمثال بمثل جديد، وإليك قصته: كنت استعملت في توطئة (مفرق الطريق) هذه الكلمة: (متمثلات). فجاءني صديق بصير بمفردات اللغة وأنكر على الكلمة فقال: أنها لم ترد في المعجمات، وإنما التمثل - كما جاء في القاموس ولسان العرب - هو اتخاذ الحديث أو الحجة مثلاً، ثم إنشاد البيت، ثم الاقتصاص. وزاد الصديق أن الصواب هو (الامتثال)، من قولهم:(مثله له تمثيلاً: صوره له حتى كأنه ينظر أليه، وامتثله هو: تصوره). فقلت للصديق: ولكني أكره (امتثال الشيء) في هذا الموضع، لأن الامتثال غلب عليه معنى الإذعان و (اتباع الطريقة)؛ ثم هذا نص بين يدي في جانبي: قال الخوارزمي في (مفاتيح العلوم)(مصر 1324 ص92): (يقال تصورتَ الشيء إذا تعمدت تصويره في نفسك، وتمثلته وتخيلته) فقال الصديق - وهو من المتشددين - وهل يستشهد بالخوارزمي؟ فقلت: لك رأيك ولي رأي.

واليوم أخبر هذا الصديق أني عثرت - من باب الاتفاق - على (تمثل الشيء) في مادة وهم من (لسان العرب): (توهم الشيء: تخيله وتمثله كان في الوجود أو لم يكن). ولم أجد هذا في (القاموس)، غير أنك تجد عبارة (اللسان) في مستدرك (تاج العروس) مادة وهـ م.

رجع

وأما قصة (الزلزلة) فلقد فر الكاتب، في عدد الرسالة الماضي، من ميدان المناقلة والمثاقفة إلى ميدان التطاول باللفظ وحده. فقد كنت بصرت الكاتب، في مقالي السابق، وبين يدي الشواهد النواهض، بأمور ثلاثة: الأول أن بحر (المنطلق) ليس من مجزوء (المتدارك) كما وهم أول الأمر، متبعاً وهم غيره؛ فلم ينطق ههنا بكلمة واحدة. والأمر الثاني أن الزلزلة في اللغة ليست بمقصورة على زلزلة الأرض كما وهم أيضاً، إذ هي تفيد الاضطراب والتحرك أول ما تفيد؛ فلم يقو على العناد لأن أحداً من الناس لا يستطيع رد القرآن. والأمر الثالث أن الزلزلة والطرب على مجاورة في لغتنا؛ فلم يقدر على المكابرة لأن أسلوب صاحب (الأغاني) وغيره من البلغاء فوقها، بل جلب إلي شاهداً آخر يعزز قولي (المغنية التي (زلزلت قلوباً))

ص: 71

وعلى هذا فقد سلم الكاتب، مرغماً، باني بصرته بما كان يجهل، في ثلاثة مواطن. غير أني أريد أن أنصف القارئ: فقد تشبث الكاتب - بعد تسليمه ذلك - بدليل فريد، لعله أن ينفي به زلزلة الأذن، أي اضطرابها وتحركها، (ومن يتلمس الخطأ لغيره لابد له أن يتشبث بشيء). فقال غير مزلزل القلم: إن أذن الإنسان - من بين جميع الحيوان - لا تتحرك البتة. وهنا أعود إلى تبصير الكاتب بما تواضع الناس على تلقنه وقبوله. فحسبه ما جاء في كتاب قررت وزارة المعارف المصرية استعماله بمدارسها، وعنوانه:(خلاصة الطبيعة - الجزء الرابع: في الصوت) الطبعة الـ 14، مصر 1930، ص125:(شرح عمل الأذن: عند حدوث صوت بالقرب من الأُذن تنقل التموجات الهوائية داخل الأُذن الخارجة وتؤثر في غشاء الطبلة فتهتز بحركة مماثلة لحركة مصدر الصوت، لأن شكل ذلك الغشاء وقوة توتره يمكنانه من الاهتزاز بتأثير أي صوت خارجي). إن الكاتب يظن أن كل الأُذن - وهي جهاز السمع - هو ما يراه إذا نظر إلى مرآته - إلا أن في هذا التبصير الجديد الكفاية. وهل تبصر الخلق ببسائط لغتهم ثم بمبادئ العلوم إلا على جهة التسلي والتلهي؟

