الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 349
- بتاريخ: 11 - 03 - 1940
عبقرية محمد السياسية
للأستاذ عباس محمود العقاد
السياسة على معان كثيرة في العرف الحديث. فمنها ما يكون بين بعض الدول وبعض من المراسم والعلاقات، ومنها ما يكون بين هذه الدول من معاهدات وخطط في أعمالها الخارجية، ومنها ما يكون بين الراعي ورعيته أو بين الأحزاب والوزارات من برامج ودعوات، ولكل معنى من هذه المعاني اصطلاحه في العرف الحديث، وإن جمعتها كلمة السياسة في اللغة العربية
وقد تولى النبي عليه السلام أعمالا كثيرة مما يطلق عليه لفظ السياسة في عموم مدلوله، ولكننا لا نعرف بينها عملاً واحداً هو أدخل في أبواب السياسة وأجمع لضروبها وأبعد عن المشاركة في صفة القيادة العسكرية أو صفة الوعظ العلني أو سائر الصفات التي اتصف بها عليه السلام من عهد الحديبية في مراحله جميعاً منذ ابتدأ بالدعوة إلى الحج إلى أن انتهى بنقض الميثاق على أيدي قريش
ففي عهد الحديبية تجلى تدبير محمد في سياسة خصومه وسياسة أتباعه وفي الاعتماد على السلم والعهد حيث يحسنان ويصلحان، والاعتماد على الحرب والقوة حيث لا تحسن المسالمة ولا تصلح العهود
بدأ بالدعوة إلى الحج فلم يقصره في تلك السنة على المسلمين المصدقين لرسالته، بل شمل به كل من أراد الحج من أبناء القبائل العربية التي تشارك المسلمين في تعظيم البيت والسعي إليه. فجعل له وللعرب أجمعين نصبة واحدة في وجه قريش، ومصلحة واحدة في وجه مصلحتهم، وفصل بذلك بين دعواها ودعوى القبائل الأخرى ثم أفسد على قريش ما تعمدوه من إثارة نخوة العرب وتوجيهها إلى مناوئة محمد والرسالة الإسلامية. فليس محمد وأصحابه أناسا معزولين عن النخوة العربية يضعون من شأنها ويبطلون مفاخرها، ولكنهم إذن عرب ينتصر بهم العرب ولا يذلون بانتصارهم، أو يقطعون ما بينهم وبين آبائهم وأجدادهم. فإذا خالفوا قريشاً في شيء فذلك شأن قريش وحدهم أو شأن المنتفعين من قريش بالسيطرة على مكة، وليس هو بشأن القبائل أجمعين
ثم أفسد على قريش من جهة أخرى ما تعمدوه من إغضاب العرب على الإسلام مما دعوا
من قطعه للأرزاق وتهديده للأسواق التي يعمرها الحاج ويستفيد منها الغادون إلى مكة والرائحون منها. فهاهو ذا محمد نفسه يأخذ معه المسلمين إلى مكة كما يأخذ معه من شاء مصاحبته من غير المسلمين قصاد البيت الحرام، فإذا حال بينهم حائل وبين ما يقصدون إليه فتلك جنايته وذلك وزره على نفسه وعلى قومه، ولا وزر فيما أصاب الأرزاق أو أصاب الأسواق على المسلمين
وقد سمعنا كثيراً في العصور الحديثة عن المقاومة السلمية أو المقاومة التي تجتنب العنف ولا تعتمد على غير الحق والحجة.
سمعنا بها في حركة الهندية التي قام على رأسها غاندي وتابعه فيها بعض مريديه، حتى كان لها من الأثر في إزعاج الحكومة البريطانية ما لم يكن للقنابل ولا للمشاغبات الدامية
وقيل يومئذ أن غاندي قد تتلمذ في هذه الحركة للمصلح الروسي الكبير ليون تولستوي. وقيل بل هو أحرى أن يعرفها من آداب البرهميين والبوذيين التي تحرم إيذاء الحيوان فضلاً عن الإنسان قبل أن يشرع ليون تولستوي مذهبه الجديد
والذين قالوا بهذا الرأي الأخير استبعدوا أن يتفق المسلمون والبرهميون والبوذيين على حركة غاندي وتبشيره بتلك المقاومة السلبية لاعتقادهم أن الإسلام قد شرع القتال فلا يوائم المسلمين ما يوائم البوذيين والبرهميين من اجتناب القوة والتزام السلم وترك المقاومة.
لكن المثل الذي قدمه النبي صلوات الله عليه في رحلة الحديبية ينقض ما توهموه ويبين لهم أن الإسلام قد أخذ من كل وسيلة من وسائل نشر الدعوة بنصيب يجري في حينه مع مناسباته وأسبابه، فلا هو يركن إلى السيف وحده ولا إلى السلم وحده، ولكنه يضع كليهما حيث يوضع، ويدفع بكليهما حيث ينبغي أن يدفع، وهو الحكم المتصرف حيث يختار ما يختار، وليس بالآلة التي يسوقها السلم أو الحرب مساق الاضطرار
وقد خرج النبي إلى مكة في رحلة الحديبية حاجاً لا غازياً يقول ذلك ويكرره ويقيم الشواهد عليه لمن سأله، ويثبت نية السلم بالتجرد من السلاح إلا ما يؤذن به لغير المقاتلين
فلم يفصل بهذه الخطة بين العرب وقريش وحسب، بل فصل بين قريش ومن معهم من الأحابيش، وجعل الزعماء وذوي الرأي يختلفون فيما بينهم على ما يسلكون من مسلك في دفعه أو قبوله أو مهادنته، وهو عليه السلام يكرر الوصاة لأتباعه بالمسالمة والصبر منعاً
للاتفاق بين خصومه على قرار واحد، وقلّ من أتباعه من أدرك قصده ومرماه حتى الصفوة المختارين
ولما اتفق الطرفان - المسلمون وقريش - على التعاهد والتهادن كانت سياسة النبي في قبول الشروط التي طلبتها قريش غاية في الحكمة والقدرة (الدبلوماسية) كما تسمى في اصطلاح الساسة المحدثين
دعا بعليّ بن أبي طالب فقال له: (أكتب: بسم الله الرحمن الرحيم)
فقال سهيل بن عمرو مندوب قريش: أمسك! لا أعرف الرحمن الرحيم، بل اكتب باسمك اللهم
فقال النبي: أكتب باسمك اللهم
ثم قال: أكتب (هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل ابن عمرو)
فقال سهيل: أمسك! لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك
وروي أن علياً تردد فمسح النبي ما كتب بيده، وأمره أن يكتب (محمد بن عبد الله) في موضع محمد رسول الله
ثم تعاهدوا على أن من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشاً من رجال محمد لم يردوه عليه، وأنه من أحب من العرب محالفة محمد فلا جناح عليه، ومن أحب محالفة قريش فلا جناح عليه، وأن يرجع محمد وأصحابه عن مكة عامهم هذا على أن يعودوا إليها في العام الذي يليه، ويقيموا بها ثلاثة أيام ومعهم من السلاح السيوف في قربها، ولا سلاح غيرها.
ولو كان عهد الحديبية هذا قد كتب بعد قتال انهزم فيه المشركون وانتصر فيه المسلمون لوجب أن يكتب على غير هذا الأسلوب، فيعترف المشركون كرهاً أو طوعاً بصفة النبوة ولا يردون أحداً من مواليهم أو قاصريهم يذهب إلى النبي ويلحق بالمسلمين.
ولكنه عهد مهادنة أو عهد (إيقاف أعمال العداء إلى حين) كما يسمونه في اصطلاح العصر الحاضر، فلا يعوزه شيء من الأصول المرعية في أمثال هذه العهود من إثبات صفة المندوبين التي لا إرغام فيها لأحد الطرفين ولا مخالفة لدعوى الفريقين، ومن حفظ كل لحقه في تجديد دعواه واستئناف مسعاه
فلو أن النبي عليه السلام شرط على قريش أن ترد إليه من يقصدها من رجاله لنقض بذلك دعوى الهداية الإسلامية، ونقض الوصف الذي يصف به المسلمين. فإن المسلم الذي يترك النبي باختياره ليلحق قريشاً ليس بمسلم ولكنه مشرك يشبه قريشاً في دينها وهي أولى به من نبي الإسلام
أما المسلم الذي يُرد إلى المشركين مكرهاً فإنما الصلة بينه وبين النبي الإسلام وهو شيء لا سلطان عليه للمشركين ولا تنقطع الصلة فيه بالبعد وبالقرب. فإن كان الرجل ضعيف الدين ففتنوه عن دينه فلا خير فيه، وإن كان وثيق الدين فبقي على دينه فلا خسارة على المسلمين
وما انقضت فترة وجيزة حتى علمت قريش أنها هي الخاسرة بذلك الشرط الذي حسبته غنماً لها وخذلاناً لمحمد صلوات الله عليه، فإن المسلمين الذين نفروا من قريش ولم يقبلهم محمد في حوزته رعاية لعهده قد خرجوا إلى طريق القوافل يأخذونها على تجارة قريش وهي أمان في عهد الهدنة بين الطرفين، فلا استطاع المشركون أن يشكوهم إلى النبي لأنهم خارجون من ولايته بحكم الهدنة، ولا استطاعوا أن يحجزوهم في مكة كما أرادوا يوم أملوا شروطهم في عهد الحديبية، ولو قضى العهد بولاية للنبي على من ينفر من مسلمي مكة لجاز للمشركين أن ينقضوه أو يطالبوا النبي بالمحافظة عليه. وتم العهد فعرف من لم يعرف ما أفاء على الإسلام بعد قليل
فجهر بمحالفة النبي من لم يكن يجهر بولائه، واستراح النبي من قريش ففرغ ليهود خيبر والممالك الأجنبية يرسل الرسل إلى عظمائها بالدعوة إلى دينه، وفتح الأبواب لمن يفدون إليه ممن أنكروا بغي قريش وأمنوا أن تكون نصرتهم للإسلام حرباً يبتلون فيها بما لا يطيقون
ويوم نزلت الآية الكريمة على أثر اتفاق الحديبية (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيما) لم يفقه الكثيرون معناها في حينها ولم يتبينوا موضع الفتح من ذلك الاتفاق الذي حسبوه محض تسليم، ولكنهم فهموا أي فتح هو بعد سنتين، وعلموا أن من الفتوح ما يكون بغير السيف وما يشبه الهزيمة في ظاهره عند من يتعجلون ولا يحسنون النظر إلى بعيد
وهكذا تجلت عبقرية محمد في سياسة الأمور كما تجلت في قيادة الجيوش فكان على أحسن نهج في سياسته إذ نادى بعزيمة الحج وهو لم يفتح مكة بعدده وعدته، وإذ دعا المسلمين وغير المسلمين إلى مصاحبته في رحلته، وإذ توخى ما توخى من طريقة المسالمة وإقامة الحجة في إنفاذ عزيمته، وإذ قبل العهد الذي كبر قبوله على أقرب المقربين من عترته، وإذ نظر إلى عقباه ووصل به إلى القصد الذي توخاه.
عباس محمود العقاد
إنما يزدهر الأدب
في عصور الفوضى الاجتماعية
للدكتور زكي مبارك
(أقيمت في كلية الآداب مناظرة بين الدكتور زكي مبارك
والأستاذ لطفي جمعة برياسة الدكتور إبراهيم مدكور، واشترك
فيها فريق من طلبة الكلية، وانتصر الحاضرون للرأي الذي
دافع عنه الدكتور مبارك بهذه الخطبة الصريحة، الخالصة من
شوائب التودد للجمهور).
تعلمون أن أمثال هذه المناظرات لا يراد بها غير إيقاظ العقول بفرض طوائف من المذاهب والآراء، فالمناظر لا يؤاخذ بالرأي الذي ينحاز إليه، ولا يطالب بالوقوف عندما يؤمن بصحته من الأدلة والبراهين
ليست هذه المناظرات إلا حركة عقلية يراد بها عرض صور مختلفة للوجه الواحد من وجوه الفكر والرأي، فليس من حق أحد أن يقول: إني أدعو إلى الفوضى حين أقرر أنها من الفرص السوانح لازدهار الآداب والفنون
وبعد تسجيل هذا التحفظ أقول: إني مؤمن بالرأي الذي أعرضه اليوم من فوق منبر كلية الآداب، فلا يضيرني أن أتهم بحمد الظروف التي تشيع الفوضى في المجتمع، ولا يؤذيني أن تكون أصواتكم في صف خصمي، وهو صديق أعاديه في هذه الساعة عداوة مؤقتة
وأسارع فأعترف بأني أخاف أن تكون الهزيمة من نصيبي، لأني اخترت الجانب الشائك من مناظرة اليوم، ولأني أخشى أن يميل السامعون إلى إيثار السلامة، فيعلنوا تأييدهم لرأي الخصم المحترم، حتى لا يقال: إن كلية الآداب تشجع من يرى أن (الفوضى الاجتماعية) قد تعود بالنفع على الآداب والفنون، وهي معهد يثور حوله الغبار من حين إلى حين
وأنا أفترض سلفاً أن الهزيمة ستكون من نصيبي لأواجه المناظرة بعزيمة المستقتل المستميت، ولأجد ما أعزي به نفسي حين ترونني أبليت في الدفاع عن رأيي أحسن البلاء
ومن أجل هذا، زهدت في البراعة الخطابية، وأعددت خطبتي، وقُدِمت بها مكتوبة بلغة صريحة، لتكون حجة باقية على صحة الرأي الذي تعصبت له وانحزت إليه
أنا أرى أن الأدب لا يزدهر إلا في عصور الفوضى الاجتماعية، فما هي الحجج التي تؤيد هذا الرأي الجريء؟
أستطيع أن أقول إن الفوضى الاجتماعية ترجّ الأذهان رجاً عنيفاً، وتفتح أمام الأذواق أبواباً ومذاهب، وتقهر العقول على التفكير في مصاير الإنسانية عند اضطراب المجتمع
وأستطيع أن أقول إن الفوضى هي التي مهدت السبيل إلى ظهور الحكمة على ألسنة الحكماء، ولو شئت لقلت إن النبوات لم تظهر إلا في الأوقات التي غلبت فيها الفوضى على المجتمع
فيكم من قرأ القرآن، وفيكم من قرأ التوراة، وفيكم من قرأ الإنجيل؛ فهل فيكم من يجرؤ على القول بأن تلك الكتب المقدسة خلت من الثورة على اضطراب المجتمع؟ وهل فيكم من ينكر أن أعظم الجوانب في تلك الكتب هي الجوانب الخاصة بالتشريع؟
ولمن توضع قواعد الشرائع إذا اطمأن الأنبياء إلى أن المجتمع في أمان من شر الفساد والانحلال؟
وما قيمة الفضائل التي تمدّح بها الصالحون إذا صح أن العالم صحيح الأديم وأنه لا يعرف التمييز بين الفاضل والمفضول، ولا يشهد الفرق بين الصحة والاعتلال؟
وهل سميت الفضائل فضائل إلا بالقياس إلى الرذائل؟ وهل تصور الناس معنى الحياة إلا بعد أن شهدوا صورة الموت؟ وهل أدركوا رَوح اليقين إلا بعد أن أدركوا قلق الارتياب؟
اسمعوا كلمة الحق
إن سلامة المجتمع من الفوضى والاضطراب لا تصل بالناس إلا إلى غاية واحدة: هي الأمان المطلق، والأمان المطلق يقود الناس إلى هاوية البلادة والغفلة والحمق
وأنا لا أنكر أن السعادة قد تكون من نصيب الأحمق والغافل والبليد، ولكني أنكر أن يكون التفوق في الأدب من نصيب هذا الطراز من (السعداء) فالأدب فن من المحنة باصطراع العقول، واصطخاب الأهواء، واضطرام الأباطيل، وهو التعبير الصادق عما يثور في المجتمع من الاقتتال العنيف بين الرشد والغيّ
هل قرأتم وصف الجنة في الكتب الدينية؟ فيها من كل فاكهة زوجان، وفيها حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون، فيها كل الطيبات، وفيها الأمان المطلق من المرض والموت. ولكن هل سمعتم أن الجنة سيكون فيها كتّاب وشعراء وخطباء وجرائد ومجلات وكلية آداب؟
وكيف تكون هذه المعاني في الجنة وقد أراح الله أهلها من صيال الشهوات والأهواء؟
قيل أن أهل الجنة سيكون أكثرهم من البُلْه، وقيل في تفسير ذلك إن البُلْه يقل تعرضهم للموبقات فيخرجون من الدنيا بسلام وقد أهلتهم البلاهة لاحتلال الفردوس
وأقول بغير ذلك التفسير، أقول إن أهل الجنة سيكونون بُلهاً لأن الله سيرحمهم من التعرض لآفات الشطط والجموح في ميادين الفكر والعقل والوجدان
وما حاجة أهل الجنة إلى الذكاء وهو عناء؟ إن الذكاء وسيلة للتخلص من المعاطب، وأهل الجنة في أمان من المعاطب
والأدب في جوهره تعبير عن بلاء الإنسانية بالصراع بين الحُسن والقُبح، والنضال بين الشك واليقين، فما حاجة أهل الجنة إلى ذلك التعبير وهم يُرزقون بلا حساب، ولا يحسون الخوف من تلون النفوس وتقلب القلوب؟
وأنتم تستطيعون الوصول إلى ما يشبه نعيم الجنة في كل وقت، إن رضيتم بحظوظكم في الحياة، ولكنكم لن تكونوا أدباء، لأن الأدب ليس إلا تعبيراً عن ظمأ الأرواح والقلوب إلى غايات عالية لا يدركها الراضون عن حظوظهم في الحياة
الأدب يأخذ وقوده من قلق الأفئدة والأرواح والعقول، ولا يقع ذلك القلق إلا عند اضطراب المجتمع. فليت شعري كيف يجد خصمي حجته وهو ينتظر ازدهار الأدب في رحاب المجتمع الهادئ الرزين؟
الأدب من صور الحياة، والحياة تَقلُّب وتَفزُّع وصراع، وهل يعرف السلام المطلق غير الأموات؟
إن أساتذة الآداب يتحدثون بأن عصور الانحطاط السياسي في الدولة العباسية كانت عصور تقدم في العلوم والآداب والفنون وهم يعللون ذلك بالتنافس بين الرؤساء والأمراء والملوك
فما رأيكم فيمن يذكر لذلك سبباً آخر هو اليقظة التي خلقها انحلال المجتمع السياسي في العصر العباسي؟
وهل كان النزاع بين العرب والفُرس إلا صورة من صور الاضطراب في المجتمع الإسلامي؟ هو ذلك، ولا ريب، فأين من ينكر أن النزاع بين العرب والفرس عاد على الحياة الأدبية بأجزل النفع، وقدم للأدباء فرصاً ثمينة لتشريح خصائص الشعوب؟
وتسمعون في كل يوم أن مصر لها الزعامة الأدبية بين الأمم العربية. فمن أين وصلت إلينا الزعامة وهي حق؟ أترونها نزلت علينا من السماء بعد انقضاء عصور الوحي؟ أترون الأمم العربية قدمتها إلينا هدية؟ لا هذا ولا ذاك، وإنما كانت لنا الزعامة الأدبية لأننا نفوق سائر الأمم العربية في التمتع بأكبر نصيب من اضطراب المجتمع، وإليكم بعض البيان:
في بلادنا تصطرع جميع المذاهب والعقائد وفي بلادنا تقتتل جميع العادات والتقاليد. وفي بلادنا يلتقي البحران: بحر المدنية الشرقية وبحر المدنية الغربية. وفي بلادنا يجتمع الضب والحوت، وتمتزج أنغام المؤذنين بأصوات النواقيس
عندنا برج بابل المشهور في التاريخ، بل عندنا برجان هما الأزهر والجامعة المصرية، يتجه أحدهما إلى الشرق فيكون خلف الضفة الشرقية للنيل، ويتجه ثانيهما إلى الغرب فيكون حول الضفة الغربية
وهذا اضطراب بلا جدال، لأنه تقلب للوجوه بين الشرق والغرب، ولكن من هذا التقلب ظفرت مصر بالزعامة الأدبية بين الأمم العربية
فالأديب المصري يغرِّب إن شاء فيرى القاهرة في ثياب (أليس) ومرجريت، ويشرق إن شاء فيراها في عباءة ليلى وظمياء
وبفضل هذه البلبلة بين الحضارة والبداوة نهضت قواعد الأدب المصري الحديث
وقد حدثت تلاميذي بكلية الآداب في سنة 1927 أن الأدب لن يسمو ولن يرتفع إلا إذا اشتركت المرأة في سياسة المجتمع
ومعنى ذلك أن المرأة تخلُق في حياة الرجل ألواناً من الرضا والغضب، والقسوة واللين، وتسوق إليه فنوناً من الرفق والعنف والبؤس والنعيم
المرأة مصدر اضطراب في حياة الرجل، وبفضل عصيان جدتها حوّاء عرف جدنا آدم هذه الأرض، فحرث وزرع وحصد، وعرف معاني اليأس والرجاء، ومهّد لأبنائه سبيل الأدب الرفيع بوصف ما في الحياة من أزهار وأشواك، وحقائق وأباطيل
والمرأة الوديعة لا تخلُق الأديب، وهل في الدنيا مرأةٌ وديعة؟
غضبة الله على جميع بنات حوّاء!
وما يهمني أن أدعوكم إلى الاصطباح والاغتباق بما عند الرعابيب من نزق وطيش، فلست من أنصار الفوضى الاجتماعية. واشتراك المرأة في المجتمع يجره حتما إلى الفساد والاضطراب، وإنما يهمني أن أنص على أن الشر الذي يصحب حياة المرأة يؤرث الحاسة الأدبية والفنية، بفضل ما يؤرث من الأذواق والأحاسيس
وفي الدنيا أحبار ورهبان وأشياخ كفاهم الله شر المرأة، فعاشوا سعداء، لا ينتقلون من البيت إلا إلى المعبد، ولا من المعبد إلا إلى البيت، وذلك نموذج للحياة الخالصة من شوائب القلق والانزعاج
ولكن هؤلاء لن يصيروا أدباء، ولن يكون لهم مكان بين أقطاب الفكر والعقل والذوق، وإن ظفروا بنعمة عظيمة هي السلامة من شر الناس
وما لي أبعُد بكم في عرض الشواهد؟ نحن اليوم في كلية الآداب؟ فما هو السر في تفوق هذه الكلية من الوجهة الأدبية؟ أيكون السر في أنها تدرس علوماً لا تدرس في الأزهر ودار العلوم؟
إن كان اختلاف العلوم هو سر التفوق فمن حق الأزهر أن يقول إنه يدرس علوماً لا تدرس في كليات الجامعة المصرية. ليس السر في المكان، وإنما السر في السكان، كما يقول أهلنا في الريف
إنما تتفوق كلية الآداب بسبب ما تعاني من الفوضى الاجتماعية فهي أول معهد يلتقي فيه الفتيان والفتيات بلا تحجّب ولا مداراة، فإن لم تكن أول معهد يلتقي فيه الفتيان والفتيات في الدرس الواحد فهي أول معهد كثر فيه بنات حواء حتى بلغ عددهن المئات
ومن المؤكد أننا غير راضين في سرائر أنفسنا عن هذه الصورة من صور المجتمع، وليس فينا من يطمئن كل الاطمئنان إلى أن تكون ابنته غرضاً للعيون، يتأثر خطواتها من يشاء من أهل الفضول.
