الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 35
- بتاريخ: 05 - 03 - 1934
زمزم.
. .
كان المصري إذا ذكر بالأمس زمزم ذكر البيت الذي تتهافت على ضوئه أمانيه وأحلامه، والنبع الذي تسكن على برده (لواعجه) وآلامه. أما اليوم فبذكره فيجد في نفسه بجانب شعوره الديني اللطيف شعوراً آخر له كذلك لطفه وقداسته: ذلك هو شعوره الوطني بالمستقبل المشرق والكرامة العزيزة والحياة المستقبلية (لأن زمزم لم يعد في ذهنه مقصور الدلالة على البئر المقدسة، وإنما أصبح يدل أيضاً على الحجر الأساسي لمجده البحري، والمظهر الحقيقي لوجوده الدولي، والسفينة الأولى من أسطوله المدني الأول (
والأسطول المصري كلمة نسيتها مصر منذ أودت بأسطولها الدول الغوادر في أمواه (نافازين)، فشواطئ رمسيس وكليوبطرة،
وزمزم. . .
كان المصري إذا ذكر بالأمس زمزم ذكر البيت الذي تتهافت على ضوئه أمانيه وأحلامه، والنبع الذي تسكن على برده (لواعجه) وآلامه. أما اليوم فبذكره فيجد في نفسه بجانب شعوره الديني اللطيف شعوراً آخر له كذلك لطفه وقداسته: ذلك هو شعوره الوطني بالمستقبل المشرق والكرامة العزيزة والحياة المستقبلية (لأن زمزم لم يعد في ذهنه مقصور الدلالة على البئر المقدسة، وإنما أصبح يدل أيضاً على الحجر الأساسي لمجده البحري، والمظهر الحقيقي لوجوده الدولي، والسفينة الأولى من أسطوله المدني الأول (
والأسطول المصري كلمة نسيتها مصر منذ أودت بأسطولها الدول الغوادر في أمواه (نافازين)، فشواطئ رمسيس وكليوبطرة، ومواني المعز وصلاح الدين، ظلت بعد إبراهيم حمى مباحا للسفائن الأجنبية، ترسى عليها بالذل والقهر، أو بالغلاء والفقر، أو بالسم والرذيلة (ثم لا تجد بين حنايا المرفأ الرءوم باخرة مصرية واحدة تشعرها ذل الغربة، وتذكرها واجب الدِّخالة، فكانت مياهنا كما كانت أرضونا مرتعا غريض الكلأ تخور فيه السوائم الغريبة خُوار الكفر والبذاء، لا خوار الشكر والثناء، ونحن أصحاب البلد لا تجد في هذا الطغيان سيادة المالك، ولا عزة الوطني ولا سلطان الدولة (
فلما تكشفت جهودنا القومية المنتجة عن بنك مصر، صمد هذا الناشئ الجبار بحزم الكهول وعزم الشباب إلى الميادين المالية الأجنبية فاقتحم حصونها المنيعة، وسرى في هيكل هذا البلد العليل الواهن سريان البرء، يحرك كل عضو من أعضائه بشركة من شركاته: فصاول في حي المال بنوك الدول، وطاول في (ألماظة) مطار الإنجليز، ونازل في (المحلة) مناسج (لنكشير)، وزاحم في كل سوق نتائج كل شعب (ومشت أعراض السلامة من الصدر إلى الثغر، فقامت شركة مصر للملاحة تعيد سلطاننا على البحر، وتعلن استقلالنا إلى الخارج، فأنشأت (زمزم) وأخواتها الثلاث على أحكم ما يقول الإنشاء، وأضحك ما يمكن الابتداء، وأفخم ما يكون التأثيل
وكان الأسبوع الماضي (مظاهرة كبرى) للاستقلال الأكبر ((
نزل طلعت حرب وصحبه العاملون يغزون الماء، بعد ما غزوا الأرض والسماء، فخفقت الأعلام الخضر على سواري زمزم، وتهللت الجباه الغر على سواحل مصر، وشعرت المواني الثلاثة المحتلةأن في أحضانها اليوم وليدا من أهلها صريح النسب، تضطرم في
أحنائه رجايا الشعب، وتسفر على وجه مخايل الأمل، وتبسم في طريقه مضاحك الفوز (
واختلفت الظنون الفواجر على خواطر السفن الغربية فتساءلت: إلا يكون هذا المشروع الجديد كألف مشروع قديم لمعت كلمع الشرار ثم خبت سراعا إلى الأبد؟ إلا تكون زمزم هذه التي تختال على الماء في صلف وكبرياء، نواة من النوى للعجُف لا يرسخ لها أصل، ولا يسمق لها فرع؟ أيستطيع الأسطول المدني المزعوم أن يجوب مسارب البحار وليس من ورائه أسطول حربي يرصد طريقه ويمنع جانبه؟
وكانت هذه الأسئلة المتشائمة تَرْفَضُّ صاغرة خجلى عن جوانب الباشا وهو على ظهر زمزم في عبوسه الرهيب وسكونه المهيب ونظرته النافذة، يحيل المتسائل المتشكك على الماضي المجيب والواقع المقنْع فيرى الفَلك الداوي الذي يديره برأيه، ويسيره بيده، شمسه بنك مصر، وتوابعها شركاته الميمونة.
وهنالك الجواب الذي يُبكم الحاسد، ويفحم الشامت، ويقوم حجة بتراء على رشد النهضة الاقتصادية في مصر
إن شركات بنك مصر هي وحدها الجانب الجدِّي في حياتنا الهازلة، تقوم على الحاجة الداعية، والكفاية الفنية. والإرادة القوية، والإدارة الحازمة، والغاية النزيهة، والإيمان الصادق، والخير العام. وهذه الأساس الثوابت أكثر مما يلزم لقيام العمل، فكيف يقع في البال أن يتحكك بها الفشل، أو ينال منها الكيد، أو تطير في جنباتها الشبُّهَ؟
إن أرجل الجنود الإنجليزية جعلت ثكناتنا أجنبية، ولكن رءوس الأموال الأوربية جعلت مصرنا غير مصرية، وإن أساطيل بنك مصر الآلية والهوائية والبحرية هي التي سترد مصر إلى أهلها من غير حرب ولا عنف ولا خصومة
لقد كانت الوحدة الأولى من أسطول الشعب هي زمزم، وكانت الوجهة الأولى لزمزم هي جُدَّة، وكان أمس الأول موعد إبحارها من السويس بالحجيج الأول! فليت شعري أي نوع من الشعور يشيع في نفس المصري المسافر على زمزم حين يرى قطعة من أرض مصر تسير به على الماء حتى شاطئ جدة، يعلن المؤذن فوق منارتها كلمة الله، وينشر العَلَم فوق ساريتها مجد الوطن، ويجد المصري على ظهرها قومه ولغته ودينه وكرامته وراحته وأنسه!
ذلك شعور لا يتصوره ولا يصوره إلا شاعر كتبت له السعادة أن يتذوقه!! فلعل في الحجيج من يسعفه الإلهام فينفح قومه وأود به بهذه النفحة السماوية، تمجيداً لأول نهضة مصرية زكت في الأرض، وأول باخرة مصرية جرت في البحر، وأول حِجة (مصرية) صعدت إلى السماء!
احمد حسن الزيات
غرائب الألقاب
للأمير العالم مصطفى الشهابي
عضو المجمع العلمي العربي بدمشق
ما أشد غرور الإنسان في هذه الحياة!! وما اكثر تعلقه بالأوهام! ولكم حوى هذا الكون الأحمق في طياته من غرائب ومهازل! ولعل من أغربها أهكومة الألقاب الجوفاء في أيامنا هذه. فلقد اقتبسنا الميل إلى تلك الألقاب عن الفرس والترك في الأيام الخوالي، ثم لما ضعف سلطاننا اتخذناها ألهية نلهو بها عن الملك المضاع، حتى تأصل هذا الميل فينا واستشرى، وصرنا نسمع بأسماء وألقاب يضحك منها العاقل: كصمصام الدولة، وغضنفر الملة، وأسد الدين، وغير ذلك مما يذكرنا بصاحب البيت الأتي:
(ألقاب مملكة. . .)
ومن النكات المستملحة أن رجلا من الصق الناس بي وازهدهم في الألقاب، زار مصر أخيراً فحار الناس بماذا يلقبونه: فواحد زعم انه صاحب السمو، وثان قال انه صاحب السعادة، وثالث ادعى انه صاحب العزة. ولقد والله اخطأ الثلاثة واتاهوا عن محجة الصواب. فالرجل ليس بصاحب سمو، بل هو كسائر الناس صاحب انخفاض. . . لأن كل دقيقة تمر من العمر تدنيه وتدنينا من حفرة منخفضة، سنصير إليها عما قريب، وسنغيب فيها شئنا أم أبينا، وذلك بعد ان نحمل على الآلة الحدباء المعروفة التي قال فيها الشاعر:
كل ابن أنثى وان طالت سلامته
…
يوما على آلة حدباء محمول
وليس الرجل بصاحب سعادة، بل نحن كلنا أصحاب شقاء في هذه الحياة الفانية. وما هي السعادة يا صاح؟ وأين هي؟ لقد سلخت من العمر أربعين حجة وأنا أفتش عنها بلا طائل. تنورتها تارة بالكهرباء، وطورا بالسراج وفتيلته. . . وتحريتها بالعين وبالمجهر. وغشيت لأجلها كل المجتمعات، وتلمستها لدى كل الطبقات. وعدت في آخر طوافي وأنا أشقى من صاحبنا حنين، لأن هذا أضاع البعير لكنه فار بخفيه، وهما شيء لديه، أما أنا فلم أجد لدى أحد من السعادة ما يساوي خفاو أحداً لا خفين. وسأظل أفتش عن هذا الخيال الذي علقته الناس، مشبها في استقصائه صاحب البيت الآتي، وقصته يعرفها بعض الأدباء:
من لي بهاتفة يوما وقد سالت
…
أين الطريق إلى حمام بنجاب
أما الإدعاء بأن الرجل صاحب عزة، فهذه ثالثة الأثافي. فالعزة لله وحده. أما صاحب عَزة (بفتح العين) فهو شاعر غزل، اسمه كثير، وهو زير نساء، وصاف لمحاسن ربات الحجال. أحب عزة وعشقها وشبب بها، وقال فيها البيت المشهور:
هنيئا مريئا غير داء مخامر
…
لعزة من أعراضنا ما استحلت
والبيت المفجع الآتي:
وما كنت أدري قبل عزة ما البكا
…
لا موجعات القلب حتى تولت
وقد هلك كثير وهلكت عزة منذ قرون، فكيف يكون رجلنا صحبها. . . مع هذا فهو قد فاته الغزل، وعداه التشبيب، وتدلف إلى الكهولة، فلا هو من أصحاب عزة ولا عزمة من صواحبه. . .
والخلاصة أن البلاد العربية، ولا سيما مصر والشام والعراق، أسرفت في النعوت والألقاب، خلافاً لما نراه في كثير من أنحاء أوربا. ورحم الله زماناً كان فيه ملك الخلفاء يمتد من الهند إلى بحر الظلمات، مع هذا كان عمالهم يخاطبونهم بمثل قولهم إلى فلان أمير المؤمنين من عامله على كذا) والحكومة إذا لم يكن الحاكم ففيها كمصعب في البيتين الآتيين:
إنما مصعب شهاب من الله
…
تجلت عن وجهه الظلماء
ملكه ملك قوة ليس فيه
…
جبروت ولا به كبرياء
فهل من مشتر للألقاب كافة؟ (حتى التي فاتت القلقشندي في صبح الأعشى. . .) بحكمة يفيدنا إياها، أو بسر صغير من أسرار هذا الكون يرفع لنا الستار عن غوامضه؟
عمر بن عبد العزيز يصلي
للآنسة سهير القلماوي
وليس هو عمر بن عبد العزيز الخلفية الأموي المشهور بعدله وتقواه، وإنما هو طفل مصري في الثانية من عمره، لا يقل عن الخليفة شهرة ولا منزلة في نفوس عارفيه. ولئن كان عمر الخليفة حقق للعرب المثل الأعلى للخلافة، فان عمر الطفل حقق لعارفيه المثل الأعلى للطفولة. فليست طفولته خفة وجمالا ومرحا وطهرا، وإنما هي إلى جانب هذا كله يشوبها القليل من الجد والتفكير، وغير القليل من التقوى والدين.
ولعل أهم ما يربط عمر الطفل بعمر الخليفة، غير الاسم، مظهر التقوى والدين. ومظهر الدين غريب عند أطفالنا المصريين اليوم، فقلما نجد طفلا يعرف من أمر دينه ما يجب أن يعرفه أو يؤمن به. أضف إلى هذا أن سن عمر لا تسمح له بالكلام الواضح ولا بالفهم والأفهام، ولكنها، وهنا موضع الدهشة، سمحت له بفهم لروح الدين وتقدير لها عجيبين. ولعلك تدهش كل الدهش إذ ترى عمر يسحب أي غطاء فيفرشه على الأرض، ويجلس القرفصاء لينزع ما يسميه (ألْبِبِسْ) أو ما نسميه نحن (الشبشب) ثم يرفع يديه إلى أذنيه ويتمتم بكلمات لا تفهمها مهما حاولت، ولكنه يتمتمها في حرارة وحمية غريبتين، ويوالي بعدها حركات الصلاة المعروفة من سجود وركوع. والغريب أنه يقوم بصلاته في حمية وحماسة، قلما تجدهما عند أي طفل في أي حال من حالاته، وقد تضطره الحمية أحياناً في السجود إلى ضبط رأسه ضبطاً مؤلماً يصيح بعده (بخ) بصوت فخم عال ملؤه الجد والخشوع. و (بخ) هذه عنده هي (الله أكبر) عندنا. يكفي أن تقول له صل يا عمر، ليسحب أقرب غطاء وينزع في سرعة حذاءه، ويبدأ الصلاة كأشد ما يمكن أن يكون حمية وحماسة. هو لا يعرف للصلاة وقتا، وإنما يصلي كلما ذكر أو ذكر. ولعلك تظنه بعد كل هذا مازحا أو غير مقدر قدسية العمل الذي يقوم به. كلا. فكفى أن تفلت منك ضحكة مهما يكن مبعثها ليكون نصيبك (زغرة) متوعدة، ثم لينالك بعد فراغه من الصلاة كل ما يمكن أن ينزله بك من عقاب. حاول ما شئت أن تخرجه من صلاته فلن تظفر بشيء، وإن استعملت معه القوة واضطرت طفولته الضعيفة أن تخضع لها، فهناك يكون لك الويل والثبور، هناك الضرب واللكم وشد الشعر، وكثير جداً العض والمؤلم القاسي.
مرض عمر يوما فخفتت أصوات البيت، وأصبح وجوه جواً حزيناً كئيباً، أصبح كل شيء باهتا صامتا. وانطرح عمر على ذراع جدته في استسلم هادئ حزين. وعيناه الزرقاوان تدمعان قليلاً من فرط الحمى، وخداه تلتهبان من حرها، والتف أهل البيت حوله وكلهم واجم حزين، يحس أن روحه معلقة تنتظر وترتقب، وتخاف كل الخوف من احتمال يبعده العقل ويقربه الحب والشفقة. وتناول عمر الدواء من يد جدته في ألم وحزن، ثم أغمض جفنيه واستسلملنوم بدأ مضطربا، ثم ما لبث أن هدأ قليلا قليلا. ونام عمر زهاء الساعة هادئا، وقام بعدها وقد خف عنه الألم، وأحس أن الداء فارقه تماما. فما كان منه إلا أن سحب غطاء منضدة الدواء غير مبال بما سقط أو تكسر، ثم فرشه وقام يصلي: يركع ويسجد ويصيح (بخ بخ) في حرارة وحماسة. لم ينس عمر أن يشكر الله في مرضه لأنه أنعم عليه بفترة هدأ فيها ألمه فاستراح.
هذه صورة لك يا عمر من صور طفولتك، لست أعرف أين يضعها لك الزمان بين صورك الماضية وصورك المستقبلة. ولكن خالتك تشفق على هذه الصورة البريئة الحلوة الطاهرة من النسيان، فسجلتها لك لتذكرها أيام تحلو لك ذكريات الطفولة. ترى استقابلها بابتسامة كابتسامة الطفولة فرحة مرحة؟ أم بابتسامة أخرى ستعلمها لك الأيام؟
صفحة من تاريخ أفغانستان المعاصر
لمناسبة حوادثها الأخيرة
للأستاذ محمد عبد الله عنان
- 2 -
غادر أمان الله ميدان الحوادث في أفغانستان في ربيع سنة 1929 كما قدمنا، وفر مع زوجه وأسرته مثقلا بما يدخر الأمراء الطغاة مثل هذا اليوم من مال مغتصب؛ ولكن الملك الجديد باشا السقا أو حبيب الله لم يستطع أن يبسط سلطانه على غير كابول وضواحيها، ولبثت أفغانستان تضطرم بالحرب الأهلية، وزعماء القبائل القوية ولا سيما الشنوارى وغلزة يتطلع كل منهم إلى الملك. عندئذ ظهر في ميدان الحوادث رجل لم يكن له في بدء الفتنة من الأمر شيء، وكان يقيم منذ حين بعيداً عن وطنه في معزل عن الحوادث. ذلك الرجل هو الجنرال نارد خان. وكان من قبل وزيراً للحربية وقائداً عاماً للجبيش في حكومة الملك أمان الله. ولكنه لما رأى اندفاع أمان الله في سياسته الطائشة، استقال من منصبه وعين سفيراً لأفغانستان في باريس، وأبعد بتلك الوسيلة عن طريق أمان الله. فلما نشبت الثورة وتفاقم خطر الحرب الأهلية لبى نادر خان داعي الوطن وعاد إلى أفغانستان ليحاول إخماد الفتنة وإنقاذ أفغانستان من عواقب ذلك النزاع الخطر، ولكنه ألفى الموقف مستحيلا؛ فاعتزم أن يخوض المعركة وأن يحاول سحق ذلك الزعيم المتغلب الذي أثار هذا الضرام، وجعل من أفغانستان مسرحاً لجريمة والفوضى؛ فحشد أنصاره وفاوض زعماء القبائل القوية. ومنالمعقول أيضاً أن تكون السياسة الإنجليزية قد أدت مهمتها التاريخية في هذا النزاع، وأمدت نادر خان بالمعاونة المطلوبة لأنها رأت فيه زعيماً مستنيرا متزناً، ولأنها تحرص دائماً أن يستتب الأمر في أفغانستان لأمير يؤثر التعاون مع بريطانيا العظمى. وعلى أي حال فقد استطاع نادر خان أن يشق طريقه، وأن يهزم قوات المتغلب والثوار في عدة معارك؛ ثم زحف أخيراً على كابول ودخلها في أكتوبر سنة 1929، وقبض على حبيب الله وأمر به فأعدم رمياً بالرصاص؛ وقبض على زمام السلطة في كابول. بيد أنه لم يكن سيد الموقف بعد، لأن الثورة لبثت تضطرم في مختلف الأنحاء. وكان نادر خان كما قدمنا من معارضي سياسة التجديد الأوربي التي كان لها شأن في إضرام الثورة، فالعلن مرة
أخرى أنه سيعمل على احترام أحكام الشريعة الإسلامية وتقاليد البلاد وحمايتها من كل انتهاك وعبث؛ وأخذت الثورة تهدأ شيئاً فشيئاً، ونادر خان يصرح أنه لا يبغي العرش وأنه يتركه للرجل الذي تختاره أفغانستان. على أنه لم يك ثمة شك في نتيجة هذا التطور، فقد انتهى نادر خان بارتقاء العرش بعد ذلك بأيام قلائل (15 أكتوبر) على يد جمعية وطنية من الزعماء نادت به ملكاً وأيدته معظم العناصر القوية في البلاد.
وقد ولد السردار محمد نادر خان في سنة 1883 من والدين ينتمي كلاهما إلى أصل ملكي. وظهر منذ فتوته بالبراعة، الحربية وتولى منذ سنة 1919 قيادة حرب الاستقلال الأفغاني في صف الملك أمان الله، ولبث مدى أعوام شخصية بارزة في حياة أفغانستان العامة؛ ولكنه أبى التعاون مع أمان الله مذ رأى تطرفه واندفاعه. وتولى نادر خان الحكم في غمار من الصعاب، ولكنه أبدى منتهى الاعتدال والكفاية والحزم؛ وألغى جميع الإجراءات المتطرفة التي اتخذها أمان الله؛ ورد أحكام الشريعة كما كانت، ونظم علائق أفغانستان مع الدول؛ وكان بريطانيا العظمى أول الدول التي اعترفت بحكومته؛ واهتم نادر خان بإصلاح الجيش وتقويته، ولبث يعمل في مثابرة وجلد حتى عادت السكينة إلى البلاد واستقر الأمر في نصابه نوعا. ولكن بعض القبائل القوية ولا سيما قبيلة الشنوارى لبثت محتفظة بموقفها من الاستقلال عن كل سلطة. ولم تمض أشهر قلائل حتى عادت لثورة والقلاقل العنيفة تهدد سلام البلاد وأمنها؛ فعاد نادر خان الكفاح؛ وكانت تعترضه صعاب فادحة مالية وغيرها. واستمر الثورة تخبو وتضطرم في أفغانستان مدة الأربعة أعوام التي حكمها نادر خان. بيد أنها كانت ثورات محلية؛ ولم تتخذ ذلك العنف الذي تتحول معه مصاير أفغانستان إلى وجهة جديدة؛ وكان نادر خان دائماً رجل الموقف؛ وبذل نادر خان جهوداً صادقة لإصلاح نظم الحكم والادارة، وجرى في الحكم على نظام الوزارة الحديث، وأنشأ مجلساً تمثيليا (برلمانا) يقوم بمهمة التشريع بإشرافه، ولزم جانب الاعتدال في سياسة الإصلاح، ورد المرأة الأفغانية إلى حجابها ومنزلها، ولم يحاول أن يغير بالعنف شيئا من تقاليد البلاد الدينية أو الاجتماعية؛ وسار بأفغانستان في طرق التقدم والتوطد رغم القلاقل التي كانت تعترض سبيله من آن لآخر، وعادت السياسة البريطانية فوثقت علائقها مع أفغانستان، وقامت السفارة البريطانية في كابول مرة أخرى، وطبقت المعاهدة المعقودة بين البلدين منذ
سنة 1921. وبالجملة فقد بدأت أفغانستان على يد هذا الأمير القوي الحازم مرحلة من الاستقرار والتقدم وكان مقدار ان تطول وان تثمر خير النتائج لو لم يذهب نادر خان فجأة ضحية الاغتيال السياسي.
لم يكن مقتل نادر شاه مفاجأة كما قدمنا، فقد رأينا أن عرش أفغانستان يقوم على بركان مضطرم من المنافسة الدموية، ورأينا كيف يذهب معظم الجالسين عليه ضحية الغدر والغيلة. ولم تتضح العوامل والظروف الحقيقية التي ذهب ضحيتها نادر شاه بعد وضوحاً كافياً يسبغ عليها للون التاريخ الحق. ولكنا نستطيع أن نتتبع هذه العوامل في معترك البغضاء السياسية والشخصية التي تتربص منذ بعيد بنادر شاه وأسرته، وإليك خلاصة ما يقال في اصل الجريمة وأسبابها
كان غلام نبي بين زعماء أفغانستان المقربين إلى الملك أمان الله ومن اكبر معاونيه. وكان يشغل منصب سفير أفغانستان في باريس أيام حكم الملك أمان الله، ويشغل أخوه غلام صادق منصب سفير أفغانستان في برلين. وهو من أسرة (تشركي) القوية، فلما سقط أمان الله وتولى نادر خان، أقيل غلام نبي وعين مكانه في سفارة باريس السردار شاه والي خان أخو نادر شاه، ثم أقيل أخوه غلام صادق بعد ذلك من سفارة برلين وعين مكانه أخ للملك أيضا هو السردار محمد عزيز خان.