تشبث الكاتب بهذا الدليل الفريد - وقد عرفت بطلانه - بعد أن سلم بصحة قولي في الأمور الثلاثة التي كان نازعني فيها. على أن تسليمه بأني بصرته بما كان يجهل أوغر صدره، فنثر حول قهره ما نثر من نفاية الكلام؛ وذلك نتركه له، فليتطوق! فكل يتزين بما تملك يده، و (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها).

بشر فارس

الدكتور عبد الوهاب عزام

قصدت (القاهرة) في هذا الأسبوع، واشتريت نسخة من (رحلات) العلامة النابغة الدكتور عبد الوهاب عزام أستاذ جامعة فؤاد الأول. وقد رآني أحد خلصاني من أئمة الفضل من الشاميين أحرث مرقومها مستهدياً مستفيداً. فقال لي: ما هذا الكتاب؟

قلت: (رحلات) عبد الوهاب عزام

فقال: اسمع يا شيخ، أيقن أن (مصركم) هذه لم تفضل سائر الأقاليم العربية أنها أكثر منهن عدداً، ومالاً، وعلم أشياء وحضارة في انحاء، وشبه نظام. ولكنها فضلتهن، وتاهت عليهن

ص: 72

- وحق لها أن تتيه - بمثل عبد الوهاب عزام. . .

سمعت هذا الكلام في (مصر وعزام)، فكتبته حتى ينتشر في مجلة أخيه أحمد حسن الزيات.

(طنطا)

أزهري

فلم (يوم سعيد)

في اعتقادي أن هذا الفلم أبلغ أفلام عبد الوهاب صعوداً في مراقي الكمال. أنه في صميم الفن من حيث التأليف والإخراج والتلحين والتمثيل والحوار. ولعله الفلم الوحيد الذي لا يخزي المصري أن يعرض في غير مصر، لجاذبية سياقه واطراد حوادثه وسلامة لغته وجمال مناظره وبراعة أدائه. ولقد كانت أفلام عبد الوهاب تعتمد في تعويض الفن فيها على حلاوة صوته وطرافة تلحينه. أما هذا الفلم فإذا جردته من قوة الغناء بقى قائماً على فنه. وقد دل على أن الأستاذ محمد كريم أول المخرجين، وأن الأستاذ عبد الوهاب من أوائل الممثلين. وإذا قارنت بين هذا الفلم وبين ما تنتجه الشركات المصرية من الأفلام الملفقة التي تقوم على الشخصيات المهرجة واللهجات الشاذة ازداد يقينك بأننا لا نزال ننجح أفراداً ونفشل جماعة!

الزيات

في المجمع اللغوي

تأجل اجتماع مجمع فؤاد الأول للغة العربية هذا العام لتعذر حضور الأعضاء الشرقيين والمستشرقين بسبب الحالة الدولية. وقد اقتصر المجمع على متابعة العمل في المعجمات واللجان المختلفة. وتتجه الفكرة الآن إلى تعديل تكوين المجمع تعديلاً يتيسر به الاجتماع بأعضاء مصريين ليتابع عمله طول العام.

وينتظر أن يعرض التعديل الجديد على مجلس الوزراء تمهيداً لاستصدار المرسوم الملكي به. والمظنون أنه سيضاف إلى أعضاء المجمع المصريين نحو عشرة أعضاء ينتخبون من

ص: 73

كبار المشتغلين بالبحوث العلمية. وستعلن أسماؤهم بعد صدور المرسوم الملكي تمهيداً لعقد دورة المجمع. وربما عقدت هذه الدورة في أواخر شهر مارس المقبل.