كلية الآداب في فوضى اجتماعية بشهادة الأفاضل من رجال الدين وبشهادة الأستاذ أمين الخولي. وفي هذه الفوضى إثم كبير وفيها منافع، فما هي تلك المنافع؟ هي إذكاء المشاعر
والعواطف والأحاسيس. هي قهر الفتيان والفتيات على تجميل مذاهبهم الحيوية في تناول شؤون الوجود
وهل من العيب أن يقال أن كل فتىً يسرّه أن يكون موضع الإعجاب من إحدى الفتيات؟
اتركوا النفاق لحظة واحدة واسمعوا صوت الحق
إن الطالب في كلية الآداب لا يستطيع ولن يستطيع أن ينسى إنه محوط بأرواح لطاف ستنال حياته الحاضرة بالتغيير والتبديل. وهذا الطالب أحد رجلين: رجل بسيط يتجمل بالظواهر والأشكال فيحرص على هندامه بعض الحرص أو كل الحرص، ليظهر أمام الفتيات بمظهر مقبول. ورجل عبقري الروح لا تهمه المظاهر والأشكال، وإنما يهمه أن يكون رجلاً يملك السيطرة بالمنطق والعقل والبيان
ومن هنا يجوز لكم أن تنتظروا مطلع الشمس من هذه الكلية، يوم يكون فيها طالبات لا يرون الرجولة في المظاهر والأشكال، وإنما يرون الرجولة في فحولة الأفكار والآراء والعقول. وإنما اخترت كلمة (يرون) بهذه الصورة الصرفية لأن بنات هذه الكلية (سيكونون) في إسناد الضمائر (مساوين) للرجال في مضمار المذاهب والآراء
ولن يقع ذلك بدون فوضى اجتماعية، ولكن تلك الفوضى ستصنع الأعاجيب في تأريث القلوب والعقول
أنا أكره الفوضى، وأرجو أن تخلو منها حياتي وحياتكم وحياة الأساتذة بهذه الكلية، إن صح أن فيكم وفيهم من ابتلته المقادير بالشكاية من اضطراب المجتمع الجديد
ولكني أقف هنا موقف المؤرخ لظاهرة من الظواهر الأدبية في معهد قد اشتغلتُ فيه بالتدريس أربع سنين، ومن حقي عليه أن يسمح بأن أجهر في رحابه بقول الحق، فأقرر أن الأدب يزدهر في عصور الفوضى الاجتماعية
وهل أراني في حاجة، بعد الذي سلف، إلى أدلة وبراهين؟
اسمعوا، اسمعوا:
(البقية في العدد الآتي)
زكي مبارك
في الاجتماع اللغوي
صراع اللغات
للدكتور علي عبد الواحد وافي
مدرس العلوم الاجتماعية بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
ذكرنا في مقال سابق أن الصراع بين اللغات ينشأ عن عوامل كثيرة أهمها عاملان: أحدهما أن ينزح إلى البلد عناصر أجنبية تنطق بلغة غير لغة أهله؛ وثانيهما أن يتجاور شعبان مختلفا اللغة، فيتبادلا المنافع، ويتاح لأفرادهما فرص للاحتكاك المادي والثقافي. ثم تكلمنا عن الحالات التي يؤدي فيها العامل الأول إلى تغلب إحدى اللغتين على الأخرى وما يمتاز به هذا التغلب من خصائص وما يتصل به من شؤون
وسنعرض في هذه الكلمة للحالات التي يؤدي فيها العامل الثاني إلى مثل هذه النتيجة
يتيح تجاور شعبين مختلفي اللغة فرصاً كثيرة لاحتكاك لغتيهما فتشتبكان في صراع ينتهي أحياناً إلى تغلب واحدة منهما على الأخرى فتصبح لغة الشعبين؛ ويحدث هذا في حالتين:
الحالة الأولى: إذا كانت نسبة النمو في أحد الشعبين كبيرة لدرجة يتكاثف فيها ساكنوه، وتضيق مساحته بهم ذرعاً، فيشتد ضغطه على حدود الشعب المجاور له، وتكثر تبعاً لذلك عوامل الاحتكاك والتنازع بين اللغتين. وفي هذه الحالة تتغلب لغة الشعب الكثيف السكان على لغة المناطق المجاورة له؛ على شريطة ألا يقل عن أهلها في حضارته وثقافته وآداب لغته. ويتأكد انتصاره إذا كان أرقى من أهلها في هذه الأمور
والأمثلة على ذلك كثيرة في التاريخ. وأكثرها دلالة بهذا الصدد ما كان من أمر اللغة الألمانية؛ فقد طغت على مساحة واسعة من المناطق المجاورة لألمانيا بأوربا الوسطى (بسويسرا وتشيكوسلوفاكيا وبولونيا والنمسا. . . الخ) وقضت على لهجاتها الأولى
الحالة الثانية: إذا تغلغل نفوذ أحد الشعبين في الشعب المجاور له، وفي هذه الحالة تتغلب لغة الشعب القوي النفوذ، على شريطة ألا يقل عن الآخر في حضارته وثقافته وآداب لغته؛ ويتأكد انتصاره إذا كان أرقى منه في هذه الأمور
والأمثلة على ذلك كثيرة في مختلف مراحل التاريخ. فلغة شعوب (الباسك) قد أخذت تنهزم
أمام اللغة الفرنسية في المناطق التي تغلغل فيها نفوذ الفرنسيين، وأمام اللغة الإسبانية في المناطق التي تغلغل فيها نفوذ الإسبانيين حتى كادت تنقرض في كلتيهما. - واللهجات السلتية التي كان يتكلم بها معظم السكان بايرلندا واسكتلندا وويلز قد أخذت تنهزم أمام اللغة الإنجليزية منذ أن تغلغل نفوذ إنجلترا في هذه البلاد، حتى زالت من لغة الأدب والكتابة، وكادت تنقرض انقراضاً تاماً من لغة الحديث. وهكذا كان مصير اللهجة السلتية التي بقيت بمقاطعة البريتون (في القسم الغربي من فرنسا على سواحل الأطلانطيق)، فقد أخذت تنهزم أمام اللغة الفرنسية منذ أن تغلغل نفوذ فرنسا في هذه المقاطعة، حتى لم يبق لها إلا آثار ضئيلة في لغة الحديث بين الأميين من الشيوخ. - واللغة الفرنسية قد تغلبت على لهجات المناطق المجاورة لها ببلجيكا وسويسرا؛ فأصبحت الآن لغة الحديث والكتابة لجميع سكان والونيا ببلجيكا ولنحو 22 % من سكان سويسرا - واللغة الإيطالية قد تغلبت على لهجات المناطق المجاورة لها بسويسرا، فأصبحت الآن لغة الحديث والكتابة لنحو 5 ، 3 % من سكان هذه الجمهورية
وعلى هذا الأساس نفسه تتغلب في المملكة الواحدة لغة المقاطعة التي تكون بها العاصمة أو يكون لأهلها السلطان والنفوذ؛ فلوقوع عاصمة بلجيكا (بروكسل) في مقاطعة والونيا ذات اللسان الفرنسي، ولأن سكان هذه المقاطعة يتمتعون بقسط كبير من النفوذ والسلطان في هذه المملكة، أخذت اللغة الفرنسية تتغلب على الفلامندية (لغة القسم الشمالي من بلجيكا المسمى (فلاندر)) وتنتقصها من أطرافها. ولوقوع عاصمة سويسرا (برن) في القسم الناطق بالألمانية، ولأن سكان هذا القسم يتمتعون بأكبر قسط من النفوذ والسلطان وتتألف منهم الأغلبية الساحقة (يتكلم الألمانية في سويسرا نحو 70 % من أهلها) أخذت اللغة الألمانية تطغي على ألسنة الناطقين بالفرنسية من السويسريين. وقد أخذت لغة قريش قبيل الإسلام تتغلب على اللغات المضرية الأخرى، لما كانت تتمتع به من سلطان أدبي، ويستأثر به أهلها من نفوذ ديني وسياسي
وفي كلتا الحالتين السابقتين لا يتم النصر غالبا لإحدى اللغتين إلا بعد أمد طويل يبلغ أحياناً بضعة قرون، فالصراع بين الألمانية والفرنسية بسويسرا قد بدأ منذ عهد سحيق؛ ومع ذلك لم يتم بعد للألمانية النصر النهائي. والصراع بين اللغة الفرنسية واللسان السلتي الذي يتكلم
به البريتونيون (سكان مقاطعة البريتون قد نشب منذ عدة قرون؛ ومع ذلك لا يزال كثير من شيوخ البريتون في العصر الحاضر يتكلمون بهذا اللسان. ولا تزال اللهجة السلتية لغة محادثة بين عادة الايرلنديين في العصر الحاضر، مع أن تغلب الإنجليزية عليها قد بدأ في هذه البلاد منذ أواخر القرن الحادي عشر الميلادي. وقد أخذت لغة قريش تطغي على اللغات المضرية الأخرى منذ العصر الجاهلي؛ ومع ذلك ظلت هذه اللغات حية في كثير من المواطن إلى أواخر العصر العباسي
وغني عن البيان أن انتصاراً لا يتم إلا بعد أمد طويل لا يخرج المنتصر من معاركه على الحالة التي كان عليها من قبل. فاللغة التي يتم لها الغلب لا تخرج سليمة من هذا الصراع. بل أن طول احتكاكها باللغة الأخرى يجعلها تتأثر بها في بعض مظاهرها وبخاصة في مفرداتها كما سبقت الإشارة إلى ذلك في العامل الأول. غير أن تجرد العامل الذي نحن بصدد الكلام عنه من عنف النزاع وشدة المقاومة، وحدوث نتائجه في صورة سلمية متدرجة بطيئة، كل ذلك يعمل على وقاية اللغة الغالبة، ويخفف من مبلغ تأثرها باللغة المغلوبة
والألفاظ الأصيلة للغة الغالبة، ينالها بعض التحريف في ألسنة المحدثين من الناطقين بها (المغلوبين لغوياً)، فتختلف بعض الاختلاف في أصواتها ودلالاتها وأساليب نطقها عن صورتها الأولى.
والكلمات الدخيلة التي تقتبسها اللغة الغالبة من اللغة المغلوبة ينالها كذلك بعض التحريف في حروفها ومعانيها وأساليب نطقها فتبعد في جميع هذه النواحي عن شكلها القديم
وتقطع اللغة المغلوبة في سبيل انقراضها نفس المراحل التي أشرنا إليها في العامل الأول فينفذ الانحلال أولاً إلى مفرداتها ثم إلى أصواتها ومخارج حروفها وأساليبها في نطق الكلمات ويتم الإجهاز عليها بالقضاء على قواعدها.
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة باريس
العقلية الألمانية
من خلال الدراسة اللغوية
للأستاذ أبي حيان
كنا في ساعة من تلك الساعات الجميلة التي تتكاشف فيها الأذهان، وتتصافى فيها العقول، وتنطلق فيها الخواطر؛ والتي تدخرها الذاكرة بين أطوائها، لتكون ذخيرة من السعادة، تستمدها النفس في أيام الشقاء، وتنعم باستحضارها كلما طغت عليها الآلام، وحزبتها الأيام. وكنا نتدارس في تلك الساعة طرفاً من علم اللغات المقارن، مما يتعلق بعلامات الإعراب، ومكانها في مختلف اللغات، وأنها سمة من سمات اللغات البادية: كاللاتينية القديمة، واليونانية الأولى. وما بقاؤها في اللغة العربية الشريفة، وقد جازت دور البداوة، وشاركت في بناء الحضارة، وأعرقت في ذلك إعراقاً، إلا مظهر من مظاهر القداسة التي أسبغها القرآن الكريم عليها، بنزوله بها. والقرآن خالد خلود النفس: لا تبديل لكلمه، ولا تغيير في نظمه، ولا تحوير لوضعه؛ وكذلك اللغة العربية التي ارتبط كيانها بكيانه، وأخذت مكانها من مكانه. فهذه العلامات الإعرابية هي في حقيقة وضعها ومرد أمرها، مظهر من مظاهر البداوة الإنسانية في دور من أدوارها.
ولقد تنزل هذا الرأي من عقولنا ومشاعرنا منازل متفاوتة، فمنا من مال إليه وأخذ به لطرافته، ومنا من أنكره لغرابته، إلى غير ذلك من الحالات المختلفة باختلاف المزاج العقلي، ولكنه لم يلبث أن أثار في أنفسنا طائفة من الخواطر متعارضة، فلم يلبث ذلك المجلس الهادئ القار الرزين أن تحول عن هدوئه، حين انطلقت تلك الخواطر متدافعة متضاربة. . . فماج الجو من حولنا وثار، وطال الجدل واشتد. . . وقد اختلفت أساليب المحاجة، وتشعبت طرائق القول وأفانينه، على ما يقع في الخاطر، وعلى ما توحي به المناقشة.
ولكن أحدنا، وكان في معارضة الرأي منذ بدا، وكأنما كان يدخر - لحاجة في نفسه - هذا الوجه الأخير من المعارضة، أخذ يقول: (كيف يستقيم هذا الرأي لكم، وكيف يصح في الاعتبار العلمي، إذا كان بين يدينا ما يأتي بنيانه من القواعد؟ أنسيتم أن اللغة الألمانية من اللغات المعربة التي تلتزم الإعراب التزاماً لا هوادة فيه ولا تسامح في قواعده؟ إذن،
فاعلموا أنكم بين اثنتين لا ثالثة لهما: إما أن تنزلوا عن رأيكم، وتحتسبوا لدى (الجدل المجرد) جهدكم، وإما أن تلجوا في مذهبكم - وأعيذكم من اللجاجة في الباطل حين يكشف عنه غطاؤه - فتزعموا أن اللغة الألمانية لغة متبدية، وأن الجنس الألماني لا يزال في دور من أدوار البداوة. ويا لها إذن من جرأة على الواقع ومجازفة بالقول! إذ ما كان لأحد أن يذهب به وهمه هذا المذهب، فاللغة الألمانية هي - فيما يعترف الناس جميعاً - لغة الحضارة في أوسع معانيها، وأكمل ما عرف من صورها. . .)
ثم أخذ صاحبنا يمد شعب الحديث في كل مذاهبه الممكنة، ويفيض في بيان هذه الحضارة وتمجيد أصحابها، ويستشهد من هنا وهناك، في حماسة متقدة، وبلاغة خلابة، حتى لحسبناه - ونستغفر الله - داعية من دعاة النازي، فهو يجرب فينا أساليبه، ويتخذ منا موضوعاً له. وهكذا لم يلبث الميدان أن تحول - على غير إرادتنا - من بحث لغوي ومدارسة علمية، إلى جدل سياسي، يهدأ ويفور، ويعتدل ويجور؛ وبقيت المسألة الأولى في موضعها حتى اليوم - فيما أعلم - لم يبتّ فيها برأي، ولم ينته فيها إلى مقطع.
انفض هذا المجلس ومضى كل ما فيه، إلا من هذه النفحة الروحية الخالدة - التي أودعها الله فينا - وأطلقنا عليها كلمة (الذاكرة)، فقد أضفت عليه معنى الخلود، ومضت به تختزنه بين ما تختزن، مما يعمل دائباً في تكوين شخصية هذا الإنسان الظاهرة والمستكنة، والحاضرة والمستقبلة؛ حتى إذا هاجته الحوادث، واستثارته الأشباه والنظائر، برز من مكمنه، وأخذ يؤثر في خيالنا، كما تؤثر المحسوسات في حواسنا.
وأنا منذ الحرب القائمة لا تزال الذاكرة تطلق لي صورة ذلك المجلس، وما تفتأ هذه الصورة تختال لي، وترود أمامي، وتتبرج لعقلي. فإذا بي أسائل نفسي: أيكون الشعب الألماني لا يزال يعاني البداوة في دور من أدوارها؟ أليست هذه المظاهر المختلفة في مسلكه من الحرب وإثارتها، وفي تقديره للحرية الشخصية وقيمتها، وفي تلك الدعاوى العريضة التي لا يفتأ يقررها ويلج فيها، وفي غير ذلك من الملابسات التي تنتظم الماضي والحاضر، أليس كل ذلك أشبه بالعقلية البدوية؟ وهذه المظاهر الفخمة المتطاولة التي تزعم للناس أنها واهبة الحضارة، ورافعة بنيانها، ومثبتة أركانها؟ ألا يمكن أن يكون وراءها روح بدوية غلابة متغلغلة في العقلية الألمانية، هي التي تنهج لهذا الشعب سبيلها، وتفرض
عليه قوانينها، وتحدد له غاياتها؛ وهي التي بعثته إلى هذا المسلك وإلى نظائره في التاريخ في القريب، مما نحن في مشاهده المنكرة، وآثاره المروعة؟
لعل ذلك كله جائز مقبول، وإن الدراسة اللغوية هي - فيما نعتقد - من صميم الدراسات المتعلقة بعلم الإنسان ومن خير المقدمات التي تهدي إلى معرفة طبائع الشعوب وخصائص الأجناس. فإذا اطردت هذه الدراسة اللغوية مع نتائج الأبحاث الاجتماعية كان ذلك أقوى لها، وأجدر أن يخرجها من دائرة الفروض، ويدنو بها إلى منطقة الحقائق العلمية. فهل لنا أن نذهب ذلك المذهب فيما نحن الآن بصدده؟
أبو حيان
تحقيق تاريخي
عام الفيل وميلاد الرسول
(تقدمة تحية إلى الدكتور محمد حسين هيكل باشا)
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
عام الفيل
كان الرأي الشائع في الدوائر التاريخية العلمية أن المصادر اليونانية لم تتحدث عن تعرض الأحباش للحجاز، ولا عن سفر الفيل غير أن المباحث الدقيقة التي نشرها المستشرق العلامة تيودور نولدكه عن تاريخ صلات الفرس بالروم. بينت أن المؤرخ بروكوب اليوناني تحدث عن تعرض الأحباش للحجاز بتحريض الروم، ومن ذلك الحين اتخذت الدراسات التاريخية وجهة أخرى تبدأ فيها بدراسة الوقائع من وجهة نظر المصادر اليونانية، وتمحص على أساسها ما ورد في كتب المؤرخين العرب، وهذه الوجهة التي مال معها المستشرقون صحيحة الأسس، لأن مؤرخي العرب تأخر بهم العهد نحو ثلاثة قرون من الزمان، تدرجت فيها وقائع الجاهلية العربية على الأفواه وتنقلت على الألسنة في فترة من الزمان، حمل في تضاعيفه من الأسباب القوية ما يجعله يتناول الواقعات والحوادث التاريخية بتأثيره، فينسج من حول مادتها الأقاصيص المتقومة بروح العصر وهكذا كان أن سلمت وقائع الجاهلية العربية لعصر التدوين في القرن الثاني للهجرة، بعد أن غابت حقائق هذه الوقائع في تيه من الأساطير التي حيكت من حولها والتي غطت على أمرها، ومن هنا تجد للمصادر اليونانية قيمتها التاريخية، باعتبارها مصادر معاصرة للوقائع التي جرت، ومن هنا يمكن اتخاذها محكا لدراسة الروايات العربية، واستخراج العناصر التاريخية منها
يذكر لنا بروكوب إنه في السنة الخامسة من حكم الإمبراطور جوستنيان، أعني حوالي سنة 530 ميلادية، حمل الأحباش على اليمن واستولوا عليها. وهو يصوّر أسباب هذه الحملة اعتماداً على ما يقدره يوحنا المؤرخ اليوناني فيقول: إن يوسف ذا نواس (دومينوس الحميري: عند يوحنا) قبض على بعض التجار من نصارى الروم وقتلهم، واستعبد نصارى نجران، وأخذ يقطع السبيل على تجارة اليونان، فكان نتيجة ذلك أن كسدت التجارة وساءت
الحالة الاقتصادية. وقد تضرر من هذه السياسة أقيال اليمن، فخرجوا تحت لواء أحدهم، وهو (أيدوج) الوثني، وجرت بينهم وبين ذي نواس معارك وحروب لم يثبت فيها، وانتهى أمره بأن قتل، وانتهز الأحباش فرصة تحارب اليمنيين فشنوا الغارة على بلاد اليمن تحت قيادة (أبرهة) - الذي كان في الأصل عبداً لأحد تجار الروم النازلين ثغر أدوليس - وفتكوا بأيدوج، وأخضعوا اليمن لسلطة نجاشي الحبشة
غير أن المصادر العربية تجعل من أيدوج هذا قائداً حبشياً، وتسميه أرياط وأنه باسم النجاشي حارب ذا نواس، وبعد أن تغلب عليه حكم اليمن؛ إلا أن (أبرهة الأشرم) أحد قواد الحملة الحبشية ثار عليه ونجح في إزاحته عن السلطة، وتمكن من قتله وبسط نفوذه على اليمن كلها وحكمها باسم النجاشي. ونقطة الاختلاف هذه من الممكن تحقيقها، لكنها لا تقع من غرضنا في هذا البحث، وإنما الذي يهمنا تقديره أن المصادر العربية تماشي المصادر اليونانية في أن اليمن سقطت تحت حكم الأحباش بعد عهد ذي نواس (دومينوس). وبعد أن استولى الأحباش على اليمن واستقروا فيها مدة، حدث أن أرسل الإمبراطور جوستنيان سفيراً يدعى جوليان، عرض من قبله على النجاشي فكرة عقد محالفة مع الروم ضد الفرس، ويكون دور الأحباش فيها التعرض للفرس من جهة بلاد العرب المتاخمة لجنوب غربي الحدود الفارسية، وذلك لتخفيف الضغط على الروم في صراعهم مع الفرس على تخوم الحدود بين الإمبراطوريتين. وهذه السفارة حدثت في حدود سنة 540 ميلادية، كما يعين ذلك التاريخ المصادر اليونانية، في وقت كانت الصلات قوية ووثيقة بين النجاشي وإمبراطور الروم. ومما لاشك فيه أن جوستنيان اعتمد على هذه الصلات أولاً ووحدة العقيدة الدينية التي تجمعه بنجاشي الحبشة ثانياً، ليطلب مؤازرة النجاشي له في الحرب التي اشتدت بينه وبين كسرى أنو شروان سنة 540 ميلادية
ولم تكن فكرة إمكان مساعدة الأحباش للروم في صراعهم ضد الفرس، إلا فكرة خيالية لا يمكن أن تتحقق في عالم الواقع. إذ لم يكن الأحباش أصحاب أسطول بحري ضخم يمكنهم من غزو فارس من جهة الخليج الفارسي، ولا كان في إمكانهم إرسال حملة من اليمن قاعدتها في بلاد العرب عبر صحرائها للتعرض للتخوم العربية الفارسية، لأن طبيعة تضاريس بلاد العرب، لا تجعل وجهاً لإمكان نجاح مثل هذه الحملة. وقد أمكن النجاشي أن
يدرك هذه الحقيقة، لإلمامه بالموقف الذي غاب عن الروم وقيصرهم ومن هنا كانت المماطلة دائماً من جانب النجاشي والاعتذار عن إمكان تقديم مساعدة فعالة للروم في صراعهم ضد الفرس. فلما اشتد الصراع وبلغ أقصاه سنة540 ميلادية، وأرسل جوستنيان رسولاً خاصاً (سفيراً) هو جوليان، اضطر النجاشي مجاملة أن يأمر عامله على اليمن، أبرهة، أن يرسل قسماً من قواته شمالاً على زعم التحرك للتعرض للتخوم الفارسية. والطريق الطبيعي الممتد من اليمن إلى حدود فارس يمر بمكة وينتهي عند وادي الرمة أحد روافد الفرات فيما مضى. ومما لا ريب فيه أن الأحباش اتخذوا هذا الطريق مسلكهم نحو الشمال. غير أن القوات التي أرسلوها حين انتهت إلى الحجاز، كان التعب قد نال منها والمرض قد أفنى معظم رجالها، والجدري فتك بجنودها فاضطر الأحباش أن يسحبوا قواتهم ويعتذروا بخسائرهم إلى الروم، ويقفوا عند هذا الحد. غير أن العرب من سكان الحجاز كان قد هالهم تقدم الأحباش في جيش عرمرم (بالنسبة لهم) ورأوا أنهم يبيتون لهم شراً، فلما أصيبوا بالوباء، ورجعوا، أيقن العرب أن ذلك أثر من تدخل العناية الإلهية التي حفظتهم مما كان الأحباش يبيتونه لهم. وهذا هو المصدر التاريخي الذي حيك من حوله كل روايات العرب عن سفر الفيل
تروي المصادر العربية أن السبب في تعرض الأحباش لمكة يرجع إلى أن أبرهة الأشرم شيد هيكلاً في صنعاء حاضرة اليمن، وذلك بغية صرف الناس عن الكعبة. غير أننا نعلم من المصادر المسيحية أنها لم تشر البتة إلى مسألة بناء هيكل جديد في صنعاء حاضرة اليمن (العربية السعيدة على عهد أبرهة. هذا فضلاً عن أن المؤرخ أوزيب في بحثه عن (تاريخ الكنيسة)، يتناول بالذكر النصارى من العرب وقساوستهم وأصحاب المآثر منهم على الكنيسة، وهو لا يذكر شيئاً عن أبرهة، وعن تشييد هيكل في صنعاء
غير أننا نعلم أن المسيحية كانت منتشرة في نجران، وفي بعض المناطق من اليمن، وأنه كان باليمن قسس من النصارى على عهد حكم الأحباش لها. ولاشك أن هؤلاء القسس الذين يرعون شؤون طائفتهم الروحية، كانوا يتخذون لأنفسهم في حاضرة اليمن هيكلاً، يظهر أنه كان النواة التي حيكت من حولها روايات العرب. هذا، وربما كان الأحباش وهم نصارى اعتنوا بهذا الهيكل وزينوه بما يليق بمكانتهم كنصارى حاكمين للبلاد؛ وربما حمل هذا
العمل عند بدو الصحراء وعرب الحجاز على محاولة الأحباش أن يجعلوا من هيكلهم نظيراً للكعبة. ولاشك أن هذا الوهم لم يكن ليمكن تصوره، خصوصاً وأن الأحباش إذا فرض أنهم قاموا بمثل هذه المحاولة التي ينسبها مؤرخو العرب لهم، فستكون هذه المحاولة وقفاً على النصارى من العرب وهؤلاء بحكم دينهم منصرفون عن الكعبة. فإذا جاز أن نحمل هذه المحاولة على الرغبة في التبشير بالمسيحية بين العرب، فلاشك أن مثل هذا الحادث الخطير لم يكن ليمر بدون إشارة في كتب تاريخ الكنيسة الشرقية. ومن هنا لا نرى محلاً لقبول ما يقول رواة العرب عن سبب تعرض الأحباش للحجاز.
