الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 350
- بتاريخ: 18 - 03 - 1940
بعد إسدال الستار على مأساة فنلندا
فشل العقل. . .
فشل العقل في السياسة كفشل القلب في الطب معناه الانخذال والانحلال والموت. وليس في مقدورنا نحن أصحابَ الكلام وأرباب الأقلام إلا أن نصنع ما يصنع صاحب القصر الأبيض في واشنطون ورب القصر المقدس في روما: نصوغ اللفظ والدمع مرائي ومآسي وأكاليل كلما فشل الضمير والعقل، فمات بفشلهما الحق والعدل، وكان لذلك ضحايا من الأمم والناس ذهبوا أشلاءً ودماء بين الألم والعَدم!
أُسدل الستار الختامي أول أمس على المأساة الفنلندية الفاجعة بعدما ظلت ثلاثة أشهر ونصفاً تمثل على مسرح من الجليد والدم اصطرعت عليه القوة والحق، والبغي والعدالة، والكثرة والشجاعة، والنذالة والحميَّة، والعالم كله يشهد هذا الصراع الهائل وهو شاخص البصر مشدوه اللب لا يملك إلا التصفيق للبطل والتصفير للنذل!
كان كل واحد من الفنلنديين أمام ستين من الروس! وكان هذا الواحد ضئيل الحظ من الميرة والذخيرة والسلاح والمدد؛ وكان هؤلاء الستون وراء صفوف متلاحقة من آلات الحديد والنار، ومع ذلك استطاع هذا الواحد أن يمعن في أولئك الستين تقتيلاً وتنكيلاً وأسراً، وهو يغوص في الثلج ويكز من البرد ولا يكاد يجد الدفء ولا القوت ولا النوم!
ذلك هو الإيمان الصادق الصابر الذي يأذن به الله أن تغلب الفئة القليلة الفئة الكثيرة. وتلك هي البطولة القائمة على عزة النفس وكرامة الجنس وإيثار التضحية وتقديس الوطن. فلو أن العقل السياسي في جارتي فنلندة ساعد هذه المزايا النادرة فنهضتا لمناصرتها، ومكنتا الحليفتين من مؤازرتها، لخنس ستالين خنوس الجبان، وذلّت البلشفية ذل الأبد!
حاربت فنلندة مكرهة ثم سالمت مكرهة. أكرهها أعداؤها على الحرب، وأكرهها أصدقائها على السلم، فدافعت عظيمة، ثم صالحت كريمة. والجاني عليها في الحالين هو فشل العقل فيمن عادى وفيمن صادق. فلو أن ستالين لم يصب باحمرار العقل في مفاوضته لفنلندة قبل الحرب، لظفر منها بخير مما ظفر به بعد الصلح. إنه اقتطع من الوطن الفنلندي مقاطعات عزيزة، ولكنه أخذها بعد أن جعلها المرشال البطل مانِرْهايم مقبرة هائلة، دفن فيها مائتي ألف جندي من الروس معهم ألف وخمسمائة دبابة وسبعمائة طائرة؛ وكل أولئك مكفن بهيبة
الجيش الأحمر وكرامة قواده وقيمة عتاده!
ولو أن الدول الشمالية لم تصب بشلل العقل لفكرت قبل هذه الحرب أو أثناءها فيما تفكر فيه اليوم من التحالف العسكري بينها، فإن ذلك كان عسِيّاً أنه يشفي الدب من غروره ويكسر من طماحه
ولو أن الدول الديمقراطية لم تصب بتردد العقل لخرقت حياد السويد والنرويج لتدفع الموت المحقق عن الجارة الباسلة الصغيرة. وهل عليك من بأس إذا وطئت حمى الجار لتطفئ الحريق في بيت جاره؟
إن فنلندة حاربت في سبيل الحق والسلام والمدنية، وكان لها على المجاهدين في هذه السبيل الحفيظة والنصرة. ولو لم يكن لها وللحلفاء قضية عادلة مشتركة توجب التضامن والتعاون، لكان من شهامة الطبع المدني ألا يدعوا هذه البطولة العجيبة التي أدهشت العالم في مغربي الأرض ومشرقيها تيأس من النصير فتستكين للظلم وتستنيم للمذلة!
فما أحرى الذين فرطوا في جنب فنلندة بالأمس أن يتداركوا عواقب تفريطهم اليوم! لقد تثاقلوا عن إسعافها حتى اندك القائم وأقفر الآهل وأجدب الخصيب، فأصبح أربعمائة ألف من أهلها لا يجدون مورداً ولا مأوى. إنهم ساعدوا العدو سلباً على التدمير، فليساعدوها إيجاباً على التعمير. ومن لم ينهض ليقيك الطعنة النفاحة، فلا أقل من أن يساعدك عليها بالضماد والمرهم
هذا أوان الثمر المرجو من عطف الديمقراطية في أوربا وأمريكا على فنلندة البائسة. ولن يخالجنا الشك في أن دعاة الحرية وحماة المدنية سيذكرون اليوم أن فنلندة أصيبت بنقص شديد في الأنفس والأموال والثمرات، ففقدت من شبابها البر العامل خمسين ألفاً بين قتلى وعجزة، وخسرت من ثراها الغالي المثمر ثلاثين ألف كيلو متراً من أزكى الأرض تربة وأوفرها ثروة. وسيذكرون غداً متى جلسوا للصلح على أنقاض البلشفية والنازية أن صلح فنلندة قد انعقد على دخن، وجرحها قد اندمل على بغي، وسيرون يومئذ أن هذا الجرح لا يزال تحت جُلبته الخادعة يجيش ويقيح ويضرب. فهي حرية أن تعد محاربة معهم بالقوة، وإن لم تستطع مباشرة هذه الحرب بالفعل
إن في أخطاء الناس وأرزاء القدر عبراً لا تنقضي الإفادة منها. فاستشهاد بولندة واستخذاء
فنلندة نذيران للأمم الصغيرة بخطر التواكل والتخاذل والعزلة. وقد قلنا مرة في هذا المكان إن سياسة الاتحاد هي وحدها الأمان من سياسة السمك. فإذا أرادت الدويلات المجاورة التي حكمت عليها الطبيعة بالضعف لقلتها أو جهالتها أن تحفظ على نفسها الحياة وتضمن لشعوبها الحرية، فليس لها غير سبيل الولايات المتحدة الأمريكية؛ فإن في الاتحاد القائم على صلاة الدم والروح والجوار الخيرَ المتصل للعالم، والضمان الدائم للسلام!
احمد حسن الزيات
في أرجاء سيناء
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 2 -
من أبي زنيمة إلى الدير
خرجنا من أبي زنيمة والساعة ثمان من صباح الثلاثاء ثالث عشر ذي الحجة، فسرنا على الساحل بين البحر عن يميننا والجبل عن يسارنا صوب الجنوب زهاء أربعين دقيقة، ثم ملنا ذات اليسار تلقاء الشرقية في سهل واسع كثير الحجارة والتلال قد استبانت فيه الطريق واستقامت، فأسرعنا عشر دقائق حتى بلغنا وادياً تشرف على جانبيه جبال رملية مصفرّة ثم جبال حمراء شاهقة، أدّى بنا إلى صخور عظام عليها نقوش بخط سرياني، فنزلنا عندها قليلاً والساعة عشر، ثم ركبنا فمررنا بعد ساعة بواحة ناظرة جميلة وجبال رائعة شاهقة محمرّة لا مختلطة الألوان. وجبال سيناء كثيرة الأشكال والألوان، قد ألحّت عليها الشمس والرياح والأمطار على مرّ العصور تحطيماً وتشكيلاً وتلويناً، فما يزال الرائي في عجب من اختلاف مرائيها وكثرة أشكالها. وقد وجدت فيها تفسيراً بيّناً للآية:
(ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها، ومن الجبال جُدَدِ بيض وحمرٌ مختلفٌ ألوانُها وغرابيب سود، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك. إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء).
وبعد نصف ساعة من الراحة الأولى رأينا أشجاراً ونخيلاً تملأ الوادي، فعرفنا أننا في وادي فاران. وبعد مسيرة خمس دقائق في هذه الخضرة بلغنا ديراً عليه سور قصير وفيه حديقة، وهو دير فاران التابع لدير سنت كترينا الكبير. نزلنا هناك لنستريح في الدير ونرى ما فيه.
دخلنا الدير فرأينا مجرى ماء بارد عذب، فعررنا أنه ينبوع الحياة في هذه الواحة الكبيرة. وصعدنا على سفح الجبال المشرفة على الدير فإذا بناء قديم من اللِبن مهدم هو بقية كنيسة. ورأينا على عدوة الوادي الثانية وفي بسطته أنقاض أبنية وآجر وحجارة منثورة قيل إنها آثار مدينة فاران، وصوامع كانت لتعبد الرهبان فيه.
وهي على 12 كيلاً شمالي الطور وعلى 130 كيلاً إلى الجنوب والغرب من قلعة النخل.
وهي مذكورة في التوراة في أخبار إبراهيم وموسى. ففي سفر التكوين أن إسماعيل سكن برية فاران وأخذت له أمه زوجة من مصر. وفي التثنية: (هذه هي البركة التي بارك فيها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته فقال: جاء الرب من سينا، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران. . .).
وعلى مقربة من الوادي جبل شاهق جداً يفرع الجبال كلها يسمى جبل سربال، ويقال إنه جبل المناجاة الذي تجلى فيه الله سبحانه لموسى عليه السلام.
وبعد أن طعمنا خرجنا من الدير والساعة واحدة بعد الظهر فسرنا بين أشجار ونخيل متكاثف خمساً وعشرين دقيقة بالسيارات. ورأينا على عدوة الوادي اليسرى أنقاباً في الجبل، يقال إنها قبور قديمة كان أهل فاران يدفنون موتاهم فيها.
والنخيل في هذا الوادي متروك بطبيعته لا يؤبر ولا يقلع فسيله فترى نخلات كثيرة من أصل واحد، وترى جريد النخلة أو كربه يابساً حول جذعها طبقات بعضها فوق بعض لا يقطع ولكن يجف فيسقط أو يبقى معلقاً في الجذع.
وقد سألت رجلين هناك: لماذا لا تقطمون الجريد؟
قالا: لنصعد عليه.
قلت: إن النخل لا يثمر كثيراً إذا لم يقطع جريده كل عام.
هل تعرفون ما يفعل أهل مصر بالنخيل؟
قالا: نعم.
قلت: فلماذا لا تفعلون فعلهم فيكثر ثمر نخيلكم؟
فسكتا.
وبعد خمسين دقيقة من فاران، رأينا أشجاراً كثيرة من الطرفاء، ثم سرنا في أرض جرداء إلى أن مررنا بجبلين متقاربين مشرفين على الطريق، بينهما ممر ضيق يسمى (بويب فاران)؛ ثم عطفنا إلى اليمين إلى واد يسمى (واد الشيخ)، أو وادي النبي صالح، وسأذكره فيما بعد.
وجئنا إلى أرض مرملة ساخت فيها بعض السيارات وتقدمت السيارات التي تجنبت هذه
الورطة، فوقفنا عند تل عليه مقابر وقباب من الطين فيها بعض القبور، وكنيسة وقبر يقال إنه قبر هارون عليه السلام، وينشعب الوادي وراء هذا التل إلى اليسار، فيرى السائر جبالاً شاهقة جداً، بينها واد ضيق ينتهي إلى بناء كبير أبيض يلوح من وراء الشجر ويتضاءل على ارتفاعه بجانب الجبال الشاهقة المشرفة عليه، وهذا الدير (دير سنت كترينا).
وقبل أن أصفه، أنقل ما ذكره صاحب مسالك الأبصار نقلاً عن الشابشي:
وهذا الطور هو طور سيناء الذي صعِق عليه موسى عليه السلام. والكنيسة في أعلى الجبل، مبنية بحجر أسود، عرض حصنه سبعة أذرع، وله ثلاثة أبواب من الحديد، وفي غربيّه باب لطيف، وقدامه حجر لقيم، إذا أرادوا رفعه رفعوه، وإذا قصدهم متغلّب أرسلوه، فأنطبق، فلا يعرف أحد مكان الباب. وداخلها عين ماء، وخارجها عين أخرى.
قال:
(زعم النصارى أن بها من أنواع النار الجديدة التي كانت ببيت المقدس، يوقدون منها في كل عشية السراج، وهي بيضاء ضعيفة الحر، لا تحرق. ثم تقوى إذا هم أرادوا أن يوقدوا منها).
وهو عامر بالرهبان. فلا يخلو من أحد من أهل البطالات للتفرُّج فيه والتبرك - على رأيهم - به.
وهو من الديارات الموصوفة والأماكن المقصودة. وممن وصفه ابن عاصم. قال فيه:
يا راهبَ الديَّر، ماذا الضوءُ والنورُ
…
فقد أضاء بما في دَيْرك الطور؟
هل حلَّتِ الشمسُ فيه دونَ أبرُجها
…
أو غُيّب البدر ' فيه فهو مستور؟
فقال: ما حلَّه شمسٌ ولا قمرٌ،
…
لكن يُقَرِّب فيه اليومَ قَوْرير!
عبد الوهاب عزام
الحرب ومستقبل الإنسان
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كما قرأت أن الحكومة تجرب أسباب الوقاية المدنية من الغارات الجوية، أو رأيت خندقاً محفوراً وعلى جانبيه أكياس الرمل، أو سمعت صفارة تنطلق بالإنذار والدعوة إلى الاختباء وإطفاء الأنوار، أراني أتساءل:(أترى سيعود الإنسان إلى حياة الكهوف والغيران؟) ولست أعني الكهوف بالمعنى الحرفي، وإنما أعني الحياة في جوف الأرض. وماذا يكون مصير الإنسان يا ترى إذا دفعه الترقي في القدرة على التخريب إلى باطن الأرض؟!
وتذكرت هـ. ج. ولز وكتابه (آلة الزمان) وهي آلة يتصور الكاتب أن صانعها يذهب بها مطوفاً في الزمن (في الماضي أو المستقبل كما يشاء) كما نذهب الآن شرقاً أو غرباً وشمالاً أو جنوباً - ويقول ولز إن رحالته بعد أن قطع مرحلة كافية من الزمن الآتي، ألفى الإنسان قد صار إنسانيين - واحداً يعيش في جوف الأرض وواحداً بقي فوقها. فأما الذي دخل فيها، وألف الحياة في السراديب والظلام، فقد ارتد إلى الحيوانية في مظهره وطباعه وعاداته، فهو يمشي على أربع، وبدنه يكسوه الشعر، وعينه واسعة ترى في الظلام ويُعشيها النور، وتفزعها النار. ولهذا الإنسان السفلي صناعاته وآلاتها، وهو يستدرج إلى سراديبه أبناء العالم العلوي ويفتك بهم، ويأكل لحمهم. وأما الذي بقي فوق ظهرها فهذا من سلالة المترفين الأغنياء، وقد انحط وضعف وتشابه ذكوره وإناثه، في اللين وصغر الجسم، وفَقَدَ القدرة على العمل والاحتيال والسعي، وصار معوله في حياته على العالم السفلي، وخوفه منه، لفرط ما انتابه من الانحطاط والطراوة.
ويقول ولز إن بداية هذا الانقسام ظهرت في زماننا، وإن الإنسان شرع ينحدر إلى باطن الأرض. فبُنانا ومصانعنا لها طبقات تحت الأرض، وفي عواصمنا تجري القطر في سراديب إلى آخر ذلك.
وقد كنت وأنا أقرأ كتاب ولز هذا قبل حوالي عشرين عاماً، ثم وأنا أنقله إلى العربية منذ عامين أو نحو ذلك، أقول لنفسي إن ولز مبالغ، وإن الدخول في جوف الأرض لا يستدعي أن يصبح الإنسان إنسانيين متميزين على نحو ما يصف، وإن الناس يختلفون ويتفاوتون ولكن تفاوتهم لن يبلغ من أمره أن يصير بهم إلى مثل هذا المصير المرعب الذي يصوره
ولز كأنه يراه.
ثم جاءت هذه الحرب، وعرفنا ما صنعت الطيارات الألمانية في بولندا، وما فعلت الطيارات الروسية بالمدن الفنلندية، وشهدنا صوراً من آثار التخريب فيما تعرضه دور السينما، وكنا قبل ذلك رأينا مناظر تخريب الطيارات اليابانية في الصين، ولكن الحرب اليابانية الصينية كانت لبعدها تبدو لي كأنها تدور في غير كوكبنا، ولم أكن أتصور أن تدور الحرب على هذا النحو في عالمنا القريب. ثم أخلفت الحوادث هذا الظن السخيف وغرقت عواصم الأمم المتحاربة وبلدانها الكبيرة في ظلام دامس، وقامت حكومتنا تتخذ الأهبة لدفع الأذى عن المدن وأهلها، إذا امتدت الحرب إلينا فأطفأت الأنوار إلا أقلها، وحفرت الخنادق، وبنت المخابئ، وأطلقت الأنوار الكاشفة في الليل، ونصبت المدافع فألفيت نفسي أتساءل: أتراني لا أزال أعد ولز مبالغاً في التخيل ومشتطاً في التصور؟
ماذا تصنع الأمم بعد هذه الحرب؟ أتظل ترفع البنى وتعليها فوق الأرض وتقيم المصانع على ظهرها؟ لا أظن؟ إلا إذا اهتدت إلى مادة لا تنال منها القنابل الهادمة والمحرقة، وعسير بلوغ هاتيك جداً - كما يقول الشاعر. وهبها فعلت واهتدت، فإن العلم الذي يوفقها إلى ذلك خليق أن يدلها على ما يهدمه، فإن البلاء والداء العياء أن كل ما يثمره العلم، يسخر لأغراض الحرب كما يسخر لأغراض السلم، فلا سبيل إلى السلامة إلا بالفرار إلى باطن الأرض، وحريي بذلك أن يكون له أثره في هندسة البناء، أو بعبارة أدق في شيوع طراز جديد، فقد ظهرت في البلاد المحاربة مبان ذات طبقات ممتدة في جوف الأرض يلجأ إليها الناس ويحتمون بها من الغارات الجوية
وفي هذا المعنى يقول الجنرال بوشيري في فصل له نشرته مجلة ونقلته عنها صحف بريطانية (إن الحرب الحديثة تعرض سكان البلاد كلها لأخطار القتال، وتفرض على الأمم أن تتخذ الأهبة الكافية للدفاع السلبي، وهذا يستوجب أن تجري الأعمال الحيوية كلها - من مدنية وعسكرية - في جوف الأرض، ومن الجلي أن المساكن الجديدة يجب أن تكون لها طبقات سفلية أو متصلة بمبان سفلية مجاورة لها تصلح أن تكون بديلاً من المساكن العلوية، إذا اقتضت الحاجة الالتجاء إليها)
ونحن أبناء هذا العصر، نستغرب أن تنتقل حياتنا من فوق ظهر الأرض إلى قلبها، فإن
ظهر الأرض مقرون في أذهاننا بالحياة، أما باطنها فمقرون بالموت والدفن، ولكن أحفادنا لن يستغربوا هذا التحول، أو ينكروه، لأنهم سيألفونه من الصغر. ويا ليت من يدري هل تندس المدارس والمستشفيات، كما تندس المصانع في جوف الأرض؟ وإلى أي عمق يا ترى يضطر الإنسان أن يحفر وينقب، ويسوّي ويوسع؟
وعلى الأيام - بل الحقب الطويلة والأدهار المديدة - يألف الإنسان باطن الأرض، وتطول حياته فيه، ويقل خروجه إلى نور الشمس، وتكر آلاف السنين ومئات الآلاف، والناس أكثرهم يعملون تحت الأرض ولا يكادون يبرزون إلا في الندرة القليلة والفلتة المفردة. فيكتسب الإنسان خصائص الحيوان الذي يأوى إلى الجحور، ويصدق ما تنبأ به هـ. ج. ولز في كتابه (آلة الزمان)!