العقيدة الأدبية

صديقي

إليك أقدم تحية الأخوة وإن لم أرك، فقد تفضل أخونا الزيات وأطلعني على رسالتين كريمتين خطتهما يمناك، ومن قبل ذلك قدم إلي طوائف من الرسائل شهدت بأني موصول القلب بإخوان كرام أوفياء يرون الصداقة الروحية أعظم وأصدق من الصداقة التي تخلقها المنافع أو لطف الحديث.

ولن يطول الحجاب بيني وبينك، أيها الصديق، فقد اتفقت مع الأستاذ الزيات على إعلان عواطف القراء من حين إلى حين، فيرى قراء الرسالة أسماء كريمة لرفاق أعزاء تجمع بينهم الأخوة في الأدب، كما تجمع أخوة الدين بين الأتقياء والصالحين.

ولا أكتمك، أيها الصديق، أني أتندر على حسابك مع الأستاذ الزيات، فعهدي بك تنص على أنك تحبه كما تحبني، وهذا تلطف يستحق التشجيع، لأن الزيات من اعز أصدقائي، وهو أيضاً رسولك إليّ، والمحب يتلطف مع الرسول!

أنا أعرف منزلتي عندك، أيها الصديق، والزيات يعرف أني عندك الحبيب الأول، فلا بأس عليك إن تجاهلته حين تعلن إعجابك بأسلوب، فقد يكون الزيات - أطال الله في حياته - آخر من يقبل التضحية بحظه من أجل الصديق.

ثم ماذا؟

أريد أن أغتنم الفرصة الذهبية التي جمعت بين قلبي وقلبك، وإن لم أرك، فأفضي إليك بحديث ينفعني وينفعك في الأيام المقبلات

فمن أنت في دنياك؟

يظهر مما قرأت لك انك تريد أن تكون كاتباً يسيطر على قراء اللغة العربية في المشرق والمغرب، ويملك القدرة على تحويل الناس من ضلال إلى هدى أو من هدى إلى ضلال.

وأنا حاضر لإرشادك، أيها الصديق، فما يسرني أن أتفرد بمحنة الأدب والبيان، فهل تعرف جوهر النصح الذي أقدمه إليك؟

ص: 74

إن أساتذتك علموك أشياء ترجع في جملتها إلى فهم علوم اللغة العربية من نحو وصرف ومعان وبيان وبديع وعروض، وهي علوم نفيسة جداً، ولكنها لم تصل بأصحابها إلى شيء، فقد كنت لعهد التلمذة أكتب لأساتذتي ما يريدون توجيهه إلى الرؤساء والوزراء، ولو شئت لقلت إني أديت امتحانات أمام أساتذة فضلاء لم تكن دروسهم إلا قبساً مما جاد به قلمي على أولئك الأساتذة الفضلاء. فما هو سر البيان الذي أريد أن أفضي به إليك؟

هو العقيدة الأدبية، هو العقيدة الأدبية، هو العقيدة الأدبية

ولن تكون كاتباً ولا شاعراً ولا خطيباً بدون تلك العقيدة وإن كنت أعرف الناس بالدقائق من علوم اللغة العربية!

فما هي تلك العقيدة؟ هي روحك، أيها الصديق، ولا قيمة لأديب يعيش بدون روح!

الأدب في جوهره صورة من الروح الشفاف الذي ترتسم عليه صور الوجود، فإن كان لك روح، فأنت أديب، وإلا فأنت نسخة ثانية من الشيخ فلان الذي لا يعرف من الأدب غير قواعد النحو والتصريف.

العقيدة الأدبية هي أن تغار على الأدب، كما يغار رجال الدين على الدين. فأين أنت من تلك العقيدة، أيها الصديق؟

أنت تعرف أن في الدنيا ناساً عانوا أبشع ضروب الاضطهاد بسبب التمسك بعقائدهم الدينية، ومذاهبهم السياسية، فأين أنت من أولئك وهؤلاء؟ وما الذي أعددت من ضروب التضحية في سبيل الأدب، وهو غذاء قلبك وروحك؟

إن الأديب الحق يحدثك عن نفسك بما تجهل من شؤون نفسك. فما جزاؤه عندك وهو يستكشف الخفايا من ضميرك وروحك؟