ولبث غلام نبي حينا في أوربا ثم عاد إلى أفغانستان بشفاعة آخي الملك والي خان وبعد وعد ملكي بالأمان. واستخدمه نادر شاه في مهام عسكرية وسياسية في بعض الاقاليم، ولكن غلام نبي كان يضطرم بأطماع خفية، وكان يبث دعوة الثورة ضد نادر شاه خفية ويدعو لصديقه السابق أمان الله، ووقف نادر شاه على طرف من مساعيه فاستدعاه إلى كابول واستدرجه على مجلس عقده في قصره بضاحية (الارج) التي تضم القصور والقلاع الملكية، ولما ظهر نبي خان أمامه أبرز له بضع الوثائق التي تثبت خيانته، فحاول غلام نبي الجدل والمكابرة، ولكن نادر شاه كان قد أعد العدة للتخلص منه وفي الحال ظهر عدة جنود مدججين بالسلاح وانقضوا عليه وقتلوه خنقا أمام عيني الملك. وأخفى نبأ موته حتى عقد نادرشاه في اليوم التالي محكمة من الرؤساء اجتمعت سرا وقضت بإعدام غلام نبي جزاء خيانته، ثم نشر نبأ إعدامه بعد ذلك في الجريد الرسمية، وعلمت أسرة (تشركي)
أسرة غلام نبي القوية - بمصرع زعيمها، وأقسمت بالانتقام
وكان ذلك في الثامن من نوفمبر سنة 1932، أي لعام بالضبط قبل مقتل نادر شاه. وعلى أثر ذلك قبض على كثيرين من أسرة غلام نبي وأتباعه. وكان ممن قبض عليهم بسبب الحادث عامل جنان من أتباع غلام نبي وولده، وهو طالب في السابعة عشرة من عمره يدعى عبد الخالق، فاعتقل الفتى أياماً ثم أطلق سراحه بشفاعة وزير المعارف لأنه طالب مجد متفوق في الألعاب الرياضية ولم تلحقه أية شبهة. وكان الفتى عبد الخالق هذا هو قاتل نادر شاه في المستقبل
أقسمت أسرة (تشركي) بالانتقام وعملت له، وظهرت البوادر الأولى لانتقامها المبيت في يوليه سنة 1933، في برلين حيث قتل السردار محمد عزيز خان أخو الملك نادر شاه وسفير أفغانستان في برلين، قتله طالب أفغاني من حزب (أفغان الفتاة) الذي يناصر سياسة الملك أمان الله، واتجهت الريب يومئذ إلى غلام صادق أخي غلام نبي الذي كان يشغل من قبل منصب سفير أفغانستان في برلين وعرضت أسرة غلام نبي في كابول بسبب هذا الحادث إلى مطاردات واضطهادات جديدة، وازداد الملك نادر شاه ريباً فيها وحذراً منها، وازدادت الأسرة ظمأ إلى الانتقام.
وكان الفتى عبد الخالق أثناء ذلك متصلاً بأسرة غلام نبي التي يعمل لديها أبوه، وكانت الأسرة تبث إلى كل من يتصل بها روح البغض لنادر شاه والنقمة عليه. وهنا تروي قصة غرام وانتقام خلاصتها أن الفتى عبد الخالق هام بحب سيدة رائعة الحسن من سيدات أسرة غلام نبي، وأنها شجعته وبادلته الهوى، وأغدقت عليه كل عطفها وحنانها، وكانت أبواب القصر تفتح لعبد الخالق صباح ومساء، ويلتف حوله سيدات الأسرة جميعاً، ويبذرن في نفسه المتيمة الهائمة ضرام البغض والنقمة، وكانت صاحبته الحسناء تملك عليه كل حسه وتفكيره، وتصور له المستقبل بديعاً فياضاً بالآمال الكبيرة، وذا قتل نادر شاه وعاد أمان الله، فأن أسرة تشركي تعود إلى سابق مجدها ونفوذها، ويغدو عبد الخالق وأسرته من ذوي النفوذ والغنى.
ولم تمض أشهر قلائل حتى نضج المشروع، ولم يبق على عبد الخالق إلا أن يتحين فرصة التنفيذ. وسنحت هذه الفرصة في اليوم الثامن من نوفمبر، وكان قد تقرر أن تقام في هذا
اليوم مباراة في الكرة بين فريق المدرسة الفرنسية الأفغانية، وفريق المدرسة الألمانية الأفغانية التي ينتمي عبد الخالق إلى طلبتها ويعمل عضواً في فريقها الرياضي. كذلك تقرر أن يرأس الملك نادر شاه الحفلة ويتولى توزيع الجوائز على الفائزين، وأقيمت المباراة في إحدى ساحات الحدائق الملكية في (أرج) في عصر هذا اليوم. وقصد الملك نادر شاه مع ولده ظاهر شاه وعدة من الأكابر إلى الخيمة الملكية لمشاهدة المباراة، وفي أثناء سيره خرج من صف الطلبة المجاور له طالب يرتدي ثياب اللعب، واقترب منه بسرعة ورفع يده وأطلق ثلاث رصاصات متواليات، فوضع الملك يده على قلبه وسقط صريعاً على الأثر، وكان هذا الطالب هو عبد الخالق. ووقع الحادث بسرعة مدهشة، وذهب دوي الرصاص في الضجيج والهواء فلم يفطن له أحد. وساد الهرج وقبض على المعتدي وتمت المأساة.
هكذا تروي العوامل والظروف التي دبر فيها مقتل المغفور له نادر شاه، وهكذا توصف الصورة التي تمت الجريمة وقد كان للحادث دوي عميق؛ وكان مدبرو الجريمة يؤملون على ما يظهر أن يحدث موت نادر شاه اضطرابا وقلاقل ينتهزها خصوم الملك القتيل لإضرام الثورة؛ وكانت بوادر الثورة تبدو في الجنوب منذ حين؛ ولكن السردار محمودوزير الحربية وأصغر أخوة الملك القتيل أبدى منتهى الحزم والسرعة في تلافي هذا الأثر، فلم تمض ساعة واحدة على مقتل نادر شاه حتى كان قد استدعى الوزراء والقادة والزعماء إلى القصر، ونادى في الحال بظاهر شاه ولد الملك نادر شاه الوحيد ملكا على أفغانستان مكان أبيه؛ وحياة الزعماء والقادة والضباط في الحال بلقب الجلالة. وقد أبدى السردار محمود في ذلك تضحية وحكمة سياسية بعيدة المدى، لأنه من حق اخوة الملك طبقا لقانون العرش الأفغاني أن يرثوا العرش؛ ولكن السردار محمود أدرك في الحال ما قد تثيره مسألة العرش بين أخوة الملك الثلاثة وبين المتطلعين إلى العرش من الاضطراب الخطر على سلام البلاد؛ وجاء رفع ظاهر شاه إلى العرش حاسماً لكل خلاف وجدل وفي الحال زج الفتى القاتل إلى قلعة القصر، ووجد معه على ما يقال صور الغادة الحسناء التي حرضته فقبض عليها، وقبض على كثيرين من أسرة غلام نبى رجالا ونساء وأطفالا، وقبض على كثيرين من زملاء عبد الخالق في المدرسة وعلى بعض المدرسين، بل وعلى وزير المعارف؛ وهبت على العاصمة الأفغانية ريح من الروع والرهبة؛ ومازالت أقبية
السجن الملكي غاصة بالمقبوض عليهم ولا يعلم حتى اليوم من زهق منهم ومن باق على قيد الحياة
وملك أفغانستان الجديد جلالة ظاهر شاه في العشرين من عمره وهو ولد نادر خان الوحيد، ولكن له أربع شقيقات هن بالتعاقب: الأميرة زهرة وهي في السابعة عشرة، والأميرة زينب وهي في الخامسة عشرة، والأميرة سلطانه وهي في الرابعة عشرة والأميرة بلقيس وهي في الثانية عشرة، وقد تلقى ظاهر شاه بعض تربيته في فرنسا، وأقام هنالك نحو ثمانية أعوام، وهو ذو آراء وتربية عصرية ويجيد اللغة الفرنسية فضلا عن الفارسية والأوربية (الهندية).
وقد كان منذ حين، أثناء حياة والده يتولى بعض الوزارات والمهام الرسمية طبقا للتقاليد أمراء الأسرة الملكية؛ وهو بعد الملك غازي، ملك العراق أحدث ملوك الشرق والغرب سنا.
وقد مضى إلى اليوم زهاء أربعة أشهر مذ تولي ظاهر شاه عرش أفغانستان دون أن نسمع بحدوث اضطرابات أو قلاقل جديدة، والظاهر أن حكومة الملك الجديدة تقبض على ناصية الموقف، وأن بوادر الثورة التي كانت على أهبة الانفجار قد أخمدت أو اختفت إلى حين وأن الشعب الأفغاني يؤيد القابضين اليوم على زمامه. وهكذا تتحطم آمال المتطلعين إلى العرش وفي مقدمتهم الملك السابق أمان الله مرة أخرى.
ونحن نغتبط إذ نرى أفغانستان تجوز أزمتها الخطيرة بمثل هذه السرعة، ونرجو أن تظل هذه الشقيقة الشرقية النابهة متمتعة بالاستقرار والسكينة، بعيدة عن كيد السياسة الأجنبية ومطامعها؟
محمد عبد الله عنان
من أحاديث القهوة:
في الحب. . .
. . . ولم تكن إلا سنة واحدة حتى تمزق ذلك الثوب. وبدت من ورائه امرأة كهذه المئات من النساء: نبصرهن كل يوم فلا نكاد نحس بهن ولا يهجن فينا شعوراً
وكيف تبدلت؟ ألم يكن يهيم بها ويراها جميلة فتانة؟
بلى. ولكنه كان يراها جميلة لأنه يحبها. والمرء - كما يقول ده كارت - يرى من يحب جميلا، ولا يحب من يراه جميلا، وإذا هو أحب امرءاً أسبغ عليه من خياله ثوبا يراه به أجمل الناس
- وذلك الحب المضطرم، الذي كان يخفق به قلبه في صدره. وبه تجري دماؤه في عروقه؟. . أليس عجيباً أنه قد مات؟ أليس لها هاتان العينان العميقتان كالبحر. الصافيان كأديم السماء. . أليس لها ذلك الجسم الأبيض الغض، أليس لها تلك الرشاقة الفاتنة، فكيف إذن يسلوها ويموت حبه إياها؟
- قد مات هذا الحب. لأنه لم يكن عذريا صافيا. وهي جميلة لا تزال، ولكنه شبع منها كما يشبع الإنسان من الطعام مهما لذ وطاب. ولو تنزه حبه عن مأرب الجسم، وعقد الصلة بين الأرواح لكتب له بالبقاء.
وكان الأستاذ صالح عاكفا على نار جيلة لا يتكلم، فرفع رأسه وقال:
- أي بقاء؟ أسمعت أن حبا كتب له البقاء، إن الحب يا صاحبي كالزهور العطرة ينعشك عطرها ويعجبك لونها ولكنها لا تعيش طويلا. ثم ما هو هذا الحب العذري الذي تتحدث عنه؟ انه لا يوجد إلا في مكانين: القاموس، وأدمغة أمثالك من الناس!
وأقبل على نار جيلته يصلحها ويدعو لها بجذوة من نار. ولم يلق بالا لجواب فوزي، فجذبه من طوقه وصاح به:
- إلا تسمع؟ أنت دائماً هكذا. . . تريد ان تتكلم ولا تتنازل للإصغاء.
فاصلح ثيابه باسما وقال له:
- ولماذا تريد أن أصغي إليك؟
- لأنك مخطئ. . . مخطئ. . . أريد أن أوضح لك الحقيقة.
- أشكرك، لا أريد أن توضح لي شيئا
بل ستسمع وأنفك راغم: إن من الحب حبا لا يفكر فيه الإنسان في شيء من اللذاذات الجسمية، بل ليس فيه مكان، فهو اتصال في الأرواح وتمازج، هو ان يفنى كل من المحبين في الآخر!
- شيء جميل. من أين تعلمت هذا؟ أمن شعر المجنون، أم من قصص لامارتين؟
- من أي كان؟. . ماذا يهمك أنت؟ لماذا تتهكم دائماً؟
- ذلك لان لامارتين نفسه كان من أجرأ الناس على اللذة الجسمية وأشدهم تهالكا عليها، وما كتب قصصه بهذا الأسلوب الفاتن الممتع! إلا ليسخر منك ومن أمثالك
- أنا عرفت هذا الحب بنفسي
- وأنا أيضا قد عرفته، انه حب لا تجد فيه الرغبة الجنسية سبيلا إلى الظهور فتبقى مخبوءة في قرارة النفس، حتى إذا اتسع السبيل ظهرت على أتمها، ولو انه كان خاليا منها لأحب الرجل أخته الجميلة!
- شيء فظيع. . . إن طبيعة الإنسان تأباه
- نعم تأباه لان الطبيعة تفهم الحب على انه لون من ألوان الصلة الجنسية، بل هو المخدر الذي ابتدعته الحياة لتمام هذه (العملية) اللازمة لبقاء الجنس البشري. ثم. . . تصور فتاة جميلة تحبها حباً عذرياً. . هل تصورتها تماما
- نعم.
- وتصورت انك تحبها لنفسها لا لجسمها، ولا تطمع منها إلا بهذه الصلة الروحية؟
- نعم.
- وانك ستقيم على هذا الحب؟
- نعم. . وماذا بعد؟
- تصورها الآن وقد أصابها مرض عضال، بدد محاسنها، وبتر أعضاءها. وجعلها قطعة من اللحم المنتن، هل تبقى على حبها؟
- نعم، إنني أشفق عليها وأحميها
فضحك الأستاذ صالح وقال:
- ها أنت قد اعترفت. . إن الشفقة شيء غير الحب. . أرأيت كيف اتضحت الحقيقة؟
وأراد فوزي وقف الجدال فقال:
وصديقنا جميل. . . ماذا فعل بعد ذلك؟ قد أضعت علينا قصته.
أعاد إلى زوجته الجاهلة القذرة التي تلقاه وعلى يديها أثر الصابون وفي ثيابها رائحة البطيخ؟. . كيف يطمئن إليها، ويأنس بها بعد أن عرف لويزا؟
فقال صالح:
- إن يكون للويزا جمال الأصباغ والعطور - والثياب الشفافة - والأعضاء العارية - فان لهذه الجاهلة القذرة، جمال الإخلاص والأصباغ والعطور تهيج من نفوسنا مكان الشهوة، أما الإخلاص فيهيج منها مكان الروح
- ما هي الروح وما هي الشهوة؟. . إني لم افهم! أتريد أن تقول إن هذه المرأة التي لا تعرف كيف تتحدث إلى صديقنا جميل. ولا تدري كيف تسايره في شارع أو تصحبه إلى سينما، ولا تدرك أفكاره ونفسه، توائم روحه ويراها جميلة أكثر من لويزا؟. . مستحيل!
- قد تكون دونها جمالا ورشاقة، ولكنها امرأة شرقية تفنى في زوجها: تعيش من أجله. وتقف حياتها على راحته وتسهر عليه لينام، وتحرم على نفسها الطيبات لتوفر عليه ماله، وإذا رأته محتاجا نزعت حليها من نحرها وأخذت لقمتها من فيها لتسد حاجته، وإذا مرض فدته بنفسها. وإذا أصابه مكروه طارت نفسها عليه شعاعا، ثم هي الراضية أبداً، القانعة بالقسط الأقل من حبه أو من ماله، أحب هذه العاهرة وانتزع المال من فم زوجته ليصبه على قدميها. ونال زوجه بالأذى من أجلها، فما شكت ولا حملت له كرها ولا حقدا، ثم هي تفرغ عليه من الإجلال ما يجعله معصوما عن الزلل والخطأ، أفتقيسها بتلك؟
- هاها. . إنها لا تصلح خادما. فليضح بها من أجل لويزا.
- إنها هي الزوجة يا سيدي
- وإذا كانت هي الزوجة؟ إن الحب الذي عقدته الطبيعة بين قلبيهما أوثق وأقدس من الزواج الذي عقده إنسان!
فألقى صالح أنبوبة النرجيلة من يده. وصاح به في شدة وغضب:
- أنا لا أستطيع أن اسمعهذه الآراء التي تنسف حياتنا من أساسها، وإذا هي صحت في
المجتمع الغربي، فما كانت لتصح عندنا، ومن الجنون أن نقيس عن الغرب كل ما يأتينا به، فنلبسه وهو ثوب فصل لغيرنا، فيجيء واسعا نضيع فيه، أو ضيقا يتمزق من دوننا. . إن الحب الذي تعقده يد الشهوة، ويعيش في جو مشبع بالرذيلة، ويولد في ليلة ليموت في أسبوع لا يمكن أن يكون أوثق ولا أقدس من الزواج الذي ينشئ إنساناً كاملاً من نصفي إنسان! وإذا جعلنا الحب أساس الحياة، لما عرف امرؤ اباه، ولما بقيت زوجة لزوجها؟ لأن القلوب تنقلب والمرأة التي تحبك اليوم قد تحب في غد غيرك، والقلب الذي يميل إليك قد يميل عنك، افنهدم الحياة يا سيدي من أجل خاطر هذه (المودة)،. . (مودة الحب)، ونقتل زوجاتنا الوطنيات الشريفات، أمهاتشعب المستقبل. من أجل خاطر هؤلاء (الارتستات) اللاتي يبعث بهن إلينا الغرب فيما يبعث به إلينا من سموم ومهلكات. . أليس خيرا لنا أن يقال انا رجعيون من أن نشهد بناتنا وأخواتنا عاريات على الشواطئ في الصيف، ونساءنا مهجورات باكيات في البيوت وفي الشتاء، وأبناءنا ناشئين بين الألم والرذيلة، والسفالة والشقاء؟
ألا إن الحب لذيذ ممتع، والمدنية ساحرة فاتنة، والتجديد ضروري واجب. . . ولكن يجب أولاً أن نحيا. . . . . وكان جميل قد وصل فانقطع هذا الحديث، وأخذوا في حديث آخر
دمشق
علي الطنطاوي ليسانسييه في الحقوق
محجر الطور
مقدمة
تستعد وزارة الداخلية في مثل هذه الأيام من كل سنة أي في موسم الحج لاستقبال الحجاج مصريين وأجانب عند عودتهم من البلاد المقدسة في الحجاز بعد تأدية فريضة الحج فتوفد موظفين مؤقتين يبلغ عددهم كثرة وقلة تبعاً لعدد الحجاج ولمدة العمل في محجر الطور، وتستغني عنهم عند الانتهاء من الغرض الذي من أجله توفدهم إليه، وتنتدب كذلك موظفين ملكيين وعسكريين للغرض نفسه يعودون إلى مقر وظائفهم عند نهاية الموسم.
الموظفون
يحيا المحجر وينتعش مدة الموسم وبعد ذلك يكاد يكون ساكنا لقلة الحركة فيه ويحييه الموظفون ثم الحجاج فيصبح مملوءاً بالسكان عامراً بالحركة والتجارة.
ويرأس الموظفين جميعاً مدير المحجر وهو موظف كبير بوزارة الداخلية ينتقل إليه في موسم الحج، وكان إلى سنة 1931 سعادة الأمير الاي محمد بك المسيري، والموظفون أما تابعون للإدارة نفسها وإما تابعون لمصلحة الصحة، ويدير هؤلاء طبيب كبير هو طبيب أول المحجر. والموظفون أما منتدبون كموظفي وزارة الداخلية ولأطباء وكضباط الجيش والبوليس وجنودهم، وإما معينون تعيينا مؤقتا يستغني عن خدمتهم بعد انتهاء الحج، والمفروض في جميع الموظفين انهم لراحة الحجاج وخدمتهم والسهر على سلامتهم وصحتهم
باخرة الحجاج
تمكنت من فحص البواخر التي كانت تنقل الحجاج عامي 1929 و 1931 وخرجت بنتيجة ثابتة هي أن معظم هذه البواخر لا يعتني أصحابها براحة الحجاج بالدرجة الثالثة بل انهم يعاملون فهيا معاملة خالية من روح العدل، فهم مكدسون في عنابرها تكديسا، وقل ان يدخلها ضوء الشمس فتنبعث منها راحة كريهة تكاد لا تحتمل يلاقون صعوبة كبيرة في الحصول على الماء العذب ولا يوجد في الباخرة كلها - وقد تحمل في بعض الأحيان الفي حاج - سوى طبيب واحد يهمل أغلب الأوقات الغرض الذي من أجله انتدبوه له وإني
كمصري مسلم أود أن يتلافى هذا النقص في بواخرنا الوطنية الجديدة
الاجرآت الأولية
إذا وصلت باخرة تحمل حجاجها إلى ميناء الطور يكون كل شيء معداً لاستقبالها ويقابل المدير ومساعدوه وكبير الأطباء ومساعدوه الباخرة وتفحص عموميا، حتى إذا لم يكن هناك ما يشتبه فيه من الأمراض المعدية سمح للحجاج بالنزول فينزلون ومعهم متاعهم، وتبقى الباخرة أن لم تكن عائدة إلى جدة ثلاثة أيام يقوم عمال الصحة خلالها بغسلها وتعقيمها، أما إذا وجد مريض أو أكثر فان رجال الإسعاف يحملونهم بعد أن يودعوا متاعهم وما لهم بيت المال إلى المستشفى، وغالبا يشفون إلا إذا كتب عليهم أن يتوفوا في هذا المكان.
المباخر
هي ثلاث مباخر، والمبخرة هي الصلة بني الاسكلة ونفس المحجر ولا يسمح لحاج ما أن تطأ قدمه أرض المحجر قبل أن يبخر وتعقم الأدوات التي معه والتي يرى رجال الصحة ضرورة تبخيرها، اللهم إلا في أحوال نادرة جداً يسمح فيها لبعض الحجاج من الطبقة الأولى إلا تجري له عملية التبخير ويأخذ الطبيب مسئولية ذلك على عاتقه
والحمامات التي يغتسل بها الحجاج في المباخر قسمان: أحدهما للرجال والآخر للنساء بطبيعة الحال، ويعطى لكل حاج رقماً يحمل مثله الكيس الذي به أدوات الحاج المراد تعقيمها حتى لا تختلط أدوات هذا بأدوات ذاك.
ويبدى المحجر اهتماماً خاصاً نحو ماء زمزم الذي يجلبه معه الحاج تبركا به له ولأهله الذين لم يسعدهم الحظ بالزيارة ويحمله في صفائح مقفلة أو في زجاجات أو أوان جلدية، وفي كثير من الأحيان يخبئه الحاج خوفاً من أن يعثر عليه رجال المحجر لأنهم يببدونه في الحال إن كان في زجاجات أو في جلد لتعذر تعقيمه عندئذ ويعقمون الصفائح
وكنت أدهش كثيراً عند ما أرى الحجاج المصريين يتمسكون بحيازة هذا الماء، وكنت أفهمهم انه كان سبب عدوى الكوليرا في مصر عاما ما، وقد زادت دهشتي عندما وجدت الحجاج الأجانب أشد تمسكا به يكادون يبذلون كل ما معهم من قوة في سبيل حيازته حتى لقد رأيت رجلا يبكي بكاء الثكلى عندما كسرت له زجاجات قذرة كان يحمل فيها هذا الماء،
وكم كان فرحه شديداً عندما أحضرت إليه زجاجات بدلها بها ماء من الصنبور على أنه ماء زمزم
الحزاء
الحزاء مكان يقضي فيه الحجاج أيام الحجر الصحي، وهي ثلاثة أيام في العادة، إلا إذا اشتبه في نظافة الحج، فان الأيام تزيد زيادة يقررها مجلس الإدارة. والحزاء يسع عدداً كبيراً، وهو مقسم إلى عنابر فسيحة ينزل كل عنبر في الغالب حجاج قرى متقاربة أو مراكز متجاورة، وبالحزاء غرفتان أو أكثر لحجاج الدرجة الأولى، يؤجر السرير فيها مدة الحجر بجنيه واحد، ويشرف على كل حزاء موظف من الداخلية وآخر من الصحة، الأول يراقب الحجاج ويراقف التاجر الذي يبيعهم الأشياء ويطعمهم، فيمنعه من الغش ومن بخس الميزان، ثم هو يسمع شكايتهم ويعمل على إرضائهم. والموظف الثاني يراقف نظافة الحزاء ويأخذ عينات من براز كل حاج لفحصها بالمعمل، ويصرف الأدوية ويبلغ عن المريض.
ولكل حزاء بوابة يحرسها جندي شاكى السلاح لا يسمح لأحد بالدخول إليه أو الخروج منه إلا للموظفين الذين يقومون بأعمال تستوجب دخوله أو الخروج منه، على أن يكون بيدهم تصريح خاص بذلك. وبالجملة فيجمع الحزاء كل أنواع الراحة التي يتطلبها الحاج حتى لينتقل إليه كل يوم في ساعة خاصة عاملا البريد والبرق لتوزيع الرسائل وإرسالها.