وكيف تكون الحروب يا ترى في ذلك المستقبل البعيد، إذا بقيت الحروب تدور بين جماعات الإنسان؟ أحسب أن اندساس الإنسان في جوف الأرض سيكون بداية انحطاطه، فما أغرب أن يكون رقيه العلمي مفضياً إلى انحداره وهويّه؟ وتلك جناية استخدام العلم في الحرب، فإذا بقيت الحروب فهذا مآل الإنسان، ولا نجاة له من هذا المصير إلا بالقضاء على الحرب، فيما أرى، أي بإعفائه من بواعث الاحتماء بجوف الأرض والسكون إلى الحياة فيه.
مآل الإنسان مرتهن بالسلام الدائم، لا الطويل فحسب، على الرغم مما يقال من أن طول عهد السلام يفضي إلى اللين والتطري والرخاوة؛ وكفى بالكفاح في سبيل العيش واقياً من هذا التطري، وعلى أن التطرّي خير آلف مرة من الارتداد إلى الحيوانية. ولأن يكون المرء طرياً ليناً، آثر عندي من أن يكون أرنباً!! واللين عيب أو ضعف في دنيا تقوم فيها الحياة على العنف، ويكثر فيها الفتك والبطش، ويحتاج الإنسان فيها من أجل ذلك إلى القوة والخشونة. أما في دنيا تنعم بالسلام ولا يزعجها خوف من الفتك وتوقعه، فما ضير أن يلين الإنسان ويطرى، إذا بقيت له قوة العقل؟
إبراهيم عبد القادر المازني
إنما يزدهر الأدب في عصور الفوضى الاجتماعية
للدكتور زكي مبارك
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
أيها السادة:
يقال في كل يوم إن جو مصر معروف بالاعتدال، فما الذي جنينا في ذلك الاعتدال؟ كانت النتيجة أن نخاف من الاضطراب في بقاع الأرض. وكانت النتيجة أن نشعر بالغربة حين ننتقل حُلوان إلى قَليوب. وكانت النتيجة أن تخمُد العواطف بفضل ما نحن عليه من قرار وسكون.
أعترف بأن مصر استفادت من اعتدال الجو فائدة عقلية، هي التفوق العظيم في التأليف، فمصر أقدر الأمم الإسلامية والعربية على التفكير المنظم الدقيق بفضل هذا الجو المعتدل الجميل.
ولكن مصر في ماضيها تخلفت في ميدان الأدب عن الشام وفارس والعراق، لأن الفوضى الجوية، لا يحسها المصريون كما يحسها الشاميون والفرس والعراقيون؛ وإلا فأين وصف الثلوج والأمطار والأعاصير في أشعار من يعيشون في ضيافة النيل؟ ثم شاءت المقادير أن تتفوق في الأدب بعد تخلُّف، فما مصدر ذلك التفوق؟ لم نعرف قسوة الطبيعة كما يعرفها الناس في الشام وفارس والعراق، وإنما رمتنا المقادير بقسوة أعنف من قسوة الطبيعة، هي الثورة الجائحة التي نحس أعاصيرها الفواتك في الأذهان والعقول والقلوب
نحن كلَّ يوم على شفا الهاوية: إن اصطرع الشرق جزعنا، وإن أضطرم الغرب نظرنا. ألم تسمعوا أنه كان معروفاً عندنا أن الميدان الأول في الحرب الحاضرة سيكون حول ضفاف النيل؟
ومن هذه المحرجات التي تتجدد كل يوم، إن لم أقل في كل ساعة أو كل لحظة، من هذه المحرجات خُلقت لنا مكاره سياسية تفوق المكاره الجوية في الشام وفارس والعراق
وما هي نقطة الارتحال من وضع إلى وضع في الأدب الحديث؟
لن أرجع إلى ما فصلته في مؤلفاتي ومقالاتي، ويكفي أن أنص على أن الأدب في مصر لم يرتق إلا بفضل الفوضى السياسية، وهي صورة من الفوضى الاجتماعية.
النهضة الحقيقية للأدب الحديث ترجع إلى عهد مشئوم، هو النزاع بين الرجلين العظيمين: عدلي يكن وسعد
زغلول. ففي ذلك العهد صارت الكتابة والخطابة عنصرين أساسيين في تكوين الأدب المصري الحديث. وبفضل النزاع بين عدلي وسعد خُلقت جرائد ومجلات وأندية صار لها في نهضة الأدب مكان ملحوظ. وبفضله استطعنا أن نذيع في الشرق فنّاً جديداً، هو الأدب السياسي، وهو فنٌّ كان انقرض بانقراض النضال بين أشياع بني أمية واتباع بني العباس. وإليكم هذه النكتة:
كان شاع أني أخاصم الأستاذ الدكتور طه حسين، فكتبت في الهجوم عليه مقالات كان لها وقعٌ حسنٌ أو سيئ عند قراء اللغة العربية، واطلع الأستاذ محمود بسيوني على بعض تلك المقالات فانزعج أشد الانزعاج وسعى للصلح بيني وبين الدكتور طه في حفل مشهود حضرهُ العمداء وكبار الأساتذة بكليات الجامعة المصرية، فهل تعرفون نتيجة ذلك الصلح المشئوم أو الميمون؟
تلفَّت الناس متوجعين لضياع فرصة ثمينة هي فرصة الجدل حول المذاهب الأدبية، فهل فيكم من يتفضل بالسعاية بيني وبين الدكتور طه حسين لأرجع إلى مصاولته من جديد؟
كان بيني وبين الدكتور طه ودٌّ وثيق، ولكن رعاية ذلك الود لم تنفع الأدب بشيء، لأن كل ما يصدر عنه كان يقع من نفسي موقع مقبول، فلما ثار عليّ وغضبت عليه أتيت في مصاولته بالأعاجيب، فمن ذلك الذي يتفضل فيفسد ما بيني وبينه لأجد الوقود لسنان قلمي؟ أليس فيكم دساس ظريف ينقل إليه أنني اغتبته من فوق منبر كلية الآداب؟
اتقوا الله وأفسدوا بيني وبينه وبين سائر الأساتذة لتسمعوا صرير القلم الذي تعرفون! وهل فيكم من ينكر أن مجموعة نهج البلاغة من أعظم الذخائر الأدبية؟ فهل كان يمكن أن يظفر الأدب بتلك المجموعة النفسية لو أعتدل الميزان فصار عليّ ابن أبي طالب أول خليفة أو ثاني خليفة بعد الرسول؟
إن غيض ابن أبي طالب على أهله وزمانه هو الذي أرَّث في صدره نيران الحقد على الدنيا والناس فزفر بتلك الخطب الروائع غالبت الدهر وصابرت الزمان
وما هي الظروف التي خلقت مواهب الشيخ محمد عبده؟
هي ظروف الفوضى الاجتماعية في انتقال الأزهر من حال إلى أحوال، يوم كان تدريس العلوم الحديثة موضع خلاف، ويوم كان القول بكروية الأرض يلقى ألف اعتراض
والشيخ المراغي من أكابر هذا الزمن، ولكنه سيذهب بعد عمر طويل بلا تاريخ طويل، لأن بيئة الأزهر قد صلحت واستنارت فلم تعد تحتاج إلى مصلح يتشرف بعدوان الاضطهاد
فإن أراد الأزهريون أن يكون لشيخهم تاريخ طويل فليتكلفوا الغفلة عن مطالب العصر الحديث ليجد شيخهم فرصة الدعوة إلى اعتناق مذاهب التفكير في الجيل الجديد
أرجوكم للمرة الثانية أو الثالثة أن تذكروا أني لست من أنصار الفوضى الاجتماعية، وإنما أنا مؤرخ لظاهرة من الظواهر الأدبية والفلسفية، والمؤرخ غير مسؤول عن حوادث التاريخ
وكم تمنيت السلامة من مكارة الفوضى التي تثور في صدري والتي قضت بأن يكون ميدان قتال بين الملائكة والشياطين
في صدري أتُّون يأخذ وَقوده من الأحلام والأوهام والحقائق والأباطيل، ثم يقول في كل لحظة: هل من مزيد؟
وهذا الأتون يفرض عليَّ أحياناً أن أُلقم فم الشره الأكول بأكداس من الآراء تُشْبه الحطب المعطوب ليسكت عني لحظة أو لحظتين، كما يقدم الأعرابي لناره الموقدة أكداساً من العظام والتراب! ويشهد الله أني أكره أشد الكره بعض ما يصدر عن قلمي، ولكن ماذا أصنع وفي صدري نار تأكل الحجر والطوب حتى يعييها أن تجد الوقود الصالح من جذوع الشجر والنخيل؟ ولكني أتعزى كلما ذكرت الحكمة التي تقول:(لو أنصف الناس استراح القاضي). فشيوع المظالم بين الناس هو الذي خلق الثروة التشريعية، وهو الذي قضى أن يكون في الدنيا قضاة ومفتون ومحامون. ولو سلم المجتمع من الاضطراب لأغلقت المحاكم، ولم يبق أمام الأستاذ لطفي جمعة إلا الفرار إلى الريف ليأخذ قوته مما تخرج الأرض بجهاد الفأس والمحراث، ويومئذ يُحرَم الأدب من خطبة نفسية يحاورني بها في المدرَّج الأكبر بكلية الآداب، وتحرمون تكلُّف الرفق في التصفيق له بغير حق!
لو أنصف الناس واستراح القاضي لخلت الدنيا من المؤلفات النفيسة التي صدرت عن
الرومان والعرب والفرنسيين في أصول التشريع. لو أنصف الناس واستراح القاضي لخلت الدنيا من الأدب الرائع الذي صدر عن رجال الأخلاق من الذين سمعتم أخبارهم ودرستم آثارهم مع منصور فهمي ومصطفى عبد الرزاق وأحمد أمين. لو أنصف الناس لمات سقراط غير مسموم، ولم نقرأ الوثيقة الأدبية الرائعة التي جاد بها قلم أفلاطون، والتي فتنت لامرتين حين قرأها بترجمة كوزان فنظمها بقصيد رائع يفتت الجلاميد.
لو أنصف الناس لحُرِمنا نفثات ابن مسكويه في أدب الصديق. لو أنصف الناس لضاع على الأدب حظٌّ نفيس هو أشعار أبي العلاء في نقد أخلاق الحُكام والقضاة والفقهاء. لو أنصف الناس لأمِن هابيل شر قابيل فلم يصنع التمثال الرائع الذي نراه في متحف (البثي باليه) في باريس. لو أنصف الناس لحُرِم الأدب قصائد ابن الرومي في تشريح ثائرة الحقد والبغضاء. لو أنصفت الطبيعة لحرمت الإنسانية من عبقرية باستور في حرب الجراثيم. لو أنصف المجتمع لأمن بعض الرجال شر الاغتراب وهو فرصة ليقظة العقول. ولو أنصفت ليلى - عفا الحب عن ليلى - لحُرِمتم نفثات المجنون القديم والمجنون الجديد.
أنا أكره الفوضى لأنها كدرت حياتي، ولأنها جعلت صدري ميداناً لاصطراع الهدى والضلال، وع ذلك أجد العزاء حين أشاء.
فبفضل الفوضى في تقسيم الحظوظ نشأت مذاهب أدبية وفلسفية واقتصادية صنعت ما صنعت في توجيه الأذهان والعقول بالشرق والغرب. وبفضل الفوضى في توزيع الممالك كانت الحروب التي صاغت عزائم الأبطال. وبفضل الفوضى في تكوين مدرس اللغة العربية قام النزاع بين الأزهر ودار العلوم والجامعة المصرية، وهو نزاع محمود العواقب، وسيؤتي ثماره بعد حين. وبفضل الفوضى في تصور الغاية الساسية للأمم العربية والإسلامية خُلِقتْ عبقريات الكواكبي وجمال الدين ومحمد عبده ومصطفى كامل وسعد زغلول. وبفضل الفوضى في فهم الغاية الأدبية كان الصراع بين أنصار القديم وأنصار الجديد. وبفضل الفوضى في أحوال الجو كان التنويع الطريف بين الربيع والصيف والخريف والشتاء. وبفضل الفوضى في الأخلاق والعقائد كان الجمال المرموق في تزيين الوجود بالحرب بين الفجور والعفاف والكفر والإيمان. وبفضل الفوضى في تحديد الآراء كانت المناظرات التي تنظمها المعاهد والأندية والجمعيات. وبفضل الفوضى في فهم الغاية
الصحيحة لمصاير الإنسانية كان النزاع بين الديانات، وكان الصراع بين المذاهب المختلفة في الدين الواحد، وتلك فتنٌ جوامح نشأت عنها آداب وفنون لا ينكرها إلا غافل أو جهول.
لما تلطفت وزارة المعارف العراقية فدعتني لتدريس الأدب العربي بدار المعلمين العالية في بغداد، سألت عن مبلغ بغداد من الحضارة فقيل لي إنها تشبه طنطا، فجزعت أشد الجزع، لأن طنطا يقلّ فيها الصراع بين المذاهب والآراء، وإن كانت عامرة بالقصور والمتنزهات، وهي البلد الوحيد الذي لا أبيت فيه حين أمضي إليه لمهمة رسمية ودخلت بغداد فرأيتها أقل من طنطا في الحضارة والعمران، ولو شئت لقلت إن أصغر شارع في طنطا أجمل من أكبر شارع في بغداد. . . وكذلك أحسست قسوة الوحشة حين دخلت عاصمة العراق، ولولا الخوف من غضب (العقيدة الأدبية) لرجعت في السيارة التي أقلتني إلى هناك
وبعد يومين اثنين رأيت أن بغداد البدوية غير طنطا الحضرية في طنطا شوارع عريضة وقصور شوامخ، ولكن سكانها لا يعرفون الصراع الجميل بين المذاهب والآراء، لأنها مدينة مصرية صميمة يقل فيها الأجانب، ويكثر فيها ائتلاف الأذواق، وهو باب من السكون والخمود
أما بغداد الجافية التي لا تعرف الحضارة في غير شارع واحد فهي مضطرب عريض لاختلاف المذاهب والمشارب والأذواق، فيها عصبيات عربية وفارسية وهندية وكرديه ويهودية، وفيها جاليات فرنسية وإنجليزية وأمريكية، وفيها على جفوتها بقايا من الحضارات المختلفة، وفيها ألف مجال ومجال لاضطرام الأذواق والأحاسيس
وكذلك ألقيت نفسي في ضرام بغداد فكتبت في نحو تسعة أشهر ألوفاً من الصفحات نشرتُ منها ما نشرت وطويت ما طويت
في طنطا الحضرية يعيش شعبٌ واحد، وفي بغداد البدوية تعيش شعوب، ومن الاختلاف والائتلاف يحيا الأدب الرفيع
ليس في بغداد كلها قصر يشبه أصغر قصر من قصور حاضرة (الغربية) ولكن بغداد فيها جرائد ومجلات وأندية لا تعرفها حاضرة (الغربية) لأن الهدوء في طنطا عجز عما قدر عليه القلق في بغداد. وكذلك فهمت أن الأدب يزدهر في عصور الفوضى الاجتماعية وفي
أقطار الفوضى الاجتماعية، بدليل ازدهاره في القاهرة وبغداد وباريس ولندن وبرلين، على شرط أن تقع الفوضى في قوم أصحّاء، لا يُقلقهم الاضطراب، وإنما يزيدهم قوةً إلى قوة ومضاءً إلى مضاء. وما رأيكم في الشواطئ المصرية؟ ألم تسمعوا أن رجال الدين اتفقت كلمتهم على أنها من الأرجاس؟ ألم تروا حيرة شيخ الأزهر في تخليص سمعة مصر من مآثم تلك الشواطئ؟
لا جدال أن شواطئنا في الصيف تمثّل الفوضى الاجتماعية أعنف تمثيل، فهي مضطرَبٌ طويل عريض تثور حوله الآراء في الإسكندرية وبور سعيد ودمياط، ويمتدّ شرُّه حتى يصل إلى بحيرة التمساح، ثم تنتقل عدواه إلى حمامات مصر الجديدة والمعادي وحلوان
ينظر الرجل المؤمن إلى هذه الشواطئ نظرة مخطوفة، ثم يهتف: اللهم أن هذا منكَرٌ لا يرضيك! وأقول وأنا صادق أني أنظر إلى شواطئنا أحياناً بعين الغضب والمقت؛ ولكن هذه الشواطئ المُجرمة خلقت فنَّا جديداً في اللغة العربية هو (أدب الشواطئ)، وقد ألفتُ فيه كتاباً سأنشره يوم أطمئن إلى أن الجمهور يفهم أن المؤرخ غير مسئول عن حوادث التاريخ.
ويوم يُنشر هذا الكتاب ستعرفون أن مصر دانت الأدب العربي بثروة طريفة من تشريح العواطف والأهواء، وسترون الغرائب حين تعرفون أن تلك الشواطئ أنطقت رجال الدين أنفسهم بأقوال هي من عيون الأدب الرفيع
كان الأستاذ الأكبر قد اتفق مع سعادة حامد باشا الشواربي على تخصيص جزء من شاطئ الإسكندرية للنساء بلغة العصر القديم، أو السيدات بلغة العصر الحديث، وتسامع رجال الأزهر بذلك فأمطروا شيخهم الكبير وابلاً من برقيات الثناء
ثم ماذا؟ ثم أُعِدَّ الشاطئ النسوي إعداداً محتشماً وأزيلت منه القهوات المخضرَمة التي تجمع من الأشربة ما نعرف وما نجهل ثم ماذا؟ ثم ماذا؟
ثم شاع أنه حمام خاصٌّ بالعجائز فلم تقبل عليه ستٌّ ولا ستُّوته ولا بنتٌ ولا بنّوتة، ورفعت أسواره بعد يومين اثنين؟
لا تظنوني خلقتُ هذه النكتة، فما هي إلاّ واقعةٌ وقعت، ولها حواش وذيول ستعلمون أنباءها بعد حين
حياة الشواطئ إفك وسفاهة وضلال، ولكن الأدب يستفيد من كل شئ، لأن مهمة الأدب هي الوصف والشرح والتعليل، وحياة الشواطئ تمدّه بوقود رائع جزيل
الشواطئ كلها مآثم، ولولا الخوف من بغي الحاسدين والحاقدين لقلت إن المآثم لا تخلو من بريق يزلزل القلوب والأذواق والعقول، ومن هذه الزلزلة تكون الرجفة التي تثير شياطين الشعر والخيال. والشواطئ المصرية لها سوابق في تاريخ الأدب العربي. وقد وقعت تلك السوابق فوق أرض مقدسة تعطر ثراها بأقدام الرسول. هل تعرفون ما أعني ومن أعني؟ عندكم عمر بن أبي ربيعة وعندكم الشريف الرضي، وهما شاعران جعلا مواسم الحج معالم صبابة ومدارج فتون
عمر بن أبي ربيعة فاجر بحسب الاصطلاح، وهيامه بزائرات مكة هيام أثيم، ولكن أشعار ذلك الفاجر صارت من ذخائر الأدب العربي. وقد شرَّقت وغرّبت حتى قهرت بعض الجامعات الأوربية على إفراد أشعاره بدرس خاص
كان يقال: ما عُصِىَ الله بشعر أكثر مم عُصِى بشعر عمر بن أبي ربيعة
وهذا حق؟ فهل تضمنون أن يرفع اسمه من مطبوعات وزارة المعارف؟ وكيف وهو من الذين ستحفظ أقدارهم في كتاب (أعلام الإسلام) بدراسة يقدمها الأستاذ عباس العقاد؟
وتسمعون في كل يوم أن مصر تحارب الخمر لأنها في طليعة الأمم الإسلامية، ولكن رجال الأدب في مصر لن يستطيعوا غض النظر عن (خمريات أبي نواس) لأن الأدب وإن فَجَر في بعض نواحيه له سلطانٌ قهار لا ينكر جبروته غير الأغبياء!