إذا صحت استقراءاتنا ونظرتنا للموضوع، فإن الصلة تكون مفصومة بين تعرض الأحباش للحجاز ومكة، وبين وجود هيكل للنصارى بصنعاء. على إنه بعد ذلك مما يستوقف النظر، ما نراه من الاتفاق عند مؤرخي العرب في تسمية الحملة الحبشية بسفر الفيل، وذلك على اعتقاد وجود بعض الفيلة في قوات الأحباش. على أن اعتقاد وجود بعض الفيلة في جيش الأحباش باليمن يسوقنا إلى مواقف على جانب كبير من الخطورة، يميل معها بعض المؤرخين الأعلام من الغربيين إلى إنكار وجود الفيلة في قوات الأحباش. ذلك لزعمهم إنه لا يمكن تصور إمكان الاحتفاظ بالفيلة في اليمن وتسييرها في صحارى نجران. فضلاً عن أن الفيلة الأفريقية (التي قد يكون الأحباش جلبوها إلى اليمن إذا صح هذا الاعتقاد) من الصعوبة ترويضها حتى أن بعض الثقات الأثبات من علماء الحيوان يرون استحالة ذلك وهذه الاستحالة جعلت المؤرخين يرجحون أن تكون الفيلة التي ورد ذكرها في حروب القرطاجنيين قديماً فيلة مجلوبة من الهند غير أن افتراض جلب الأحباش فيلتهم من الهند يقف في سبيل قبوله أن الأحباش لم يكونوا على دراية بترويض الفيلة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لأنهم لم يكونوا أصحاب أسطول يمخر عباب البحر الهندي، حتى يمكنهم جلب الفيلة الهندية على أن هذه الاعتراضات من الممكن ردها إذا لاحظنا أمرين غابا عن هؤلاء الباحثين: الأول أن الأحباش استعانوا بأسطول الروم لنقل جيوشهم عبر باب المندب والبحر الأحمر حين شنوا الغارة على اليمن. وثانياً أنه كان للروم سفائن حربية وأخرى تجارية في البحر الأحمر. وهذا يجعل من الممكن جلب بعض الفيلة من الهند بواسطة سفائن الروم وأن يستعين الأحباش ببعض الهنود في تسيير هذه الفيلة في حملتهم على
فارس. ولاشك أن تعاون الروم مع الأحباش أولاً، والغرض من الحملة وهو مساعدة الروم ثانياً يجعل لتفسير تسمية حملة الأحباش بسفر الفيل وجهاً مقبولاً.
تقدم الأحباش بقواتهم شمالاً، لكنهم لم يكادوا يقربون مكة حتى ألمت بهم كارثة أودت بهم. وبعض المراجع العربية ترجح أن تكون هذه الكارثة هي تفشي الجدري في جيش الأحباش. والقرآن الكريم يؤيد كلام المؤرخين العرب
على أن إشارة القرآن إلى أصحاب الفيل، تحمل في تضاعيفها دلائل قوية على معرفة العرب لقصة سفر الفيل من جهة، وعلى أنها حديثة العهد بهم؛ على أن ما قدمه القرآن لنا في صورة موجزة توسع فيه رواة العرب وخلطوه بالأقاصيص وشحنوا به كتب التاريخ والسيرة والأدب. وهنالك بعض الشعر المزعوم قوله في حادثة الفيل، تجد بعضه منسوباً لابن الزبعري والبعض الآخر لأمية بن أبي الصلت. فمن المنسوب للأول هذه الأبيات:
وتنكلوا عن بطن مكة إنها
…
كانت قديماً لا يرام حريمها
لم تُخلق الشعرى ليالي حرّمت
…
إذ لا عزيزَ من الأنام يرومها
سائل أمير الجيش عنها ما رأى
…
ولسوف ينبي الجاهلين عليمها
ستون ألفاً لم يؤوبوا أرضهم
…
بل لم يعش بعد الإياب سقيمها
كانت بها عاد وجُرْهم قبلهم
…
والله من فوق العباد يقيمها
أما الأبيات المنسوبة لأمية فهي:
ومن صنعه يوم فيل الحبو
…
ش إذ كل ما بعثوه رَزَم
محاجنهم تحت أقرابِه
…
وقد شرَّموا أنفه فانخرم
وقد جعلوا سوطه منوَلا
…
إذا يمموه قفاه كُلِم
فولى وأدبر أدراجَه
…
وقد باء بالظلم من كان ثَم
فأرسل من فوقهم حاصباً
…
فلفَّهم مثل لف القُزُم
تحض على الصبر أحبارُهم
…
وقد ثَأجوا كثُؤاج الغنم
ويفهم منها أن الكارثة التي ألمت بأصحاب الفيل كانت مزدوجة: ريح سموم هبت عليهم، ووباء تفشى فيهم، وحمل الوباء عند العرب على الريح السموم. على إنه مما يستوقف النظر في هذه الأبيات ورود لفظة (الأحبار) في البيت الأخير مع أن الأحباش لم يكونوا
هوداً، حتى يصح افتراض اصطحابهم لأحبارهم! والذي عندي أن هذه الأبيات مفتعلة في العصر الإسلامي.
إذا وضعنا أمام النظر كل هذه التحقيقات بان لنا أولاً: أن قصة مسير الأحباش إلى مكة بقصد هدم الكعبة دون غيره ليست جاهلية، وإنما تعود بأصل إلى الإسلام
ومن هنا نجد أن تعليل تعرض الأحباش للحجاز في طريقهم إلى فارس بأن القصد منه محاولة هدم الكعبة وصرف الناس عنها ليست إلا أسطورة نشأت بعد أن قام الإسلام وذاع وانتشر بين العرب واستقر في الشرق وارتفع شأن مكة وأصبحت الكعبة قبلة المسلمين. فعمل الرواة على أن يربطوا بين وجود هيكل النصارى في اليمن وبين حملة الأحباش على الحجاز في سبيلهم إلى فارس فكان لهم من ذلك قصة محبوكة. ومما لا ريب فيه أننا قد وضعنا اليد على مواضع الصنع في هذه القصة التي ترويها الكتب العربية، وكشفنا عن الخطوط التاريخية التي استمد منها النسيج الأول الذي حيكت بعده بقية خيوط القصة كما تجيء في المصادر العربية. وهكذا تميز معنا الجانب التاريخي من الجانب الأسطوري فيها، واتضحت ناحية خفية من نواحي تاريخ العرب في الجاهلية
ميلاد الرسول
ربط الكثير من مؤرخي العرب ميلاد الرسول (ص) بعام الفيل ليتخذوا من ذلك دليلاً آخر على نبوّة الرسول بأن عناية الله ردَّت كيد الأحباش عن مكة تكريماً له إذ كانت أمه آمنة في ذلك الحين حاملة به. والواقع أن نبوة الرسول تحمل في ذاتها آيات صدقها، فهي لا تحتاج لدليل خارجي يدعمها. وحياة الرسول تثبت إنه كان مخلصاً طيلة حياته، وهذا وحده يردّ كل محاولة يراد بها التشكيك في نبوته
ولما كانت حملة الأحباش التي عرفت بسفر الفيل جرت سنة 540 ميلادية كما ثبت من التحقيقات التي كشفنا لك عنها من قبل، فإن الصلة تبدو مفصومة بين عام الفيل وهي السنة التي كان فيها سفر الفيل وبين ميلاد الرسول (ص)، فنحن نعرف أن محمداً عليه الصلاة والسلام ولد في حدود سنة 570 ميلادية كما حقق ذلك الباحثون. فإذن هنالك نحو ثلاثين سنة تفصل بين عام الفيل وميلاد الرسول. وبعض المؤرخين العرب يثبت هذا، فمثلاً يقول البغوي: إن سفر الفيل حدث قبل ميلاد الرسول بنحو أربعين سنة ومحمد بن السائب الكلبي
ينزل بهذه السنين إلى ثلاث وعشرين سنة. ونلاحظ أن خلفاء أبرهة حكموا اليمن 31 سنة وأنه في سنة 570 ميلادية؟ قوات القدس لتخليص اليمن من الأحباش وهذا يجعل حكم أبرهة الذي أغار على الحجاز حوالي عام 540م وهذا ما يؤيده عن طريق غير مباشر بعض المصادر العربية التي تقرر أن الرسول ولد بعد خمسين سنة من استيلاء الأحباش على اليمن وأنهم طردوا بعد عامين من ميلاد الرسول. وهذا كله إن أثبت شيئاً فإنما يثبت أن الصلة مفصومة بين ميلاد الرسول وعام الفيل وان محمداً ولد بعد عام الفيل بثلاثين سنة تقريباً
ومن المهم أن نقول هنا إن هذه الحقيقة التاريخية برغم وضوحها ورغم ثبوت أن حملة الأحباش على الحجاز كانت في حدود سنة 540 ميلادية وأن ميلاد الرسول كان سنة 570 ميلادية، فإننا نجد معظم المشتغلين بالتاريخ الإسلامي يخطئون، فيجعلون ميلاد الرسول مقروناً بعام الفيل. وربما كان لبعضهم العذر في هذا الخطأ لجهلهم هذه التحقيقات المعروفة في دوائر التاريخ في العالم المتمدن، ولكن ما عذر بعض الأساتذة الجامعيين الذين تجد في مصنفاتهم جميع أصول هذه التحقيقات، وبعد ذلك يخطئون ويقولون أن الرسول ولد في عام الفيل ومهما يكن من شيء فالتاريخ يرفض كل محاولة يراد بها ربط ميلاد الرسول بعام الفيل كما أن التحقيقات التاريخية تبين أن الصلة مفصومة بين التاريخين بنحو ثلاثين سنة. ونرجو أن يكون في هذا البحث تصحيح لما تجري به أقلام الباحثين في العالم العربي من أن رسول الله محمد بن عبد الله ولد عام الفيل.
(الإسكندرية)
إسماعيل أحمد ادهم
دكتور في العلوم والفلسفة من موسكو
ودكتوراه فخرية في الآداب من لينغراد وموسكو
محمد تيمور
الممثل والناقد والمؤلف المصري
للأستاذ زكي طليمات
(نص الكلمة التي ألقاها الأستاذ زكي طليمات مفتش شؤون
التمثيل بوزارة المعارف في الحفلة التي أقامتها جماعة أنصار
التمثيل والسينما بدار الأوبرا الملكية مساء يوم الأربعاء
الموافق 28 فبراير 1940 تكريماً لذكرى المرحوم محمد
تيمور، وذلك بمناسبة مرور عشرين عاما على وفاته)
إن الحديث عن تيمور لا تخلق جِدته لمن نَعَم بصداقة تيمور الراحل، ومن قرأه في أشعاره وفي مسرحياته. وحديث اليوم حديث الوفاء لمن عمل إلى جانب تيمور للمسرح وللفن، واتفق وإياه في المبدأ والفكرة العاملة. وحديث اليوم أيضاً هو درس الشباب، الشباب الدارج الذي فاته أن يعرف تيمور أو أن يطالعه في كتبه الثلاثة
حينما لبى تيمور نداء ربه منذ عشرين عاماً، وريعت مصر بفقده، وانتظمت جنازته في شبه موكب قومي حافل - لم تشيع السرىَ ابن الجاه الواسع والحسب الأصيل، لم نشيع الشاعر الملهَم فحسب، وإنما شيعنا رجل المسرح المصري الحق، وكبير كتّابه، وأخلص نصرائه
على هذا الاعتبار الذي يطغى على أي اعتبار آخر، شيعنا محمد تيمور إلى مرقده الأخير، ولما يتجاوز العقد الثالث من عمره. وليس في ذلك إرخاص لشباب غض ذوى قبل أوانه، وخُلق رضي متواضع قلما تُلمح مخايله في شباب الأعيان وأبناء الأرستقراطية التي تحسب أن النعم وقف على أبنائها، ولا خفض لشأن البيان الذي كان تيمور من فرسانه؛ وإنما إعلاء لشأن تلك الموهبة الغنية الخصبة التي أمدت المسرح المصري، وهو يرقى أولى درجات نموه بكثير من مقومات كيانه بعد أن ركز فيه تيمور أعلاماً من العمل الباهر والجهاد الصادق
وما اجتمعنا اليوم إلا بنفس الدافع الذي دفع الناس من قبل إلى تشييع جنازة تيمور. . .
اجتمعنا لنحيي ذكرى تيمور في جهاده للمسرح المصري ممثلاً وكاتباً وناقداً
وقد نجتمع غداً لنفس الدافع، ولعين الغرض، وسيحصل الجيل القادم شرف هذه الرسالة ليسلمها بدوره إلى الجيل الذي يليه. هذا أمر أعتقده وأؤمن به، لأننا، وقد شملتنا اليقظة القومية، لابد من أن نمجد ذكرى من عملوا لهذه القومية.
لأننا، وقد أخذنا بتدعيم أسباب مسرح مصري صحيح، لا مناص من أن نشيد بذكر من جاهدوا في سبيله، وأن ننتزع من النسيان تلك الوجوه الكريمة، التي شقت أفقاً، ومهدت طريقاً، وأهوت بيدها تنشئ في جدار!. . .
تيمور والمسرح
أتحدث الآن عن ذلك الجيل الذي عاش فيه تيمور، جيل الجهاد الأول من جانب الشباب المثقف لاستخلاص طابع مصري لفن التمثيل العربي، ولإعلاء شأنه، جيل الهواة الذين يرجع إليهم الفضل فيما انتهت إليه الحركة المسرحية اليوم
لئن قلت إن التمثيل كان قبلة تيمور في مختلف أدوار حياته، فإني لا أقرر غير الواقع الذي شهد به كل من اتصل بتيمور
فما كان تيمور المراهق الذي كان يتخذ من أبهاء قصور آبائه مسارح مرتجلة، ومن شقيقيه ومني ومن خلصائه ممثلين لفرقة مزعومة. . .
هذا الجواب الصغير لدور التمثيل في سن لا يُحسن فيها الذهاب إلى دور التمثيل، هذا المقلد (لسلامة حجازي) في إنشاده، ما كان تيمور هذا، إلا ذلك الشاب اليافع، الذي أعجب به الجمهور بعد ذلك ممثلاً في حلقات السمر، وفي حفلات الجمعيات التمثيلية، ثم حياه ناقداً جريئاً، ثم مجده مؤلفاً لمسرحيات مصرية طريفة هي الأولى من نوعها في العهد الذي عاش فيه تيمور
وإذا حاولنا أن نقيم صلة بين هوية تيمور بالمسرح وبين نشأته وبيئته وتقاليد أسرته لما وجدنا إلى ذلك سبيلاً، ولانتهينا إلى أن الإنسان حقاً لا يستقيم إلا على محتوم قضائه ومكتوب سيرته. (فتيمور) سليل بيت عريق في الغنى والمجد وفي التقاليد التي تعتبر التمثيل رِجساً من أعمال الشيطان. و (تيمور) ابن بيت عُرف بالاشتغال بالأدب، فعمته
الشاعرة عائشة التيمورية، ووالده المؤرخ واللغوي المحقق أحمد تيمور باشا. و (تيمور) اجتاز مراحل الدراسة في مصر، وسافر إلى أوربا لدراسة الحقوق، ولم يكن بينه وبين نيل إجازته شيء، لولا أن قطعت عليه الحرب الأخيرة سير دراسته. . .
ومع كل هذا فقد اعتلى تيمور المسرح ممثلاً قبل عودته من أوربا وبعد عودته منها وعلى الرغم من تبرم أهله وعشيرته بفن التمثيل. . .
اعتلى المسرح وهو يشغل وظيفة التشريفي لدى عظمة السلطان حسين في قصر عابدين؛ فضرب بذلك المثل الحي على أن التمثيل هوية شريفة جديرة بأن يعمل فيها أكبر الناس حمولةً من العلم والجاه والمركز الاجتماعي الممتاز. وهذا المثل فيه ما فيه من دلالة على أن المسرح يجب أن يكون مما يُعنى به الشباب المتعلم والشباب الكريم المحتد. وأن المسرح ليس بالأرض التي قضى عليها بألا تحمل إلا الأغرار ومن تنكبت بهم سبل العيش ومن خلت مواهبهم إلا من الجرأة والصوت الجهير!. . .
تيمور الممثل
ترأس (تيمور) أكثر من هيئة تمثيلية، وعمل مخرجاً وممثلاً فيها. بيد أن حياته في فن الممثل ليست بالحياة الطويلة، ولكنها على قصرها رسمت فن الممثل في نسقه العالي، وأقامت مدرسة لفن الإلقاء والتجويد لم تكن معروفة في ذلك الوقت، لأنها مدرسة كانت تقوم على الاعتدال والاتزان وصدق التعبير وجمال التأثير. جمع تيمور في إلقائه قوة التصور والإدراك إلى قوة الأداء والتعبير في تلك البساطة الغنية والحذق الباهر الذي يعمل على إرخاص الحواشي وإعلاء جوهر الكلام، والذي يحمل التأثير إلى قلوب المستمعين، لا إلى آذانهم!
هكذا شق تيمور الفجر الأول لما يجب أن يكون عليه الإلقاء والتمثيل من جانب الممثل والملقي
إلا أن الحركة التمثيلية لم تستفد الإفادة كلها من مواهب تيمور الممثل؛ لأنه لم يكن في وسع تيمور - وظروف بيئته على ما أجملنا وصفه - أن يحترف التمثيل في الفرق العاملة
ويقيني أن تيمور لو احترف التمثيل لما أصاب فيه خيراً، ولا اقتصرت مواهبه على تأدية بعض الأدوار، ولا انصرف بذلك عما هو أهم وأجدى، ولتبرم في النهاية بالمسرح
ومحترفيه
تيمور المؤرخ والناقد
إذا صح أن المسرح المصري فقد في إمساك تيمور عن احتراف التمثيل ممثلاً قديراً كان في وسعه أن يرقى بفن الممثل إلى الدرج المرغوب فيه، إذا صح هذا فإن المسرح لم يفقد في تيمور ناقداً له ومؤرخاً لعصر من عصوره
إن ما كتبه تيمور ناقداً ومؤرخاً للمسرح المصري متفرد في بابه بالدقة والصراحة، متفرد في ابتعاده عن التشيع وتلمس العيوب وحرق المباخر تحت ذقون زعماء المسرح المصري
كان تيمور لا يكتب لشهوة الكلام، أو للتظاهر بأنه حذق المسرح وفنونه، ولا لأي غرض من الأغراض التي تدفع بعض نقاد المسرح إلى امتشاق القلم وخوض معارك الجدل، وإنما كان يكتب لينزل الأشياء منازلها الصحيحة، وليخط للنقد المسرحي طريقاً، وليقيم له عرفاً، وليذيع اسم المسرح في كل مكان، ثم ليرسم للعاملين في المسرح الطرق والوسائل التي ترقى بهم وبفنهم نحو الكمال المنشود. ولعل تيمور أول من كتب منادياً بوجوب استقلال المسرح المصري عن المسرح الغربي برواياته وتصانيفه، وبوسائل تأدية ممثليه
لو قال تيمور هذا وسكت لقلنا إنه إنما يزف نظريات استلهمها من تاريخ المسرح الغربي وتطوره، وهو المسرح الذي نهل منه تيمور أعذب الموارد
تيمور المؤلف
ولكن تيمور قرن القول بالعمل والنظر بالتنفيذ، فألف للمسرح مسرحيات تمتاز بطابع مصري أصيل، هذبت حواشيه وصقلت صميمه مطالعات بعيدة وتأملات واسعة في نفائس الأدب المسرحي العام، امتزجت بوفرة الاستعداد وخصب الموهبة وروح الشاعر
كتب تيمور ثلاث مسرحيات (العصفور في القفص)، و (عبد الستار) و (الهاوية) كما وضع مسرحية (العشرة الطيبة)، والجديد في هذه الروايات أنها عالجت موضوعات منتزعة من صميم الحياة المصرية والشرقية في أسلوب أخذ نصيبه الوافر من طرافة الحوار، ووضوح الفكرة، وتغلغل هابطاً في أعماق النفس البشرية ليسجل منها أصدق الخلجات وأخلص المشاعر
والجديد في هذه الروايات أيضاً، أنها كتبت باللغة العامية، وهذا موضع العجب، لأن تيمور كان يملك ناصية البيان العربي وله شعر رصين ينم عن تعمق في دراسة اللغة، والأخذ ببيان الأقدمين.