والحزاءات عشرة من خلفها عشرة أخرى هي بمثابة حزاءات احتياطية أقل تنظيماً من الأولى ينزل بها الحجاج إذا كثر عددهم فامتلأت بهم دون أن تسعهم جميعاً.
بيت المال والمستشفى
بيت المال اسم يطلق على مكتب أعد لحفظ أمتعة وأموال من توفى من الحجاج في الأحوال النادرة ومن يدخل منهم المستشفى بسبب المرض، فإذا كان المتاع لمتوفى قيد في سجل خاص وأعطى رقماً ليرد إلى ورثته بمعرفة القانون، ويحفظ متاع المرضى إلى أن يشفوا ويخرجوا فيعاد إليهم.
وتقع المستشفيات في طرف المحجر بعيدة عن الحركة والضوضاء، ولا يسمح إلا لسيارات
الإسعاف التي تحمل المرضى باجتياز خط المستشفيات حتى لا يقلق المرضى، ويبدي المحجر عناية بالغة بزائري المستشفيات يستحق عليها الشكر والجزيل، وهي أما عادية للمرضى العاديين، وأما خاصة بالأمراض المعدية الخطيرة وهذه لا يسمح بدخولها لغير المرضى إلا للطبيب الخاص ولمساعديه وهي بعيدة عن المستشفيات الأخرى تكاد تكون منقطعة عن كل ما عداها.
وفي حيز المستشفيات يقع المعمل وهو معد بأحدث أنواع الفحص الميكروسكوبي والبكتريولوجي وبأفران الزرع وعمل الأمصال وغير ذلك مما يحتاج إليه الحال كثيراً في هذا المكان، وفي الحقيقة إن في هذا المعمل وفي هذه المستشفيات لرحمة كبيرة للحجاج وطمأنينة وسلام لمصر والعالم الإسلامي لأنها تفحص الحجاج وتطمئن على سلامتهم وتعزل المصابين منهم إذا وجدوا وتكافح أمراضهم وتعمل على عدم نشر العدوى، ويدل على ذلك الاهتمام ان المعمل يفحص عينات برازية لكل حاج متى استقر في حزائه وقد تتكرر عملية الفحص مرتين أو أكثر للتأكد من نظافة الحج، ولا يقتصر غرض المستشفى على الحجاج - ولو أنه أنشئ من أجلهم. - ولكنه يتعداه أيضاً إلى من يمرض من الموظفين والجند والخدم.
توفير أسباب الراحة
الحاج وإن اشتد شوقه إلى أهله وبلده وعمله وكان يحلم بالطبل والزمر اللذين ينتظرانه في محطته أو في حيه، ويتخيل الوفود التي تأتي إليه متبركة به ويتصور أحباءه وهم يتقبلون منه هداياه من مسبحة وعقال وخاتم وملفعة وغير ذلك من صنع الحجاز ويود لو تحمله طائرة إلى مقره بعد المتاعب التي تحملها في الصحراوات والبحر والانتقال والسفر - يكون على رغم هذا كله مبتهجا في أيام الحجر الصحي، لان أسباب الراحة متوفرة له فهو مطمئن على نفسه من الوجهة الصحية، لان المحجر كفلها له، ومتاعه وماله في مأمن حريز، ومأكله وشرابه نظيفان يعتني رجال الإدارة والصحة بهما عناية فائقة. . متاعه يحمل إليه من غير أجر، ولو كان فقيرا لا يملك معه مالا فان ببيت المال يتكلف بإطعامه حتى يعود إلى وطنه، وكم من شكاوى تافهة يبلغها الحاج إلى المدير - وكان في السنتين اللتين كنت بالمحجر فيهما صاحب العزة المسيري بك - فكان يهتم عزته بها اهتماماً كبيراً
إرضاء للحاج وإراحة له
وفي المحجر آلة للإضاءة بالكهرباء وأخرى لتكرير المياه وعمل الثلج، وبه (مطعم) يديره متعهد يوقع على اتفاق بينه وبين المسئولين على تحديد الأثمان وجودة الأصناف وعدم استعمال الغش.
المحجر
محجر الطور لابد أن يكون من أشهر محاجر العالم، وموقعه صحي لأنه في وسط مساحة هائلة من الفضاء يهب عليه هواء الصحراء الجاف ونسيم البحر العليل، وله بوابتان رئيسيتان: إحداهما تصله ببلدة الطور والأخرى بتلال طور سيناء.
وغير ما ذكرت من أقسام المحجر أعدت فيه أبنية مريحة لسكنى الموظفين، ويصرف أمين المخزن لكل موظف الأدوات التي يحتاج إليها مدة العمل على أن تكون عارة يردها عند نهاية المأمورية.
وقد أعد لعمل المحجر زورقان بخاريان، وزوارق أخرى عادية وأكثر من سيارتين للركوب وعربات (اللوري) للنقل وسيارات الإسعاف.
وينتدب في كل موسم فصيلة من جنود الجيش على رأسهم ضابط عظيم برتبة البكباشي يحرسون المحجر بالمناوبة ويسهلون كثيراً من أعماله، هذا عدا ضابطين من البوليس يقومان بتحرير المحاضر وتحقيق الشكاوى.
ويقوم متعهد خاص بتوريد عدد من الخدم يكون هو مسؤولا عن سلوكهم لحمل أمتعة الحجاج ولنظافة أقسام المحجر ولخدمة الموظفين:
والأطباء يكفون العمل وهم بنسبة طبيب واحد لكل حزائين غير أطباء المستشفيات وغير طبيبة للسيدات.
والموظفون ينقسمون من حيث العمل أقساماً: فمنهم من يفرز أجوزة السفر وهي (الباسبورتات) ويوزعها على أصحابها بعد التوقيع اللازم عليها، ومنهم من يراقب أمتعة الحجاج حتى لا تختلط أو تفقد، ومنهم من يتولى خدمتهم مدة الحج في الحزاء وغير ذلك من الأعمال الكثيرة اللازمة.
عيون موسى
إذا خلا المحجر من الحجاج - وقد يخلو منهم مرة أو مرتين خلال الموسم - تفتح بواباته ويتصل من به ببلدة الطور حتى يحين ميعاد إغلاقه مرة أخرى عند ورود حجاج.
والطريق إلى عيون موسى طويل تتخلله كثبان رميلة ونباتات صحراوية تنتهي ببستان عظيم من أشجار النخيل والكروم يحيط به سور باللبن. وعيون موسى يحيط بها جدران وسقف يقولون ان الخديو إسماعيل أمر بإقامتها، وتصب العين ماءها الفاتر الشفاف الكبريتي في حوض مساحته متران ونصف متر مربعة، وهي كدير الطور من الأماكن التي يزورها بعض من السائحين والمسافرين.
عبد الرحمن فهمي
ليسانسييه في الآداب
فلسفة الكون عند إخوان الصفا
للأستاذ أديب عباسي
خلق الكون - خلق الإنسان - غاية الوجود - معنى البعث - العقاب الذاتي
في رأي الإخوان أن الكون وما فيه من أجرام وأفلاك سماوية وأحياء وكائنات أرضية مشتق جميعاً ومنبثق من الله، ولكنه انبثاق متسلسل غير مباشر، وأول ما انبثق منه هو العقل الكلي أو القوة الإلهية
المؤيدة للنفس الكلية، ثم النفس الكلية السارية في جميع الأجرام السماوية والأحياء الأرضية. وهذه النفس الكلية هي بطبيعة الأمر أحط من العقل الكلي، لأنها منبعثة منه، ولأن وجودها متوقف عليه. (ولهذه النفس الكلية قوتان ساريتان في جميع الأجسام: إحدى قوتيها علاَّمة، الأخرى فعَّالة. فهي بقوتها الفعالة تتم الأجسام وتكملها بما تنقش فيها من الصور والأشكال، وبالقوة العلامة تكمل ذاتها (أي النفس الكلية) بما يظهر من فضائلها من حد القوة الكامنة إلى حد الفعل).
ويرى إخوان الصفا أن ظهور الإنسان نتيجة لرغبة النفس الكلية في الحصول على المعرفة التامة التي هي من صفات العقل الكلي. ولهذا فان هذه النفس الكلية تنزل إلى الأرض وتنتشر على سطحها بهيئة أنفس جزئية. إلا أن هذه الأنفس لا يمكنها أن ترقى إلى مستوى العقل بدون معونته وإرشاده. ومن أجل هذا ينزل العقل إلى الأرض، فيساعد النفوس إذ يحل فيها ويظهر بهيئة العقول الإنسانية. بيد أنه لما كانت النفوس دائمة التغير كثيرة التحول وكان العقل ثابتاً لا يعتريه النقص أو يعتوره التغير أصبح العقل يحل في هذه الأنفس الجزئية حلولا متعاقبا. وهو عند هذا الحد من الحلول يدعى العقل الناطق. وهي الذي يرسل الأنبياء ويبعث الرسل ليؤدوا رسائله إلى العالم أما النفس الكلية فهي إذ تحل في الأجسام بشكل أنفس جزئية تأخذ على عاتقها تفسير ما عمى على الناس فهمه وغاب عنهم علمه من رسائل هؤلاء الأنبياء والرسل.
فإذا أحسنت هذه الأنفس الجزئية الاسترشاد بنور العقل وأفسح لها البقاء زمناً كافياً تنال فيه حظا وافياً من فنون الحكمة والتهذيب تضحي أهلا للاتحاد بالنفس الكلية. وإذا حمُ القضاء انطلقت هذه الأنفس من أجسادها (التي هي بمنزلة الرحم للجنين) وعند ذلك ترتقى إلى
الملأ الأعلى لتتحد بالنفس الكلية.
هذا هو معنى المعاد في نظر إخوان الصفا: وهو الاتحاد بالنفس الكلية ثم بالله في اليوم الأخير، ومن هنا أصبح مثل الحياة الأعلى للإخوان (التشبه بالإله بحسب طاقة الإنسانية) على أن نظر إخوان الصفا إلى الحياة هذا النظر - نظر من لا يرى فيها إلا أنها سبيل أو جسر يمر عليه الناس إلى الحياة الأخرى - لم يحملهم على احتقارها أو التقليل من شانها والزراية عليها (لان الحياة الدنيوية سبب للموت. والإنسان ما لم يدخل في هذا العالم لا يمكنه أن يموت، فإذا وجد الإنسان تكون حياته سبباً لموته، وموته سبباً لحياته الباقية أبد الآبدين) بل هم يرون أنه كلما مد في أجل المرء ازداد حكمة ومعرفة، وبالتالي دنوا من الله. ومن هنا لم يتشدد إخوان الصفا ولم يغالوا في الأنحاء على الجسم الإنساني والانتقاص من أسباب متعته مغايرين في هذا لفيفا كبيراً من المذاهب الشرقية التي جعلت دأبها حرمان الجسم الإنساني من كل لذة جمسانية أو متعتة حسية.
والصورة التي خلفها لنا إخوان الصفا عن جهنم هي صورة هينة لا تبعث الرعب في النفوس ولا ترعد لها الفرائص، فجهنم الإخوان هي هذا العذاب النفسي الذي يسلط على النفوس لدن يحال بينها وبين ما تهوى وتحب. وذلك أن أنفس الأشرار (إذا فارقت أجسادها بقيت مسلوبة آلات الحس الخمس التي كانت تتناول بها الملاذ الجسمانية وصارت بعد ذلك ممنوعة عنها بعد ما اعتادتها بطول التدريب وعند ذلك يكون مثلها مثل من سملت عيناه وصمت أذناه وسد منخراه وأخرس لسانه وشلت يداه واشتد شوقه إلى لذاته، وهكذا يكون حكم نفوس الكفار إذا فارقت أجسادها وسلبت منها آلات الحس وحيل بينها وبين شهواتها. . وتكون هائمة في الجو دون فلك القمر (المسافة بين فلك القمر ومركز الأرض هي عندهم منطقة جهنم) وتطرح بها أمواج الطبيعة في بحر الهيولى إلى كل فج عميق وهي مشتعلة فيها بنيران شهواتها، وتكون معذبة بذاتها من وزر سيآتها وسوء عاداتها.
هذا مجمل رأي الإخوان في مسائل الخلق وغاية الوجود والثواب والعقاب وهو رأي نحوا فيها منحى بعض المذاهب الفلسفية القديمة كالأفلاطونية الحديثة ومذهب وحدة الوجود وما إليها مما تأثر به فلاسفة الإسلام وظهر واضحا جليا في كثير مما كتبوا ودونوا.
شرق الأردن
أديب عباسي
استدراك
في خاتمة حياة حجاج الخضري
تساءلت في خاتمة مقالي السالف عن (حجاج الخضري) عما آل إليه أمر هذا البطل المصري أقتل انتقاماً من كبريائه، ام هاجر إلى بلد غير مصر؟ وقد تفضل العلامة المفضل الاستاذ شفيق غربال فأرسل إليَّ ما جاء في تاريخ الجبرتي خاصا بخاتمة حياة ذلك الرجل في حوادث رمضان سنة 1232 من الهجرة.
فقال الجبرتي: (في ليلة الخميس 17 منه (أي رمضان) طلب المحتسب حجاج الخضري الشهير بنواحي الرميلة فأخذه إلى الجمالية وشنقه على السبيل المجاور لحارة المبيضة، وذلك في سادس ساعة من الليل وقت السحور وتركوه معلقا لمثلها من الليلة، ثم أذن بدفنه فأخذه أهله ودفنوه. وحجاج هو الذي تقدم ذكره غير مرة (وهنا ذكر بعض حوادثه) ثم حضر إلى مصر بأمان ولم يزل على حالته في هدوء وسكون ولم يؤخذ في ذلك بجرم فعله يوجب شنقه بل قتل مظلوما لحقد سابق وزجرا لغيره)
وقد بادرت بإرسال هذا التحقيق شاكراً للأستاذ غربال بحثه وفضله معيداً ترحمى على ذلك البطل المصري الشهيد؟
محمد فريد أبو حديد
حوار الفلاسفة
للأستاذ زكي نجيب محمود
ومن أحق من الفلاسفة بالبعث العاجل والنشور السريع؟ وهل تظن أن تلك القبور الضيقة المقفرة تستطيع أن تضم في جوفها هذى العوالم الفسيحة العامرة حينا طويلا من الدهر؟ أفتظن أن تلك الأجداث الشرهة التي لا تنفك فاغرة الأفواه تلتهم الفريسة تلو الفريسة بقادرة على سحق هذي العقول الجبارة، وأثارتها نقعا تسفيه الريح مع الهباء؟ أم كنت تحسب أنهم بشر كالذي عهدت من بشر؟ كلا! فاولئك الفلاسفة جبابرة عتاة، لا تكاد تتلقاهم يد الموت حتى تسلهم إلى حياة الخلود والبقاء، وعندئذ يلتئم الصدع الذي ضربه الدهر بينهم، فتأتلف منهم القلوب وتمتزج النفوس، كأنما دفعهم الله إلى الوجود كتلة واحدة منذ الأزل، فنثرتها يد الدنيا وفرقت أجزاءها على تعاقب الدهور، ثم عادت اليوم سيرتها الأولى، وحدة متحابة مآخية.
ولست بهذا الحديث أفترى منكراً من القول: إنما أقص عليك حديثاً تحدر من الشفاه واهتزت به الآذان فأسوقه إليك كما وقع:
هناك في الملأ الأعلى، انعقدت طائفة من الفلاسفة بالأمس القريب، ولم يكد جمعهم يستوي فوق الأرائك، حتى نهض من الحضور أقدمهم عهدا بدار الخلود - سقراط - وأخذ يشير بيمناه إلى الجلوس واحداً فواحدا، في تؤدة هادئة رزينة، فيعرفهم بأسمائهم التي أطلقت عليهم في دار الفناء، ولم يكن ذلك تعريفاً لهم بمجهول فهم عصبة واحدة منذ الأزل، ولكن خشية أن تكون شواغل الأرض قد محت سالف الذكرى:
هذا سبينوزا صاحب وحدة الوجود، وهذا ليبنتز الذي كان للناس بشيرا بما في الكون من خير، وهذا فولتير عظيم الساخرين، وهذا روسو نصير الطبيعة. وهذا شوبنهور صاحب إرادة الحياة. وذلك نيتشه صاحب أرادة القوة. . . فتباسم الفلاسفة، وأجالوا الأنظار لكي تتعرف الوجوه. أما ليبنز، فقد ثبت بصره في فولتير، وأخذ يحدق به في شيء من القلق، ما لبثا أن التقت منهما النظرات، فأرسلها فولتير ضحكة رقيقة وقال:
- فولتير - أراك يا عزيزي قلقا نابيا، لا بطمئن بك المكان ولا تطمئن إليه؟
ليبنتز - كلا! بل أنا موفق مجدود، إذ ضمني وإياك مجلس واحد، فما زلت أتمنى ذلك
وأرجوه، مذ جاءني نبأك، وعلمت عنك تلك الطعنات الدامية التي صوبتها نحو رأيي في العالم وخيره
فولتير - أوه! لقد أنسيت كل شيء. . وكأنما أذكر الآن حلما مبهما يجول في حنايا الرأس. . . ها هوذا ينجلي ويتضح. . . لقد ذكرت! فأنت الذي زعمت يوما أن تلك الحياة الفانية مفعمة بالخير مترعة بالآلاء والنعم، وأنه لم يكن في الإمكان أبدع مما كان!. .
هذا كثير - لعمر الحق - أن يقال في عالم سداه الشر ولحمته البؤس والشقاء!
ليبنتز - أليس الله، وهو رب الكون وخالقه، حكيما عميق الحكمة، خيرا واسع الخير؟ وصور لنفسك هذه الحكمة المطلقة فقد تآزرت مع ذلك الخير الأسمى في خلق العالم ثم حدثني كيف يكون. أليس من المحقق أن يجيء العوالم؟ هذا حق لا ريب فيه، لأن الله تعالى يصدر عن منطق مستقيم يتفق مع كماله ولابد لذلك المنطق الكامل إن ينتج عالما أدنى ما يكون إلى الكمال لأنه إذا خلق عالما دون المستطاع، كان في عمله ما يمكن تهذيبه واصلاحه، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
فولتير - أما أن في العالم شرا فحقيقة فوق الجدل، وإذن فاختر لنفسك واحدا من اثنين لا ثالث لهما. إما أن يكون الله قادراً على ان يرفع عن العالم السوء والشر ولكنه لا يريد، وإما انه يريد ولا يستطيع، وكلا الفرضين شر من أخيه! لك أن تقول عن العالم ما تشاء؛ أم أنا فقد كنت في تلك الحياة الدنيا شقيا بائسا، قرحت كبدي الكوارث، وكلم فؤادي العنا والألم، ومع ذلك فقد كان لزاما عليَّ ان أحيا!! وأحسب أنني لم انفرد بذلك العبء الثقيل، فلست أشك في أن الأحياء جميعاً قد عانت من الشر ما عانيت. . تذكر يا عزيزي ليبنتز ذلك العقاب الكاسر، وهو ينقض على فريسته الوديعة المطمئنة، فينهشها بمنقاره المرهف العاتي، وعبثا ترتعش منها الفرائص وترتجف الأعضاء، وعبثا تصيح، فصيحات الغوث ذاهبة في الفضاء والعقاب ماض لا يحول نابا ولا ينزع مخلبا، وعندئذ هبط على العقاب نسر جارح مزق منه الأشلاء ونثر الدماء، وأخذ يلتهم طعامه هنيئا ولولا أن صائدا من الأنس قد كمن له في الغاب، وما هي إلا لحظة حتى أرسل إليه قوسا كانت تحمل حتفه سهمها، فلما ان جاء ذلك الإنسان الظافر إلى حومة الوغى، ودارت رحى الحرب، داهمه الردى، فانقلب صريعاً يسبح في لجة من الدماء البشرية فيرطم جسدا هنا وشلوا هناك!!
وتدور عجلة الدهر فإذا الإنسان الشامخ بأنفه قد بات طعاما تتخطفه العقبان والنسور!! تلك هي أسطورة الحياة يا عزيزي.
حلقات متلاحقات من عذاب مر أليم، تنتهي بالحياة إلى الموت والفناء. . مأساة ترتعد من هولها الفرائص، وتطير منها النفوس شعاعاً، أفتزعم بعد هذا أن شقاء الفرد سبيل إلى سعادة المجموع وتصيح بصوتك المرتعش المتهدج ان ليس في الأماكن أبدع مما كان؟ لعمري انك لفي ضلال بعيد، إلا أن الكون بأسره لينهض الآن لسانا ناطقا بإنكار ما تقول، بل لكأني ألمح قلبك الذي تحمله بين جنبيك، ينبض في ثورة وجموح ليرد ما يفيض به رأسك من خداع. أليس من سخرية الدهر وعبث القدر ان تكون الحياة لغزا مغلقا من دون البشر، وأن يكون الإنسان وهو صاحب الدار دخلا لا يعلم من أمرها شيئا، فلا يدري أني جاءت به الحياة، ولا أين يذهب به الموت؟ بارعاك الله! لله ما أمرك حياة تلك التي كتب علينا أن نحياها حينا من الدهر، وعجيب الأمر أن ترى من الأقوام الغافلين من تنطلق ألسنتهم بحديث السعادة والخير؟!.
عفواً أصدقائي، فإنما تحدثكم الآن ما أثخنته الحياة في نفسي من جراح دامية لم تزل عندي عميقة الأثر قوية الذكرى.
سبينوزا - أي عزيزي فولتير! هون على نفسك الامر، فليس الفرد إلا جزءاً من كل عظيم، وانك لتبتغي شططا إذا أردت أن يصغي الوجود بأسره إلى صالح الأفراد، وهي متنازعة متنافرة. ان في ذلك لشراً وفوضى. فلست أرى في الكون إلا قانونا خالداً وصوراً فانية، وحسبه دقة وكمالا أن يسير ذلك القانون في استقامة لا التواء فيها ولا شذوذ، أما هذه الصور المادية الزائلة التي تروح وتغدو، فلا يضير الكون في كثير أو قليل أن تشعر بألم أو سعادة! وهل تستطيع أن تحدثني عن الشر والخير ما هما؟ انهما لفظان قد اصطلح عليهما البشر، وليس لهما في عالم الحقيقة وجود. . .
خذ قلماً وقرطاسا، وارسم طائفة من المثلثات المختلفة نوعا وحجما ثم امح منها ما تريد، وارسم سواها أو لا ترسم شيئاً، والبث هكذا ساعة من زمانك، غير في أوضاعها وبدل في أشكالها ليكون لك في النهاية زخرف جميل. . . هب تلك المثلثات كائنات شاعره يتعاورها السرور والألم، وأنك علمت أن واحداً منها غاضب لأنه جاء من الزخرف في مكان
منحرف، وان ثانياً بائس مسكين لأنه لا يتمتع بأضلاعه الثلاثةتامة كاملة، وثالثاً يعاني مرارا الألم لان الممحاة قد أتت عليه فأزالته من الوجود. . . فماذا أنت قائل إزاء تلك الأهواء المتنازعة؟ انك لن تفهم لها معنى، لأنك تنظر بمنظار اخر أعم وأشمل.
نيتشه - أؤيد سبينوزا فيما يقول، ولست أفهم هذا التفريق بين الخير والشر، فكلاهما خير للبشر، ولو لم يكن الشر خيراً لما صمد في معترك التنازع على البقاء، بل محى من الوجود منذ أمد بعيد.
فولتير (يضحك) - هل أتاكم حديث الواقعة التي نزلت بلشبونة، إذ زلزلت الأرض زلزالها فأردت ثلاثين ألفا من رجالها؟ ويأبى القدر إلا أن يمعن في السخرية، فيجمع عدة من هذه الألوف بين جدران بيت من بيوت الله، فينقض على البؤساء ذلك البناء المقدس وهم يؤدون الصلاة!! ثم يعلن القساوسة في جرأة وقحة بأن الكارثة إنما جاءت جزاء وفاقا لما قدمت أيديهم من ذنبوب!!!
روسو - وهل تريد ان تلقى التبعة على غير الإنسان؟ فلو هجر المنازل وطلق المدن إلى حيث الطبيعة الطلقة الطاهرة، لما تهدمت فوق رؤوسهم جدران ولا ركمت سقوف!