أنا أبغض الفوضى أشد البغض، وأرجو الله في كل وقت أن يحفظ عليَّ نعمة السلامة من مكايد الشياطين، ولكني أؤرخ الأدب، والمؤرخ لا يصدُق إلا إن تناسى منافعه الذاتية، ونظر في الحوادث بلا غرض، والنزاهة عن الغرض هي التي تقفني هذا الموقف الشائك فأسجل على نفسي القول بأن الأدب لا يزدهر إلا في عصور الفوضى الاجتماعية، وهو قول يعرّضني لقوارص الاغتياب والتجريح
ولكن ماذا أصنع وأنتم دعوتموني لمواجهة المنطق والعقل فوق منبر كلية الآداب بين شباب وكهول لا يلقاهم الرجل الحازم بغير الصراحة والصدق؟
أحب أن أعرف كيف يطيش السهم الذي صوبته إلى صدر الباطل بهذه الكلمات التي شقيت
في تحريرها ليلتين طويلتين؟ أحب أن أعرف كيف يضيع الرجل الصادق في هذه البلاد؟ أحب أن أعرف كيف ينال خصمي أصواتكم بعد هذه البينات، وعلى ضوء هذه الكهرباء؟ له أن يصول ويجول كيف يشاء، ولكم أن تحكموا له أو عليه كيف شئتم، فما أملك من القدرة غير صرير القلم وهدير الوجدان. ولكن، ما الذي يستطيع أن يقول؟
أيقول: إن النظام أفضل من الاضطراب، وإن الأدب الذي يصدُر عن الحالة الأولى أفضل من الأدب الذي يصدر عن الحالة الثانية؟
آمنت وصدقّت! ولكن هل يستطيع القول بأن النظام صدر عنه أدب رفيع؟ وما حاجة الناس إلى الأدب حين يعيشون في نظام وأمان؟ وهل للآمنين أدب وهم يعيشون في غيبوبة بفضل الراحة والاطمئنان؟
الأدب حظُّنا، جماعةَ المكتوين بالدنيا والناس، وليس لسوانا غير الأحلام، أحلام الناعمين بهدآت الليل!
عنّا يصدُر قلق الفِكر وانزعاج البال، وهما مصدر يقظة الرأي والعقل. فما بال قوم يتوهمون أنهم قادرون على مساورة الشعر والخيال وهم يشاركون الأموات في الهدوء والاطمئنان؟ عنا يصدر الإحساس بالدنيا والوجود، لأننا أشقياء بالدنيا والوجود، فما بال قوم يتوهمون القدرة على اقتحام جحيم الأدب وهم بفضل نعيم النظام سعداء؟ عنا يصدر الأدب الصحيح لأننا أصحّاء، وهل يحس وخز الألم غير من يملك عناصر العافية؟
من أنتم، في عالم الفكر والعقل، أيها الوادعون في ظل الأمن المكفول برعاية القوانين؟ أنتم أشبه بالأطفال الذين يعيشون في ظلال ما ورثوا عن الآباء والأجداد، ولن تحسوا من الدنيا أكثر مما يحس هؤلاء، أما نحن فقد كتب علينا أن نعيش بحس مرهف وذوق مشبوب، بفضل البلاء بالدنيا والناس، والفرق بيننا وبينكم أبعد مما تظنون، فجرِّبوا الاطمئنان إلى الوهم الخادع إن صح للمريض بالهيام أن ينخدع بالسراب!
النظام قرار، والاضطراب حركة، والحركة أدلّ على الحياة من السكون، جعلني الله وإياكم من الأحياء!
زكي مبارك
أفانين
أثر الإيحاء في جلب التفاؤل
للأستاذ علي الجندي
- 2 -
أوردنا في مقال سابق أمثلة للإيحاء الذاتي، كان سبباً في ردْء التشاؤم عن أصحابها، وجلب التفاؤل إليهم
وسبيلنا في هذا المقال أن نسوق شواهد طريفة للإيحاء الخارجي، أي إيحاء الإنسان إلى غيره
وطرافة هذه الشواهد أن جلها بل كلها وقعت عفو البديهية ومسارقة الخاطر! ولولا ذلك ما كان لها هذا الأثر الذي يشبه فعل السحر! لأن مجيء الإيحاء في وقته أشبه بمعالجة المرض إبان طروئه. هذا إلى إن ذلك يطبعه بطابع الإلهام العلوي والنفحات اللْدنية! ويجعل له وقع البُشرَيات التي تنفرج عنها سجوف الغيوب في الحين بعد الحين!
وطبيعي أن هؤلاء السحرة أو الرُّقاة - على الأصح - الذين استطاعوا أن يتلعّبوا بالنفوس، فأروْها النحوس سعودا، ً والسواد بياضاً! واستنقذوها من القلق والشك والارتماض، لم يكونوا إلا جماعة من أهل اللسن والبيان! ومن أقدر من أهل اللسَ ن والبيان على قلب الحقائق والتصرف في أهواء النفوس؟ وإن من البيان لسحراً!
بل الحق أن البلاغة وحدها لا تغني غناءها في هذا المواقف المتضايقة، ما لم تسعدها شدة العارضة ودقة الفطنة وحسن التأني وبراعة الاحتجاج وقوة التعليل
وسنذكر هذه الشواهد فيما يلي مرتبة بحسب الزمن قدر الاستطاعة:
1 -
بنى عبد الملك بن مروان باباً من أبواب المسجد الأقصى ببيت المقدس، وبنى الحجاج باباً إلى جانبه، فنزلت صاعقة فأحرقت باب عبد الملك، فتطّير بذلك وشق عليه! فبلغ ذلك الحجاج فكتب إليه: بلغني كذا وكذا، فلْيهن أمير المؤمنين أن الله تقبَّل منه! وما مثلي ومثله إلا كابنيْ آدم إذ قرَّبا قرباناً، فتُقُبِّل من أحدهما ولم يتقبَّل من الآخر
فلما وقف عبد الملك على الكتاب سُرِّي عنه وأستبشر
قال صاحب المثل السائر: وهذا معنى غريب استخرجه الحجاج من القرآن الكريم، ويكفي الحجاج فطانة الفكرة أن يكون عنده استعداد لاستخراج مثل ذلك
2 -
خرج المنصور العباسي إلى قتال أبي يزيد الخارجي في جماعة من الأنصار. فلما واجَه الحصن سقط الرمح من يده، فأخَذه بعضهم فمسحه وقال:
فألقت عصاها وأستقرّ بها النوى
…
كما قرّ عيناً بالإياب المسافر
فضحك المنصور وقال: لم لا قلت: فألقى موسى عصاه؟
فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، العبد تكلم بما عنده إشارات المتأدبين، وتكلم أمير المؤمنين بما أنزل الله على النبي من كلام رب العالمين
فكان الأمر على ما ذكر، فأخِذ الحصن وتم الظفر للمنصور
3 -
قلّد المأمون خالدَ بن يزيد بن مَزْيد ولايةَ الموصل، فمر خالد ببعض الدروب فأندقّ اللواء! فأغتمّ خالد بذلك وتطّير منه! فقال أبو الشّمقمق:
ما كان مُنْدَقُّ اللواء لطيرةٍ
…
يُخشَى ولا سوءٍ يكون معجَّلا
لكنّ هذا العُودَ أضْعَفَ مَتْنَهُ
…
صِغَرُ الولاية، فاستقلّ الموْصِلا
ففرح خالد! وكتب صاحب البريد بذلك إلى المأمون، فزاده ديار ربيعة، وأعطى خالدٌ أبا الشمقمق عشرة آلاف درهم
4 -
كان المنصور بن أبي عامر الأندلسي إذا سار لغزوة، عقد لواءه بجامع قرطبة ولم يسرْ إلى الغزوة إلا من الجامع
فاتفق أنه في بعض حركاته للغزو توجه إلى الجامع لعقد اللواء، فاجتمع عنده القضاة والعلماء وأرباب الدولة، ورفع حامل اللواء اللواءَ، فصدهم ثريّا من قناديل من قناديل المسجد فانكسرت على اللواء، وانسكب عليه زيتها! فتطير الحاضرون من ذلك، وتغير وجه المنصور!
فقام رجل وقال: أبشر يا أمير المؤمنين بغَزَاة هيّنة وغيبة سارّة! فقد بلغت أعلامك الثريّا، وسقاها الله من شجرة مباركة!
فاستحسن المنصور ذلك، وكانت هذه الغزوة من أبرك الغزوات!
5 -
كان سيف الدولة بن حمدان، قد ضرب خيمة كبيرة عجيبة الصنع (بميّا فارقين) فهبت
ريح شديدة فقوضتها، فتكلم الناس في ذلك وأكثروا، فقال المتنبي:
أيقدح في الخيمة العُذَّلُ
…
وتَشملَ منْ دْهرَها يشمل
وتعلو الذي زُحَلٌ فوقه
…
مُحالٌ لعمرك ما تُسْأل
تضيق بشخصك أرجاؤُها
…
ويركض في الواحد الجحفل
وكيف تقوم على راحةٍ
…
كأن السحاب لها أنمُل
فلا تنكرنَّ لها صرعة
…
فمن فرح النفس ما يقتل
ولو بلغ الناس ما بُلَّغت
…
لخانتهمو حولك الأرجل
ولما أمرت بتطنيبها
…
أُشيع بأنك لا ترحل
فما اعتمد الله تقويضها
…
ولكن أشار بما تفعل
فما العاندون وما أمَّلوا
…
وما الحاسدون وما قوَّلوا
همو يطلبون فمن أدركوا؟
…
وهم يكذبون فمن يَقبلُ؟
وهم يتمنوْن ما يشتهون
…
ومن دونه جدُّك المقبل
6 -
كان أبو إسحاق إبراهيم عبد الله البحتري يوماً عند أبي المسك كافور الأخشيدي فدخل عليه الفضل بن عباس فقال: أدام الله أيام سيدنا الأستاذ (بخفض أيام وحقها النصب)
فتبسم كافور إلى أبي إسحاق البحتري! فقال مرتجلاً:
لاغرو إن لحن الداعي لسيدنا
…
وغص من هيبة بالريق والبهر
فمثل سيدنا حالت مهابته
…
بين البليغ وبين القول بالحصر
فإن يكن خفض الأيام من دهش
…
من شدة الخوف لا من قلة البصر
فقد تفاءلت في هذا لسيدنا
…
والفأل مأثرة عن سيد البشر
بأن أيامه خفض بلا نصب
…
وأن دولته صفو بلا كدر
7 -
كان لعضد الدولة أحد الرؤساء أبن خُلِعَ عليه خلعة سنية، وركب إلى منزله - والناس بين يديه - فعثرت به فرسه فسقط من فوقها، ثم ركبها ثانية من ساعته فلهج الناس بالقول في الطيرة، فقال الوجيه الشاعر:
لا تعذل الفرسَ التي عثرتْ
…
بك أمسِ قبل سماعك العذْر
قالت مقالاً لو علمتَ به
…
لم تولها لوماً ولا هجرا:
لما رأى الأملاك أنَّ على
…
سرجيَ فتىً أعلى الورى قدرْا
رفَعَتْ يدي حتى تقبَّلها
…
شغفاً بها فهوت يدي الأخرى
8 -
كان السلطان حسن الناصري المصري يريد أن يبني لمدرسته (مسجد السطان حسن) أربع منائر. فلما بنيت ثلاث منها سقطت المنارة التي على الباب، فهلك تحتها ثلاثمائة من الأيتام الذين كانوا يقرءون القرآن وغيرهم من الناس!
فتحدّث الناس أن هذا نذير بزوال الدولة! فقال في ذلك الشيخ بهاء الدين السبكي:
تلك الحجارة لم تنقضَّ بل هبطتْ
…
من خشية لله، لا للضعف والخَلَل
وغاب سلطانها فاستوحشت فرمتْ
…
بنفسها لجوىً في القلب مُشْتعِل
لا يقرب البؤسُ بعد اليوم مدرسةً
…
شيدْتَ بنيانها للعلم والعمل
ودمت حتى ترى الدنيا بها امتلأتْ
…
علماً، فليس بمصر غير مشتغل
ومما يتصل بهذا وإن لم يكن منه أن الناجم دخل على ابن الرومي، وهو ينظم قصيدة في مدح أبي العباس المرثدي ويهنئه بابن وُلدَ له وكان أول القصيدة:
شمسٌ وبدرٌ ولد كوكبا
…
أقسمت بالله لقد أنجبا
فقال الناجم: لو تفاءلت لأبي العباس بسبعة من الولد لأن معكوس أبي العباس: أبو السابع، إذاً لجأ المعنى طريفاً! فقال ابن الرومي:
وقد تفاءلتُ له زاجراً
…
كنيتَه، لا زاجراً ثعلبا
إني تأمْلتُ له كنيةً
…
إذا بدا مقلوبها أَعَجبا
يصوغها العَكْسُ أبا سابع
…
لا كذّب اللهُ ولا خيَّبا
بل ذاك فألٌ ضامنٌ سبعةً
…
مثل الصقور استشرفت مرقبا
يأتون من صُلب فتيً ماجد
…
وذاك فألٌ لم يَعُدْ مُعْطبا
وقد أتى منهم له واحدٌ
…
فَلْنَنتظرهم ستّة غيَّبا
في مدة تغمرها نعمةُ
…
يجعلها الله لهُ تَرْتَبا
حتّى نراه جالساً بينهم
…
أجلَّ من رضْوَى ومِن كبكبا
كالبدرِ وافي الأرض من نوره
…
بين نجوم سبعة فاحْتَبى
ولْيُشكر النَّاجمُ عن هذه
…
فإنها من بعض ما بَوَّبا
سَدَّي وَأََلحمتُ أخٌ لم أزَلْ
…
أشكر ما أسْدى وما سَبَّبا
هذه الشواهد وما قبلها تدل دلالة واضحة على أن التفاؤل والتشاؤم من عمل الإنسان نفسه، وأن المصاب بمرض التطير يستطيع بقوة الإرادة، واصطناع الرجاء، والنظر إلى الحوادث بمنظار أبيض وهاج، في ظل الثقة بالله وبشاشة الإيمان، أن يبرأ منه برءاً تاماً ولله الخلق والأمر.
علي الجندي
1 - تأملات
في يوم سبت من يناير من عام منصرم تحركت عاطفة مكنونة فإذا هي تضطرم، وإذا ظرفها الطارئ يطبع أربعة عشر عاماً من حياتي بطابع خاص. كانت العاطفة في غضونها مودة فحسب، اشتدت حيناً وفترت أحياناً، وتفاوتت درجاتها بتفاوت الظروف لكنها بقيت مودة يغذيها ميل وألفة وجميل وعرفان؛ حتى كان يوم السبت، فحالت العاطفة شيئاً آخر بدأ غبطة يكتنفها ذهول واستسلام؛ ثم تنبه القلب إلى زائر جديد لا يعرف الاستئذان وأستقر بين الضلوع شئ نسيت على مر الأيام اسمه، فأحسست اليوم فعله، وكان جارفاً، أطار كل شئ من لب ونوم، وبسط على نفسي الهادئة سلطانه، فاضطربت واضطرمت، ولم تك تدين من قبل لسلطان كهذا يشبه البُحران
ومضت بين السبت والسبت سبعة أيام لزمت فيها الفراش يومين، ومخدعي ثلاثة، وحرت في بقيتها بين البيت والمكتب، تارة آلم، وتارة أنغم، وطوراً تفترسني كآبة تبيت معها قوتي ضعفاً، ولا أملك أن أرفع فيها جفناً. أما طبعي الذي لم يبال في حياتي أحداً، فخانني هذه المرة، فكففت عن أن أكون ما كنت
كنت أحب الوحدة، والظلام الذي لا يقربه الخفاش، لأنه تضيئه التأملات. وكنت أوزع مودتي على غير واحد من بني البشر، وأحس الميل الجامح إلى غير واحدة من بناتهم. فلم أعرف في التوزيع غير القسطاس. وكنت أعجب أحيانا كيف أحب الناس هذا الحب العادل، وكيف أتحرر إلى هذا الحد من سلطان التحيز والتحامل، لكني هذه المرة قد اضطرب ميزاني، فإذا بي أميل إلى ناحيته كل الميل، وإذا تلك التي رجحت كفتها تستبدي من دون أن تعلم، وتستحوذني على عظم جرمي في طي إشارة لو شاءت، وهي بعد لم تشأ ولم تدِر. بل قل: إنها تدري ولكن لا تدرك. وكيف تدرك وهي تبعث، والأمر عندي جد وهي تلهو، وأنا جدُّ حزين؟
ما بك يا فتاتي! الشباب الذي ترفلين في غفلته، وتخطرين في روعته، وتمر فيه نظراتك واهنة، فتصمي مع هذا إصماء السهم؛ ثم لا شي في ذهنك غير الفراغ، وكل شي يضطرب به ذهني، ويدمي، ويتألم. . .
أأحسست دفء الإيمان في راحتي حين احتوت راحتك الدافئة بدم الشباب؟
إذن فدعيني أذكر لك يا فتاتي بعض الذي بي: أحبك حبّاً خالط كل حواسي، فأنا أبداً على
ذكر منك، وأنت على مرأى ومسمع مني.
رسمك أبداً ماثلاً لعيني، حاضر في ذهني، فأنا في الحياة أعيش بك وأنساق بإرادتك. أكون مع الناس جميعاً في كل مكان، ولا أكون إلا معك. . . الغبطة التي تطغى على مصدرها أتت؛ والألم الذي يهد كياني مبعثه أنت. والمشاعر على اختلافها تتناوبني منك ولا أملك أن أشعر لنفسي وبإرادتي.
أتحبين يا فتاتي أن أصارحك بما ساورني ليلة أمس؟ إن نظرتك الواهنة التي خلتك تؤثرينني بها نظرة للجميع، فهي من هذه الناحية عادلة وهي مما خلالها ظالمة خادعة.
إنك يا فتاتي لغز، ميزتك الكبرى جاذبيتك، فأنت تجذبين محبيك ومبغضيك على السواء. ولا يملك المرء ألا يكترث لك
ليس جمالك بالفاتن ولا بالذي يلفت النظر. وقد تمرين بالألوف من دون أن تستوقفي أحداً، ويمر بك الألوف مر الكرام. لكن كيانك جميل كل الجمال، فاتن كل الفتنة، ولا بد من الوقوف عندك والتأمل فيك ليعلقك من يشاء ومن تشائين، ويأسره منك إلى الأبد تلك النظرة الواهنة، والابتسامة الحائرة، والوجه الذي لا يمتاز بشيء في تفاصيله ولكنه في جملته وحدة أخاذة
ما قولك يا فتاتي فيمن ظل أربعة عشر عاماً على رأي واحد فيك، وميل واحد نحوك، وكنت في خلالها طفلة في العاشرة، وزهرة في الرابعة عشرة، وثمرة شهية في العشرين، فما فكر في غير الحدب عليك، واستنشاق عبيرك، والتطلع إليك. لكنه لم يقطفك ولم يخنك
كانت زهرتك تغري بالقطف، لكنه كان فيك ما يرد الأيدي عنك. وكانت ثمرتك ناضجة شهية، لكنها كانت الثمرة المحرمة. وكنت عزلاء إلا من ذلك العفاف الذي ينبعث من كيانك طهراً وبراءة
ثم سددت يوماً إلى قلبي نظرتك المعهودة وفيها بريق غير معهود، ومعها حاشية طيعة من الضحك الواهن الغالب عليه الحياء. وألفيتك في مجلسي مرحة قد وسع فهمك مغازي الكلام، ودقت إجاباتك عليها
ثم ظللت جبينك العالي غمامة فأطرقت برأسك، واحتوتك كآبة وخفت صوتك، وكان سكون طال عليه الزمن أو قصر لا ندري، أو على الأقل لا أدري
واحتوت راحتك راحتي فإذا هما شعلتان، وحاولت أن أحدق في عينيك فلم ترفعيهما إليَّ، وألقيت عليك كلمة من عفو الساعة فلم تردي عليَّ
ولبثنا هنيهة على هذه الحال من الصمت فإذا نحن نتساءل معا: هل أسأت إليك؟!