وكان التأليف للمسرح من جانب من هم على شاكلة تيمور في ثقافته وأدبه إنما يجري باللغة العربية الفصحى
تيمور واللغة العامية
يفسر هذا أن تيمور كان يعتقد - كما سبق أن جاهر بذلك في مقالات عديدة - بأن لغة المسرح يجب أن تكون غير لغة المقال والأدب، وأنه يجب مخاطبة الجمهور المستمع باللغة التي يفهمها ويحذقها، أيّاً كانت لهجة هذه اللغة ونصيبها من البيان، وأنه في سبيل ذلك لا ضير على المؤلف للمسرح أن يكتب باللغة العامية مادامت هذه اللغة في متناول كل الأذهان ومختلف الطبقات، وأن لا ضير من إهمال جانب العربية في الكتابة للمسرح حتى يجتاز التمثيل المصري المرحلة الأولى من مراحل تكوينه، وهي مرحلة نشره وإذاعته بين الجماهير
كان تيمور أول من سن هذه الشرعة الفنية في وقت كانت تصدر فيه أغلب المسرحيات في أسلوب عربي لو اهتم كاتبه بمقتضيات الفن في نسج الرواية اهتمامه بتنميق اللفظ وإشراق البيان، لكان للمسرح المصري اليوم روايات عربية مقطوع بصحتها الأدبية والفنية معاً
تيمور والمصرية
وفوق هذا فقد كانت تعمر قلب تيمور فكرة (المصرية) وهي فكرة ترمي إلى أن يكون الأدب المصري مستقلاً عن الأدب العربي، لا في مناحي التفكير فحسب، ولكن في العبارة وأسلوبها إذا لزم الأمر
وهذه (المصرية) تجلت في كل ما كتبه تيمور قصاصاً وشاعراً.
والمصرية اليوم فكرة قد لا تلقى ترحيباً لدى بعض الرؤوس المفكرة، ولها ما لها عند البعض، وعليها ما عليها عند البعض الآخر، إلا أنني أقول - وقد أخذت عن تيمور الكثير من ثقافتي الفنية والأدبية - إنه ستكون للمصرية، ولاشك، دولة في القريب العاجل مادمنا
قد استكملنا مظاهر استقلالنا السياسي، وما دمنا قد استشعرنا العزة القومية، وأخذنا بأسباب نهضة ترمي في الصميم إلى استقلال الفكر والأسلوب في جميع نواحي الحياة الاجتماعية
ولم يك غريباً بعد أن أصدر تيمور مسرحياته باللغة العامية وهي تعالج موضوعات مصرية، لم يك غريباً أن يقيم مدرسة جديدة في الأدب المصري، والأدب العربي المستحدث، اجتذبت نحوها مريدين وأنصاراً
وقد ننسى أن تيمور كان ممثلاً فذاً، وكان ناقداً جريئاً، وأنه أضاف جديداً إلى دولة الشعر والبيان، وأنه دبّج للإصلاح الاجتماعي مقالات عديدة. قد ننسى كل هذا، ولكننا لا نستطيع أن ننسى أن تيمور عمل للقومية المصرية الحقة بتأليف مسرحيات جديرة بالخلود لوفائها بشرائط الفن الرفيع، مسرحيات تعتبر بحق من أحسن ما أخرجته الأقلام المصرية الدائبة على أن تجعل المسرح شقة من الأدب العربي المستحدث
كذلك لا نستطيع نسيان شيء آخر، وهو نزول شاب عريق في الحسب والجاه، إلى العمل في حقل جديد، في فن وافد حديث العهد بفنون هذه البلاد وتقاليدها، ترمقه الأكثرية الغالبة من الناس بعين ملؤها الشك والازدراء. . .
لا ننسى أن تيمور كان سبباً في أن أخذ الناس يحسنون الظن بهذا الفن. وشد ما يحتاج هذا الفن إلى حسن ظن الناس به! وأنه عمل له مجاهداً فدائياً بقدر ما وسعته بيئته وزمانه، وأنه لم يلق قلم الجهاد حتى الساعة الأخيرة، ويا لها من ساعة سقطت فيها زهرة ندية بقطر الشباب، تتنفس عن عطر فاغم، بعد أن جادت بروائها وبنورها وبعطرها لتبقي منابت الورد وموارد الإلهام وحصاد الخيال ومباعث الحنان. . .
أيها السادة:
إن الذي نحتفل اليوم بتمجيد ذكراه، شاب قضى في ميعة العمر ونضوج الصبا. . . فحيوا معي العروس المختضر، وأرسلوا البسمات صافية، لأن الدموع على الشباب الراحل ضرب من السخرية، ولون شائع من الحزن الرخيص. . .
زكي طليمات
من وراء المنظار
مجلس ظريف
شهدت من كثب ذلك المجلس في مقهى، ومن عجب أن تقع عيناي على مجلس ظريف في مثل ذلك المكان. أقول ذلك وإن عجب القارئ لقولي؛ على أني أرجو منه المعذرة، فأنا أكره المقاهي حتى ما أطيق الجلوس فيها إلا لضرورة. ولئن أنكرت وجود مجلس ظريف في أحدها فمرد ذلك إلى جهلي بها لا ريب في ذلك. . . ولست أدري لم أسأل نفسي أبداً كلما مررت بمقهى: أيتفرج الجالسون فيه على السابلة، أم هم أنفسهم صنف من المعروضات يتفرج عليهم المارة فيما يتفرجون عليه من معروضات الشارع؟ أما عن نفسي فأنا أتفرج دائماً على هؤلاء الجلوس ضاحكا؛ وكم يذهب خيالي في تصويرهم لي مذاهب لن أطاوع قلمي في ذكرها
ذهبت في المساء أطلب في أحد أطراف المدينة فملت إلى مقهى هناك كاد يكون خالياً، وقد اجتذبني ما بدا لي من هدوئه. وجلست وحدي في ركن من أركانه أمني النفس بجلسة تعيد لي خيال منعزلي في القرية؛ ولكني لم أكد أستشعر الهدوء حتى أقبل جماعة لم أشك أنهم من طالبي الهدوء مثلي. وآية ذلك أنهم كانوا يضحكون في جلبة شديدة، ويقطع بعضهم على بعض الحديث قبل أن يأخذوا أماكنهم! ورأيتهم جلسوا في نصف دائرة أمام واحد منهم جعلوا له الصدارة، وقد دل مظهره على إنه جدير بهذه الصدارة. والحق لقد كان في مجموع شكله يخيل إلي إنه نكتة تمثلت بشراً!
وبدأ الحديث أو قل استمر، فهم لم يمسكوا منذ رأيتهم مقبلين. وكأنما اعتزم هؤلاء أن يضحكوا أكثر ما يستطيعون من الضحك كما لو كانوا واثقين أن هذه آخر فرصة للضحك في حياتهم!
كانوا إلا واحداً أو أثنين قد جاوزوا الأربعين بقليل كما تراءى لي. أما كبيرهم فأحسبه كان يحبو للخمسين من عمره المبارك، وكانوا جميعاً يشتركون في صفة واحدة؛ ذلك أن عليهم طابع الديوان، فما تلبث العين - ولو بغير منظار - أن ترى فيهم نفراً من هؤلاء الذين يتربعون أمام المكاتب أثناء النهار وقد ارتسمت على وجوههم إمارات الجاه واتضحت دلائل الحكومة
ودار حديثهم أول ما دار حول (عزومة) كانوا خارجين منها لتوهم، فلم أسمع إلا النكتة تتلو النكتة. ولقد غابت عني لسوء حظي أكثر هاتيك النكات فيما كان ينطلق من أفواههم من قهقهات عالية متواصلة! ورأيتهم يرسلون ضحكاتهم العريضة قبل النكتة وبعدها، فما تنفرج شفتا زعيمهم حتى تنبعث الضحكات مجلجلة من بين شفاههم، وإن لم يسمعوا ما يقول. فلقد كان يضحك الواحد منهم أحياناً ملء شدقيه، ثم يميل على جاره يسأله: ماذا كانت النكتة؟ وكانت تسمج بعض النكات، ولكن الضحك يظل على حاله من الشدة، حتى لا أدري أيحمل هنا على المجاملة أم أن سخف النكتة إذا اشتد قد يكون في ذاته باعثاً من بواعث الضحك منها؟ على أنني رأيت للمجاملة هنا شأناً كبيراً، فكل من هؤلاء يضحك لكي يضحك لقوله الآخرون بدورهم، وإن جاوز في السخف أبعد حدوده. . .
ومن غريب أمر هؤلاء الظرفاء أنهم لم يتورعوا عن ذكر اسم مضيفهم المسكين أكثر من مرة، ولم يتركوا شيئاً مما قدم لهم من الطعام، ولا مما رأوه من متاع بيته إلا جعلوه موضعاً لظرفهم وقلبوه على أوضاعه جميعاً، فهذا زفت مجسم سمي (بالكفتة)؛ وهذه (الفتة) كان ينقص أن تقدم في طست الغسيل؛ وهذا الصنف جيء به من (المسمط)، وهذا الخبز سيسأل عن تقديمه لهم بين يدي الله، أو ذلك البرتقال من (سوق الكانتو) وتلك الأطباق والملاعق لاشك وقف عزيز من أوقاف المرحوم جده. . . وأنه إذا أراد أن ينتقم غداً من الرئيس فلان فليس أبلغ في الانتقام منه من أن يدعوه إلى مثل هذه (الأكلة). . .
وليتهم استمروا فيما هم فيه، ولم يخرجوا منه إلى استعراض الكثير غيره من أعراض الناس في مجلسهم الظريف، وللحديث شجون كما يقولون، وليس يبالي هؤلاء القوم في ساعة (حظهم) إلى من يتطرق الحديث، ولا أي موضع يتناول
وشبعت نفسي مما طلبت من هدوء، فانصرفت مسروراً برؤيتي هذا المجلس الظريف؛ وأنا أقول في نفسي كم يوجد من أشباه هذا المجلس الظريف ونظائره في الطبقات الأخرى من المجتمع وفي غير أركان المقاهي من النواحي، فما تلك المجالس إلا براهين قاطعة على أننا قد بدأنا نأخذ أنفسنا بالجد من الأمور، وأننا إذا لهونا فإنما نحسن اللهو كما نحسن الجد في هذه الحياة.
(عين)
ذكرى أخي الهراوي
للأستاذ علي الجندي
قبل وفاة صديقي المرحوم الهراوي بشهر، أرسل إلي بطاقة لطيفة حملها (ألف قبلة وتحية) ورجاني فيها أن أزوره بمقر وظيفته ليحادثني في شأن من الشؤون الأدبية. وقد عدتني عواد عن تلبية هذه الدعوة في حينها، ثم ذهبت بعد ذلك إلى دار الكتب فسألت عنه، فقال لي البواب:(تعيش) لقد توفي أمس إلى رحمة الله!
كانت الصدمة عنيفة أذهلتني عن كل شيء حتى عن واجب العزاء لأسرته، وحاولت أن أرثيه فلم أستطع، فقد غال الحزن بياني وغشى على مشاعري، وكان أنكى علي من ذلك ما تهامس به بعض الناس: من أني أخللت بواجب الإخاء! كأنهم لا يدرون - عفا الله عنهم - أن من الألم ما يحمي صاحبه الكلام كما يحميه الطعام!
والآن وقد انكسر الحزن ورسب سعيره في الأعماق، أهدي إلى روح صديقي في مسراه العلوي هذه الطاقة الشعرية مستنزلاً عليه الرحمة والرضوان العميم:
جهلَ العاذلونَ فيكَ مُصابي
…
فأطالوا مَلامتي وعتابي
وأذاعوا: أني بخلتُ بدمعي
…
ورثائي على أبرِّ الصِّحابِ
وعزائي عِلْمي بأنّك تدري
…
ما أُعاني من حُرقة واكتئاب
رُبَّ باك يذري دموع التماسي
…
ح من الموجعات خالي الوطاب
وجليدٍ يفترُّ عن سنِّ جذلا
…
ن طوَى كشحه على الأوصاب
وخليّ الفؤاد من لاعج الحبّ
…
(م) يُرى صابياً وليس بصابي
أعذَرُ الناس من دهتْه الرزايا
…
ونَهَتْ دمعَه عن التَّسكاب
فهنيئاً لهم بكوْا فاستراحوا
…
وكتمت الجوى، فطال عذابي
أيها اللائمون عَدُّوا عن اللو
…
م وقُيتمْ - على الإساءة - ما بي
لو بكم ما بنا، وبان عليكم
…
لَلبِستمْ به سوادَ الغراب
لا يُحسّ الآلام من دينه الله
…
وولا يدْرَكُ الصبى بالتصابي
كثرت بيننا الجِياد ولكن
…
قصبُ السبق للمذَاكي العِراب
وحمامُ الرياض يبكي فنشجَى
…
حين تبكي مطوّقاتُ الرِّقاب
كيف ينسى الوداد مثر من المج
…
د رفيع الذُّرا كريم النِّصاب
مُعْرقٌ في الوفاء يجري على العر
…
ق ويسري في بُلجة الأحساب
لا وربي لم أنقض العهد يوماً
…
لا ولا بتّ سالياً أحبابي
أنا أكسوهم المدائح أحيا
…
ءً، وأُروي صداهمو في التراب
وأصوغ الرثاء فيهم رياحي
…
ن تمجّ الشّذا على الأحقاب
يا أخي في الوداد، والودُّ أبقي
…
أثراً من علائق الأنساب
ومُعيني على نوائب دهر
…
أنا منها ما بين ظفر وناب
ومَناري إذا دجا الشك حولي
…
وتنكبت عن طريق الصواب
وصفيي، وجُلُّ من أصطفيهم
…
صُورُ الإنس في طباع الذئاب
كنت أخشى طوارق السوء إلا
…
طارق الموت لم يقع في حسابي
أين أيامنا نواعم كالغي
…
د تخايلْنَ في رقيق الثياب
بين صبح مُفضّض، وأصيل
…
شرِق الأفق بالنُّضار المذاب
نسجتها يد الزمان من البه
…
جة والأنس والأماني العِذاب
فهي من عمره الربيعُ المُوشّى
…
وهي من عمرنا لُباب الّلباب
وليال كأنها من سَناها
…
ومضات الأحداق خلف النقاب
نَتساقَى بها الودادَ سُلافاً
…
أين منها سلافة الأعناب
كيف مرّت بنا عِجالاً فكانت
…
كحباب طفا على الأكواب
أو كطيف الحبيب يدنو به الغم
…
ض وتُقْصيه رقصةُ الأهداب
خُلَسٌ من بشاشة العيش ولّتْ
…
تستحث الخطا لغير إياب
آه لو سامني زمانيَ فيها
…
بشبابي، شريْتها بشبابي
فجعتنا المنون بالشاعر المل
…
هم آي البيان والإعراب
بالأديب المِفنّ من يسكب المع
…
نى رحيقاً في المنطق الخلاّب
بِمُحيل الطروس روضَ مجان
…
مُونِقاً للعيون والألباب
بسجيج الطبع الرقيق الحوا
…
شي وسريّ الخُلْق النقيّ الثياب
بمؤدّ حق الأخلاّء في النا
…
دي وحق الإله في المحراب
جامع الخَلّتين: ظرف الألبّا
…
ء، ونُسْك المُطهّر الأواب
يا لذكرى هاجت بلابل صدري
…
وأعارتْ قلبي جناحيْ عُقاب
قَلِقٌ تَحتيَ الوسادُ كأني
…
أتَنزَّى على رؤوس الحراب
بين ليليْن: من دجى وهموم
…
ناهضات إليَّ من كل باب
مَثَّلا لي الخضمَّ يغشاه موجٌ
…
تحت موج مجلل بسحاب
كلما طار في السماء شهاب
…
طار قلبي وَثَبْاً وراء الشهاب
أو ذكا كالبرق في الدُّجنّة ناراً
…
شب نار الأحزان ملء إِهابي
تُسعد الذكرياتُ أهلها، وأُلَقي
…
ذكرياتي محطّم الأعصاب
يا صديقي لبيت دعوة (رضوا
…
ن) وخلّفتني لحَرِّ المصاب
لم تزوّد أخاك بالنظرة العجْ
…
لى على وَشْك نيةٍ واغتراب
ووداع الأحباب فن من السل
…
وى وعون على احتمال الغياب
ليت آذنتَ بالفراق، فكنّا
…
ننثر الدمع في طريق الركاب
كذَب الشعر ما لمن حان عِلمٌ
…
بالذي سجلتْه (أمُّ الكتاب)
إن من مِنة الإله علينا
…
أن توارتْ أسرارنا بالحجاب
لو درى الناس ما تستّر عنهم
…
قعدوا عن تناول الأسباب
لمع الغيب للظماء سراباً
…
ضلّ صاد يجري وراء السراب
روّض الغيث قبر من كان روضاً
…
حالياً بالعلوم والآداب
بان عنا، فبان كلُّ جميل
…
فعزاءً للآل والأصحاب
علي الجندي
3 - لقب السفاح
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
وعدت في مقالي الثاني أن أبين للأستاذ العبادي كيف اختلفت الروايات في لقب السفاح بين أبي العباس وعمه عبد الله ابن علي، وقد سلك الأستاذ العبادي في اختلاف هذه الروايات مسلكاً ليس من الإنصاف العلمي في شيء، فجعل تلقيب أبي العباس بالسفاح من رواية المؤرخين الأدباء كالجاحظ وابن قتيبة والأصفهاني ولهذا لا يوثق بها عنده، وإنما يوثق بالرواية التاريخية القديمة التي سكتت عن تلقيب أبي العباس بهذا اللقب، كرواية ابن سعد وابن عبد الحكم وغيرهما. ويؤخذ بما رواه غير أولئك المؤرخين الأدباء من تلقيب عبد الله بن علي بالسفاح، وإنما كان هذا ليس من الإنصاف العلمي في شيء، لأن سكوت أولئك المؤرخين عن تلقيب أبي العباس بالسفاح لا يصح أن يطعن به في رواية من لقبه به، لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ، وهذه قاعدة مشهورة عندنا معشر الأزهريين، ولا يمكن أن يجادل فيها الأستاذ العبادي، وإنما يصح الطعن برواية أولئك المؤرخين إذا وردت بنفي ذلك اللقب عن أبي العباس، وحينئذ يكون معنا ناف ومثبت، وقد اختلف علماء الأصول في تقديم أحدهما على الآخر. على أن الأستاذ العبادي لا يمكن أن يدعي أنه استوعب الرواية التاريخية القديمة كلها في ذلك، وقد فاته من هذه الرواية رواية أبي الحسن المسعودي المتوفى سنة 346هـ، فقد جاء في كتابه (مروج الذهب) تلقيب أبي العباس بالسفاح، والمسعودي مؤرخ مشهور، وقد كان معاصراً للطبري المتوفى سنة 310هـ وهو ممن عده الأستاذ العبادي في أصحاب الرواية التاريخية القديمة فيكون المسعودي من أصحابها أيضاً، وسيجد الأستاذ العبادي بعد هذا كله إنه لا تعارض بين هذه الروايات، وأنَّا لسنا في حاجة إلى إنكار بعضها أو ترجيحه على الآخر
وقد أراد الأستاذ محمود شاكر أن يسلك هذا الطريق في الجمع بين هذه الروايات المختلفة، فذكر أن قول اليعقوبي (عبد الله بن علي الأصغر وهو السفاح) منقول من ابن سعد في طبقاته حين ذكر أولاد علي (عبد الله بن علي الأكبر وعبد الله بن علي الأصغر السفاح الذي خرج بالشام)، ولا يريد ابن سعد بذلك التلقيب كما يرى من اليعقوبي، وإنما ذلك صفة كالسفاك والقتال، وبهذا لا يكون السفاح لقباً لعبد الله بن علي، وإنما يكون لقباً لابن أخيه
أبي العباس عبد الله بن محمد بن علي، وقد كان يسمى عبد الله الأصغر أيضاً، كما كان أخوه أبو جعفر يسمى عبد الله الأكبر. ثم ذكر الأستاذ محمود أن أبا جعفر قد لقبه أبوه بالمنصور فيما يعلم، فلا غرو أن يكون أبو العباس قد لقبه أبوه بالسفاح كما لقب أخاه بالمنصور
ولما قرأت هذا للأستاذ محمود سألته عما يعتمد عليه في إسناد تلقيب أبي جعفر وأبي العباس بالمنصور والسفاح إلى أبيهما محمد ابن علي، فلم أجد عنده ما يعتمد عليه في ذلك. وقد بحثت بنفسي لعلي أجد ما يؤيده فيه، فلم أجد إلا ما ذكره صاحب العقد الفريد، من أن محمد بن علي ولد له من امرأته الحارثية ولدان سمى كل واحد منهما عبد الله، وكنّى الأكبر أبا العباس، والأصغر أبا جعفر ولم يذكر أنه لقبهما بذينك اللقبين، بل الظاهر مما سننقله فيما يأتي عن صبح الأعشى أن أبا جعفر تلقب بالمنصور بعد انتقال الأمر إليه من أخيه أبي العباس
والرأي عندي أن أبا العباس لم يلقبه أبوه بهذا اللقب قبل أن تقوم دولتهم، ولم يلقب هو نفسه به بعد أن صار إليه الأمر، لأن مثل هذا اللقب لا يتفق مع الألقاب الإسلامية التي عرف بها الأمراء قبل أبي العباس وبعده، وإنما هو لقب لصق به لصوقاً، وأطلقه عليه الناس وكثير من المؤرخين، لوصفه نفسه به في خطبته عندما بايعه الناس، فقد ذكر الطبري أنه لما بويع صعد المنبر فقال: الحمد لله الذي اصطفى الإسلام تكرمة، وشرفه وعظمه، واختاره لنا وأيده بنا، إلى أن قال مخاطباً أهل الكوفة: وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم، فاستعدوا فأنا السفاح المبيح والثائر المبير
وقديماً لقب العرب كثيراً من الشعراء بمثل ما لقب به أبو العباس، فلقبوا عائد بن محْصَن بن ثعلبة العبدي بالمُثَقِّب لقوله:
رَدَدْنَ تحية وكنَنَّ أخرى
…
وثَقَّبنَ الوَصاوص للعيون
ولقبوا عمرو بن سعد بالمرَقَّش الأكبر لقوله:
الدار قَفْرٌ والرسومُ كما
…
رقَّشَ في ظهر الأديم قَلَمْ
وكذلك كثير من الشعراء غيرهما
وإذن يكون لقب السفاح في أصله وصفاً بالنسبة إلى أبي العباس، كما كان في أصله وصفاً
إلى عمه عبد الله ابن علي، ثم اشتهر به أبو العباس عند بعض المؤرخين، كما اشتهر به عبد الله بن علي عند بعض آخر منهم، ولكل منهم في ذلك رأيه واختياره، وليس فيه شيء من الغلط والاشتباه الذي يدعيه الأستاذ العبادي
وعلى هذا لا يكون لقب السفاح هو اللقب الحقيقي الذي اختاره لنفسه أبو العباس، وإنما هو لقب غلب عليه عند المؤرخين بذلك السبب السابق، حتى أنسى الناس لقبه الحقيقي الذي اختاره لنفسه بعد أن صار إليه الأمر، بل دعا هذا إلى عدم الاهتداء إلى لقبه الحقيقي بيقين، وإلى ذلك الخلاف الذي سنذكره فيه، ولكنه مع هذا هو اللقب الذي يصح أن يضعه لنفسه مثل أبي العباس، ويتلاءم مع ألقاب من أتى بعده من العباسيين.