فولتير - هل جاءك يا عزيزي روسو نبأ الفتى كانديد؟
ذلك الصبي الألماني الذي لبث يأخذ العلم عن أستاذ فيلسوف؟ لقد أبى الدهر عليهما حياة هادئة، فأرسل عليهما المصاب في اثر المصاب حتى اضطر إلى الرحيل إلى لشبونة، وكأنما أراد الدهر إلا يغمض عنهما جفنا، فكانت تلك المأساة المروعة التي حصدت الأحياء حصداً بالألوف؛ ولكن الفتى وأستاذه قد أفلتا من يد الموت، والتقيا في فزع ورعب، وبيناهما في سمر الحديث، يرويان ما صادفا من هول، إذا بامرأة عجوز تجيء إليهما من أقصى المدينة، فنقص عليهما ما لاقته من هول تشيب له ناصية الطفل الرضيع، (ولقد حدثتني النفس مائة مرة بان ألقى عبء الحياة عن كاهلي، ولكن على الرغم من ذلك قد أحببت الحياة!!. . .)
تبت يدا الإنسان، إنه لفي ضلال مبين، أترون كيف ينوء تحت أثقال الحياة، ثم يقبل راضيا أن يظل ذلك العبء فوق كاهله، مع انه يستطيع أن يلثقه إلى الأرض بعزمة واحدة؟! ولأعد بكم إلى حديث الفتى كانديدن فقد أرهقته محاكم التفتيش، ففر هاربا إلى
بارجواي بأفريقيا، ولم يكد يجوس خلال أرضها حتى أبصر - ويا لهول ما أبصر! - أبصر رجلا يضم أعواد القصب مرغما، وهو يئن من فداحة الألم، كان يعمل مبتور الساق والذراع، ولابد أن يعمل في جد وإلا فضربات السياط - سياط الشركة الأوربية التي تستغله وتستذله - مسلطة فوق ظهره، ولا يدثره غير أسمال قذرة بالية. . . وهكذا كان كانديد، كلما قلب صفحة من كتاب الدهر ألفاها مترعة بالعناء والأذى، وما أحسب الجدران والسقوف قد اقترفت من ذلك العدوان شيئا.
ليبنتز - ومن ذا الذي يود أن يعيش في علم لا ألم فيه ولا عناء؟ أليست المرارة القليلة ألذ مذاقاً وأشهى طعاما من السكر الحلو؟ وهل الشر إلا سبيل للخير؟ فلعلك لو علمت مبعث الشر لخففت من هذه الغلواء، فقد خلق الإنسان مغلولا بطائفة من أصفاد المادة، ولكنه فطر على أن يجاهد في تحطيمها ما استطاع ليصل إلى مرتبة الكمال، ومبعث الشر جميعا هو ذلك الجهاد العنيف الشاق الذي يبذله الإنسان في هذه السبيل، وإذن فليس الشر مقصوداً لذاته، وإنما هو سلم للصعود إلى الكمال.
شوبنهور - لست أرى إلا أن الإنسانية مدفوعة أمام إرادة الحياة دفع الخراف، ولقد زودتها بجعبة من الرغبات تلهب ظهرها وتستحثها على السعي كلما أبطأ بها المسير، وفي تلك الرغبات سم الإنسان الزعاف، لأنه كلما حقق واحدة قامت في سبيله عشرات، والحياة لا تمنحنا أمنية إلا كما يلقى الجواد بإحسانه إلى السائل المحروم، فهو يضر كثيرا ولا ينفع قتيلا، لأنه يطيل في أجل بؤسه يوما آخر. . سر أنى شئت تجد بين الأحياء تنازعا وتنافرا، حرب ضروس وقتال طاحن، وفيم الحرب والقتال؟ لكي يقيموا حياة كلها تعب وشقاء أمدا قصيرا من الدهر. فلو أننا أدركنا رجحان العناء على الجزاء، لعلمنا كم نبذل الثمن باهظا لقاء أنفاس معدودات! الحياة هي الشقاء والشقاء هو الحياة، وجدير بك - أي عزيزي ليبنتز - أن تنقح من عبارتك بحيث تكون:(ليس في الإمكان أسوأ مما كان) لقد كان خيرا لنا ألف مرة إلا تكون! ومن ذا يحدثني عن مهزلة الحياة: فيم بقاؤها وما غرضها؟ ولشد ما يدهشني على الرغم من ذلك أن أرى الكائنات بأسرها تتشبث بالحياة، وتبذل في حراستها كل ما تستطيع، كأنما هي ذخر ذو غناء! إلا من يحدث الناس عني أن يكتموا الأنفاس دفعة واحدة لكي يردوا للحياة كيدا بكيد؟
تقدمت من سقراط في بصر خافض وأدب خاشع، وسألته أن أطلع قراء الرسالة على حديثهم ذلك، فخشي أن ينسب القراء إلى كاتبه بعضه أو كله، فطمأنته بأن القراء في مصر على كثير من الذكاء
زكي نجيب محمود
فرعون حزين!
للأديب حسين شوقي
كنا نظن أن الآلهة ينعمون بالسعادة الكاملة، ولكننا مخطئون لأن فرعون حزين برغم أصله السماوي. . أجل فرعون حزين، لهذا خرج إلى السطح الكبير يستنشق نسيم الليل العليل ويلقي نظرة على السماء التي أخذت تتلألأ أمامه، وقد بدت نجومها تشاهد الملك العظيم الذي ملأ صيته أنحاء العالم ببأسه وجبروته. . ثم أخذت النجوم تتساءل: لماذا كان فرعون حزيناً؟ لماذا؟ أليس قادراً على كل شيء، ألم يشد لنفسه بالأمس رمسا فخما متينا يضمن له الحياة الثانية التي سيكون فيها كذلك عاهلا كبيرا لقرابته الوثيقة بالآلهة آمون وهوروس وشركائهما؟ لماذا إذن كان الملك حزيناً؟ قالت إحداهن متفلسفة: لأنه لم يعرف الحب؛ فتساءلت أخرى: وهل الحب على هذا القدر من الخطر؟ فأجابت الأولى: أجل! هو سر الوجود لذلك العالم الأزلي وتعزية أهله. . ولكنها لم تتم كلامها لأن نجما آخر قاطعها قائلا: وما صورة الحب! وما مادته قالت: ليست له صورة، وما هو بمادة. . لحسن حظ البشر، لأنه لو كان مادة لاكتنزه الناس كالذهب من زمان بعيد في خزائن بنك فرنسا أو بنك الاحتياطي الأمريكي. .
أجل! فرعون كان حزيناً لأنه لم يعرف الحب! لقد صدقت تلك النجمة في زعمها، لأن علاقته بمن حوله من الناس لم تكن إلا علاقة رسمية، بل كانت علاقة السيد بالخادم، أستغفر الله! بل علاقة الإله بالعبد! ما زوجه الملكة فهو يجلها ويقدرها ولكن لا يحبها لأن اقترانه بها فرض عليه فرضاً منذ الحادثة للدم الإلهي الذي يجري في عروقها. هي أيضاً. .
كم يود فرعون أن يجب! ولكن يحب من؟ انه يستعرض في مخيلته نساء القصر. . أجل! لقد وجد ضالته! سيحب تلك الجارية الآشورية الحسناء التي أرسلها إليه ملك أشور في جوار أخر - على سبيل الهدية تملقا لفرعون وطمعاً في كسب صداقته. . هي فتاة حسناء يذكر أنها لفتت أنظاره مرة وهو يجتاز إحدى ساحات القصر. . ولم يكد فرعون يدعوها حتى كانت الجارية بين يديه ساجدة ترتعد خوفا أمام العاهل الأكبر! ثم طلب منها فرعون أن تنهض من الأرض ففعلت وهي لا تعرف إن كانت في حلم أو في يقظة. . ثم تشجعت
ورفعت نظرها إلى ذلك الوجه العلوي الذي قلما وقعت عليه عين البشر انه وجه جميل ناعم (غير ما كانت تظنه). خلعت عليه سيماء النبل الموروث قرون طويلة من العز والسلطان. . ثم اقترب منها فرعون فوضع يده على شعرها الفاحم الجميل وحاول ان يبتسم، ولكن تقاطيع وجهه التي فقدت مرونتها من زمان طويل، منذ الطفولة خانته إذ كان وجهه قناعا أكثر منه وجهاً!
ثم حاول أن يقول لها كلمات عذبة رقيقة مغرية. . مما نسميه نحن معشر البشر غزلا، ولكنه لم يستطع، فقد عى لسانه! فما كان من فرعون أمام ذلك إلا إن أومأ إلى الجارية في بأس وقنوط لتنصرف موليا عنها وجهه. . وا أسفاه! ان فرعون لا يستطيع ان يحب، فالحب للبشر. . أما هو فهو اله عابس قلبه من الصوان الأصم
في محكمة التاريخ
قضية ابن العلقمي الوزير
للسيد مصطفى جواد
ذكر بعض أصحاب مؤيد الدين محمد بن أحمد بن العلقمي الأسدي الوزير أنه سمعه يوما ينشد من شعره:
كيف يرجى الصلاح من أمر قوم
…
ضيعوا الحزم فيه أي ضياع؟
فمطاع الكلام غير سديد
…
وسديد المقال غير مطاع
وقال شمس الدين محمد بن عبد الله الكوفي الواعظ في دولة المستعصم بالله:
يا عصبة الإسلام نوحوا واندبوا
…
أسفاً على ما حل بالمستعصم
دست الوزارة كان قبل زمانه
…
لابن الفرات فصار لابن العلقمي
وفي سنة (655) هـ (رحل السلطان هولاكو قان) من همذان نحو العراق، فلما اتصل ذلك بالخليفة المستعصم شاور وزيره مؤيد الدين ابن العلقمي في ما ينبغي فعله فأشار عليه ببذل الأموال وحملها إليه مع التحف الكثيرة والأشياء الغريبة والاعلاق النفيسة، فلما شرع في ذلك ثناه الدويدار الصغير وغيره، وقالوا له (ان غرض الوزير تدبير حاله مع السلطان هولاكو) فوافقهم واقتصر على انفاذ شيء يسير مع شرف الدين عبد الله بن الجحوزي فلما وصل إليه أنكر ذلك وأرسل إلى الخليفة يطلب إما الدويدار وإما سليمان شاه الايواني، وإما فلك الدين محمد بن الدويدار الكبير الدين الطبرسي فلم يفعل، وأرسل شرف الدين بن الجوزي أيضاً يعتذر عن ذلك، فسار السلطان حينئذ نحو بغداد)
قال عبد الرزاق بن الفوطي بعد سقوط بغداد في أيدي التتر (ثم دخل الخليفة المستعصم بغداد يوم الأحد رابع صفر ومعه جماعة من أمراء المغول وخواجه نصير الدين الطوسي وأخرج إليهم من الأموال والجواهر والحلي والزركش والثياب وأواني الذهب والفضة والاعلاق النفيسة جملة عظيمة، ثم عاد مع الجماعة إلى ظاهر سور بغداد بقية ذلك اليوم، فأمر السلطان هولاكو بقتله فقتل يوم الأربعاء رابع عشر صفر ولم يهرق دمه بل جعل في غرارة ورفس حتى مات ودفن وعفى أثر قبره
وسبب هذه القتلة أن بعض الناس المسموعي الكلمة الاقلاء العلم قال لهولاكو: لو أصاب الأرض قطرة من دم الخليفة لانقلبت الدنيا بأهلها، فجارى هولاكو هذه العقيدة وان لم يوقن
بها لوضوح بطلانها
ووضع المغول السيف في أهل بغداد يوم الاثنين خامس صفر سنة 656، وما زالوا في قتل ونهب وأسر وتعذيب الناس بأنواع العذاب، واستخراج الأموال منهم بأليم العقاب مدة أربعين يوماً، فقتلوا الرجال والنساء والصبيان والأطفال، فلم يبق من أهل بغداد ومن التجأ إليهم من أهل السواد إلا القليل، ماعدا النصارى فانهم عين لهم شحان حرسوا بيوتهم والتجأ إليهم خلق كثير من المسلمين فسلموا عندم، وكذلك دار الوزير مؤيد الدين بن العلقمي فانه سلم بها خلق كثير، ودار صاحب الديوان (ابن الدامغاني) ودار حاجب باب النوبى (ابن الدوامى) وما عدا هذه الأماكن فانه لم يسلم فيه أحد إلا من كان في القنى والآبار، وأحرق معظم بغداد وجامع الخليفة المعروف اليوم بجامع سوق الغزل وما يجاوره، واستولى الخراب على بغداد، وكانت القتلى في االدروب والأسواق كالتلول، ووقعت الأمطار عليهم ووطئتهم الخيول، فاستحالت صورهم وصاروا عبرة لمن يرى، ثم نودي بالأمان فخرج من تخلف وقد تغيرت ألوانهموذهلت عقولهم لما شاهدوا من الأهوال التي لا يعبر عنها بلسان وهم كالموتى إذا خرجوا من القبور يوم النشور، من الجوع والخوف والبرد، وضرورة الاستنباط توجب الرجوع فنقول: قال عبد الرزاق بن الفوطى (فلما كان اليوم الرابع عشر من المحرم خرج الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي إلى خدمة السلطان هولاكو في جماعة من مماليكه وأتباعه وكانوا ينهون الناس عن الرمي بالنشاب ويقولون: (سوف يقع الصلح إن شاء الله فلا تحاربوا) هذا وعساكر المغول يبالغون في الرمي. وعاد الوزير إلى بغداد يوم الأحد سابع عشر المحرم وقال للخليفة: (وقد تقدم السلطان هولاكو أن تخرج إليه، فأخرج ولده الأوسط أبا الفضل عبد الرحمن في الحال فلم يقتنع به، فخرج هو والوزير ثامن عشر المحرم ومعه جمع كثير فلما صاروا ظاهر السور منعوا أصحابه من الوصول معه وأفردوا له خيمة وأسكن بها)
وأمر هولاكو بإجاعة المستعصم، فلما اشتد عليه الجوع أمر أن يقدموا له جملة من الجواهر والحلي والأعلاق النفيسة في أواني الذهب والفضة التي أخذها من دار خلافته) فاستغرب الأمر وقال: قد علمتم أن هذا ليس مما يؤكل ولا يغني من جوع) فأرسل إليه هولاكو (لم لم تجند به الجنود ولم تدفع به عن نفسك فلات ساعة مندم) ولسرد أخبار الجنود نقول: قال
عبد الرزاق في حوادث سنة 640 ما صورته: (في شعبان حضر جماعة من المماليك الظاهرية والمستنصرية عند شرف الدين إقبال الشرابي للسلام عليه - على عادتهم - وطلبوا الزيادة في معايشهم وبالغوا في القول وألحوا في الطلب، فحرد عليهم وقال: (ما نزيدكم بمجرد قولكم بل نزيد منكم من نريد إذا أظهر خدمة يستحق بها ذلك) فنفروا وخرجوا على فورهم إلى ظاهر السور وتحالفوا على الاتفاق والتعاضد. . .)
وقال في حوادث سنة 649 (وفيها فارق كثير من الجند بغداد لانقطاع أرزاقهم ولحقوا ببلاد الشام) وقال في حوادث سنة 655 ما نصه (وكان الخليفة قد أهمل حال الجند ومنعهم أرزاقهم وأسقط أكثرهم من دساتير ديوان العرض فآلت أحوالهم إلى سؤال الناس وبذلك وجوههم في الطلب بالأسواق والجوامع ونظم الشعراء في ذلك الأشعار، فمما قاله المجد النشابي:
يا سائلي ولمحض الحق يرتاد
…
أصخ فعندي نشدان وإرشاد
واسمع فعندي روايات تحققها
…
دراية وأحاديث واسناد
فهم ذكى وقلب حازق يقظ
…
وخاطر لنفوذ النقد نقاد
عن فتية فتكوا بالدين وانتهكوا
…
حماه حملا برأي فيه إفساد
وكان خواجه نصير الدين محمد الفيلسوف الطوسي قد بعث - وهو في قوهستان - بقصيدة إلى المستعصم بالله يمدحه فيها ويطلب إليه الزلفى من دار خلافته، فاطلع عليها مؤيد الدين محمد بن العلقمي وأبقاها عنده وكتب إلى شمس الدين محتشم قوهستان من بلاد إيران يحذره ارتحال نصير الدين من بلاده مع احتياجه إليه في النجامة والتدبير، وإنما فعل ابن العلقمي ذلك خوفاً من ان يعرف المستعصم فضل نصير الدين الطوسي وعلمه فيستوزره مع كونهما شيعيين من فرقة واحدة، فوشى به هذا المحتشم إلى أمام الباطنية الإسماعيلية و (علاء الدين محمد بن الحسن الإسماعيلي) فاعتقله هذا في قلعة (ألموت) ولما فتح هولاكو هذه القلعة خرج نصير الدين وحضر بين يدي هولاكو فعظم موقعه في نفسه وأنعم عليه واستوزره وصار لأسرته شأن عظيم، وكان المنتظر من نصير الدين حين قدم بغداد مع هلاكو ان يبطش بابن العلقمي لإساءته إليه تحريضه عليه، ولكنه كان متعصبا للشيعة مغالياً في حبهم، حتى أنه أنقذ ابن العلقمي من الموت بأن رغب إلى هولاكو في العفو عنه،
ومن الحق أن ابن العلقمي لم يخن ولم يهن في خدمة المستعصم، فلما فتحت بغداد ورأى زوال الدولة العباسية ووزارتها من المحققات؛ سعى في تنجية نفسه من الموت وداره من التحريق ودار كتبه المحتوية على عشرة آلاف مجلد من النهب، فاستشفع بنصير الدين الطوسي إلى هولاكو وأوصل إليه كتاباً فيه (ملحمة) من ملاحم الشيعة تثبت صلاح أعماله ووجاهة فتحه لبغداد، فقد قال قطب الدين الحنفي (إن مجد الدين بن طاوس وسديد الدين يوسف بن المطهر الحلي أرسلا كتاباً إلى هولاكو على يد ابن العلقمي يروونه عن علي بن أبي طالب - رض - صورته (إذا جاءت العصابة التي لا خلاق لها لتخربن يا أم الظلمة ومسكن الجبابرة وأم البلايا، ويل لك يا بغداد وللدور العامرة التي لها أجنحة كالطواويس، تنماثين كما ينماث الملح في الماء. ويأتي بنو (قنطورا) مقدمهم جهوري الصوت لهم وجوه كالمجان المطارقة وخراطيم كخراطيم الفيلة لم يصل إلى بلدة إلا افتحها ولا إلى راية إلا نكسها، فلما وصل الكتاب إلى هولاكو أمر أن يترجم له، فلما قرأه أمر لهم بسهم الأمان وسلموا بذلك من القتل والنهب)
قال عبد الرزاق بن االفوطي بعد وقعة بغداد (وأما أهل الحلة والكوفة فانهم انتزحوا إلى البطائح بأولادهم وبما قدروا عليه من أموالهم وحضر أكابرهم من العلويين والفقهاء مع مجد الدين بن طاوس العلوي إلى حضرة السلطان هولاكو وسألوه حقن دمائهم فأجاب سؤالهم وعين لهم شحنة، فعادوا إلى بلادهم وأرسلوا إلى من في البطائح يعرفونهم ذلك، فحضورا بأهلهم وأموالهم وجمعوا مالا عظيما وحملوه إلى السلطان هلاكو فتصدق عليهم بنفوسهم، وكان أهل الكوفة والحلة والسيب يجلبون إلى بغداد الأطعمة فانتفع الناس بذلك، وكانوا يبتاعون بأثمانها الكتب النفيسة وصفر المطعم وعيره من الأثاث بأوهى قيمة فاستغنى بهذا الوجه خلق كثير منهم
ولو كان ابن العلقمي قد خان المستعصم ومالأ هولاكو عليه لخشى هولاكو غدره وخاف خيانته ولم يوله الوزارة الإقليمية فانه لما رحل عن بغداد عائداً إلى بلاده فوض أمرها إلى الأمير (علي بهادر) وجعله شحنة بها والى الوزير مؤيد الدين بن العلقمي وصاحب الديوان فخر الدين بن الدامغاني ونجم الدين أحمد بن عمران الباجسري ونجم الدين عبد الغني بن الدرنوس وشرف الدين العلوي المعروف بالطويل فتوفى ابن العلقمي بعد فتح بغداد بثلاثة
أشهر وذلك في مسهل جمادى الآخرة، فأمر هولاكو أن يكون أبنه عز الدين أبو الفضل وزيراً بعده
ولقائل أن يقول: إن الخيانة أنالته الوزارة الإقليمية فنقول له: قد قيل هذا، وزعم أن هولاكو قتله لخيانته، وقال له (إنا لا نأمنك وقد خنت خليفتك) ولقد كان هولاكو حذراً من الخونة مسارعاً إلى سفك الدماء، فهو إن لم يكن حرياً أن يقتله - على ظن خيانته فأنه يطرحه ويستذله فلا يوليه من ملكه شيئاً، وأن مؤرخا يبتدع قتل هولاكو لابن العلقمي لسهل عليه أن يخونه ويفجره ويسند إليه ما يشاء، ولكن الحق غير ذلك
ولى هولاكو تاج الدين بن الدرامى صدارة الأعمال الفراتية فتوفى في شهر ربيع الأول فجعل ابنه مجد الدين حسيناً عوضه وأقر أقضى القضاة نظام الدين عبد المنعم البندنيجى على رتبته وجعل لفخر الدين الدامغاني وزارة الإقليمية وجعل نجم الدين أحمد بن عمر ان المذكور ملكاً علىالأعمال الشرقية وهي الخالص وطريق خرسان والبدنيجين وأشركه مع ابن العلقمي وابن الدامغاني في الحكم فهل كل هؤلاء خونة غدرة؟ وقد يرد هذا القول بأن هولاكو لم يقتل هؤلاء الخونة لأن هوى الشعب فيهم، وضلعه معهم، فنقول: إنه قتل جماعة صبراً وهم من عظماء الشعب فيهم محيي الدين بن الجوزي الحنبلي أستاذ دار الخليفة وأبناه شرف الدين عبد الله وجمال الدين بن عبد الرحمن مؤلف مناقب بغداد وشيخ الشيوخ صدر الدين علي بن بالنيار وشرف الدين عبد الله بن أخيه وبهاء الدين داود بن المختار والنقيب شمس الدين علي بن مختار وشرف الدين محمد بن طاوس العلوي وتقي الدين عبد الرحمن بن الطبال وأكثر أمراء الترك
ومن اغرب سخرية المؤرخين أنهم أشكركوا في الخيانة تاج الدين أبا المعالي محمد بن الصلايا العلوي ناظر إربل، ولقد قال ابن الفوطي يذكر المتوفين من الأعيان بعد وقعة بغداد (وتوفى تاج الدين أبو المعالي محمد بن الصلايا العلوي ناظر إربل، قتل بحبل سياه كوه وكان قد قصد حضرة السلطان هولاكو بعد وقعة بغداد ليقر رحاله فأمر بقتله، وكان كريما جواداً فاضلا متدينا يبالغ في عقوبة من يفسد أو يشرب الخمر وليس عند المؤرخين دليل على خيانة ذلك الرجل العلوي الصالح واتهام ابن العلقمي - وان ورد في تاريخ ابن خلدون وفوات الوفيات وتاريخ أبي الفداء وغيرها - فان مصدره واحد هو سوء الظن به
والحقد عليه، حتى أن ابن الفوطي لما كتب الحوادث الجامعة قال (ذكر من توفى من الأعيان بعد الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي في جمادي الآخرة ببغداد وعمره ثلاث وستون سنة، كان عالماً فاضلا أديبا يحب العلماء ويسدي إليهم المعروف، وتوفى علم الدين أحمد أخوه بعده) ووجد في الحاشية تعليق على هذا القول صورته (إلا أن خيانته لمخدومه تدل على سوء أصله) فان كانت مؤلفات ابن الفوطي بقيت على التسويد - كما ذكر العماد الحنبلي في شذور الذهب - فيظهر لنا ان المؤلف قد أثرت في نفسه إشاعة تهمة ابن العلقمي فاستدركها على نفسه مع عدم اقتناعه بصحتها في أول التأليف وبقي هذا الاستدراك مشيراً إلى ضعف الاتهام وصعوبة أمره على الإفهام.