وكيف تسيئينني يا فتاتي وقد أشعرتني الهناء الذي كنت أحوِّم حوله أيام الشباب ولا أناله، حتى كان يوم السبت من يناير من عام منصرم فخلقتني خلقاً آخر يدين لك بالوجود
(م. د)
من وراء المنظار
عرفان الجميل
نهضت للقائه وقد أقبل عليّ هاشّاً محيياً، وصافحنه شاكراً له تحيته مجيباً عليها بأحسن منها، وجلست وجلس وهو يحمد الظروف التي جمعت بيننا في القرية على غير انتظار
وكان يعلم أني لا تتاح لي فرصة للمجيء إلى القرية إلا اغتنمتها فمال بالحديث إلى ذلك المعنى، وأخذ يبدئ ويعيد في بيان مبلغ كرهه للقرية، وهو لن يرى أبلغ من أن يقول إنه يكرهها بقدر ما أحبها؛ وإنما يجئ إليها مضطراً في بعض عمله ثم يغادرها بأسرع ما يستطيع
ولما كنت أفهم العلة الحقيقية لتلك الكراهية لم أشأ أن أناقشه فيما أبداه من غيرها من العلل الزائفة، بل لقد ثقل عليّ كلامه وأنكرت ما يفيض به من تكلف سخيف وما ينطوي عليه من خبث بغيض
ورأيته يبالغ في الحذر على ملابسه أن يعلق بها التراب فهو لذلك يمسحه عنها بمنديله بين آونة وأخرى لا يمل ذلك ولا يفتر عنه؛ وكيف يطيق أن يرى الغبار على حلته (الإفرنجية)، وإنه ليزهى أكبر الزهو بأن يخطر فيها على أعين الناس في القرية يذكرهم بها كيف أنه أصبح ذلك (الأفندي) الوجيه الذي لا يقل في وجاهته وعظمته شأناً عن سراة القرية ووجوهها. ولعل هذا المظهر الذي تبهج له نفسه وهو وحده الذي يجعله يطيق البقاء يوماً أو بعض يوم في تلك القرية
وقطع علينا الحديث قدوم شيخ أربي يما قدرت على الستين يتوكأ على عصا غليظة، ويكاد من الضعف لا تقوى على حمله رجلاه، ولم يكن ذلك الشيخ المتهدم إلا والد ذلك الأفندي الوجيه؛ ونهضت أستقبله مظهراً له حفاوتي به؛ وعجبت أن أرى ابنه يقف متثاقلاً متباطئاً؛ وأسند الرجل عصاه إلى أحد المقاعد وهمّ ليجلس على الأرض فأمسكت بيده وأجلسته بعد إلحاح على المقعد. . .
وأطرق الرجل لحظة، ولكني تبينت في عينيه كلاماً؛ وفطنت إلى أنه يرتاح لوجود ابنه معي في تلك الآونة إذ يستطيع أن يسمعه ما يريد ويِشهدني على قوله ويبثني شكواه؛ وزدت وثوقاً من ذلك بما رأيته من اضطراب وغيظ على ملامح ابنه الوجيه.
وتنهد الرجل تنهدة طويلة ثم أنطلق يتحدث ولم يعد يتحدث إلا شكاة مره موجعة من هذا الذي أنفق عليه الرجل ماله جميعاً حتى صار إلى ما صار إليه. وذكر لي فيما ذكر والدموع تبلل لحيته البيضاء، أنه ذهب إلى بيت أبنه في المدينة فأنكر الابن وجوده هناك، فذهب أبوه يطلبه في مقر عمله فدله عليه بعض الخدم، فانتحى به الابن جانباً وهو يحاول كتمان غيظه ثم صرفه بعد دقائق، فما كاد الرجل يبلغ عتبة الحجرة حتى سمع ابنه يقول لزملائه ضاحكاً: إن هذا الرجل كان فيما قبل مزارعاً أجيراً عند أسرته وإنه يطلب إحساناً. . . وخنقته العبرات لحظة ثم عاد إلى حديثه يسألني: هل يكون ذلك نتيجة التربية؟ وهل يكون جزاؤه على بيع ما كان يملك في تعليم ابنه أن يقابله بما يقابله به؟ والتفت أطلب الجواب من الوجيه المتعلم الذي يكره القرية وحياة القرية، فهالني ما سمعته من عبارات فاجرة أخذ يوجهها إلى الذي كان سبباً في نعمته، دون أن يستحي، وكانت أقل تهمة ألصقها بأبيه أنه قد صار شيخاً خرفاً لا يؤاخذ
وبلغ بي الغيظ كل مبلغ فنصحت إلى الرجل أن يرفع إلى القضاء، دعواه، فنظر إليّ نظرة شكر ولكنه قال:(يا بني نضحك علينا البلد ونسمع بنا الناس؟ لا، أنا عندي أموت من الجوع ولا يقول الناس إن ابني ناكر الجميل)
وأخذت أسري عن الرجل بما أستطيع من الكلام وقد عزني في هذا الموقف الكلام. كل ذلك وابنه صامت كأنه جماد، ثم وعدت الشيخ أني سأبذل قصارى جهدي من أجل راحته وودعته مواسياً مشفقاً
وهم ابنه بالانصراف بعده فمددت إليه يدي على كره مني؛ وجلست وأنا أقول: أيكون بعد ذلك غريباً أن نجهل القرى وحياة ساكني القرى وأن نظل وكأننا بما بيننا وما بين هؤلاء المساكين من قطيعة شعبان يعيش أحدهما من كد الآخر؟ وإذا كان هذا شأن بعض الأبناء مع الآباء فكيف تكون الحال فيمن لا تربطهم بأولئك المساكين بنوة أو قرابة؟
(عين)
حول لقب (السفاح) أيضاً
للأستاذ عبد الحميد العبادي
وأخيراً يدلي الأستاذ عبد المتعال الصعيدي دلوه في دلاء وينبري للبحث عن لقب (السفاح) لمن هو على التحقيق.
وقد كتب الأستاذ في هذا الموضوع ثلاث مقالات نشرت في الأعداد 346 و347 و349 من (الرسالة) الغراء. ونحن لا شأن لنا بالمقالة الأولى من هذه المقالات، لان الأستاذ ذهب يدلل فيها على إننا مسبوقون إلى تفسير لفظ (السفاح) بالمعطاء للمال، وفاته وهو يكتب تلك المقالة إننا نزلنا على هذه الدعوى عندما ثبت عندنا ان الذين لقبوا الإمام أبا العباس بذلك اللقب لم يقصدوا إلى مدحه بل إلى ذمه ووصفه بأنه سفاك قتال.
أما مقالتاه الثانية والثالثة فهما اللتان نعنى بمناقشتها اليوم.
وقد حاول الأستاذ في المقال الثاني إن يفند قولنا إن أبا العباس لم يكن سفاحاً، كما حاول في المقال الثالث أن يبين لنا كيف اختلفت الروايات في لقب السفاح بين أبي العباس وعمه عبد الله بن علي.
وقد كبر الأستاذ الصعيدي أن نقول: (إنا رجعنا إلى سيرة أبي العباس قبل الخلافة وبعدها فلم نجد فيها ما يسوغ تلقيبه بالسفاح) فاندفع يرمينا بالغفلة الظاهرة والتجني على التاريخ ويزعم أن سيرة أبى العباس بعد الخلافة (طافحة) بسفك الدماء ولقد ظننت الأستاذ سيأتي في الأمر بجديد فإذا به يعزو إلى أبى العباس ثلاثة حوادث: أولها قتله ابن هبيرة غدراً، وهذا ما نبهت أنا عليه في أول مقال نشرته لي الثقافة في هذا الموضوع. وثانيها قتله أبا سلمة الخلال، ولم أعد أنا أبا العباس مسئولاً عن هذا الحادث شخصياً، فالباعث عليه من قبيل ما نسميه الآن بتهمة الخيانة العظمى، ولذلك لم أعتد به على أبي العباس. على أن هذا الحادث قد تولى كبره أبو مسلم الخرساني من غير مراء. الحادث الثالث قتل أبي العباس سليمان بن هشام بن عبد الملك بعد أن آمنه، ولو تتبع الأستاذ قصة هذا الأمير في أقدم مظانها وأصحها وهو تاريخ ابن جرير الطبري لعلم أن الطبري يتتبع أخبار سليمان هذا بكثير من العناية والإسهاب حتى سنة 129 وثم لا يعود إلى ذكره بعد ذلك التاريخ، وسياق حديث الطبري يفيد أن هذا الأمير قتل في وقعة مرو الشاذان التي كانت سنة 129 بين
جيش ابن معاوية الثائر بفارس وبين جيش ابن هبيرة أمير العراق؛ وإذاً يكون سلمان ابن هشام قد فارق هذه الحياة قبل قتله المزعوم على يد أبي العباس بنحو أربع سنوات على اقل تقدير. وإذاً لا يمكن أن ينسب من هذه الحوادث إلى أبي العباس إلا حادث واحد فقط هو مقتل ابن هبيرة، وحتى هذا لا يعدم عند تدقيق النظر توجيهاً وتأويلاً. فقد كان ابن هبيرة زعيماً عربياً قوياً، وكان له حزب عربي عظيم في مدينة واسط، وكان أبو العباس يعتقد أنه يرقب الأمور، ويتربص الدوائر ليثب وثبة ترد عليه ما ضاع منه، فرأى أن يعالجه قبل استفحال شأنه
ولما لم يجد الأستاذ الصعيدي من حوادث القتل ما يصح أن ينسبه إلى أبي العباس رأساً أخذ ينحله جرائم غيره، فزعم انه هو الذي قتل تسعين من بني أمية كانوا على مائدته بتحريض سديف الشاعر؛ مع أن هذا الحادث الفظيع إنما كان بفلسطين وهو المعبر عنه في تاريخ الطبري بيوم أبي فرطس، والمسئول عنه هو من غير نزاع عبد الله بن عليّ وحده. بل إن الأستاذ الصعيدي ليجعل أبا العباس مسئولاً عمن قتل عبد الله بن علي بالشام وداود بن علي بالحجاز وسليمان بن علي في البصرة، لأنه هو الذي (سلطهم) على بني أمية في البلدان المذكورة. وهذه قصة الذئب مع الخروف معادة بشكل آخر. ولست أدري على أي مسدر يعتمد الأستاذ في دعاه هذا (التسليط) فالمصادر لا تذكر إلا لفظ (التولية) على تلك البلدان. والتولية ليس معناها (التسليط) بطبيعة الحال. ثم أين عدالة الإسلام وأدب القرآن الذي يقول (كل نفس بما كسبت رهينة)(ولا تزر وازرة وزر أخرى)؟ وأين مبدأ شخصية الجريمة العقوبة وهو من الإصلاحات العظيمة التي جاء بها الإسلام، وكانوا في الجاهلية ربما أخذوا القبيلة كلها بجريرة فرد واحد منها؟ الحق أن أبا العباس كما بينت في مقالاتي السابقة كان مغلوباً على أمره لأبي مسلم بالمشرق ولعمه عبد الله ابن علي بالشام، ولو رجع الأستاذ الصعيدي إلى تاريخ الطبري وقرأ فيه سيرة أبي العباس لتبين له ذلك بأجلى بيان، فلعله فاعل إن شاء الله
وقد بلغ من الحرص الأستاذ الصعيدي على اتهام أبي العباس أن وقع في تناقض عجيب حقاً. فقد كتب في مقاله الثاني يقول: (ولقد كان له (أي لأبي العباس) سفاح آخر نسيه المؤرخون، ولم يكن بأقل من عبد الله سفكاً للدماء.
ذلك هو سليمان بن علي أخو عبد الله وعم أبي العباس، فقد ولاه البصرة وسلطه على من كان بها من بني أمية، فقتل من كان بها منهم وألقاهم في الطريق فأكلتهم الكلاب) وبعد أسطر قليلة يقول الأستاذ الذي يرمينا بالغفلة:(ويطول بنا الكلام لو ذهبنا نستقصي ما سفك أبو العباس وأعمامه واخوته (مع العلم بأن التاريخ لا يعرف لأبي العباس أخوة سفاكين يسأل عن جرائمهم) من الدماء. ولقد كانوا كلهم شركاء فيما عدا سليمان بن علي فإنه كان أحنهم على بني أمية وكان يكره سفك دمائهم، ويجير كل من استجار منهم الخ) والظاهر أن الأستاذ أحس هذا التناقض العجيب وأراد أن يتلافاه فكان أعجب وأغرب، إذ عقب على الفقرة الأخيرة بقوله في هامش المقال الثاني:(هكذا روى عنه صاحب العقد وهو ينافي ما ذكرناه من قتله من كان في بني أمية بالبصرة. . . فلعل هذه الشفقة أدركته أخيرا عليهم). ولولا أن الأستاذ الصعيدي جاد فيما يقول لقلنا إنه تعمد أن يورد في هذا البحث الدامي فصلاً مضحكا يرفه به عن القراء
والواقع أن لا أبو العباس ولا عمه سليمان بن علي يمكن أن يوصفا بأنهما سفاحان سفاكان، وذلك لسبب واضح هو أنه لم يكن في العراق في وقتها أمويون يمكن أن يبسطا إليهم يد القتل والمثلة. فمن يتعمق درس التاريخ الأموي يعلم أن العراق لم يكن في وقت من الأوقات موطناً لبني أمية وبخاصة في أخريات عهدهم عندما انبثقت عليهم فيه البثوق التي زعزعت ملكهم، وكادت تأتي على سلطانهم قبل زحف العباسيين من المشرق.
إنما كان موطن بني أمية ومحل عصبيتهم الشام ثم الحجاز. فإذا سكتت المصادر التاريخية القديمة عن أن تنسب إلى أبي العباس قتل بني أمية أو قال صاحب العقد إن سليمان بن علي كان شديد الحنو على من يلجأ إليه من بني أمية، كان هذا السكوت وذلك القول هو المعقول والمتفق وحقيقة الحال. وإذا اقتصر الطبري على ذكر من قتل الأمويين إنه إنما كان في الشام والحجاز كان ذلك منطبقاً على الحقيقة والواقع
مما تقدم يرى القارئ أن الأستاذ الصعيدي على عنف محاولته (إدانة) أبي العباس وتسويغ تلقيبه بالسفاح لم يكن موفقاً، بل هو لم يخرج في واقع الأمر قيد شعرة عن مضمون قولنا:(إن سيرة أبي العباس قبل الخلافة وبعدها لا تسوغ تلقيبه بالسفاح بحال من الأحوال)
ولننتقل الآن إلى مناقشة موقف الأستاذ الصعيدي من المصادر واختلافها في لقب السفاح
بين أبي العباس وعمه عبد الله بن علي. وهو موقف عجيب حقاً، فالأستاذ الصعيدي ينظر إلى المؤرخين والأدباء الذين تعرضوا لسيرة أبي العباس وأخباره نظرة واحدة، ويضعهم في مرتبة واحدة من حيث العدالة والضبط والحجية، لا فرق عنده بين متقدم ومتأخر، وبين متخصص في الرواية التاريخية وغير متخصص فيها، وبين من يتتبع الرواية بإسنادها إلى من شهد الواقعة ومن يتسقط الأخبار من هنا وهنا. وما هكذا كان السلف الصالح من علماء المسلمين. فإنهم كانوا يزنون الرجال والأخبار بأدق موازين النقد؛ وما علم الحديث منا ببعيد، فقد رجحوا كتب البخاري على غيره من كتب الحديث، لأنه أقل من غيره رجالاً تُكلم فيهم بالضعف، وأقل من غيره أحاديث شاذة أو معلولة. فإذا جئنا إلى التاريخ، وجدناهم يقولون: إن أصح التواريخ تاريخ ابن جرير، وإن كتاب (فتوح البلدان) للبلاذري لم يؤلف مثله في موضوعه، وإن طبقات ابن سعد أقدم وأعظم كتاب في السيرة وتاريخ الصحابة والتابعين. وقالوا في ابن قتيبة إنه قليل الرواية
ولقد أدى هذا الموقف الأستاذ الصعيدي إلى نتيجة هي عجب من العجب، فالمصادر التي لقبت أبا العباس بالسفاح صادقة لأن، أبا العباس عنده سفاح، والمصادر التي لقبت عبد الله بن علي بنفس اللقب صادقة لأنه كان سفاحاً. والمصادر التي سكتت عن تلقيب هذا أو ذاك باللقب المذكور لا يصح الطعن بها في رواية المصادر التي ذكرت هذا اللقب (لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ) وهي قاعدة مشهورة عند الأزهريين ويقول الأستاذ إنه ليمكن أن أجادل فيها. وأنا لا أجادل في القاعدة ولكن أجادل في تطبيقها فليس هذا محل تطبيقها، والمسألة ليست مسألة حفظ وتضييع، وإنما هي مسألة تخليط وعدم تخليط، فهل يسلم الأستاذ بقول من يقول (إن من خلط حجة علي من لم يخلط)؟
أما نحن فنظرنا إلى المصادر نظرة نقد وتقدير كما فعل الأقدمون من علماء الحديث؛ فوجدنا أن أقدمها وأوثقها وأشدها تخصصاً بالرواية التاريخية لا تلقب أبا العباس بالسفاح، وتصور هذا الخليفة في الصورة التي أجملناها غير مرة، ووجدنا المصادر التي شوهت صورة هذا الخليفة ولقبته بالسفاح ونسبت إليه الفضائع هي من وضع رجال ليسوا متخصصين في الرواية التاريخية الجدية ولا معروفين بالعدالة والضبط الذين يعرف بهما أصحاب الرواية التاريخية القديمة كابن سعد والبلاذري والطبري وغيرهم. هذا هو موقفنا
بإزاء المصادر القديمة من حيث موضوع (السفاح)
وبعد فلئن كنت حزنت لشيء وأنا أقرأ هذا المقال الثالث والأخير للأستاذ الصعيدي فلقد حزنت للعبارة التي علق بها على جملة لابن العبري المؤرخ المسبحي المتدين الزاهد. فقد قال ابن العبري: (وكان أبو العباس رجلاً طويلاً ابيض اللون حسن الوجه يكره الدماء ويحامي على أهل البيت) فعلق الأستاذ الصعيدي على ذلك بقوله: (إن هذا لا يراد منه إلا كراهته لدماء أهل البيت وحدهم) مع أن المؤرخ وهو يترجم لأبي العباس لم يسند إليه حادثة قتل واحدة، ومع أنه في تاريخه السرياني المطول والمترجم إلى الإنجليزية لا يلقبه بالسفاح مطلقاً.
عبد الحميد العبادي
من وحي الفوضى
الدكتور مبارك يناظر
للأستاذ شكري فيصل
منذ أيام وقف الدكتور (زكي مبارك) يناظر الأستاذ (لطفي جمعة) في موضوع: (يزدهر الأدب في عصور الفوضى الاجتماعية). وكان طبيعياً أن يؤيد الدكتور المبارك هذه الفكرة وأن ينتصر لها، ويدافع عنها؛ ويجرد حملاته على خصومها ويسوق عليهم القوى والهجمات من منطق العقل ومنطق العواطف
وقد ود الناس لو سمعوا الدكتور خطيباً يرتجل حججه وسط هذا الحماس المضطرم، وينتزع آراءه من قلب هذا التيار العاصف، ويمتع سامعيه بلفتاته الذهنية البارعة. ولكن الدكتور زهد - كما يقول - في البراعة الخطابية، فانصرف عنها، وأوى إلى قلمه في ساعة من ساعات الفوضى والاضطراب فكتب خطابه في دائرة محدودة وصفحات معدودة ونهج بيّن
وكان هذا في الواقع صدمة شديدة الأثر. . . تناثرت معها أماني وأحلام. فالناس يعجبهم من هذه المناظرات أنها متعة من متع الفكر، يستفيق فيها الحس؛ وستفتح معها الذهن وتضطرم فيها الحياة، وتنبثق في خلالها المعاني والخطرات كما ينبثق الماء الثر فإذا هم - هذه المرة - في نطاق من الفكر، وفي مدى من الجدل، وفي مجال ضيق قد رسمت فيه الخطوط، وعينت الاتجاهات وصدرت عن أصل مكتوب
ولئن فات الناس أن ينعموا ببراعة الدكتور الخطابية التي زهد فيها، فقد عوضهم أن يروا نظراته المزدوجة (المتفلسفة) من فوق عينه
وأنا أشهد يا سيدي الدكتور أنك استطعت أن تأسر الناس، وأن تأخذهم بالإعجاب بك، والتصفيق لك، والانسياق معك في هذه الوديان المترعة بالحسن التي حملتهم إليها، وهذه الربوع المليئة بالجمال التي دفعتهم نحوها. . . وتلك الأجواء العبقة التي حلقت بهم فيها. . .