قال الخطيب البغدادي: عبد الله أمير المؤمنين السفاح بن محمد ابن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، يكنى أبا العباس، ويقال له أيضاً المرتضى والقائم، ثم قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق، أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق، حدثنا محمد بن أحمد بن البراء قال: أبو العباس المرتضى والقائم عبد الله بن محمد الإمام بن علي السجاد ابن عبد الله الحبر ابن عباس ذي الرأي ابن عبد المطلب شيبة الحمد.
وذكر القلقشندي أن خلفاء بني أمية لم يتلقب أحد منهم بألقاب الخلافة، وأن ذلك ابتدئ بابتداء الدولة العباسية، فتلقب إبراهيم بن محمد حين أخذت البيعة له بالإمام، وأن الخلف وقع في لقب السفاح فقيل القائم، وقيل المهتدى، وقيل المرتضى، ثم تلقب أخوه بعده بالمنصور، واستقرت الألقاب جارية على خلفائهم كذلك إلى أن ولي الخلافة أبو إسحاق إبراهيم بن الرشيد بعد أخيه المأمون، فتلقب بالمعتصم بالله، فكان أول من أضيف في لقبه من الخلفاء اسم الله، وجرى الأمر على ذلك فيما بعده من الخلفاء
وفي هاتين الروايتين وخصوصاً الأخيرة من العناية بتحقيق تلك الألقاب ما يجعلنا نثق بهما، ونطمئن إليهما، وفيهما لا يدخل لقب السفاح فيما قيل إنه لقب أبي العباس، وهذا يؤيد ما ذهبنا إليه فيه، وقد جاء بعد أبي العباس من تلقب بالقائم بأمر الله، ومن تلقب بالمهتدي بالله، ولم يتلقب أحد بالمرتضى بعده، فلعله كان اللقب الذي اختاره لنفسه، على أن ظاهر رواية الخطيب البغدادي أنه كان يقال له المرتضى والقائم معاً
هذا ولا يفوتنا في ختام كلامنا أن نبين حقيقة ما جاء في تاريخ ابن العبري عن السفاح، من
أنه كان رجلاً طويلاً أبيض اللون، حسن الوجه، يكره الدماء، ويحامي على أهل البيت، فإن هذا لا يراد منه إلا كراهته لدماء أهل البيت وحدهم، بدليل ما قدمنا من أمره في دماء غيرهم؛ على أن العبري يقيس في ذلك أمره بأمر من جاء بعده من العباسيين.
عبد المتعال الصعيدي
رسالة الشعر
البعث. . .
للدكتور إبراهيم ناجي
يا جمالاً وجلالًا يتدفَّقْ
…
رجع البلبل أم عاد الربيعْ!
بهر النور عيوني فترفَّقْ
…
حين تدنو إنني لا أستطيعْ!
أيها الورد الذي طاف بنا
…
أيها الطلُّ الذي بَلَّ الغما
لا أراك الله حالي وأنا
…
أَطأُ الشوكَ ويغزوني الظما
يا أمانيَّ وحبي وخيالي
…
لا تضيِّع لحظة فالعمر ضاعْ
لا أراك الله حالي والليالي
…
كاسفات ليس فيهن شُعاعْ!
قد بلوتُ الويل فيها لا بَلَوتا
…
وأنا أبدأ يومي بالمساء
وعرفتُ الضيق ضِيق القلب حتى
…
لم أجد في الكون ثقباً من رجاءْ!
لا وربي ليس للدنيا ختامْ
…
حين يغدو البعثُ نجوى من حبيب
حين يستيقظ قلبٌ من منامْ
…
والمنادى أنت! والحب المجيب!
مطارف الربيع
(إلى الصاخبين دائماً على الأيام المرة القاسية)
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
ما لهذا الرَّوضِ ظمآنا؟
…
ما لهذا الزَّهْرِ نعسانا؟
ما لتلك الأرض قد لبست
…
من نسيج الموتِ أكفانا
ما لهذا النَّجمِ مُرْتقبا
…
وَمَضاتِ البرقِ حَيْرانا
ما لقرص الشمس مكتئبا
…
عابسَ الألحاظِ غضبان
ما لهمسِ الريح منطلقا
…
مثلَ عَزفِ الجن مِرْنانا
ما لتلك الأرضِ ثائرةً
…
مثلما تسمعُ بُركانا
ما لهذا الطفلِ منسربا
…
تحت جنْح الليلِ عُريانا
يتشكَّى البردَ آونةً
…
ويعاني الجوعَ أحيانا
الشِّتاء المُرُّ فارقَنا
…
والربيعُ الحلوُ واتانا
مِطْرَفٌ وشّاهُ صانعهُ
…
وحباهُ الحُسنَ ألوانا
ما لتلك الأرضِ فاتنةً
…
ما لهذا الروض سكرانا
ما لهذا الزّهرِ مؤتلقا
…
يَنفحُ الأرواحَ رَيْحانا
ما لهذا الطيرِ مُنطلقا
…
يملأُ الأنحاَء ألحانا
ما لهذا النُّور منسكبا
…
قد أصارَ الكونَ غَرقانا
ما لقرص الشمسِ ملتهبا
…
ضاحكَ الألحاظ فتَّانا
ما لهذا الطفلِ مُنْسربا
…
في المروج الخُضْرِ جَذْلانا
يتمنَّى في خمائلها
…
لو قَضى الأيام وَسنانا؟!
نرتجي الأيامَ صافيةً
…
آه لَوْ صَافْينَ إنسانا!
قُلْ لمن ضاقتْ مسالكهُ
…
بالليالي حَسْبُكَ الآنا
الشتاء الْجَهْمُ يعقبه
…
الربيعُ الطَّلقُ مُزْدانا
أناشيدي!.
. .
للأديب محمود السيد شعبان
هُنا دُنيا أَناشِيدي!
…
فَعِشْ يا قَلْبُ للذَّكرَى
بنَيناها كما شاَءتْ
…
لَنا أَوْهامُنا السَّكْرَى!
وَصُغناها مِنَ الأحْلا
…
مِ والإِلهامِ أَلْحَانَا. . .
فَهيَّا نَلْقَ فيها سَا
…
عَةً يا قَلْبُ سَلْوانا
وَنَترُكَ هذهِ الأَشْجَا
…
نَ في دُنيا الأسَى حَيْرَى!
ونملأُ بالرِّضى والبِشْ
…
رِ والأفرَاحِ دُنيانا
أَلَا يا رَبَّةَ الألْحَا
…
نِ مَنْ غَنَّاكِ أَلْحَاني؟!
وَمَنْ يا فِتْنَةَ الدُّنيا
…
سَقَاكِ السِّحْرَ مِنْ حَاني؟!
أَنَا الشّادي. . . وَأَنْتِ صَدَى
…
أَغارِيدِي وَأَنفْاَسي!
إِلَيْكِ قدْ اهْتَدَى وَهْمِي
…
وَلكِنْ ضَلَّ إِحْسَاسي!
كِلانَا يا هُدَى رُوحي
…
نَزِيلُ العَالَمِ الفاني
خُلِقنا لِلْخُلُودِ مَعاً
…
وَإِنْ كُنَّا مِنَ النَّاسِ!
مَلكْنا هذهِ الدُنيا
…
وَصُغْنَاها كما نَهْوَى
مَلاعِبُ فِتْنَةٍ أصْداَ
…
ؤُها سِحْرٌ مِنَ النَّجْوَى
فَيا قِيثَارَ أَحلامَي
…
تَعَبَّدْ لِلْجَمَالِ هُنا!
وإِنْ أبْصَرْتَ وَلْهاناً
…
يَطُوفُ بِهِ. . . فَذَاكَ أنا!
إِلى الماضي رَجَعْتُ أرو
…
مُ في ذِكْراهُ لِي سَلْوَى
فَكَمْ خَلَّقْتُ في وادي
…
هِ مِنْ بَعْدِ الهناءِ مُنَى!
فَيا شِعْرِي! خَلَقْتُكَ مِنْ
…
هُدَى قَلْبِي وَمِنْ وَجْدِي!
وَهَبْتُ لكَ الخُلودَ فلا
…
تَخَفْ إِنْ عِشْتَ مِنْ بَعْدِي
وَصُغْتُكَ مِنْ دَمي فِتَناً
…
وَأوْهاماً أُنَاجيهَا. . .
فَخُذْ أنفَاسِيَ الوَلْهى
…
إِليْكَ صَبَتْ أمَانيها!
مَلَكْتُ بِكَ الحياةَ فمَا
…
أرَدْتُ أخَذْتُهُ وَحْدِي
وَهَل كانَ الهوى والشِّع
…
رُ إِلاّ خَيْرَ ما فيها!!
رسالة الفن
تأملات في الفن:
يا علماءنا. . . نريد أن نعرف!
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- خذ كل من هذا الحمص. إنه من السيد البدوي
- وهل كنت في طنطا؟
- نعم. ضيفة عند ناس
- أو لم يعجبك شيء في طنطا غير الحمص؟
- السمن هناك جيد، والخضار أجود
- همُّ بطنك ولا شيء يشغلك غيره، ألم تفكري في زيارة السيد البدوي الذي تأكلين حمصه هذا؟
- زرته. ولم أنس أن أدعوه لك
- شكراً. فلست أدعو غير الله. . . أو لم يعجبك شيء في مسجد السيد البدوي؟
- لا أذكر، فهو مسجد كبقية مساجد ربنا
- صحيح. ولكن فيه منبراً هو نفسه صلاة صامتة قائمة دائمة
- يا سلام. . . لم يلفتني أحد إليه
- وعيناك هاتان المبرقتان تحملقان ولكنهما لا تريان. امرأة!. . .
- تركنا منبر السيد البدوي وعدنا إلى امرأة ورجل، ما لها المرأة؟ كل ما حدث أني شغلت عن النظر إلى المنبر بالنظر إلى السيد نفسه. . .
- ولا السيد. بل قولي إلى الزوار
- آي، كنت أنظر إلى الزوار. أليس في النظر إلى الرجاء المتألق في وجوههم لذة؟
- وأي لذة عند المرأة أحلى من أن ترى الرجاء متألقاً في وجهه
- كان الزوار كلهن نساء
- ولماذا هذا التخصيص، ولماذا أسرع إلى ذهنك هذا الخاطر السيئ فتسرعي إلى إنكاره
بهذا الحسم الجازم. . . أفتظنين أنك هربت من السوء إلا إلى الأسوأ؟
- وهل يسوء مجتمع النساء أكثر مما يسوء إذا اختلطن بالرجال؟
- من غير شك. فهن بين الرجال قد يخجلن فيحتشمن، ولكنهن إذا انفردن انطلقن تتفرس كل منهن في الأخرى. وتفترس كل منهما الأخرى. وما أعجبها إذن معمعة حين تشب في ضريح أو مسجد، ينقلب المسجد من مطهرة إلى. . . إلى مدرسة!
- مدرسة؟! على أي شكراً لله فقد توقعت أن تقول شيئاً آخر. . . ولكن لماذا تقول إن اجتماعنا في المسجد يقلبه إلى مدرسة. . .
- لأنكن بطبيعتكن، إما أن تكن تلميذات، وإما أن تكن معلمات، ولا يمكنكن أن تكن غير ذلك إلا إذا فسدت طبيعتكن. فإذا وصف إنسان اجتماعاً من اجتماعاتكن بأنه مدرسة كان يبني وصفه هذا على خير الفروض فيكن. . .
- كلامك محتاج إلى برهان
- هذا يحتاج برهاناً؟ لا بأس. . . اسمعي. . . منبر السيد البدوي. . .
- عدنا إلى منبر السيد البدوي. . . لن نعود إلى ذكره حتى ننتهي مما كنا فيه. . .
- سننتهي منه ومما كنا فيه معاً. . . أريد أن أقول لك إنه آية فنية رائعة، وإنه على ضخامة حجمه وتعقيد تركيبه، مؤلف من قطع صغيرة التحم بعضها إلى بعض من غير غراء ولا صمغ ولا مسمار واحد، وإنه صنع في عهد واحد من الخديويين المتأخرين. ولقد أقيم للأستاذ الذي صنعه أستوديو أو (أتيليه) خاص كان مؤلفاً من عدة خيام، وإن الخديوي طلب يوماً أن يشرف هذا الأستوديو بالزيارة ليشاهد المنبر أثناء تاليفه، فأعتذر الأستاذ بأنه لا يستطيع أن يعمل إذا كان عليه رقيب غير الله. . . كما إنه لا يستطيع أن يصلي وبينه وبين القبلة إنسان ممتنع عن الصلاة جالس أو واقف ينظر إليه ويحصي عليه حركاته وسكناته. . . فهو لا ريب يشغله ويعوقه عن إحسان الصلاة على الأقل. . .
- عجيبة! ومن هو هذا الأستاذ الفيلسوف، وماذا كان رد الخديوي عليه. . .
- ما كان الخديو محب الفن إلا ليقدر مثل هذا الاعتذار وأن يجيزه إكراماً لفن الأستاذ (علي جَلَّطْ)!
- علي ماذا؟ جلط؟! يا له من اسم مضحك!
- و (ميكيلانج) أليس اسماً مضحكا؟! ألأِن علياً مصري تضحكين من اسمه، ولأن الآخر من سادتكم أهل الغرب تستسيغين اسمه على ما فيه من عجمة؟. . . إن ميكيلانج وميكي ماوس ليسا من أسمائنا، وإنه من أسمائنا (جلط)، وبهنس، وغلوش، وزينهم وما أشبه. . . فلماذا نتحرج من أسمائنا ونضحك منها ساخرين، وحقنا أن نضحك - إن ضحكنا - معجبين بما فيها من النكتة فلا ريب أن هذه الأسماء الغريبة لا تطلق في مصر إلا لمناسبات
- أريد أن أسألك عن هذه المناسبات، ولكني أخشى أن نخرج من الأستاذ علي إليها، فلا نعود منها، وقد كنا قبل هذا وذاك في موضوع آخر هو موضوع (المدرسة)، الذي أظن أنك لا تزال تذكر أننا تركناه معلقاً. . .
- امرأة مرة أخرى: لا تغفل ولا تنسى، وهو من شروط التلميذة الناجحة، والمعلمة البارعة. . . أما الأستاذ علي يا أبلة، فلعلهم لقبوه بلقبه، لأنه (جلط) يوماً لحيته بزجاجة أو حدث منه شيء كهذا. . . وأما منبره يا آنستي، فهو الآية الفنية التي لا يمكن أن توصف، وإنما يجب أن ترى وان تدرس، وأما أنت فامرأة، ولم تلتفتي إلى هذه الآية الفنية العجيبة، لأن أحداً لم يلفتك إليها، وهذا شأن التلميذات، وأنا أراهن أنك إذا زرت السيد البدوي بعد اليوم، فإنك ستصحبين صاحبة أو اثنتين، لا لشيء، إلا لتلفتيهما أنت إلى المنبر لتكوني لهما معلمة وتكونا هما تلميذتين، ولست أراهن على هذا إلا لثقتي منه، ولست واثقاً منه إلا لعلمي بأنه شيء في طبعكن، فالله أعدكن لتكن أمهات، والأمهات مربيات، والمربيات معلمات، والمعلمات يكن تلميذات قبل أن يصبحن معلمات. . . ولا شيء غير هذا يا زين البنات. . .
- تلفيقات وترهات! فنحن أكثر مما تظن، فمنا الآن مهندسات وطبيبات وفنانات ومحاميات. . . كما إنه منا معلمات!
- هؤلاء جميعاً تلميذات، حتى المعلمات. . . كي ترتاحي وتسكتي. . .
- أسكت؟ إن سكت عن خطل الرأي، فلن أسكت عن تراجعك وانتقاضك على ما سبقت وقررته. . . كيف أسكت وقد رددت المعلمات تلميذات؟!
- لأنهن هكذا، فليست فيهن واحدة. . . لها طريقة خاصة بها في مهنتها أو فنها. . . وعلى
الرغم من أن الله قد أعدهن ليكن معلمات، فإنهن لا يعلمن إلا ما تعلمن. . .
- وهل تريدهن يعلمن ما لم يعلمن؟. . .
- أفهن لا يعلمن إلا إذا تعلمن؟. . . لماذا لا يتعلمن هكذا من الحياة رأساً. . . أفنامت عقولهن عن تجاربهن وخبرتهن ومشاهدتهن في كل شأن من شؤون الدنيا إلا المسألة الدنيا؟
- كلا! إني لا أوافقك في هذا. فإن فينا إمامات وعلى الخصوص في التربية وفي الفنون. كيف يمكنك أن تجحد المربية مونتسوري، والممثلة جريتا جاربو، والمغنية جريس مور، والراقصة جنجر روجرز و. . . و. . . و. . .
- أما مونتسوري فمعلمة جاد بها الزمن في القرن العشرين بعد أن ظل الزمن يجود بالمعلمين من قبل سقراط وأرسطو. وعلى أي حال فإن مدام مونتسوري لا تزيد على أن تكون مخترعة لبعض ألاعيب الأطفال. وأما الباقيات اللواتي ذكرتهن هؤلاء فلا أزال أقول إنهن تلميذات فجريتا جاربو لم تكن شيئاً قبل أن يكتشفها أستاذها المخرج السويدي الذي نسيت اسمه وأظن أنك تذكرينه، وأما جريس مور فإني أتحداها أن تغني شيئاً إذا لم يلحن لها الملحنون الأغاني، وأما تلك التي ترقص كالعفاريت التي اسمها جنجر روجرز فقد جربت أن تنفصل عن أستاذها فريد أستر فأخفقت فعادت إليه ومع ذلك فهي لا تزال تتطاول عليه وتقول عنه إذا ذكرتها إنه زميلها وليس قائدها وأستاذها. . .
- وكاي فرانسيس التي تحبها؟
- أنا أحب عينيها أكثر مما أحب فنها
- عينيها؟ لقد قلت مرات إنها ممثلة نابغة
- لو لم يهبها الله هاتين العينين ما كانت نابغة وما كانت ممثلة. هما عينان لو رزقهما رجل لما استطاع إلا أن يكون قديساً ربانيا من غير ما شيء يعرقله. . . فيهما صفاء وشفافة فهما ينضحان بما وراءهما من فكرة أو عاطفة، فصاحبهما لا يستطيع أن يكذب إلا إذا أغمضهما أو سبح بهما في الفضاء لا يوجههما إلى عيني محادثه، وهذا شيء يدل على الكذب والصدق أهون منه، فإذا داوم صاحب هذين العينين الصدق عجزاً عن الكذب في أول الأمر فإنه سيداومه بعد ذلك اعتياداً له، ثم يداومه أخيراً حباً له، والصدق كما قلت لك مرات هو الخطوة الأولى نحو الله. . . وعلى هذا كانت كاي فرانسيس بهاتين العينين
مقصرة حين انتهى أمرها عند أن تكون ممثلة نابغة. . . فهمتِ؟!
- إذن فقد انقلبت على نفسها إذ تمارس الآن الكذب؟ فليس التمثيل إلا الكذب
- لو كانت كاي فرانسيس تكذب ما كانت أعجبتني، وإنما هي تصدق، ولا تمثل إلا ما تحسه أو ما أحسته، ولعلك تلحظين أنها لا تكثر من الظهور، ولعلك أدركت أن سبب هذا هو أنها تنتظر حتى يوافيها الدور الذي يلائمها والذي تكون قد أحاطت بمثله في حياتها. . . وحياتها كما أظنك تعرفين فيها ما فيها، وأبرز ما فيها أنها تمثل بهاتين العينين الصافيتين الشفافتين. . . فرغ الحمص. أليس معك غيره؟
- خذ، ولكن بعد أن تعترف ولو لكاي فرانسيس وحدها بأنها أستاذة.
- ليس ما يمنعني من ذلك. فقلها أن تكون أستاذة، ولك أنت أيضاً ذلك إذا زرت منبر السيد مرة أخرى وأديت له حق التأمل والدرس والترحم على صانعه، ولم يشغلك في زيارته النظر إلى الزائرات من أترابك والتحقق من ملبسهن وزينتهن ولغاتهن
- ولكنك قلت إن هذا من طبع المرأة
- هو طبعها في التلمذة، وأنت تريدين أن تكوني أستاذة، والأستاذة هي التي فرغت من النظر إلى غيرها وبدأت نفسها تفيض بما فيها. . . وأظن أن المرأة لا تكره هذا إلا لسبب واحد. . .
- ما هو هذا السبب أيضاً؟
- هو خشيتها من الكبر، فبهذه الخشية تدمن النظر إلى غيرها تخدع نفسها متخيلة أنها صغيرة لا تزال في حاجة إلى التعلم. . . حتى إذا ما فاجأتها التجاعيد آمنت بأنها أستاذة، ولكنها بعدئذ تقضي الحياة في حسرة بدلاً من أن تقضيها في عمل. . . سنة الله التي شاءت لكن أن تقبعن في بيوتكن. . .
- سأقبع ولن أزور المنبر. . .
- زوريه أو لا تزوريه، فستعرف الدنيا خبره يوم ترقى مصر ويبحث علماؤها عن تاريخ علي جلط ومحمد البقري وغيرهما من أهل الفن العربي الذي يقدره الغربيون حق قدره ويردون إلينا من أقصى الأرض وأدناها لينعموا بمشاهدته وليأخذوا عنه، حتى إذا سألونا عمن أنتجه من آبائنا قلنا: اللهم إنا لا نعرف
- أما الأستاذ علي فقد عرفته بمنبر السيد، ولكنك لم تذكر لي من هو محمد البقري. . .