ولم تكن حملة هولاكو على بغداد إلا حملة صليبية شرقية، فقد ذكر ابن العبري أن المسيحية انتشرت بين المغول في القرن السابع للهجرة، وأن جنكيز خان قد أوحى إليه بمحاربة الدول المسلمة، وأن امرأة هولاكو مسيحية، ويتضح ذلك من كتاب هولاكو إلى الملك الناصر ونصه كما في مختصر الدول:
(يعلم الملك الناصر أننا نزلنا بغداد في سنة ست وخمسين وستمائة وفتحناها بسيف الله وأحضرنا مالكها وسألناه مسألتين فلم يجب لسؤالنا، فلذلك استوجب منا العذاب - كما قال في قرآنكم -: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وصان المال، فآل الدهر به إلى ما آل، واستبدل بالنقوش النفيسة، نقوشاً معدنية خسيسة، وكان ذلك ظاهر قوله تعالى: (ووجدوا ما عملوا حاضراً)، إننا قد بلغنا بقوة الله الإرادة، ونحن بمعونة الله في الزيادة، ولا شك أنا نحن جند الله في أرضه خلقنا وسلطنا على من حل عليهم غضبه، فليكن لكم في ما مضى معتبر، وبما ذكرناه وقلناه مزدجر. . فان أنتم أطعتم أمرنا وقبلتم شرطنا كان لكم مالنا وعليكم ما علينا. . . فالله عليكم يا ظالمون، هيئوا للبلايا جلباباً، وللرزايا أتراباً، فقد أعذر من أنذر، وأنصف من حذر، لأنكم أكلتم الحرام وحنثتم بالأيمان، وأظهرتم البدع واستحسنتم الفسق فأبشروا بالذل والهوان فاليوم تجدون ما كنتم تعملون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، لقد ثبت عندكم أننا كفرة، وثبت عندنا أنكم فجرة، وسلطنا عليكم من بيده مقاليد الأمور مقدرة، والأحكام مدبرة. . . فسارعوا إلينا برد الجواب بتة، قبل أن يأتيكم العذاب بغتة، وأنتم تعلمون)
ونقلنا في ما سبق من المقالة أن النصارى ببغداد سلموا من القتل والنهب والسلب وكل الأذى، وعين لهم أمراء من المغول يحرسون بيوتهم، وقال ابن الفوطي (وتقدم للجاثليق بسكنى دار علاء الدين الطبرسي الدويدار الكبير التي على شاطئ دجلة فسكنها ودق الناقوس على أعلاها واستولى على دار الفلك التي كانت رباطاً للنساء تجاه هذه الدار المذكورة، وعلى الرباط البشيري المجاور لها وهدم الكتابة التي كانت على البابين وكتب عوضها بالسرياني)
وقال في أخبار من عين في المراتب بعد الوقعة الهولاكية ببغداد (وعز الدين بن أبي الحديد كاتب السلة فلم تطل أيامه وتوفى، فرتب عوضه ابن الجمل النصراني) وعرض بهذه الغزوة الصليبية شمس الدين الكوفي إذ قال يرثي بني العباس:
ربع الهداية أضحى بعد بعدهم
…
معطلا ودم الإسلام منسفك
ومما زاد شراسة هولاكو على المستعصم أن أحد أبناء عمه من السلاطين وهو بركة خان، كان قبل وقعة بغداد قد أسلم وراسل الخليفة المستعصم وصادقه، فاشتدت العداوة بينه وبين هولاكو من جهة السياسة والملك، ومن جهة الإسلام والوثنية وحماية النصرانية، وكان بركة خان مستوياً على شمال ارمينية وشمال جبال القبق (قفقاسية)، فلما سمع بنكاية هولاكو جد في محاربته وشرد بجنوده في وقعات عدة، كانت عاقبة أخرهن ان مات هولاكو كمداً وأسفاً لانكسار جيوشه، وانتفع مماليك مصر بهذه العداوة.
القاهرة
مصطفى جواد
4 - ابن قلاقس
532 -
567هـ (1138 - 1122م)
(تتمة)
أما ما صادفه من ممدوحيه فهو السعة والرخاء والعطاء الجم، وان كنا لا نشك في انه قد أصابه الاخفاق أحياناً كثيرة مما دعاه إلى ان يقول:
فان ألمت بك الزرايا
…
أو قرعت بابك الخطوب
فجانب الناس وادع من لا
…
تكشف إلا به الكروب
من يسأل الناس يحرموه
…
وسائل الله لا يخيب
ولا نشك كذلك في أن الوشاة كثيراً ما كانوا يسعون بالإفساد بينه وبين الممدوحين، وكثيراً ما كان هو يتنصل من دعاويهم وأقاويلهم، ويحسن بها أن نورد قطعة صغيرة من نماذج شعره في المدح، قال:
وهنيئا له أبا القاسم الند
…
ب نهانى، فما أقول الهناتا
هو بحر وما يكدره الحا
…
سد إن بات فيه يلقى القذاتا
ساقني فضله فأسكنني الدو
…
ر وأسكنته أنا الابياتا
واقتسمنا، فكان عارض غيث
…
عشت في ظله وكنت النباتا
كرم ينجز العداة وسلطا
…
ن على رسمه يبذ العداتا
أما غزل شاعرنا فهو أقل شعره جودة وجمالاً: ذلك أنه قد تعمد فيه الإكثار من المحسنات اللفظية، مما دعا إلى غرابة الشعر واحتياجه إلى فهم وتثبت وروية، والغزل إن لم يكن معناه سريعاً إلى القلب يسبق لفظه إلى الفهم يصبح ثقيلاً على النفس ليس له حظ من جمال الشعر، فضلا عن أن المعاني التي كان يجيء بها معان صغيرة لا تحتاج إلى كل هذا التكلف، ويعد من أجمل ما قاله في الغزل قوله:
سددوها من القدود رماحا
…
وانتضوها من الجفون صفاحا
يالها حالة من السلم حالت
…
فاستحالت ولا كفاح كفاحا
صح إذ أذرت العيون دماء
…
أنهم أثخنوا القلوب جراحا
عجبا للجفون، وهي مراض
…
كيف تستأثر العيون الصحاحا
آه من موقف يود به المغ
…
رم لو مات قبله، فاستراحا
وجناح النوى تضم ظباء
…
لم تخف في دم الأسود جناحا
وهي تدلك على قصر باع شاعرنا في فن الغزل، وقد يكون ذلك راجعاً إلى أن عاطفته التي ينبعث منها الغزل كانت قفراء مجدبة، إذ هو ليس إلا رجل عمل وأسفار.
أما الوصف فهو كثير في شعره، وهو يصف لك ما رآه وشاهد في مصر وفي غيرها من تلك البلاد التي رحل اليها، ولقد كان للنيل ولمنارة الإسكندرية حظ في وصفه، وهناك منظر من طبيعة مصر قد رسمه شعرا يوم قال:
أنظر إلى الشمس فوق النيل غاربة
…
واعجب لما بعدها من حمرة الشفق
غابت وأبدت شعاعاً منه يخلفها
…
كأنما احترقت بالماء في الغرق
وفي الحق انه منظر يثير في النفس حب الجمال وحب الطبيعة. ذلك المنظر هو منظر غروب الشمس حيث تختفيي وراء الأفق تاركة وراءها حمرة الشفق بازغاً بعدها الهلال. كما كان لوصف أسفاره، ووصف ماركبه في تلك الأسفار حظ أي حظ في شعره، فوصف لنا الفرس، ووصف لنا السفينة، ووصف لنا ما كان يلاقيه في سفره، ولعل من أجمل ما قاله في الوصف تلك القصيدة التي يصف لنا فيها سفرة من أسفاره، ويحدثنا عن البحر وهدوئه ثم عصفه وارعاده، ثم يعطف على السفينة فيصفها، ثم على إخوانه فيتشوق إليهم، قال:
لو لم يحرم على الأيام انجادي
…
ما واصلت بين اتهامي وانجادي
طوراً أطير مع الحيتان في لجج
…
وتارة في الفيافي بين آساد
والناس كثر ولكن لا يقدر لي
…
إلا مصاحبة الملاح والحادي
أقلعت والبحر قد لانت شكائمه
…
جداً، وأقلع عن موج وإزباد
فعاد لا عاد ذا ربح مدمرة
…
كأنها أخت تلك الريح في عاد
ونحن في منزل يسرى بساكنه
…
فاسمع حديث مقيم داره غادي
لا يستقر لنا جنب بمضجعه
…
كأن حالاتنا حالات عباد
فكم يصعر خد غير منصعر
…
وكم يخر جبين غير سجاد. . . الخ
أما حين يحدثنا عن الطبيعة ويصفها فهو يشعرك أنه تلميذ لابن المعتز لكثرة تشبيهاته
وتضمين معانيه. وان شئت أن تتأكد من ذلك فاقرأ قوله:
سرت وجبين الجو بالطل يرشح
…
وثوب الغوادي بالبروق موشح
وفي طي أبراد النسيم خميلة
…
بأعطافها نور الربا يفتح
تضاحك في مسرى العواصف عارضاً
…
مدامعة في وجنة الروض تسفح
وتروي به كف الصبازند بارق
…
شرارته في فحمة الليل تقدح
تفرس منها البدر في متن أشقر
…
يلاعب عطفيه النسيم فيرمح
باقي أغراض الشعر التي طرقها قليلة، ولكنه في هجائه قصير موجع بالرغم من ندرة الهجاء في شعره، ورثاؤه قليل كذلك، وهو لا ينسى فيه المحسنات اللفظية والجمال البديعي، أما عتابه فقليل كذلك، وهو يشتد ويوجع فيه ثم يلين ويرق، بعد أن يكون قد أوجع، واسمعه يعاتب.
أقبل بوجهك إني عنك منصرف
…
فما أقول لسؤالي؟ وما أصف؟
خدعت فيَّ وغرتك الضراعة بي
…
ومال تيهاً بك الإعجاب والصلف
وكان من سيئاتي أنني أبداً
…
إليك في سائر الحالات أختلف
إلى أن قال:
أنت الكريم وقد قال الألى مثلا
…
إن الكرام إذا ما استعطفوا عطفوا
متى أقول: صباح لاح شارقة
…
فضم رحلك وارحل أيها السدف
تلك أهم أغراض الشعر التي طرقها ابن قلاقس
لم يعمر شاعرنا طويلا كما ذكرت، بل مات وهو في سن الخامسة والثلاثين، ويخيل إلى أن الهرم أصابه سريعاً حتى صح له أن يقول وهو في سن الثلاثين:
مدت إلى الأربعو
…
ن يداً وقد قهقرت عشرا
فكنت تراه في سن الثلاثين كأنه قد أوفى على الأربعين، ولعل الشيب قد لحقه سريعاً، فمضى يذم الشيب ويتحسر على فقد الشباب شأن كل شاب يريد أن يتمتع بالحياة فيلحقه الشيب، ويغير على لمته.
أحمد أحمد بدوي
المدرس المنتدب بثانوية نابلس
من طرائف الشعر
الضمير
قطعة اخرى من روائع الأستاذ أحمد الزين
// لا تسلني عن صاحبي ونصيري
…
لم أجد في الدهر غيرَ ضميري
صاحبٌ أمرُه لديَّ مطاعٌ
…
يا له من مصاحب وأمير
هو صوت السماء في عالمَ الأر
…
ض ورُوحٌ من اللَّطيف الخبير
وشعاعٌ تذوب تحت سناه
…
خدعُ العيش من رياءٍ وزور
هو سرُّ يحار في كنهْه اللبْ
…
بُ وتَعيا به قوَى التفكير
مبلغُ العلم أنه رُوحُ خير
…
باطنُ الشخص ظاهرُ التأثير
كلُّ حيٍّ عليه منه رقيبٌ
…
حَلَّ من قلبِه مكانَ الشعور
حلَّ حيث الأهواءُ تنزو إلى الاث
…
م وتهفو إلى مَهاوِي الشُّرور
جامحاتٍ أعيت على الدين كبحاً
…
رغمَ إنذارِها بسوء المصير
ثم صاح الضميرُ فيها نذيراً
…
فأصاخت إلى صياح النذير
هو رُوحٌ من الملائك يسمو
…
بسليل الثرى لعالَمِ نور
قد تولّت بالأنبياء عصورٌ
…
وهو باقٍ على توالي العصور
حافظاً في الزمان ما خلَّفوه
…
قائماً في الصدور بالتذكير
حاملا من شرائع الخير كتُبْا
…
قدِّسَتْ من صحائفٍ وسطور
ليس يعفو عن الهناة وإن ها
…
نت ملِحٌّ في اللّوم والتعذير
هو إن شئت كان جنّةَ خلدٍ
…
وإذا شئتَ كان نار السعير
عاجِلُ الشرِّ وهو يأمر بالخي
…
ر قديرٌ لم يعَفُ عفوَ القدير
فَتحَصَّنْ ما شئت منه فلا ين
…
جيك حِصنٌ من شره المستطير
هو مِثلُ القضاء يغشاك لا تُع
…
يه لو كنتَ في خوافي النسور
وتضرَّعْ بما تشاء فلن تجْ
…
ديَ نفعاً ضراعة المستجير
لا تحاولْ خداعه بالمعاذي
…
ر فليس المِسيءُ بالمعذور
لا تجادل في حُكمِه فهو حتم
…
لا يُردّ الذي قضى من أمور
لا يدارِي ولا يداجي صديقاً
…
ناقدٌ للأمور نقدَ بصير
مُرهَف الحِسِّ ليس يُعييه غيبٌ
…
يَسمع الهمسَ في حنايا الصدور
يبذلُ النصحَ لا يمنْ بما يُس
…
دي ولا يبتغي ثناَء شَكور
لم يَدَعنى إلى هوى النفس في الأم
…
ر ولم يَستعِن برأي مُشير
ليس لي دونه من الرأي إلا
…
ما يراه الهوى بعين الغرور
كم حَملتُ الآلام فيه وسخَط الن
…
اس حتى فقدتُ وُدَّ عشيري
ليس يزكو غَرسُ المودَّة في النا
…
س بغير النفاق والتغرير
لم يَدَعْ لي صدقُ المقال صديقاً
…
فلأعِشْ قانعاً بوُدِّ ضميري
أطلَّ من حرم الرؤيا فعزاني
مهداة إلى روح الدكتور أديب مظهر
للشاعر اللبناني بدوي الجبل
منازل الخلد لا أرباع لبنان
…
وفتنة السحر لا آيات فنان
جنان لبنان حسبي منك وارفة
…
فيها النديان من روح وريحان
شب النبيون في أفيائها وحبت
…
فيها خيالات إنجيل وقرآن
يغفو بها الفجر في أحضان مورقة
…
مديدة الظل سكرى الآس والبان
سقته من خمرها قبل الكرى عللا
…
فبعض أحلامه أحلام سكران
ودغدغته فللاغصان هينمة
…
كأنها بث غيران لغيران
وما تنبه حتى راعه وهج
…
والشمس حلى ربى خضر وأفنان
صحبت فيك شبابي والهوى ومنى
…
لعس الشفاء وظلا غير ضحيان
فأسبغى نعمة النسيان تغمرني
…
عسى يخفف من بلواى نسياني
أمسيت لا الصغر المعسول أسعدني
…
ولا الجنون جنون الحب واتاني
ألح بي السقم حتى لا يفارقني
…
وراح ينسج قبل الشيب أكفاني
عفىَّ على نزوات النفس جامحة
…
إلا اهتزاز خليع الحسن نشوان
وصبوة للعيون النجل هانئة
…
من الشباب بظل العاطف الحاني
يثير بي كل حسن فتنة وهوى
…
فما أمر بماء غير صديان
ويا ربى الحسن في لبنان هل عريت
…
مخضلة الدوح من ظل وأغصان
ومن لباناتى السكرى مصرعة
…
من الوانى بين أفياء وأفنان
ويا ربى الحسن هل من نفحة جميلة
…
شذا النهود لصادى القلب حران
وهل صباك نموم العطر ناقلة
…
بعدي أحاديث أذيال وأردان
ويا ربى الحسن في لبنان هل ثملت
…
بعدي الرياحين من صهباء نيسان
ويا ربى الحسن في لبنان ما انبسطت
…
يمنى الهجير على أفياء لبنان
مدى ظلالك يينعم في غلائلها
…
صرعى الردى من أحبائي وإخواني
النائمين بظل الأرز ينشدهم
…
رواية الدهر في نعمى سليمان
أما البلابل فلتؤنس قبورهم
…
من كل ثاكلة في الدوح مرنان
أعيذ بالحب والذكرى هوى نفر
…
بيض الوجوه من النعماء غران
قد صور الوحي ألوان النعيم على
…
مثال ما فيك من حسن وألوان
خيال ولدانه والحور منبعث
…
عن فيض سحرك في حور وولدان
وزاد فيها خلودا ما عنيت به
…
أشهى الأماني في حكم النهى الغاني
لا يعذب الوصل إلا أن يخامره
…
خوف المحبين من نأى وهجران
ولا هناء بنعمى لا تخاف لها
…
فقدا ولا تبتلى منها بحرمان
لو يعلمون هنات النفس ما خلعوا
…
قدس الخلود على نعمى وأحزان
فالنفس موحشة من رغبة وهوى
…
نعمى الجنان وبؤسى النار سيان
وأصبح الكون لغوا لا حياة به
…
من رغبة في مجاليه وغنيان
ما للخلود وما للحسن يزعمه
…
هيهات عرى من حسن وإتقان
يضفى الجمال علىالايام مقتدرا
…
من (التحول) ذو عز وسلطان
عنى له الكون مأخوذا بفتنته
…
من أنجم ومكانات وأزمان
وعاطفات وأرواح وأخيلة
…
تغزو الوجود وآراء وأديان
وربما فقهت من أمره عجبا
…
قبل الهداة عصا موسى بن عمران
كفرت بالروح بعد الريب آونة
…
وكان زلفى إلى نجواه كفرانى
ورحت أعبده بالحان مجتليا
…
آيات قدرته في خمرة الحان
وقرب القوم ما شاءوا لمذبحه
…
فما تقبل منهم غير قربانى
أعلنت حين أسروا أمرهم فرقا
…
يا بعد ما بين إسرار وإعلان
إن الخلود وما تروى مزاعمهم
…
عن السعادة في الفخري نقيضان
ان الفراديس في سر الخلود غدت
…
وكل أو إليها رازح وان
مل المقيمون فيها من هناءتهم
…
كما يمل السقام المدنف العانى
تمضي العصور عليهم وهي واحدة
…
أليوم كالأمس فيها ضاحك هاني
تزجى السآمة تفكيراً وعاطفة
…
إلى عقول وأهواء ووجدان
لا يرقبون جديدا في خلودهم
…
لرث من قدم العهد الجديدان
ولا يحبون لكن تلك طائفة
…
من ماجنات خليعات ومجان
ولا يناجون في أحلامهم أملا
…
محببا بين إنكار وايقان
ولا يحسون لا حزنا ولا جذلا
…
فالقوم ما بين مشدوه وسهوان
يا شقوة النفس تخلو بعد أن عمرت
…
من حسرة ولبانات وأضغان
وضيعة القلب لا تأوي إليه منى
…
كالنحل تاخذ من روض وبستان
من كل من أبلت الأدهار جدته
…
فما يحركه إحماض رضوان
ينادم الحور لكن غير مغتبط
…
ويشرب الراح لكن غير ظمآن
لود في كل ما تجريه من عسل
…
ومن خمور ومن در وعقيان
هنيهة من شقاء يطمئن بها
…
إلى مناجاة آلام واشجان
إذا تذكر دنياه هفا ولعا
…
إلى حبيب وصهباء وندمان
وراح يبحث في المجهول عن أمل
…
وعن شفاء وعن أهل وخلان
لعل بين زوايا النفس قد تركت
…
ثمالة من حبابات وتحنان
أما الغواني فصخر لا يحركها
…
نجوى محب ولا تدليل ولهان
لا تعرف الحب إلا محض تلبية
…
لعابرين من الأبرار فتيان
ولا تجن إلى روح وعاطفة
…
فالحب في ملكوت الخلد جثماني
خبا لهيب المنى في روحها فغدت
…
وحسنها في حلاه حسن أوثان
حتى الخلود عليها فهي شاكية
…
إلى الأنوثة ذاك الخائن الجانيي
وللخلود على أهل الجحيم يد
…
تجزي على الدهر إحسانا بإحسان
الكافرون لطول العهد قد ألفوا
…
بقاعها نضج أرواح وأبدان
وقد تزف بها - والحفل محتشد
…
سجينة من ضحاياها للسجان
فأصبحت وهي من ماء ومن مدر
…
شيطانة تتصبى كل شيطان
وربما صحبوا فيها زبانية
…
بعد القلى - إلف أخدان لأخدان -
لا يأملون ولا تشكو جسومهم
…
من اللظى فهي نيران بنيران
مليحة الدل من غسان لا بليت
…
شمائل الصيد من أقيال غسان
أتأذنين بإنشاد فما جليت
…
إلا لحسنك أشعاري وأوزاني
طوفت في هذه الدنيا على مهل
…
طواف أشعث ماضي العزم يقظان
تظلني مصر أحيانا وآونة
…
أعاقر الكأس في جنات بغدان
وقد صحبت شعوب الأرض من عرب
…
شم الأنوف إلى روم وكلدان
مفتشا عن (عزاء النفس) لالعبى
…
أدى إليه ولا حلمى وعرفانى
مسائلا عنه حتى قد عييت به
…
ارث الفلاسف من هند ويونان
فما رأيت له عينا ولا أثراً
…
ولا أفاد طوافي غير خذلانى
اذا ندبت جهودي وهي ضائعة
…
أطل من حرم الرؤيا فعزانى
ثم انثنيت وركبي جد متئد
…
من الونى ورفيقي جد حيران
والبيد أوسع من صدر الحليم مدى
…
وللسراب بها آلاف غدران
ظمأى حيارى خلف الركب طائفة
…
حمر اللواحظ من أسد وذئبان
فأيقن القوم بالجلى وقد صمتوا
…
لهيبة الموت وهو المقبل الدانى
حتى إذا اليأس لم تترك مرارته
…
إلا بقية صبر غير خزيان
لاحت خيامك بالصحراء مؤنقة
…
أبهى وأزين من عرش وايوان
فكبر الركب مرتاحا إلى أمل
…
عذب المجاجة حالى الوشى ريان
مبادراً للظلال الخضر قد كسبت
…
نثير ورد ونمام وسوسان
فما فتحت جفوني وهي دامية
…
من الرمال. أعان الله أجفاني
حتى لمحتك خلف السجف ضاحكة
…
إلى جوار وحجاب وغلمان
فقرت النفس لا شكوى ولا تعب
…
ولا لجاجة إيمان ونكران
وأبصرت بعد طول البحث غايتها
…
فأذعنت لهدأها أي إذعان
فقبلت شفة حمراء دامية
…
واهتز من نشوات اللثم نهدان
سر السعادة في الدنيا وإن خفيت
…
تجلوه منك على الأكوان عينان
آمنت بالحب ما شاءت عذوبته
…
آمنت بالحب. فهو الهادم الباني
بدوي الجبل
السائلة الحسناء
قربت حسناء مني ودنت
…
وهي في ثوب من الأسمال بال
لمحتني عينها عن كثب
…
فأتت تطمع مني في النوال
سألتني درهما في ذلة
…
قلت صوني الحسن عن هذا السؤال
بسؤال الناس قد أرخصته
…
إن هذا الحسن - لو تدرين - غال
لم أكد أنطق حتى أطرقت
…
وجرى في خدها الدمع وسال
ثم قالت وهي ترنو في أسى
…
أيها اللائم أشفق في المقال
يعلم الله باني صنته
…
لم أفرط أبدا فيه بحال
صنته جهدي وما أرخصته
…
إنما قد أرخص الفقر الجمال
محمد برهام
الحمد لله!
للسيدة منيرة توفيق
فتيات مصرَ تحيَّةً
…
أنتنَّ ربَّات العزائم
إني أديِنُ بعَطْفِكُ
…
نَّ، وشُكْرُكُنَّ عليَّ لازم
شكرِي إلى (خيريَّةٍ)
…
و (لِنَاهِدٍ) ذاتِ المكارِمْ
قد شَدَّتَا أزْرِي، فيا
…
لِيرَاعَتَيْنِ من الصَّوارم!