ولقد حدثتَ يا سيدي حديث العواطف الثائرة والشعور الطاغي والقلب الذي كونه النار والصدر الذي اضطرم فيه اللهب. . . وسمعك الناس تقرأ لهم صفحة من بلائك بالدنيا،
وصدامك مع الناس، وحربك مع هذا العالم. . . وأنصتوا يصغون لهذا النشيد الدائم الخالد: نشيد (الأحلام والأوهام) و (الحقائق والأباطيل) و (الأزهار والأشواك) و (العقول والقلوب). . . فنفثت فيهم ببراعتك لباقتك السحر والعطر والجمال. . .
ولم تنس يا سيدي أن تقص علينا طرفاً من حياتك. . . فأنت في كلية الآداب، ولكلية الآداب في تاريخك صفحات وصفحات. . . فَلِم لا تنشر هذه الصفحات في مدرج الكلية، وعلى عيني طلبتها وطالباتها. . . ليروا مدى برّك بها، وميلك إليها، وغيرتك عليها؟! ولم لا تغتنم هذه الفرصة فتضع أيديهم على أمور وأمور تعتقد أن من واجبك أن تنبه إليها، وتتحدث عنها؟!. . .
وحديث ليلى يا سيدي. . . حتى ليلى هذه كان لها في خطابك نصيب، وفي موضوعك حظ. . . وفي أوراقك ذكر. . . وكانت ليمينك يمين. . . ولجيشك جناح. . .
ولقد استطعت يا سيدي بما آتاك الله من طلاقة ووهبك من اندفاع وبما أفضت من روعة ونثرت من رياحين أن تهدئ ثورات وتسكن نفوساً، وتسكت غاضبين. . . وأن تخرج من وسط الضجة الناقمة، والصخب الثائر بالهتاف الذي ملأ الجو، والتصفيق الذي كان يمثل نبضات القلوب الخافقة. . .
وضمن لك هذا الأسلوب البارع، وهذه القدرة الخطابية، أن تمر بكثير من القضايا. . . فتعرض على الناس طرفاً منها ووجهاً لها؛ ثم تخلص منها إلى غيرها على أنها قضية مسلمة، وحقيقة واقعة. . . ولقد بلغت أكثر من ذلك. . . حين خضت طرفاً شائكاً وعراً. . . وقدت الناس فيه، وخرجت منه مظفراً. . .
لم تدم لك قدم، ولم يقف في طريقك ما يقف في طريق الناس من عقبات وحواجز. . .
ولكن، أليس من حق الناس، وقد اكتسبت المعركة، وظفرت بالنصر، واكتسحت الخصوم الأقوياء، أن يقفوا عند هذه القضايا التي طويت عليها كتابك أمس. . . فيتحدثوا عنها، وقد هدأ الحماس الثائر، وسكنت الأكف المصفقة، وتنفس الصبح عن الوضح المبين؟!. . .
نحن نحب أن نتساءل عن قولك: (إن أكثر أهل الجنة من البَله). كيف استطعت أن تنجو معها من إخواننا الأزهريين الذين كانوا يملئون جنبات المدرج؛ وكيف سكتوا عنها حتى لكأنك لم تمر بها؟. . . إن تعليلك طريف حقاً. . . ولكن هل ترضاه الآن بعد أن خرجت
من ميدان المعركة؟!
وشئ آخر يا سيدي. . . إنك تقول إن الأدب لا يزدهر في البيئات الساكنة، وإن رجال الدين ومن في مثل منزلهم لم يصدر عنهم أدب صحيح قيم. . . فهل أنت مؤمن بهذه الدعوى العريضة؟. . . وهل يستطيع أحد أن ينكر أن للبيئة الهادئة أدبها الهادئ الجميل. . . وأن كثير من الرجال الدين والمتدينين قد صاغوا من هذا الهدوء الذي نعموا به، وهذه اللذاذات العقلية التي عاشوا فيها الوجدانيات من الأدب الرفيع؟!
وهل يغفل الإنسان عن الحقيقة الناصعة في أن طائفة كبيرة من أدباء الشرق العربي في جيل الماضي وفي الجيل الحاضر هم من هموم من رجال الدين الذين قرأ لهم الناس الشعر، وقرءوا لهم النثر، وكانوا من عمد هذه النهضة الجديدة؟!. . .
أو ليس صحيحاً أن الأكاديمية الفرنسية تضم فما تضم بعضاً من رجال الأكليروس. . . أم أن ذلك كان بعد رجوع الدكتور من باريس؟!. . .
وماذا بعد؟ إني لأحاول أن أجوز إلى الناحية الثالثة التي استوقفتني في خطاب الدكتور لولا أني أخشى أن أهتم بالعصبية أو الإقليمية أو الهوى. . . وإنما هواي مع مصر، وعصبيتي لها. . . ولكن ما يمنعنا أن نكون أقرب إلى الدقة والى الأنصاف؟!. . . وهل يعاب الحق إن هو لم يساوق بعض الأهواء الجامحة؟!
ما علي إذن إن أنا وقفت عند كلمة الدكتور: (إن مصر أقدر الأمم الإسلامية على التفكير الدقيق وعلى التأليف) وما عليّ أن أتساءل ويتساءل معي كثيرون، وأن نرجوا الدكتور أن يكون متئداً هادئاً، لا يدل ولا يتيه فمصر زعيمة العالم العربي. وهي موطن أمله، وموضع رجائه، ومحط أمانيه؛ وهي بلد رجاله ومنبت أبطاله، ومبعث النور فيه. . . ولكن هذا لا يعني يا سيدي الدكتور ألا تكون الأقطار الإسلامية الأخرى قادرة على مثل هذه الدقة في التفكير، وهذه الكثرة في التأليف. . .
والذين هم في مكان القيادة يا سيدي، ليأخذوا بيد الضعيف، ويمدوا في قوة العاجز، وينيروا السبيل للضال. . . لا يعيبون على الضعيف ضعفه، ولا يأخذون عليه عجزه، لأن هذا لا يتسق مع تواضع النعمة؛ وحق الاخوة، وشكر الله. . .
وفي الأقطار التي تعنيها يا سيدي نهضة وحركة. . . وقدرة على (التفكير الدقيق) غير أن
ألواناً من الجهاد تطغى على هذه النهضات، وتكبت هذا النشاط، وتفل هذه القدرة، وتحاول أن تطفئ شعل النور فيها. . .
لقد كنت وقفت منذ حين أرد على الذين أعماهم الغرور في لبنان وغير لبنان، فادّعوا الدعاوي وتقوّلوا الأقاويل وحاولوا أن يغمزوا الأدب المصري وأن ينالوا منه، وأن يتعرضوا لطائفة كبيرة من الأدباء. . . وأنا أجدني اليوم مضطراً أن أقف مرة ثانية موقفاً لا يختلف في حقيقته عن الموقف الأول. . . فنحن في الأقطار الإسلامية الأخرى نؤمن بكل هذه الجهود التي تبذلها مصر؛ ونحن نكبر هذا النشاط الذي يتراءى في أجوائها ساطعاً كالنور؛ ونحن نغذي نهضتنا وأدبنا بكل ما ينطلق من قيثارة شعرائها، وصفحات كتابها؛ ونحن ننعم بهذا العطر الذي تنشره مع النسائم، وهذا الألق الذي تشمه في سموات الفكر. . . ولكننا نريد أن لا نُغفَل هذا الإغفال، ولا نُهمل هذا الإهمال
إن زعامة مصر أمر لا شك فيه. . . وليس ثمة من يناقش في الأمور البديهية المسلمة؛ فلم نخرج بالأمور إلى مفاضلات ومقارنات لا تفيد في تقرير رأي، ولا تنفع في الوصول إلى نتيجة، ولا يكون من ورائها إلا اللغط؟
وبعد. . . فإن لك يا سيدي في قلوبنا حرمة، وفي نفوسنا منزلة، ونحن نحاول هنا أن نحملك على أن تجلو هذا الذي استغلق على الناس، ولقد متعهم بصفحة رائعة؛ ووقفت منهم موقف الخطيب الموفق. . . واهتزت لك أفئدة وتولاّك الإكبار من كل جانب. . . وتهافتت عليك البطاقات معجبة راضية مغتبطة، فتقبلتها باسماً ضاحكاً مغتبطاً. . . فهلا تقبلت معها هذه الكلمة؟. . .
(القاهرة)
شكري فيصل
النسر المهيض
للأستاذ محمود الخفيف
حُلْمكَ القَيْصَرِيُّ كَيْفَ تَقَضّي
…
أَيُّهَا السَّاهِمُ الملَقَّى الْهَوَانَا؟
ضَاقَ عَنْكَ الفْضَاَءُ طولاً وَعَرْضا
…
وَتَعَالَيْتَ لَسْتَ تَحْفِلُ بُغْضاَ
لَا وَلَا كُنْتَ أَمْسِ تَحْفِلُ حُباً
لِبَنِي الطِّينِ، أوْ تَهَابُ الزْمَانَا
كنْتَ بالأمْسِ الإمبراطورَ تُدْعَى
…
بَعْدَ نَعْتٍ بالْكرْسِكِيَّ الصَّغيرِ
تتَهَاوَى أَلقْاَبُ مَجْدِكَ صَرْعى
…
وَتَرَى مَنْ وَالَوْكَ كَرْهاً وَطَوْعَا
بَيْنَ رَاثٍ وَشَامِتٍ يَتَشَفَّى
فيِ مَصِير مَا مِثْلهُ مِنْ مَصِيرِ!
لمْ تَرَ الأرْضُ مثلَ عُقْبَاكَ عُقْبى
…
هَلْ رأَتْ مِثلَ ما بَلغْتَ اْرِتقَاَء؟
نلْتَ مَا نِلْتَ مِنْ زَمَانِكَ غَصْبَا
…
لمْ تَجِدْ فيِ اَلْحيَاةِ سَهْلاً وَصَعْبَا
ثُمَّ حَلَّقْتَ تَبْتَغِي غَيْرَ وَانٍ
أَيُّهَا النَّسْرُ أَنْ تَنَال السَّمَاءَ!
قُضِيَ الأمْرُ! هلْ رَضِيتَ القَضاَء
…
أَيُّهَا اللاُّغِبُ الْمَهِيض اَلْجَناحِ!
كَيْفَ تَرْضَى وَمَا عَرَفْتَ الرِّضَاَء
…
مَرَّةً أَمْسِ أو عَدِمْتَ الرَّجَاَء
أَيُّهَا الوَاجِمُ الْعَبُوسُ تَلَاشَتْ
خُدَعُ اُلْحلْمِ فِي يَقِينِ الصَّبَاحِ
قَدْ تَزَيَّدْتَ فِي غُرُورِكَ حَتَّى
…
كِدْتَ تُنْمَىِ لَغْيِرِ هذَا الوُجُودِ!
وَتَأتَّي من زوِرِه ما تأَتيَّ
…
فَتَغاَبْيتَ فِي مَوِاطنَ شتىَّ
لَشَجَانِي بِرَغْمِ ذَلِكَ مِرْأَى
شَبَحِ الُذلِّ في الُعقَاِب الَّصُيِودِ!
تصِفُ الَعْينُ فِي مُحَيَّاكَ خَوْفاً
…
وُابتِئَاساً وذِلَّةً واُنكسَارَا
لَا يُوَفِّيكَ غير مَرْآكَ وَصْفاً
…
عُدْت كَالَّناسِ بْلِ لقْد زْدتَ ضَعْفَا
ليْتَ شِعْرِي يا مَنْ هَزَمْتَ المنايا
كيف تَحيا؟ هل تستطيع اصطبارا؟
بَهَر الَّناسَ في صُعُوِدَكَ بَرْقُ
…
لْم يَرَوْا في سَناهُ مِنْكَ العُيوبا
كلُّ إْفنٍ أََرْدَتُه فَهْوَ حَقٌ
…
وتَحَدِّى الزّمَان عْندَكَ سَبْقٌ
تْشِفُق الَعْيَنُ أن ترَى الشَّمْسَ حَتَّى
تتراءَى لها تُريدُ الغروبا
كَمْ تَرَى العَيْنُ في غُرُوبِكِ مِمَّا
…
يَمْلأُ القَلْبَ من شَتِيتِ المعاني
أَنْتَ فِي الأرضِ من بني الأرض منهما
…
مَلأتْكَ اَلْحَياة وَهما وعَزْما!
عَبْقَريَّ الحروبِ، كَمْ كُنْتَ تبدو
أَمْس كالطِّفْلِ أَطْمَعَتْهُ الأماني!
رُحْتَ كالطَّفْلِ لاعِباً بالعُروشِ
…
لَعِباً حَارَ جُنْدُ عَرْشكَ فيِهِ!
النَّجِيعُ الصَّبِيبُ أَبْهَى النْقُوشِ
…
والدُّمَى من أَسِرَّةٍ وَنُعُوشِ
كرَةَ الأرض بَيْنَ رجْلَيْكَ حَيْرَى
والَمنايا تَجْري بما تَشتهيِهِ
وَيْكَ! قد كُنْتَ كالشِّهاب التماعا
…
وَسَنَاءً وَرَوْعَة وانطِلاقاً
كلِّماَ زادَ في السَّماَءِ ارتفاعاً
…
وَتَبَدَّي لِلْعَيْنِ أَبْهَى شُعاعا
وَمضَى يَخْطِفُ العُيُونَ سَناهُ
لمْ يَزِدْهُ المضاء إلاّ احتراقا
أَشبَهتْ مُلكَك الفَقَاقيعُ مَعْنىً
…
وبناءً وبَسطْةً وَفناَء
بهرْجُ المجدِ كان زوراً وَإِفناً
…
وَبَريقاً يكْسُو الفقاقيعَ حُسْناً
وَهْيَ مِثْلُ الهَواءِ أَوْ هِيَ أَوْهَى
وَهْيَ كَالبَرقِ وَمْضَةً وَانْطِفاءَ!
الخفيف
إعصار
للأستاذ أمجد الطرابلسي
هذي الليالي السودْ
…
كيف أُقضِّيها؟
أشدو وهل في العودْ
…
من وَتَر مشدودْ؟
والكأس. . . هل فيها!
الريحُ، نجواها
…
تنشدها الآفاقْ
والليلُ أوَّاها،
…
قد ذاب أمواهاً
تهوي من الأعماقْ. . .
وتلك أبوابي
…
يلطمها الإعصارْ. . .
أطيافَ أحبابي!
…
أشباحَ أوْصابي!
كيف عرفتِ الدار؟
يا ذِكَرَ الغابرْ
…
بِيني كما بانا. . .
لا تقلقي السادرْ
…
في وَحشِة الحاضرْ
دعِيه سهمَانا. . .
هذه الليالي السْوُدْ
…
كيف أُقضِّيها؟
أشدو وهل في العودْ
…
من وَتَرٍ مشدودْ؟
والكأس. . . هل فيها؟
(باريس)
أمجد الطرابلسي
تحت الليل
للأستاذ محمود محمد شاكر
أهِيمُ. . وقْلبِي هائُم. . وَحُشَاشَتِي
…
تهيمُ. . فَهلْ يبقَى الشَّقِيُّ الَمبعُثَرٌ؟
وهلْ يهْتَدِي غاوٍ أَضَاعَ حَياتَهُ
…
بحيثُ يَضِيعُ الطامحُ الُمتَجَبَّرُ؟
وهلْ تَسكُنُ الدُّنيا ويَسكُنُ صَرفُها
…
ويسكنُ هذا النَّابضُ المُتَفَجَّرُ؟
وهلْ تُطفِئُ الأيام نيرانَ ظُلْمْهاَ
…
وَتَطْفَأُ نارٌ في دَمِي تَتَسعَّرُ؟
لئِنْ أَبْقَتَ الآمالُ منَّي، لَطالما
…
تَقَلِّبْتُ في آلامِها أَتَضَوَّرُ
تَنَازَعُنِي من كلِّ وَجْهٍ بِساحِرٍ
…
يُمَثِّلُ لي إِقْباَلَها وَيُصَوِّرُ
فيَهْوِي لها بعِضي وَبَعْضِيَ مُوثَوقٌ
…
بأشواقِه الأخرى إلى حيثُ يَنظرُ
أَضاليلُ من سِحْرِ الحياةِ وَفِتْنَةٌ
…
تَهاوَى إليها مُسْتهامٌ مُسَحَّرُ
أَبَى القلبُ إِلاّ أَنْ يَرَاها قريبةً
…
كأنّ رضَاها مُزْنَةٌ تَتَحَدَّرُ
يَرِفُّ شبابُ القلبِ في قَسَماَتِها
…
تكادُ تراهُ ضاحكاً يَتَحَيَّرُ
تُضِئُ ليالِي هَمِّهِ بِخَيالِها
…
كما سَلَّ همَّ الّليْل نَجْمٌ مُنَوِّرُ
وهيهاتَ! ضَلَّ القلبُ إِنّ بقاَءها
…
بَقاءُ رَبيعِ الزَّهْرِ أو هُو َأَقْصَرُ
سَرتْ فِي دَمٍ يَغْلِي كأنَّ انِدفاقهَُ
…
منَ القلب ينْبُوعٌ من الوجْدِ يُسْجَر
تُمَّرُ به الأفكارُ وَهْيَ نِدَّيةٌ
…
فما هِيَ إِلاّ جَمْرَةٌ تَتَدْهَورُ
إذا سكَنَتْ في الَّليْل كلُّ خَفِيَّةٍ
…
سمعتُ صَليلا في دَمِي يتحدَّرُ
فَهَلْ ترحَمُ الأيامُ أو تهدأ المنَى؟
…
أَبى حُبُّهَا إِلا شَقَاءً يَدِّمرُ
محمود محمد شاكر
رسالة الفن
تأملات في الفن:
مدرسة الإحساس
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- لا تنهري القطة بهذه القسوة. كوني صاحبة إحساس وكوني ذات رحمة
- أرحمة بلصة تسرق طعامي؟
- ليس مكتوباً عليه بلغة تقرأها هي أنه طعامك، وإنما هو عندها رزق يسره الله
- ولكنها كانت تدب إليه مشفقة حريصة محاذرة متنبهة متلفتة يمنة ويسرة كاللص الذي يدرك حين يعتزم السرقة أنه يعتزم المنكر
- هي معذورة فقد تعلمت هذا التلصص منا؛ فهي لا ترانا نفترس ما نأكل وإنما ترانا نربي الحيوان والطير ثم ندب إلى فريستنا منهما دبة اللص فنختلس حياته اختلاساً لا يسبقه صراع، ولا يسبقه إنذار. . . ولم يكن القط هكذا إلا منذ استأنس، وقبل ذلك كان يفترس، أو يأكل ما يخلفه كبار السباع
- وهل في القط ذكاء يدرك به هذا كله؟. . .
- إن الأمر لا يحتاج إلى ذكاء، وإنما هو يحتاج إلى إحساس. ألست تدخلين على جماعة من الناس فتعرفين إذا كانوا على حزن أو على فرح، أو على صدق أو على غش؟!
- قد أعرف ذلك مما أرى في وجوههم من أثره. . .
- ومن الناس من يعرف وهو مطرق إلى الأرض، ومن الناس من يعرف وهو مغمض العينين والأذنين، ومن الناس من يعرف وهو على البعد لا يتمكن من نظر ولا سمع
- باللاسلكي؟!
