الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 347
- بتاريخ: 26 - 02 - 1940
من بريد الرسالة
على غير انتظار ولا توقع وجدت اليوم في بريد الرسالة كتاباً من السيدة حياة. والذين كانوا يقرءون جريدة (الليبرتيه) على عهد ليون كاسترو، أو مجلة الرسالة في عامها الأول، لا يزالون يذكرون ولاشك هذا الاسم الجميل وذلك الأسلوب الساحر وتلك القريحة النسوية الصافية التي تخلق من الشعر والمنطق صوراً من الفكر الرصين البارع
ذلك الكتاب كذينك الكتابين وردي الغلاف أنيق الخط مصري الروح فرنسي اللغة؛ ولكنه يختلف عنهما بمعان من المحافظة والاعتدال لعلهما رجع المبالغة والإسراف في حياة المرأة المصرية الحديثة
لا أحب أن أفقدك شيئاً من جمال هذا الكتاب بتلخيصه أو اقتضابه، فإنه
في ذاته وحدة من البيان الصريح والقول الشارح لا تقبل توطئة ولا
تجزئة. فأنا أترجمه إليك ترجمة لا تخالف الأصل إلا في اللفظ؛ أما
تأليف الجملة، وتنسيق الفكرة، وتلوين الصورة، فذلك كله لفن الكاتبة.
وإذا علمت أن السيدة حياة إنما تكتب بروح عربية وطبيعة مصرية،
سهل عليك أن تدرك سر هذا الائتلاف العجيب بين العربية والفرنسية
في قلمها المبدع
أستاذي العزيز
مازلت أوثر أن أكتب إليك بالفرنسية على الرغم من بلوغي في البيان العربي بفضل الرسالة مكانة لا بأس بها. وسبب هذا الإيثار أن المرء يميل بطبعه إلى جهة القدرة لا إلى جهة العجز، ويؤثر بغريزته جانب الكمال على جانب النقص. ولغتي العربية لا تزال عاجزة عن رياضة هذا القلم في يدي، فإذا كتبت بها إليك أهملت ما أكتب فتسيء إليّ، أو أعملت فيه قلمك فتزوره علي. وأنا كأكثر النساء مستكبرة أنوفة، فلا أحب أن أكون من الرجل في موضع الإهمال أو المعونة
أكتب إليك في صباح ليلة ساهرة ثائرة تقسمت مشاهدها العجيبة خواطري ومشاعري، فكأنني لم أشهد قبلها ليلة! والحق أن ليلة (مبرة محمد علي) في هذا العام كانت بدعاً في
نظامها وبرنامجها والاحتفال بها والإقبال عليها والديمقراطية فيها
لقد كان قصر المعرض بالجزيرة معرضاً حقيقياً لمجتمعنا الحديث. فالأميرات والعقيلات والآنسات والممثلات يصاحبهن أو يراقصهن أو يجاورهن الأمراء والكبراء والموظفون ورجال الفن؛ وكلهم على النمط الغربي الرفيع في أناقة الزي ورشاقة الحركة وأسلوب التحية ومراعاة الرسوم وإجادة الرقص، حتى خيل إلي أن الحفلة في (الجران باليه) بباريس لا في السراي الكبرى بالقاهرة
كنت أتنقل أنا وزوجي من مقعد إلى مقعد، ومن مشهد إلى مشهد، في مسرح اللهو، وفي حلقة الرقص، وفي المقصف، وفي (القهوة البلدية)، فأجد أخلاطاً من الناس يشتركون في المظهر، ولكنك تستطيع أن ترجعهم إلى بيئاتهم المختلفة من طريق الهندام ولهجة الكلام واختلاف الوضع. يسهل ذلك التمييز في الرجال ويصعب كل الصعوبة في النساء؛ لأن المرأة بفضل السينما والرياضة استطاعت أن تشأي الرجل في مضمار المدنية الغربية، فهي في إتقان زينتها وفستان سهرتها وانسجام سمتها لا تكاد تختلف عن كواكب هوليود؛ أما هو فبطيء التطور عصي الطبع لا يغشى أمثال هذه الحفلات إلا مسوقاً بإرادة زوجته أو ابنته
لعلك تذكر أني كتبت إليك منذ خمس سنوات كتاباً قلت فيه عن حرية المرأة إنها مسألة لا تتعلق إلا بنا، ولا يكون الحكم فيها إلا لنا؛ وما دخول الرجل فيها إلا أثر من اعتقاده القديم أن في يده زمام هذا الجنس المنكوب يرخيه ويشده على هواه، والأمر لا يخرج عن كونه نظاماً طبيعياً يجري على سنة الحياة من سيطرة القوة على الضعف، وطغيان الأثرة الباغية على العدل الذليل. فحرية المرأة كحرية الأمة، سبيلهما الفعل وحجتهما القوة؛ أما الدفاع بالقول والإقناع بالحق فأصوات مبهمة كزفيف الريح المحبوسة في مخارم الجبل لا تدل على الطريق ولا تساعد على الفرج
قلت ذلك وما كان يهجس في صدري أن المرأة في هذه المدة القصيرة تستطيع أن تنزع من الرجل قيادتها وحريتها ثم تغلبه على إرادته وكرامته فتروضه هذه الرياضة وتخضعه هذا الخضوع!
لقد كنت أرى المرأة في هذه الليلة تراقص الغريب وتضاحك الكأس، وزوجها أو أبوها
يهيئ لها فرصة المعرفة ويسعى لها بوسائل اللذة، فأجدني أنا داعية الحرية النسوية بالأمس، أشد النساء ضيقاً بها وسخطاً عليها اليوم، لأن هذه الحرية - بالقياس إلى الحرية التي كنا ننعم بها وندعو إليها - إباحية وفوضى؛ وذلك في الحق علة ما نرى من التنافر بين الفتى والفتاة، فقد كان الظن أن يزول بالتعلم ما بينهما من تنافر العلم والجهل، فأصبح هذا التنافر معززاً بتنافر الحشمة والتهتك. ومادام الانسجام مفقوداً بين الجنسين إما لتقدم الرجل على المرأة في العلم، وإما لتقدمها هي عليه في المدنية، فهيهات أن تنفرج أزمة الزواج أو تستقيم حال الأسرة
كانت هذه الحفلة في السنين الخوالي مظهراً للحرية القصد والبر الخالص، فمازالت عوامل التقليد والتجديد تلح على مزايا الأنوثة وخصائص الجنس حتى أصبحت معرضاً للجمال والدلال والزينة؛ وذلك بالطبع سر نجاحها ورباحها، وهو مغنم لغايتها الشريفة على أي حال
إني ألمح على المرأة في نادي السيدات وفي بعض الحفلات نزوعاً إلى تعدي الحدود التي جعلها الله بينها وبين الرجل، فإذا لم نعاجله بالفطام والكبح أعضل الأمر وفسد المجتمع
ولعلي يا سيدي أشير في (الرسالة) إلى مواطن الداء الحين بعد الحين ليتسنى لأرباب القلم وصفه، ويسهل على أقطاب الحكم علاجه.
أدام الله عليك التوفيق وأعانك بالسداد على مواصلة الجهاد في تبليغ الرسالة. . .
(حياة)
هذا كتابك يا سيدتي قرأته وترجمته ثم نشرته، وسأعود إليه بالتعليق والتحقيق في فرصة أخرى.
أحمد حسن الزيات
1 - في أرجاء سيناء
للدكتور عبد الوهاب عزام
من السويس إلى أبي زنيمة
تواعَد السّفْرُ ميدانَ إبراهيم صباح الأحد حادي عشر ذي الحجة سنة 1358 - (21 يناير سنة 1940)، ووقفنا على مصر الجديدة ريثما يركب الرفقاء الذين يقطنون هناك. ثم سار ركبنا في سيارات ست يؤم السويس، وليس في طريق السويس ما يتحدث عنه إلا بقايا المنارات التي كانت على طريق البريد.
ولما بلغنا السويس تواعدنا أن نلتقي عند منتهى الترعة الإسماعيلية بعد أن تتزود السيارات وسائقوها بما يحتاجون إليه من المدينة. وكان السائقون كلهم من هذه المدينة وممن خبروا طرق سيناء.
فارقنا المدينة ظهراً، فوقفنا بعد قليل عند معبر القناة ريثما قدمنا الأوراق والصور التي تبين أشخاصنا ووجهتنا، ثم عبرنا. وكان الغداء قد حان، فرأينا أن نتزود للبيداء فتفرقنا يأكل كل واحد زاده. . . ولست أقول قول أبي العتاهية:
قد رمى المهدي ظبياً
…
شق بالسهم فؤاده
وعلي بن سليما
…
ن رمى كلباً فصاده
فهنيئاً لهما كل
…
امرئ يأكل زاده
وهي الوجبة الواحدة التي لم يجتمع عليها السفر. وكنا استثنيناها تعجلاً للمسير، فاتفقنا على أن يأتي كل مسافر بالغداء في اليوم الأول.
وكان في اختلاف الأطعمة مثار لأسئلة: ماذا عندك يا فلان؟ وماذا تأكل يا فلان؟ وكان أكثر الناس تطلعاً إلى السؤال بعض رجال التاريخ. وذكرني هذا قول أبي الطيب:
وكثير من السؤال اشتياق
…
وكثير من ردّه تعليل
تهيأنا للمسير، وصفر دليل الركب الدكتور حزين إيذاناً بالسير فلم نهيب إقدامنا على مجاهل سيناء وسلوك طريق بني إسرائيل، لأن الطريق مطروقة، والأمن شامل، والزاد موفور، والسيارات ضمينة بإبلاغنا غايتنا قبل الغروب. . .
سرنا صوب الجنوب فسايرنا القناة حيناً، ثم خليج السويس حتى حالت بيننا وبينه التلال.
وبعد نصف ساعة مررنا بعيون موسى، وهي على 24 كيلاً من معبر القناة. ولم نعرج على العيون إلا في رجوعنا، وكنت رأيتها مرة من قبل. وهي ينابيع متفرقة متقاربة، يرى المتأمل فيها فوران الماء من قاعها إلى سطحها، وكل ينبوع بركة يفيض ماؤها في الرمل فلا يجري، وحولها نخيل وأشجار من الطرفاء؛ وهي اثنتا عشرة عيناً، وقد ذكرت في القرآن الكريم:(وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، قد علم كل أناس مشربهم. كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين).
وذكرت في التوراة باسم إيليم. ففي سفر الخروج (الإصحاح 16): (ثم جاءوا إلى إيليم، وهناك اثنتا عشرة عين ماء وسبعون نخلة، فنزلوا هناك عند الماء)
وقد نقلت الحكومة إليها سمكا لمنع حمى الملاريا
مضت السيارات في أرض مقفرة قليلة النبات، ثم تغير مرأى البيداء، ولاحت أشجار كثيرة من الطرفاء، جاوزناها إلى أرض غير مشجرة يسم وجهها نبات متفرق من العيثران والرتم والسلة وأعشاب مختلفة. ثم دخلنا وادي الطيبة بين جبال عالية مختلفة الألوان والأشكال؛ فتكاثرت الأشجار البرية متفرقة، وبدت على وجه الأرض إمارات الحياة حتى انعطف الوادي إلى اليمين تلقاء البحر، فإذا غيضة يترقرق الماء فيها، ويلتف فيها الطرفاء والنخيل؛ وهو منظر يوحي إلى المسافر الروح والسرور بعد المناظر القاحلة التي طال سيره فيها. وبعد ثلاثة كيلات من هذه الغيضة بلغنا شاطئ الخليج - خليج السويس - بعد أن قطعنا من القناة مائة وعشرين كيلاً
هناك تبعد الجبال عن البحر قليلاً فتترك بينها وبينه أرضاً رملية مستوية، وعلى الشاطئ شركة إنكليزية تستخرج المنغنيز وهو حجر مسود حديدي يستعمل في صناعة الصلب أو الفولاذ. وهناك مبان للشركة ومساكن للعمال وهم زهاء ألف من المصريين، وسكة حديد لنقل المنغنيز إلى الميناء، وميناء لإرساء السفن
سألنا عن منزل الحكومة (استراحة) فسار معنا خادم موكل به، فرأينا بناء جميلاً طبقة واحدة فيها خمس غرف ومرافقها وأمامها طُنُف واسع. وهذا المنزل بني حينما عزم الملك فؤاد رحمه الله على زيارة سيناء. فهو من آثار عنايته بالصحارى المصرية
نزلنا هناك بعد الغروب فأمضينا ليلة سعيدة في هواء منعش معتدل يحيط بنا مشاهد رائعة من الجبال والبحر أضفت عليها القمراء نورها وبهجتها. ولا أنسى مطلع الشمس هناك بين قنن الجبال القريبة ومغربها على ساحل الخليج الغربي عند جبال الزعفرانة تلوح على بعد كأنها قطع السحاب أو الضباب
إن في هذه الأمكنة وما يشابهها لَمَراداً للمصريين يستجمون من عناء العمل، ويمتعون الروح والجسم بين الهواء والماء، وحرية الصحراء والمرائي الجميلة، ويعرفون مجاهل وطنهم وما فيها من معادن ونبات
وأصبحنا يوم الاثنين مزمعين التجوال في البرية ورؤية معادن المنغنيز وآثاراً مصرية قديمة في مكان يسمى سراية الخادم فاستمعنا من الدكتور حزين كلمة عن سيناء وجبالها ومعادنها. ثم سرنا في وادي الطيبة وملنا ذات اليمين حتى رأينا معادن المنغنيز وهي حفر ساذجة تقطع منها الأحجار لا يكلف قطعها عناء ولا تغلغلاً في بطن الأرض. ثم سرنا نبحث عن الآثار ولقينا في طريقنا بدوياً معه غنمة وجمال تحمل رحله ونساء وصبية، فكلمناه وأخذنا صورته. وسألته عن شجر صغير يكثر في البادية لا جذع له تنبت أغصانه من جذره مستقيمة دقيقة، له ورق مستطيل دقيق. فقال: هذا الرتَم. فذكرت قصة المتنبي حينما خرج من مصر وسلك سيناء وخانه عبيده فضرب واحداً منهم بالسيف فخر على رتمة. وأنشدت قول الراجز:
نظرت والعينُ مبينة الهّم
…
إلى سنا نار وقودها الرتَم
شبت بأعلى عاندين من إضم
واسم الرجل مُطير وهو من قبيلة القرارشة
واستأنفنا المسير فبلغنا مكاناً به نخلات وأشجار وزرع قليل، وإذا بئر تسمى بئر النصب ماؤها قريب عذب
تركنا السيارة وسرنا نبحث عن الآثار واستدللنا رجلاً من غير البدو ادعى معرفة المكان فطال سيرنا وبحثنا على غير هدى، ورجعنا وقد استفدنا من المشي، ورأينا من الأودية والجبال والأشجار والعشب ما عزانا عن الآثار المفقودة. ولم نقل: قتل أرضاً عالمها، وقتلت أرض جاهلها.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام
في الاجتماع اللغوي
صراع اللغات
للدكتور علي عبد الواحد وافي
مدرس العلوم الاجتماعية بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
يحدث بين اللغات ما يحدث بين أفراد الكائنات الحية وجماعاتها من احتكار وصراع وتنازع على البقاء وسعي وراء الغلب والسيطرة. وتختلف نتائج هذا الصراع باختلاف الأحوال: فتارة ترجح كفة أحد المتنازعين، فيسارع إلى القضاء على الآخر مستخدماً في ذلك وسائل القسوة والعنف، ويتعقب فلوله فلا يكاد يبقي على أثر من آثاره؛ وتارة ترجح كفة أحدهما كذلك، ولكنه يمهل الآخر، وينتقص بالتدريج من قوته ونفوذه، ويعمل على خضد شوكته شيئاً فشيئاً حتى يتم له النصر؛ وأحياناً تتكافأ قواهما أو تكاد، فتظل الحرب بينهما سجالاً، ويظل كل منهما في أثنائها محتفظاً بشخصيته ومميزاته.
وينشأ هذا الصراع عن عوامل كثيرة أهمها عاملان: أحدهما أن ينزح إلى البلد عناصر أجنبية تنطق بلغة غير لغة أهله؛ وثانيهما أن يتجاور شعبان مختلفا اللغة، فيتبادلا المنافع، ويتاح لأفرادهما فرص للاحتكاك المادي والثقافي.
وكلا العاملين ينتهي أحياناً إلى تغلب إحدى اللغتين على الأخرى، وأحياناً إلى بقائهما معاً جنباً لجنب.
وسنقتصر في هذا المقال على بيان الحالات التي يؤدي فيها العامل الأول إلى تغلب إحدى اللغتين على الأخرى، وما يمتاز به هذا التغلب من خصائص، وما يتصل به من شئون، مرجئين تكملة البحث إلى مقالات تالية.
قد يحدث على أثر فتح أو استعمار أو حرب أو هجرة. . . أن ينزح إلى البلد عنصر أجنبي ينطق بلغة غير لغة أهله، فيشتبك اللغتان في صراع ينتهي أحياناً إلى تغلب إحداهما، فتصبح لغة جميع السكان قديمهم وحديثهم، أصيلهم ودخيلهم. ويحدث هذا في حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون كلا الشعبين همجياً قليل الحضارة منحط الثقافة، ويزيد عدد أفراد
أحدهما على عدد أفراد الآخر زيادة كبيرة. ففي هذه الحالة، تتغلب لغة أكثرهما عدداً سواء أكانت لغة الغالب أم المغلوب، لغة الأصيل أم الدخيل؛ على شريطة أن تكون اللغتان من شعبة لغوية واحدة أو من شعبتين متقاربتين
والأمثلة على ذلك كثيرة في التاريخ. فمن ذلك أن الإنجليز السكسونيين، حينما نزحوا من أواسط أوربا إلى إنجلترا، لم تلبث لغتهم أن تغلبت على اللغات السلتية التي كان يتكلم بها السكان الأصليون. وذلك لأن عدد من بقي من السلتيين بهذه الأقاليم لم يكن شيئاً مذكوراً بجانب عدد المغيرين؛ وكلا الشعبين كان همجياً منحطاً في مستوى حضارته ومبلغ ثقافته؛ وكلتا اللغتين تنتمي إلى فصيلة اللغات الهندية - الأوربية - والنورمانديون حينما أغاروا على إنجلترا في منتصف القرن التاسع الميلادي واحتلوا معظم أقاليمها، لم تلبث لغة الشعب المقهور أن تغلبت على لغتهم، فأصبح جميع السكان، أصيلهم ودخيلهم، إنجليزيهم ونورمانديهم، يتكلمون الإنجليزية السكسونية. وذلك لأن الإنجليز المغلوبين كانوا أكثر عدداً من النورمانديين الغالبين؛ ولم يكن لأحد الشعبين إذ ذاك حضارة ولا ثقافة راقية؛ وكلتا اللغتين من الفصيلة الهندية - الأوربية
وقد يحدث أحياناً في هذه الحالة أن تتغلب لغة على أخرى من غير فصيلتها. ولكن هذه الظاهرة نادرة الحدوث، ولا يتم التغلب فيها إلا بصعوبة وبعد أمد طويل. واللغة التي تنشأ من هذا التغلب ينالها كثير من التحريف في ألسنة المحدثين من الناطقين بها لشدة الاختلاف بينها وبين لغتهم الأصلية، فتبعد بعداً كبيراً عن صورتها الأولى. فالبلغاريون وهم من أصل (فينواني حينما نزحوا إلى البلقان وامتزجوا بشعوب الصقالبة (السلافية أخذت لغتهم تنهزم شيئاً فشيئاً أمام لغة هذه الشعوب حتى انقرضت وحل محلها لسان صقلبي. وذلك لأن عدد البلغاريين لم يكن شيئاً مذكوراً بجانب عدد الصقالبة الممتزجين بهم؛ وكلتا الفئتين كانت إذ ذاك همجية منحطة في مستوى حضارتها ومبلغ ثقافتها. وقد حدث هذا التغلب مع اختلاف اللغتين في الفصيلة؛ فلغة البلغاريين الأصلية كانت من الفصيلة الفينية، على حين أن اللغات الصقلبية من الفصيلة الهندية - الأوربية، ولكن هذا التغلب لم يتم إلا بصعوبة، وبعد أمد طويل، وصراع عنيف خرجت منه اللغة الغالبة مشوهة محرفة عن مواضعها في ألسنة المحدثين الناطقين بها، فبعدت بعداً كبيراً عن صورتها القديمة. فالبلغارية الحديثة هي
أكثر اللهجات الصقلبية تحريفاً وبعداً عن أصولها الأولى
(الحالة الثانية): أن يكون الشعب الغالب أرقى من الشعب المغلوب في حضارته وثقافته وآداب لغته، وأشد منه بأساً وأوسع نفوذاً. ففي هذه الحالة يكتب النصر للغته فتصبح لغة جميع السكان، وإن قل عدد أفراده عن أفراد الشعب المغلوب؛ على شريطة أن تدوم غلبته وقوته مدة كافية، وأن تقيم بصفة دائمة جالية يعتد بها من أفراده في بلاد الشعب المغلوب، وأن تمتزج بأفراد هذا الشعب، وأن تكون اللغتان من شعبة لغوية واحدة أو من شعبتين متقاربتين
والأمثلة على ذلك كثيرة في التاريخ. فقد نجم عن فتوح الرومان في وسط أوربا وشرقيها أن تغلبت لغتهم اللاتينية على اللغات الأصلية لإيطاليا وإسبانيا وبلاد الجول (فرنسا وما إليها) والألب الوسطى والإليريا مع أن الرومان المغيرين كانوا في هذه البلاد أقلية بالنسبة لسكانها الأصليين. وقد نجم عن فتوح العرب في آسيا وأفريقيا أن تغلبت لغتهم على كثير من اللغات السامية الأخرى وعلى اللغات القبطية والبربرية والكوشيتية؛ فأصبحت اللغة العربية لغة الحديث والكتابة في معظم مناطق شبه الجزيرة العربية وفي مصر وشمال أفريقيا وفي جزء كبير من قسمها الشرقي المتاخم لبلاد الحبشة؛ مع أن الجالية العربية في هذه البلاد كان عددها أقل كثيراً من عدد السكان الأصليين
وفي كلتا الحالتين السابقتين لا يتم النصر غالباً لإحدى اللغتين إلا بعد أمد طويل يصل أحياناً إلى أربعة قرون، وقد يمتد إلى أكثر من ذلك. فالرومان قد أخضعوا بلاد الجول (فرنسا وما إليها) في القرن الأول؛ ولكن لم يتم النصر للغتهم اللاتينية على اللغة السلتية التي كان يتكلم بها أهل هذه البلاد إلا حوالي القرن الرابع الميلادي. ومع ما كان للعرب من قوة الشوكة، ورقي اللغة، واتساع الحضارة، وحماية الدين، وسطوة الغالب، لم يتم النصر للغتهم على القبطية والبربرية إلا بعد أمد طويل. على أن اللغة القبطية لا تزال مستخدمة في كثير من الطقوس الدينية الأرثوذكسية؛ واللغات البربرية لا تزال إلى الوقت الحاضر لغة محادثة لدى بعض العشائر المغربية
وغني عن البيان أن انتصاراً لا يتم إلا بعد أمد طويل وجهاد عنيف لا يخرج المنتصر من معاركه على نفس الحالة التي كان عليها من قبل. فاللغة التي يتم لها الغلب لا تخرج سليمة
من هذا الصراع. بل إن طول احتكاكها باللغة الأخرى يجعلها تتأثر بها في كثير من مظاهرها وبخاصة في مفرداتها
ويختلف مبلغ هذا التأثر باختلاف الأحوال: فتكثر مظاهره كلما طال أمد احتكاك اللغتين وكان النزاع بينهما عنيفاً والمقاومة قوية من جانب اللغة المقهورة؛ وتقل مظاهره كلما قصرت مدة الصراع أو خفت وطأة النزاع أو كانت المقاومة ضعيفة من جانب اللغة المغلوبة. فلطول الأمد الذي استغرقه الكفاح بين لغة الإنجليز السكسونيين بإنجلترا، ولغة الفاتحين من الفرنسيين النورمانديين (الذين أغاروا على بلاد الإنجليز في القرن التاسع الميلادي واحتلوا معظم مناطق إنجلترا كما سبقت الإشارة إلى ذلك) ولشدة المقاومة التي أبدتها اللغة النورماندية المقهورة، خرجت اللغة المنتصرة (الإنجليزية) من هذا الصراع، وقد فقدت أكثر من نصف مفرداتها الأصلية واستبدلت به كلمات من اللغة النورماندية المغلوبة، واقتبست منها فضلاً عن هذا مفردات أخرى جديدة. على حين أن لغة بلاد الجول التي انتصرت عليها اللغة اللاتينية لم تترك في اللغة الغالبة أكثر من عشرين كلمة؛ واللغات القبطية والبربرية المغلوبة لم تكد تترك أي أثر في اللغة العربية الغالبة. وذلك لأن الصراع في هذين المثلين، على طول أمده، لم يكن عنيفاً، ولم تلق في أثنائه اللغتان الغالبتان (اللاتينية في المثال الأول والعربية في المثال الثاني) مقاومة شديدة من جانب اللغات المقهورة (لغة الجول السلتية في المثال الأول، والقبطية والبربرية في المثال الثاني)
وتختلف كذلك النواحي التي يبدو فيها تأثر اللغة الغالبة باللغة المغلوبة تبعاً لاختلاف الأحوال التي تكون عليها كلتا اللغتين في أثناء اشتباكهما. ويبدو هذا التأثر بأوضح صورة في النواحي التي تكون فيها اللغة المغلوبة متفوقة على اللغة الغالبة. ولذلك تألف معظم المفردات التي أخذتها الإنجليزية الغالبة عن الفرنسية النورماندية المغلوبة، من كلمات دالة على معان كلية وألفاظ تتصل بشئون المائدة والطهي والطعام. وذلك لأن النورماندية كانت غنية في هاتين الطائفتين من المفردات؛ على حين أن الإنجليزية كانت فقيرة فيهما كل الفقر؛ فعمدت إلى خصيمها المقهور واستلبته ما كان يعوزها قبل أن تجهز عليه. وإلى اقتباسها منه الألفاظ المتصلة بشئون المائدة والطهي وألوان الطعام يرجع السبب في أسلوبها الغريب في تسمية الحيوانات المأكولة اللحم. فكثير من هذه الحيوانات يطلق على كل منها
في الإنجليزية اسمان: اسم جرماني الأصل يطلق على الحيوان مادام حياً: ، ، ، واسم آخر فرنسي الأصل يطلق عليه بعد ذبحه وإعداده للطعام: ، ، ،
والألفاظ الأصيلة للغة الغالبة ينالها كثير من التحريف في ألسنة المحدثين من الناطقين بها (المغلوبين لغوياً)، فتبعد بذلك في أصواتها ودلالاتها وأساليب نطقها عن صورتها الأولى ويبلغ بعدها هذا أقصى درجاته إذا كانت اللغة المقهورة من فصيلة أخرى غير فصيلة اللغة الغالبة كما سبقت الإشارة إلى ذلك بصدد البلغارية القديمة والصقلبية
والألفاظ الدخيلة التي تقتبسها اللغة الغالبة من اللغة المغلوبة ينالها كذلك كثير من التحريف في أصواتها ودلالاتها وطريقة نطقها، فتبعد في جميع هذه النواحي عن صورتها القديمة، ويظهر هذا بالموازنة بين الكلمات الإنجليزية الآتية والكلمات الفرنسية التي اقتبست منها: ، ، فإن كل كلمة منها تختلف عن أصلها اختلافاً غير يسير في صوتها ودلالتها وطريقة النطق بها. حتى أن الفرنسي الذي لا يعرف الإنجليزية لا يكاد يتبينها أو يدرك مدلولها إذا سمعها من إنجليزي - وليست هذه الظاهرة مقصورة على الاقتباس الناشئ من الصراع بين لغتين، كتب لإحداهما النصر، بل هي ظاهرة عامة تتحقق في جميع الحالات التي يحدث فيها انتقال مفرد من لغة إلى أخرى.