واهْتَاجَتَا فسمعتُ زَأ
…
رَ الأُسْدِ في سَجْع الحمائم
سِربُ الظِّبى شَهَرَ الُّظبي
…
في وجه جنديِّ الملاحم
وهناك حين رأى الوغَى
…
ألقَى السِّلاحَ ولم يقاوِمْ
فأتى إليَّ يمدُّ كَفْ
…
فَ مُصَافِحٍ سَمْحٍ مُسالِمْ
ومضَى يجدِّدُ عهدَنا ال
…
ماضى، وصَفْوُ العيش قائمْ
والحرُّ يَرجِع حين يَعْ
…
لمُ أنه في الحقِّ آثمْ
يا سيداتي الفضْلَيَا
…
تِ لَكُنَّ حقُّ الشكرِ دائمْ
قد عاد لي زوجي الكري
…
مُ، وجاَء يقرَعُ سِنَّ نادم
من بعد ما قَدَّرْتُ أنْ
…
نَ رُجُوعَهُ أضغاثُ حالم
هي عَضْبةٌ سِحْرِيَّةٌ
…
أدَّت إلى حُسنِ الخواتم
فعلَتْ به ما ليس تف
…
علهُ العزائم والتَّمائم
فليطمئنَّ اليومَ في
…
دار الخلود (أمينُ قاسم)
وليَهْنأ النيلُ العظي
…
مُ بما لديه من كرائم
أنتنَّ ذخْرُ النيلِ في
…
يوم العزائم للعظائم
والله يشكرُ سعْيَكنْ
…
نَ لِرَدِّ أنواع المظالم
اللقاء الصامت
أيقنت انك مثلي جد مولعة
…
يوم اللقاء فزال الخطب أو هانا
قد كنت أخشى بعادي يوم فرقتنا
…
لكن حمدت بعادي يوم لقيانا
شربت فيه كؤوس الهم مترعة
…
وذقت فيه من التسهيد ألوانا
حتى إذا كان يوم العيد عاودني
…
بشرى كان لم يكن في البعد ما كانا
ونحن إن لم يخل العرف أعيننا
…
فحسبنا العين في تخفيف بلوانا
محمد مصطفى الطحلاوي
في الأدب الفارسي
منطق الطير
القصة الصوفية الخالدة
للدكتور عبد الوهاب عزام
فريد الدين العطار، شاعر صوفي عظيم من شعراء القرن السادس الهجري، وهو أحد الثلاثة الذين انتهت إليهم الإمامة (بين شعراء الفرس المتصوفين) والآخران مجد الدين سنائى الغزنوي، ومولانا جلال الدين الرومي
وللعطار من المنظومات الصوفية زهاء أربعين، بعضها يحتوي على عشرة آلاف بيت. وهو أحد المؤلفين الذي حالت كثرة مؤلفاتهم دون معرفة آرائهم معرفة بينة.
وأعظم منظوماته وأسيرها وأدخلها في الشعر، منظومة سماها (منطق الطير) وتعرف أحيانا باسم (هفت وادي) أي سبعة الأودية. وهي زهاء 4600 بيت، قص فيها اجتماع الطير وتساؤلها عن ملكها وتعريف الهدهد اياها بهذا الملك ومكانه ووصفه الطريق إليهن ثم توليه قيادة الطير التي رضيت بالسفر الشاق إلى ديار العنقاء واجتيازه بها سبعة أودية، وما أصاب سفر الطير حين بلغ غايته: ويتخلل هذا قصص عديدة يفصل بها السياق، ويبين بها بعض مقاصده.
وأنا أجمل لقراء الرسالة هذه القصة على طولها في صفحات قليلة، وعسى أن أستطيع من بعد نقلها كلها إلى اللغة العربية:
يبدأ العطار كتابه بحمد الله وتمجيده والثناء عليه، بكلمات هي غاية ما بلغته فلسفة الصوفية، ثم يثني بفصل عنوانه (نعت سيد المرسلين وخاتم النبيين ويطيل فيه ما شاءت بلاغته وأيمانه، ثم يثلث بمدح الخلفاء الراشدين على نسقهم في الخلافة، وينعى على أهل العصبية الذين يفرقون بين صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويذكر ست قصص لتأييد رأيه
ثم يشرع في مقصوده بعد هذه المقدمة التي تستغرق ستمائة بيت ويعالج الموضوع في خمس وأربعين مقالا وخاتمة.
يبدأ بوصف اجتماع الطير، ويذكر فيما يذكر منها الهدهد والببغاء، والدراج والبلبل والطاوس، والفاختة والقمري والبازي. ويصف شكل كل طائر وطباعه.
اجتمعت الطير فتشاكت ما هي فيه من الفرقة والفوضى، وفقد رئيس يجمع كلمتها ويهديها السبيل، على حين لا تخلو أمة من ملك فانبرى الهدهد يخطب فيذكر خبرته واعتزاله الناس، وجده في طلب الحق، وصحبته سليمان بن داود، وأنه طوف الأرض سهلها وحزنها، وخبر قاصيها ودانيها. ثم قال: عرفت أن لنا ملكا، ولكن عجزت عن المسير إليه وحدي، فان تعاونا استطعنا أن نبلغ مكانه. إن لنا ملكا اسمه سيمرغ وراء جبل اسمه جبل قاف، هو منا قريب ونحن بعيدون. هو في حرم جلاله لا يحيط البيان بوصفه، ودونه آلاف من الحجب - واستمر الهدهد يفيض في وصف السيمرغ، حتى راع السامعين بيانه. قال: وأول عهد الناس به أنه كان طائراً في ظلمات الليل فوق بلاد الصين فسقطت من جناحه ريشة، فقامت قيامة الامم، وأعجب الناس بما فيها من الألوان العجيبة والنقش، وتعلم كل منها فناً. ولا تزال هذه الريشة في الصين، ومن أجل هذا جاء في الأثر:(أطلبوا العلم ولو في الصين) ولو لم يظهر في هذا العالم نقش هذه الريشة ما كان في العالم أحد منكن أيتها الطير.
فلما سمعت الطير بيان الهدهد، هاجها الشوق إلى السيمرغ وأزمعت الرحلة إليه، ثم ذكرت ما في الطريق من أهوال فبدا لبعضهن أن يؤثر العافية، فادعى كل لنفسه عذرا:
قال البلبل: أنا أمام العاشقين؛ ملأت القلوب وجدا بأغاريدي، فكيف أستطيع مفارقة حبيبي الورد.
وقالت الببغاء: إن جمال هذا الريش أغرى بي الناس، فحبسوني في الاقفاص، فقاسيت الغم الطويل والألم الممض، حسبي ما قاسيت على أنى لا أستطيع أن أطير تحت جناح السيمرغ.
وقال الطاوس: كنت مع آدم في الجنة فطردت منها، وكل همي أن أعود إليها ولست بعد قادرا على مصاحبة السيمرغ
ويذكر البط طهارته وعيشه في الماء وزهده، ويعتذر بأنه لا يستطيع مفارقة الماء والعيش على اليبس. ويعتذر الحجل بأنه ألف الجبال فلا يستطيع أن يبرحها. وتعتذر الصعوة
بضعفها، والبازي بأنه لا يود أن يترك مكانه من أيدي الملوك. وهلم جرا
يجادل الهدهد هذه الطيور ويرد عليها أعذارها، ويرشدها إلى الخير، ولا يألو في النصح لها. فتطيف الطيور بالهدهد تسأله: كيف يقطع هذا الطريق البعيد، وماذا يصلنا بهذا الملك العظيم، في أسئلة كثيرة، فيوبخهن على التواني في الطلب، والركون إلى الدعة، والوجل من لقاء الشدائد. ثم يقول مبينا نسبة الطير إلى السيموغ انه تجلى كالشمس من وراء الحجب، آلاف الظلال على الأرض وما الطير إلا هذه الظلال. ثم يقول: ان العشق إذا صدق استهان العاشق كل شيء في سبيله، واقتحم كل عقبة إلى حبيبه.
(وهنا يستطرد الشاعر إلى قصة الشيخ صنعان الذي أخرجه العشق عن طوره. وهي قصة عجيبة تستغرق أكثر من 200 بيت ولا يتسع لها المجال هنا، ولا يحسن إجمالها)
هاجت الطير شوقا، وأجمعت على أنه لابد لها من أمير تطيعه على اليسر والعسر، واتفقت على أن يقرع بينها، فأصابت القرعة أجدرها بالإمارة وهو الهدهد.
فوضع التاج على رأسه وتقدم، واجتمعت إليه أسراب الطيور فأشرف بها على طريق موحشة مقفرة، فسأله سائل ما لهذى الطريق مقفرة؟ قال إن الناس تجنبوها إشفاقا وخوفا. وحكى أن أبا يزيد البسطامي خرج إلى البرية في ليلة مقمرة والناس نيام، فراقه جمال الليل وتهويده. وعجب كيف خلا هذا المقام من المشتاقين، فسمع مناديا يناديه، ان الملك لا يأذن لكل إنسان أن يسلك طريقه، وأن عزتنا أبعدت السائلين عن بابنا.
ثم تقدمت الطير (فرأت طريقا ولا غاية، والما ولا دواء، هنالك تهب ريح الاستغناء، فينحنى لها ظهر السماء، هنالك صحراء لا يعبأ فيها بطاووس الفلك، فكيف بطير هذا الدنيا)
فلما هال الطير ما رأت، حفت من حول الهدهد فقالت؛ إنك طوفت في الآفاق وعرفت كل شيء، فارق المنبر لنسألك عما حاك في صدورنا، فلابد أن نطهر قلوبنا من الريبة. صعد الهدهد وشدا بعض الطير بالحان هاجت الطير وأذهلتها. ثم تواترت الأسئلة فكان أول سؤال أن قال طائر: أخبرني أيها الإمام كيف فضلتنا جميعا. وكيف كان هذا التفاوت بيننا وبينك؟ قال الهدهد: منحتني هذه الدولة نظرة من المليك. إنها دولة لا تنال بالطاعة، فكم أطاع إبليس. لا أقول إن الطاعة لا تجب، فعليك الطاعة. لا تفتر عنها ساعة ولكن لا
تقدمها ثمنا. امض عمرك في الطاعات حتى تصيبك من سليمان نظرة. ثم سئل الهدهد عشرين سؤالا أجاب عنها مفصلا مسها ضاربا الأمثال. وكان السؤال التاسع عشر: ما الهدية اللائقة بتلك الحضرة التي نؤمها: وكان جواب الهدهد: لا تحمل شيئا فهنالك كل شيء، وليس خيرا لك من الطاعة والعشق.
والسؤال العشرون يفتح القسم الثاني من الكتاب، وهو الذي يصف الأودية السبعة التي تعترض السائرين إلى حضرة السيمرغ: سأل سائل، كم فرسخا مسافة هذه الطريق. قال الهدهد: أمامنا سبعة أودية لا تعرف مسافاتها، لأن أحداً لم يرجع منها فيخبر عنها. أمامنا أودية الطلب، والعشق، والمعرفة، والاستغناء، والتوحيد، والحيرة، والفقر والغناء.
البقية في العدد الآتي
عبد الوهاب عزام
العُلوم
في البحوث الروحية
للأستاذ عبد الغني علي حسين
خريج جامعة برمتجهام
- 3 -
أمامي الآن ذلك الكتاب الصغير (كيف ثبت لي خلود النفس البشرية) لذلك العالم الكبير (سر ألفرلدج). كتاب خليق بأن يفتح لرجال العلم ميدان بحث جديد لا يمكن التكهن بمدى اتساعه، فهو يلفت النظر بشدة إلى حقيقة كبرى، تتراءى من وراء ظواهر غامضة، لم يلتفت إليها العلم حتى الآن لما يحف بها من دجل يبدو معه البحث فيها عاراً ومنقصة.
لقد كمن الرجل في ظل العلم بشتى الصور في كل العصور. وقديماً بينما كان آباء الكيمياء الحديثة - جابر بن حيان الصوفي، وأبو بكر الرازي ومن أخذ عنهما من الفرنج - يستنبطون المركبات الجديدة، ويستقطرون الزيوت والحوامض، كان أخوهم الدجال، يزور عباد المال موهماً إياهم باسم الكيميا إن في مقدوره قلب رصاصهم ذهبا، ثم يذهب عنهم وقد استلب ما كان لديهم من ذهب وترك رصاصهم كما هو، فينتبهون بعد فوات الوقت إلى أن الذي يعرف سر صنع الذهب من الرصاص لا يكون بحاجة لعرض خدماته على الناس.
ولكن إذا اجتمع العلم والدجل في ميدان، فهل للعلم أن يهرب؟ كلا. بل عليه أن يغزو.
سلخ لدج في بحوثه تلك زهاء الأربعين عاما، وكون فيها رأياً نهائياً لم يتحول عنه قيد أنملةَ منذ كونه، ولم يفرط في إذاعته وبسطه بمختلف التواليف في صراحة تامة، ومع شيء من التضحية أيضا، فقد تعرض اسمه الضخم للتجريح، وعقله الكبير للاتهام.
قلب معي صفحات تاريخ العلم الحديث. هل ترى نظرية ضخمة جاءت وليدة ساعة أو يوم؟ من المعلوم المشهور أن دارون قضى عشرين عاما تختمر نظريته في ذهنه، وهو يقدم على البوح بها ثم يحجم، ولما أذاعها أخيراً قوبلت بوجوه مستطيلة، وأفواه فاغرة، ولم تتخذ سبيلها إلى عقول الناس بعد إذاعتها إلا ببطء شديد، ولا يزال لها إلى اليوم أعداء
متحمسون.
أغلب الظن أننا اليوم أمام نظرية علمية جديدة من هذا الوزن الثقيل، سيتفسر بها الكثير مما يحير اللب اليوم، وحيره في كل العصور، بل ربما أفضت إلى تفسير كل شيء على أساس جديد. نظرية روحية سيقال إن بطلها ألفر لدج. والحقيقة أن النظرية الضخمة لا يتفرد بتشييدها عادة عقل واحد مهما تجبر، وهذه النظرية قد ساهم فيها آخرون لن تكون جهودهم منسية، نخص بالذكر منهم (كروكس) و (ولاس) من علماء الجيل السابق، والعالم الفرنسي المعاصر (شارل ريشيه).
ولكن إذا كانت هناك حقيقة ظواهر من هذا النوع، ينتفي عنها الدجل، وتشعر بأقل أمل في الوصول إلى كشف خطير كالذي يجاهر به لدج، فلماذا نرى جمهور رجال العلم يغمضون عنها عيونهم، ويضعون أصابعهم في آذانهم كلما صاح فيهم لدج وأهاب بهم؟ هل يعقل أن يوجد ميدان بحث كهذا، جليل النفع، خطير الغاية ثم لا يلجه من العلماء إلا الشاذ النادر، وترفض الاعتراف به المجامع العلمية، وتظل قاعات البحث في الجامعات خالية من كل أثر له؟ لقد عهدنا رجال العلم ككلاب الصيد، تشتم ريح الفريسة من بعيد، فلماذا نرى منهم البرود والجمود في هذا الموضوع؟
هي حال غريبة حقا. ولكن يظهر أن صيحات لدج قد بدأ صداها يدوي في الآفاق العلمية. فقد جاء في عدد 23 ديسمبر سنة 1933 من مجلة نايتشر الإنجليزية (مجلة علمية يعرفها كل مشتغل بالعلوم تمثل الرأي العام العلمي أصدق تمثيل) مقال من قلم التحرير الذي يرأسه (سر رتشارد غريغوري) بعنوان (العلم والبحوث الروحية) نقتطف منه ما يلي: -
(إن الظواهر غير العادية، التي تشاهد في حالة النوم المغنطيسي وفي حالات الذهول والكتابة الأوتوماتيكية ونحوها، قد أصبحت الآن جديرة بالتفات الباحثين من حملة الدرجات الجامعية. . . . إن الحاجة إلى البحث الصريح الجريء في تلك الظواهر لتزداد يوما عن يوم. . . . من الواضح الجلي أن تبعة عدم الوصول إلى تعليل لتلك الظواهر تقع على عاتق الهيئات العلمية الرسمية. . . . تلك الظواهر الغامضة الخارقة للعادة قد أصبحت من مواد البحث الجدي في كثير من المراكز العلمية بأوربا وأمريكا، وقد حان الوقت على ما نظن لأن تعد العدة لمثل هذا البحث في بريطانيا. . . . لا يتسربن إلى الذهن أن أي جامعة
تعترف بهذا الموضوع الواسع الغامض، ستجد في الخطوة التي خطتها مساسا بكرامتها، بل العكس، ستكون إرادتها الحرة في خدمة العلم وتقدمه سبباً في ازدياد قدرها كمركز للتقدم المستنير.)
نغمة جديدة، واتجاه فيه الخير حتما، سواء أأفضى إلى النتيجة المتوقعة أم إلى غيرها، لأن نتائج البحث العلمي الصحيح لها دائما قيمتها. والآن نورد مثالا من المشهدات التي تعرض كثيرا للعلماء القليلين المشتغلين اليوم بهذه البحوث.
في سنة 1903 تلقى السر ألفر لدج من صديقه الأستاذ شارل ريشيه رسالة فحواها أنه في الليلة التي قتلت فيها ملكة الصرب وأخواها في بلغراد كان الأستاذ ريشيه مجتمعا بوسيط وبعض الأصدقاء في جلسة روحية بباريس، وكانت حروف الهجاء تملى عليهم بطرقات على المائدة. فبعد ورود عدد من الرسائل العادية بدا من القوة المتسلطة على المائدة اهتمام وإلحاح، وأمليت الحروف الآتية بطرقات أعلى من المعتاد عندئذ توقع ريشيه أن تكون الرسالة باللاتينية، واستمر الإملاء وجاءت الحروف الآتية ولم يجد ريشيه في الرسالة أي معنى، ولكنه استمر في التدوين آليا، وكانت الحروف الباقية ولم يكن يفهم من هذه الرسالة سوى أنها تشير إلى عائلة ما. ثم لاحظ ريشيه بعد ذلك أنه يمكن تقطيعها إلى كلمات هكذا (بانكا الموت كامن للعائلة.)
هذه الرسالة وردت في يوم الأربعاء 10 يونية سنة 1903 الساعة 10 والدقيقة 30 مساء. وبعد يومين كانت الصحف الفرنسية غاصة بخبر مقتل الملك إسكندر وزوجته الملكة (دراجا) وأخويها في بلغراد. ومن بين ما ذكرته الصحف ان والد الملكة توفى من عهد غير بعيد وكان اسمه (بانسا) وقد دهش الأستاذ ريشيه عندما رأى هذا الاسم في الصحف. ولاحظ اتفاقه مع الكلمة الأولى غير المفهمومة في الرسالة والخطأ الوحيد هو إملاء بدلا من
وبالبحث علم ريشيه ان القتل حدث بعد منتصف الليل بقليل، فهو في وقت ورود الرسالة لم يكن قد وقع بعد. ثم علم ريشيه ان الساعة 10 والدقيقة 30 في باريس توافق منتصف الليل في بلغراد. وهو الوقت الذي غادر فيه القتلة فندق (لا كورون دي سريا) لارتكاب الجريمة المروعة. إذن فكلمة تناسب الظروف تماما، إذ تشعر بقط يتحفز للوثوب على
فأر. ولم تكن لتناسب الظرف لو أن الرسالة وردت بعد حدوث القتل، أو وردت قبله بزمن طويل
وفي يوم الخميس 11 يونية الساعة 2 مساء ورد الخبر إلى باريس ولم يطللع ريشيه على تفاصيله إلا يوم الجمعة.
تلك هي الرسالة وظروفها. والطريقة التي أخذت بها تعد أبسط تجربة روحية. وهي أن تجلس عدد من الأصدقاء أو الأقارب حول منضدة: ويكون بينهم وسيط، ثم يضعوا أيديهم على المنضدة بخفة، فتسمع على المنضدة طرقات لا شأن لأي واحد من الحاضرين بأحداثها. عندئذ تتلى الحروف الأبجدية فتسمع طرقة عند النطق بكل حرف ما عدا الحرف المراد إملاؤه، فيدون، وبعد الانتهاء تقسم الحروف إلى كلمات.
كيف نعلل حدوث هذا الطرق على المائدة؟ أقرب تعليل له هو أن الوسيط يحدثه بطريقة شعوذية لا يتبينها الحاضرون. ولكن لو سلمنا بأن الوسيط هو الذي يحدثه عمد، كيف نعلل ورود رسالة كهذه التي ذكرناها؟ كيف علم الوسيط بوجود المؤامرة لاغتيال الأسرة المقتولة وحلول وقت التنفيذ؟ إن سر هذه المؤامرة كان بطبيعة الحال مصونا أشد صيانة، ولولا ذلك لحبطت، فبعيد أن يكون الوسيط على علم بها وهو في باريس.
يعلل لدج هذه الظاهرة بأن واحداً ممن ماتوا وكانوا يشاركونه هو وريشية بحوثهما قد انتهز هذه الفرصة ليضع أمام ريشيه دليلا على الاتصال الروحي.
أما ريشيه فمع اعتقاده بانتفاء الشعوذة من هذه المشاهدة ومثلها بالنسبة لما يتخذه من التحوطات، لا يذهب في تفسيرها فذهب لدج بل يعزوها إلى انتقال الفكرة من عقول القتلة في هذه الحالة إلى عقل الوسيط بطريق التلباثي، ثم طرق المائدة بقوة مستمدة من العقل الباطن للوسيط.
ريشيه يرى وجوب البحث الجدي في تلك الظواهر، وجمع المشاهدات ووصفها بدقة علمية، ولكنه لا يرى التعجيل بنسبتها إلى مصدر روحي ولدج يرى أن مشاهداته الخاصة قد تركته على تمام اليقين من وجود المصدر الروحي. أما الذي لا خلاف بينهما عليه، فهو أن هناك ظواهر نفسية وآلية شاذة غريبة تتطلب جيوشا من الباحثين.
عبد المغني علي حسين خريج جامعة برمنجهام
بين الضحك والبكاء
للدكتور احمد زكي
يسر الإنسان لأمر، لمنظر واقع حاضر يُمتْعُه، أو لذكرى طيبة ماضية يسترجعها، أو لفكرة يؤلفّها خياله لا تتصل إلى الكائن الراهن بسبب، فلا يلبث أن ينتقل هذا السرور الذي بروحه إلى جسده، والوجه أكثر أجزاء الجسد تخصصّاً في إظهار الآثار الروحية، والكشف عن انفعالات النفس الخبيثة، وهو يفعل ذلك بقبض العضل وبسطه، وتقصيره وتمديده، وبالتأليف في كل هذا بين مجموعات منه متخالفة. فقد تنبسط الأسارير، وقد تفتر الشفاه، وقد تنفتح انفتاحاً ويصحبها انطلاق الهواء من الرئة واندفاعه إليها بسرعة تزيد على سرعة الزفير والشهيق كثيراً فتحدث القهقهة. وقد ينقلب سرور النفس إلى ثورة تعم الجسد كله.
وقد حاول كتاب تفسير الضحك. قال أحدهم إنك تنظر لرجل تزل قدمه في الطريق فينقسم إلى أجزاء ثلاثة أو أربعة فتضحك لأنك تقرن نفسك به دون قصد، فتحس بالتفوق والعلو، فيسرك (المجد الذاتي الباغت). وردّ (شوبنهور) أسباب الضحك إلى تناقض بين أجزاء الصورة أو تعارض غير مألوف بين معاني الفكرة الواحدة، على أن يكون إدراك ذلك سريعا. وقال (برجسن): إن سبب الضحك أن تتعطل في المضحوك منه الإرادة اليقظة الموجهِّة القاصدة، فيأتيأفعالا لا هيمنة للعقل عليها، ومثل ذلك الزَّلَق وما يحدث من الغافل الذاهل، ومن السكران الذي فقد السيطرة على أعضائه. كل هذه لا شك أسباب تكون للضحك، ولكن لا شك أيضاً أن هناك أسباباً عديدة أخرى ليس من السهل الميسور تحديدها أو تعريفها.