ما جزاؤه عندك وهو يشقى لتسعد، ويموت لتعيش؟

أنا أعرف جزاء الأديب عندك، أيها الصديق، فأنت خصصتني بكلمات طيبات أرهفت حسي وأذكت بياني، وسأذكرها بالخير ما حييت. ولكن، ما الذي يمنع من أن تتقدم لمعاونتي على ما أحمل من أعباء؟

أتقول: إن الزيات لا يستجيب لندائك في كل وقت؟

إن كان ذلك، فقدم إلي ما يهمك نشره لأحتال في عرضه على القراء بأسلوب يرضيهم

ص: 75

ويرضيك، إلى أن تعرف كيف تفرض رأيك وأسلوبك على أولئك القراء!

وتقول انك بكيت ما طاب لك البكاء حين قرأت مقال أحد الكتاب عن (نميمة الأسلوب) وأنا بكيت كما بكيت، ولكن فاتك أن تعرف أن ذلك الكاتب لم يشجك ولم يشجني إلا لأنه تحدث عن قلبه بأسلوب صريح يجب أن أتحدث به عن قلبي أو تتحدث به عن قلبك، وهنا تظهر قيمة العقيدة الأدبية، إن كانت تهمك في كثير أو قليل.

صديقي:

ما أحب أن أطيل القول في مخاطبتك، فأنت تعرف عن نفسك أكثر ما أعرف، وإنما يهمني أن تدرك جيداً أن قلبي معك وأنه لم يقد من الصخور والجلاميد حتى يجهل القيمة الذاتية لعطفك عليه بلا مواربة ولا رياء.

وسيأتي يوم يكون فيه للقلم دولة، وفي ذلك اليوم وهو قريب تعرف فضل روحك في إذكاء المشاعر والعواطف والقلوب.

فإن فاتك أن تكتب كما أكتب وكما يكتب الزيات فلن يفوتك أن تكون من أهل القدرة على تأريث جذوة الأحاسيس.

ومن أنا؟ ومن الزيات؟ ومن الكتاب المصطفون عندك؟

نحن قوم كوتنا صروف الأيام والليالي، فإن اكتوت يدك كما اكتوت أيدينا فستملك من السيطرة على القراء أكثر مما نملك وقد يلقاك الدهر بأفضل وأجمل مما يلقانا، وهو عندنا غادر جحود

قد عيب علينا، يا صديقي، أن نشكو الدهر ونحن في سعة من العيش، وسيرتقي ذوقك فتدرك أن الخواص لا يشكون جوع البطون، وإنما يشكون جوع القلوب.

وآه ثم آه من جوع القلوب!!

زكي مبارك

رأي الأستاذ النشاشيبي في نهج البلاغة

سيدي الأستاذ صاحب (الرسالة الهادية)

الرجاء أن تتكرموا بنشر ما في أضعاف كتابي علامة العربية وأديبها العبقري الأستاذ

ص: 76

الجليل (محمد إسعاف النشاشيبي): (الإسلام الصحيح، وكلمة في اللغة العربية) مما يخص (نهج البلاغة). فإن الكتاب الأول ممنوع في العراق (؟!!) - كما يعلم الأستاذ الجليل بالطبع - والكتاب الثاني أندر من رائد الحقيقة في هذا الزمان. . .

وذلك رغبة وشوقاً - والرغبة هنا ملحة، والشوق أكيد لما نعرف من فضل أستاذنا الجليل النشاشيبي وعلمه وخطره، أطال الله بقاءه ونفعنا به - إلى أن نقرأ مقال أستاذ البلاغة في (نهج البلاغة)

مشكور الأسدي

عضو جمعية الرابطة العلمية الأدبية في النجف الأشرف

(الرسالة): الكتابان منشوران مشهوران يباعان في مكاتب القاهرة، ولم يقع في علمنا أن حكومة العراق منعت كتاب (الإسلام الصحيح)