وتقطع اللغة المغلوبة في سبيل انقراضها مراحل كثيرة تمتاز كل مرحلة منها بمظهر خاص من مظاهر الانحلال وضعف المقاومة ففي المرحلة الأولى تقذفها اللغة الغالبة بطائفة كبيرة من مفرداتها فتوهن بذلك متنها الأصلي وتجرده من كثير من مقوماته ولكن اللغة المغلوبة، تظل طوال هذه المرحلة محتفظة بقواعدها ومخارج حروفها وأساليبها في تطبيق الكلمات: فيؤلف أهلها عباراتهم ويصرفون مفرداتهم وفقاً لقواعدهم التنظيمية والمورفولوجية: (السنتكس والمورفولوجيا، أو النحو والصرف). وينطقون بألفاظهم الأصلية وما انتقل إليهم من ألفاظ دخيلة طبقاً لأسلوبهم الصوتي ومخارج حروفهم؛ حتى أنهم ليستبدلون في الكلمات الدخيلة بالحروف التي لا يوجد لها نظير لديهم حروفاً قريبة منها من حروف لغتهم. . . وفي المرحلة التالية تتسرب إلى اللغة المغلوبة أصوات اللغة الغالبة ومخارج حروفها وأساليبها في نطق الكلمات. فينطق أهل اللغة المغلوبة بألفاظهم الأصيلة، وما انتقل إليهم من ألفاظ دخيلة من نفس المخارج. . . وبنفس الطريقة التي يسير عليها النطق في اللغة
الغالبة. فيزداد بذلك انحلال اللغة المغلوبة ويؤذن نجمها بالأفول. ولكنها تظل طوال هذه المرحلة مستبسلة في الدفاع عن قواعدها الصرفية والتنظيمية (قواعد المورفولوجيا والسنتكس) وفي مقاومة قواعد اللغة الغالبة. فيركب أهلها جملهم ويصرفون كلماتهم وفق أساليبهم الأولى. وفي المرحلة الأخيرة تضعف هذه المقاومة شيئاً فشيئاً، فتأخذ قواعد اللغة الغالبة في الاستيلاء على الألسنة حتى يتم لها الظفر، فيتم بذلك الإجهاز على اللغة المغلوبة. فالقواعد في اللغة المغلوبة أشبه شيء بالقلعة التي تحتمي بها فلول الجيش المنهزم وتقاتل عنها حتى آخر رمق، والتي يتم بسقوطها استيلاء العدو على البلاد.
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة باريس
2 - الحق والقوة
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
أستاذ الفلسفة بكلية الآداب
ليست فكرة الحق بأعلى من فكرة القوة، وليست الحقوق الفردية والاجتماعية من الوضوح بحيث تستلفت النظر كالقوى الطبيعية والإنسانية. ومن المحقق أن الجمعيات الهمجية خضعت لسلطان القوة وانقادت لعوامل البأس والشدة قبل أن تعرف لغة الحق والقانون، ولم تتكون لديها فكرة عن الحقوق واحترامها والتعهدات والتزامها إلا بعد أن خطت خطوات في سبيل الحضارة والمدنية. ولعلها لم تعترف أول الأمر ببعض الحقوق إلا لأنها رأت القوة تلزمها بالاعتراف بها، ثم لم يلبث هذا الاعتراف القهري أن تحول إلى شعور باطني اختياري يدفعها إلى القيام ببعض الأعمال راحة للنفس ومرضاة للضمير. ففكرة الحق إذن بطيئة التكوين، والحقوق الإنسانية لم تثبت ولم تنضج إلا بعد أجيال عدة وحضارات متعاقبة، على أنها لا تزال حتى اليوم خاضعة لسنة النشوء والارتقاء، ولا تزال طائفة منها مختلفاً عليها بين الأفراد والجماعات
ويظهر أن الحقوق في تطورها مرت بأدوار عدة، فكانت في أول أمرها دينية شعبية وشكلية مادية مقصورة على فريق من الناس. فلا حق إلا ما أحقته الآلهة، ولا التزام إلا بما أوجبته التعاليم الدينية، والحقوق في جملتها فريضة فرضتها السماء وطاعة أُعد لمؤديها الثواب المقيم ولتاركها العذاب الأليم. فعن القساوسة ورجال الدين تعلمت الجماعات الأولى بعض الحقوق، وإليها لجأت في إقامة شعائرها والمطالبة بأدائها؛ ولهذا لم يكن ثمة فرق في الشرائع القديمة بين أمر ديني وآخر دنيوي، وإنما الأوامر كلها وحي الآلهة، وترجمة لإرادة عليا يقف البشر أمامها خاشعين خاضعين. . . هذا إلى أن الحقوق كانت في بدء نشأتها شعبية طائفية، فعرفت حقوق الأسرة والقبيلة قبل أن تعرف حقوق الفرد مهما كانت منزلته، وكثيراً ما ضحى به في سبيل قومه وعشيرته دون ذنب أو جريرة، فما كانت له شخصية معروف ولا وجود مستقل محترم. وإذا كانت الحقوق قديماً مظهراً من مظاهر الحياة الدينية، فلابد أن تؤدى على شكل معين وصورة ثابتة، شأنها في هذا شأن الطقوس المختلفة والعبادات المعروفة. وما كانت القبائل الهمجية تفهم من الحق إلا مظهره
الخارجي، وجانبه المادي، فلم يكن هناك حق معنوي ولا التزام روحي. ولا يمكننا أن نتوقع في تلك البيئات المحدودة والقبائل المتخاصمة حقوقاً تشمل الأفراد على اختلافهم، بل لأبناء القبيلة الواحدة حقوق لا يمكن أن يقاسمهم فيها أبناء القبيلة الأخرى، ولا زلنا حتى اليوم نفرِّق بين الأجنبي والوطني في بعض الحقوق والواجبات.
غير أن الحقوق الإنسانية لم تقف عند هذه المظاهر الأولى، بل تطورت وتدرجت، فتولد إلى جانب الحقوق الدينية حقوق أخرى مدنية، وأخذت العادات والتقاليد تنزل من النفوس منزلة التعاليم الدينية، وصيغت في قالب أوامر وقوانين محترمة. ورأينا الفرد يبرز بجانب الشعب والقبيلة، فعرفت شخصيته واحترمت حقوقه؛ ومن أهم مميزات حضارتنا الحاضرة احترام الشخصية الإنسانية وتقديس ما لها من حقوق. ومن آثار هذا التطور أن تجردت الحقوق من قيودها الشكلية ومظاهرها المادية، فنشأت حقوق معنوية وروحية تمتاز كل الامتياز عن الحقوق الشخصية والعينية، وأضحى الإنسان، وكلمته حجة، وتعهده وثيقة لا تقبل النقص. وانتهت الإنسانية أخيراً إلى طائفة من الحقوق يتساوى فيها الجميع ولا يفرق فيها بين صغير وكبير، ولا بين أمير وحقير، ولا بين أجنبي ووطني؛ هي حقوق الإنسان كيف كان أصله ومنبته ومستواه الاجتماعي وجنسيته.
ولم يتم هذا التطور عفواً ولم تتنوع هذه الحقوق اعتباطاً وإنما أثرت فيها على عوامل مختلفة وساعدت على نموها واطرادها أسباب شتى. فغرست الديانات بذورها الأولى، ولولا الدين ما عرفت القبائل الهمجية حقاً ولا احترمت مبدأ، وفي تشعب الحياة السياسية والاقتصادية ما قضى بتنوع الحقوق وازديادها، فالنظم الدستورية تعترف للأفراد بحقوق ما كانت تسلم بها الحكومات الاستبدادية، وكثيراً ما طالبت الجماعات بحقوق تحميها من ظلم الظالمين وعدوان المعتدين، والأجهزة والآلات فرضت للعمال على أصحاب المصانع ورؤوس الأموال حقوقاً ما كانوا يطالبون بها من قبل، وكلما امتدت وسائل الحضارة في بيئة ما كثرت الحقوق وتعددت المسئوليات، وليست الحقوق في رقيها وتطورها بخاضعة لعوامل اجتماعية فحسب، بل للفرد في هذا التطور دخل كبير، فكثير من الحقوق لم يسلم به إلا بعد أن دافع عنه وناضل في سبيله أفراد متعاقبون، وكم أدخل العلماء والباحثون على فكرة الحق من تهذيب وتنقيح ما كان للجماهير أن تصل إليهما
أظننا، بعد أن عرضنا للحقوق في نشأتها وتطورها، نستطيع أن نفصل في تلك الخصومة المشهورة المتصلة بأصل فكرة الحق وطبيعتها؛ والأخلاقيون، كدأبهم في المسائل العامة والقضايا الكلية، إزاء هذه المشكلة فريقان: فريق مثالي ينظر إلى الحقائق من حيث هي ويصورها بصورها العليا سواء أطابقت الواقع أم لم تطابقه، وفريق آخر واقعي يعتد بالأمور الملموسة ولا يعول إلا على الحس والتجربة، ويرى الفريق الأول أن الإنسان من حيث هو إنسان يستلزم طائفة من الحقوق ثابتة على اختلاف العصور والأزمنة لا تخضع لبيئة ولا لمجتمع، فهي حقوق أقرها العقل واقتضتها الطبيعة دون أن تتقيد بالحياة الاجتماعية أو تتأثر بها، وأما الفريق الثاني فيذهب إلى أن فكرة الحق مكتسبة لم تصل إلى كمالها إلا بعد أن مرت بأدوار عدة وتأثرت بعوامل مختلفة، فليس ثمة حقوق مقدسة لذاتها، ولا مبادئ أقرتها الإنسانية بصرف النظر عما يترتب عليها من أثر، والحقوق الطبيعية المزعومة لا يؤيدها الواقع في شيء، وإذا شئنا أن نوضح فكرة الحق توضيحاً تاماً فلابد أن نلم بهذين الاتجاهين، ونلقي نظرة على هاتين النظريتين
ليست النظرية المثالية حديثة العهد، فهي ترجع إلى القرن السادس عشر، ويأبى أنصارها إلا أن يصعدوا بها إلى التاريخ القديم فيتلمسوا لها أصولاً لدى مشرعي الرومان وبعض فلاسفة اليونان؛ ومُضي المدة كان ولا يزال وسيلة من وسائل ترجيح طرف على آخر. بيد أنها لم تبد في ثوبها الكامل إلا في القرن السابع عشر والثامن عشر لدى كثير من المشرعين والأخلاقيين وفي مقدمتهم الفقيه الهولندي (جروسيوس) والأخلاقيان الكبيران (روسو وكانت) ثم جاءت الثورة الفرنسية فأخذت بها وأعلنت حقوق الإنسان تطبيقاً لها وعول عليها نابليون كل التعويل في وضع قانونه المشهور. وما إن ظهر المذهب الواقعي الذي نادى به (أوجست كونْت) في القرن التاسع عشر وأيده فيه علماء الاجتماع الآخرون حتى أخذت في التضاؤل والتراجع وأصبح الفقهاء والأخلاقيون يشكون في قيمتها العلمية
وتتلخص هذه النظرية في أن العقل الإنساني يقضي بطائفة من الحقوق أقرها الناس أو لم يقروها، فهي ثابتة للأفراد على السواء ولا تسقط بمضي المدة، ومحاربتها في جيل من الأجيال لا تقوم دليلاً على بطلانها، كبعض الفضائل السامية التي لم يستطع أفراد بيئة ما التحلي بها. وهذه الحقوق، فوق أنها عقلية، طبيعية أيضاً، فهي ثمرة من ثمار الطبيعة
الإنسانية وضرورة من ضروراتها، ولا يستطيع الإنسان أن يؤدي وظائفه الجنسية والعقلية ويحقق كماله المنشود بدونها؛ ومن هنا جاء هذا التعبير المشهور:(الحق الطبيعي) الذي يعتبر عنوان النظرية المثالية. وإذن الحق فكرة لا أمر وجودي، ومبدأ عقلي لا ظاهرة واقعية؛ والظواهر الواقعية على اختلافها ما كانت لتصل إلى تصوير الحقوق بهذه الصورة المثلى. وقد يسلم بعض المثاليين بوجود حقوق مكتسبة، ولكنها تختلف عن الحقوق الطبيعية كل الاختلاف، ولا تسمى حقوقاً إلا بضرب من التوسع والمجاز؛ وفرق ما بين الحق الطبيعي والمكتسب أن الأول مصحوب دائماً بعاطفة داخلية وشعور باطني يقدسه ويحترمه وتجمع العقول السليمة على التسليم به
لا نزاع في أن هذه النظرية المثالية تصعد بفكرة الحق إلى مستوى المبادئ الثابتة والحقائق المسلمة، وتريد أن تقول إن الحق لم يكن حقاً لمجرد أن العرف رآه كذلك، بل لأن العقل والطبيعة استوجبت أحقيته، ولا نزاع أيضاً في أن المثاليين بوجه عام يذهبون إلى أن الحق والخير والفضيلة ذات قيم ذاتية قدسها من أجلها الناس، وكل ذلك اعتداد بفكرة الحق وتدعيم لها على أساس عقلي لا نتردد في أن نقدره ونجله. غير أن هؤلاء المثاليين يتناسون الواقع والتاريخ ويغفلون كل التطورات التي مرت بها الحقوق الإنسانية ولا ينظرون إليها إلا في مرحلة كمالها ويزعمون أن الحقوق كلها نشأت على هذه الصورة. مع أن حقوق الإنسان لم يعترف بها إلا بعد أجيال وثورات عديدة، ولا تزال حتى اليوم مجال أخذ ورد؛ والحقوق الطبيعية ليست من الجلاء والوضوح بالدرجة التي يتصورها بها أنصارها، فإنا لا نفهم حقاً كانت الطبيعة وحدها مبعثه. وفوق هذا ففكرة الحق مصحوبة بشيء من الحرمة والتقديس لا تستطيع النظرية المثالية أن تفسره، فهناك حقوق نرى من الإثم الكبير أن نخل بها أو نعدو عليها، وما ذاك إلا لأن التعاليم الدينية أحاطتها بسياج من الجلال والرهبة. وفي اختصار، لئن كان المثاليون قد تلمسوا في بعض الحقوق أسباباً عقلية وطبيعية تؤذن بأحقيتها، فليس معنى هذا أن هذه الحقوق إنما استمدت من العقل والطبيعة
لذلك أحسن الواقعيون كل الإحسان في دراستهم للحقوق دراسة تاريخية وتتبعهم لنشأتها وتطورها. والنظرية الواقعية أشبه ما يكون برد فعل للنظرية المثالية، نبتت في القرن
السادس عشر؛ ثم نمت نمواً عظيماً في القرن الثامن عشر بفضل جهود بعض المشرعين والأخلاقيين، وبلغت أوجها في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. والواقعيون في الحقيقة قسمان: قسم يرد الحقوق كلها إلى أصل من المنفعة العامة، ويرى أنها لم تنشأ ولم تتكون إلا تحت تأثير هذه المنفعة؛ ويذهب القسم الآخر إلى أن الحق وليد القوة، نشأ في كنفها وتربى على حسابها، ولولا القوة ما عرفت الحقوق ولا سلم بها
وربما كان مشرعو القرن الثامن عشر وفلاسفته أول من بنى فكرة الحق على أساس من المنفعة العامة، وفي مقدمتهم أستاذ القانون الجنائي بيكاريا الإيطالي، والأخلاقي الإنجليزي بنتام، والفيلسوف الفرنسي هلفسيوس. ثم جاء واقعيو القرن التاسع عشر عامة ورجال المدرسة الفرنسية خاصة فساروا في هذا الاتجاه وأيدوه كل التأييد. فنرى في إنجلترة جون استورث مل وسبنسر، وفي ألمانيا جيرنج، وفي فرنسا الفقيه الشهير ديجي؛ وكل هؤلاء يلتقون في نقطة واحدة، وهي أن الحقوق أثر من آثار الحياة الاجتماعية، ولولا المجتمع ما عرف حق ولا قدس واجب. فالحقوق إذن تتغير من بيئة إلى أخرى، وتخضع لمختلف العوامل الاقتصادية والسياسية والدينية. وإذا كانت المصلحة الذاتية تدفع بعض الأفراد إلى التشبث ببعض الحقوق والمطالبة بها، فإن المصلحة العامة هي الحكم الفصل في كل هذه الشئون؛ والشرائع الراقية تتخذ من هذه المصلحة الدعامة لكل القوانين، فلا حق إلا ما طابقها وجاء موافقاً لمقتضياتها، وإذا كان أنصار النظرية المثالية يعتدون بالفرد وحقوقه، فإن هذه الحقوق لم تعرف إلا عن طريق المجتمع؛ وقد سبق لنا أن أشرنا إلى أن الحقوق أول أمرها كانت شعبية طائفية، ثم تطورت على مر الزمان وظهرت حقوق الأفراد بجانب حقوق الهيئات والجماعات
لقد نجح هؤلاء الواقعيون في تفسير الحقوق على ضوء الحاضر والماضي، وربطوا فكرة الحق بالمجتمع؛ فأصبحت ذات وجود خارجي، وبهذا أمكنهم أن يحللوها ويميزوها ببعض الخصائص. ولا نستطيع في العصر الحاضر بوجه خاص أن ننكر ما للمنفعة العامة واعتبارها من أثر في الحياة الاجتماعية، ولكن رد الحقوق كلها إليها يتنافى مع الواقع، فهناك حقوق عمرت طويلاً ودان الناس بها مع مخالفتها الصريحة لها. على أن النظم الاجتماعية لا تخضع لموازنة منظمة بين المنافع المختلفة، وفكرة المنفعة نفسها غامضة
غير قابلة للتحديد في يسر، وقد فشلت في توضيح فكرة الخير والشر، ولن تكون أعظم نجاحاً في تدعيم فكرة الحق. ومن الغريب أن أنصار هذه المنفعة العامة هم الذين يقولون إن حب الذات غريزة أولية في حين أن حب الغير غريزة ثانوية فكيف تستطيع هذه الغريزة الثانوية أن تكوِّن الحقوق وتتغلب على الغريزة الأولى؟ ومهما يكن من أمر هذا التناقض فإن هؤلاء المنفعيين وفقوا كل التوفيق في ربط الحقوق بحياة المجتمع وعدها ظاهرة من ظواهر تخضع لكل ما يطرأ عليه من عوامل ومؤثرات
إبراهيم مدكور
الكلام هو اللفظ المركب المفيد
شرح الأجرومية!