- صاحب الزخرفة العربية الرائعة التي يتحلى بها (بنك مصر) وتياترو حديقة الأزبكية. . . وإذا كنت أنا أعرف هذين فإني أجهل صاحب السلطان حسن وصاحب مسجد القلعة والمؤيد والرفاعي، وغير ذلك من الآثار العربية الخالدة. . . فهل لك أن تسألي لي واحداً من علمائنا عنهم؟. . .
- بإذن الله سأسأل. . . ولكن لماذا لا تهتم أنت بتتبع أخبار هؤلاء وهو أمر شديد الصلة بعملك؟. . .
- قد يكون هذا حقاً، ولكن الوثائق تعوزني، فإن أغلب الآثار العربية، قد أرخت منسوبة إلى الملوك الذين أنشئت في عصورهم، ولم تنسب إلى الفنانين الذين عصروها من دمائهم، وقد جربنا على هذه السنة حتى في عصرنا الحديث فنحن لم نذكر (علي جلط) ولا (محمد البقري) في آثارهما مع أنهما محدثان قريبان وهما لم يعنيا بهذا لأنهما كانا أخلص للفن من أمثالهما الغربيين، ولم يكونا يسعيان بالفن إلى الذكر الباقي ولا إلى الربح المادي، وإنما كانا يؤديانه زكاة عما وهبهما الله من ملكة وبصيرة ونظر. ولقد كانا يتعبدان به عبادة، ولو أنه خطر لأحدهما أن يستغل فنه استغلالاً مادياً لخلف الأموال الطائلة والصيت الرنان. . . ولكن الواحد منهما كان لا يعمل إلا إذا احتاج إلى القوت، فإذا عمل تفانى في عمله وجاء فيه بالمعجزات المحيرة. . وهو الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، والذي إذا سئل عن نفسه قال إنه (نجار دقي)!
- فأي شيء هو؟. . .
- إنه مهندس زخرفة ينفذ بيده ما يتصوره عقله من غير أن يستعين على ذلك برسم التصميم على الورق. . . وهذا شيء لا يستطيعه إنسان في الغرب وعلى الخصوص إذا تصدى للزخرفة العربية المجردة المعقدة المتجددة
عزيز أحمد فهمي
رسالة العلم
الكون يكشف عن نفسه
خفايا الضوء
للدكتور محمد محمود غالي
أينحصر الكون في ست وحدات أصلية يرد إليها كل ما فيه؟
عندما تطالع هذه السطور فانك تراها بفضل أحد هذه الوحدات
الدقيقة وهي كائنات نحاول أن نتعرف إليها
نشيد داراً للسكنى وتدخل مواد عديدة في تشييدها من أحجار البناء إلى الحديد، ومن رخام الدرج إلى ما يحيط سياجه من نحاس، ومن أخشاب النوافذ إلى ما يتوسطها من زجاج، ولا نذكر ما تحتويه الدار من العناصر الكثيرة والمركبات العديدة وأن في الزجاج وحده من العناصر المتعددة والمركبات المتباينة ما يجعلنا نفطن إلى العدد الكبير من المواد التي نستخدمها في إقامة البناء، بل إن مواد من نوع آخر، مواد عضوية تدخل أيضاً في تشييد الدار، وشد ما يختلف ما في حديقتها من أشجار وزهور عن سائر ما في البناء: هذا النبات له دور من المراهقة كدور الإنسان ومن الشباب كشبابه ومن الهرم كهرمه، وله أعمار تنتهي عندها الحياة، فيضع البستاني غيره من النبات ينصبه مكانه كما ينصب الابن نفسه مكان أبيه بعد أن يتوارى هذا في الزمن، ويترك الابن الدار بدوره لحفيد يستمتع بها ما بقيت أجزاؤها متماسكة تسمح بالحركة بينها وبالحياة في أنحائها، يقضي الحفيد فيها سنين طويلة وسط هذه الأجزاء من المادة بين المرح طوراً وظلمة الأيام تارة، بل إن مواد حية غير المعدنية والعضوية قد تدخل بين مكونات الدار تستمتع فيها كما يستمتع صاحبها وتقاسي فيها كما يقاسي ربها، فقد نشيد في الحديقة أحواضاً للسمك أو نقتني داخل الأقفاص أنواعاً من طيور الزينة، وما هذه وذاك إلا مجموعة من العناصر المعقدة تدخل هي أيضاً في مجموع الدار الفسيحة، ولا تختلف عن الأولى إلا بما لها من مزاج يشبه مزاجنا وآمال تقارب آمالنا
عديدة هذه العناصر ومتباينة هذه المركبات التي دخلت الدار بعمل المهندس وفعل البستاني، فنشأ عنها مكان صالح نثوي إليه بعد النصب ونقضي فيه ساعات من العمر بين لحظات مجدودة وفترات مكدودة؛ ولو أن امرأً قال إن الدار مكونة من عشرات العناصر ومئات المركبات لما كان في قوله انحراف عن الواقع، ولو أنه قال أيضاً إنها مكونة من ست وحدات أصلية في الكون وإن كل ما نراه فيها من عناصر عديدة ومركبات متباينة يتكون من هذه المكونات الستة فإنه قد لا يعدو الحقيقة، ولو أنه خطر ببال أحد أن من يسكن الدار من أحياء كأولادنا، ومن يؤمها من زائرين كأصدقائنا، وما يعيش بين جدرانها من أسماك وطيور يدخلون أيضاً في عداد المكونات الستة المتقدمة، فإن ثمة علماء عديدين يعتقدون اليوم بصحة ما خطر بباله، ولديهم من الأسباب العلمية ما يستطيعون بها محاولة إقناعه بأن ما ذهب إليه ليس مما يتطرق إليه الشك
ولا يدور بوهم أحد بعد الذي ذكرنا أن ما نعنيه بهذه المكونات الستة هي (عناصر) مثل الحديد والنحاس، فإننا بذلك نصل إلى تعداد العناصر جميعها التي تبلغ 92 عنصراً والتي تعثر على الكثير منها فيما استخدمناه في رفع البنيان؛ ولا يعتقدن كذلك أننا نعني بها بعض المركبات كالماء والحجارة فلا مشاحة أن ما يوجد من هذه المركبات في المنزل يبلغ المئات، إذ أن هذه المكونات الستة إنما هي وحدات كونية نستطيع أن نرد إليها كل ما يتعلق بهذه الدار.
هنالك أمر آخر أود أن يحظى بعناية القارئ، ذلك أن الوحدات الست التي تكون كل ما يتعلق بالدار، والتي من بينها وحدة يتسنى لنا بها رؤية الدار وما فيها، هي بذاتها الوحدات المكونة لمجموع الكون، فهي كافية اليوم ليرد العلماء كل ما عرفناه في الكون إليها
هذه المكونات الستة تعد معرفتها من السائل الثقافية التي يحسن معرفة شيء عنها، فهي اليوم موضع بحث أقطاب العلم، ولذلك نذكرها للقارئ في الجدول الآتي، فيعرف شيئا هاماً عن منشأ الدار التي يسكنها، بل الكون الذي يحيا فيه ويموت
المكونات أو الوحدات التي يتكون منها الكون في مجموعه بما فيه من مادة أو كهرباء أو إشعاع أو طاقة
الشحنة الكهربائية
مكونات كهربائية وسالبة
خفيفة
الإلكترون
-
ثقيلة
غير معروفة
مكونات كهربائية وموجبة
خفيفة
البوزيتون
+
ثقيلة
البروتون
+
مكونات مادية
خفيفة
النيترينو أو الأرجون
صفر
ثقيلة
النيترون
صفر
مكونات ضوئية
الفوتون
صفر
مكونات معقدة
الديبلون
الهيليوم (نواة الهيليوم)
+
+
إذا رمزنا لوحدة الشحنات الكهربائية بالرمز والقدر فان شحنة الإلكترون أي الوحدة الكهربائية السالبة تكون (- وشحنة البوزيتون أي الوحدة الموجبة تكون (+ وفي هذه الحالة تكون الشحنة للوحدات الأخرى كما هي مبينة في الجدول
هذه المكونات باتت الأصل في كل شيء، فهي تكون الهواء الذي نستنشقه كما تكون الرئة التي نستنشق بها هذا الهواء، وهي التي تتكون منها السمكة التي تسبح في حوض الحديقة كما تتكون منها النجوم النائية والسدم البعيدة، وما المنزل والزائر والطير، بل وما يعلوها من كواكب وعوالم إلا أمور ترجع أصولها إلى هذه المكونات الستة التي يشاد منها الكون
نعود فنتأمل الجدول السابق الذي يلخص لنا موقف العلماء من الكون، ونود أن يعتبر القارئ وهو يطالع هذه المسميات العلمية التي قد تكون جديدة لديه أنها من المسائل التي يلزم معرفتها، وكيف لا يجب علينا أن نعرف ما يُكوِّن منازلنا والأرض التي تحملنا والعوالم التي تعلونا والكون الذي يحتوينا بل ما يكوَّن أجسامنا، ومهما يكن من أمر الكون، فإننا لا نستطيع أن نستوعب فيه الأشياء إلا على الصور التي عهدناها فيه، والأوضاع التي ألفناها عنه. ثمة عدد ضئيل من الأوضاع نستوعبها في الكون طوراً ونستوعب الكون فيها تارة، وهذه الصور أو الأوضاع هي المادة والكهرباء والإشعاع وكذلك الطاقة، وقد ذكرنا في الجدول هذه الصور، ورجعنا بالكون إلى وحدات كهربائية ومادية وضوئية، كما ذكرنا في ذيل الجدول مكونات أخرى معقدة
أما المكونات الكهربائية، فهي سالبة كالإلكترون، وموجبة كالبوتيزون، وقد حدثنا القارئ عنها في سلسلة من المقالات كذلك البروتون الذي يكون نواة الهيدروجين. أما المكونات المادية، فهي وحدات أخرى لا تحمل الكهرباء، وهما وحدتان النيترينو: أو الأرجون والنيترون وقد تناول بالبحث هذه الوحدة الأخيرة حديثاً سنة 1933 أيرين كيري وقرينها جوليو من أساتذة السوربون. ولا يفت القارئ أن الكهارب أو الإلكترونات موجودة في
المادة مع النيوترونات. وكما أن الكهرباء في تكوينها ترجع إلى هذه الوحدات الأولى التي يسمونها: إلكترونات أو بوزيتونات، كذلك الضوء يرجع في تكوينه إلى وحدات أصلية يسمونها فوتونات جمع فوتون وباعتبار أن الوحدة الثقيلة للكهرباء السالبة غير معروفة، وباعتبار أن الوحدات المعقدة كالديبلون والهيليون قد ترد في تكوينها إلى غيرها من الوحدات، فإنه يغلب على ظني أن الكون يمكن أن نرده بما فيه من مادة أو إشعاع أو كهرباء أو طاقة إلى وحدات ست هي: الإلكترون والبوزيتون والبروتون والنيترينو والنيترون والفوتون.
وقد يصل العلماء إلى الكشف عن وحدات جديدة، ولكن يغلب على الظن أن عدد الوحدات سيظل قليلاً وسيظل اللاعبون على مسرح الكون بهذا القدر الضئيل.
ندع الآن المسميات لنتعرف على أحدها وهو الفوتون أو الذرة الضوئية، وهو الكائن العجيب الذي يعاوننا في مطالعة هذه السطور
عندما نرى في الليل بريق النجوم اللامعات، أو يخطف العين ضوء إحدى المنارات في الليل البهيم، أو تقع العين ذاتها على صورتنا في المرآة، أو نحصل بواسطة الجهاز الفوتغرافي على صورة شمسية، أو نرى على الشاشة حوادث العالم، أو نرى بالمرناه (التليفزيون) إحدى هذه الحوادث في حينها، فإننا قد استخدمنا الذرة الضوئية أو الفوتون كأداة كبرى لنستمتع بهذه الأشياء
وليس في عزمي التعرض في هذه المقالات للتركيب الطبيعي للفوتون، وأذكر على إنه لويس دي بروي مكون من نصفي فوتون، وإنما أكتفي بأن ألفت النظر إلى ثلاثة أمور: الأول أنه أحد المكونات الثلاثة في الكون غير المكهربة إذ لا يوجد في كل ما نعرفه من وحدات كونية غير الفوتون والنيترينو والنيترون كوحدات لا تمت للكهرباء بشيء. والثاني أنه المكون الوحيد الذي لا يوجد إلا في حالة حركة بالنسبة للمادة. ويسرني أن أذكر أن للأستاذ الدكتور علي مصطفى مشرفة بك أبحاثاً قيمة في علاقة المادة بالإشعاع أود أن أعود لذكرها فيما بعد. والثالث أنه كائن سريع جداً بالنسبة للمادة وتبلغ سرعته أي سرعة الضوء (299800) كيلو متر في الثانية
ولقد توصل العلماء بوسائل جديرة بالإعجاب إلى قياس هذه السرعة العظيمة والى
الوصول إلى معرفتها معرفة دقيقة. وللقارئ أن يتصور عظم هذه السرعة إذا ما عرف أن الضوء يقطع المسافة من مصر للإسكندرية في أقل من واحد على ألف من الثانية
وقبل أن نستمع للمذياع (الراديو) بعشرات السنين، استطاع علماء عديدون أن يقيسوا سرعة الفوتون، هذا الكائن العجيب، وكان لقياس هذه السرعة ولما عرفناه عنها أثر كبير في معارفنا الحديثة، وقد تعدى هذا الأثر كل شيء، حتى أنه تدخل تدخلاً فعليا في معرفتنا قوانين الكون
ولعل القارئ الذي نفرض ونحن نتوجه إليه بهذه السطور أنه من غير المشتغلين بالعلم أو المختصين في العلوم الطبيعية - قد سمع بالدور الهام والمرحلة الكبرى التي تمت في العلوم من معرفة سرعة الضوء في اتجاه ومعرفة سرعته في اتجاه مغاير للاتجاه الأول، وما كان لذلك من الأثر في تدعيم نظريات (أينشتاين) الحديثة في النسبية. ولعل القارئ يستنتج الآن نوع الاتجاه الذي أحاول أن أوجهه إليه فيما سأعمد إليه من مقالات قادمة، ولعلنا في النهاية قد وفقنا بعض الشيء لكي نصف له شيئاً من الدار التي يسكنها والكون الذي يعيش فيه.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة
القصص
نهاية الطريق
للكاتب المعروف دي فيرستاكبول
للأستاذ محمد بدر الدين
في سنة 1913 كنت أجول في أنحاء إيطاليا، أطوف بمواطن الروعة والجمال فيها. . .
وكنت أستقبل فصل الخريف، حين خلفت روما ورائي، وسرت نحو جبال الأبنين، دون أن أحمل من المتاع سوى حقيبة صغيرة، ودون أن أترك عنواني لأحد، كيلا أدع الفرصة لشخص يراسلني، فمن الخير أن تطوف وحيداً، إذا أردت أن تشاهد بلداً من البلدان أو أن تدرسه خير دراسة
انطلقت في طريقي وحيداً لا ترافقني غير مزارع الكروم والحقول المخضوضرة النضرة، والسماء الزرقاء، و. . . فلاحي إيطاليا ذوي البشرة السمراء، لوحتها أشعة الشمس الحامية. فاستطعت أن أرى إيطاليا تتكشف أمامي على حقيقتها، وإذا بها رغم الطرق الحديدية التي تخترق أرجاءها، ورغم مخترعات ماركوني المنبثة في بقاعها، لا تزال نفس إيطاليا القديمة، التي كانت في عهد آل بورجيا
وفي ذات أصيل، أفضت بي الطريق إلى فندق قام في معزل إلى اليمين، لا يلوح إلى جواره منزل أو بناء، وكأنما أقيم في مكانه هذا ليرحب بالقادمين الذين أنهكهم المسير، وليغريهم على التماس الراحة، وعلى استعادة النشاط في كأس مترعة من الشراب. . .
أغراني الفندق المنفرد في عزلته، والذي بدت لي عند بابه حروف زرقاء باهتة ألهبها شواظ الشمس، تعلن عن اسمه. . . (أوستريا ديل سولي) فتقدمت، فإذا بكهل يجلس إلى يمين المدخل، على مقعد طويل، يمتع النفس بشمس الأصيل. وقد استلقت إلى جواره قطة سوداء. وما لبثت أن عرفت فيه صاحب النزل الذي قدم نفسه إليّ باسم (الفريدو باولي). . . وسرعان ما كنا نجلس في غمرة الأشعة الدافئة، نتجاذب أطراف الحديث، ونحن نجرع خلاله كؤوس (الكيانتي) الذي قدمه الرجل إكراماً وترحيباً. . .
تكلمنا عن إيطاليا، وعن محصول الكروم، وعن الضرائب، وعن ذكرى غاريبلدي. . .
الذكرى التي عادت بالرجل إلى سني عمره الباكرة. وما لبثت أن عرفت أن المدينة التي كنت أسعى إليها، تبعد عن النزل بما يعادل ستة أميال. فاقترح الرجل أن انزل عنده تلك الليلة، وراح يغريني بما سوف أجده في حجراته من نظام وراحة ونظافة، قائلاً:
- إنه ليس بالفندق العادي. . . فنحن هنا لا نرتقب من الضيفان غير الرحالة الذين يدفعهم النصب إلى التماس كأس من الشراب. ولكن حديثك يطيب لي، حتى لقد ملت إليك، فأنت على الرحب والسعة
كان ينبغي لرحالة مثلي يجوب البلاد على قدميه حاملاً معه مالاً، أن يخشى من وراء دعوة كهذه شراً، أو أن يتوقع غيلة من أجل هذا المال الذي يحمله. بيد أنني لم أك بطبيعتي ممن يستسلمون للهواجس والريب، كما أنني لم أر في باولي العجوز، الشخص الذي يستطيع الإقدام على سرقة أو قتل. . .
ومع ذلك فقد سلبني نوم ليلة. . . وقتل راحة كنت أنشدها فما أن قبلت دعوته حتى اضطجع في مجلسه ونادى صائحاً:
- جيوفانا!
فأجابه صوت نسائي من داخل الدار، ظهرت على أثره امرأة رزح ظهرها تحت عبء السنين. فأمرها - والشمس ترسل شعاعها الأخير - أن تعد العشاء، وأن تهيئ الحجرة كما تملي واجبات الضيافة، فتلقت الأوامر صامتة، ثم كرت عائدة إلى الداخل، بينما تحولنا إلى حديثنا عن غاريبلدي نتابعه
فلما فرغنا من تناول العشاء، عدنا إلى مقعدنا خارج الدار ثانية، وراح الكهل يقص عليَّ قصته. . . قصة شبابه التي لم أسمع في حياتي مثلها، ولم أصغ لقصة من قبل أو. . . بعد، إصغائي لها فقد مضى يتكلم كما لو كان يفضي بقصة سواه، وقد لاح كما لو كان الزمن قد حوله إلى كائن يغاير كل مظهر إنساني، تتخلل حديثه حيوية المتفنن الذي يتفانى في عشق فنه، وحرارة الخطيب يحاول أن يأسر بفصاحته وبلاغته ألباب المستمعين. . .
قال: ولدت في بيروجيا، وهي غيرها اليوم، وكان والدي تاجر عاديات، يقوم متجره على ناحية الطريق التي تصل ميدان البابا برحبة واسعة تتراءى خلفها تلال (أومبريان)
ولقد يخيل إليك - لأول وهلة - أن الموقع كان رديئاً. بيد أن والدي لم يكن بالرجل الذي
ينصب شراكه في مكان غير ملائم، إذ كان يعرف كيف يجتذب العملاء ويغري الزائرين على الابتياع منه.
وكانت أسرته تتكون من ابنين. . . أنا وأرتورو، وقد كنا توأمين متشابهين كل الشبه. غير أن أرتورو كان ذا روح مغامرة، حببت إليه البحر، فما لبث أن غدا بحاراً، بينما مارست أنا - وكنت أكبره بخمس عشرة دقيقة - تجارة العاديات، فصرت مساعداً لأبي
كانت المهنة - رغم أنها تتطلب دراية تامة بالأشياء وبنفسيات الأشخاص - تعتمد كل الاعتماد على الخبرة التامة بتقدير ثمن السلعة والتأكد من أنها حقيقية غير زائفة، وقد كانت لوالدي هذه الخبرة بالسليقة، إذ أنحدر من سلالة تعشقت هذا الفن، هواية أو احترافا. . . كما كانت لي نفس الخبرة إلى حد ما، فقد كانت إيطاليا القديمة تتمشى في دماء والدي، كما كانت تسري في عروقي بكل ما كان فيها، وبكل ما كانت تتميز به، و. . . بكل ما عرف عنها من عواطف ومن حقد وكراهية. . .
وسارت الحياة سهلة لينة، حتى بلغت العشرين ربيعاً، وإذ ذاك جاء يوم تغيرت فيه حياتي
ففي ذات يوم، قابلت في طريق (دي بونتمبن) فتاة كثيراً ما صادفتها من قبل، وطالما تلاقيت وإياها في بعض المناسبات، إذ كانت تصلها بي قرابة بعيدة. وكانت تسكن في ذلك الميدان الذي يطلق عليه الآن اسم (فيكتور عمانويل). . . ثم كانت تنحدر من أسرة نشأت في جنوا. فأضفى عليها أصلها هذا، جمالاً أشقر رائعاً، تبدى لي في ذلك اليوم في أبهى روعته. . . فقد تمثلت لي يومذاك، فتنة الشباب، وجمال الربيع، في (جيوفانا باتسيتا)، ولاحت لي، مع أنني كنت أعرفها - كما ذكرت - وكأنني لم أرها قبل ذاك اليوم. . .
وبالرغم من أنني كنت أحس جمالها. . . إلا أنه لم يبعث في نفسي يوماً أكثر من إعجاب وقتي، لا يلبث أن يتلاشى. . . أما في ذلك اليوم، فقد لاح لي أكثر فتنة وسحراً. . . فما هي إلا نظرة من عينيها حتى وقعت في شراكها. . .
وحتى هذه اللحظة، لم يبد لي الأمر جدياً يثير اهتمامي، فلو أنني سمعت إذ ذاك نبأ موتها، لما نال مني كثيراً. . .!
لم أقل لها إذ ذاك شيئاً، ولم أنبس ببنت شفة، بل مضيت في سبيلي، كشخص عثر بغتةً على كنز في طريقه، فأسرع يخبئه في ثنايا ردائه، وانطلق بجد في خطاه نحو بيته. . .
حتى إذا كان اليوم التالي، قابلتها مرة أخرى. . . وفي هذه المرة أيضاً، أفضت إلي عيناها بما لم أجرؤ أن أصدقه. .
كنت حديث عهد بالهوى، فلم أدر ما أفعل. . . ولو أنني خلوت بها في مكان ناء لكان في وسعي أن أقدم على تصرف سريع، دون أن أتفوه بحرف واحد. أما وقد كنت في بيروجيا فلم يك أمامي غير أن أزورها حيث تسكن، أو أن أبوح لها بحبي على قارعة الطريق، في جرأة أستمدها من أناة أتذرع بها. . .! وما كنت لأجد في نفسي هذه الجرأة، فما عتمت أن تحولت تاركا الأمور تجري في أعنتها. . . ولكنها لم تلبث أن غادرت المدينة!. . .