- نعم؛ ففي قلب كل مؤمن جهاز يدله، ومن هذه الأجهزة طويل الموجة، ومنها ما هو متصل بتيار لا ينقطع، ومنها ما يعبأ (ببطاريات) تفرغ وتملأ، ومنها ما يستقبل القريب فقط، ومنها ما يستشف المحطات البعيدة. . . وهكذا، فالكون كله إذاعات واستقبالات جلّت على ماركوني وإن سلست للأستاذ حسن كامل
- هذا العجوز الذي ظهر سكيراً في فلم العزيمة؟ إنه ممثل ممتلئ حقاً ولكني لم أكن أحسب أنه يعلم ما لا يعلمه ماركوني. . .
- ويعلم ما لم يكن يعلمه فرويد كذلك
- ما شاء الله! لعله اخترع آلتين تتزاوجان وتنجبان البنات من الآلات والصبيان!
- بل تمكن من إيجاد إنسان يعيش من غير غريزة فرويد فيستطيع أن يتحادث مع الطير والحيوان
- على طريقة سيدنا سليمان؟
- إذا لم تكن هناك إلا طريقة سليمان فهو إذن على طريقة سليمان. وهو إذن يعيش بين دجاجه وأرانبه وإوزه وكلابه ومعيزه ملكا مدبراً حكيماً إلا أنه يأكل رعاياه
- وكنت تريد ألا يأكل منها
- ربما كان هذا أحلى؛ ولكن الذي يصنعه على أي حال حلال؛ فلا ريب أنه للإنسان على ما هو دونه ومن في حماه حق الرعاية بالحكمة وله أن يتقاضاه روحاً وحياة
- أنت تجعل الذي بيننا وبين الحيوان عشرة أظن لها عندك قوانين وأصولاً
- الطبيعة فرضت هذه القوانين والأصول، وقد كان القدماء شديدي الاعتراف بها، ولا زال الفلاحون يحترمون هذه القوانين والأصول فيما بينهم وبين ما ينفهم من الطير والحيوان، وإن كنا نحن في المدن قد أنكرنا هذه القوانين إنكاراً استدعى أن تقوم فينا جمعيات للرفق بالحيوان تصيح في آذاننا تطلب له الرجمة كان يجب علينا أن نحسها من تلقاء أنفسنا لولا أننا قد تحجرت نفوسنا وتخشبت من شدة إقبالنا على عشرة الحديد والحجر والخشب. . . فلم يعد أحد منا يعطف على حيوانه عطفه على ولده الذي في عنقه
- هذا الذي تطلبه كثير، وهو ليس من الطبيعة في شئ
- لو لم يكن من الطبيعة لذبح إبراهيم ولده
فلو أنك كنت تشعرين بالحياة حولك، لكنت تبادلت الحس مع الحيوان. . . ولكنت أدركت الحق فيما أقول. . . ولكن كيف أطلب منك الإحساس بالحيوان وأنت منصرفة حتى عن الإحساس بالناس، وحتى عن الإحساس بنفسك. . .
- حتى نفسي ترميني بإغفالها والبعد عنها؟. . .
- ولست وحدك هكذا، وإنما أغلب أهل هذا العصر هكذا وأكثرهم تردياً فيه أهل المدن، وأكثر أهل المدن تردياً فيه وانطماساً أولئك الذين يتعلمون في المدارس، وأكثر المتعلمين تخبطاً فيه وانغماساً أبناء معاهد الفن في مصر، فهؤلاء يستعرضون صوراً مختلفة للحس، ولكنهم لا يقفون عند واحدة منها وقفة التأمل والتذوق، وإنما هم يحصونها عداً ويحسبون هذا الإحصاء علماً، فيخرجون به إلى الدنيا ونفوسهم مشوشة مختلطة حائرة. . . ومع هذا كله، فمغرورة متكبرة. . .
- وهذا فيمصر وحدها أو في العالم كله؟
- أظنه في مصر وحدها. . . فهم في الغرب إذا كفروا لم يكفروا حتى يؤمنوا بكفرهم، ونحن هنا ننتظر حتى يكفروا فنجري ورائهم، فإذا آمنوا آمنا، فإذا كفروا كفرنا ونفوسنا فارغة لا يعمرها إيمان ولا كفر. . .
- وهل يعمر الكفر النفوس؟. . .
- إذا كان كفراً خالصاً لوجه الحق كذلك الكفر الذي شاع في أوربا في القرن الماضي وفي سوابقه، إذ تفتحت عيون عشاق الحق هناك على أباطيل رأوا أهل الدين يتمسكون بها، فقالوا لهم تعالوا ندع هذه الأباطيل ونحرر أنفسنا ونفكر بعقولنا، فقال لهم أهل الدين، ليس لنا عقول إذ ردتنا العقول عما وجدنا عليه آباءنا، وإنه لدين آمنا به ولن نحول عنه، فقالوا لأهل ذلك الدين: فليكن إذن لكم دينكم وليكن لنا ديننا، ثم قالوا للناس جميعاً: إنما نحن نسعى إلى الحق بعلومنا وعقولنا، وليس لنا شأن بأخصامنا، ولسنا ندعو الناس إلى جنة أو نار، فالجنة والنار حديثهم، وإنما نحن نقول إن عباد الشمس الأزرق يحمر إذا أضيف إلى حمض، كما نقول إن الهيدروجين أخف من الأوكسجين وثاني أكسيد الكربون، وإن الأرض مجذوبة إلى الشمس، وإن الشمس تسبح في الفضاء وإن وإن. . . وليستمع لنا من يريد وليستمع لهم أيضا، فإذا شاء أن يودع عقله بين أيديهم فليستثن عن عقله وهو عندهم حتى إذا جاءنا استحضره. . . هذه حال حدثت في أوربا، ولأنها حدثت في أوربا فقد أحدثنا مثلها قولاً في كلية الآداب عندنا وقلنا إن العلم شئ وإن الدين شئ، مع أن ديننا هو العلم نفسه، وهو العقل نفسه، ولم يحدث أن احتضن يوماً خرافة، أو أظل باطلاً. . . وإن كان بعض أصحاب الغرض قد رشقوا في حواشيه بعض ما ينافيه، مما هو ظاهر للعين زيفه
وغرابته عن سلامة الفكرة وحكمة الحق. . . وقال الغرب يوماً إننا لن نؤمن بشيء حتى نبدأ بالشك فيه وتعقله بعد ذلك إلى نهايته حتى نصل إلى حقيقة أمره، فنراها فنؤمن عندئذ بها، ولم يقل الغرب هذا إلا من ثقل ما كان يراد به أن يحشره في إيمانه من أوهام، وأكاذيب. . . فقلنا نحن أيضاً مثلما قال الغرب: لن نؤمن بشيء حتى نشك فيه أولاً وبدأنا نشك في أغلى تراثنا حتى لقد شككنا في قصة إبراهيم يوماً
- وهل اثبت التاريخ قصة إبراهيم؟ العلم لا يرضى إلا بالإثبات العلمي، وللإثبات العلمي شروط
- وهل أثبت التاريخ أن الأرض كانت جزءاً من الشمس إثباتاً علمياً بالشروط إياها؟ وهل يستطيع التاريخ أن يثبت كل حقائق الوجود؟ إذا كان الأمر كذلك فقولي لي كيف يثبت التاريخ أن هانيبال كان يتنفس مثلما نتنفس نحن مع أن هذا الشيء لم يرد في وثيقة تاريخية واحدة مستوفاة التحقق والتحقيق التي تطلبنها! بل إنه لم يرد في وثيقة أصلاً!
أفتستطيعين أن تشكي في أن هانيبال وأباه كانا يتنافسان لأنه لا وثائق تثبت ذلك؟ فإذا ضاعت منك شهادة ميلادك ظننت أنك ربما تكونين قد انعدمت لأنه لا ورقة رسمية معك تعترف بك؟ حتى لو حلف الناس بوجودك وشهد أهل بلدك بنسبك؟
فتذوقي العلم. . . وتذوقي الأدب. . . وتذوقي الفن. . . وتذوقي الحياة. . . عيشي على مهل، تفرسي في كل شئ. . . أيقظي إحساسك، ولا تقفزي بعقلك إلا بعد أن يرتاح إحساسك إلى ما أنت فيه. . . فلو فعلت أنت هذا، ولو فعله الناس جميعاً، ولو فعله أهل الغرب على الخصوص، لخفت كوارث البشرية ولهان من مصائبها الكثير. . . أفلو تريث أولئك الذين يخترعون الغازات السامة والقنابل والبلاوي الزرق الفتاكة بالناس، وحاسبوا عقولهم بضمائرهم واستشعروا ما تجره اختراعاتهم على إخوانهم من ويلات. . .
أكانوا يبرزونها للناس كالحمى المجنونة، حملها من الجحيم الشيطان أثيم. . . لو أن هؤلاء العلماء العقلاء تريثوا، وحادثوا أنفسهم لما أطلقوا الخراب من مكامنه عاصفاً يلهف البريء وغير البريء. . . ولكنهم علماء تريدين أنت أن تكوني عالمة
- وأي شبه بيني وبين هؤلاء؟
- هؤلاء يجمعون من الحقائق ما يقتل الناس، وأنت تجمعين من الحقائق ما يقعد على
الإحساس، وهؤلاء لو أنهم استغنوا عن استغلال حقائقهم لوفروا على الناس هلاكاً لا غناء فيه، وأنت لو أنك استغنيت عن حقائقك التاريخية لوفرت على نفسك هلاكاً لا غناء فيه كذلك. . .
- وهل أنا هالكة؟
- وأي هالكة يا من لا تعنيك في قصة إبراهيم إلا أن تعرفي إذا كانت قد حدثت أو إذا لم تكن، ولم تحاولي أن تتذوقيها. . .
مسكينة أنت. . . ما أحوج أمثالك إلى أن تنشأ لهم مدرسة للإحساس!
عزيز أحمد فهمي
رسالة العِلم
الأسماك العجيبة
للأستاذ أحمد علي الشحات
تحدثنا في مقال سابق عن بعض الأسماك التي تجلت فيها غريزة الحنان، فدفعتها إلى القيام بالمحافظة على بيضها والصغار التي تخرج منه، وألممنا ببعض الطرق الطريفة التي تقوم بها هذه الأسماك في سبيل حماية نسلها.
وسنرى في حديث اليوم كيف أن تلك الغريزة تدفع بعض الأسماك إلى القيام ببناء مأوى لصغارها يقيها شر هجمات عدو يفترسها، حتى يستقيم عودها وتستطيع أن تذود عن نفسها. وأشهر هذه الأسماك هي المسماة:(ذات الأشواك الظهرية)؛ ففي النوع ذي ثلاث الشوكات على الظهر، يتجلى نشاط الذكر في الربيع والصيف بأن يقوم ببناء عش على أرض عمقها قليل، والمواد المستعملة في بنائه هي النباتات المائية، والحشائش والقش وغيرها؛ ويشد بعضها إلى بعض مادة مخاطية يفرزها الذكر، ولهذا العش فتحات جانبية؛ فإذا انتهى من بنائه أخذ يبحث عن أنثى يدعوها لتضع بيضاً في هذا العش، فان لم تخضع، أخذ يطاردها بعنف إلى أن تذعن لأمره. وقد يحدث أنها لا تضع من البيض الكمية التي يقنع الذكر بها، عندئذ يبحث عن أنثى أخرى لتزيد كمية البيض، ويقوم بتنظيم وضع البيض في العش، ويخفره ومحتوياته الثمينة ليل نهار. وإذا اقترب غريب منه أثخنه بالجروح بفعل أشواكه ليحمي عشه، حتى إذا كبرت صغار السمك هدم الأب الجزء الأعلى من العش، واستطاعت الصغار أن تنطلق في الماء تسعى لرزقها
ولعل أطرف عش يبني هذا الذي تعمله سمكة الجنة التي تعيش في الصين، وليس هذا العش إلا فقاعات هوائية يخرجها الذكر من فمه ويتماسك بعضها ببعض بمادة لزجة، فإذا تم بناء هذا العش العجيب العائم على سطح الماء احذ الذكر يبحث عن أنثى، فإذا ما وفق ابتدأت تضع البيض واحدة واحدة يلتقطها الذكر بفمه ويرفعها إلى العش، ويلتصق هذا البيض بالمادة اللزجة. ولما كانت الأنثى شرهة تأكل بيضها إن لم يحمه الذكر، فإنه يتولى المحافظة عليه حتى يفقس، ويظل لمدة أسابيع أخرى يرعى صغاره خشية أن تنقض الأم عليها وتأكل أولادها
وفي أحد أجناس الأسماك الغضروفية المسمى - وهي كلمة تشتق من يلتصق، بمعنى صخر، وسمي بذلك لأنه يلتصق بالصخور بواسطة فمه - يتعاون الأبوان في عمل جحر صغير حيث تضع الأم البيض، ثم يحركان الأحجار المحيطة به فينتج عن ذلك أن ينهار سيل من الرمال يغطي الجحر فيصبح محجوباً عن أعين الأحياء المائية الأخرى التي تبحث عن غذاء لها
وهناك أسماك في كاليفورنيا تحمي بيضها بدفنه في رمال الشاطئ حين يجرفها المد إليه، ويبقى هذا البيض جافاً وبعيداً عن الماء لمدة تناهز أسبوعين حين يغمر الماء الشاطئ ثانية فتكشف المياه عن البيض الذي تنطلق منه الصغار آنئذ إلى الشاطئ.
الأسماك الذهبية
وهي أسماك قد حبتها الطبيعة لوناً جميلاً وذكاء تستطيع به أن تقوم ببعض الألعاب المسلية، ولذا فأنه يحتفظ بها في أحواض للزينة، وعلى الغاوين أن يتعهدوا هذه الأسماك بتربية أجمل الأفراد منها بعضها مع بعض حتى ينتج نسل ذو لون زاه. وإلا فإن الأجيال الناتجة تفقد تدريجياً بهاء الألوان التي كانت لسلفها، وقد حدث هذا فعلاً عندما وفد على أوربا ممثلو إحدى الجزائر الواقعة في المحيط الهادي، وأعجبوا بهذه الأسماك فحملوا حين قفلوا راجعين إلى بلدهم الآلاف من هذه الأسماك وأطلقوها في أنهارهم. ولما أن كانت محاربة الطبيعة لا تجدي نفعاً بل تنتح ضرراً، كما حدث مثلاً حين نقل الإنسان الأرانب إلى استراليا، فإنها زادت وقتئذ زيادة بليغة فانطلقت تبحث عن غذاء لها فلم تبق على أخضر هناك رغم ما قامت به الحكومة من مجهودات للقضاء على هذا الحيوان. فكذلك هذه الأسماك حين نقلها أهل الجزيرة إلى بلدهم، فمع أنها فقدت بهاء ألوانها لأنه لم يعن بتربية أزهى الأفراد لونا مجتمعة فإنها قضت على النوع الوحيد من السمك الذي كان يعيش في مياه تلك الجزيرة والذي كان يعتمد الأهالي عليه في غذائهم.
وليست هذه الأسماك بالذهبية اللون دائماً فقد يكون بعضها فضياً أو أحمر، وقد تكون الزعنفة الظهرية عالية وتقوم بمهمة قلاع المركب حين تسبح السمكة. ولبعض هذه الأسماك عيون محمولة على نتوءات بارزة من الرأس، وتسمى بذات الأعين التلسكوبية، ولا تظهر هذه النتوءات إلا بعد أشهر من عمر السمكة
وتستطيع هذه الأسماك أن تعيش خارج المياه لمدة محدودة، فقد وضع العلامة (فرنك بكلاند) بعضها وسط حشائش رطبة وأحاطها بقطعة من سجاد، فظلت محتفظة بنشاطها مدى أربع وعشرين ساعة. ويراعى أن تزود هذه الأسماك في أحواض تربيتها بمقدار وافر من الماء، ويتكون غذاؤها من قطع صغيرة من لحم الثيران ودود الأرض ويرقات الناموس وبيض النمل.
ومن الميسور تدريب هذه الأسماك على القيام ببعض الألعاب المسلية، كدقها ناقوساً إذا كانت في حاجة إلى طعام. وكيفية ذلك أن يربط ناقوس بقطعة من مادة تطفو كالفلين، ويتدلي خيط إلى قاع الحوض الذي به السمكة، وتتصل بهذا الجهاز الصغير كأس بها الغذاء الذي يقدم للسمكة، فإذا ما جاعت شدت الخيط إلى أسفل فيدق الناقوس وتنقلب الكأس فتنزل إليها محتوياتها.
ويمكن تمييز الذكر عن الأنثى في دور التناسل بخشونة جسمه في منطقة الخياشيم لوجود بروزات صغيرة لا توجد في جسم الأنثى وتستطيع الأنثى أن تضع سبعين ألف بويضة، إلا أنها عادة تضع أقل من ذلك، فحين تكون في الثانية من عمرها تضع ألفي بويضة وكلما تقدم بها العمر تضع مقداراُ أكبر، ففي الثالثة مثلاً تضع خمسة وعشرين ألف بويضة تقريباً، والأنثى في هذه الأسماك شرهة جداً حتى أنها لا ترحم صغارها بل تلتهمها، ولذا يجب في أحواض التربية فصل الكبير منها عن الصغير.
الأسماك العمياء
هناك أسماك قد حرمت نعمة البصر إلا أنها تروح وتغدو تبحث عن غذائها بنفسها، وقد يكون عجيباً أن تستطيع سمكة ضريرة أن تبحث عن غذائها بنفسها، وأن تحافظ على حياتها في وسط حيوانات ينقض أحدها على الآخر تلتهمها غذاء لها. إلا أنا نعلم أن رحمة الله قد وسعت كل شئ، فالإنسان الضرير مثلاً قد منح غالباً قوة في استراق السمع وفي حاسة اللمس، فكذلك هذه الأسماك قد زودت بحساسية في السمع وبأعضاء لمس حساسة. وقد يكون فقد البصر فيها كلياً فلا توجد عيون لها البتة، وقد توجد في بعضها بحالة أثرية، حتى أنها تكون عديمة الفائدة كعضو إبصار. وتجريد مثل هذه الأسماك من العيون لا يلحق بها أذى لأنها تعيش في ظلام دامس. فلو فرض أن كانت لها عيون لما استطاعت الإبصار
في هذا الجو المظلم. والظلام هنا مرجعه إلى العمق البعيد عن سطح الماء حتى أن الأشعة الضوئية لا تستطيع اختراق هذه المسافة الطويلة إلا أنه لا يتحتم أن تكون جميع الأسماك التي في قاع البحار عمياء لأن هناك ضوءاً ينبعث في قاع البحار ليس مرجعه إلى الأشعة الضوئية التي تخترق الطبقات العليا، وإنما مرجعه إلى إشعاعات فسفورية تنبعث تقريباً من كل الكائنات التي تعيش في قاع البحر ولا توجد هذه الإشعاعات في المياه العذبة.
وتتناول هذه الأسماك غذائها مما يعلق بسطح الماء، ولذا تحور شكل الفم فأصبحت فتحته تقرب من السطح العلوي، وقد يستطيع الإنسان أن يمسك سمكة منها بيده حين تصعد إلى سطح الماء إذا لم يحدث أدنى صوت، وإلا فأنها قادرة أن تشعر بأقل حركة وعندئذ تختفي سريعاً.
أحمد علي الشحات
كيميائي بمعمل السكة الحديد
القصص
قصه واقعية
حقيبة الذكريات
للأستاذ محمد سعيد العريان
في حارة (قصر الشوق) من حيّ الجمالية بالقاهرة، وإلى الشمال الغربي من مسجد (أبي عبد الله الحسين) حيث لا تزال القاهرة التي بناها المعز لدين الله قائمة في هذه القباب والمآذن، وتلك الدُّروب والمسارب، وهذه الدُّور الرحيبة المتقادمة التي تفضي إليها من باب إلى باب إلى أبواب. . .
. . . هناك، حيث التاريخُ الغابر ما يزال حيّاً ناطقاً في كل ما تقع عليه العين من مشاهد وآثار وناس؛ كأنما اجتمع تاريخ مصر الإسلامية كله في زمان ومكان، فلا يزال النظر يتنقل من منظر إلى منظر يذكِّر بالماضي كعهده يوم كان، من جيل إلى جيل إلى أجيال. . .