للدكتور زكي مبارك
ابتسم الزيات وقال: ما هذا التعسف الذي يقع فيه أصحابك الصوفية؟
فقلت: وما شواهد ذلك التعسف؟
فقال: ألم تعلم أن أحدهم شرح الأجرومية بطريقة صوفية؟
ثم رجعت إلى نفسي أحاورها في صمت هو أعنف ما يكون من الضجيج، فقد تذكرت أن حالي في دنياي كان حال الرجل الذي شرح الأجرومية بطريقة صوفية، وأخشى أن أصير إلى ما صار إليه، فلا أظفر من الناس بغير السخرية والاستهزاء!
ولكن، هل أملك التوبة من الشطط والجموح فلا أفجع الناس في أوهامهم من وقت إلى وقت، ولا أشرح لهم الأجرومية بطريقة صوفية؟
وكيف أسكت عنهم وأنا أريد أن أطمئن إلى أن لهم وجوداً ذاتياً يسمح لهم بالرضا والغضب، والقهقهة والأنين؟
إن القلم في يد الكاتب هو المشرط في يد الطبيب!
وكنت لعهد اشتغالي بالطب أعرف مصير المريض بعلامة صريحة، هي إحساسه بوخز المشرط، فإن صرخ عرفت أنه مرجوّ العافية، وإن سكت سكوت الجمود لا سكوت الصبر، عرفت أنه صائر إلى الموت. . .
وهل أنسى اليوم الذي سمعت فيه أقبح ألوان السباب من مريض أعملت فيه المشرط بلا تهيب ولا ترفق لأنقذه من أظفار المنية؟!
ثم اتخذت من القلم مشرطاً أعالج به أمراض القلوب بعد أن فرغت من علاج الأبدان، فما الذي رأيت؟
قضيت سنين بدون أن أسمع من مرضاي صرخة جزع أو شهقة بكاء، فكدت أيأس من سلامة مرضاي، وهممت بتوديع مهنة الأدب كما ودعت مهنة الطب، لأرجع فلاحاً يصاحب الفأس والمحراث في حقول سنتريس. . .
ثم لطف الله بمرضاي فهداهم إلى الصراخ والأنين لأعرف أن الأمل في نجاتهم ليس من
المستحيلات
أما بعد فقد حان الوقت لشرح الأجرومية والألفية والسنوسية بطريقة صوفية
حان الوقت لشرح عجائب النهار وغرائب الليل
حان الوقت لعلاج العقول والقلوب والأذواق والأحاسيس ولكني أخاف. . .
ما الذي أخاف؟
أخاف من عواقب القلم ما كنت أخاف من عواقب المشرط والدولة تسأل الطبيب الذي يجني على حياة مريض، ولكنها لا تسأل المريض الذي يجني على حياة طبيب
وهل يعرف زملائي كيف هجرت مهنة الطب؟
هجرت تلك المهنة هجراً غير جميل بسبب حادث رأيت به شبح الموت
كنت أعمل المشرط بيمناي في جسد عليل فمسَّ إصبعاً من يسراي فارتجفت، لأن أساتذتي بكلية الطب في باريس علموني أن العلم بخطر المرض قد يفضي بصاحبه إلى الفناء، ومن هنا جاز أن تصنع جرثومة واحدة بجسم الرجل الصحيح ما لا تصنع ألف جرثومة بجسم الرجل العليل
وفي ذلك الوقت عللت نفسي فقلت: إنما هي جرثومة فانية من جسم يدبّ إلى الفناء، ولا خوف عليّ وأنا أطاول الدهر بجسم يضارع أجسام العماليق، وبعد يوم أو يومين أمنت عواقب ذلك الجرح، ثم انصرفت إلى غير رجعة عن مهنة الطب
واليوم يصنع القلم ما صنع المشرط
أسمع صراخ مرضاي فأبتسم، لأن صراخهم يشهد بأنهم أهل للحياة، ولكن ذلك الصراخ تقع فيه أحياناً ألفاظ غلاظ ينزعج لها ذوقي بعض الانزعاج، فهل تكون هذه الألفاظ كتلك الجراثيم؟
إن كان ذلك فسأستشهد في ميدان الأدب بعد أن فاتني الاستشهاد في ميدان الطب، وعند الله والحب جزائي!
وما خوفي من تلك الألفاظ الغلاظ وأنا بعافية وأستطيع التمرد على جميع الأدواء، وفي صدري من اليقين ما يزعزع رواسي الجبال؟
وهل يصل الطبيب إلى شيء إذا عرف المبالاة بأوهام مرضاه؟
لقد كتب مرضاي ما يزيد على ألف مقل، وأسمعوني صراخهم في كل بلد توجهت إليه، ولم أر منهم غير الاستخفاف بصنع الجميل، وكنت مع ذلك آية في الصبر على مكاره العقوق، فكيف أجزع وقد أمدتني الأيام بقوة القلم والمشرط، كما أمدتني بقوة الظفر والناب؟
قال الزيات: الرسالة تنتظر منك مقالاً لعدد الهجرة لا تكفر فيه كما كفرت في مقال السنة الماضية!
سبحان الله
وأنا كفرت في السنة الماضية، يا زيات؟
ألم تعلم، يا زيات، أن مقالي كان فرصة ذهبية لعشرات أو مئات يأكلون الخبز باسم الغيرة على الحق؟!
إن مقالي عن (النواحي الإنسانية في الرسول) علم أقواماً سهر الليالي في البحث والتنقيب، فكيف تبخل فلا تعد ذلك المقال من حسناتي؟ وكيف تنسى أنني هجت به صدوراً كنت أخشى عليها الموت بالصدأ والجمود؟
وهل تصدق أن في خصومي من يدرك عظمة الرسول كما أُدرك؟
إن بيني وبين الرسول صلة وثيقة هي البلاء بالدنيا والناس، فكيف يتوهم قوم أنهم يغارون عليه أكثر مما أغار عليه، وهم لا يتقدمون لنصرته إلا مدفوعين بالثمن الذي أعرف وتعرف؟
إن في خلق الله من يأكلون الشهد بفضل الرياء، فكيف يؤذيهم أن نشرب أكواب الصاب والعلقم بسبب القول الصريح؟
ألم يكف ما نعاني من الإيذاء في سبيل الصدق حتى نشرب السم من أيدي المرائين؟
وإلى متى يستريح المرضى من أمراضهم بالصراخ؟
ألا يتقدم الطب فيجد للمرضى علالة غير الصراخ؟
إن الصراخ كان صوت الطفل وكان أسلوبه في التعبير عن ألمه قبل أن يعرف النطق، فما بال قوم يصرخون وقد علمناهم أساليب البيان بالكلام المفيد؟
ما بال قوم يصرخون وقد هديناهم إلى النطق وشرحنا لهم الأجرومية بطريقة صوفية؟
ما بالهم يصرخون وقد علمناهم أساليب الصبر الجميل؟
ولكن لا بأس فالصراخ فن من التعبير عن الألم، ولا يحس الألم غير الأحياء، ومعنى ذلك أن مرضانا غير أموات، ولله الحمد وعليه الثناء
قلت لنفسي: هذا زيد الذي كان يراني من أشرف الناس، وذاك عمرو الذي كان يراني من أعظم الرجال، وذلك بكر الذي كان يراني من الأبطال، فما بالهم ينوشونني بلا ترفق ولا استبقاء وكنت لهم ظهيراً في أحرج الظروف؟
فأجبت النفس: أولئك مرضاك عاودتهم العافية على يديك فهم يشهدونك على أنهم أصبحوا من الأصحاء
فقلت: أما يملكون من التعبير غير هذا الأسلوب البغيض؟
فقالت النفس: ألست أنت الذي قال بأن الكفر لا يكثر في غير الأمم القوية؟
ومن هذا الحديث عرفت أنني نقلت مرضاي من المرض إلى الصحة، ومن الصحة إلى التمرد، ومن التمرد إلى الجحود
أما بعد، ولي في كل لحظة (أما بعد) لأن ذهني ينتقل في عراك الأفكار من ميدان إلى ميادين بسرعة البرق
أما بعد فقد عشت دهري زاهداً كل الزهد في خلق المودات والصداقات، لأن أهل زماني لا يرون هذه الأواصر الجميلة إلا ضرباً من ضروب المنافع، وفيهم من يرى الشكر على المعروف أعظم من المعروف، فلا يرضيهم إلا أن تعترف بأنك مدين وإن طوقت أعناقهم بقلائد الجميل
وأنا والله راض عما يصنعون، لأن اللغو الذي يلقونني به من وقت إلى وقت يشهد بأنهم يملكون من الصحة ما يقدرون به على شتم الطبيب المجاهد الذي استعذب من أجلهم شقاءه بالدنيا والزمان
ولكن ما أصل البلاء الذي نعانيه من الناس؟
يخاصمني فريق باسم الأدب، ويخاصمني فريق باسم الدين فأين يقع الحق مما يريد أولئك أو هؤلاء؟
هل يستطيعون القول بأنهم لا يبتغون من مخاصمتي غير وجه الحق؟
إن كان ذلك فأين ما هتفوا به من أن الشهرة التي ظفرت بها هي التي تضللني فتحملني
على مجانبة الحق في بعض الأحيان؟
وهذه الشهرة هي أصل تلك الضغائن والحقود، ولكن ما الذي أصنع وقد هربت من الشهرة مليون مرة فكانت تلاحقني بلا هوادة ولا رفق؟
دلوني على جريدة أو مجلة عرضت عليها أدبي بثمن أو بغير ثمن
دلوني على ناد ألقيت فيه محاضرة بدون دعوة
دلوني على عمل توليته بدون أن أستعد له بأهلية الفكر والعقل
هل سمعتم حديث الإذاعة اللاسلكية؟
يسألني الناس كل يوم عن سبب انقطاعي عن الإذاعة، فأين فيهم من يعرف أن لي بمحطة الإذاعة صديقاً كريماً هو الأستاذ سعيد لطفي؟ وأين فيهم من يعرف أن ذلك الصديق يعجب من انصرافي عن الإذاعة مع أن المستمعين يرحبون بصوتي كل الترحيب؟ وأين فيهم من يعرف أن الحرص على الوقت هو الذي يضيع علي شرف التحدث إلى أصدقائي في مصر والأقطار العربية، مع أن لتلك الأحاديث أجراً غير قليل ولو شئت لجعلته أجراً غير ممنون كما يصنع بعض الناس!
وأين يضيع وقتي؟
وهل عندي وقت يصلح للحفظ أو الضياع؟
وهل للموظف وقت غير السويعات التي يتكلف إحياءها بين الأهل والأبناء؟
ومن تلك السويعات أخلق الفرصة لمسايرة الحياة الأدبية فأقرأ جميع الجرائد والمجلات، وأراجع ما يهمني النظر فيه من المؤلفات العربية والفرنسية، وأكتب ما أراه من الملاحظات على ما أقرأ وما أسمع، ثم أخلو بعد ذلك إلى قلمي في صحبة العفريت الذي سمعتم أخباره في خطابي إلى الدكتور طه حسين!
وبهذه المناسبة أذكر أني ركبت المترو منذ أيام فرأيت بالقرب مني فتى يشبه كلود، فقطعت المسافة وأنا مرتاب في أنه كلود، ثم عرفت في النهاية أنه كلود، ولم أسلم عليه لئلا يتوهم أني أغضيت عنه كل ذلك الوقت
فكيف قضت الأيام بأن أجهل وجه أبن أخي، وما عرف في طفولته أن لأبيه صديقاً أعرف مني بالود، وأحفظ للهو؟
ثم أرجع فأقول إن ما تقرءونه بقلمي من وقت إلى وقت هو عصارة تلك السويعات أو تلك اللحيظات، فما غيظ بعض الناس من الشهرة التي جناها الصبر على سهر الليل؟
الليل؟ الليل؟
وأين من يعرفون سهر الليل في هذه الأيام، السهر في صحبة الورق والمداد؟
كان من حقي أن أصوب سنان القلم إلى صدور من يأكلون السحت، صدور الذين يأكلون الخبز باسم اللغة العربية وقد تمضي الأعوام ولا يزوّد أحدهم نفسه بكتاب ثمنه خمسة قروش، فضلاً عن المساهمة في البحث والتأليف
وكان من واجب من عابوا نشاطي أن يوجهوا ملامهم إلى الكسالى الظرفاء من أمثال فلان وفلان وفلان، وهم قوم أعطاهم الزمن حقوقاً لن أنالها ولو عُمِّرت عمر نوح، لأن هيامي بصحبة الورق والمداد سيضيع علي جميع المنافع الدنيوية، وقد أموت بسبب الكدح الموصول قبل أن يموت فلان مع أنه ولد قبل أن يولد أبي. رحم الله أبي وأسبغ على ذلك الفلان ثوب العافية!
ثم ماذا؟
ثم أوجه القول إلى من يتوهمون أنهم أحرص مني على الدين وأمري مع هؤلاء عجب من العجب، فقد شقيت ما شقيت في خدمة الدراسات الدينية، ثم كانت النتيجة أن أتهم برقة الدين وأن يظفروا بحسن السمعة مع أن فيهم ناساً لا يعرفون أخبار المؤلفات الدينية إلا بالسماع
اسمعوا كلمة الحق مرة واحدة، أيها الناس
الإسلام دين العدل والتوحيد، ولكن أين من يخدمه بلا جزاء؟
في (مصر الجديدة) نحو خمس وعشرين مدرسة أسسها رجال لهم عقائد من أتباع موسى أو المسيح. فهل في مصر الجديدة مدرسة أسسها رجال من أتباع محمد؟
وفي (شبرا) نحو خمس عشرة مدرسة أسسها رجال من ذلك الطراز. فهل استطاع أشياخنا أن يحتلوا في (شبرا) غير مسجد واحد أنشأته إحدى السيدات المسلمات؟
وفي أسيوط مدارس أقامها أمثال أولئك الرجال، فهل بين علمائنا من يقول إنه قدم حجراً واحداً لبناء معهد أسيوط الديني؟
وفي الأزهر أكثر من سبعمائة مدرس، فهل فيهم من يرضى أن يعيش باللقمة كما يعيش المكافحون من الفرير والجزويت ولهم مدارس في أكثر بقاع الأرض؟
وفي مصر مدارس كثيرة تديرها الراهبات، فهل بين علمائنا من خلق الروح الديني في زوجته فأنشأت مدرسة لتثقيف الفقيرات واليتيمات؟
إن الأزهر يرسل وعاظاً لبعض الأقطار البعيدة من حين إلى حين. . .
ولكن هل تعرفون مصاير أولئك المبعوثين؟
إذا قامت حرب في الحبشة أو في الصين صرخوا واستغاثوا وكلفوا الدولة ردهم إلى أوطانهم في أقرب وقت!
فهل سمعتم أن مبشراً مسيحيا ترك مقر عمله بسبب الحرب؟
ومع ذلك يقرأ علماؤنا مقالات رجل مثلي حرفاً حرفاً ليبحثوا عن لفظة نابية يثيرون حولها الأراجيف
ومن يكون المؤمنون إذا حرم رجل مثلي نعمة الإيمان الصحيح؟
آه، ثم آه!!
الجهاد في سبيل الأدب ضائع، والجهاد في سبيل الدين ضائع فماذا أصنع وقد شقيت بوطني وزماني؟
من زَغَب الظلم أخذت الخيوط لصياغة الورق
ومن دم الظلم أخذت الحديد لسنان القلم
ومن غضبات الظلم أخذت الكهرباء التي يطالعكم بها بياني
وعن جنون الظلم نقلت إليكم أقباس الجنون، وهو على سنان قلمي أشد تماسكاً من العقل
وبفضل الظلم رأيتموني دائماً من أنصار العدل
زكي مبارك
من الذروة!
شفتاك أُغنيتان
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
شَفَتَاكِ أُغْنِيَتَانِ نا
…
ئِمَتانِ في وَتَرٍ حَزِينْ
صَبَغَتْهُمَا بِلَهِيبِها الْ
…
قُدُسِيِّ نارُ الْمُغْرَمِينْ
وَشَدَتْهُمَا شَبَّابَةٌ
…
لِلّهِ طاهِرَةُ الرَّنينْ
أَزِلَّيةُ الأَنْغَام تَيَّ
…
مَ سِحْرُها قَلْبَ السِّنِينْ
فَاهْتَزَّتا حِيناً، وَنُو
…
رُكِ مَدَّ فَوْقَهما السُّكونْ
فإذا هُما شَفَقانِ في
…
أُفُقٍ تَضِلُّ به الْعُيُونْ
مُتَوَهِّجَانِ عَلَى سنا
…
كِ مِن الصَّبابَةِ وَالحنينْ
سَجَدَتْ لِطَيْفهما التَّما
…
ئمُ في شِفاه السَّاحِرينْ
وَسَجَت جِراحاتُ الْمَسَا
…
ءِ عَلَى قُلوبِ الحائرينْ. . .
إِلاّ جِراحاً في مَسا
…
ئيَ صَاخِباتٍ بِالأَنينْ
سُلْوَانُها شِعْرُ الشِّفا
…
هِ الصَّامِتُ النَّغَمِ الحَزينْ
محمود حسن إسماعيل
خليفة حافظ
(بحث نشرته مجلة العصبة البرازيلية في عددها الممتاز)
للأستاذ توفيق ضعون
لما كنتُ من عشَّاق الشعر السائغ، السهل المبني، الواضح المعنى، المؤدي صورة صادقة من عاطفة ناظمه وهدفه في الوجود، ومن كارهي الإغراق والتعقيد ومواراة المعنى المقصود وراء أكثف الحجب التي لا تخترقها البصيرة ولا تعين على استجلائها كتب اللغة ومعاجمها، بحيث يصبح الشعر كناية عن رموز وطلاسم لا يحلها إلا الله والراسخون في العلم - فلا بدع أنني كلما وقعت في يدي جريدة أو مجلة رحت أقلب صفحاتها علّي أعثر على سطور مشطرة فأقرأ مطلعها راجياً أن يستدرجني إلى قراءة ما يليه وإلا اكتفيت به وقلبت الصفحة آسفاً، نادماً على الوقت الذي أضعته، لأن المطلع عندي بمثابة الوجه الذي قد تستهويك النظرة الأولى إليه فتقبل على صاحبه، أو تنفرك فتعرض عنه
وكان خير ما يستهويني، نظراً إلى استيفائه الشروط المقدم ذكرها، شعر حافظ إبراهيم، فلما ارتحل عن هذا الوجود أخذت أفتش في صفحات المجلات المصرية عن خليفة له أجلسه على عرش إعجابي واحترامي فلا أجد، حتى وقع يوماً في يدي جزء من مجلة الرسالة التي وجدت فيها ضالتي من حيث الأدب العالي والثقافة العميقة الدقيقة، فقلبت بعض صفحاته وإذا بي أعثر على أبيات من الشعر استهواني مطلعها واستدرجني إلى الإتيان عليها حتى ختامها. وكنا في إدارة (العصبة) فرحت أتلو على مسامع الإخوان تلك الأبيات التي لمست فيها روح حافظ وأسلوبه الطلي الأخاذ فشاطروني رأيي. وطفقت منذ ذلك الحين أتلمس آثار محمود غنيم الأدبية في تلك المجلة الغنية بنتاج أدمغة المجلين في مضمار الأدب في ذلك القطر السعيد
وعلمت بعد التنقيب أن محمد غنيم مدرس في كوم حماده إحدى قرى الصعيد (الصواب أنها في مديرية البحيرة) يحمل شعره المجنح شكواه من سوء حاله وضيق مجاله، فهو يحسب نفسه سجيناً في تلك القرية يتوق إلى الإفلات منها ولا توق الطائر الغريد إلى الإفلات من قفصه ولو كان من ذهب فكيف به وهو من معدن بخس وخشب. مجال ضيق وعيش على وتيرة واحدة يسئم النفس، وعشرة لا مطمع فيها للأديب الذي يؤثر تغذية روحه على تغذية
جسده. وعلام أطيل في تصوير الحال التي هو فيها، وقد وصفها هو على أدق وأكمل شكل في القصيدة التالية وعنوانها (كأس تفيض). قال:
تعللتُ دهراً بالمنى فإذا بها
…
قواريرُ من مسِّ الصبا تتحطمُ
لعمرك لا أدري على أيّ منطق
…
أُشاهد في مصر الحظوظَ تقسمُ
فمن يكُ ذا قربى وصهرٍ فإنني
…
بمصرَ وحيدٌ لا شقيقٌ ولا حمُ
فلا غروَ أني قد سكنتُ بأرضها
…
كما سكنتْ أهرامها والمقطمُ
أَيذوي شبابي بين جدران قريةٍ
…
يبابٍ كأن الصمتَ فيها مخيّمُ
أكاد من الصمت الذي هو شاملي
…
إِذا حُسب الأحياءُ لم أكُ منهمُ
وعاشرتُ أهليها سنينَ وإِنني
…
غريبٌ بإحساسي وروحيَ عنهم
يقولون: خضراءُ المرابعِ نضرةٌ
…
فقلتُ: هبوها؛ لست شاةً تُسوَّم
على رَسلكم إِني أُقيم بقفرةٍ
…
يجوز على الأحياءِ فيها الترحم
حياةٌ كسطح الماءِ والماءُ راكدٌ
…
فليس بها شيءٌ يسرُّ ويؤلم
وما أبتغي إلا حياةً عنيفةً
…
تسرُّ فأرضى، أو تسوءُ فأنقم
حياة كلجّ البحر والبحرُ زاخر
…
تدوّي بها الأنواءُ والرعدُ يهزم
حياة بها جدٌّ ولهوٌ، بها رضىً
…
وسخطٌ، لها طعمانِ: شهدٌ وعلقمُ
حنانيكَ إِني قد برمتُ بفتيةً
…
أروحُ وأغدو كلّ يوم إِليهمُ
صغارٌ نربيهم بمثل عقولهم
…
ونبنيهمو لكننا نتهدّمُ
لأوشك أن أرتدّ طفلاً لطول ما
…
أُمثل دورَ الطفل بين يديهمُ
فصولٌ بدأناها وسوفَ نعيدُها
…
دواليك، واللحن المكرر يُسأم
فمن كان يرثى قلبه لمعذَّبٍ
…
فأجدرُ شخصٍ بالرثاءِ المعلّم
على كتفيه يبلغُ المجدَ غيرهُ
…
فما هو إلا للتسلُّق سلّمُ
يقولون: مِنطيقٌ أغرُّ بيانهُ
…
فقلت لهم: لكنّ حظيَ أبكم
أرى الحظَّ منقاداً لكلِّ مهرجٍ
…
فأما على الأكفاءِ فهو محرّم
ألا فليسُدْ مَن شاَء حسبيَ أنني
…
ضننت بماءِ الوجه حين تكرموا
فهل هناك ما هو أوهى من هذه القوارير التي كنى بها عن أمانيه العاثرة، وقد وصفها
بكونها تتحطم من مس أخف وألطف النسمات؟ وهل هناك ما هو أدل على حقيقة الواقع من أن لا منطق على الإطلاق في توزيع الحظوظ؟ وربما صح هذا الحكم على الشهرة نفسها إذ لم يقم أديب إلا اختلف الناس في تعيين مقداره، وطالما كانت الشهرة نصيب من لا يستحقها لعوامل وأسباب لا علاقة لها بالكفاية المجردة، كأن تسخر الأقدار لغير كفء ما لا تسخره للكفء من المذيعين والمطبلين والمزمرين لهوس أو غاية في النفس. وأين نجد صورة للعزلة التامة لمقيم في القطر المصري كالأهرام والمقطم، يلي ذلك وصف الضجر والسآمة، فحياة المعلم والأدوار التي يمثلها، فالاعتصام بعد كل الشكاوي المؤلمة بالصبر والاستمساك بالأنفة والإباء؟
ثم عثرت على صورة ثانية استوثقت منها أن محمود غنيم لا يعدم تعزية، عما هو فيه مستمدة من محيا صغيريه اللذين لا يسأم مداعبتهما كلما عاد إلى منزله عودة الطائر إلى عشه طلباً للراحة والدفء والقوت وهاك ما يقوله في وصف هذا المشهد بعنوان:(حول المدفأة - أنا وابناي):
وأطيب ساعِ الحياة لديَّا
…
عشيةَ أخلو إلى ولديَّا
فأُجلس هذا إلى جانبي
…
وأُجلس ذاك على ركبتيَّا
وأغزو الشتاَء بموقد فحمٍ
…
وأبسطُ من فوقهِ راحتيَّا
وأحسبني بين طفلي (شاهاً)
…
وأحسب عشيَ قصراً عليَّا
وما حاجتي لغذاء وماء
…
بحسبيَ طفلايَ زاداً وريَّا
فيا ليت شعري أتمتدُّ بي
…
حياتي فأجنيَ غرس يديَّا
وأشهدَ طفليَ حين يشبُّ
…
فتىً عاليَ النفس شهماً أبيا
أبوك امرؤ من رجال الكلام
…
فكن أنت يا ابني امرأَ عمليا
فما احتقر الناس إلا الأديب
…
ولا احترمَ الناسُ إلا الغنيَّا
أيا ابنيَّ أحبب بما تكسرانِ
…
وأهوِن بما تتلفانِ عليَّا
فانظر إلى العاطفة الوالدية الصادقة المتجسمة في هذه الأبيات وأكبر معي التضحية إلى أقصى حدودها كرماً لتلك العاطفة الفياضة بالشعور والحنان، إذ ترافق عدم الإمكان الاستهانة التامة بكل ما يمكن أن يكسره الصغيران المحبوبان، أو يتلفاه إلى حد استحلاء
الإضرار وتشجيعهما عليه، وما يتخلل ذلك من تمنيات وعظات.