ص: 77

‌رسالة النقد

طب العقل والنفس

تأليف الدكتور محمد حسني ولاية

للدكتور إسماعيل أحمد أدهم

الطبيب محمد حسني ولاية من أطباء صحة بلدية الإسكندرية أديب شاب يشارف الثلاثين، متخصص في طب المناطق الحارة والصحة العامة. قضى مدة في مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية دارساً، فاسترعى انتباهه أحوال المصابين بأمراض عقلية واضطرابات نفسية، فكان له من ذلك حافز نفسي على دراسة الجنون دراسة علمية من جانبيها النظري والعملي. وكان ثمرة هذه الدراسة كتابه (بين العقل والجنون) الذي أصدره لعامين مضيا. وهو اليوم قد أخرج للناس كتاباً جديداً عنوانه (طب العقل والنفس) وهو ثمرة دراسة نظرية للأمراض العقلية والاضطرابات النفسية، اعتمد فيها على آراء علماء مدرسة التحليل النفسي، وبالأخص فرويد وأرلد ويونج. ويكاد يكون الكتاب في المجموع تلخيصاً لآراء هؤلاء، أو ترجمة لبعض الفصول التي عقدوها عن الجنون والاضطرابات النفسية ومسائل العقل والوجدان والنفس. فمن هنا للكاتب أساس وثيق بآراء زعماء مدرسة التحليل النفسي وهو يقف عند حدود آرائهم فلا يتجاوزها في شيء إلى آراء المدرسة المسلكية، أو النموذجية الألمانية، أو الميكانيكية الروسية في هذه الشؤون.

واعتماد المؤلف في دراسته للموضوع على بضعة مراجع محدودة لزعماء مدرسة التحليل النفسي أبعدت بينه وبين تكوين فكرة واضحة بينة الخطوط ظاهرة المعالم عن الموضوع، فكان من ذلك الاضطراب في تناول بعض الموضوعات (لا كلها). كما هو ملحوظ في فصل (الحب المتجانس عند المرأة) وفصل (اللاوعي). وهذا الاضطراب قد يبدو أكثر وضوحاً إذا لاحظنا أن المؤلف مثلاً لم يعتمد بالنسبة لفرويد وهو رأس مدرسة التحليل النفسي، إلا على مصدرين: أحدهما منتخبات من آثاره، والأخر مذكرات ورسائل له. وهذا أبعد الكتاب عن الوحدة المطلوبة في الكتب، ومن هنا جاءت فصول الكتاب غير متجانسة، فهذا فصل عن فرويد وأخر عن ارلد وبين هذا وذاك فصل ليونج، وهي بعد ذلك تتناول

ص: 78

موضوعاً واحداً، وهذا لا يجعل إمكاناً لأن يخرج الإنسان بفكرة واضحة عن مواطن الاختلاف ومواضع الاتفاق بين هؤلاء الزعماء الثلاثة لمدرسة التحليل النفسي في المسألة الواحدة. ثم هنالك بعض الاصطلاحات جانب المؤلف فيها المأثور من ذلك استعماله وكأنها تنظر إلى جنس والصحيح أن اللفظ العربي الذي ينظر إليه المصطلح الإفرنجي هو (شق) كما رأى الدكتور محمد بك شرف وجاراه في ذلك المشتغلون بالمباحث العلمية في العالم العربي. ثم عندك استعمال البدوات ناظرة إلى والصحيح - الأوهام - كما قلنا في دراساتنا عن مطران وكذلك استعمال الغرض حيناً والموضوع أحياناً ناظرة إلى والصحيح الوجه الثاني. ثم ترجمة بالعرفي الصحيح والأدبي بالمنتشر والصحيح أن يقال المحتد كما رأى ذلك مظهر سعيد.

كذلك عما يؤخذ على اللغة الاصطلاحية للكتاب فإن المؤلف يقول نفساني ومعلوم أن النسبة تقاس من فعل على وزن فعلي فيقال عقلي من عقل وآدمي من آدم ونفسي من نفس. على انك بعد ذلك تصيب بعض مصطلحات إفرنجية أصاب المؤلف في العثور على المقابل العربي لها، من ذلك استعماله المنضوي مقابلاً لـ وهو أدق من لفظة المنكمش التي استعملها مظهر سعيد

وفي الكتاب مطالعات جديرة بالنظر للمؤلف، تجدها على وجه خاص في بحثه عن أسباب الأمراض العقلية، وهي مطالعات لم يسبقه إلى بعضها أحد. كما تجد في الكتاب آراء ومطالعات تحتمل المناقشة، خصوصاً فيما يذكره يونج عن الزواج التجريبي الذي دعا إليه القاضي وفيما يقدره هو عن العلاقات (الجنسية) التي توجد بين الطلبة.