لم تك غيبتها هذه إلا نزهة قصيرة ما كانت لتستغرق الشهر أبداً، بيد أنني كدت أقضي حزناً وأسى، إذ أذكى البعاد أوار الحب في قلبي، وأصبحت أرى في البقعة التي كنت أصادفها عندها، قبلة أحج إليها. كما كنت أقف في الأمسيات أمام دارها، وقد غمرني شعاع القمر، والوجد يلهب أحشائي، والأسى يمزقني بأنيابه الحادة القاسية. . . حقاً، إن الحب جنون!. . .
لست أود أن أثقل عليك، ولكنني أحببت أن أريك كيف شاء القدر أن يسعى للقضاء علي. . .
وأمسك الرجل برهة ليفرغ في جوفه بقية كأسه، بينما انبعث صوت العجوز من داخل البيت:
- الفريدو. . . إننا الآن في ساعة متأخرة
فضحك سائلاً إياها أن تدعه وما يشاء، ثم عاد يتابع حديثه:
- برح بي الهوى حتى لم يبق مني غير هيكل بال لرجل ضعيف. فلم أعد أهتم بالعمل، أو آبه للفن حتى لطالما اشتجرت مع والدي إذ أضعت عليه كثيراً من الصفقات المربحة
ولو أن الأمور سارت على هذا المنوال، لغادرت بيروجيا إذ ذاك مطرحا عملي، هاجراً موطني. غير أن الأقدار أشفقت علي، فساقت إلي الشفاء يوماً. فقد عادت جيوفانا إلى المدينة، وقابلتها في الطريق، فلم أتردد في البوح لها بما يعتلج بين جوانحي من غرام. فأطرقت تصغي إلي برهة، ثم تحولت فحدقت في عيني، وابتسمت
عند ذاك، أيقنت أنها أصبحت لي، فصرت رجلاً آخر. . .
كانت ثروتي وفيرة لا بأس بها، وكانت أخلاقي حميدة لا عيب فيها، فلم أجد معارضة من والدي جيوفانا عندما تقدمت لطلب يدها. وصار لنا أن نلتقي كل مساء، فننعم بجولة بديعة خارج المدينة، عند الكروم الغناء. . . ملتقى العاشقين. . .
وقررنا أن يكون الزواج في الصيف. . .
ثم حان عيد (الكرنفال)
كان (الكرنفال) في تلك الأيام الخوالي أكثر مرحاً وبهجة منه الآن. فكان الناس يطرحون عنهم شؤونهم، وينصرفون عن كل شيء، ليندمجوا في ملاهيه وأفراحه
وفي آخر ليالي (الكرنفال) كنت على موعد مع جيوفانا عند بقعة قريبة من (دومو)، وقد حلا لها أن تتنكر في رداء غانية أسبانية، بينما اخترت أنا للباسي حلة مزركشة وقناعاً قرمزياً. ولما كانت صحة والدي معتلة فقد لزم البيت طيلة اليوم بعد أن أخبرته بالأماكن التي أعتزم ارتيادها، وبالمواقيت التي سأكون فيها هناك، حتى يكون في وسعه الاتصال بي، إذا كانت ثمة حاجة لهذا الاتصال
كان موعدي مع جيوفانا في الساعة السادسة إلا عشر دقائق عند (فونتي مادجيوري) على مقربة من (دومو). وقد يخيل إليك أنني كنت هناك قبل الموعد شأن كل عاشق مستهيم. . . بيد أنني في الواقع وصلت إلى مكان الملتقى متأخراً. إذ كان بساعة صديقي مانفريدي الذي قضيت عنده فترة الظهيرة، خلل جعلها تؤخر في الوقت. بينما تعمدت أن أترك ساعتي في البيت خشية أن يسلبنيها اللصوص الذين كانوا يندسون وسط المهرجانات في مثل هذا العيد. . . فلما وصلت إلى فونتي مادجيوري، كانت النواقيس تدق، فلم أكد أصدق سمعي، ولا بصري، عندما ترامت الدقات إلى أذني، ولم أجد جيوفانا. . .
ثم حدست ما وقع. . . فلابد أنها حضرت في الموعد، حتى إذا لم تجدني انصرفت عائدة. ولو أنني فكرت في هذا، لأدركت مدى استحالة بقاء فتاة وحيدة في الانتظار عند فونتي مادجيوري في ليلة العيد، ولأنحيت باللوم على نفسي بدلاً من أن أسمح للغضب أن يطغى فيجتاح قلبي. . .
كنت أعلم أن جيوفانا رغم ليونتها ورقتها، ذات طباع حادة قاسية. فظللت واقفاً أتلفت حولي وهذه الفكرة توحي إلي بما يذكي نيران الغضب ويزيد شعلتها لهيباً. بينما كان القوم
يمرون بي في طريقهم إلى الساحة لمشاهدة موكب العيد، وهم في أحاديثهم وضحكهم عني لاهون. . . ثم تحولت إلى حانة، فاتخذت لنفسي فيها مجلساً، وطلبت شراباً قوي التأثير، رحت أحتسيه وأنا غافل عن رجل أسمر، كان يجلس إلى منضدة قريبة. . .
لم أسرف في الشراب قط مثلما أسرفت في تلك الليلة. فقد لاح لي الكحول ساحراً بدد غضبي وأبدل به شيئاً من اليأس، الذي لم يلبث أن تحول إلى شعور من عدم المبالاة. وسرعان ما تناسيت جيوفانا، واندمجت في الحديث مع الرجل الأسمر، الذي عرفني وناداني باسمي، يدعوني إلى مجالسته
كان الرجل أحد تجار التحف في بيزا، وقد رأيته في متجر والدي يومذاك، إذ ذهب - رغم العيد - يسعى وراء صفقة. بيد أنه لم يحظ بفائدة لمرض والدي. وكانت لديه تحف رائعة ثمينة يبتغي بيعها بثمن بخس، إذ حصل عليها في سرقة ارتكبها فوجد أن من الخطر استبقاءها في حوزته في بيزا. وقد أراني منها بوديني - إذ كان هذا اسمه - صليباً من الذهب المرصع ببعض الأحجار الكريمة، وقرطاً، وخنجراً من الخناجر الفلورنتينية ذا مقبض فضي. فعرضت عليه أن أبتاعها منه، غير أنني لم أك أحمل الثمن الذي ابتغاه. فلم يأبه لذلك، إذ كانت معاملاته معنا على ما يرام لذلك تناولت منه هذه الأشياء، فوضعت الصليب في صدر ردائي، ودسست الخنجر - وقد غاب في قرابه - في جيب خفي. . .
وما أن فارقني بوديني، حتى عدت ثانية، نهبة للهواجس وفريسة للهموم. ولما بارحت الحانة، كانت الأضواء تتلألأ مؤتلقة في المدينة وقد تصاعد ضجيج الجماهير المندمجة في مهرجانات (الكرنفال) كهدير الأمواج الصاخبة. فوقفت برهة موزع الخاطر متحيراً، ثم تحولت نحو ساحة الاحتفال، وأنا أسائل نفسي. . . أما كان يحسن بي أن أيمم شطر بيت جيوفانا؟. . .
لاحت لي المدينة كمجنونة اكتسحتها نشوة الفرح التي يبعثها العيد، وقد تراءت كشعلة من النيران، وبدا الناس وهم صرعى نوبة من الخبل المرح، يحيطون بالساحة يشاهدون (مصارعة الثيران) فاندمجت بينهم، وقد تناسيت جيوفانا. حتى إذا انتهى الصراع، وتشتت القوم متفرقين وجدتها أمامي!
كانت في صحبة رجل. . . وقد أولياني ظهريهما فلم يرياني، بينما أحاط الرجل خصرها
بذراعه، ومضى يشق لكليهما طريقاً وهما يضحكان في حبور. فدوت ضحكاتهما في مسمعي كقصف الرعد. إذ كان يخيل لي أنني الرجل الوحيد في بيروجيا، الذي اصطفته جيوفانا خليلاً، وتعرفت إليه. . .
وقفز الخنجر من جيبي إلى يدي، فكدت أغمده في ظهر رفيقها لو لم تندفع كوكبة من الخيل إلى الساحة تتسابق، فحالت بيني وبينهما. فلما مضت لم يك ثمة أثر لجيوفانا ورجلها!. . .
ولك أن تتصور موقفي، وقد أعمتني ثورة الغضب، بينما أخذ الخنجر يخز راحة يدي، وضحكات القوم تستثيرني وتوهمني بأنهم جميعاً يعرفون قصتي ويسخرون مني. بيد أن إرادتي كانت قوية فلم ألبث أن أعدت الخنجر إلى جيبي وأنا أحمل النفس على الصبر وأعللها بالأماني. . . واندفعت مع القوم
وما لبثت أن ظفرت بثمرة صبري، إذ عثرت على جيوفانا ورفيقها في طريق (بيكولو امبرتو)، فرحت أقترب منهما حتى بات في وسعي أن أحصي الشعيرات خلف رأسها، أو أن أحل الرباط الذي يثبت القناع على وجه صاحبها. ولكن يدي لم تعد تتحسس الخنجر هذه المرة؛ فقد وجدتني في أهدأ الحالات، أتحين اللحظة الملائمة لإنفاذ انتقامي دون أن أعرض نفسي لأتفه الأخطار تبعتهما في طريق (بيكولو امبرتو) وهما يسيران في عزلة عن القوم لاهين، وقد غابا في غمرة سعيدة أنستهما ما حولهما، حتى أنهما لم يلتفتا نحوي مرة واحدة. . .
ثم. . . لحظة واحدة يا سيدي. . .
وهم باولي من مجلسه فحمل زجاجة الشراب الفارغة، وغاب في المنزل. . . وسمعته يسأل جيوفانا عن مفتاح المخزن، فأجابته بصوت نم عن غضبها لإقلاق راحتها، وكأنما كانت متذمرة لبقائه ساهراً حتى تلك الساعة المتأخرة، في جو الليل الرطب البارد، يتناول الشراب مع شخص أجنبي لم يسبق لهما التعرف إليه. . .
ثم عاد يحمل زجاجة جديدة من الشراب، فاتخذ مجلسه ثانية وتابع حديثه وكأنما لم يقطعه على نفسه. . .
اتبعتهما في الطريق، حتى وصلنا إلى أخرى تفضي إلى بيتها. وقبيل باب الدار، افترقا. . .
لم أصدق عيني وأنا منزو في مخبأ في الطريق. فقد كانت بيروجيا بأسرها - لا الحي وحده - تعرف أنني خطيبها وأننا سنصبح عما قليل زوجين. ومع ذلك، فهاأنذا أراها قبيل الزواج ببضعة أشهر تساير شخصاً غريباً على أثر إهمال بسيط صدر مني عفواً ودون إدراك مني. . . شخصاً التقطته من بين الأفواج المتدفقة في ساحة (الكرنفال)!
وولجت هي بيتها، بينما عاد هو في الطريق يصفر فرحاً جزلان، فما أن ابتعد عني ثلاثين خطوة، حتى تسللت في أثره، وقد قررت - بعد أن رأيت ما بينه وبينها من علاقة - أن أقدم له الجزاء الذي يستحق. . . كان يجب أن يموت، وكان ينبغي أن تموت هي أيضاً، ولكنه الأجدر بالأسبقية في تلقي الجزاء!
كان من السهل أن أغتاله في تلك الطريق ذات الأضواء الضئيلة، التي لا تكاد تقوى على مكافحة الظلام الطاغي. . . ولكن. . . ألا يجوز أن يقبضوا عليّ، فتفلت هي من انتقامي؟. . .
وصمت العجوز مرة أخرى، لينزع عن الزجاجة سدادها، فيملأ الكأسين، بينما كان القمر قد اعتلى كبد السماء، وازداد ضوؤه الفضي تألقاً، حتى تراءى لنا المنظر المحيط بنا، وكأنه يبدو في وضح النهار. حتى إذا أفرغ كأسه في جوفه، عاد يقول متابعاً قصته:
(لعلك تقدر موقفي يا سيدي، فقد كان عليّ أن أحرص على حياتي، حرصي على كنز ثمين، حتى أتم انتقامي كاملاً، وهذا لا يتأتى إلا إذا فرغت من حساب جيوفانا على ما قدمت. . .
ومع ذلك، ظللت أتعقب الرجل!. . .
والظاهر إنه كان قد أختطف ألعوبة (شخشيخة) أحد المهرجين، أثناء المهرجان، فراح طيلة الطريق يهزها يمنة ويسرة ويضرب بها ظهور الناس خلال الزحام، وهو يضحك ساخراً لاهياً في غفلة عن الذي يتعقب خطاه، معداً خنجره للقضاء على حياته
كان يلوح كمن يبتغي اجتذاب أنظار القوم. فكان يسخر من كل فتاة أو شاب يعترض طريقه، ويهزأ بكل عجوز أو كهل يصادفه، مرسلاً قهقهته عالية في الجو. وكأنما هو لم يكتف بما نعم به من سعادة في رفقة جيوفانا، فما لبث أن أوقع في أحبولته فتاة أخرى، أحاطها بذراعه ثم دفعها معه، وقد تبعتها صويحباتها وهو غير مكترث بهن. ولعله كان
يحمل نقوداً وفيرة إذ لجأ إلى مشرب راح يبعثرها فيه بغير حساب. . .
ما كنت أرى وجهه، فقد كان ظهره نحوي. بيد أنني كنت أرى إنه قد وفق في أن يغدو الروح الحية التي ظهرت في المشرب فطغت على كل من فيه، ثم. . . تفرق الجميع كل إلى وجهته، فعاد وحيداً يسلك طريق (أندريا دوريا)
وهنا. . . وجدت الفرصة الملائمة!. . .
كانت الطريق مقفرة، ولم يك ثمة من يرانا، وحتى لو وجد هذا فقد كان الظلام الضارب فيما بين المصابيح، لا يدع لأحد الفرصة كي يتأملنا جيداً؛ فلم ألبث أن أمسكت بكتفه، ورحت أنظر إلى وجهه الذي كان شاحباً، تعلوه كآبة تبعث في النفس الرغبة في تهشيمه. . . كنت مجنوناً، وقد أخذت الوقائع التي حدثت في ذلك اليوم تتتابع متزاحمة في رأسي. . . كان هناك حبي لجيوفانا، وغيرتي، وحقدي، ثم. . . مفعول الكحول القوي. . . كل هذا كان يدفعني نحو الجنون، بينما أخذ الشاب يقاومني في نضال، وأحسست بسكين تصيب كتفي الأيسر، ثم هويت إلى الأرض بينما كنت أغمد خنجري في قلبه بكل ما واتاني به الحقد والغيرة من قوة!. . .
سقط الرجل عند قدمي جثة هامدة شاحبة، وما يزال الخنجر مدفوناً في صدره. ولكنني لم آبه لذلك، ولم أسع إلى الفرار. . . ولعل هذا أغرب ما حدث. . . فقد كنت أنوي قتل جيوفانا، ثم أنتحر، ولذا لم أجد ما يبعث على الفرار!
لم أك أدري لكل هذا سبباً. غير أنني أدركت فيما بعد، أن عقل الإنسان لا يطيعه في كل الأحوال، وإنما هو - في المآزق الحرجة والمآسي المروعة - يتمرد عليه ليعمل بإملائه ووحيه. . .
جررت الجثة إلى مدخل المباني القائمة في الطريق فأسندت ظهرها إلى الباب حتى بدا صاحبها تحت ضوء المصباح الغازي الصغير المعلق فوق المدخل، وكأنه ثمل غلبه النعاس. ثم انطلقت في طريقي بعد أن تحققت من المكان الذي تركت فيه جثة غريمي
لم يعد أمامي بعد هذا إلا أن أحاسب جيوفانا، لذلك يممت شطر بيتها، ودققت الباب ثم ولجت. . .
كانت أسرتها ما تزال غائبة في (الكرنفال)، وكانت هي لم تأو بعد إلى فراشها، فما لبثت
أن هبطت للقائي. . .
وكنت أقف في الحجرة التي اقتدت إليها عند حضوري، متكأً إلى منضدة في قبالة الباب، عندما قدمت. فما رأتني حتى حدقت في وجهي دهشة وتساءلت:
- لماذا عدت ثانية؟
فأطلقت ضحكة عالية، ولم أنبس ببنت شفة. وإذ ذاك تراجعت وقد لاح على محياها الفزع؛ غير أنني لم أفكر في أن خوفها هذا قد يكون منبعثاً عن غرابة مظهري وعن إخلاصها لي. وإنما خلت أنها فطنت إلى أنني كشفت خيانتها، فكان هذا مصدر جزعها، لذلك صحت بها:
- ما اسمه؟
- اسم من؟
- من!؟ الرجل الذي أوصلك إلى باب هذا المنزل منذ ساعة
- إنني لم ألتق بسواك هذا المساء. . .
لاح لي أنها كانت تنطق عن حقيقة وصدق. فبدأت أفهم الأمر. . . لابد أن ثمة شخصاً أتخذ مظهري وتقدم إليها منتحلاً شخصيتي. فلما أفضيت إليها بما ساورني ضحكت قائلة:
- لقد كنت أنت الذي رافقني، وقد وضعت على وجهك قناعاً زائفاً. . . ثم كان موعدنا وملتقانا عند فونتي مارجيوري، وهذا ما لا يعرفه سوانا. . .
فصحت:
- يا لله!. . . ولكنني لم أقابلك إذ تأخرت عن موعدنا. . .
خيل إليّ أنها ظنتني مجنوناً أو كاذباً. . . وتراءى لي الأمر كحلم، فظللت صامتاً يداخلني الشك في صحة قواي العقلية؛ بل أيقنت أنني مجنون، فرفعت القناع القرمزي عن وجهي وأطرقت إلى الأرض. ثم. . . تذكرت الرجل الذي خلفته مستنداً إلى الباب في تلك الطريق القفرة بعد أن سلبته الحياة. وإذ ذاك خيل إليّ أن ثمة قوى خفية تسيطر عليّ وتدفعني إلى أن أغادر البيت. . البيت الذي دخلته لأقضي على جيوفانا، فخلفته وأنا نصف مجنون، تسوقني قوى خفية - رغم إرادتي - إلى حيث لا أدري. . .
وجدتني أخيراً عند باب بيتي. . . وكان المنزل مظلماً عندما ولجته، فأغلقت الباب خلفي وتقدمت. وإذ ذاك سمعت والدي يصيح متسائلاً عن القادم، إذ كان ملازماً حجرته لمرضه.
فلما وصلت إليه، وجدته جالساً في الفراش، متدثراً بالأغطية، وعلى ركبتيه كتاب مفتوح، والى جانبه المصباح. فما أن رآني حتى بادرني:
- آه، أهذا أنت؟. . . وأين أرتورو؟. . .
والآن. . . لعلك تذكر أنني أخبرتك في بداية القصة، أنه قد كان لي أخ أحب البحر فعمل كملاح. وأنه كان يشبهني كل الشبه، إذ كنا توأمين
صحت بدوري أسأل والدي:
- ماذا تعني؟. . . إن أرتورو في البحر. . .
بيد أنني لم أتم كلماتي حتى خالجني شعور رهيب، كاد قلبي أن يقف له عن الوجيب، بينما سمعت والدي يقول:
- لقد عاد أرتورو اليوم، فانطلق يبحث عنك، بعد أن أخبرته أن في وسعه أن يعثر عليك عند فونتي مادجيوري في الساعة السادسة، إذ أخبرتني أنك ستلقى جيوفانا. . .
وإذ ذاك، شعرت بالأرض تميد بي، فتهالكت على مقعد بجوار فراش أبي، ومضيت أقول دون وعي:
- لقد تأخرت عن الموعد، وسبقني أرتورو إلى هناك، فظنته جيوفانا إياي، وتقدمت إليه، ولما كان يعرف أنها خطيبتي فقد شاء - حباً في المزاح - أن يدعها على اعتقادها، وبعد أن طاف برهة في رفقتها، أوصلها حتى باب دارها ثم ودعها وهو ما يزال منتحلاً شخصيتي. اتخذ طريقه عائداً، يساوره الأمل في أن يلقاني فيضحك معي للفصل الذي أتقن تمثيله. بيد أنه لم يك يدرك أنني أتعقبه طيلة ذلك الوقت، ظاناً أنه شخص غريب سلبني خطيبتي، وأوقد في أعماقي نيران الغيرة
فانتفض والدي بغتة في فراشه، وكأنما أصابته رصاصة، وصاح:
- ماذا تقول؟. . . ما الذي تعنيه؟. . . أين أرتورو؟ فأجبته: لقد مات غيلة بخنجري الذي لا يزال في صدره. . .
فهت بهذه الكلمات وأنا هادئ كل الهدوء، كما لو كنت أنقلها عن شخص آخر كنت لا أستطيع أن أتصور ما فعلت، وأن أعتقد حقاً أنني ارتكبت تلك الجريمة!. . .
أجل يا سيدي، كان هذا عين ما حدث.
وأطرق الرجل برهة، وكأنما غلبه الأسى لتلك الذكرى، ثم ما لبث أن عاد يقول:
- غير أنهم لم يعاقبوني، إذ أخذتهم بي الشفقة عندما رويت لهم قصتي، كما أرويها لك الآن. . .
وما لبثت بعد ذلك أن تزوجت جيوفانا، سافرنا إلى بيزا معاً فاستقر بنا المقام هناك. . .
كان هذا منذ سنوات، وقد مضينا عقب ذلك في الحياة، دون أن نوفق إلى جمع ثروة أو عقار، اللهم إلا هذا الفندق الذي امتلكناه أخيراً. . .
ومع ذلك فإننا في نهاية المرحلة. . . فماذا يهمنا؟. . .
وفرغنا من الشراب، فقادني إلى الغرفة التي أعدت لنومي. وفيما كنت مستلقياً في فراشي، يقظاً أتأمل شعاع القمر، وقد تساقط على جدار حجرتي، وأنصت إلى حفيف أشجار الزيتون، يداعب أغصانها نسيم الهزيع الأخير سمعت جيوفانا تقول ساخطة
- هل أويت إلى فراشك أخيراً؟. . . جميل حقاً، أن تدعني يقظة حتى الآن في انتظارك!!. . .
محمد بدر الدين
البريد الأدبي
رجعاق
1 -
قرأت كلمة العالم الثقة المتواضع (أزهري (طنطا)) في العدد الـ347. وفيها نبه الكتاب والرواة إلى أن أفلاطون هو الذي قال: (لا تقصروا (تقسروا) أولادكم على آدابكم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم). ويحلو لي أن أعود إلى مناقلة ذلك العالم ومثاقفته، فأخبره بأن هذا القول ورد منسوباً إلى أفلاطون أيضاً، على قلم أسامة بن منقذ في (لباب الآداب) - مصر 1935 ص 237
2 -
كنت استشهدت في مقالي (مناقلة ومثاقفة)(الرسالة 346) بكلمة بليغة لابن شبرمة، وهي:(ذهب العلم إلا غبارات في أوعية سوء). فذهب صاحب (الأدب في أسبوع) في العدد التالي إلى أن هذه الكلمة (تبدو له نصاً عربياً مظلم النور). فقال - معترضا -: إن تحرير روايتها يكون بوضع: (غبرات)(أي: بقايا الشيء) موضع: (غبارات). وجلب لأجل ذلك قولاً لعمرو بن العاص وآخر لأبي كبير الهذلي، وردت فيهما كلمة (غبّر) وجمعها (غبرات (المآلي)) لبقايا دم الحيض (المعذرة أيها القارئ!). ثم خرج المعترض من وراء (تحقيقه على التحرير والدراية)، يأمر الناس يقول:(فمن كانت عنده نسخة من العقد الفريد (طبعة بولاق) فليصححه)، (وذلك لأن تلك الكلمة مثبتة في العقد وروايتها (غبارات)).