وبقدر ما تتعد أسباب الضحك تتعدد أنواعه، فالضحكة قد تضيق وقد تستعرض، وقد تسرف في الضيق كما تسرف في الاتساع، وقد تتخذ أوضاعا عدَّة بين هذا وذاك، وهي في جميعها ضحكة بسيطة خالصة نشأت عن سرور بسيط خالص. ولكن قد تكون الضحكة عن ألم شديد وحزن عميق يحدث في النفس توتّرا لابد من إرخائه، وتأزّما لابد من تفريجه، وتركزاً في طاقة البدن لابد من تخفيفه، وضغطاً حاراً تحسه في القلب أو بين الأضلاع لابد من انطلاقه، فان كان معتدل الكم انطلق من مخارجه المعتادة، ومن الشؤون في
العيون، وان ضاقت عنه تلك المخارج أو عزَّت طلب سبلا غير معتادة فكان حزناً ضاحكاً، فالضحكات كالدمعات إن اختلفت أصولها فقد اتحدت مراميها
وكما يضحك الباكي فكذلك يبكي الضاحك، فالضحك والبكاء صنوان. كلاهما فيض الكأس عند الامتلاء، كلاهما فضل الطاقة الفسلجية الخبيثة كالتي يفيض بها جسم المحموم عندما تنكسر حمّاه عن قطرات تبكيها مسامّ الجسد العديدة. فان أنت سررت وضاق صدرك بالسرور فلا تكتمه بل أضحك وازأط، وان أمكنك فابك، يسترح جسمك وينتعش ويستفق. وان أنت اهتممت أو حزنت أو داخلك الوجد المضني فابك وأفض وافتح شئونك وُسْعَها، وان أمكنك فاضحك وازأط كذلك، وأنا ضمين لك بالعزاء وبالشفاء
والضحكة قد تمتزج بها عواطف أخرى لا تمت بسبب إلى السرور أو إلى الحزن، فقد تكون ضحكة هازئة، أو ضحكة مرة حاقدة، أو ضحكة غَزِلة
والإنسان في عالم الحيوان أكبر ضحاك، وربما كان هو الضاحك الوحيد، ويقول بعض العلماء الخبثاء إنه أكبر مضحوك منه كذلك ومن الضحك ضحك مَكنْىَ آليّ تثيره الدغدغة وان شئت (فالزغزغة) ولا أظنها كلمة تضيق بها صدور العرب وان ضاقت عنها المعاجم. وهذا الضحك الآليّ لا يعوزه السرور الذي يصطحب الضحك التلقائي ولذا يعود الطفل إلى طلب الدغدغة وقد كان أباها. وذلك لما وجد فيها من الغبطة.
وكذلك الحيوان يتدغدغ فيحس في الدغدغة سرورا وغبطة. ولكنه لا يضحك ولا تجري دموعه منها. فمن الثعابين أنواع إذا مسحتَ أظهرها بأناملك في لطف ورفق سرها ذلك فاستكانت، وان سكتَّ عادت في خشوع تطلب المزيد.
وفي جزيرة سيلان يمسكون التماسيح بالحيلة، وحيلتهم في ذلك الدغدغة. يلوّحون للتمساح بالطعم في الماء، حتى إذا استدرجوه إلى المياه الضحلة، أتاه المروّض فتمتم بعض التعاويذ، حتى إذا اقترب منه دق رأسه بعصا دقا خفيفا متتابعا، حتى إذا تلهَّى تجرأ الصيّاد فركب كتفيه وأخذ يمسح بالأصابع جلده الأسفل اللين، بينما اليد الأخرى تشده بالحبال وفي الملايا يستخدمون نفس الحيلة في أسر نوع من السمك ويسمونه (السمك الأحمق) وهو سمك كبير يعيش على بعد من سطح البحر يتراوح بين العشرة الأقدام والعشرين، وهو يرقد ساكنا فإذا تحقق السّماك من وجوده غاص من قاربه إليه في سكون، وأسرع فوضع
يده تحته وأخذ يدغدغه دون زعانفه، فلا يلبث أن يدخل السمك في شبه سكرة من السرور العميق فينقاد طوعا إلى سطح الماء حيث القارب وهو يحتضن الكف التي تدغدغه. ثم يسير به القارب برجاله إلى المياه الضحلة من الشاطئ. فإذا حانت الساعة انهالوا عليه بكل سكين جارح، ومقصل حاد فقتلوه. وكم قتلةجاءت من بعد سرور، وكم لذة خلفت حسرات.
احمد زكي
القصص
قصة مصرية
الخبز الرخيص
. . . وفتح الفتى عينيه - وكان يغمضهما كأنه يحلم - وألقى نظرة أخرى على ورقة من ورق الرسائل الأزرق منشورة أمامه.
ولم يكن يدري كم من الوقت مر عليه وهو - على حالته هذه - أمام مكتبه، والقلم في يده، وعيناه مغمضتان، ورأسه يحس انه يوازن كرة الأرض ويدور دورانها.
واعتمد بجبينه على راحة يده اليسرى، وأرسلها نظرة تائهة إلى الفضاء الذي يمتد أمام نافذته، وأخذ يستعيد ذكريات ساعات قريبة:
تذكر انه كان جالسا يقطع ساعة من ساعات الفراغ والوحدة المملة بالقراءة والتفكير، فسمع الجرس يدق خمس دقات - تتصل ثلاثتها الأولى وتقفوها دقتان منفصلتان - فأسرع إلى الباب يفتحه، وقد افترت شفتاه عن ابتسامة للوجه الذي سيطالعه، إذ كانت هذه الدقات سراً بينه وبين فتاته اصطلحا عليها، رفقا بأعصابه التي لم تكن تتحمل، حين يكون في انتظارها، أن يدق الجرس ثم لا تكون هي الطارقة.
دق الجرس دقاته الخمس، ولكنه حين فتح الباب تقدمت إليه فتاة أخرى - لا عهد له بها - تبتسم ابتسامة ناقصة، فحار في تعليل هذا ولم يكد يبدأ التفكير حتى تقدمت إليه صاحبته - وكانت تختفي وراء مصراع الباب المقف - وهي تقول ضاحكة:(أقدم لم صديقتي فتحية) فمد لها يده يحييها، ونظر لفتاته عاتبا وهو يقول:(يا شقية! متى تدعين هذا العبث؟)
وجلسوا ثلاثتهم وجعل الفتى يضحك ويتحدث كما هي عادته مع صديقته وصاحبتها، إلا انه كان يخيم على مجلسهم شيء من الفتور لم يكن يدري له سببا. وكان يبدو على وجه الفتاتين كثير من التردد والانتظار، ففترت رغبته في الحديث وودلو يعلم ماذا تكون النهاية
وكانت كلمات تحار على شفتي فتاته أمضها كتمانها، فقامت وخطت خطوتين إلى النافذة، وأطلت منها وعادت إلى حيث كان جالسا وعلى محياها دلائل العزم والتصميم وقالت:
- حقي! (وهذا اسم الفتى) هات ورقة وقلما!
- ماذا تصنعين بهما
- لا تسألني!
وألقت نظرة إلى صديقتها وقدم لها هو ورقة من ورق الرسائل الأزرق وقلما فقالت:
- اجلس هنا.
وأشارت إلى المكتب فجلس وهو لا يدري ماذا يراد به. فقالت:
- أكتب ما أملي عليك (وأخذت تملي)
2.
5 متر كريب ستان أسود، 5 أمتار كريب جورجيت أسود. حذاء أسود رقم 37 (أنيسيال) حرف (ل) وقالت كأنما تحدث نفسها:
- يكفي حرف واحد باسمي أنا (وكان اسمها ليلى!)
والتفتت إلى صديقتها قائلة: ماذا غير هذا؟
وقبل أن تجيبها قالت وكأنما تحدث نفسها مرة أخرى. . . كفى!
فرفع إليها (حقي) عينين حائرتين يسائلها ماذا تعني فقالت:
- سوف آتي يوم الثلاثاء القادم فأجدك اشتريت هذه الأشياء. إني اترك الاختيار لذوقك - ثم قالت:
- سوف ترى كيف أبدو في هذه الملابس.
فحاول أن يبتسم، ولكن شفتيه لم تنفرجا، وحاول أن يعلل مسلكها فلم يهتد إلى تعليل. ترى ما الذي دعاها لان تطلب منه هذا، وقد كانت ترفض أن يهدي إليها شيئا مخافة أن يسألها ذووها عن مصدره؟ ثم هذه الطريقة التي طلبت بها ما طلبت. إنها لم تعجبه بل ومالنا لا نقول إنها ساءته وأمضته أيما مضض.
وحاول أن يستبقيها حين همت بالرحيل ولكن الأعذار تسابقت إلى شفتيها. . . وساءل نفسه - وهو يسير معها إلى الباب يودعها وصديقتها - بماذا تراها تعلل مسلكها إن سألها عنه؟ ولم يجد جوابا، وانتهى إلى أنها وضعت نفسها في مأزق سوف لا تدري كيف تخرج منه.
ووقف في أعلى الدرج يتابعها بنظراته وهي تهبط، وطافت برأسه حكاية الغزال والثعلب فهم ان يصيح بها. لم لم تفكري في الطلوع قبل ورود الماء؟ ولكن ارتد عن هذا وعاد إلى مكتبه يفكر
وهذا هو بعد فترة - لم يكن يدري مداها - قضاها شبه حالم في تأمل لم يخرج منه بطائل، ثم إنه حين فتح عينيه وعاد بعض الشيء إلى حالته الطبيعية تبين أنه كتب في غير وعي على الورقة الزرقاء - التي لا تزال منشورة أمامه - باللغات التي يعرفها (أبدا. . . ابدأ. هذا لن يكون. .!) ذلك بأنه كان قد انتهى إلى ما يشبه التصميم على إلا يلبي طلب الفتاة، وعلى أن يقطع علاقته بها وان لم يكن يدري سبب هذا على التحقيق.
وجاء المساء فتوفر الفتى صدر ليلته على التفكير في فتاته وكأنما زايلته نفسه وقفزت إلى كتفه، وصارت تسائله وتحاوره وتضحك منه ساخرة. قالت له نفسه:
- تريد أن تهجرها؟ أتراك تعني ما تقول؟ أتراك تستطيع أن تنسى؟ فمط شفتيه وهز رأسه وأقفل عينيه وهو يقول:
- النسيان؟ لقد جربته في الماضي ونجحت التجربة فمالي لا أحاول مرة أخرى؟
- أية مغالطة! انك لم تنس أبدا. لقد كنت تخدعني وتتناسى. ومع ذلك حاول هذه المرة أن تنسى: العينين الباسمتين دائما، العميقتين اللتين لم تكن تمل أن تحدق فيهما، والشفتين اللتين كانتا نفتران عن بسمات تسير على ضوئها أياما. . والقبلات التي كنت تقول إنها تعوض كل مفقود وتأسو كل جرح، وتعزى عن كل مصاب!
- كفى! كفى! دعينا من هذا!
- هي! لقد كنت ظننتك نسيت! وفي الحق مالنا ولهذا! أنت تريد أن تهجرها فهل بحثت عن سبب أطمئن إليه)
- كأنك لا تعرفينني! إن اقتل قلبي، ولا أجرح كبريائي.
- كبرياؤك؟ ماذا مسها؟
- لم أكن أظن أن فتاتي - كمن سبقنها - تريد أن تتقاضاني ثمن العاطفة كأن حناني لم يكن ثمنا كافيا!
- أي سبب؟! إنك لتتجنى عليها. لعلك تفيء إلى الحق فتعترف أنها نزوة تلك التي أصابتك.
- وما يهمني؟ أليست النزوة مع عطلها عن الأسباب سببا في حد ذاتها؟ وللنزوات أحيانا أسباب نتجاهلها. قل لي ألم تكن تحب صاحبتك؟
- لست أدري. وإنما كل الذي أدريه أني كنت أكون سعيداً بجانبها، وان نظراتها كانت تسحرني، وأن بسماتها كانت تضيء ظلمات وجداني.
- ولم لم تصل حياتك بحياتها؟ ألم يكن هذا يكفي؟
- كان ينقصني أن أعلم اليقين أنها تريدني إرادة قوية جارفة تطغى في نفسها على كل ما عداها.
- إنها تريدك. وإلا فما الذي دعاها أن تبقى على علاقتها معك؟
- هيه، كثيرات يبعن أنفسهن أو يعرضنها سلعة يتقاضين في مقابلها خبزاً. ويا ما أرخصه من ثمن!
أنت تشك إذن؟
- وأريد أن يمحى الشك بأن أراها تهزأ بكل شيء وتستبيح كل شيء في سبيل ان تبقى على أنا
- أية أنانية! وماذا يغريها بهذا؟
- وماذا يضيرها؟
- ماذا يضيرها؟ إنها فتاة. ومن حقها أن تشك وأن تظن انك تريد أن تلهو بها وأن تلعب.
- إذن أنفض يدي منها!
- وتبقى هكذا فارغ القلب دائما؟
- ذلك أجدى من أن املأه عاطفة قد تكون مسمومة فتقتله. . . وقلب فارغ خير من لا قلب!
وعاد إلى نفسه أو عادت إليه، فخفف كثيرا من ثورته على فتاته وعزم على أن يجيبها إلى ما طلبت، وان يتخلى عنها في رفق، وأن تكون هكذا نهايته معها
ومرت سنتان. . .
وذات ليلة بينما كان يقفل نافذته لينام، راعه السكون المخيم على الطريق، وما هي إلا لحظة حتى خرقت حجب الصمت دقات ساعة في منزل قريب. . . تن. تن، حتى أكملت إحدى عشرة دقة وهو في مكانه ذاهل واجم. وان صوت الجرس في الظلام والسكون ليدخل على النفس شيئا كثيرا من الرهبة والكآبة، وهكذا أنسته هذه الدقات برنينها المكتوم
نفسه لحظة أو بضع لحظات فوقف في مكانه يفكر على هذا النحو
هذه الساعة ألقت بحلقات من سلسلة الزمن إلى ظلام الماضي وعمقه، وهذا هو مبعث الكابة التي تدخلها على النفس دقاتها في السكون والظلام.
أهكذا تمر الساعات والأيام؟ هذا عام ثان يكاد ينتهي ولما تعد فتاتي، ترى ماذا صنع الله بها؟ اني لأتمثلها الآن وهي تهبط الدرج لآخر مرة في خطوات غير متزنة. إنها لم ترفع عينيها. أترى لم تكن تفكر في (الطلوع) مرة أخرى؟ أم ان القدر الأعمى لم يكن انبأها، وإنما سارت واضعة ذراعها تحت ذراعه إلى حيث لم تكن تدري؟
من كان يدري؟. . حين ألقت بها المصادفة في طريقي، شعرت إني وجدت فيها الإجابة على نداء نفسي الذي كانت تهتف به منذ فجر الشباب. لقد وجدت فيها ريا أطفأ ذلك اليهام إلى المجهول الذي كان يجعل العالم أمامي كوادي التيه أسير فيه على غير هدى.
وغابت عني فعدت إلى عالمي القديم صفر اليدين إلا من ميت الآمال!
ومرت سنون ثلاث. . وذات يوم كان (حقي) يسير في شارع فؤاد فلمح اسم صديقه إبراهيم. . . المحامي، على لوحته النحاسية - بين لوحات أخرى تحمل أسماء كثيرين اغلبهم أطباء - معلقة على باب العمارة، وفجأة خطر له أن يزور هذا الصديق في مكتبه.
ولم يكد يتخطى الباب الكبير حتى وجد فتاته. . . ليلى! نعم هي كما كانت دائما. . . وجدها واقفة تتسلى بقراءة البطاقات الموضوعة على صناديق البرد في مدخل العمارة، وكأنما كانت تنتظر أحداً.
والتقت نظراتهما، وحار فيما هو فاعل، ولكنه لم يدر إلا وقد تقدم إليها وهو يقول:
ليلى -! لم لم تأت يوم الثلاثاء الماضي؟ كنت مريضة؟ هذا هو عذرك الدائم.
وكان يوم الثلاثاء الذي يعنيه قد مرت عليه سنون خمسة! ولكنه حين أخذ يدها بين يديه يشد عليها نسى أنه لم يرها طوال هذه المدة وهكذا شعرت هي الأخرى، وكأنما هذه السنين قضياها كأهل الكهف نياما!
وأغمضت عينيها وكأنما أرادت أن تكر بالذاكرة إلى هذا الماضي البعيد وقالت وهي تبتسم:
- كلا لم أكن مريضة ولكن حدث أن أمي خرجت معي ولم يكن في إمكاني أن أستصحبها في زياراتي لك. قال:
- حاجاتك لا تزال في درج مكتبي. كنت انتظر دائما دقات الجرس الخمس، فأذهب لأقابلك بها على الباب.
لقد اشتريتها إذن! لم أكن أحسب أنك تعتقد أني كنت جادة فيما طلبت. . . هي صديقتي التي أغرتني. . . تجربة لعاطفتك نحوي. ولكني أخطأت في السماع اليها، وخفت ان أنا عدت إليك أن تعتقد اني إنما أعود لأسألك ما طلبت
ودارت الدنيا أمام عينيه، وقال لنفسه (ما أكثر ما يخطئ الإنسان التقدير!)
وفجأة رآها تتركه - وقد عراه ارتباك ظاهر - وتنظر إلى الباب حيث وقفت عربة، نزل منها شاب ناداها باسمها فهزت رأسها تجيبه، ودارت بنظرها إلى يمين المدخل منادية يا حقي!
وأصابته رجفة إذ سمعها تلفظ اسمه، ولكنها كانت تنادي طفلا - في نحو الرابعة من عمره - لم يكن القي بباله إليه. وأجابها الطفل متسائل - ماما؟
فمدت يدها إلى الطفل ورفعت نظرها إلى الفتى كأنما تسأله أن كان قد فهم شيئاً.
وركبت الفتاة والشاب والطفل العربة، وانطلقت بهم ووقف (حقي) يتبعها بنظره ويصغي لوقع أقدام جيادها على الأرض، ويسمعه دون كل ما عداه من ضجة الطريق الصاخبة، حتى لم يبق منه غير صدى يرن في الأذن رنينا.
وحينئذ أحس كأنما بدأت الأرض تميد. . .
مصطفى حمدي القوني
الى خراسان
للأستاذ الرحالة محمد ثابت
من رحلة قام بها الأستاذ سنة 1933 إلى تركية والعراق وأفغانستان
إلى بحر الخزر
قمت من طهران شمالا صوب بحر الخزر، مسافة ستين فرسخاً أو نحو أربعمائة كيلومتر، كانت المناظر في النصف الأول منها مألوفة:
ربى تتوسطها هوى من ارض مهملة، وما كدنا نوغل في النصف الأخير حتى زادت عقد الجبال في صخرها الاغبر المنحل وغالبه من الجير الذي اسود بمضى السنين، وكثرت الالتواءات الأرضية وزادت طياتها وأخذ الطريق يعلو ويهبط ويلتوي على نفسه مرات متعاقبة في وعورة لم نعهدها من قبل. بعد ذلك بدأت صفحة الجبال المعقدة تتغير معالمها إذ كساها الشجر القصير في تفرق أعقبه تلاصق عاجل، وما نشعر إلا ونحن نوغل في غبابة كثيفة ذكرتني بمناطق الغابات الافريقية، وكنا بجانب وادي نهر يسمونه (النهر الأبيض) يتلوى ليات متعاقبة وسط تلك الجبال اللا نهائية، وكان ماؤه آسنا إذ يفيض بالماء إبان الشتاء حين تكثر الثلوج التي تكسو تلك الجبال - جبال البرز - ولقد ظلت المناظر رائعة ساحرة خلاف ما عهدناه في ربى إيران المنفرة التي عريت عن النبت، ونضبت مياه مسايلها، وكانت بعض الوهاد وما يزينها من قرى صغيرة أشبه ببلاد اسكندناوه وسويسرة، علىأن الشجر مختلف إذ لم أر للصنوبر من أثر حتى في أعالي الذرى، وكله من أشجار المناطق الحارة تكثر حوله الطفيليات والأعشاب المتسلقة التي تسد الغابة سداً ولذلك يطلق عليها القوم كلمة (جنجل) الإنجليزية، وكلما قاربنا بلدة (الرشت) بعدت الجبال وانفسح السهل وغص بالقرى والمزارع التي شهرت من أجلها البلدة وبخاصة في الأرز والطباق، وهذه الناحية أشهر بلاد فارس الزراعية. أخيراً دخلنا الرشت التي كانت عاصمة بلاد الديلم قديما، وهي اليوم عاصمة مقاطعة (جيلان) الفارسية فبدت مدينة عامرة أخف روحا من طهران نفسها، وقد حاكت المدن الأوربية، ويظهر أنها تأثرت طويلا بالروس يوم كان لهم النفوذ في هذه المنطقة، لذلك كانت جموعهم كثيرة، نساء ورجال واللغة الروسية يعرفها الجميع إلى جانب لغتهم الفارسية. وغالب البيوت من طابق واحد تظهر وكأنها أقيمت كلها
من جديد، وهي ذوات سقوف متحدرة يكسوها الآجر الأحمر خلاف ما شاهدنا في سائر جهات فارس، ذلك لان مطر المنقطة غزير يفوق مقداره المتر، ويعزى إلى رياح شمالية غربية سائدة تهب من بحر الخزر على تلك المرتفعات فتدفعها مطرا وتسكو ذراها ثلجا، وتزيدها في الشتاء أعاصير البحر الأبيض التي تندفع من بحر قزوين إلى بحار الهند الدافئة خفيفة الضغط ويظل المطر زهاء ثمانية شهور ولم تخل السماء من الغيوم وكان الجو أميل إلى الرطوبة حتى في هذا الفصل الجاف، لذلك قل بها التراب الذي كان ينغصنا في بلاد فارس كلها، وكان جوها لطيفا محتملا عن جو طهران، إلا إذا انكشفت الشمس فعندئذ يصبح الحر شديدا. على أن الجهة تعرف بكثرة الأوبئة والحميات بسبب الحرارة والرطوبة معا، وقد زادها حرا أنها على منخفضات بحر الخزر التي تنخفض عن مستوى البحر بنحو خمسة وعشرين مترا لذلك يجري القول على لسانهم: ماذا أذنب فلان حتى يولى حاكما على الرشتت. على أن حظي كان موفقا إذ كانت أيامي هناك أجمل أيام قضيتها في إيران كلها. وفي المدينة مجموعة من متنزهات منسقة تقوم به المقاهي، وفيها تسمع الموسيقى الشجية وقد اختلطت الأنغام الفارسية بالروسية، وكلاهما مما تستريح له آذاننا.
أقلتنا السيارة إلى بهلوي على شاطئ بحر الخزر - ولا يسمونه هناك بحر قزوين أبداً - فكان الطريق يمتد أربعين كيلومترا وهو يتولى وسط الإحراج المغلقة يؤمها النمر والحيوان المفترس ومن أعجب ما رأيت فيها الكروم البرية التي كانت تنمو في كل أرجائها ومنها نقلت كروم أوربا. اخذ الشجر ينضمر ويندر كلما قاربنا البحر ثم انعدم، وأضحت السهول تكسى ببساط من خضرة إلى البحر، وكانت بيوت القوم أخصاصا من الأعواد والخشب يكسوه القش الثقيل في شكل مخروطي أو متحدر السقوف، كأنها مساكن الغابات الاستوائية على ضاف فكتوريا نيانزا. والقوم يستأصلون الاحراج في مسافات يزرعونها من الأرز والطباق والقطن والكتان، والعمل يقع كله على السيدات اللاتي كن يظهرن في ملاءات بيضاء ناصعة وقد استرعى جمالهن نظري، فهو مخالف للسحن الفارسية البحتة ويظهر أن اختلاط الروس بالفرس هناك اكسب أولئك جمالا عالج كبر الأنف الفارسي، وأشرب اللون الفارسي الأبيض بعض الحمرة الروسية الجذابة، والناس في تلك الناحية يمونون أنفسهم بكل شيء من عمل أيديهم حتى الملابس ينسجونها من القطن والكتان والحرير - وهم
يربون دود القز بكثرة
دخلنا بهلوي فكانت بيوت الفقراء اخصاصا، على نمط تلك التي في الغابات، يحفها سور من غاب، وعلى البحر أقيمت الميناء بروافعها وبواخرها وزوارقها، وتلك الناحية يسمونها (غازيان) وإذا ركبت البحر أقبلت على شبه جزيرة تبدو عليها المباني الفاخرة والشطآن المنسقة، وهذه هي بهلوي أو أنزيلى القديمة، ركبت البحر إليها في ربع ساعة، وإذا بها آية في التنسيق والنظافة، بيوت فخمة، وطرق مرصوفة، ومتنزهات عدة، وقد مدت على شواطئ البحر الحدائق والمقاهي، فكنت وأني في إحدى مدن الرفييرا تماما. وفي الحق أن تلك الناحية من فارس فريدة، تختلف عن سائر جهات فارس في كل شيء: في طبيعة الأرض، وفي الجو، وفي النبت، وحتى في أهلها فهم أكثر نشاطا وجمالا. أما الناحية الخلقية فهي هنا أكثر فساداً، ولا شك إن للإباحية الروسية أثراً كبيرا في هذا
ولقد حققت حلما طالما جال بخاطري هو أن أركب بحرر الخزر - بحر طبرستان قديما - وأطوف بسواحله ذات الطبيعة المختلفة من غابات كثيفة تغص بها سواحله الجنوبية، إلى غابات جبلية في غربة، إلى كلأ وعشب صحراوي في شرقه، إلى أرض ملحة مهملة في شماله. لكن الشبح الروسي لم يتح لي التجوال كاملا فلبثت اليوم كله أجول في مياهه الفارسية، وقد كان ماؤه هادئا، على أنه إبان العواصف يعلو موجه ويضطرب، وقد تذوقنا ماؤه فإذا به نارد الملح على خلاف ما عهدت، فخلنا أن ذلك راجع إلى قرب المصاب العذبة. لكن القوم يعرفونه أميل إلى العذوبة في كل أرجائه وأيدوا رأيهم بكثرة أسماكه نوعا وعدداً. ولذلك كانت مصائده هامة للدولتين الفارسية والروسية، حتى أضحى السمك الغذاء الرئيسي، فهو والأرز عماد الطعام، وقد كان لهما أثر حسن في أجسام الأهلين، فهي ممتلئة ولم أعثر على القامات الطويلة والأجساد السمينة إلى في تلك الناحية من فارس كلها
اصحبنا يوم الجمعة والجو جميل، والسماء تنتثر بالغيوم بعد أن أمضينا ليلتنا في نزل (سافوى) في الرشت، وهو يطل على ميدان البلدية، تمتد منه الطرق المستحدثة، تزينه المتنزهات، والمنظر من شرفه النزل رائع: السماء تنقشها السحب، والخضرة تمتد إلى الآفاق، والمباني حولنا أنيقة، وجماهير الناس في أنظف ثيابهم - لأن يوم الجمعة يوم الراحة القومية. يروحون ويغدون في كثرة تسترعي النظر ولا يخلو الجمع من طائفتين
الغانيات في ازرهن السوداء المهفهفة والمتسولين الذين يمسكون بتلابيبك ويصيحون في نغمة البائس المستميت، واكّفهم مبسوطة وكثير منهم من يظهر في هندام نظيف ووجه مشرق، يدل على أنهم على شيء من اليسار، لكن التسول أضحى في القوم عادة متأصلة ذميمة. وكثير من مباني الرشت وبهلوي بالخشب لكثرة الغابات حولهما، لذلك ترى في كل برجاً عالياً يظل فيه الرقيب صباح مساء لينذر بالحريق إذا ما بدا دخانه أو لهيبه في أية ناحية من البلدة.