على أنه بعد ذلك على الرغم من هذه المآخذ، فالكتاب جدير بالنظر والمطالعة فهو يحوي في تضاعيفه مطالعات قيمة عن الحياة النفسية والشعورية وعن الاضطرابات التي تستولي على النفس البشرية، يستفيد منها الإنسان في حياته اليومية، كما يستفيد منها الأديب والعالم في حياتهما الأدبية والعلمية، ومن هنا فالكتاب يشكر عليه صاحبه للمجهود المبذول فيه، وهو خليق بعد بالتشجيع.

(الإسكندرية)

إسماعيل أحمد أدهم

ص: 79

‌2 - وحي الرسالة

(من واجب (الرسالة) أن تنشر ما يتفضل به عليها الأدباء

الزملاء والأصدقاء من صادق النقد وجميل الرأي في كتاب

(وحي الرسالة) تسجيلا للفضل منهم وللشكر منا)

كتب صديقنا الدكتور بشر فارس في جريدة المقطم:

هذا كتاب يريحنا مما يخرجه بعض المنشئين لهذا العهد، وهم لا يفطنون إلى أن الكتابة صناعة. في فصول هذا الكتاب تصيب المنحى الحسن، والتنسيق المطرد، ثم اللفظ المتخير، والسبك المحكم إلى جانب التبصر. وأسلوب الأستاذ الزيات الترسل في بسط العبارة، والترفق في تدوين الفكرة. ويهدد هذا الأسلوب في غالب الأمر سرد الألفاظ، وتكلف الأداء. وقد نجا أسلوب هذا الكتاب من هذين الخطرين بفضل سليقة صاحبه السليمة وترسمه خطى البلغاء من كتاب العرب الجاعلين للديباجة المكان الأول. ومما ينشأ عن هذا الأسلوب الإطناب المقبول، وإن قال الأستاذ في فاتحة كتابه إن الإيجاز صفته، إلا إذا عنى بالإطناب ساقط الكلام وفضول القول بتطويل وحشو لغير فائدة

وموضوعات الكتاب إن هي إلا معرض ألوان شتى من التأليف: إنشاء ونقد ووصف ونظر في الحياة الجارية، فمن الإنشاء (لماذا ترجمت آلام فرتر) وفيه هفوة القلب ونبضة العرق، ومن النقد (مصطفى صادق الرافعي) و (أحمد زكي باشا) وفيهما تبرز خصائص الكاتبين في اعتدال إذ تذكر مواضع الإكبار ومواطن الأخذ جنباً لجنب. ومن الوصف ما ينساب هنا وهنا من تصوير لطرق المدينة وحقول الريف وشواطئ البحر وضفاف النيل. ومن النظر في الحياة الجارية تلك المقالات الرصينة مثل (داء الوظيفة) و (الفردية علتنا الأصلية) (وهنا أوثر كلمة التفرد كما بينت في (مباحث عربية)) والزيات في هذه المقالات لاذع القلم نافذ البصر: إنما بغيته التنبيه على جوانب الضعف الخلقي والتنديد بنواحي الفشل الاجتماعي، وكتابة الأستاذ هنا لا تنجذب إلى الأسلوب الفلسفي المجرد ولكنها كتابة مصلح يصف الداء المقيم ويبين آثاره وعقابيله.