ألا إن مثل هذا الضرب من التحقيق ينطوي تحت ما يسميه علماء الفرنجة لهذا العهد في المنهج الذي يجرون عليه في تحرير المخطوطات والمطبوعات: (التحكم في رفض رواية النص). ومنهج القوم في ذلك هو معتمدنا اليوم (وهو على كل حال سنّة العلماء من عرب وأعاجم في عهد ترسخ فيه قواعد العلم). وفي نقدي لكتاب (الإمتاع والمؤانسة)(الرسالة 327) مثل على ذلك التحكم. وبيان هذا أن نص رواية من الروايات لا يرفض إذا صح لغةً وأداءً وبياناً؛ وليس للقارئ أن يستبد بذوقه فيحمل القدماء على أن ينطقوا على هواه أو على مبلغ (تحريره ودرايته)، وإن صحّ رأيه من جانب. وعلى هذا، فمعلوم أن الغبارات - أي الشيء الحقير القليل - تعلو الوعاء المهمل لفساد ما فيه وتطمئن في زواياه. فلا حاجة بك إذن إلى اجتلاب استعارة قد ينبو عنها بعض الأذواق. ولو كان استشهد المعترض بنص
ورد فيه قول إبن شبرمة و (الغبارات) فيه (غبرات) لكان رأيه نجا من نصف التحكم؛ ولو كان جلب نصاً فيه (غبرات (المآلي)) تليها (أوعية) سوء أو نحو ذلك لكان رأيه مقبولاً
هذا والغبارات وردت في غير طبعة بولاق (مصر 1293) للعقد الفريد. فإنك تصيبها في طبعة المطبعة العثمانية مصر 1302 ج 1 ص 205، والمطبعة الشرفية مصر 1305 ج 1 ص 155
وبعد، فإني أريد أن أكون عند حسن ظن المعترض بي. ألم يكتب عن غزير فضل:(إن العالم الثقة المثبت المحقق الدكتور بشر فارس قد علم فعلّم). وهأنذا في دار الكتب المصرية - أبقاها الله حصناً للمحققين - وإلى جانبي الصديق الكريم (وفي الناس من تكرم صداقته) الأستاذ كامل المهندس رئيس قسم الفهارس العربية، والأستاذ عبد الرحيم محمود المصحح بالدار، وبين يديّ جانب من نسخة مخطوطة، قديمة تصعد إلى المائة السادسة، مشرقة الخط، مشكولة، إن هي إلا (الجزء السادس من كتاب العقد وهو بعض كتاب الياقوتة في العلم والأدب). وفي أسفل الورقة الـ22 ما حرفه بالشكل الكامل المحكم:(ذهب العلمُ إلا غُبَارَاتٍ في أوعيةِ سَوْء)
هذه كلمة لن أردفها بثانية مهما خطر للمعترض أن يقول.
بشر فارس
دكتور في الآداب من جامعة باريس
(ارتجال المصادر)
طالعت في العدد347 من الرسالة مقالاً في البريد لكاتبه الأستاذ إسماعيل أدهم يحاول فيه أن يرجع تعبيراً للدكتور بشر فارس هو (أذني زلزلت طربا) إلى تعبير إيطالي يقاربه، في زعمه، للكاتب المسرحي لويجي بيراندللو عن ترجمة تركية
ونحن لا نريد أن نناقش هذا الأسلوب في ترجيع تعبير إلى آخر في غير اللغة التي كتب بها مباشرة (من الإيطالية إلى التركية ثم إلى العربية)، وإنما نريد أن نبين للقارئ كيف يواصل الأستاذ أدهم طريقته في (ارتجال المصادر) (راجع هنا ما قاله الدكتور بشر فارس نفسه في هذا الصدد: الرسالة 329 و330) وإليك الحديث:
قد كنت وضعت رسالة عن الكاتب المسرحي لويجي بيراندوللو ونشرتها تباعاً عام 1935 على صفحات مجلة الحديث الحلبية، وذلك بمناسبة فوزه بجائزة نوبل، وكنت أثبت في هذه الرسالة المصادر الإفرنجية التي اعتمدت عليها في اللغة الفرنسية، ومن بينها كتاب مستعرض أوربا ' لمؤلفه الناقد وفي هذا الكتاب وغيره وردت مصادر إيطالية وجدت من تتمة البحث أن أذكر عناوينها، ومن هذه المصادر كتاب ' أي (الإنسان الخفي) لمؤلفه فردريكو نارديللي
وقد تبين لي بعد ذلك أني أخطأت في ترجمة عنوان هذا المصدر بأن ذكرت (الإنسان المقدس لمؤلفه فردريك نارديللي) وجاء هذا الخطأ نتيجة وهمي أن كلمة تفيد (مقدس) والصواب أن الكلمة التي ترادف (مقدس) هي بالإيطالية وهكذا يرى القارئ أن مصدر الخطأ جاء من تقارب خروج حروف اللفظتين الإيطاليتين
هذا وقد استند الأستاذ أدهم في مقاله المذكور آنفاً إلى هذا الكتاب، وادعى أنه راجع ترجمته التركية (ص118 - 119)؛ فذكر عنوان الكتاب هكذا:(الإنسان المقدس). ونحن نقول إن هذا الكتاب لو كان ترجمه أحد إلى اللغة التركية حقيقة لكان أصاب في ترجمة العنوان وهو سهل الألفاظ واضحها، (وإلا فكل الترجمة خطأ ولا يعول عليها إطلاقاً)
والحقيقة أن الأستاذ أدهم سطا على هذا العنوان بخطئه - كما رأيت - من صلب الرسالة التي كنت نشرتها في مجلة الحديث عام 1935 كما قدمت
ونزيد على هذا أن الأستاذ أدهم في محاولته في مقاله المذكور استند إلى الترجمة التركية (؟!!) على حين إنه في كتابه (توفيق الحكيم - الفنان الحائر) أثبت عنوان هذا الكتاب ذاته في جدول مصادره باللغة الإيطالية كأنه اطلع عليه. فلم يعمد إلى ترجمة تركية لكتاب سبق أن اطلع عليه في لغته الأصلية إلا لأنه يعرف أن التركية الحديثة غير شائعة عندنا، فمن يتتبعه؟
وإذا كابر الأستاذ أدهم في هذا الصدد فليرسل إلى إدارة مجلة الرسالة الترجمة التركية المزعومة لمجرد الاطلاع عليها والإفادة منها
محمد أمين حسونه
الحجز على المتاع
سيدي الفاضل الأستاذ الزيات
تحية وسلاما. وقع نظري على إعلان حجز نشر في جريدة البلاغ يوم الجمعة الماضي أو السبت الذي يليه على ما أذكر؛ فقد أردت أن أحتفظ بالعدد المنشور فيه هذا الإعلان لولا عبث أطفالي به وهم لا يأبهون بما فيه، ولكن إليك ملخصه (ولك أن تراجع أعداد البلاغ المشار إليها للتحقق منه)
(في يوم 4 مارس سنة 1940 سيصير بيع المنقولات الآتية وهي: حلة وأنجر (وكيلة ذرة) ملك. . . وهذا البيع بناء على طلب حضرة صاحب المعالي وزير الأوقاف وفاء لمبلغ. . قرشاً)
وكان بودي لو تعيرني قلمك لأعلق على هذا الإعلان المؤلم؛ بيد أني خشيت أن يكون في يدي قصبة لا روح فيها أو كالمهند في يد طفل ضعيف. والموضوع يحتاج إلى صرخة مدوية تهز أوتار القلوب، وأنت فارس هذا الميدان، ولنفائس يراعتك ما ينفس عن القلوب المكلومة، وفيك الرجاء في معالجة الأمر بحد القلم الذي حرك أولي الأمر في أكثر من حادثة
إن بعض القوانين تحرم الحجز على كثير من أنواع المتاع فما بالك بالحجز على القوت الضروري؟ فهل بلغ الحرص بوزارة الأوقاف على أموالها هذا المبلغ وهناك الكثيرون من أبناء الأثرياء الذين أضاعوا أموالهم على الخمر والميسر وأنواع الفجور، أصبحوا يعيشون في رغد من المرتبات التي تصرف لهم من الأوقاف من غير استحقاق أو عمل يعملونه لأنفسهم ولبلادهم، وناهيك بغير هؤلاء ممن تعرف
ومما يزيدنا تألماً أن يصدر هذا التصرف الشاذ في عهد وزير خلق وزارة الشؤون الاجتماعية لخدمة الإنسانية
فمتى نعرف البر بالفقير إذا كانت وزارة البر والإحسان تأخذ اللقمة من فم الفقير لتطعم بها أبناء الأعيان أو تؤثث بها غرف موظفيها بأنواع الأثاث الفاخر؟
يا لله. . . وزارة الأوقاف تنزع من فقير (حلة وأنجر وكيلة ذرة) وهي بالطبع كل ما يملكه من حطام الدنيا!
أين الرحمة! أين الشفقة!. . . يا للإنسان من ظلم الإنسان!
أحمد محمد علي
استفهام
في كتاب (تاريخ الأدب) المقرر بالمدارس الثانوية تحت عنوان: (نماذج من شعر المخضرمين) شعر لأبي دهيل الجمحي على أنه مخضرم، وعلى أنه قيل في مدح رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأول الأبيات هو:
إن البيوت معادن فنجاره
…
ذهب وكل بيوته ضخم
ويروي الأغاني في الجزء السابع (طبعة دار الكتب ص134) أن هذه الأبيات في مدح عبد الله بن عبد الرحمن الملقب بابن الأزرق، والى عبد الله بن الزبير على بعض أعمال اليمن. فأي هاتين الروايتين نصدق؟ ومم استقى الأساتذة الأجلاء المؤلفون الرسميون روايتهم تلك؟ وكيف يحتمل أن يكون مخضرما وقد عاش إلى خلافة عبد الملك بن مروان؟
هذه أسئلة غرضي منها تعرف الحقيقة فحسب، فلعلي أظفر بمن يهدي إليها (محموداً مشكوراً)
قناوي
البروفسور ويلسن
وصل إلى القاهرة عن طريق الجو في الأسبوع الماضي البروفسور دوفر ويلسون أستاذ البلاغة والأدب الإنجليزي في جامعة أدنبرة، قادماً إلى مصر بدعوة من المجلس البريطاني، والاتحاد المصري الإنجليزي، لإلقاء طائفة من المحاضرات العامة، يدعى إليها كبار رجال التعليم في وزارة المعارف والجامعة، كما إنه سيباح الاستماع إليها لكل راغب في ذلك
وسيلقي الأستاذ دوفر أولى محاضراته في الساعة السادسة من مساء يوم 14 مارس الحالي، بقاعة الجمعية الجغرافية الملكية، تحت رعاية الاتحاد، ويتحدث فيها عن (شكسبير وعصره)
ويلقي بعد ذلك محاضرات أخرى عن نظم التعليم الحديثة في إنجلترا وعن الحياة الاجتماعية والسياسية في لندن يلقيها في المعهد البريطاني وفي قاعة يورت التذكارية. ثم
يلقي محاضرات أخرى في الإسكندرية وبور سعيد والسويس
وللأستاذ ويلسون أبحاث قيمة عن شكسبير ومؤلفاته، وإليه يرجع الفضل في إخراج الطبعة الحديثة من مؤلفات هذا الشاعر العظيم التي أصدرتها جامعة كمبردج أخيراً. وقد أخرج في شؤون التعليم ونظمه كتباً يسترشد بها رجال التعليم في إنجلترا إذ كان أستاذاً للتربية والتعليم في جامعة لندن، ثم أستاذاً للأدب الإنجليزي في جامعة كمبردج
حول لقب السفاح
قرأت في مجلة (الرسالة الغراء) في الجزء342 وغيره ما كتبه الكاتبان (الأستاذ محمود شاكر والأستاذ الصعيدي) في (لقب السفاح). وعجبت لقول الأستاذ العبادي - على ما نقله الأستاذ الصعيدي -: إن الرواية التاريخية القديمة كرواية ابن سعد وابن عبد الحكم والبلاذري والدينوري وطيفور واليعقوبي، والطبري والنوبختي والكندي لم تلقب (أبا العباس) بالسفاح
فالمؤرخون كالمجمعين على تلقيبه بذلك، بل هو أشهر من لقب بهذا اللقب جاهلية وإسلاماً
ولعل من المفيد أن أنقل ما قاله الحافظ بن حجر في كتابه (نزهة الألباب في الألقاب) من مخطوطات دار الكتب المصرية. قال: (السفاح: أول خلفاء بني العباس، هو أبو العباس عبد الله ابن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس. ولقب به من القدماء سلمة بن خالد بن كعب التغلبي رئيس بني تغلب أحد فرسان الجاهلية، وقيل له ذلك لأنه سفح الروايا يوم الكلاب الأول)
غسان صلاح الدين
حول لوبيا المجهولة
حضرة الأستاذ علي معمر الطرابلسي
قرأت مقالك المعنون بلوبيا المجهولة في العدد 344 من مجلة الرسالة الغراء، فكانت دهشتي منه كبيرة، ولو كنت تعلم أن الإنسان الذي حملت عليه تلك الحملة الهوجاء يحمل في قلبه غيوماً من الأسى الممض والألم المبرح على شقيقتنا (طرابلس الغرب) الإسلامية العربية - لما أقدمت على إذابة قلبه بكتابة ذلك المقال. . . لو كنت تعلم أن ذلك الإنسان لا
يعترف بالوطنية الضيقة، بل هو يعتبر كل وطن إسلامي - بله العربي - وطناً له يعتز به ويفخر بالانتساب إليه ويعتقد أن له عليه من الحقوق مثلما لوطن المولد - ما جرحت قلبه يمثل ذلك الرد
ومع ذلك فالذنب ليس ذنبك ولا هو ذنبي، إنما هو ذنب (السياسة ومراعاة الظروف) وكفى بأستاذنا الزيات شاهداً على أنني ما أغفلت ذكر طرابلس الغرب من كلمتي ولا سهوت عن تعطير قلمي بها
لقد ذكرت طرابلس الغرب على انفراد وفي أسطر خاصة، لأن لها في قلبي مكاناً ممتازاً؛ ثم جاء قلم من الأقلام فحذفها جملة رعياً للظروف الحاضرة. ولم أجعلها في ضمن بلدان (الشمال الأفريقي) لأن هذه اللفظة بفضل السياسة أصبحت لا يراد بها إلا الأقطار الواقعة تحت حماية فرنسا أو استعمارها وهي: تونس، والجزائر، والمغرب. . . أفترانا يا حضرة الأستاذ مقصرين في حقوق الجارة الشقيقة وجاهلين بجهادها وبلائها ومحنتها التي ينفطر لها كل قلب عربي مسلم؟
ثم أسألك كيف جاز لك أن تسمي طرابلس الغرب (لوبيا) وهو لفظ أطلقته عليها السياسة لتمحو به المعنى العربي، والتاريخ العربي لهذه البلاد، وتنقل السامعين له فوراً إلى عهدها الأول قبل الإسلام يوم كانت أحد أجزاء الإمبراطورية الرومانية؟ وأنت طرابلسي فهل ترضى أن ننسبك إلى لوبيا؟
إن المسلم حين يسمع لفظة (الأندلس) يمر بخياله تاريخ مجيد للإسلام والعروبة، مضى وترك مآسيه منقوشة في القلوب؛ ولكنه قد لا يمر بخياله شيء من ذلك إذا سمع لفظة (أسبانيا)، مع اعترافي بأن طرابلس الغرب أمة عربية خالدة بخلود الزمن
فيأيها الأستاذ، لتكن شديد الثقة بأن العرب وحدة لا تتجزأ، وأن الدم العربي أينما حل لن تنقطع وشائجه ولن تنفصم أواصره مهما جار عليه الزمان وبدد شمله على الأوطان، والسلام عليكم ورحمة الله.
(فاس)
(أبو الوفاء)
تصويبات في العدد الممتاز
جاء في آخر المقال الافتتاحي (محمد الزعيم): (قد جاءتكم بصائر من ربكم) والصواب جاءكم
وفي مقال الأستاذ العقاد: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) والصواب حذف (كله)
وفي مقال الأستاذ فريد وجدي: (ولو على أنفسكم أو الأقربين) والصواب (ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين)
3 - وحي الرسالة
(من واجب (الرسالة) أن تنشر ما يتفضل به عليها الأدباء
والزملاء والأصدقاء من صادق النقد وجميل الرأي في كتاب
(وحي الرسالة) تسجيلا للفضل منهم والشكر منا)
قالت زميلتنا المقتطف في عددها الصادر في أول مارس:
قال الزيات: (قارئي العزيز، اخترت لك هذه الفصول مما كتبته للرسالة في ست سنين. وكان من عادتي أن أكتب الفصل منها أصيل السبت من كل أسبوع، ثم لا أكتبه طوعاً لتأثير قراءة، أو تحرير فكرة، أو تخمير رأي. وإنما كان أثراً لوحي ساعته أو حديث يومه أو صدى أسبوعه. فالزمن جزء منه متعمم لمعناه: يبين ملابسته للحادث، ويعين مناسبته في التاريخ، لذلك أعقبت كل فصل بذكر اليوم الذي كتب فيه ليتضح موضعه بفعله وحاله وظرفه)
هذا خير ما يوصف به هذا الكتاب. فأنت ترى أني لا أستطيع أن أزيد في صفته من حيث التأليف والتبويب، ولكني أستطيع أن أقدم بين يدي قارئه بعض الرأي في أدب صاحبه
وأنت إذا تناولت هذا الجزء فقرأت فهرسه، رأيت مائة وعشرين بابا من أبواب القول قد افتتحها (الزيات) بقلمه وسناها برأيه، ومهدها بحسن بيانه، ولكل باب منها غرض، ولكل غرض أسلوب، ولكل أسلوب لفظ يصلح عليه ولا يصلح عليه غيره. وإذا كان الكتاب كذلك كانت المشقة فيه أعظم من مشقة التأليف المرسل إلى غرض واحد لا يتميز إلا بالاتجاه، فإن الغرض الواحد قلما يخرج أسرار البيان من قلب الكاتب ولسانه، لأن الأسلوب إليه قلما يختلف. فإذا اختلفت الأساليب باختلاف الأغراض محصت قدرة الكاتب على ما اعترض له وهمّ إليه من الكتابة
فإذا أنت أخذت هذا الكتاب بين يديك وسايرته فصلاً فصلاً وأسلوباً أسلوباً، عرفت الجهد الذي لقيه صاحبه في إبداعه، ورأيت (الزيات) في كل أسلوب هو (الزيات) لا يختلف ولا يتنافر، والكاتب إذا صار إلى هذه المرتبة - حيث تراه هو هو مهما اختلفت الأغراض وتباينت الأساليب - فاعلم أنه إنما يشتق لك كل ما يكتبه من حر نفسه، فيضنيها ويهلكها
مخلصاً صابراً لا يملّ. وإذا كان الكاتب كذلك فهو كاتب لا يزيف لك ولا يقبل الزيف، وهو يعطيك ولا يسألك، ويبذل لك ولا يمن عليك، ويعلمك ولا يدعي لك إنه أعلم منك. . . ذلك بأنه قد بلغ من العقل والفكر والصفاء والبيان حيث يعلم أنه ملك قارئه لا أن القارئ ملك له، وأنه مرشد لا مسيطر، وأنه أخوك الذي يناقلك الحديث وإن كان بمنزلة الأب
و (الزيات) - كما عرفته من كتابته - روح هادئة متكتمة مسترسلة، يكاد يختفي في نفسه حين يفكر كأنه فيلسوف من فلاسفة الصين: يمشي هادئاً، ويفكر ساكناً، ويحاسب نفسه ولكن على التسامح والرضا والاستسلام؛ فإذا أراد أن يقيد أحلامه وأفكاره وهواجسه كان هو الهادئ الساكن المتسامح، فإذا اشتد وحمس وأراد أن يتفجر، خيّل إليّ إنه عينٌ حَّمةٌ ترسل لواذعها سكْباً ساخناً حامياً كالماء إذا إلى ثم هدأ أول هدأة لا يضرب بعضه في بعض. ولذلك ترى نقده إذا نقد شديداً بالغاً، ولكنه رفيق غير عنيف، ولكنه على ذلك مما تخشى صواعقه. وهذه الروح التي وصفناها هي التي تجعل كل كلامه قطعاً مزينة ناضرة محكمة مقدرة الألوان لا يختلط شيء منها بشيء، ولا يجوز لون منها على لون. وهي التي تجعل كل لفظه مبنياً على الإيجاز دون الإطناب، وعلى مذهب الحكمة دون المذهب الكلامي؛ وإذا أردت أن تتبين كل ذلك حقيقة التبين فلا تتكلف أكثر من أن تقرأ إهداء كتابه. يقول لولده (رجاء) الذي احتسبه عند ربه في سنة1936:
(إلى روحك اللطيفة العذبة - يا ولدي رجاء - أقدم هذا الكتاب، فلولاك ما أنشأت الرسالة، ولولا الرسالة ما أنشأت هذه الفصول)
فإن في هذه الكلمات القلائل لوعة مستكنة باقية إلى يومها هذا، ولكنها ساكنة راضية هادئة لا تثور ولا تتأجج، ولكنها تسري وتدب وتمشي في روحه الهوَينا الهوَينا
هذا سر أسلوبه. وأما أسلوبه وبيانه واقتداره على عربيّته وحسن تصريفه لألفاظه في وجوه أغراضه ومراميه، فالزيات - ولا أشك - هو بقية أصحاب الأقلام العربية التي لا تخلط ولا تتقَّمم من هنا وهنا - فأنت إذا نفذت إلى كل جملة من كلامه في هذا الكتاب لم تجد إلا عربية خالصة مطاوعة لينة، لا ينافر حرف منها حرفاً - على كثرة الأغراض التي رمى إليها واختلافها، وعلى ظن من لا يعلم أن العربية لا تطيع في التعبير عن الضرورات الحديثة التي قسرتنا عليها مدنية القرن العشرين من ميلاد المسيح
فلو أتاح الله لهذه العربية من يخلص لها في معاهد التعليم على اختلاف أغراضه وأنواعه، وأراد أن يرد على العربية شباب أيامها حتى تكون لغة مدنيتنا في الأدب والعلم والفن، لوجد في الذين أبادوا شبابهم بالعمل لإحياء اللسان العربي في هذا العصر قوماً قد استطاعوا أن يجعلوا عربيتهم أصلاً في الحياة، إذ جعلوا الحياة أصلاً فيها، وبقية هؤلاء هو (الزيات)