ومما تقدم رأيت كل الجمال في روح محمود غنيم. على أني افتقدته في رسمه القاتم في بعض صفحات (الرسالة) شاهداً على أن لا علاقة البتة بين المظهر والمخبر، ولكن حبذا الدمامة في الخلق إذا كانت ترافقها مثل هذه الوسامة في الخلق. وعلام أشكو مما يزيد غنيماً شبهاً بحافظ كما يزيد ترشيحه لخلافته تبريراً!
هذا هو محمود غنيم الذي أقدمه الآن لقراء العصبة فخوراً بأنني أقدم شاعراً مجيداً، إذا لم يضارع حافظاً في أصيله فإنه يجاريه في ضحاه، وها حاضره يبشر بمستقبل ربما كان أخصب وأجدى. ومما يرجح كفته في نظري هو عقم محيطه بالنسبة إلى محيط حافظ أيام كان يطلق صيحاته وأغاريده في القاهرة حيث المجال الرحب والموحيات والمستثيرات على أنواعها، وكلها مما يفجر الشاعرية، ويبعث الكوامن ويعين على الإجادة. أضف إلى ذلك أنه منذ البداءة حافظيُّ في تأنقه وتدقيقه وبراعته في تخير الألفاظ والبحور والقوافي التي تماشي روح القصيدة، وتكسبها خاصة الإعراب عن مرامي ناظمها، وتساوق حركات وسكنات الحدث الذي تدور عليه أو المناسبة التي اقتضتها
أما مستندي فما سبق وما سيلي مما اقتبسته واجتزأت به مكرهاً بداعي ضيق المجال، من بضع قصائد احترت في ما أختاره وما أهمله من أبياتها الحسان، وهذا بذاته يدعو إلى الإعجاب بخصب قريحة الشاعر وسعة اطلاعه ومقدرته على الإجادة، حتى في أتفه الموضوعات المطروقة وأبعدها عن استرعاء الالتفات؛ إذ يغلب في الشعر أن يكون الجيد منه هو الأندر، فكيف وقد رأيت الندرة نصيب ما يمكن الاستغناء عنه على رغبتي في الاختصار تفادياً من التطويل وخشية الملل؟
شعر تصويري سداه الدقة، ولحمته الأمانة في الأداء، ونزعة حرة، وفكر طليق من سيطرة الأوهام، وخيال واسع يتغلغل في الأعماق ويكشف الخفايا، ونفس طموح لا يكبح جماحها إلا الإباء المستحب.
اسمعه يصف راتبه بأبلغ ما يدل على سهولة وسرعة التفلت وقلة الوفاء بالحاجة، ويجيد التخلص إلى نصيحة غالية يسديها إلى أبناء قومه محذراً إياهم من عواقب الوكل، وكارهاً لهم الأعمال ذات الكسب المحدود:
ولي راتب كالماء تحويه راحتي
…
فيفلت من بين الأصابع هاربا
إذا أستأذن الشهر التفت فلم أجد
…
إلى جانبي إلا غريماً مطالبا
فقل لشباب النيل قالةَ ناصحٍ
…
تعافُ له أخلاقه أن يواربا
إذا مصر لم ترفع قواعد مجدها
…
بساعدها لم تقض منه مآربا
وإن نك في كل المرافق عالة
…
على غيرنا عشنا بمصر أجانبا
وهاك مطالب أخرى لم تفته في أيها الإجادة المبتغاة. فمن قوله مخاطباً ملكة الجمال العالمي المصرية بعنوان (ملكة الجمال) بيتان ضمنهما نزعته الاستقلالية، هما:
كم عاهل ذي سطوة لم يفتتح
…
قلباً وإن فتح المدائن والقرى
ما للمها في مصر تحكم عالماً
…
والليث يعجز أن يعيش محرراًّ
وما هي إلا فترة من الزمن حتى يتجلى غنيم فينزع عنه أطمار التذمر والشكوى ويرتدي وشاح الحكمة والاختبار ويتسنم منصة الوعظ والإرشاد، مصوراً حقيقة الحياة، ومزيلاً انخداع البشر بأنفسهم، ومبطلاً ما يدعونه عادة من عفة وتقشف، ويرشحون ذواتهم من أجله لسكنى دار الخلود، كما يضرب الرياء والتظاهر ضربة قاضية، إذ يقول بعنوان (المادة):
فتشت بين الناس عن زاهدِ
…
فلم تقع عيني على واحدِ
ما أزهد المرَء إذا لم يجد
…
وأبعدَ الزهدَ عن الواجدِ
فقيمةُ الشعبِ إذا قستها
…
بقيمة الصادرِ والواردِ
قد يُحسد المرءُ على رزقهِ
…
ولا أرى للفضلِ من حاسد
لم يخترِ الناس دياناتهم
…
بل أخذوا بالمذهب السائد
ليس جمالُ الطبع في غادة
…
مثل جمالِ اليدِ والساعد
يا زاعم العفةِ في حبه
…
ما تبتغي من كاعب ناهد؟
لم يتقِ الله امروءٌ للتقى
…
بل لنعيم الجنة الخالدِ
لولا جمال الحور ما لامست
…
أرض المصلى جبهة الساجد
هل كنت تلقى في الورى ساعياً
…
لو كان يسعى الرزق للقاعد
سيان من يسعى إلى قوته
…
بالسلب أو بالوَرع الزائد
كم لحية أجدى على ربها
…
من ألف سهم بيد الصائد
صاحِ دعِ الروح ودع قدسها
…
نحن عبيد الجسد الفاسد
فإذا وقفته على الشاطئ الرملي في الإسكندرية يمتع طرفه بمرأى المستحمات ويشبع نهمه من محاسنهن خلع العذار وأجاد في وصف ذلك المشهد البديع وسال رقة بمقطعات غزلية موشاة منمقة مطرزة كأنها بستان فيه من كل فاكهة زوجان. وهذا بعضها:
أعوارٍ تلك الدُمى أم كواسي
…
بلباسٍ يفصّل الأجساما؟
لا وقاه الله البلى من لِباس
…
إِنه كان واشياً نماما
أيها المشتكي من الإقلاِل
…
متّع النفسَ بالجمال متاعا
لم يُبيحوا لنا شيوعَ المالِ
…
وأباحوا لنا الجمال مشاعا
لا تضيقوا بالمعصم المكشوف
…
وتقولوا: خير الجمال المصونُ
ما غناءُ الشذى بغير أنوفِ؟
…
قيمةُ الحسن أن تراهُ العيون
وانظر إلى رشاقته في وصف راقصة أخذت عقله بخفتها ومرونة أعضائها وحسن تثنيها إذ يقول:
كأن تحت إخمص
…
يها جمرة مشتعله
باسمةٌ يحسبها
…
كل فتى تبسم له
أبدلها خالقها
…
بكلِّ عظمٍ عضله
جسم كموج عيلم
…
تسبح فيه الأخيله
تحسب فيه كل عض
…
وٍ وحدةً منفصله
في مرقص لا يع
…
رف الهم فؤاد نزله
الهمُّ فيه واقفٌ
…
خجلان يُخفي خجله
دعني أضلُّ ساعة
…
عبءُ التقي ما أثقله
ما كنت من أهل الم
…
سوح والذقون المسبله
كم روعٍ مصطنعٍ
…
وعفةِ مفتعله
وأخيراً انظر إليه في النقد الصائب واللوم العادل والتنبيه إلى الواجب، إذ يصف بني قومه الذين يترسمون خطى الغرب دون تخير أو استثناء:
يترسمون الغرب حتى يوشكوا
…
أن يعبدوه عبادة الأصنام
ما قلدوهم مبصرين وإنما
…
تبعوا نظامهمُ بغير نظامِ
ما صاغ ربك من نضار خالص
…
شعباً، وشعباً من حصىً ورغام
هذا الكثير المختار من بضع قصائد عامرة قليل من كثير، ولعمر الحق إن شاعراً تقع له مثل هذه الإجادة وتصاد من ساحله كل هذه الدرر، لهو بحر زاخر لا يجوز أن نطمره أو نضع في سبيله الحواجز والسدود، بل يجب أن نهيْ له الحياة التي اختارها وأحسن وصفها فيما سبق لي نقله من أنات آلامه وحشرجات شكاويه ولعل هذا الصوت الضعيف يصل إلى آذان القادرين من إخواننا المصريين، فيجد صدىً في نفوسهم يستفزهم إلى إنصاف هذا الشاعر المجيد المغبون فيعود إلى مصر حافظها متقمصاً في شخص محمود غنيم.
توفيق ضعون
الربيع
في باريس
نظم الشاعر هذه الأغنية وهو موجع الجنب، سنة 1928؛ ثم
نظر فيها وزاد عليها. وفي المقطع الثاني من القصيدة إشارة
إلى انبثاق الربيع في باريس بعد طول حبس الشتاء له،
وإشارة إلى الثلج المغشي وجه الأرض يمحوه الربيع فيعيد
المعالم.
عانقِ العودَ وهاتِ
…
هَمْسَ أنغامِ الشكاةِ
خفِّفِ الَّلمسَ عن الأو
…
تارِ واضرِبْ في أناةِ
كلُّ ما رنَّ وبثَّ اله
…
مَّ نَبْضٌ من فؤادي
يا ربيعاً واثباً كالَّنهْدِ
…
من ظُلْمِ حِجابِ
ناثراً فوق مشيبِ اْل - أَرْضِ آياتِ الخِضابِ
هَدأَ اللحْظُ به هَدْ
…
أَةَ حيرانَ بهادِ
يا ربيعاً ناسجاً أسْرارَ تَحنانِ الفتاةِ
حولَ أثمارٍ رِطابٍ
…
تَتدلّي داعياتِ
فرِح الطَّيشُ به فَرْ
…
حَةَ محرومٍ بزادِ
عُطِّلِتْ عيدانُك الغُ
…
نُّ بتردادِ عِتابي!
جئتَ كالفجر يُعاني
…
خدُّه جَهْمَ الضّبابِ
جئتَ باللهوِ فؤاداً
…
طاحَ مسلوبَ القيادِ
عانِق العودَ وهاتِ
…
هَمْسَ أنغامِ الشكاةِ
خفِّفِ الَّلمْسَ عن الأو
…
تارِ واضرِبْ في أناةِ
كلُّ ما رنَّ وبثَّ الهَ
…
مَّ نَبْضٌ من فؤادي
باريس
بشر فارس
2 - لقب السفاح
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
نقل الأستاذ العبادي البحث في هذا الموضوع إلى ميدان آخر غير الأول، فأنكر أن يكون السفاح لقباً لأبي العباس، وذهب إلى أنه لقب عمه عبد الله بن علي واليه على الشام، وحجته فيما ذهب إليه من ذلك تنحصر فيما يأتي:
1 -
أن الرواية التاريخية القديمة كرواية ابن سعد وابن عبد الحكم والبلاذري وأبي حنيفة الذينوري وطيفور واليعقوبي والطبري والنُّوبختىِّ والكنديِّ لم تلقِّب أبا العباس بالسفاح. . .
2 -
أن تلقيب ابي العباس بالسفاح من رواية المؤرخين الأدباء كالجاحظ وابن قتيبة والأصفهاني
3 -
أن رواية ابن سعد واليعقوبي وصاحب أخبار مجموعة وصاحب الإمامة والسياسة تجعل السفاح لقباً لعبد الله بن علي عم أبي العباس
4 -
أنه رجع إلى سيرة أبي العباس قبل الخلافة وبعدها فلم يجد فيها ما يسوغ تلقيبه بالسفاح بمعنى القتال؛ أما سيرة عمه عبد الله وما سفكه من دماء بني أمية بالشام فتسوغ له ذلك اللقب
ونحب أن نبين ما في هذه الحجة الأخيرة من غفلة ظاهرة، قبل أن نعنى برد ما قبلها من الحجج، فإن أبا العباس هو الذي سلط عمه عبد الله بن علي على بني أمية بالشام، فهو مسؤول عن كل ما فعله معهم، وشريكه في الدماء التي سفكها، والنفوس التي أزهقها، على أن أقسى ما فعل مع بني أمية مختلف في نسبته إليه أو إلى عمه عبد الله بن علي، وهو ما روى أن شبل بن عبد الله مولى بني هاشم دخل على أبي العباس أو عمه عبد الله على اختلاف الروايتين، فوجد عنده عدة من بني أمية نحو تسعين رجلاً، وقد اجتمعوا عند حضور الطعام، فأنشده:
أصبح المُلكُ ثابت الآساسِ
…
بالْبهاليلِ مِنْ بنى العباس
طلبوا وِترَ هاشمٍ فشفوْها
…
بعد مَيْل من الزمان ويَاس
لا تُقيلنّ عبد شمس عِثاراً
…
واقطَعنْ كل رَقلةٍ وغراس
ذُلُّها أظهر التوَدُّدَ منها
…
وبها منكم كحدِّ المْوَاسِي
ولقد ساءني وساء سوائي
…
قربهم من نمارق وكراسي
أنزلوها بحيث أنزلها الل
…
هُ بدار الهوان والإتعاس
واذكروا مصرع الحسين وزيد
…
وقتيل بجانب المِهْراس
والقتيل الذي بحرَّان أضحى
…
ثاوياً بين غُرْبةٍ وَتَناس
فأمر بهم أبو العباس أو عبد الله فضربوا بالعمد حتى وقعوا، وبسط عليهم الأنطاع، ومد عليهم الطعام، وأكل الناس وهم يسمعون أنينهم، حتى ماتوا جميعاً
وإذا لم يكن أبو العباس هو الذي فعل ذلك فقد سلط عمه عبد الله عليه، وافتخر به في بعض أحاديثه، ونسب ما حصل لبني أمية من القتل والتمثيل إلى نفسه، فروى المسعودي أنه لما أتى برأس مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية ووضع بين يديه، سجد فأطال، ثم رفع رأسه فقال: الحمد لله الذي لم يبق ثأري قبلك وقبل رهطك، الحمد لله الذي أظفرني بك وأظهرني عليك، ثم قال: ما أبالي متى طرقني الموت؟ قد قتلت بالحسين وبني أبيه من بني أمية مائتين، وأحرقت شِلوَ هشام بابن عمي زيد بن علي، وقتلت مروان بأخي إبراهيم، وتمثل:
لو يشربون دمي لم يرْو شاربُهمْ
…
ولا دماؤُهُم للغيظ ترْويني
ثم حول وجهه إلى القبلة فأطال السجود، ثم جلس وقد أسفر وجهه، وتمثل بقول العباس بن عبد المطلب من أبيات له:
أبى قومنا أن يُنصفونا فأنصفتْ
…
قواطعُ في أيماننا تَقطرُ الدَّما
توورثنْ من أشياخِ صِدْقٍ تقربوا
…
بهنّ إلى يوم الْوَغى فتقدَّما
إذا خالطتْ هام الرجال تركنها
…
كبيض نعام في الوغى مُتحطِّما
ومن يقرأ هذا يجزم بأن أبا العباس كان يحمل قسطاً كبيراً من دماء بني أمية مثل عمه عبد الله أو أشد، لأن كل هذا الذي سفك من دمائهم لم يكن بحيث يروي ما عنده من الحقد
ولقد كان له سفاح آخر نسيه المؤرخون، ولم يكن بأقل من عبد الله بن علي سفكاً للدماء، ذلك هو سليمان بن علي أخو عبد الله وعم أبي العباس، فقد ولاه البصرة وسلطه على من كان بها من بني أمية، فقتل من كان بها منهم، وألقاهم في الطريق فأكلتهم الكلاب، وكذلك سلط عمه داود بن علي على من كان منهم بالحجاز فسفك دماءهم وأفناهم
وقد تولى هو بنفسه سفك بعض من الدماء أيضاً، ومن ذلك دم سليمان بن هشام بن عبد الملك، فإنه كان قد وفد عليه من الشام فرحب به وقربه واستلطفه، للذي كان بينه وبين ابن عمه مران بن محمد، فكان سليمان يختلف إلى مائدة أبي العباس في كل يوم، فيتغدى معه ويتعشى، وكان كأحد وزرائه أو فوقهم، وكان يجلس أبا جعفر عن يمينه وسليمان عن يساره، ومازال هذا شأنه حتى دخل سديف بن ميمون مولى بني العباس فأنشده:
لا يُغرّنك ما ترى من رجالٍ
…
إن تحت الضلوع داء دَويّا
فَضَعِ السيف وارفع السوط حتى
…
لا ترى فوق ظهرها أمَوِيَّا
فأمر أبو العباس بسليمان فقتل، ونسى ما كان من أمانه وإكرامه له، وكذلك قتل وزيره أبا سلمة الخلاَّل، ولم يكن له ذنب عنده إلا اتهامه بالميل لبني علي، وأمر أيضاً بقتل ابن هبيرة بعد أن أخذ عليه من الأمان ما أخذ، فلما مضوا نحوه خر ساجداً وقال: ويحكم نحوا عني هذا الصبي لا يرى مصرعي، فضربوه حتى مات ساجداً
ويطول بنا الكلام لو ذهبنا نستقصي ما سفك أبو العباس وأعمامه واخوته من الدماء، ولقد كانوا كلهم شركاء فيها ما عدا سليمان بن علي، فإنه كان أحنهم على بني أمية، وكان يكره سفك دمائهم، ويجير كل من استجار به منهم، حتى كان أبو مسلم يسميه كنف الأمان، وهو الذي كتب في بني أمية إلى أبي العباس: يا أمير المؤمنين، إنا لم نحارب بني أمية على أرحامهم، وإنما حاربناهم على عقوقهم، وقد دفت إلى منهم دافة لم يشهروا سلاحاً، ولم يكثروا جمعاً، فأحب أن تكتب لهم منشور أمان. فكتب أبو العباس منشور أمان لهم، وقد مات سليمان وعنده بضع وثمانون حرمة لبني أمية
فهذا هو العباسي الوحيد الذي كره سفك الدماء، ولم يكن يباهي بسفحها كما باهى أبو العباس وغيره من أعمامه واخوته، وهو الذي كان يصح أن يهتم الأستاذ العبادي بنفي لقب السفاح عنه لو ألصق به، أما أبو العباس فإن سيرته بعد الخلافة طافحة بسفك الدماء، ومن التجني على التاريخ أن يقول الأستاذ العبادي إنه رجع إلى سيرته قبل الخلافة وبعدها فلم يجد ما يسوغ تلقيبه بالسفاح بمعنى القتال، وهو في هذا أشد من أبي العباس غيرة على نفسه، أو كما يقولون: ملكي أشد من الملك، لما سبق من تباهي أبي العباس بسفك الدماء، ومن وصفه نفسه في بعض خطبه بما لا يرضي الأستاذ العبادي أن يوصف به
وسنبين للأستاذ العبادي كيف اختلفت الروايات بعد هذا في لقب السفاح بين أبي العباس وعمه عبد الله، وليكن هذا في مقالنا الآتي
عبد المتعال الصعيدي
رسالة الشعر
وحدة
للأستاذ أمجد الطرابلسي
طِرْ أيها الحائر عبْرَ المدى
…
على جناح الزمن الدائرِ
واصرخْ، وشُقَّ الجوَّ قبل الصَّدى
…
وامخرْ عبابَ الألَق الباهر
وابحثْ عن السّلوى وناج الهدى
…
هيهات! ما فجرك بالسّافر
هل من وراء البحث إلا الرّدَى؟
فما ضياع العمر فيه سُدَى؟
كما ذوَى الوردُ وجفَّ الندَى. . .
أنتَ الذي من قبل أن يولدا
…
قُدِّرَ أن ينزلها أَوحدا
والغدُ مثلُ الأمسِ والحاضرِ. . .
فما الذي تَنْشدُ يا شاعري؟
ويحك أنَّي ساورتك الهمومْ
…
والجرح يسلو ههنا مَوجِعَهْ؟
في عرسِ الدنيا تَمَلُّ الوجوم!