قمنا مودعين تلك المنطقة البديعة التي تصلح للراحة في الربيع والخريف. وأخذت سيارتنا تشق الخضرة التي زادت كثافتها تدريجا، وبعد ثلاثين كيلومتراً بدت جبال البرز، أعني أن السهول تمتد إلى بحر الخزر سبعين كيلومترا؛ وكانت الأشجار الكثيفة تغطى الجبال إلى أعلى ذراها، والربى تبدو مدرجة الواحدة وراء الأخرى، وسحاب السماء يكاد يلامسها وإن لم يبد للثلج فوقها من أثر. وكانت طيات الوديان بمائها الشحيح تختفى وراء النجاد تارة ثم لا تلبث أن تتكشف في مباغتة تقر لها العين. وكان المنظر العام ونحن وافدون من الرشت أروع منه لمن يدخل البلدة قادماً من طهران. وظل جلال الغابات حولنا زهاء خمسة وعشرين كيلومتراً، ثم ندر الشجر وانعدم فجأة، وأضحت عقد الجبال قاحلة منفرة مسافة ذرعها سبعون كيلومترا، كان الطريق فوقها طيات قاسية رهيبة، خصوصا في ضوء القمر الشاحب، وفي سكون الليل الرهيبة.
العالم المسرحي والسينمائي
بين مسرحي الدرام والكوميدى في مصر
لناقد (الرسالة) الفني
لعل من أعجب ما يلاحظه المتصل بالمسرح المصري في العشر
سنوات الأخيرة اتصالا وثيقا أن المسرح الهزلي - الكوميدي - كان
أكثر توفيقا ونجحا فمن المسرح الجدي - الدرام - وأقوى على مغالبة
الأزمات والعقبات التي عرضت في السنون الأخيرة وأودت بالفرق
التمثيلية إلى الدرك الذي وصلت إليه.
وأغرب من هذا وأبعث على العجب أمن مسرح الدرام بدأ غنياً فافتقر، بينما أن مسرح الكوميدي بدأ فقيراً ثم اغتنى. وما نعني هنا هذا العرض الزائل وهذه الدريهمات التي تأتي بها الظروف أحيانا، وتذهب بها الظروف أحيانا أخرى، وإنما نعني في حديثنا عن الفقر والغنى الناحية المعنوية والفنية لكل منهما.
فمنذ عشر سنوات أو قبل ذلك بقليل، كانت فرقتا الأستاذ جورج والأستاذ عبد الرحمن رشدي تنهضان بعبء العمل المسرحي على أكفأ ما يكون، وتغذيان جمهورهما بأنفس الروايات المترجمة أو المؤلفة على السواء، وكانت الفرقتان تضمان مجموعة من خيرة ممثلي وممثلات المسرح في مصر، وكان الإقبال على حفلاتهما ليس بالقليل وحلت الفرقتان لأسباب عارضة لسنا بصدد تفصيلها هنا وتألفت على أنقاضهما فرقة رمسيس التي اجتمع لها من أسباب القوة والبروز ومقدمات النجاح والنصر ما لم يجتمع لفرقة قبلها، فالمال جم وفير، وثمت مسرح خاص أنيق، ونخبة من أحسن الممثلين والممثلات، ومجموعة منتقاة من أجود الروايات، وقبل كل هذا الرغبة القوية في العمل الفني الحق، والإرادة التي لا ينقصها الحزم، ونشطت الصحافة إذ أحست هذه الجهود الجبارة تبذل في سبيل الفن فأفردت صحفنا اليومية الحديث عن مسرح والتمثيل أبوابا خاصة بل صحائف كاملة، وكان ذلك حدثا جديداً في عالم الصحافة، وتفرغ كثير من الأدباء للكتابة عن التمثيل ونظمت لأول مرة في تاريخ المسرح حركة النقد تنظيما واسع النطاق، وقصارى القول أن
مسرح الدرام في ذلك الوقت كان غنيا بل طائل الثراء بالجهود التي تضافرت لإنعاشه وبعثه وخدمته الخدمة الحقة التي تعلي من شأنه وترفعه إلى المنزلة التي هو جدير بها، ولم يكن ينقصه إقبال الجمهور الذي تدفق وحيا القائمين بهذه النهضة المباركة تحية طيبة مباركة.
كان ذلك منذ عشر سنوات، أي في مستهل افتتاح مسرح رمسيس الذي يؤرخ ظهوره عهدا جديدا في تاريخ المسرح في مصر، ما في ذلك شك، ولا من الاعتراف به بد. ولكن انظر اليوم أين نحن وأين مسرح الدرام، واين تلك النهضة التي بدأت قوية وسطعت كالشهاب اللامع. ثم إذا بجذوتها تنطفئ على الأيام رويداً رويدا، وتنحدر من قمتها الباذخة سنة بعد أخرى حتى إذا هي اليوم في أسفل الوادي، بل في هوة سحيقة وا أسفاه، وفي حال تدمع لها العين ويدمى لها الفؤاد.
ها هي فرقتنا الجدية تغلق دورها وتعلن فشلها، ويتفرق أفرادها يطوقون الأبواب كبائس في يوم عيد يرى الناس في زينتهم ونعيمهم وهو مملق مسكين، كده الضنى وأجهدته الحياة، وأسلمته صروف الأيام إلى المسغبة والعوز، ويخفض جناح الذل من الحاجة ويستعدى على مطالب العيش وقوت الأهل إحسان المحسنين وبر الكرام العاطفين
كان مسرح الدرام كما رأيت، وحاله اليوم كما ترى، كان غنيا وافر الغنى، فأصبح فقيرا شديد الفقر، كان رفيع العماد شامخ الذرى فإذا هو اليوم أنقاض وخرائب وموحشة.
لكن مسرح الكوميدي حاله غير هذه الحال، ولشد ما يختلف في نشأته وكيانه وتطوره عن مسرح الدرام! فبينما كان هذا قوياً زاخرا بفرقة العاملة وبمن تضم من أفراد مشهود لهم بالمقدرة والكفاءة، كان الآخر لا يزال في مستلهل حياته ومطلع فتوته يلجأ إلى دور صغيرة ضيقة من التجاوز في التعبير أن نسميها مسارح، وكان لا يضم إلا قلائل جمعتهم وحدة الغاية والميول فتكاتفوا على العمل سويا في النوع الذي وجدوا من أنفسهم ميلا إليه ومن استعداهم كفاء له. وأخرجت بعض روايات جورج فيدو المؤلف الفرنسي النابه الذكر فلقيت نجاجا كبيرا وبدأ مسرح الكوميدي ينتعش قليلا قليلا ولكنه لم يحرز التوفيق كله إلا في فرقة مسرح الاجبسيانه - رنتانيا اليوم - حيث بدأت الروايات الاستعراضية الكبرى والتي كانت تمثل كل منها الأسابيع والأشهر المتوالية بنجاح عظيم يفوق الحد والجمهور تكتظ
بأفراده كل يوم مقاعد الملعب حتى ليس ثمت موضعا لقدم.
على أن مسرح الكوميدي طحنته الأزمة وحدت من جهوده غير أنه قاومها طويلا وثبت للعاصفة المجتاحة. والفرقة الوحيدة التي استمرت إلى اليوم على العمل هي فرقة للكوميدى، كما أننا نجد فرقة ثانية للكوميدى تؤلفه في هذا الموسم وتلقى نجاحا كبيرا في الوقت الذي تغلق فيه فرق الدرام أبوابها وتنصرف عنها الجماهير. وبينما نسمع صرخات مديري الفرق الدرام يستغيثون بلجنة تشجع التمثيل ويطلبون منها المدة والمعونة، نجد مدير فرق الكوميدي يعتمدون على محض جهودهم وعملهم، فان مدتهم اللجنة ببعض المال فلا بأس، وان طوت عنهم معونتها فلا بأس أيضا، وهم مستمرون على بذل ما في وسعهم لاكتساب رضى الجمهور وضمان إقباله وتشجعه.
أليس هذا الموقف جديراً بالتأمل والدرس؟ قل في تعليله ما تشاء وقل في أسبابه ونتائجه ما تقول، ولكن تبقى بعد ذلك الحقيقة الواقعة المنسوبة لا غناء في تجاهلها ولا نفع يرجى في التغاضي عنها وعما في طياتهم من معان هي خليقة بكثير من العناية والفحص. فإذا أبيت إلا أن أدلي بدلوي في الدلاء وإلا أن اذكر لك مرجع هذا في رأيي فلعلي لا أكون قد جاوزت الحق والواقع إذا قلت أن مسرح الدرام لم يعمل على التقرب من الجمهور ولا على أن يدوم له الطعام الذي يسيغه ذوقه، بينما عمل مسرح الكوميدي على هذا فنجح من حيث أخفق الأول
غلبت على مسرح الدرام الروايات الإفرنجية المترجمة وهي بشخصياتها وجوها، وعادات أبطالها وأخلاقهم، وبيئتهم وتصرفاتهم وكل ما يتصل بهم بعيدة عن ذوق الجمهور المصري، وقد تكون بعيدة أيضاً عن فهمه وإدراكه، غريبة عنه بكل ما فيها ومن فيها، ولكل شعب ذوقه الخاص ولذلك كان لكل أمة مسرحها الخاص، والمسرح في كل بلد يمثل الوسط الذي يعيش ويترعرع فيه، ولا تكاد تقحم المسرح الفرنسي في إنجلترا، ولا المسرح الإنجليزي في فرنسا، ولست كل الروايات الصالحة للعرض هنا، تصلح للعرض هناك، وقد تجد نماذج تنال النجاح والتوفيق في البلدين ولكنها الاستثناء الذي يثبت القاعدة ولا ينفيها. لهذا فشل مسرح الدرام لان الرواية المترجمة غلبت عليه.
والحال على النقيض في مسرح الكوميدي حيث لا تجد إلا الرواية المصرية، ولا
الشخصيات المصرية الصميمة التي تعرفها وتحبها وتعيش معها في جوليس بالغريب عليك وفي بيئة أنت بها جد عليم. وقد افلح مسرح الكوميدي في خلق نماذج من الشخصيات المصرية قد تبدو عليها مسحة التجسيم والتهويل، أو فهي نماذج (كاريكاتورية) ولكنها مصرية قبل كل شيء، ثم هذه هي صنعة الفن الكوميدي أولا وآخراً، وعرف مسرح الكوميدي إجادة من بعض الممثلين لم يبلغها اندادهم في مسرح الدرام، لأن الأول عرف التخصيص، واعني أن من بين ممثليه أفراد تخصصوا في إخراج شخصيات معينة فأجادوها وبحكم المران والاستمرار، وتوغلوا في صميمها فأخرجوا منها الطريف المبتكر. وهذه (المصرية) التي غلبت على مسرح الكوميدي كانت العامل الأول في نجاحه.
على أن شعب هذا الوادي، شعب سهل لين، محب بفطرته للمرح يعب فيه بنهم وقابلية، ولعل في هذا أيضاً بعض السبب في إخفاق مسرح الدرام ونجاح مسرح الكوميدي ومن الخير أن نعرف للمسرحين ما أديا من رسالة الفن وأن نذكر لكليهما ما كان له من إحسان أو أساءة، فالمسرح المصري يقف اليوم بمجموعة مفترق الطرق فأما إلى الصدر وأما إلى القبر، ومن أوجب الواجبات في هذه الفترة الدقيقة من حياة المسرح أن نذكر للمحسن إحسانه وأن نعدد للمسيء نقصه وعيوبه، فيمضي الأول في طريقه مجداً عاملا، ويصلح الثاني من نفسه أن أراد إلا يتخلف عن زميله أو يدرك غباره.
محمد علي حماد
الحركة المسرحية والسينمائية في الخارج
باريس
مثلت أخيراً على مسرح (جمناز) رواية جديد لهنري برنشتين المؤلف المسرحي المعروف باسم (الرسول) وقد أدار المؤلف موضوعه حول فكرة غريبة، وكأنه يرد أن يقول أن:
زوجة ابتعدت سنة عن زوجها الذي تعبده يمكن أن تسلم نفسها لشاب جاء من عند الزوج كرسول يحمل لها حبه وغرامه، وهي إذ تسلم نفسها للرسول يخال لها أنها إنما تستسلم للزوج نفسه. وهذا غريب والفكرة كما ترى يحوطها الغموض والإبهام. ولعل برنشتين يريد أن يضع في علم النفس قاعدة جديدة.
واليك تلخيص موجز للقصة: سافر مسيو نقولا - الزوج - إلى أفريقيا ليبني لنفسه مستقبلا جديدا في ميدان العمل وليحصل على ثروة وفيرة يسعد بها زوجته الشابة التي يعبدها. ولم يكن له حديث في غربته إلا عن زوجته ماري وعن حبه لها ويجلس الساعات الطوال مع زميله جلبرت يتحدث عنها حديثاً مسهبا وانتهى الأمر بان أحب جلبرت هذه المرأة. . والأذن تعشق قبل العين أحياناً. .
ويذكرنا هذا الموقف بشبيه له في رواية ألمانية معروفة تدعى (كارل وأنا). ويحدث أن يصاب جلبرت بما يقعده ويضطره إلى العودة إلى وطنه، وفي باريس يلتقي بماري الزوجة الأمينة على شرف زوجها والتي رفضت بأباء ما أظهره لها كثير من الرجال من الحب والهوى. ولكن ماري هذه سرعان ما تصبح عشيقة جلبرت، لا لأنه يحبها ويتطلبها، ولكن لأنها تحس فيه حرارة حب زوجها لها وحنينه إليها. يرجع الزوج فجأة وعلى غرة من العاشقين ويكتشف ما بينهما من صلات فيكون بينه وبين زوجه مشهد رائع ويعلنها بالانفصال النهائي. ثم يزمع السفر والعودة إلى أفريقيا وإذ يهم بالرحيل تقدم ماري، ويعلم الزوج أن جلبرت انتحر لأنه أدرك أن المرأة لم تحبه أبداً وإنما تحب فيه زوجها الغائب ويقبل الزوج هذا التفسير الغريب
هوليود
تتجه أنظار شركات السينما في هوليود نحو الروايات الأدبية الكبيرة التي دبجتها يراعة كبار الكتاب العالميين. وقد ذكرنا قبلا ان بين برنامج السنة القادمة روايات من أقلام
برناردشو وإميل لدويج وولز وغيرهم. ونذكر اليوم ان جان هارلو الممثلة الشقراء الفاتنة أغرمت بدور بورشيا في رواية (تاجر البندقية) لشاكسبير وتنوي إخراجه على الشاشة، وميرنا لوي تحب أن تظهر في رواية أبسن المعروفة (ببيت الدمية) وجون باريمور يستعد لإخراج (هاملت) ومن المعروف أنه مثله على المسرح ونال فيه نجاحا كبيراً، وشارلي شابلن أيضاً من هواة هذا الدور وقد فكر في تمثيله في وقت من الأوقات كما فكر في تمثيل دور (نابليون).
وستمثل كي فرانسيس دور مدام دي بارى المرأة الشهيرة في تاريخ فرنسا. وتظهر جلوريا سوانسون في دور جوزفين أمام أدوارد روبنسين في رواية (نابليون) التي اقتبست عن الكتاب الذي وضعه أميل لدويج عن إمبراطور فرنسا العظيم
لندن
أقامت جريدة (ايرا) الإنجليزية المسرحية مسابقة لتتعرف رأي قرائها في أحسن رواية ظهرت في إنجلترا في العشر سنوات الأخيرة، وفازت بالأولوية رواية (سان جون) لبرناردشو وقد نالت 16 درجة، وتلتها رواية (نهاية الرحلة) للكاتب المسرحي شريف ونالت 8 درجات، وهناك بعض الروايات الشهيرة جاءت في الرتبة الخامسة والسادسة ومنها (طريق للحياة) لنويل كوارد. ونذكر بهذه المناسبة أنها مثلت أخيرا سبعة أسابيع على أحد مسارح نيويورك بلغت أرباح مؤلفها في خلالها 20. 000 جنيه.
2 أبو علي عامل أرتست
تأليف الأستاذ محمود تيمور
عرض ونقد وتحليل
ولتيمور موهبة فائقة في وصف آلام الناس ونزعاتهم في الحياة، دون ان يترك في نفس القارئ شعوراً بالكآبة أو الانقباض، وقليلون من الكتاب من لهم مثل هذه القدرة، فهم إذا تعرضوا لوصف الآلام أسرفوا في عواطفهم وشعروا بالكآبة والضجر وحملوا القارئ على أن يفقد حيوتيه، أما الوصف في أقاصيصه فقد يكون أقرب إلى فلسفة الجمال منه إلى استدرار عواطف الرحمة والإشفاق
على ان هناك صفتين أخريين نلمحهما دائماً في أدب تيمور: أولاهما تغلب عاطفة الخير في أقاصيص على عاطفة الشر، وقد يعود هذه إلى أنه يرى الحياة من جانب واحد هو الخير، وبنظرة ثابتة هي الاطمئنان، وهو من هذه الناحية يشبه دكنز، عندما أراد أن يرسم لنا صورة مكويرومسترمل، جعلهما ينجحان في استراليا، مع أن شخصيتهما لا تدع أمامنا مجالا للشك في أنهما خرجا ليلاقيا الخيبة
وقد تدفعه عاطفة الخير إلى ان يحجب نور الحقيقة عن نظر القارئ، وعندما يريد ان يصارحه بهذه الحقيقة، تراه يشير إليها من طريق خفي وبدون ان يعلق عليها بقلمه، كما في أقصوصه (جحيم امرأة)، فأنه بدلا من ان يصارحنا بحقيقة الخواجة نعوم وموقفه من خيانة زوجته، نراه يلجأ إلى التستر والتلميح، خاصة عندما ناوله عبد السميع مبلغ الثلاثين جنيها بحجة أنها ثمن لأسهم شركة يريد أن يؤسسها، مع أن فطنة القارئ تكاد ترشده إلى ان هذا المبلغ لم يك إلا ثمناً لثلاثين ليلة قضاها العاشق المضطهد في أحضان الزوجة العابثة!
والصفة الثانية التي يريد أن نتحدث عنها، هي تلمذته على أدب المرحوم محمد تيمور أخيه وتأثره الشديد بفنه، وهذه الصفة البارزة تدفعنا إلى أن نقارن بين أدب الأخوين فالفرق بينهما واضح جداً
كان فن المرحوم محمد تيمور يقوم على ميزات ثلاث: اللغة والمحاورة وبناء هيكل الرواية، وكان يؤمن بان الفن هو مرآة الطبيعة فيجب ان ننقل إليه الطبيعة كما هي من غير تجميل، ومن اجل هذا وكان ينتصر للعامية ويرى انه يمكن ان نعبر بها عن كل ما يراد التعبير عنه، ولذا جاءت لغة الحوار في رواياته طبيعية لا أثر للصناعة أو التكلف فيها، وكانت نظرته للحياة اكثر إدراكاً فكان يستوضح مظاهرها ويدور في أعطافها ليستمد فنه من جميع نواحيها، انه ليخيل إلينا ونحن نطالع إحدى رواياته انه قد تقمص بطلها
أما محمود تيمور، فبالرغم من طابع الصدق الذي يتسم به أدبه وجذوة الحياة التي تشتعل في جوانب أقاصيصه، فأنا نكاد نشعر كنقدة - بأنه يبخس المتكلم حقه ولا يعطيه الحرية التامة في أن يعبر عن أفكاره وميوله باللغة التي توافق مزاجه وتلائم بيئته، والقصصي العبقري، هو الذييحس بالحوادث تجري حوله، فلا يكتفي بأن ينقل إليها صورها ويصبها
في القالب الفني، بل عليه إلى جانب هذا إلا يجعل أشخاصه جامدين، وان يعطيهم الحرية في أن يعبروا عن احساساتهم باللغة التي توافقهم وتتلاءم مع طباعهم، فالنفن هو كل شيء في القصة واليه يرجع عامل نجاحها أو سقوطها!
وإني أثبت بهذه المناسبة رأيا أبداه المستشرق الروسي كراتشقوفسكي عن فن محمود تيمور القصصي، إذ قال: ليست أقاصيصه إلا درساً بسيكولوجيا وتحايلاً لأحوال النفس وتطوراتها في الشخص الواحد مع بعض الدرس للأشخاص المجاورين له في البيئة، ومزية التركيز وقلة الحركة فيها يجعلها تؤثر في النفس أحياناً تأثير الدراما المسرحية المحزنة.
أما (حسن أبو علي) فقصة شاب مأفون مهرج، هوى التمثيل وتأليف الروايات المسرحية، فترك علمه والتحق بإحدى الغرف التمثيلية لاشباع نهمته الفنية، وهي نزعة كانت سائدة عند الكثيرين من شبابنا إثر ترددهم على دور التمثيل، أما الآن فليطمئن بال الأستاذ تيمور ولان السينما قضت على هذه النزعة في النفوس!
والقارئ يشعر بعد مطالعته لهذه القصة، بروح التهكم المر والسخرية اللاذعة التي لجأ المؤلف اليها، في تصوير هذه الشخصية المشعوذة التي انبعث حبها للتمثيل. ولم يكتف المؤلف بان يقسو على بطله يعذبه في الحياة من أجل الفن وفي سبيله، وأن ينسب إليه موت عمه ليتخذ من هذا وسيلة لإظهار مواهبه الفنية، وأن يدفعه إلى ارتقاء منبر المساجد ليعظ الناس في يوم الجمعة كأنما هو على خشبة المسرح، وأن يتسلط عليه فيدفعه أيضاً إلى أن يبدد الثروة الضئيلة التي تركها عمه، فيشيد بها مسرحا يهدمه المتفرجون على رأسه في ليلة الافتتاح! لم يكتف المؤلف بهذا كله بل نراه قد أجهز عليه بنفس القسوة وحكم عليه بالموت!
وبعد فقد فرض الأستاذ تيمور هذا اللون من الأقاصيص على القارئ وروى ظمأ المتعطشين إلى القصة في مصر والذين كانوا لا يقرأونها إلا باللغات الإفرنجية أو مترجمة إلى اللغة العربية فهل تراه وفق في عمله؟ لا شك في أنه وفق إلى حد بعيد، يدلنا على هذا ان أكثر أقاصيصه مترجم إلى اللغات الحية وأن الأستاذ شادة مدير دار الكتب المصرية السابق ألقى عنها محاضرة نفيسة في مؤتمر المستشرقين السابع عشر وأن مجموعة
أقاصيص (أبو علي عامل أرتيست) هي المجموعة السابعة التي يقدمها الأستاذ تيمور إلى قراء العربية!
محمد أمين حسونة