. . . هناك، حيث لا تزال ترى وتنظر ألواناً من الناس في سمات وأزياء وملامح، كأنما تشهد بقايا من سلائل الفاطميين وأبناء المماليك وجند السلطان سليم. . .
. . . هناك في هذا الحي نشأ (توفيق). . .
تراه، فلولا طربوشه الأحمر ولسانه العربي لحسبتَه واحداً من أولئك السياح الأجانب الذين يفدون إلى بلادنا كل شتاء للدرس أو الرياضة. أما أبوه فله في الحيّ جاه واعتبار، وإن له ميراثاً من تاريخ هذا الحي العريق يمتد إلى أجيال، منذ دخلت مصر جيوش السلطان سليم. وأما أمه فنازحة من دمياط، فلعلها بقية من سلالة بني أيوب. وأما هو فإنه ابن أمه وأبيه. . .
ونشأ نشأة أهله عل صلاح وتقوى ودين؛ لا يعرف له طريقاً إلا إلى المدرسة أو المسجد، فلم يبعثْ به الهوى مرة ولم يَغْترَّه الشباب. . .
وأتم في التعليم في مرحلتين، فأراد أبوه أن يلحقه بالجامعة، ولكن ميراثاً في دمه كان يزين له ركوب البحر فسافر إلى إنجلترا ليدرس فنون الملاحة ويتهيأ لما أراد. . .
وانتقل توفيق من جو إلى جو: من حي الجمالية في ظلال القباب والمساجد وأضرحة الأولياء؛ إلى دنيا الهوى ومسارح اللهو وملاعب الجمال. . . ورأى، وسمع، وعرف. . .
ونظرت إليه جارته الحسناء، فما كان إلا نظرة وجوابها حتى كانا ذراعاً إلى ذراع. . .
وعاد توفيق إلى غرفته في الفندق وقد أوشك الصبح، وإنه من صاحبته على ميعاد؛ وكأنما كان في حلم فاستيقظ؛ فلم يأو إلى فراشه إلا بعد ما أخرج دفتره ليكتب في مذكراته. إنها لحادثة جديرة بأن يذكرها في تاريخه - ثم أغمض عينيه ونام. . .
وعرف توفيق منذ اليوم أن في الحياة أشياء غير ما كان يعرف!. . . . . .
وكان في طريقه إلى صاحبته ذات مساء، حين اعترضت سبيله فتاة؛ ونظر ونظرت، ثم كان تاريخ، وذاق توفيق لوناً جديداً من ألوان الحب!
وعاد إلى غرفته ليكتب في مذكراته، وطوى صحيفة وبسط أخرى، وكتب. . .
وخلع توفيق وقاره وألقى بنفسه في تيار الحياة؛ وتتابعت حوادثه في فصول وأبواب، وامتلأت حقيبته صوراً وذكريات. . .
وتجرَّد توفيق من ماضيه، فلم يبق في ذكراه من صورة الأمس إلا رسوم حائلة يكاد يبليها النسيان؛ ولكن شيئين اثنين لم يغفلهما توفيق: دروس الملاحة التي هجر من أجلها وطنه وأهله ومذكراته التي يثبت فيها مغامراته في الحب كل ليلة قبل أن ينام!
وانتهى توفيق من دروسه؛ فالتحق بشركة كبيرة من شركات الملاحة الإنجليزية التي تجول في البحار بين سواحل القارات الخمس؛ وركب ظهر البحر يتنقل بين البلاد، وفي يده (حقيبة الذكريات) يثبت فيها فصلاً من مغامراته كلما هبط ميناء من الموانئ. لم ينس واجبه قط في ليلة من ليالي الأرض أو ليلة من ليالي الماء. . .
لكأنما كان يجوب البحار على هذه السابحة لغاية واحدة، هي أن يذوق الحب في كل ميناء تّرسي فيه السفينة فيكتب ويصف. . .!
وذاق الحب في كل ألوانه، إلا اللون الواحد الذي يكون معه الدمع!
لقد كان يخلع حبه دائماً في الظلام قبل أن يفارق الغرفةَ المسدلة الستائر ويغلق الباب وراءه؛ فإذا عاد إلى غرفته من الفندق أو من السفينة بسط أوراقه وكتب؛ وتنتهي قصة حب؛ فلا يبقى منها إلا سطور مكتوبة!
ومضى توفيق على وجهه، والشر يغري بالشر. . .!
واجتازت السفينة مضيق جبل طارق في طريقها إلى الشرق، وأسرَّ إليه صاحبه (ماجدو) حديثاً فابتسم؛ ومضت السفينة بهما تمخر عباب الماء، واجتازت الدردنيل إلى البحر الأسود، لترسى في ميناء (كوستازا) على ساحل رومانيا، بلاد الجمال والحب
وهبط توفيق وصديقه إلى البر، وراحا يضربان في المدينة ليذوقا الحب. . . الحب الذي ينتهي في الظلام، في غرفة مسدلة الستائر مغلَّقة الأبواب!
وقال ماجدو: إن في هذا المتجر يا صديقي فتيات للحب. . . لقد أخبرني صديقَّ زار (كوستازا) من قبل. . .!
ودخل الصديقان المجر وراحا ينظران، ووقف (ماجدو) يتحدث إلى بائعة المناديل وذهب توفيق إلى جارتها؛ ونظر إليها ونظرت إليه، وتحدثت عينان إلى عينين؛ وقالت الفتاة بصوت مطرب: هل يريد سيدي. . .؟
ولكن توفيق لم يكن يريد شيئاً غيرها. . .
لقد ذاق توفيق من الحب ألواناً وفنوناً، ولكنه لم ير من قبل مثل هذا الفن وهذا الجمال!
لكأنما كان ينتقل في البحار من شرق الأرض إلى غربها ليدرك موعداً واعده القدر في هذا المكان!
وإن صوتها لينفذ في أعماقه وله رجع بعيد كأنما كانت تهتف به من وراء البحار: إلي يا حبيبي إلي فأني أنتظرك منذ أزمان!
وأحس لأول مرة أنه وأنها. . . وأحست، وتواعدا على اللقاء!
والتقيا على موعدهما، وجلسا يتحدثان، وقال وقالت، وعرفت أن صاحبها مصري، فصاحت فرحانة: مصري؟ ما أجمل هذا! إن بيننا نسباً يا صديقي. إن أبي من تركيا، أعني جدِّي. إنني لست رومانية خالصة، ومع ذلك. . .
وسكتت (مارتزا) فلم تتم. لقد رأت في عيني صاحبها نظرة زعمت أنها تفهم معناها
وأحس توفيق إحساساً جديداً منذ الساعة. إنه ليشعر كأنما يتحدث إليه القدر بلسان هذه الفتاة حديثاً لا يكاد يعيه. . .
وتناول يدها بين راحتيه، ومال عليها فقبَّلها، واغرورقت عيناه!
لقد جلس توفيق مثل هذا المجلس من قبل مراتٍ ومرات؛ ولكنه لم يكن في مرة منها في مثل حاله الليلة
هذه فتاة لم يعرفها إلا منذ ساعات؛ دعاها إلى خلوة للهو والشراب فما تأبَّتْ - ماله يُحس في مجلسها هذا الإحساسَ الغامض حتى لا يكاد ينظر إليها نظرةَ رجل إلى امرأة! وما باله يشعر في مجلسه منها كأنه قد ارتفع عن بشريته حتى ليستشعر الندم لأنه دعاها إلى هذا المجلس من مجالس اللهو الحرام!
وشعر كأن روحاً خفيّاً يهمس في نفسه، وشعاعاً لطيفاً من نور الله ينفذ إلى قلبه؛ فكأنما قام بينهما حجاب من الوهم يمنعه أن ينفذ إليها ويمنعها.
وأطاف به طائف فأطرق، ثم رفع إليها عينيه ونظر. . .
وامّحت فيه كلُّ معاني (الجنس) لتحل فيه معاني (الإنسان). . .
وفاء إلى نفسه بعد برهة فسخر من نفسه، وراح يقاوم هذا الطارئ الجديد في قلبه ويسكب في كأسها وفي كأسه؛ وأخذا يشربان!. . . وانتصف الليل وصحبته الفتاة إلى غرفته. . . فإنها لتعرف أن عليها لصديقها حقاً ينبغي أن تتهيأ له؛ فما يَدْعوها مثُله من روًَّاد البحار إلا لمثل ذلك. . .!
. . . ولكنه. . . ولكنه في تلك الليلة كان غيرَ من كان، ونام ونامت كما يقتسم الأخَوان الفراش!. . .
ولما قام ليودِّعها في الصباح إلى الباب، كانت مطرقة برأسها إلى الأرض وفي عينيها دموع!
وتلاقيا من بعد مرات، ودَعَتْه إلى زيارة أهلها فلبَّى، وتوثقت بينهما عقدة الحب على طهر وعفاف!
وذاق توفيق لوناً من الحب لم ينعم بمثله فيما فات من أيامه!
وقال لها: مارتزا! سنفترق يا حبيبتي؛ وستبحر السفينة بعد أيام لتضرب في مجاهل البحار؛ فاذكريني، واكتبي إليَّ كلما تهيأت لك فرصة!
وتغرغرت عينا الفتاة وقالت: توفيق! بربك لا تذكر الفراق! خذني معك! إنني لا أطيق!
وفكر الفتى قليلاً، ثم ذهب إلى الرُّبان يرجوه أن يقبل مارتزا وصيفة في السفينة. ولكن
السفينة لم تكن في حاجة إلى وصيفة على من فيها؛ فعاد توفيق إلى صاحبته ينوه بهمه!
وأبحرت السفينة بعد أيام، وراحت مارتزا تودِّع صاحبها، وهي تتجلد؛ ووقفت على الرصيف تلِّوح بيدها ويجيبها؛ ثم صفرت السفينة، وراحت تشق الماء، وسقطت الفتاة بين يدي أمها في غشية!
وحملوها إلى دارها، وجاء الطبيب؛ ولكن مارتزا كانت من الصدمة التي نالتها بحيث لا يجدي عليها احتيال طبيب!
وجلست أمها بجانب فراشها تبكي، ووقف الطبيب جيران، ولم تفق مارتزا من غشيتها!
وراحت السفينة تشق البحر بحيزومها، وعلى ظهرها توفيق وخلَّفت على الشاطئ فتاة بين الحياة والموت!
ولكن السفينة لم تكد تمضي على وجهها، حتى جاءتها الأنباء بأن المجاز مغلق في طريقها، فعادت أدراجها إلى كوستازا، حتى يصدر إليها الأمر بالمسير
وأرست السفينة، فهبط توفيق مسرعاً إلى البر ليرى فتاته ويأنس بها ساعة، وهو لا يعرف من أمرها شيئاً
ودق الباب ودخل، وكانت تهذي باسمه، وفزع توفيق، وجرى إليها وهو يصيح: ماريتزا! ماريتزا!
وأفاقت ماريتزا بعد غشية يومين، وشفاها لقاءُ حبيبها حين عجز الطبيب
وثابت إلى الفتاة قوتها رويداً رويداً، ولكنها لم تفارق فراشها ولم يفارقها توفيق. ومضت أيام، وصدر الأمر إلى السفينة باستئناف رحلتها. وخاف توفيق أن ينال الفتاة ما نالها أول مرة لو علمت أنه موشك أن يفارقها؛ فأسر الخبر إلى أمها لتحتال في أمرها. . .
ومضى توفيق ليؤدي واجبه في السفينة، وهو محزونٌ أَسوان وكان باقياُ على إبحار السفينة ساعات حين جاءه الربان يسأله:(توفيق، إنك تعرف فتاة كانت تريد أن تعمل وصيفة في السفينة! فهل يمكن أن تدعوها الآن؟ إن إحدى وصيفاتنا مريضة وقد غادرت السفينة إلى المستشفى ونحن في حاجة إلى بديل!)
ولم يتلبث توفيق؛ فما هو إلا أن أسرع إلى صديقته يدعوها، وأبحرت السفينة وعلى ظهرها الحبيبان. . .
وكانت على رصيف الميناء امرأة عجوز تلوح بمنديلها!
توفيق وأخته، هكذا كان يعرفهما ركاب السفينة جميعاً: الملاحون والركاب
ومضت السفينة بهما تشق البحار من الشرق إلى الغرب، ومن الجنوب إلى الشمال، ينعمان بالحب وسعادة اللقاء، لا يظنان أن سيفرق بينهما شئ. وتمازجت روحهما حتى ليس بينها سر، وسالمتهما الليالي. . . ومضت سنوات. . .
وكانا في أحد الموانئ حين جاءت الفتاة برقية بأن أمها تحتضر!.
وكان الفراق؛ وباعدت الحادثات بينهما، ولكنه لم ينس، ولكنها لم تنس؛ فإنه ليكتب إليها وإنها لتكتب إليه!
وفعل به الفراق ما فعل حتى لا قرار له؛ فليس له أمنية من بعد إلا أن يعود ما كان! وتصرمت السنون، والفتى في حنين دائم وشوق لا يُغْلَب!
وحنَّ توفيق إلى أهله، فآثر العمل في شركة مصر للملاحة ليكون جهاده لبلاده؛ ولم ينس (حقيبة الذكريات) فإنها لمعه أين يكون؛ يستروح منها نسمات الحب ويأنس إليها في ساعات الوحشة. . .
ومضت الباخرة (زمزم) تتهادى من ميناء السويس في طريقها إلى (جدة) في ديسمبر سنة 1938 وعلى ظهرها الملاح (توفيق) ثم أرستْ، وركب الحجاج الفلك إلى رصيف ميناء جدة، ومعهم توفيق مُحْرِما بالحج
وطاف الحجيج بالبيت ملبين ضارعين، ووقف الفتى حيث بدأ الناس، لا يتقدم ولا يتأخر؛ وحضرته الذكرى فرأى كتابه منشوراً على عينيه بما فيه من خطايا وآثام؛ وهمَّ يرفع رأسه، فما أطاق، كأنما يحمل أوزار السنين على كاهله؛ وتدَّنت عيناه بالدمع. . . وتذكر يوم كان. . . فتى يخطو إلى العشرين، في حارة (قصر الشوق) لا يحمل من همٍ وليس له ماض؛ فترامى على أستار الكعبة نادماً يستغفر، وانهملت دموعه على خديه. . .
وعادت (زمزم) تخطر على ثبج الماء، وعلى ظهرها ركابها مهللين داعين ترف على شفاههم بسمات الرضا والاطمئنان!
وعاد توفيق إلى غرفته من السفينة راضياً مبتسماً طاهر القلب كما كان يوم ركب السفينة أول مرة من ميناء الإسكندرية منذ تسع سنين ليتعلم الملاحة
ونظر إلى متاعه فرأى. . . وكأنما برزت حقيبة الذكريات لعينيه أول ما نظر لترده إلى ذلك الماضي الذي رماه عن كتفيه منذ قريب!
ونازعته الذكرى فَخار عزمُه وأحس في نفسه الوَهن؛ واصطرعت في نفسه قوتان، فعاد ينظر إلى الحقيبة بين لهفة وندم وإشفاق، ثم دنا منها فتناولها ومشى بطيئاً ثقيل الخطو حتى بلغ ظهر السفينة. . . وطوَّح بها وهو يقول:(أيها الماضي الذي كان، اذهب إلى غير مَعَاد!)
. . . وفرغ صديقي من قصته؛ فما كان يبلغ نهايتها حتى اختلجت شفته وتندَّت عيناه بالدمع؛ ثم أردف:
يا صديقي! لقد أذكرتَني ما كنت أريد أن أنساه وحسبتُني قد فرغتُ من أمره منذ عام وبعض عام؛ فإني لأحسُّ الساعةَ أن الجرح الذي اندمل قد عاد يَدْمَي!. . . لا لا، ولكنه ماض قد انطوى وفرغتُ من أمره!
وصمت ساعة، وانطفأ بريق عينه وأطرق؛ ثم عاد فرفع رأسه وكأنه عائدٌ من سفر بعيد. . . ثم تناول قلمه وبسط بين يديه ورقة وراح يكتب إليها:
(عزيزتي مارتزا!
(. . . . . . . . . . . .)
محمد سعيد العريان
من هنا ومن هناك
هل تصبح أوربا ولايات متحدة نازية
(ملخصة عن (ذي ساين) نيويورك)
إذا انتصرت ألمانيا في الحرب الحاضرة، فليس لهذا الانتصار غير نتيجة واحدة: هي أن تصبح أوربا ولايات متحدة نازية. فهل وازن مستشارو دول وسط أوربا هذا الاحتمال؟ أم أنه مجرد وهم وتخمين؟ لقد طرحت هذا السؤال للبحث مع عضوين من كبار رجال السلك السياسي البريطاني. أحدهما يقيم في (صوفيا) والآخر في (ببودابست).
فجاء في حديث الأول عن الدول البلقانية: أن كل إنسان في الجنوب الشرقي لأوربا يشعر بأنه مهدد بالموت من يوم لآخر. فقد أصبحت ألبانيا خنجراً مصوباً إلى قلب البلقانيين. وسواء أكانت السلم أم كانت الحرب، فلا يخال أحد أن موسليني يخرج من هذه الأزمة، ولا ينال من الفطيرة نصيبه الأوفى. قد يكون موسليني أكثر صبراً من هتلر وأبعد نظراً، ولكن مما لاشك فيه أنه أكثر رجال السياسة الحاليين نظراً للواقع. وإذ كان موسليني مؤسس الإمبراطورية الرومانية الحديثة، فهو على هذا الاعتبار يعد من المتهمين بمذهب التوسع
وقد جاء في حديث الثاني: أن ثمانين في المائة من تجارة هنجاريا تتقاسمها دول المحور. ويبلغ ما تدفعه ألمانيا إليها في تجارة الحبوب ضعف ما تدفعه الدول الأخرى
أما إيطاليا فتستورد ما لديها من البرتقال والليمون، وزيت الزيتون والحرير. ولا يصح هنا أن نهمل الصلات الجغرافية والاقتصادية التي تربطها بتلك البلاد. لا شك أن هؤلاء الهنجاريين الذين يبلغ عددهم أحد عشر مليوناً، شعب شجاع منتج؛ ولكننا ونحن لا نعدو أن نكون أصدقاء نراقب الأمور عن كثب، لا نشك في أن هنجاريا لا تستبقي اليوم من استقلالها أكثر مما كان للنمسا قبل الحالة التي طرأت عليها أخيرا. إن اليوم الذي يموت فيه الأدميرال (هورثي) وهو في السبعين من عمره الآن، سيكون علامة لتغير جوهري في حياة تلك البلاد
ومن رأيي أن سادة النازي يقصرون وقتهم للسعي وراء السيادة. وهم اليوم في حاجة إلى هنجاريا باعتبارها قنطرة بين الريخ والبحر الأسود. وينقل الزيت، والحبوب، والخشب، والمعادن من الشرق إلى الغرب عن هذه الطريق. ويرى هتلر، وجورنج وفرانك هيس أن
الألمان يجب أن يطعموا شيئاً غير البطاطس هذا الشتاء.
وفضلاً عن هذا، فإن هنجاريا تعد عاملاً قوياً في نظر النازي للتوغل في رومانيا. ففي اللحظة التي يشعر فيها الهنجاريون بأن قوى الريخ الحربية من ورائهم سيثيرون العاصفة على الجبهة الرومانية. أما روسيا التي أصبح لها مركز ممتاز في البلطيق، فهي تطمع في توطيد مركزها في البلقان، فقد كانت فكرت الحصول على نافذة تطل على البحر الأبيض المتوسط حلم رجال السياسة الروسية منذ عهد بطرس الأكبر. ومن السهل مهاجمة القسطنطينية وهي العاصمة السابقة للبلاد التركية من الناحية البرية
وإذا كانت تركيا تقف اليوم بين عدوين قويين، فإننا لا نستطيع أن نعرف موقف الدتشي في هذه الظروف. إن الدتشي قد ينذر أو يحذر أو يهدد بالحرب، ولكنه في الواقع لا يستطيع أن يتقدم أو يتحرك. إذا جد الجد تبين مواطن الخطر!