…
حيث تُجَنُّ الأكؤسُ المترعه
حيث اللذاذات تؤز الجسوم
…
والنور يغري الظلمة المفزعه
فأين ترجو أن يكون النعيم؟
يا ابن الثواني وسليل الرميم!
في اليمّ، أم فوق ظهور النجوم؟
أنت الذي من قبل أن يولدا
…
قدّر أن ينزلها أوحدا
والغد مثل الأمس والحاضر. . .
فما الذي تنشد يا شاعري
حيران يا حيران! أين الضياءْ
…
إن لم يكن حيث تَشَكَّى العمى؟
الحسن والحبُّ وسِرُّ الهناء
…
حيث تَرى هذا المدى المظلما. . .
انظر إلى حولك يا ابن الفناء
…
فالوردة الحمراء ليست. . . دما!
تدوس نعلاك كنوزَ العزاءْ
وأنت تمضي ناظراً للعلاء
فما الذي ترجوه عند السماء؟
أنت الذي من قبل أن يولدا
…
قدِّر أن ينزلها أوحدا
والغد مثل الأمس والحاضر. . .
فما الذي تنشد يا شاعري؟
أمسِ لدي الأهل وبني الصَّحاب
…
كنت تُحِسّ السَّأَمَ الراعبا
في صفحةِ الجدول تَلْتقي السَّرَابْ
…
وفي الجِنانِ العَدَمَ الشاحبا
واليومَ، في دنيا الهوى والشباب
…
تشتاقُ ذاك الألم الذاهبا
لا راحة. . . لا فرح. . . لا عذابْ!
تزيح كفاك ستورَ الضَّباب
في زَحمة النور البَهِيِّ العُجاب
أنت الذي من قبل أن يولدا
…
قدِّر أن ينزلها أوحدا
والغد مثل الأمس والحاضر. . .
فما الذي تنشده يا شاعري؟
كرعتَ مما زعموه الجمالْ
…
وخُضْتَ للسَّلوى خِضَمَّ البشرْ
شاطرتَهُمْ نُسكَهُمُ وَالضَّلالْ
…
فمنك في كل مكانٍ أَثر
يا ليت شعري! بعد طولِ الّنضال
…
هل قد سلا قلبُك. . أم هل شَعَر؟
أنَّي! ولو نلتَ بعيدَ المنالْ
وهِضْتَ في التَّحليق جُنْحَ الخيالْ
فأنت في كهفكَ رهنُ الحِبالْ
أنت الذي من قبل أن يولدا
…
قُدِّر أن ينزلها أوحدا
والغد مثل الأمس والحاضر. . .
فما الذي تنشد يا شاعري؟
الصخرة الصّماءُ بين الصَّخَرْ
…
جرداءُ لكنْ لا تَعي قَفْرَها
سيّانِ حيّاها النَّدى في السَّحَرْ
…
أم ألهبَ الحرُّ ضحىً ظَهرَها
يا سعدها! ليستْ تُحسّ الكَدَرْ
…
لا ساَءها القحطُ ولا سرَّها!
وأنت في قفرك رهن الفِكَرْ
تلمس بالكف طيوف الضَّجَر
يا ويل قلبٍ لم يُصَغْ من حَجَر. . .!
أنت الذي من قبل أن يولدا
…
قُدِّر أن يَنْزِلها أوحدا
والغدُ مثل الأمس والحاضر. . .
فما الذي تنشد يا شاعري؟
باريس
أمجد الطرابلسي
اثنان في سيارة
للدكتور إبراهيم ناجي
مِن أي أكوان وأي زمان
…
يا ساعةً بسطت ظلال أمان
هل كنتِ حين هبطتِ غير ثواني
…
ومداك فوق الظن والحسبان!
العمر أكثره سدى وأقلّه
…
صفوٌ يتاح كأنه عُمران!
كم لحظة قصُرتْ ومَدت ظلها
…
بعد المغيب كدوحة البستان
وتمر في الذكرى خيال شبابها
…
فكأن يقظتها شباب ثان!
مَنْ ذلك الطيف الرقيق بجانبي
…
كفاه في كفي هاجعتان!
إني التفت إلى مكانك بعدما
…
أخليته فبكيتُ سوء مكاني!
لكأننا والأرض تطوى تحتنا
…
نجمان في الظلماء منفردان!
لكأننا والريح دون مسارنا
…
خطن في الأقدار منطلقان!
هل كان ذاك القرب إلا صيحة
…
هَمَّتْ بها شفتان ترتجفان
هل كان ذاك القرب إلا لوعة
…
ونداء مسغبة إلى حرمان!
والناس مُستبقون كلٌ يبتغي
…
غرضاً يكافح دونه ويعاني
حُمَّى مقدرة على الإنسان
…
تبقى بقاء الأرض في الدوران
وكأنما هذي الحياة بضوئها
…
وضجيجها ضربٌ من الهذيان
يا سرَّها!.
. .
للأديب محمود السيد شعبان
يا سِرَّها. . . أَنا عَابِدُ الْ
…
أسْرَارِ في مَلَكُوتِ قلْبِي!
أَنا مَنْ سَكَبْتُ الرُّوحَ قُرْ
…
باناً عَلَى مِحْرَابِ حُبِّي. . .
إِنْ كُنْتُ أَهْوَى فيكَ أَح
…
لَامِي فَما حُبِّيكَ ذَنْبِي!
مِنْ طُولِ حِرْمانِي أَلِفْ
…
تُ تَعَاسَتِي وَعَشِقْتُ جَدْبِي!
يا سِرَّها. . . مَنْ لِلْخُلو
…
دِ سِوَاكَ يا ابْنَ النُّورِ مَنْ لَهُ؟
أَشْرَقْتَ في التَّارِيخِ يَحْ
…
دُوكَ اْلهَوى فَجَمَعْتَ شَمْلَهْ
وَأَضَأْتَ لِلأَزَلِ الْخَفِيِّ
…
طَرِيَقَهُ فَهَدَيْتَ عَقْلَهْ. . .!
عَيْبُ الْهُدَى أَنَّ الْهُدَا
…
ةَ عَلْيكِ يا دُنْيَايَ قِلّهْ!
يا سِرَّها. . . أَهوَاكَ لَ
…
كِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ تَعْسِي!
أَرْجُوكَ لِي وَحْدِي وَمَا
…
أَنَا مَنْ خَلَقْتُ شَقَاَء نَفْسِي
ظَمْآنُ وَالْخَمْرُ الْحَلَا
…
لُ تَفيضُ مِنْ دَنِّي وَكَأْسي!
ضَيّعْتُ في بِيدِ الحَيَا
…
ةِ مَوَاهبِي وَفَقَدْت حِسِّي
يا سِرَّها. . . مَنْ لِي سِوَا
…
كَ إذا تَرَكتَ الْقَلْبَ وَحْدَهْ؟
لَا الْوَهْم يُؤْنِسُهُ وَلَا الدّ
…
نيَا تَرُدُّ عَلَيْهِ سَعْدَهْ. . .
أَشْقَاهُ أَنَّ الوَحْدَةَ الْ
…
خرْسَاَء تَرْعَى الْيَوْمَ عَهْدَهْ!
يا لَيْتَ مَنْ يَهْوَى تَصُو
…
نُ وِدَادَهُ وَتَحُفُّ مَهْدَهْ. . .!
يا سِرَّها. . . أَنَا تَائِهٌ
…
ضَلَّ السَّبِيلَ إلى مَرَادِكْ
أنَا شاعِرٌ شاقَتْهُ أطْ
…
يَافٌ تَرِفُّ عَلى مِهَادِكْ!
أَنَا عَابِدٌ فِي هيْكلِ ال
…
أشْوَاقِ حَنَّ إلى وِدَادِكْ!
أهْوَى الحقِيقَةَ فِيكَ فَاج
…
عَلْ مِنْ حَيَاتِي بَعْضَ زَادِكْ!
يا سِرَّها. . . فِي مَعْبَدِ الْ
…
أَلْحَانِ قَدْ بَارَكتُ رُوحِي!
وَمَضَيْتُ وَحْدِي فِي الحَيا
…
ةِ تَئِنُّ مِنْ أَلَمٍ جُرُوحِي!
حَيْرَانَ أَحْمِلُ عِبَْء آ
…
مَالِي وَأَكبَحُ مِنْ جُمُوحِي!
الْجَدْبُ أَتْعَسَنِي وَمَا
…
مِنْ قَبْلُ أَسْعَدَنِي طُمُوحِي!
يا سِرَّها. . . هاتِ النَّعِي
…
مَ بِجُرْعَةٍ لِي مِنْ دِنَانِكْ!
وَاسْكُبْ عَلَى قَلبِي الحَنا
…
نَ فَقَدْ ظَمِئْتُ إلى حَنَانِكْ
وَامْسَحْ بِكَفِّكَ كُلَّ آ
…
لَامِي لأَسْعَدَ فِي زَمَانِكْ
مَا لِلشَّقِيِّ طَغَتْ عَلَيْهِ الْ
…
عَادِيَاتُ سِوَى أَمَانِكْ!
يا سِرَّها. . . قَدْ ضَلَّ بِي
…
أَمْسِي فَجِئتُ إليك وَحْدِي!
وَدَّعْتُهُ وَمَضَيْتُ يَهْ
…
دِيني إلى دُنْيَاكَ وَجْدِي!
النُّورُ مِلْءُ دَمِي فَكَي
…
فَ أَضِلُّ يَا نَجْوَايَ قَصْدِي؟!
وَالحُبُّ؟. . . هَلْ كانَ الهوَى
…
إِلاّ أَناشِيدِي وَمَجْدِي؟!
يا سِرَّها. . . أَنَا عَابِدُ ال
…
أسرَارِ فِي مَلَكُوتِ قَلبِي!
أَنَا مَنْ سَكَبْتُ الرُّوحَ قُرْ
…
باناً عَلَى مِحْرَابِ حُبِّي. . .
إِنْ كُنْتُ أَهْوَى فِيكَ أَحْ
…
لَامِي فَمَا حُبِّيكَ ذَنبِي
مِنْ طُول حِرْمَانِي أَلِفْ
…
تُ تَعَاسَتي وَعَشِقْتُ جَدْبي!
الأدب في أسبوع
الشعر والشعراء
أخشى أن يكون أهم أركان إحساس الشاعر بمعانيه إحساساً كاملاً نافذاً متغلغلاً، لا يدعُ للمنطق العقلي المجرد عملاً في تكوين شعوره. وليس معنى ذلك أن يتعرى الشعر من المنطق العقلي المجرد، بل معناه أن ينقلب المنطق العقلي - بكماله وتمامه وقوته واستوائه واستقامته - حاسةً دقيقة مدبرة تعمل في حياطة الإحساس والقيام عليه وتصريفه في وجوهه على هدىً لا يضل معه، فلا يشرد عن الغرض الذي يرمي إليه في التعبير عن الصور التي تنشأ لهذا الإحساس. وإذن فأكبر عمل المنطق العقلي في الشاعر - أن يُمِدَّ الإحساس، بما ليس له من الاستواء والاستقامة والسداد، وكذلك تتداعى إليه الألفاظ التي يريد التعبير بها مقترناً بعضها إلى بعض، بحيث لا تخرج هذه الألفاظ في الكلام حائرة قلقة، تجول في عبارتها من انقطاع الرباط الذي يربطها بالمعاني التي أحسها الشاعر، فهاجته فغلبته فأراد التعبير عنها تعبيراً صافياً مهتزاً متغلغلاً قوياً، فيه صفاء الإحساس واهتزازه وتغلغله وقوته
وأداة المنطق لعقلي هي اللغة، والعقل بغير اللغة لا يستطيع أن يستوي ويتسلسل ويتصل، ولا أن تتدفق معانيه في مجراها الطبيعي.
فالمنطق العقلي كما ترى هو خزانة اللغة التي تمول الإحساس، فهو يتقاضاها ما تستطيع أن تمده به من المادة التي تمكنه من الظهور والانتقال. فربما أخذ من اللغة ما هو (موصل رديء) للإحساس، وربما أخذ منها ما هو (موصل جيد) يستطيع أن يسرى فيه إلى قارئه أو سامعه. فإذا عرفت هذا أيقنت أن الشعر يتصل أول ما يتصل بإحساس قارئه وسامعه، فيهزه بقدر ما تحمل ألفاظه من إحساس قائله. فإذا أخفق أن يكون أثره كذلك، فمرجع هذا إلى أحد أمرين:
إما أن الشاعر لم يوفق إحساسه في الاستمداد من لغته - ما يطابق الإحساس ويكون (موصلاً جيداً) له؛ لأن منطقه العقلي لم ينبذ إليه من مادته ما هو حق المعاني التي يتطلبها إحساسه، هذه واحدة. أو لأن مادة هذا المنطق العقلي أفقر من إحساس الشاعر، فهي لا تملك عندها ما يكفي للتعبير عن إحساسه، فهذه أخرى. ولهذه العلة الأخيرة تجد كثيراً من
عامة الناس ليسوا شعراء، ومع ذلك فربما كان أحدهم أدق إحساساً وأعمق وأعنف، ويكون إحساسه أحفل بالمعاني وأغنى، وإنما يقطعه عن الشعر هذه العلة، وهي فقر المنطق العقلي من اللغة التي هي مال له. أو انقطاع المنطق العقلي دون الوصول إلى المنطقة التي ينقلب فيها هذا المنطق - بكماله وتمامه وقوته واستوائه واستقامته - حاسة دقيقة مدبرة تعمل في حياطة الإحساس والقيام عليه وتسديده للغرض الذي يرمى إليه في التعبير عن معاني الإحساس، كما قدمنا آنفاً
وأما الأمر الثاني - الذي يخفق بسببه الشعر في التأثير - فمرده إلى القارئ أو السامع. فإذا كان إحساس السامع أو القارئ ضعيفاً بليداً غثاً، فمهما يأته من شعر حافل قويٍ عنيف دقيق العبارة عن إحساس شاعره - فهو لديه شيءٌ فاترٌ ضعيفٌ لا يهزه ولا يبلغ منه ولا ينفذ فيه؛ وهذا الضرب من العامة الذين لا يتأثرون بالشعر لا يمتد بهم ولا ينظر إليهم، ولكن هناك ضرب آخر يكون بليغ الإحساس جيد التلقي، صالحاً للتأثر بما ينتقل إليه من هزة الإحساس فيهتز لها ويطرب، وقد يكون مع ذلك خلواً من اللغة التي يعبر بها الشعر، إذ ليس له منطق عقلي سامٍ متخير للكلام يختزن اللغة بنفسه إذا فكر، ولفهمه إذا حدث أو أنشد؛ فهو ربما سمع الشعر الجيد فلم يبلغ منه المبلغ الذي أريد له هذا الشعر، وكثر هؤلاء في عصرنا هذا حتى سقط الشعر ولم يحفل به إلا قليل؛ وهم لم يكونوا كذلك إلا لفساد التعليل وقلة احتفاله باللغة وبيانها وأسلوب مجازها، ولأن الجهلاء والسخفاء هم سواد الناس؛ وفساد الطبائع فيهم راجع إلى هذين: فمخالطة الجهالة تورث الجهالة والخبال، وترك التعلم وسوء التعليم ذريعةٌ مفضيةٌ إلى الجهل والبلادة، فكيف - مع هذين - يخلص أحدهم من فقر العقل وبلادة التأثر بالشعر البليغ الحافل بالإحساس المشبوب العنيف؟
فأنت ترى: أن اللغة المتخيرة المرصدة للتعبير عن الإحساس تعبيراً مسدداً بالمنطق العقلي الذي لا يزل على مدارج المجاز فتنقطع صلاته بحقائق المعاني التي وضعت لها هذه الألفاظ اللغوية. . .، ثم المنطق العقلي الذي يختزن هذه اللغة، ويستطيع أن يتحول حاسة دقيقة مدبرة تقوم على الإحساس وتحوطه من الضلال. . .، ثم المعاني التي يتمثلها إحساس الشاعر حين يهيجه ما يؤثر فيه تأثيراً قوياً عنيفاً - هذه الثلاثة هي، مادة الشعر الجيد، فإذا سقط أحدها أو انحط أو ضعف؛ سقط الشعر بسقوطه أو انحط أو ضعف
وأنا أقول: إن أكثر شعر العصر العربي الحاضر قد انحط وضعف وسقط، لأن أكثر الشعراء قد بلغ منهم العيب مبلغاً أفسد كل ما يعتد به من آثار (الشاعرية) التي بقيت فيهم؛ ولم يخلص لأحد منهم جميع هذه الثلاثة التي ذكرنا. ولكن بقى لشاعرين أو ثلاثة ما يمكن أن يلحقهم بأهل المرتبة الأولى من الشعراء العبقريين؛ وهذه المرتبة الأولى إنما نتخيلها ولا نكاد نعرف أحداً استوى عليها، فملك فيها بيان العربية وشعرها يصرفهما كيف شاء، فيكون في تاريخ اللسان العربي عبقرية جديدة كامرئ القيس، ومسلم بن الوليد، والمتنبي، وأبي نواس، والبحتري، وأبي تمام، وغيرهم ممن يعد لساناً وحده. . .
شاعر!!
وأحد هؤلاء الشعراء الثلاثة الذين سيدفعون أنفسهم في مجاز العربية حتى يبلغوا المرتبة الأولى - فيما نتوهم - هو (محمود حسن إسماعيل): فهو إنسان مرهف الحس دقيقه، متوهج النفس، سريع التلقي للمعاني التي يصورها له إحساسه، وإن إحساسه لينشئ له من هذه الصور والمعاني أكثر مما يستطيع أن يطيق صبره؛ وهو - إذ فقد الصبر على مطاولة هذه المعاني من إحساسه - تراه يثب وثباً من أول المعنى إلى آخره لا يترفق، كأن في إحساسه روح (قنبلة). فلذلك تجد المنطق العقلي في شعره متفجراً أبداً لا يبالي (أوقع على اللفظ من اللغة، أم وقع اللفظ عليه)، ولكنه على كل حال منطق يقظ حساس بعيد الوثبة، يحاول دائماً أن يضبط هذا الإحساس الذي لا يهدأ ولا يستقر. وسينتهي - بعد قليل من المصابرة والمرابطة لإحساس شاعره - إلى القدرة على متابعة إحساسه وكبحه وتزجيته على هدى واحد مؤتلف غير مختلف، وذلك حين يجتاز الشاعر السن التي هي علة التوقد الدائم والاهتزاز المتتابع تتابع البرق إذا خفق وومض وضرب بعضه بعضاً بسياط من الضوء في عوارض السحاب. . . وأما لغته، فقد ملك منها ما يكفيه بقدر حاجة بعض إحساسه، فإذا امتدت يده إلى خزائن العربية التي لا تنفد، وتداخل في أسرار حروفها بالمدارسة الطويلة، تآمرت - ثلاثتها - على تسنية الأبواب له واحداً بعد واحد، حتى يستطيع أن يستوي على سرارة المرتبة الأولى للشعر غير مدافع.
هذا. . . وإن في كثير من شعره الذي نشره إلى اليوم، ما يجعلني على ثقة - إن شاء الله - من أنه مدرك ذلك لا محالة، فهو قد استولى على كل ما هو به شاعر، ولا أظن ظن
السوء بقدر الله أن يكون هو قاطعه دون المنهج الذي تعبد بين يديه، ولم يبق له إلا قليل حتى يبلغ الذروة العليا
قصيدة الزلزال
وقد قرأت قصيدته الأخيرة في (فاجعة تركيا) - كما سماها - ثم سمعتها، فوجدت لزاماً علي في هذا الباب أن أثبت بعض رأيي في الشعر والشاعر، ثم في (محمود حسن إسماعيل) خاصة، ثم في هذه القصيدة. وقبيح أن يجهل مريدو الشعر الجيد هذه القصيدة الفذة، التي تكشف عن السر المستكن وراء هذا الشاعر. وإذ قد عرضنا مرة لبعض الشعر الأسود المظلم، فلا بد إذن من أن نمحو آيته ببعض آيات الشعر المشرق المضيء
وقد كان (زلزال الأناضول) عذاباً من العذاب الأكبر بأهواله، حتى قالوا إنه أشد ما عرف من الزلازل وأخطرها وأفضعها موقعاً وأثراً، وقد كان ما تنشره الصحف اليومية من أخباره هولاً هائلاً مفزعاً يكاد يجعل الولدان شيباً. فلاشك إذن أن يكون هذا الرعب الراجف في إحساس شاعر فزعٍ (كمحمود) رجفةً يرعد بها رعدة طائرة مدوية مصلصلة مجلجلة
وأنت إذا بدأت القصيدة:
هات الشدائد للجريحةِ هاتها
…
فالصبر في الأهوال دين أُساتها
واحشُد صروفك يا زمان فربما
…
لهب العظائم شُب من نكباتها
ولعلها خمرٌ تدور فيستقي
…
خمر الكفاح الشرق من كاساتها
رأيت الأمر والنداء، نداء الفزع الطامي بطغيان أمواجه على إحساس الشاعر، فلم يملك إلا إسلام نفسه إلى اليأس، فيستزيد من البلاء ويطلبه فيقول:(هات الشدائد) ثم يعود فيقول: (هاتها) ليثبت إيمانه بالصبر على هذا البلاء، فهو إيحاء؛ إذ قد يئس أن يصرف عن إحساسه ما طغى به عليه هول ما سمع من صفة الزلزال. ويدُّلك على أن هذا المطلع قطعة من اليأس، عودته إلى الشك في هذه الشدائد الموقدة بنارها ولهيبها، والتي زلزلت أمة من الناس فكانوا كما قال الله تعالى في صفة زلزلة الساعة:(يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد). فكذلك عاد الشاعر يشك بعد طغيان البلاء عليه - أن ينقلب كل ذلك الرعب
الذي اضطرب به الناس سكراً يجري - هذا الشرق المغلوب - على الكفاح، في زمن يرمى من أهواله شدائد ترجف بالشرق رجفة كأشد ما رجفتْ زلزلة الأناضول، فلذلك قال:(ولعلها خمر. . .)