وفي تلك الموضوعات، على تنوعها، تطاوع اللغة الكاتب وتتأنى له ألفاظها وتعبيراتها

ص: 81

المتواترة، وذلك لأن الزيات يعرف كيف يستخرج المخبآت وينقب عن الدقائق. وهو إلى هذا التضلع من أساليب القدماء يكره التشدد والتنطع، حتى أنك تراه يستعمل اللفظة الأعجمية على وجهها إذا تطلبها السياق. من ذلك لفظة (الإيديال) ص46 و (المثل الأعلى) و (التاكسي) ص468 و (الفترينات والصالات) ص479. واكبر الظن أنه يرقب من مجمع اللغة العربية أن يعالج مثل هذه الألفاظ، وإني لأخشى أن تطول رقابته.

إن (وحي الرسالة) مجموعة مختارة مما سطره الأستاذ الزيات في مجلة (الرسالة)، وهذه المجلة تستقبل سنتها الثامنة. و (الرسالة) في صدارة المجلات العربية لهذا العهد. ومما تمتاز به أنها معترك الحركة الأدبية: من وجه تسجل مجرى الأدب، ومن وجه تعرض المستحدث منه، فخطتها الركز والوثب معاً. ومن هنا ما فيها من التلون. وآفة المجلات أن يركد ماء وجهها. فمن وراء ذلك الشحوب فالزوال. ويعين على ذلك التلون أن أقلام كتاب الرسالة متغايرة في التثقف والمضاء، وإن فيها أبواباً ساكنة وأخرى مائجة. وربما وضعت هذه الأشياء مواضعها في بلد يكثر فيه الاضطراب ويصول الهوى

بشر فارس

وقالت زميلتنا الدستور:

الأستاذ أحمد حسن الزيات كاتب تسمو عبارته على النقد، ويرتفع سياقه إلى مرتبة الإعجاز، وتتصل بلاغته بالقلوب لدقته ورصانة نسجه وسمة الصدق المتجلية في عبارته. وقد أصدر حضرته مجلة (الرسالة) منذ سبع سنوات؛ وألف أن يصدرها كل أسبوع بمقالة من وحي خاطره وفيض بيانه، حتى اجتمعت له باقة من هذه المقالات متخيرة الألفاظ متسامية الطراز، تتيه ببراعة أسلوبها دولة الكتاب وترنو إلى إعجازها أعين الأدباء.

وسنعود إلى عرض بيان الأستاذ الزيات في صفحة الدستور الأدبية المقبلة.

وقد احسن الأستاذ الزيات إذ جمعها في كتاب سماه (وحي الرسالة) ونشره في مطلع العام الجديد مورداً عذباً للأدب والأدباء ومشرعاً سائغاً لطلاب اللذة والمتاع الروحي والفائدة في كل باب. . .

وقالت زميلتنا البلاغ:

يطالع الكاتب الكبير الأستاذ أحمد حسن الزيات قراءه العديدين في مجلته (الرسالة)

ص: 82

بافتتاحياته الممتعة التي تعتبر مثالاً عالياً في حسن الأسلوب وفي تخير الموضوع ودقة التعبير عن الفكرة؛ وقد تابعوه سبع سنين ينتظرون بلهف ما تدبجه براعته سواء في الأدب أو في النقد أو في السياسة أو في الاجتماع أو في تحليل الشخصيات، فيكون على الدوام عند حسن عقيدتهم فيه؛ براعة تفكير، ومتانة أسلوب، وسرعة نفاذ إلى القلوب

وقد تخير الأستاذ الزيات فصولاً مما كتبه للرسالة في ست سنين وجمعها بين دفتي كتاب واحد سماه (وحي الرسالة) وأصدر المجلد الأول منه في هذا الأسبوع في طبع أنيق وورق مصقول، فجاءت هذه الفصول كما قال في مقدمتها: متسمة بالصدق وإن كتبت عفو الخاطر ومجاراة المناسبة

ولاشك أننا في غنى عن أن نقدم (وحي الرسالة) إلى القراء فالأستاذ الزيات في غنى عن كل تقريظ وإنما يقرظه أدبه وأسلوبه وسعة اطلاعه؛ ويكفي أن نقول أن كل قارئ مثقف لا غنى له عن مطالعة هذه الفصول الممتعة مما كتبه الأستاذ الزيات

0

2

ص: 83