هي أمةٌ زلزلتَ جَنبَ مِهادها
…
ونفختَ ريحَ الموت في جَنباتها
وهذا البيت يكاد يكون الحد الفاصل بين يأس الشاعر الذي طغى عليه حتى أنساه روح الزلزلة التي كانت في إحساسه، وهو نفسه الذي يردُّه مرة أخرى فزعاً ثائراً متوثباً تتقاذفه تهاويل إحساسه في رعب بعد رعب
شَوَّهتَ صَفحتها بمديةِ جازِرٍ
…
الرحمة انتحرت بحدِّ شَباتِها
مجنونةُ الحدّيْن لو هي لوحتْ
…
لانهد ركن الأرض من حركاتها
ذئبية الشهوات جاع حديدُها
…
وأرق جوع الوحش في لهواتها
وهنا موضع يوقف عنده، فإن المعنى الذي أراده الشاعر، والصورة التي نشأت من شدة إحساسه بهول الزلزلة - طغت فلم يستطع المنطق أن يضبط اللغة على قياسها؛ فهو يريد أن يقول: إنه يرى هذه المدية الصقيلة الذئبية الجائعة المهلكة المجنونة فيرى على حديها وصفحتيها من فرندها وضوئها ومائها ما ينساب ويَّتريق ويتلألأ ويرمي بأضوائه كأنه ضوء جائع يريد أن يلتهم كل ما يلقاه، وذلك قوله:(وأراق جوع الوحش في لهواتها) فقوله: (وأراق) هنا لا توافق المعنى، وقد أوقعه عليها اختلاط (فرند المدية) - وهو ماؤها - بالمعنى الذي أراده، ولو قال:(يذكي سعار الوحش في لهواتها) أو ما يقارب ذلك لكان أجود
ثم يمضي الشاعر في تصوير ما تخيله - حين فجأت الزلزلة الأناضول -:
والناسُ غَرْقى في السكون سَجتْ بهم
…
سِنَةٌ يَنامُ الهوْلُ في سَكناتِها
بَيناهُم فَوْق المهودِ عَوَالمٌ
…
غشَّى ضبابُ الصمت كل جهاتها
وإذا بقلبِ الأرضِ يرجفُ رجفةً:
…
دُكَّ الصباحُ وذابَ في خفقاتِها
وانشّقت الدُّنيا لديه فلم يَجِدْ
…
أرضاً يغيثُ النورَ في ربواتِها
فَطوَى المدائن والقرَى وَهوَى بها
…
في سدْفَة تهوِي على ظلماتِها
وبنى اللحودَ على المهودِ وهدَّها
…
فنضا ستورَ الموت عن عَوراتها
زأرت جراحُ الأرضِ فاهتاجَ الردى
…
وتنهد الزلزال في ساحاتها
وإذا الذي أتى به في وصف الزلزلة إلى آخر القصيدة شيء هائل مخيف تقشعر له الأبدان، وتراه متدفقاً طاغياً لا تكاد تقف على كلمة منه إلا مرتاعاً قد قَّف شعرك عن هول ما تنقل إليك ألفاظه من معاني إحساسه الثائر المتفجر
أنفاسه لهبُ الجحيمِ وخطوه
…
خطو المنايا السود في فجآتها
إلى بعض القراء
. . . وبعد، فإن العالم الثقة الثبت المحقق الدكتور بشر فارس قد علم فعلَّم!! وأنا أشكر له ما علمني، فأنا لا أحب أن أكون كالذي قيل في أمره:(لا تناظر جاهلاً ولا لجوجاً، فإنهم يجعل المناظرة ذريعة إلى التعلم بغير شكر). ثم بصرني (بشر) أيضاً بما كنت أجهل من العروض واللغة والبيان، فأوغر صدري، فنثرت حول قهري ما ملكت من نفاية الكلام، وكذلك طوقت نفسي به زينة وحلية أتبرج بها للناس، أو كما قال! وهو كذلك. . .
فأنا أحمد الله الذي كفاني شر الغرور والخيلاء، ولم يجعلني كالجاهلة الخرقاء التي زعموها تأنقت بما ليس فيها، ولا هو من طباعها، حتى ضربوا بها المثل فقالوا:(خرقاء ذات نيقة) والحمد لله الذي لم يجعلني ممن يتزين بما ليس تملكه يداه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)؛ والحمد لله الذي جعلني جاهلاً يعرف أنه جاهل، ومن أين لمثلي العلم؟ أليس قد (ذهب العلم إلا غبارات في أوعية سوء) كما قال أبن شبرمة في رواية بشر فارس عن أبن شبرمة:(بريد (الرسالة) العدد 346).
وقد قرر الأستاذ بشر أنه بصرني بأمور ثلاثة، وأني سلمت مرغماً بصرني بما كنت أجهل من أمرها!! وإذا قرر الأستاذ بشر فقد وجب عليَّ وعلى الناس التسليم بما قرر؛ أليس ذلك كذلك؟ بلى، (سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير)
ومع ذلك، فمن غلبة الجهل علينا أن البحر الذي وضعه وسماه (المنطلق)، لا يزال عندنا وعند أصحابنا من علماء العروض - هو من (مجزوءة المتدارك) أدخل الشاعر الأستاذ على ضربها العرج أو الفساد أو الخبن أو ما شئت فسمِّه، ثم ألزمها ذلك في سائر أبياته، ثم قال إنه وضع بحراً. ومن غلبة جهلنا أيضاً أننا نعده وزناً ثقيلاً غثاً كسائر الأوزان الممكنة التي تركتها العرب لثقلها على السمع، فلم تجزها في شعرها؛ ومن غلبة جهلنا أيضاً أننا لا نزال ندعي أن لن يوجد في أصحاب الألسنة العربية من الشعراء المجيدين من يتابع النظم
على هذا الوزن الجافي من (مجزوءة المتدارك)، وكذلك أهملناه وسنهمله
وأما حديث (الزلزلة)، فلا نزال نقول إن كل حرف من حروف العربية ينقل إلى المجاز، فهو يتطلب دائماً حقيقته، وإلا فسد مجازه. فإذا كان أصل الحرف (زلزل) وحقيقته: أن يزلَّ الشيء عن مكانه مرة بعد مرة، أي أن ينتقل ويتحرك ويسقط ويخرج عن الموضع الذي يستقر عليه، فلابد في كل مجاز لهذا الحرف أن يكون ما يقع عليه فعل الزلزلة - (أي نائب الفاعل أو المفعول) - شيئاً منتقلاً من مكان إلى مكان أو شيئاً يجوز أن ينتقل من مكان إلى مكان، فهذا هو شرط المجاز أو الاستعارة في هذا وأمثاله، وإذ ليست الأذن كذلك، فقولك (زلزل الطرب أذني) مجاز فاسد لأن الأذن ثابتة لا تتحرك
وإذا قال كتاب (خلاصة الطبيعة، في الصوت!!) في باب (شرح عمل الأذن) إن الصوت يهز غشاء طبلة الأذن حين تصكها الأمواج الهوائية التي يحدثها مصدر الصوت، فليس معنى (يهز الغشاء) هنا أنه ينقله من مكان إلى مكان آخر، فإذا كان ذلك كذلك، وكان غشاء طبلة الأذن مثبتاً لا يتحرك أي لا ينتقل من مكانه، وإنما هو اهتزاز يلحقه، فليس في الدنيا (ناي) أو غيره يستطيع أن يجعله يتحرك أي ينتقل من مكانه، ولو كان في قلب هذا (الناي) عشرون فرقة من فرق (الجازَبند). . . ولو كان ذلك فتحرك الغشاء قليلاً عن مكانه لتمزق وانخرق، وكان الصمم. وإذن فليس يجوز في العربية أن يقال (زلزل الطرب أو الناي غشاء طبلة أذني)! وإلا فهو مجازٌ فاسد أيضاً
وأما ما يقال من أن الزلزلة والطرب على مجاورة في لغتنا!! فهو شيء لا أصل له، وهي عبارة لا تؤدي إلى معنى، وهو كلام (يدخل بعد العِشاءِ في العرب)
وأخيراً. . .، فمن عظة نبينا صلى الله عليه وسلم قوله:(من طلب العلم ليماري به السفهاء، أو يباهي به العلماء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله النار). ونحن نعوذ بالله أن نخالف عن أمر نبينا، أو نكون ممن يستخف بما أنذر به، فنباهي الأستاذ بشر بما نعلم، وإذن فلست أجعل حديثي هذا إلا للقراء وحدهم لأضع به عن نفسي أمانة العلم. . .
حتى إذا ما الصباح لاح لهم
…
بيَّن ستُّوقهم من الذهب
والناس قد أصبحوا صيارفة
…
أعلم شيء بزائف النسب
فأستأذن القراء وأستغفرهم، فأنا امرؤ لا يحب أن ينصب نفسه لمن هو عند نفسه أكبر من نفسه والسلام
ابن شبرمة!!
ومادمنا في حديث أمانة العلم، فقد رأيت أن الأستاذ المحقق (بشر فارس) روى خبراً عن ابن شبرمة القاضي قدمناه آنفاً وهو:(ذهب العلم إلا غبارات في أوعية سوءٍ). وقد رأيت صاحب العقد الفريد (ج 1 ص 205 طبعة بولاق أيضاَ!) قد أورده بهذا النص عينه، وهو يبدو لنا نصاً عربياً مظلم النور
وتحرير رواية الخبر: (ذهب العلم إلا غبراتٍ في أوعية سوء) بضم الغين المعجمة وفتح الباء المشددة. والغبرات جمع غبَّر، وهو آخر الشيء وعقابيله وما يبقى منه. يريد ابن شبرمة: أن العلم لم يبق منه إلا قليل قد وقع في صدور رجال من الفخار والخزف لا تضيء ولا تقبل الضوء
وقد ورد هذا الحرف (غبرات) في حديث عمرو بن العاص يقول لعمر بن الخطاب: (إني والله ما تأبِّطتني الإماءُ، ولا حملتني البغايا في غبَّرات المآلي). والمآلي خرق للنساء يكون فيها الدم، وغبَّراتها بقايا الدم. ومن ذلك أيضاً قول أبي كبير الهُذلي يصف ابن زوجته تأبط شرّاً الشاعر الفاتك:
حَملتْ بِهِ في ليلةٍ مَزْؤودةٍ
…
كرْهاً وعقدُ نِطاقِها لم يحللِ
فأتتْ بِهِ حوشِ الفؤاد مبطناً
…
سُهداً إذا ما نام ليل الهوْجل
ومبرَّأ من كل (غُبّر حيضة)
…
وفساد مرضعة، وداءُ مغْيل
فهذا تحقيق رواية الخبر على التحرير والدراية، فمن كانت عنده نسخة من (العقد الفريد طبعة بولاق!) فليصححه
محمود محمد شاكر
رسالة الفن
دراسات في الفن:
هما أحدبان
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
ما هذه الأرقام التي تحسبها في الورقة؟
- هي تكاليف أحدب نوتردام أحلم بأني سأخرجها في مصر
- بعد أن رأيناها من لون شاني ولاوتون. . . من يخرجها ومن يمثل لك الأحدب في مصر؟
- هذا شيء لا أفكر فيه إلا بعد أن يعطيني الله هذا المال كله
- إذن فلن تفكر فيه أبداً
- ومن يدريك أني لن أفكر فيه غداً. . . (غد غيوب وأقدار وأسرار)
- رحم الله شوقي
- وفيكتور هيجو، ولون شاني، وكل من فتح قلبه لله فألقى الله فيه ما شاء من نوره، أتعرفين كم أحدودب هيجو حتى كتب الأحدب، وكم أحدودب لون شاني ثم لاوتون؟
- أما لون شاني ولاوتون فقد احدودبا أو قل هما اصطنعا أنهما احدودبا حينما كانا يمثلان في الأستوديو فقط، أما هيجو فلا أظنه احدودب، لأن كتابة الرواية لا تستدعي أن يمثل الكاتب صورها. . .
- لم يرد الدنيا أحدب عاش مثلما عاش أحدب نوتردام. فلابد أن يكون هو الأحدب الأحدب، وإنه لكذلك لأنه هيجو لما احدودب. كم في الدنيا من شقي يعيش ويشقى ويفنى، وفي الدنيا شقي يعيش ويشقى ويخلد. . . أولئك يغمرهم شقاؤهم ويبعدهم عن ذكر ربهم، وهذا يمعن في الشقاء بالرضا والتأمل بحثاً عما فيه من عبرة ولذة
- وهل يجد اللذة من يمعن في الشقاء حتى ليحدودب؟. . .
- وأية لذة؟ ألم يقل هيجو على لسان غجري قصد باريس وأراد أن يمنعه عنها حراسها: (ما هذه الأوامر؟ هذه أرض الله جئتموها أنتم بالأمس وجئناها نحن اليوم!) ألم يقل هيجو
هذا؟
وكيف كان يمكن أن يقوله لو لم يشعر بأن هذه الأرض أرض الله حقاً، وأنه للناس أن يعيشوا فيها كما يعيش الطير في السماء. . . والله يرزقهم. . . وهل في الدنيا شعور باللذة أبلغ من شعور الطلاقة هذا؟ لا ريب أن هيجو كان يشعر باللذة حين كان يشعر بالشقوة ولا ريب أنه عانى في هذا الاضطراب كثيراً، ولعلك تذكرين أنه عبر عن اضطرابه هذا بلسان الأحدب إذ أفلتت منه معشوقته، ورأى أن عليه توديعها لصاحبها:(رب! لماذا لم تخلقني حجراً؟!). . . واحتضن صنما. . .
- فهو كان يرى الحجر أسعد من البشر. . .
- وهذا الذي يراه كل من عجز، وهو الذي يراه أخيراً كل من كفر. . . أما يقول القرآن: إن الكافر سيقول يوم القيامة (يا ليتني كنت ترابا)؟!
- وهل كان الأحدب كافراً؟
- بل كان هيجو مؤمناً. . .
- ما لهيجو؟ إنما نحن الآن في الأحدب.
- والأحدب من هيجو، وليس هو وحده الذي منه، وإنما منه أيضاً كل من في القصة وكل ما فيها، فإذا رأيت أنه يضطرب في الأحدب العاجز حتى ليتمنى أن يكون حجراً، فانظري إليه كيف يختم حياة ملك الشحاذين بثقل ينزل عليه من فوقه في الوقت الذي يتزعم فيه ثورة عنيفة فيها ضرب وكر وفر، وفيها موت يراه بعينيه يتخطف الناس من حوله ولا يحسب لنزوله به حساباً ثم انظري هيجو كيف يغمس في التوفيق شاعر القصة الذي سيق إلى الملك متهماً بإثارة القلاقل وتهديد الأمن العام بالشعر الحانق فما يزال الشاعر المؤمن بشعره يقنع الملك بوجهة نظره حتى يحكم الملك في قضية الشعب حكماً عدلاً يضع حداً للثورة التي لو لم يعمد ملك الشحاذين إلى القوة فيها وانتظر حتى يحق الحق القول الصادق لما لقي فيها حتفه، ولفاز في آخر الأمر بالذي كان ينشد، انظري إلى هذا وانظري إلى غيره تري أن هيجو كان مؤمناً. . . وأنه كان ينظر إلى الأحدب نظرته إلى الكافر
- إذن فقد كان هيجو يكره الأحدب؟. . .
- لا، وإنما كان يرثى له. لأنه لما احدودبت نفسه قدر نعمة الرحمة، وقد نصحه ونصح
كل أحدب أن لا يطمع في غير ما هو أهله وأن يرضى بما هو فيه، كما نصح ملك الشحاذين وكل من هو معتز بقوته مثله أن يكف عن القوة والاعتزاز بها. كما أظهر رضاه عن الشاعر الراضي الفيلسوف الذي يصبر على حبيبته أن تحب غيره حتى تهتدي إليه وتحبه، كما أنه حذر الناس جميعاً من التراجع عن تلبية حسهم، حين جعل الملك يحكم الخنجرين في أمر الغجرية إذ عصب عينيها وقال لها: اختاري من هذين واحداً، فإذا قبضت على خنجري فأنت بريئة فإذا أمسكت الآخر فأنت مذنبة، فامتدت يدها أولاً إلى خنجر البراءة ولكنها تراجعت فعانت بعد ذلك ما عانت. . . كل هذه دلائل إيمان وصبر أضاءا في نفس هيجو. . . فأضاءا قصته هذه وخلداها. . . وإلا فما الذي تحسبينه حفظها وأبقاها؟
- أنها مكتوبة بلغة رائعة وأسلوب رائع. . .
- لا. فما خلدت اللغة وما خلد الأسلوب شيئاً فما هما إلا من أدوات الفن وليسا الفن نفسه. . . إن ملايين الناس في الأزمنة والأمكنة المختلفة ليحبون هيجو، ومنهم من لا يقرأ ولا يكتب لا الفرنسية ولا غيرها، ولكنه يفهم هيجو من إشارات الممثلين وأصواتهم ويقنع بهذا. . . إن الناس جميعاً يرون في أحدب نوتردام صدقاً وعدلاً وأحكاماً تجب في مواقف تستوجبها، فالموت لمن يستحق الموت حيث يجب الموت، والهناء لمن يستحق الهناء حيث يجب الهناء. . . لم شذ هيجو عن العدل في حكم من أحكامه ولم يحاب بطلاً من أبطاله، ولم يعط في دنياه هذه التي جمعها حقاً لغير صاحبه، ولم ينزل بها نكبة على مؤمن
- وهذا القسيس النبيل الذي عشق الغجرية فكان في غرامه هلاكه، ما ذنبه؟
- ذنبه ضعفه. . . هذا قسيس وهب نفسه لله، واطمأن بهذه الهبة على حياته ومستقبله، فما له يريد أن يسترد مما أعطى الله شيئاً من نفسه يعطه غانية صغيرة؟. . . ما له يشعر بهذا الضعف، وماله حين يشعر به لا يعالجه بإيمانه وعزمه، وما له حين يضعف عن علاجه بإيمانه وعزمه لا يكون صريحاً في إعلان ضعفه؛ فإما أن يرتد على عقبيه خطوات في طريق تقواه وورعه، فيخلع مسوح القسيس ويدع الكنيسة وينزل إلى الدنيا، كالمؤمن إذا ارتد، يعرض نفسه على غانيته كما يعرض كل رجل عليها نفسه فإذا اختارته سعد فإذا أعرضت عنه كان عليه أن يرضى. . . كان هذا هو الواجب عليه أن يصنعه ولكنه لم
يصنع منه شيئاً، بل طرأ عليه الضعف فلم يرض أن يشهر على هذا الضعف سلاحاً من نفسه وإنما غطاه بستر منها كان غشاً لكل من حسبوه قسيساً، وكان حجاباً حال بينه وبين التغلب على نفسه. . . فألم به ما ألم به من تشتت البال في الموازنة بين مظهره الطاهر، وبين الكامن من اللوثة في نفسه. . . هذا القسيس كان سليم المظهر ولكنه كان الكافر المشوه النفس، الذي ترجمه هيجو بذلك الأحدب العاجز ببدنه عن إغراء الغجرية. . . إن هذا القسيس هو أحدب نوتردام أكثر مما كأنه الأحدب. . . فإن الأحدب قد دلته طويته السليمة إلى حركة بلهاء أراد بها أن يغري فاتنته. . . إذ غطى لها يوماً البشاعة في وجهه وكشف لها عن عينه الرقراقة الحلوة، ونظر إليها كمن يقول لها ادخلي إلى نفسي من هذا المنفذ، ولو كان في الفتاة حكمة، ولو لم يكن بها من نزق الجمال والصبا طيش وخفة، فلعلها كانت تحبه إن أنعمت التفرس في عينه تلك، ولكنها لم تكن من الحكمة. . . أو لم تكن من البذل بالرأفة. . . وعلى أي حال فالذي يعنينا هو أن الأحدب وجد في نفسه شيئاً جميلاً عرضه، ولكن القسيس الأحدب الروح لم يجد عند روحه ما يعرضه على غانيته! إنه قسيس، وكان يستطيع على الأقل أن يكون مثلما كان الشاعر المجنون محباً على غير أمل، وكان على هذا يستطيع أن يحملها على حبه، وكان بعد هذا يستطيع أن يسلمها (لنوتردام) مادام قد أقام نفسه في (نوتردام) راعياً. . . ولكنه لم يفعل شيئاً من هذا وانخذل أمام نزوة من نزوات نفسه. . . فكان على علمه وعلو شأنه، وسلامة بدنه أشقى حالاً من الأحدب، فقد رضى الأحدب أن يتمنى الجمود والتحجر وأن يروض نفسه عليهما، أما هو فقد أبى إلا أن يشعل النار في الدنيا وأن يضرب الناس بالناس حقداً وغلاً وعمى عن واجبه وحقه. . .
- إذن فإن هذا هو الأحدب
- إنه على الأقل الأحدب الأول. وقد كنت أحب أن يمثله لاوتون، فهذا الدور من غير شك معرض لعواطف وتقلبات أكثر من الطارئة على الأحدب الآخر. . .
- ولكن هذا الدور لم يلتفت إليه أحد هذه اللفتة، وإنما يعنى أبطال التمثيل بالدور الآخر. . .
- لعل ذلك لأنه أظهر لعيون، ولأن تمثيله يحتاج إلى مكياج بارع يتحدى الممثلون بعضهم
بعضاً بإجادته وإتقانه. وهذا عيب من عيوب السرعة الآخذة برجال الفن في هذا العصر، وقد كنت أحسب لاوتون ينجو منها هذه المرة كما نجا منها مرة سابقة في بؤساء هيجو أيضاً. . . فإنه ترك دور جان فلجان لفردريك مارش ومثل هو دور جافيير البوليس السري، وجافيير كان أبأس من جان فلجان نفساً وأشقى روحاً وإن كان يظهر لجان فلجان أنه الأبأس. . . كما أن الناس يحسبون قارع الأجراس في أحدب نوتردام أنه الأحدب بينما ذاك القسيس هو الأحدب. . .
- ولماذا لا يكونان بائسين، وأحدبين؟. . .
- هما بائسان وهما أحدبان حقاً. . . ولكن البائسين أحدهما تجسد البؤس فيه وظهر فخف عنه تكاثف البؤس وانحباسه في نفسه، والآخر توارى البؤس بين جنبيه واستتر فهو ينفث سمه في داخله ولا ينتثر من بؤسه شيء خارج نفسه، والأحدبان أحدهما تفجر بالقبح بدنه فانزاح القبح عن روحه، والآخر ازدرد هذا القبح وهو لا يفتأ يجتره فهو غذاؤه ومادة عيشه. . . هذه هي شجرة الزقوم التي يأكل منها الكافرون لا تطعمهم ولا تسمنهم ولا تغنيهم من جوع، وأسوأ ما فيها علمهم بغصتها، وأسوأ من هذا نهمهم إليها وشغفهم بها. . . ما كان أروع لاوتون لو أنه مثل هذا الأحدب!. . .
- ومن كان يمثل الأحدب الآخر؟
- أي واحد! بوريس كارلوف مثلاً
- ولكن بوريس جامد أصم
- كان أمام لاوتون لا يستطيع إلا أن يتحرك. . . فبوريس مسكين. كل ما يسندونه إليه من الأدوار شاذة كثيرة الحركة، وما أقل الفرص التي أعطوها ليمثل. . . فإذا لم يكن بوريس يعجبكم فقد كان على لاوتون أن يمثل الدورين معاً وهذا ممكن في السينما. . . إنني حسبت حساب هذا مع هذه الأرقام التي كنت أكتبها. . .
- ولكن هذا عمل شاق قد لا يستطيعه ممثل
- إن لاوتون يستطيعه، ولكنها فكرة لم تخطر له حين كان يدرس الأحدب، فلا ريب أنه أسرع في دراستها أكثر مما أسرع في دراسة البؤساء، فوقع على أحدب المظهر وفاته أحدب المخبر؛ ولا ريب أيضاً أنه وضع في قرارة نفسه نية المباراة مع المرحوم لون
شاني. . ولو كان قد أغفل هذه لكان قد خلص فأخلص فاستخلص. . .
- يا للرزية! حتى لاوتون تعيبه. . . فمن يعجبك؟. . .
- لاوتون حينما يصفو. . . ولاوتون في الأحدب أيضاً. . . بل لقد راعني أكثر مما راعني لون شاني. . . ذلك أني خرجت من (لون شاني) وأنا كارهه. . . كاره الأحدب. . . بينما قد حببني فيه لاوتون. . . أو حملني على الترحم له على الأقل
- إني لا أرى الفرق بينهما محدداً هكذا كما تراه، ولعل ذلك راجع إلى طول عهدنا بلون شاني في الأحدب. . .
- على أي حال فإني لا أجزم بهذا الفرق بينهما وإنما أجزم به في نفسي، وقد يكون مرجعه اختلاف كل منهما عن صاحبه في تذوق الأحدب وتفهمه، وقد يكون مرجعه اختلاف نفسي بين ما أنا عليه اليوم من القدرة على التذوق والفهم، وبين ما كنت عليه فيما مضى، وقد يكون مرجعه كذلك اختلاف دواعي التذوق والتفهم عندي بين اليوم والأمس
- وما دواعي التفهم والتذوق هذه. . .؟
- ربونا على أن يخيفنا (أبو رجل مسلوخة). . . ولم أكن في صباي قد تخلصت مما غرس في ذهني ولم أكن بعد قد أحببت المشوهين والضعفاء والعجزة والمرضى. . .
- وأنت الآن تحبهم؟
- أحسب ذلك. فإذا لم أكن أحبهم فإني على الأقل أتحبب إليهم. . .
عزيز أحمد فهمي
القصص
حلم شاعر
للأستاذ محمد سعيد العريان
الليلة عيد مولده!
أولئك أصحابه وصواحبه قد أحاطوا به فرحين مهللين، يضيء البشر في قسماتهم، وترف على شفاههم بسمات الفرح والمسرة؛ قد تنادوا إلى موعدهم ودعوه معهم إلى ناديهم، ليحتفلوا بعيد مولده!
وإنه لجالس بينهم ولكنه ليس منهم؛ إنه هنا ولكنه هناك!
. . . وفي يده زهرة يعبث بها. . . وضمها بين راحتيه ومال عليها برأسه. ما به أن يشمها؛ فإن عطرها ليأرج حوله وينتشر، ولكنه ينظر ويفكر. . .
. . . وراحت أصابعه تنثرها ورقة تساقط عند قدميه وهو يعد، وعد ثلاثين ورقة، ثم تعرت الزهرة من أوراقها إلا عوداً أخضر ليس له عطر ولا رواء؛ وهمس الشاعر: هذه هي دنيانا. . . واختلجت شفتاه وأطرق؛ وعاد يعد الأوراق المنثورة تحت قدميه. . .
. . . ثلاثون ورقة!. . . ذلك كل تاريخ الوردة؛ فما هي بعد الثلاثين إلا عود ذابل متفتر وورقات منثورة على التراب، وكانت وردةً عطرة يعبق بأريجها الجو وتهفو إليها الزهرات الطيارة من فراش البستان. . . فماذا يكون هو بعد الثلاثين وقد غربت شمسها منذ ساعات. . .؟
وعاد ينظر إلى أصحابه وصواحبه، يبادلهم تحية بتحية، وكلمات بكلمات؛ لا يكاد يشعر أن هؤلاء جميعاً قد التقوا على ميعاد ليحتفلوا به في عيد مولده؛ فإن سيلاً من الخواطر والذكريات يتدافع في رأسه الساعة، فما يكاد يرى أو يسمع إلا نجوى نفسه وهمس أمانيه؛ وغامت على عينيه غائمة، فشطح إلى واد بعيد. . . وإن أصحابه وصواحبه من المرح والبهجة لا يكادون يشعرون أنهم هنا وأنه هناك؛ وما اجتمعوا إلا حفاوة بعيد مولده. . .!
وأحس الشاعر إحساس الوحدة، وإنه لبين أصحابه وأصفى الناس له؛ فتركهم لما هم فيه وتركوه، وإن وجهاً في وجه، وإن ابتسامة تجاوب ابتسامة، وإن كلمة تحِّيي وكلمة ترد. . .
وأنفض السامر ومضى كل لوجهه، ومد الشاعر يده يصافحهم ويشكر لهم؛ ثم تفرقت بهم
السبل. . .
. . . ووجد الشاعر نفسه وهو يمشي وحده في جنح الظلام، وأحس الوحدة الرهيبة التي يعيش فيها منذ كان؛ فمضى يتحدث إلى نفسه وتحدثه، وخنقته العبرة فأرسلها، ثم تتابعت عيناه. وعاد الزمان القهقري ينشر على عينيه ماضيه ويذكره أمانيه. . .
وقالت له نفسه: هذا سبيلك فامض فيه على هدىً وبصيرة، وانظر ماذا أعددت لغد؟
وقال لنفسه: وهل ترين الغد يا نفس إلا صورة من أمس الذي كان؟ وهل ترينني في غد غير من أنا اليوم وغير من كنت في الماضي؟. . .
لقد تجاوز الثلاثين ولم يزل حيث كان يوم بدأ؛ فماذا يكون غير الذي كان؟
وأوى إلى فراشه وأطفأ المصباح، ليقضي ما بقي من الليل يراوح بين جنبيه في فراشه الوحدة لا يهدأ ولا يستقر!
كان شاعراً بروحه وفطرته قبل أن يكون شاعراً له لسان وبيان: نظر إلى الناس في دنياه فاستوعبهم بنظرة، ثم عاد ينظر إلى نفسه فلم يعرف أين هو من نفسه وأين هو من الناس؛ وشعر بالوحدة منذ شعر أنه يعيش في جماعة. وكان له خيال وفي نفسه أمل؛ فتوزعته دنياه ودنيا الناس؛ فلا هو عاش في دنيا الناس واحداً منهم ولا هو عاش في دنياه وحده!
وألحت عليه ضرورات الحياة، فأبت عليه فطرة الشاعر أن يلتمس بعض وسائل الناس؛ فعاش من ضروراته وفطرته بين قوتين تتجاذبانه، لا سبيل إلى الخلاص منهما معاً إلا أن يعيش روحاً بلا جسد أو جسداً بلا روح؛ وهيهات!
وفكر فيما خلق الله وفكر في نفسه؛ فكأن في كل ما يراه لساناً يحدثه، وفي كل ما يسمعه معنى يهتف به؛ وكأن في كل منظور حقيقة غير منظورة لا تتكشف إلا لعينيه ولا يسمع نجواها أحد غيره؛ فإن وراء الغمام طيوفاً تتخايل له في شكول وألوان، وإن في لمعان البرق ومضات من الإلهام، وإن في الصمت لكلاماً أبلغ من الكلام، وإن بين السماء والأرض لعوالم غير منظورة تفضي إليه بأسرارها!
وتكشفت له الدنيا ونضت أستارها؛ فألهمته أن يغني. . .
وفاض ما في جنانه على لسانه سحراً من النغم يعبر عن أخفى خفايا النفس وأعمق أسرار الحياة؛ ولكن ألحانه القدسية قد تلاشت أصداؤها في صخب الحياة وضجة الأحياء؛ فلم
يستمع إليه أحد!
وضاق الشاعر بوحدته بين هذا الناس وضاقت به دنياه؛ فأعتزم الخلاص. . . ولكن روحاً لطيفاً أطل عليه من سماواته فثبت فؤاده. . .
وابتسمت له فأبتسم، وعادت إلى الحياة نضرتها في عينيه، ووجد أنساً من وحشته حين أيقن أنه ليس وحيداً في دنياه!
وعاد يغني. . . ولكن غناءه اليوم ليس له وحده؛ إنه لحن مؤلف من خفقات قلبين قد اجتمعا على أمل. . .
وغنى بها عن الناس، وغنيت به؛ فما يهمه اليوم أن يسمع الناس ما يصدح به من أغاريد الحب أو يكون لها وحدها شدوه وغناؤه!!
أه. . . لشد ما تقسو عليه دنياه!
كان ذلك منذ سنين أما اليوم فقد عادت تقاليد الجماعة تضرب بينه وبينها بسور ليس له باب؛ وعاد إلى الحياة وحده، لا يدري من أمرها ولا تدري من أمره. . .
. . . وأشرق الصبح عليه صبيحة عيد الميلاد، ومازال يراوح بين جنيه في فراش الوحدة لم تغتمض عيناه!
ما هو؟ وأين هو؟ وما دنياه؟
أنه ليحس من حوله فراغاً هائلاً ليس له قرار؛ وإن الوحدة لتكتنفه، فما يشعر أن ثمة أحداً بجانبه يفزع إليه ليؤنس وحشة قلبه؛ وإنه ليعيش من زحمة الحياة وصخب الأحياء في ضجة يموت فيها النغم ويتلاشى الصدى؛ ففيما العيش؟ وما جدواه؟ وإلى أي غاية يمضي؟
وعاد يلتمس الوسيلة إلى الخلاص!. . .
وقالت له نفسه: أتحسب يا صاحبي أنك قد فرغت من دنياك حين خلوت إلى نفسك؟ فما أنت بشاعر!. . . لئن كنت قد عفت الحياة وكرهت المقام في دنياك لأمر من أمور دنياك - إن الحياة ما تزال تطالبك بحقها عليك؛ فإن أديته. . . وإلا، فلست من شعرائها، ولا كنت!. . .
. . . ما الشعر إلا رسالة الحياة إلى الأحياء تعبر عن أسرار الحياة ومعانيها؛ وما هو إلا قبس من نور السماء يتنزل على قلب بشر لتنير به السماء ما حوله من ظلمات البشرية؛
وما هو إلا إحساس زائد على إحساس الناس يرى مالا يرى ذو عين ويسمع ما لا سمع ذو أذن؛ وما هو إلا وحي يوحي من وراء الغيب إلى إنسان تكون فيه زيادة على الإنسانية؛ وما هو إلا إدراك كامل يكشف عن مظاهر الجمال في الكون ويهدي إلى الحق والخير
. . . أفتراك يا صاحبي قد بلغت رسالة الشعر حين حسبت أنك قد فرغت من دنياك، أم أنت. . .؟
وأطرق الشاعر برهة يفكر ثم نهض لأمره. . .
بلى، إن عليه رسالة يؤديها وواجباً ينهض له؛ فلا عليه من الناس حتى يبلغ، فإذا انتهى من أمره فإن نفسه له خالصة يمضي بها حيث يريد
وأمات في دخيلته دواعي النفس ونوازع الهوى ومضى لغايته. . .
وعاد يغني. . . غير آمل ولا خائف، وما به من شيء ضجر ولا ملالة؛ وأنس وسمت روحه في آفاقها إلى ظل عرش الله، حين قمع شهوات نفسه ونوازع هواه وآثر أن يكون نوراً يضيء للناس وهو يشتعل؛ فلقيت أغانيه من يسمع فيعي!
وأفاق الناس على لحن علويٍ ساحر ينشده شاعر وهب نفسه للدعوة إلى الحق والفضيلة والجمال؛ ونظروا، فإذا هو هو، ولكنه صار شخصاً غير من كان، لا تتصباه المنى ولا يعبث به هواه، وليس له في الحياة إلا هدف واحد يسعى إليه. . .
وجاءه المجد حين لا حاجة إليه. . .
وأشارت إليه من النافذة بنان مخضوبة وتقول: إنه لهَو! ولكنه لم ير، ولكنه لم يسمع. . .
وسعى ساعيها إليه يسأله: أئنك لأنت. . .؟
قال: نعم، قد كان ذلك يوماً!
وعلى باب الكوخ المنفرد على حدود العمران، جلس الشاعر على الرمل مرتفقاً إلى صخرة ناتئة، يسرح بصره في الفضاء الممتد إلى ما لا يبلغ النظر، وفي نفسه أنس، وفي قلبه هدوء ورضاً واطمئنان، وعلى لسانه تسبيح وعبادة!
لقد كان في مجلسه ذلك بحيث لا تراه عين ولا تسمعه أذن، ولكنه لم يكن وحده، لأن الله معهّ!
واستيقظ الشاعر بعد غفوة، وابتسم. . .
لقد أدى رسالته، ولكنه لم يكن في أي أيامه أكثر حباً للحياة منه يومئذٍ!
لقد تحقق حلمه بعد لأيٍ ووجد تعبير رؤياه!
محمد سعيد العريان
شجاعة المرأة الكردية
(قصة تاريخية واقعية لم يحن الوقت بعد لذكر أسمائها)
للآنسة الأديبة سانحة أمين زكي
حدث أنه كان في منطقة. . . رجل نبيل مهيب الجانب قد وهبه الله من الشجاعة والكفاية قدر ما وهبه من جمال الرجولة وقوة الشباب، ومن ذلك كان رجاله يحترمونه ويقدسونه حتى ليرفعونه إلى مصاف الآلهة، وقد هيأت له الأقدار زوجة هي صورة مصغرة له ولصفاته، قد حباها الله ثروة من الجمال والذكاء والشجاعة، فهي تجيد الرماية إلى أقصى حد، وتتصدر المجالس سامرة، وتنافس الرجال في أعمالهم، والشعراء في فنهم، والعلماء في علمهم؛ فكانت بذلك مثلاً أعلى لبنات قومها، وصورة بديعة ناطقة للمرأة الكردية
كان الرجل يحب زوجته، وكانت هي تبادله حباً بحب فعاشا مدة من الزمن يرفرف عليهما طائر السعادة بجناحيه، يخرجان معاً للصيد ويتسابقان في العدو، وأتباعهما يشيعونهما بنظرات ملؤها الحب والغبطة وهما في لهوهما لا يحملان هماً من هم الحياة!
وحدث أن قدم الملك. . . إلى هذه المنطقة تمهيداً للاستيلاء عليها وضمها إلى ممتلكاته. فلما تم له الأمر، أولم وليمة فاخرة، دعا إليها جميع نبلاء وحكام هذه المنطقة، وكان من بينهم هذا النبيل، فما كاد الملك يراه حتى أعجب بذكائه، فلما سأل عنه سمع ما زاده حباً له وتعلقاً به، فرغب في ضمه إلى بطانته ليأنس به، ويستمتع بعلمه وفضله ويتخذه سلاحاً من أسلحته؛ فلما عرف هذا النبيل رغبة الملك لقيها بالقبول لما رآه من عطفه على المغلوبين من إخوانه، وتواضعه لمن حوله؛ ورضى أن يكون مرافقاً له، وشد الرحال مع زوجته وخدمه ميممين شطر العاصمة، ولو درى المسكين ما يخبأه له القدر وراء هذه الرحلة من الشر لما رضى أن يرحل ولما خطا خطوة في هذا السبيل
وصل النبيل وحاشيته إلى قصبة الملك، فأفرد له الملك قصراً فخماً، في وسط حديقة غناء، سكن فيه هو وزوجته في أسعد حال وأهنأ بال، واستأنفا ما كانا عليه من قبل: من صيد وقنص ومرح، والجميع يتغنون بمحاسن هذه المرأة وجمالها الذي جلب عليها الوبال فيما بعد. ومازال جمال المرأة منذ كانت أس البلاء ومنبت الشر، ومازال سبباً إلى الكوارث الفاجعة، مادام هناك رجال تسول هم نفوسهم أن نظروا إلى ما لا تملك أيديهم. وكان واحد
من النبلاء - وإن لم يكن في طبعه شيء من صفات النبل وكرم النفس - مقرباً من الملك، صديقاً له، لا يخطو الملك خطوة إلا عن أمره، ولا يقطع في رأي إلا بمشورته؛ فرآها يوماً خارجة لنزهتها المعتادة، منتصبة فوق صهوة جوادها، رافعة الرأس، باسمة للطبيعة يتبعها خادماها الأمينان لا ينفكان يلاحظانها بيعيونهما، كما ينظر الكلب الأليف إلى صاحبه، ولكنهما على ما كان يبدو عليهما من الضعف بإزائها، كان من شجعان الرجال، قد أخذا الأهبة للذود عن سيدتهما وقتل كل شرير تسول له نفسه الخبيثة أن يحاول الاقتراب منها؛ فلم يجد النبيل سبيلاً إلى التقرب منها أو سماع صوتها واكتفى بالنظر إليها والتملي بمحاسنها على بعد؛ وأحست المرأة بغريزتها أن هناك من ينظر إليها، فالتفتت، وحين التقت نظراتها بنظراته، ورأت ما في عينيه من حديث نفسه الدنيئة. . . ظهر الغضب في وجهها، وأدارت رأسها، كأن النظر إلى وجهه يدنسها. . . لكن ذلك النبيل لم يبال ما رأى، بل ابتسم ابتسامة فيها وعيد وتهديد. وحين رجع إلى بلاط الملك قص عليه قصة هذه الحسناء ووصف له تعلقه بها وحبه لها بلا حياء. . . وأخذ يستعطفه، ويطلب منه العون. . . فأثر ذلك في نفس الملك، وهون عليه الأمر وطلب منه الصبر، حتى يحين الوقت المناسب. . .
والتقت الزوجة بزوجها، فقصت عليه ما رأت، بصوت يرتجف من الغضب، ويدل على ما كانت تشعر به من الذل والمهانة لما أصابها. . . فهدأ الزوج الكريم ثائرتها، وذهب يستطلع الأمر وحين علم أن الملك راضٍ عن عمل صديقه، ثارت نفسه الأبية للدفاع عن عرضه، وزاد في غضبه، ما رأى من سوء معاملة الملك لأصدقائه، واحتقاره لهم، وتنكيله بهم، وما فرض من الضرائب المرهقة على المنطقة التي ينتسب إليها، والتي يشعر أن عليه حقاً لها، وما سلب أهلها من الحرية. . .
هذه العوامل مجتمعة، فعلت فعلها في نفس هذا النبيل؛ فمحقت ما كان يشعر به من الحب للملك، وحملته على التفكير في قتله، ليربح منه، ولينتقم! غير مبال بعاقبة ذلك، مادام فيه صيانة لشرفه، وتخليص لشعبه من آصار العبودية التي يرسف فيها تحت ظل هذا الملك الطاغية!
رجع النبيل إلى زوجته، والغضب يطويه وينشره، وعوامل مختلفة تصطرع في نفسه،
وأخبرها أنه ذاهب لقتل الملك، فإن نجح في ذلك فقد بلغ ما أراد؛ وإن لم يتمكن من قتله أو لم يستطع الإفلات بعد تنفيذ عزيمته، فعليها أن تدافع عن شرفها حتى آخر لحظة من عمرها. ثم تمنطق بغدارتين، وودع زوجته وداعاً حارا ومضى لشأنه. وأبت الزوجة الشجاعة أن تلجأ إلى البكاء والنحيب بلا جدوى؛ بل اكتنف بالسكوت وبالنظر إلى زوجها كأنها تحاول أن ترسم صورته في مخيلتها جيدا
وصل الرجل إلى البلاط، وتمكن من الدخول بسهولة؛ لأنه كان معروفاً هناك، ووصل بهدوء إلى غرفة الملك الخاصة، وكان الملك في ذلك الوقت جالساً يطالع غافلاً عما يدبر له. وحين رأى صديقه بالأمس داخلاً والشرر يتطاير من عينيه، استولى عليه حب الحياة، فحاول الهرب، ولكن الرجل لم يمهله، بل أطلق عليه خمس رصاصات من الغدارة الأولى، ولكنه لم يصبه لشدة انفعاله، فأراد أن يرد الغدارة إلى منطقته كي يستعين بالغدارة الثانية، ونسى أنه لا يزال هناك رصاصة أخرى فيها، فما كاد يضعها في منطقته، حتى انطلقت هذه الرصاصة وأصابت منه مقتلاً. فسقط متضرجاً بدمائه الزكية تحت أقدام الملك
أما الزوجة فإنها بعد ذهاب زوجها صعدت إلى أعلى غرفة في منزلها، وتزودت بما قدرت عليه من الطلقات، وحصنت الغرفة بما وضعت من الأثاث خلف الباب كالمتاريس، وجلست في حصنها متأهبة لما يكون، وهي في شك من قدرة زوجها على الإفلات بعد تنفيذ عزيمته، ولكنها لبثت تنتظر! ولم يطل انتظارها طويلاً حتى قدم جنود الملك وأحاطوا بالمنزل، فحينذاك عرفت كل ما كان، وأيقنت أن زوجها قد مات! فتلاشت رغبتها في الحياة، ولم يبق في نفسها إلا سعير يضطرم يدفعها إلى الثأر. وطلب إليها الجنود أن تنزل، فأجابتهم بإطلاق الرصاص فأجابوها ناراً بنار، ودارت المعركة، فما استطاع الجنود أن يصيبوها وهي في ذلك الحصن الحصين؛ على حين استطاعت هي أن تقتل أثني عشر رجلاً منهم. وعلم الجنود أنهم لن يبلغوا منها مبلغاً، وصغرت نفوسهم حيال هذه المرأة الجريئة فلم يجدوا إلا أن يشعلوا النار بالمنزل ليحترق بها وتموت بين الأنقاض، وأيقنت المرأة أنها على شفا الموت حرقاً، فصاحت بالجنود تخبرهم أنها تستسلم على شرط أن يتقدم الرجل الذي سبب هذه الكارثة فيعطيها الأمان ويضمن لها السلامة، ففرح الرجل الفاجر وأيقن أنه قد بلغ أمنيته، وتقدم متبختراً يريد المنزل، فلم يكد يقترب من الباب حتى
أصابته رصاصة في جبينه، فخر على الأرض قتيلاً جزاء وفاقاً على ما سبب لهذه الأسرة الهانئة من الشقاء والبلاء! ولما انتقمت المرأة لنفسها ولزوجها وللأرواح التي أزهقت، هدأت ثائرتها وعلمت أنها قد أدت واجبها؛ فخيل إليها كأن صوتاً من الغيب يناديها إليه، هو صوت زوجها، فوضعت فوهة المسدس على جبينها وهتفت باسم زوجها لآخر مرة ثم أطلقته؛ فصعدت روحها الطاهرة إلى بارئها، وانطفأت شعلة حياتها وهي في ريعان الصبا وزهرة الشباب!
(بغداد)
سانحة أمين زكي
من هنا ومن هناك
إلى أين تتجه إيطاليا؟
(ملخصة عن (ذي كونتمبوراري رفيو))
مهما قيل في تصريح الحكومة الإيطالية في بدء الحرب عن التزامها طريق الحياد، فمما لاشك فيه أن هذا التصريح قد قوبل بالثقة التامة داخل إيطاليا وخارجها.
وقد كانت الصحافة الإيطالية صريحة في التعبير عن نيات موسوليني في حماية المصالح الإيطالية الخاصة. فكتبت جريدة (رجيم فاشستا) بعد إعلان الحرب ببضعة أيام تقول:
(إن إيطاليا ستفي بتعهداتها ولاشك، ولكن في حدود مصالحها الخاصة التي تضعها الحكومة فوق كل اعتبار، وتنظر إليها كما تنظر إلى النجم القطبي، كلما أرادت تحريك الدفة لتوجيه سفينة البلاد. فما هي مصلحة إيطاليا في الموقف الحاضر؟ قد تنضم إيطاليا إلى ألمانيا وروسيا ضد الحلفاء، ولكن الحكومة الفاشستية لا تخطو هذه الخطوة إلا إذا كانت على ثقة تامة من انتصار الدكتاتوريات الثلاث على الديمقراطية الغربية. وإذا صح هذا الفرض، فإن إيطاليا ستعجز عن الوقوف أمام ألمانيا وروسيا إذا أرادت أن تطالب بنصيبها من الغنيمة في البحر الأبيض المتوسط والمستعمرات باعتبارهما صاحبتي السلطة الحقيقية في أوربا وما يتبعها من البلاد. وسوف تنال روسيا ما تريده من آسيا والبلقان فضلاً عما نالته فعلاً في بولندا وولايات بحر البلطيق، وتترك إيطاليا لتلعب دوراً آخر تكون فيه سياستها الخارجية المالية والاستعمارية والثقافية، تابعة لأهواء الألمان المنتصرين.
وهناك الفرض الآخر وهو الأكثر احتمالاً: وهو انتصار الدول الديمقراطية. وفي هذه الحالة تستطيع إيطاليا أن تختار بين صداقة الأمم المنتصرة كما يدل سلوكها مدة الحرب، ومعارضة يدفعها إليها شيء من عدم الثقة، الذي قد يبعثه غموض الموقف ويضاعف تأثيره اختلاف المبادئ السياسية. . . وإذا كنا لا نستطيع أن نصل إلى حل هذه المشكلة التي يرجع أمرها إلى الظروف والأحوال التي تظهر بعد الحرب، فإننا نستطيع أن نحلق حولها، ونلم بأطرافها
إن الذين يقدرون مستقبل الشعوب بالنظر إلى قواها المادية، ويهملون تقدير القيم الأدبية والأخلاقية، يخدعون أنفسهم في الحقيقة، فهذه القيم هي مصدر النصر في النهاية، إذ الدافع
الروحي قوة لا يستهان بها في حياة الأمم
لذلك يرى رجال السياسة الذين يستمتعون بالنظر البعيد، أن يكون إلى جانب حرب السلاح حرب المبادئ والأفكار. يجب أن يعرف المحاربون أنهم يحاربون للمحافظة على القيم الأخلاقية لا للاستيلاء على الأرض والمادة. يجب أن يعرفوا أنهم يحاربون للحرية الإنسانية والدفاع عن الضعفاء والمظلومين
لقد كنا نقول في سنة 1914 إن الحرب قائمة لإنهاء الحرب، ولكنا اليوم نقول: إن الحرب قائمة للدفاع عن الوحدة الأوربية وسلامتها. . .
فهل تستطيع إيطاليا أن تقف أمام أوربا المنتصرة، لتعارض مبادئ الحرية والعدالة التي تدعو إليها بعد الحرب؟. الجواب: لا
العمل والعمال في تركيا
(ملخصة عن (لاجورنال دي روبيه))
ليس في تركيا إنسان واحد بغير عمل، فكلمة (متعطل) لا وجود لها في قاموس اللغة التركية اليوم. فإذا وجد رجل بغير عمل فمعنى ذلك أنه يغير العمل الذي كان يشتغل فيه. ولا يستغرق (تغيير العمل) أكثر من ثلاثة أسابيع على أكبر تقدير. إذ يذهب الرجل أو المرأة ممن يريدون (تغيير العمل) إلى مكتب خاص صباح كل يوم من هذه الأسابيع الثلاثة فيوكل إليه عمل مؤقت يقوم به ريثما يعين له العمل الدائم. وهكذا أصبحت تركيا الحديثة لا تعرف الكسل ولا الخمول
ولا تعرف تركيا كلمة الحرمان من الحقوق الاجتماعية، فجميع الحقوق التي للرجل تتمتع بها النساء. أما الرجال فقد فقدوا سلطانهم القديم على المرأة. وإن كانت لا تزال لهم بعض المزايا على وجه العموم، إلا أن المرأة على الرغم من الجهود التي بذلت بشأنها لا تزال متأخرة عن الرجل في ميدان الحياة العامة. . . إنني ممن يؤمنون بحرية المرأة؛ إلا أن التجارب العديدة قد برهنت لسوء الحظ على تفوق الرجل على المرأة. وقد أتيح لي كرئيس لإحدى قوات لطيران أن أضع تحت رآستي خليطاً من الرجال والنساء، فلم أجد من يدرك فهم ضرورة النظام بين النساء إلا النذر القليل، وغالبهن ممن يمتزن في الأصل بالذكاء
الشديد، بينما يبرهن الرجال جميعاً حتى الذين لم يرزقوا من الفهم إلا الشيء القليل على فهمهم للنظام وخضوعهم له
لقد جربت الجوع في الأيام الخالية، ولكني لا أجد الآن تركياً واحداً يعرف الجوع.
وإذا كنت الإحصاءات الرسمية قد دلت على أن عدداً يتراوح بين ألفين وثلاثة آلاف من الأتراك كانوا يموتون جوعاً كل عام، فقد ثبت أنه لم يمت في خمس السنين الأخيرة تركي واحد بعامل الجوع
وتقوم الحكومة التركية بالإشراف على غذاء كل عائلة، وفحصه من الناحية الصحية مرة كل شهرين. وتكلف رب كل عائلة بتقديم بطاقة عن حالة أفراد عائلته الصحية فرداً فرداً إلى السلطات المختصة مرة كل شهر
وتلتزم الفتاة التركية التي تصل إلى الثانية عشرة من سنها بدراسة منهاج خاص في الأحوال الصحية وتربية الأطفال. ولا يباح الزواج لفتيات إلا إذا اجتزن امتحاناً خاصاً في هاتين المادتين. وقد زاد عدد المواليد في بعض المدن التركية إلى 30 في المائة للعناية الفائقة التي تبذلها الحكومة
وقد بلغ عدد الأتراك الذين يحملون شهادات بإتقان القراءة والكتابة من الذين ولدوا منذ سنة 1918، 95 في المائة من الفتيان والفتيات، ويزاد صداق المرأة في تركيا بمقدار التفوق الذي تظهره في خدمة بلادها.
أما عدد الجرائم والمجرمين فقد نقص إلى حد عظيم في السنين الأخيرة. . .
أليس هذا جميعه دليلاً على أن تركيا تسير بخطوات واسعة نحو التقدم والفلاح؟
البريد الأدبي
(وحي الرسالة) في رأي مطران
تفضل إمام الصناعتين وشاعر القطرين الأستاذ خليل مطران بك فأرسل إلينا الكتاب الآتي:
حضرة الأستاذ الكبير أحمد حسن الزيات
أشكر لك إهداءك إلي نسخة من كتابك (وحي الرسالة) وإنه حقاً لوحي رسالة
أقرر أنه وحي رسالة، وما أرمي بذلك إلى محاولة بديعية أستمد منها وسيلة سهلة للتقريظ، بل أرمي إلى غرض أبعد وأسمى، ذلك أنك منذ أجريت قلمك في الترجمة ثم في الإنشاء التزمت ما لم يلتزمه غيرك من سلامة العربية وفصاحتها مع قربها إلى التناول. وكان الأمر غير يسير فذللت له صعاباً، وخضت دونه غماراً. ويعلم الله وأهل الذكر ما يعاني الأديب في هذا المطلب، وإنه لوعر شاق. وإن إدراك الغاية فيه لفخر ما بعده فخر. وقد جعلت بلوغك هذه الغاية رسالة لك، وأعظم بها من رسالة مادام يتحتم على الناطقين بالضاد استبقاء الفصحى، وليس هذا فحسب بل تطوبعها، وهي لا تهي ولا تضعف، ولا تهن ولا تستخف، لأداء أدق الأفكار وأبدع المعاني في هذا العصر، بأصدق ما يكون البيان، وأروع ما يأتي الأسلوب، وأمتن ما تكون التراكيب، بين أصيلة ومتشبهة بها
أمتعتني بمراجعة تلك الفصول القيمة التي جمعتها بين دفتي كتابك، فما زادتني المراجعة إلا إكباراً لها وإعجاباً بها. وإني لأرجو أن يكون من أثرها في نفوس فتياننا، ردهم إلى محجة الصواب التي نكبتهم عنها مولدات عجيبة من مقاطر الأقلام في هذه الأيام.
فبارك الله فيك ومد في أجلك لتجيد وتزيد، وإليك في الختام خالص التحية مع فائق الاحترام.
المخلص
خليل مطران
هذا الكلام لأفلاطون
روت مجلة (الهلال) الغراء في آخر أجزائها هذا القول عازية إياه إلى عمر بن الخطاب (رضوان الله عليه): (لا تقصروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم)
وقد جاءت (لا تقصروا) بالصاد، وهي بالسين، وما قيل في الإبدال في هذا الباب معلوم، بيد أن قصة (أبي صالح. . .) تقسرنا على أن نقصر (القسر) على الإجبار أو الجبر و (القصر) على الحبس. والقول المروي ينسبه ناسبون إلى علي (رضوان الله عليه). والحق الذي لا مرة فيه أنه إغريقي سليل إغريقيين، وقائله - كما أخبروا - هو الحكيم أفلاطون. وقد ترجمه أبو الفرج بن هندو فيما عرب من الحكم اليونانية في (الكلم الروحانية) وربما نقل القول من قبل. ولو شاء الخليفتان الثاني والرابع رضي الله عنهما وعن جميع الصحابة) أن يقولا شيئاً في هذا المعنى لقالا نقيض ذاك الكلام، إذ يستحيل أيما استحالة أن يرى صاحبا رسول الله (صلوات الله وسلامه عليه) أن لكل وقت آداباً، كأن الآداب (أزياء) نساء في المعاهر في باريس، فيوصيا أهل دهرهما بهاتيك الوصية العريقة في الإغريقية
قل: إن ذلك إنما يقوله ويوصي به يونانيون، رومانيون، أوربيون، أمريكيون، عربيون عصريون، لا صحابيون ولا تابعون ولا مهتدون بهديهم
يا كتاب، يا رواة، اعقلوا. . .
(طنطا)
(أزهري)
حول شمال أفريقية
1 -
إلى حضرة نصير العروبة الأستاذ الكبير ساطع الحصري:
في جوابكم المنشور في العدد 339 من الرسالة الغراء على كلمة لي سابقة حول رحلتكم إلى (شمال أفريقية) ما يدعوني إلى الخجل إذ كانت سبباً في تألمكم. غير أني سررت لنتيجتها كما سر الشباب المغربي الطموح، فقد كانت باعثة لكم على إفادتنا بأشياء وإطلاعنا على أشياء. وكنت أود تحريضكم على كتابة فصول عن مشاهداتكم في المغرب، إذ نعد ذلك فرصة نرجو ألا تضيعوها علينا، لأن وجود العراقي أو المصري في بلاد المغرب (أندر من وجود المطر في القاهرة). وإذا وهبتمونا قليلاً من وقتكم ووصفتم للعرب في (رسالتهم) بعض بلادهم، فستشكركم العروبة قبل أن يشكركم أبناؤها.
وأما الملحوظة التي ذكرتم عقب جوابكم، فستصلكم مني في شأنها رسالة خاصة لمقركم
بالعراق. والسلام عليكم ورحمة الله
2 -
حضرة الأستاذ أحمد الكندي:
جاء في ردك المنشور في العدد 341 من مجلة الرسالة على كلمة سابقة لي ما يفيد أنني أنفي وجود الأباضية من (شمال أفريقية) وهذا ما لا تدل عليه كلمتي قط، لأني إنما نفيت وجودهم في المغرب الأقصى. وهذا نص كلامي (الرسالة339):
(أما الوحدة المذهبية، فالمغرب من أقصاه لأقصاه على مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس وليس فيه طوائف دينية كالرافضة أو الأباضية أو غيرهما. . .)
وهو كما ترى صريح في نفي وجود الأباضية في المغرب الأقصى (مراكش) لا في جميع شمال أفريقية كما قد فهمت.
أما أنني لا أعتبرهم من الفرق الإسلامية فمعاذ الله أن أقصد ذلك لأني قد حصرت الأقليات الدينية غير الإسلامية بالمغرب في طائفة اليهود وبعض الأجانب من الذين أقاموا فيه بعد الحماية ثم عدت إلى الكلام عن الوحدة المذهبية بالمغرب، فنفيت أن يكون فيه طوائف دينية أعني بها المذاهب الإسلامية غير مذهب مالك
أما المذاهب الإسلامية في الشمال الأفريقي غير المغرب فهي زيادة على الأباضية (التي فصل الكلام عنها صاحب الأزهار في أئمة وملوك الأباضية) يوجد في تونس والجزائر وطرابلس وبرقة المذهب الحنفي والمالكي كما يحتمل وجود غيرها
وقياساً على استعدائك على عالم الأباضية إبراهيم طفيش كان ينبغي أن تستعدي على شيخ الإسلام الحنفي بتونس وقاضي الأحناف بعاصمة الجزائر وقاضيهم بطرابلس وبرقة، ومذهبهم أكثر انتشاراً وأعظم أتباعاً؛ وبهذا كان يتم لكم القول بأن (الحق أن النزعة الإسلامية المتأصلة في قرار نفوسنا تضطرنا لإصلاح أغلاط إخواننا فينا) كيف وهذا الاستعداد والاستنجاد من أصله قد بني على فهم خاطئ
وأنا فوق ذلك أحترم نقدك وغيرتك، ولي كامل الفخر بأن أكون أحد الذين يغارون على الإسلام. وعليك من الله السلام
(فاس)
(أبو الوفاء)
(البستاني) أيضاً
قرأت في العدد (159) من السياسة الأسبوعية رداً على نقدي لأناشيد البستاني. وفي الحق لقد أعجبني من الأستاذين فؤاد البهي وتوفيق أبو السعد أن يتقبلا النقد في صدر رحب، وأن يستسيغا في هدوء؛ غير أني لا أستطيع أن أومن معهما بأنهما يريدان أن يعيشا (وهذا الشاعر في لحظات من السمو والقداسة والجمال. . .) لأنني مازلت أرى أن هذا العمل تعوزه الدقة والاهتمام، ويفتقر إلى العناية والأناة
وإذا كان المعربان قد ألقيا مسئولية الغلطات السابقة على عاتق (عامل المطبعة) برغم أن من ورائه من يراجع ويصحح، فلا ضير، فأنا أغتفرها جميعاً (عامل المطبعة)؛ ثم أعود إلى الأناشيد المنشورة في العدد (159) فأقول:
لقد جاء في المقطع الأخير من النشيد الخامس والعشرين: وهنا من تنوء أقدامي بأثقال قلبي. (كذا) وهذه عبارة لا أستطيع فهمها على ما فيها من أخطاء في اللغة والمعنى معاً. فأول ما يجذب النظر في هذه العبارة هي كلمة: أقدامي. فهل كان للشاعر أكثر من قدمين؟ وهذه غلطة تكررت في المقطع الرابع من النشيد الثلاثين حيث كانت الترجمة: أقدامك في حمرة الورد. . . والشاعر هنا يعني قدمي الحبيبة. وفي التعبير اللغوي غلطة أخرى، فهناك فرق بين (تنوء قدماي بأثقال قلبي) وبين (تنوء أثقال قلبي بقدمي) والمعنى الأخير هو الذي يريده الشاعر في نشيده
وجاء في النشيد السادس والعشرين (لو تفضلت علي بزهرة برية فسأحفظها بين طيات فؤادي وإن لم أحظ إلا بشوك واخز) وهذا حديث فيه أخذ ورد بين الحبيبين يجب أن يكون هكذا:
- لو تفضلت علي بزهرة برية فسأحفظها بين طيات فؤادي
- وإن لم تفز مني إلا بالشوك؟ ثم يتم الحديث بينهما وسقط من هذا النشيد ثلثه الأخير وترجمته كما يأتي:
- ليتك ترفعين إلى وجهي نظراتك الحبيبة مرة واحدة. إذ تنفثين في حياتي السعادة الأبدية
- وإذا كانت حدجات قاسية؟
- إذن أدعها تخز قلبي
- نعم، نعم إنني أعرفك أيها السائل الرفيق، فأنت تطلب كل ما أملك
وبعد فإن زحمة العمل تحول بيني وبين أن أفند كل ما أجد في الأناشيد، وإن مقدرة الأساتذين كفيلة بأن توفر علي جهداً أدخره لأشياء أخر، والسلام
كامل محمود حبيب
مجلة العصبة في عامها السادس
دخلت زميلتنا (العصبة) في يناير عامها السادس وهي أقوى ما تكون إيماناً برسالتها العظيمة وصبراً على جهادها الجاهد. و (العصبة) - كما يعلم قراء (الرسالة) - مجلة شهرية للأدب والفن يصدرها في سان باولو الأستاذ المجاهد (حبيب مسعود) وتحررها جماعة العصبة الأندلسية، وهي بحق سفارة الأدب العربي بين أهله في الموطن وبينهم في المهجر، تصل ما بينهم بوشائج روحية من نسب الفكر والبيان والأمل والذكرى، وتلقي في روعهم على الدوام أن لهم تاريخاً ولغة وأدباً وأمة حتى لا يفقدوا على تراخي الزمن ونزوح الدار مقوماتهم الجنسية والوطنية فيذوبوا في عمار الأمم
وبين يدينا الآن عددها الممتاز الذي اعتادت أن تصدره في آخر كل مرحلة من مراحلها البالغة؛ وهو طرفة من طرف الأدب النادرة يقع في نحو 180 صفحة ويمتاز من سوابقه بغزارة مادته ووفرة صوره وجمال تنسيقه وتنوع موضوعاته، وكان المظنون أن يكون أبناء العروبة في أقطارها عوناً لهؤلاء الأدباء المجاهدين الصابرين على رفع لوائها في بلاد العرب، ولكنا نستنتج وا أسفاه من فاتحة هذا العدد وخاتمة هذه المرحلة أن الأدب الحر والصحافة الرشيدة هما في كل مكان تضحية ومحنة. فقد قال محررها الفاضل فيما قال:
(. . . أما عدتنا فمحدودة، لأن الفئة التي تقبل على صحيفة من طراز (العصبة) قليل عددها بالنسبة إلى تلك الفئة التي لا يهمها من الصحيفة غير أن تكون متحفاً للأشخاص لا معرضاً للأفلام
حبذا لو أننا عند آخر كل مرحلة نقول: لا علينا ولا لنا. غير أن (على) حليفتنا الأمينة. وما في ذلك لغز وإبهام، لأن ما ننفقه مستمد أكثره من المشتركين لا من موارد أخرى تغني
عن الاشتراكات. ومع ذلك ليس للتذمر مجال في أنفسنا، لأن الجندي في ساحة الحرب لا يتطلب مائدة تبسط عليها ألوان الطعام والشراب ولا فراشاً وثيراً. وحسبنا من جهادنا أن نترك صفحة نقية في تاريخ الصحافة العربية في المهجر. . .)
اشتراك (العصبة) في السنة ستة دولارات أمريكية وعنوانها:
، 1812
بين بشر وشاكر
الزلزلة تفيد في اللغة معنى الاضطراب والتقلقل، ولكن هل هذه الإفادة تجيز أن يقال إن (الأذن تزلزل طربا) بمعنى الاضطراب والتقلقل؟
الدكتور بشر فارس يجيز هذا، لأنه يرى مجاورة في لغة العرب بين الزلزلة والطرب، وهو يسوق على ذلك الشواهد ويعزز رأيه بنصوص من كلام البلغاء، ولكن يغيب عنه أن هذه المجاورة - في كل الشواهد التي جاء بها - تعتمد على أساسين: جواز الاضطراب والتقلقل على الشيء أولاً، وإن كان الإحساس والشعور بهذا الاضطراب والتقلقل ثانياً.
وقد لمس الأصل الأول منهما الأستاذ المحقق محمود محمد شاكر، ومن هنا كانت موضع مؤاخذته على صاحبه أن يقول:(أذني زلزلت طربا). وهو يقرر أن شرط مجاز الزلزلة أن يكون الشيء يتحرك ويضطرب ويتقلقل. ومن هنا يصح عنده القول إن الرجل يتزلزل، والأقدام والأيدي والرؤوس والقلوب وما إليها من سائر أعضاء الإنسان المتحركة حركة ما، وكذلك الحيوان كالإبل جاء راعيها (يزلزلها)، ولكن لا يصح عند ظنه القول بأن الأذان تتزلزل من الطرب أو الغضب (أو تحت تأثير أي انفعال آخر)، لأن الأذن لا تتحرك، وهذا صحيح!
ولكن الدكتور بشر فارس يرى الأذن تهتز طبلتها على جانب المماثلة لحركة مصدر الصوت، ومن هنا يجوز عنده أن يقال إن الأذن تتحرك ويصح رأيه في أن الأذن تتزلزل طرباً. ولكن هذه الحركة الاهتزازية لا يمكن الشعور بها، وشرط مجاز الزلزلة ليس
الحركة وحدها، وإنما الحركة أولاً، ثم وجوب الشعور بها ثانياً. ومن كل الشواهد والأمثلة التي دارت على قلمي المتناظرين تجد أن الإحساس والشعور بالحركة شرط مجاز الزلزلة للشيء المتحرك. ومن هنا نرى أنه لا يجوز لغة القول بأن الأذن تطرب (أو تنفعل) زلزلة، لأنه لا يمكن الإحساس والشعور بحركة اهتزاز طبلة الأذن. . .
على أن تخريج الدكتور بشر بالموضوع طريف، وطرافته تجيء من جهة أن كل عضو من أعضاء الحس تهتز دخائلها. وهذا الاهتزاز حين ينتهي إلى مراكز الإحساس في الدماغ يحدث الشعور بالإحساس. ومن هنا يمكن أن نقول إن العينين تتزلزلان من الجمال. . . ومن الواضح سخافة مثل هذا المجاز!. . .
ومن المهم أن نقول إن نزعة الدكتور بشر فارس التجديدية، وجريه وراء مذهب المجددين المغرقين في تجديدهم في الغرب، هي التي أملت عليه هذه الصورة الشعرية النابية عن الذوق وفن اللغة عامة والمجاز خاصة. ألا ترى بيراندللو يقول في مسرحية له:(واضطربت أذنها وتقلقلت من موسيقى الجاز المزعجة التي كانت تدق في القاعة)(أنظر فردريك نارديللي في كتابه - الإنسان المقدس - حياة وآلام بيراندللو، الترجمة التركية، استانبول 1939 ص 118 - 119). إن في هذه الصورة أصلاً لتعبير الدكتور بشر: (أذني زلزلت طرباً)؛ الموروث من طبيعة بدوية، أعرابية، فجاء متخذاً هذا الكساء. والدكتور بشر على الرغم من حبه للتجديد فيه لوثة أعرابية على حد تعبير أسود بن أبي خزيمة (البيان للجاحظ ج 1 ص 70 طبعة مصر)
(الإسكندرية)
إسماعيل أدهم