إن المشكلة الحقيقية التي يعانيها موسوليني، هي ارتباطه مع هتلر لإلغاء معاهدة فرساي في وقت لم يستطيع أن يقدر فيه موقف الشعب الإيطالي بإزاء فرنسا التي ارتبط معها بصلات لم تنفصم عراها منذ 125 عاماً.
إن الوقت والمال يعملان لمصلحة الحلفاء، ولا شك أن الوقت والمال يعملان لمصلحة الحلفاء، ولا شك أن الذهب في هذه الحروب الطويلة له الغلبة على السلاح. فإذا لم يقدم موسوليني لموازنة القوى، فقد وصل حليفة أدولف هتلر إلى نهايته
البلشفون هم فاشيون
(عن مجلة (باربيد))
كتب الصحفي والمؤلف المشهور (فنست شيان) مقالاً في العدد الحديث من (كارنت هستوري) التي تصدر في نيويورك قارن فيه بين البلشفية والفاشية
ويقول (فنست شيان) في هذا المقال إن البلشفية هي في الحقيقة نوع من الفاشية في ثوب اشتراكي خداع. والفاشية قائمة على التغرير بعقول الناس بالادعاءات والوعود الخلابة والآمال التي لا ظل لها من الحقيقة، فتخلع على العبودية المريرة ضوءاً خلاباً من ألفاظ البطولة والتضحية حتى تكون آلامها ومتاعبها سائغة المذاق إلى حد ما. وقل أن تختلف الوسائل التي تتبع في ألمانيا عنها في روسيا، فالشعب في كلا البلدين يقوم بأشق الأعمال
ويتناول عنها أقل الجزاء. وهكذا أتيح للحكومات الفاشية والبلشفية أن تخدع الملايين من المستعبدين!
إن حجر الزاوية في الحكم الفاشي هو تمجيد التضحيات القاسية التي تفرض دون حد على الأهليين، وإخضاعهم للعبودية الممقوتة بإذكاء عواطفهم نحو الرقي والتقدم. وقد سار هذا المبدأ بنجاح في روسيا كما سار في ألمانيا على حد السواء. وما زال الملايين من العمال في روسيا، وكذلك في ألمانيا مساو بين كل حق. فلا يستطيعون اختيار العمل الذي يريدونه، أو المكان الذي يسكنون فيه، ونوع التسلية التي يرغبونها معتقدين - وهذا ما يسمعون على الدوام ولا يسمعون شيئاً غيره - بأن هذا هو النوع الرفيع من الحياة التي يجب أن تسود العالم أجمع بفضل جهادهم ولكن الفاشية الروسية كانت أو ألمانيا ليست في الحقيقة نظاماً دولياً عاماً سواء من الناحية الفكرية أو الناحية العملية. بل هي على النقيض من ذلك، فقد ثبت أنها تقدس العصبية وترفع الوطنية إلى حد لم يسبق له مثيل في تاريخ العالم
وتعمل الدعاية الروسية بكافة الوسائل لإقناع الشعب بأن حكومة روسيا السوفيتية تمتاز في سائر أعمالها على حكومات العالم، وأن الشعب الروسي خير من سائر الشعوب، وأن الجيش الروسي أفضل الجيوش التي في العالم.
لقد كانت البلشفية التي دعا إليها لينين وتروتسكي على شئ من المنطق، لذلك كانت غير فاشية، وكذلك كانت تحمل معنى الدولية أما بلشفية ستالين، فتبدأ بنظرية (الاشتراكية داخل المملكة المنفصلة)
فإذا فرضنا أن الفاشية أتيح لها أن تتغلب على أوربا، فسوف لا يستقر لها أمن أو سلام، إذ أن مبادئها القائمة على تأليه الجنس، وتقديس الوطنية، ودعوى التفوق والامتياز سوف تصطدم بمبادئ الأمم الأخرى التي تزعم لنفسها مثل هذه المزاعم
إن الفاشية لا تحتمل دعوى التفوق أو المساواة من أي شعب من الشعوب. والعقل الفاشي يعتقد كما يقول موسليني - أن السلم ما هو إلا فترة بين الحروب - وخير ما تفعله الإنسانية هو أن تقضي هذه الفترة في التدريب والتأهب على الدوام
فإذا أصبحت أوربا قارة مقسمة بين فاشية ستالين وهتلر وموسليني، فمعنى ذلك أن أوربا لا
تخرج من الحرب إلا لتعود إليها، ولكن الحرب في هذه المرة لا تكون إلا بين الفاشيين المتنافسين
البريد الأدبي
كتاب كريم
تفضل إمام المسلمين الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر فقرأ كتاب (وحي الرسالة) ثم أرسل إلينا هذا الكتاب الكريم:
عزيزي الأستاذ أحمد حسن الزيات
إن كثير الثناء عليك ليقل بجانب ما تسديه للأدب والعربية والثقافة من جهد وفضل. فما أنا ببالغ حق الثناء عليك وإن أطلت وتأنقت، ولاحق تقديرك وإن أطنبت وجودت. وعجيب آلا يكون لوحي الرسالة، فما هو إلا جني أشجارها، وزهرات أغصانها، جمعت في باقة واحدة بعد أن كانت متناثرة، وقربت إلى اليد بعد أن كانت متباعدة. ولقد كنت في هذه الفصول مترجماً صادقاً منصفاً للتاريخ فيمن ترجمت لهم من الرجال؛ وكنت مصوراً ماهراً فيما صورت من عيون الجميع وآلام الحياة، وأبرزت خفايا النفوس ودبيب الهواجس حتى لتكاد تلمس وتحس؛ وقبل هذا كنت محيطاً أحاط دقيقة بما عرضت له من بحوث. كل أولئك بأسلوب رصين نقي الجوهر تتصل فيه بأسلافك الأولين من فحول العربية والأدب، ممن أثاروا فيك فجريت على سننهم دون أن تقصر، وسرت على نهجهم دون أن تحاكى
ولست أملك بعد إلا أن أدعو لك بحيات طويلة سعيدة يدوم لك فيها الإلهام، فتثابر على رسالتك حتى يقرأ لك الناس مجلدات عديدة من وحي الرسالة
والسلام عليك ورحمة الله
(6 مارس سنة 1940)
محمد مصطفى المراغي
غبرات لا غبارات
قال شيخنا أبو عثمان الجاحظ في (كتاب الحيوان) يذكر ما يعرض للكتاب المنسوخ من آفات الناسخين:
(. . . ثم يصيرُ هذا الكتاب بعد ذلك لإنسان آخر، فيسير فيه الورّاقُ الثاني سيرةَ الورَّاق الأوّل؛ ولا تزال تتداوله الأيدي الجانية، والأعراض مفسدة، حتى يصير غَلَطاً صرفاً وكذِباً
مُصْمتاً. فما ظنكم بكتاب يتعاقبه المترجمون بالإفساد، وتتعاوره الخطّاط بشرٍّ من ذلك أو بمثله. . .، كتاب متقادِم الميلاد دهريّ الصنعة)
ولم يزل أئمَّتنا وعلمائنا وأصحاب العقول من شيوخنا، يريدون الكلام المنقول المكتوب إلى العقول - بعد التحري للفظه المكتوب - اتقاءً لما عرفوه من تحريف الناسخين، وانتحال المبطلين وغفلت الجاهلين. نحن إنما نمضي على سنتهم - أن شاء الله - ولا نقف عند القول نخزُّ عليه تعبُّداً لحروفه، وخضوعاً لنصِّه. ولئن فعلنا لمحق الله منا نصف العقل وبقى النصف الآخر متردِّداً بين قال فلان وكتب فلان
. . . وعلى ذلك، فقد صححنا قول ابن شبرمة في رواية صاحب العقد الفريد في العدد (347) من الرسالة، فجعلناه (ذَهبَ العلم إلا غبرات في أوعية سوء)، ورفضنا نص العقد هو:(إلا غبارات). ثم رأيت في البريد الأدبي من الرسالة (349) كلمات للدكتور بشر فارس يردّ ما ذهبنا إليه بثلاثة براهين نثبتها بالترتيب من تحت إلى فوق:
الأول: أن الحرف (غبارات) قد وَرَد كذلك في جميع نسخ العقد الفريد المطبوعة، وكذلك في مخطوطة منه بدار الكتب يُظَنُّ أنها كتبت في القرن السادس
الثاني: أن هذا النص يصحُّ لغة وأداءً وبياناً. وإذا صحّ كذلك فمن الاستبداد أن يُرَد على الهوَى
الثالث: مخالفة نهجنا في ذلك لنهج علماء الفرنجة (المستشرقين) وجوابنا على الترتيب من تحت إلى فوق:
أننا أدرى بأساليب هؤلاء الأعاجم الذين اتخذوا العربية عملاً من أعمالهم - من أن نخالفهم في الجيد من مذاهبهم، فتحرير النص ومراجعته على جميع النسخ التي ذكر فيها وما إلى ذلك عملٌ ضروريٌ لكل باحث. ولكن هؤلاء الأعاجم تقعد بهم سلائقهم عن معرفة أسرار العربية، فلم يتجاوزوا الوقوف عند النص المكتوب، وذلك لعجزهم عن بيانها. فلما عرفوا ذلك من أنفسهم، كان من أمانتهم أن يتوقفوا، فلا يقطعون برأي في صواب أو خطأ. وهي أمانة مشكورة لهم
ولكن العربي إذا أخذ بأسبابهم، فلاُبدَّ له من أن يهتدي بعربيته إلى ما عجزوا عنه باعجميتهم، فكذلك فعلنا في كلمة ابن شبرمة وقلنا (إنه نصٌّ عربيٌّ مُظلم النور). وبيان ذلك
أنه ليس من قياس العربية أن يجمع (غبار) على (غبارات) ولا غيرها من الجموع، وأن ابن شبرمة لم يُردْ تحقيرَ العلم نفسه فيجعل ما بقى منه (غباراً)،
وإنما أراد أنه بقي من العلم شي هو من صحيح العلم، ولكنه وقع في صدور رجال من أهل الباطل يفتونَ الناسَ يضِلّ بهم من يضِلُّ إذ يحسبونهم لا ينطقون بباطل ما داموا أصحاب فقه ودين وعلم. ولم تكن الشهادات وألقابها عرفت لعهد أبن شبرمه حتى تكون هي التي تقدر العلماء وتميزهم للناس، وإنما كانوا يتميزون بالعلم، فإذا لم يكن علم لم يعدهم الناسُ في العلماء. ثم إن الغبارَ لا يمكن أن يُوكي عليه في وعاء حتى يصح أن يجعل - ما أغلقت عليه صدورهم من بقية العلم - غباراً. فلو صح نص العقد لكان المراد تحقير العلم وأصحابه جميعاً
وأخيراً، فنحن نرفض نص العقد من جهة بيان العربية وتحريرها، ونقول: إنه لا يصح أن يروى إلا هكذا: (ذهب العلم إلا غبرات في أوعية سوء). وإذا كان الدكتور بشر أو غيره يريد أن ينحاز إلى رأينا بنص آخر، فلا بأس علينا أن ندله عليه فقد روى ابن عبد البر في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) - المطبوع في سنة 1346 عن نسختين قديمتين: إحداهما للإمام الشيخ الشنقيطي، وعليها خطه في الجزء الأول منه (ص 153 سطر 6) بإسناده إلى محمد بن سيرين (وليس ابن شبرمة) قال:(ذهب العلم فلم يبق إلا غبرات في أوعية سوء). فهذا نص، وهناك نصوص غيره؛ فمن شاء أن يبحث فليبحث، ونصيحتنا إلى من عنده نسخة من العقد - أي الطبعات كانت - فليصححها بالذي أثبتناه، وما سوى ذلك، فهو - كما قال - أبو عثمان: غلط صرف وكذب مصمت. . . والسلام
محمود محمد شاكر
الأدب الإنجليزي والروح الإنجليزية
ألقى الأستاذ دوفر ويلسون، أستاذ البلاغة والأدب الإنجليزي في جامعة أدنبره، بعد ظهر الاثنين الماضي في المدرسة الإنجليزية بالإسكندرية، أولى المحاضرات التي دعي إلى إلقائها من إنجلترا، وكان موضوعها (الأدب الإنجليزي والروح الإنجليزية) فأستهل كلامه بقوله إن بريطانيا استطاعت أن تعمر نصف أقطار العالم، وإنها تعد مهد الديمقراطية
ومؤسسة الصناعات الحديثة، وفيها نشأ باكون ونيوتن ودارون. وقد تسنمت من الخيال الذروة العليا حيث يتربع شاعرها العظيم شكسبير كأنه إمبراطور تقدم له أمم العالم فروض الطاعة والولاء
ثم قال إن الأدب الإنجليزي أقدم أنواع الأدب الحديث، إذ يرجع عهده إلى القرن الخامس الميلادي، أي قبل أن يجد الإنجليز والسكسونيون طريقهم إلى بريطانيا، وبين هذا التاريخ وبين غزو النورمانديين للبلاد مضت ستة قرون، كانت حافلة كلها بالشعر والنثر.
وعرض للصفات التي كان يتحلى بها من ترنموا بالشعر في هذا الحين، فأبان أنها كانت هي نفسها ما يتحلى به الخلق الإنجليزي الآن، فالبريطانيون يذهبون إلى الحرب وكأنهم ذاهبون إلى مشاهدة مباراة في كرة القدم.
ثم أبان أن تاريخ الأدب الإنجليزي كان دائماً تاريخاً لقوة هذه الأمة يتمشى مع انتصاراتها في مختلف الحروب التي خاضتها، قال: إن أهم الظواهر التي تلفت النظر فيه اعتماده على آداب اللغات في البلدان الأخرى إلى حد كبير. ولقد ظهرت في أوربا اليوم اصطلاحات كثيرة كالأوتقراطية والعنصرية، ومقدرة الدولة على سد حاجاتها بنفسها، فلم يلفت هذا نظر الشعب الإنجليزي ولم يثر إعجابه، لأن قوة إنجلترا تتوقف على اختلاط أجناسها ومقدرتها على إدماج العناصر الجديدة فيها. لهذا كان قليلاً أن تجد لغات ركب أصلها من عدة عناصر كاللغة الإنجليزية، وكان أقل من ذلك أن تجد أدباً اعتمد على مختلف المصادر كالأدب الإنجليزي.
وقد رد الأستاذ ولسون هذا إلى أن الكتاب الإنجليز نهلوا من كل مورد، وضرب كثيراً من الأمثلة: فقال: إن الشاعر العظيم شوسر، من أكثر شعراء الإنجليز الذين تأثروا بشعر الفرنسيين والطليان. ومنذ عهد الإصلاح إلى مستهل القرن الثامن عشر كان الأثر الروماني والإغريقي هو السائد في الأدب الإنجليزي. وفي خلال هذا القرن تلقى الإنجليز أصول الأدب على الفرنسيين. وفي أوائل القرن التاسع عشر كانوا يدينون لألمانيا إلى حد كبير. وفي الوقت الحاضر تدين الدراما الإنجليزية بوجودها للشاعر النرويجي ابسن. وكذلك تأثر كتاب الروايات القصصية من الإنجليز بالكاتب الروسي الشهير دستوفسكي.
ثم قال إنه إذا صح القول بأن إنجلترا منفصلة عن أوربا، فإن هذا الوصف لا ينطبق عليها
في الواقع من ناحية الأدب. وقد يكون من متناقض القول أن شعباً كالشعب الإنجليزي عرف بأنه أنجب في ميادين السياسة والعمل والتجارة رجالاً أفذاذاً لا يكون أيضاً من أوائل الشعوب في ميادين الأدب بجميع أنواعه
وذكر المحاضر بعد ذلك أن إنجلترا لم تتزعم دول العالم في الصناعة والتجارة فحسب ولكن في الرياضة أيضاً. وإن الإنجليز في الوقت نفسه أكثر الشعوب تديناً. وقد يكون أهم ما يلفت النظر عند زائر إنجلترا أن يلاحظ أن الشعب الإنجليزي شعب لا يعرف اللهو، أو هم كما يسمونهم (يلهون بحزن) ولكن قلما يوجد شعب آخر في بساطة الطفل ووداعته مثلهم.
وبعد أن ذكر الأستاذ ويلسن أنه يجوز أن تتحد هذه العناصر من الرياضة والشعر والخوف من الله، وتؤلف ظاهرة غريبة، فإن رجال الأدب في إنجلترا هم بدون شك من أشد الناس تمسكاً بأهداب الدين والفضيلة قال إن الفلسفة والفضيلة كانتا على الدوام رائد الشعراء الإنجليز فيما أنتجوا. فهذا ملتون كان يعمل في كتاباته ليظهر للناس طريقهم إلى الله. وكذلك كان يفعل من قبله لانجلاند وسبنسر وبوب ووردثورث وتيسون وبراوننج وغيرهم؛ حتى شيللي، ولم يكن يعترف بالله، كان يبشر في كتاباته بإنجيل اجتماعي جديد. وقد ابتدأ ذلك منذ العصر الفيكتوري، وما زال حتى الآن يحمل لواءه أشهر الكتاب الحاليين أمثال برناردشو وولنر وهيكسلي
وهناك من يتهم هذا النوع من الكتابة بأنه ليس من الأدب في شئ، ولكن الأدب لم يكن في يوم من الأيام يتوقف على عقيدة الشخص، وإنما يتوقف على أسلوبه، وهذه كتابات بانيان التي لا تخرج عن أنها دعاية دينية، فهي تعد
عملاً أدبياً عظيماً.
ولما كان الإنجليز في جميع العصور يدينون سياسياً إما بمبدأ الأحرار، وإما بمبدأ المحافظين، فإنه ليس غريباً أن كان لهذين المبدأين شأن أي شأن في الأدب الإنجليزي.
وقد كان شوسر من أصحاب المذهب الأول، وقد عرف عنه العطف على كل مخلوق، وإحساس رقيق، واهتمام خاص بالحياة العادية للرجل العادي في حين كان معاصره لانجلاند على نقيضه، إذ كان من أنصار الأحرار الذين يعتقدون بالمثل الأعلى للإنسان
وأما من وجهة شكسبير، فهي تماثل شوسر ولكن على نطاق أوسع، فقد كان شكسبير من أشد رجال الأدب الكاثوليكيين في العالم تديناً.
وفي نفس هذا العصر ظهر ميلتون أكبر شاعر بروتستنتي دعا إلى التعصب لمذهب الراديكالية البريطانية في أوسع حدودها. وكان يعتقد بالقضاء والقدر في حياة الإنسان.
وبعد أن أبان المحاضر أن هذه التفرقة نفسها قائمة بين أشعار وردزورث وشيللي، ختم كلامه بقوله: لقد كان للحرية في كل عصر أنصارها المتحمسون؛ ومع أن ثمن الحرية غالٍ مرتفع، فإن إنجلترا قبلت أن تدفعه عن طيب خاطر ولو كلفها ذلك دم أعز أبناءها. ولكي يفهم الأجنبي الروح الإنجليزية على حقيقتها يجب عليه أن يدرس الشاعر وردزورث الذي تتميز أشعاره بإنجليزيتها عن جميع الشعراء.
وكما حارب الإنجليز في عام 1911 الدانمركيين وهم لا يحملون لهم حقداً ولا ضغينة، كذلك نرى هذه الروح هي المتغلبة عليهم في جميع حروبهم وهي نفسها الروح التي تتسلط عليهم في حربهم الدائرة رحاها اليوم.
اختراع جديد في طب الأسنان
نشرت المجلة الطبية الأمريكية أن طبيب أسنان من ميشيجان وفق إلى إجراء عمليات جديدة في جراحة الأسنان ستحدث قريباً ثورة في عالم طب الأسنان. وتقول المجلة المذكورة أن الطبيب يخلع الأسنان الفاسدة والمسوسة من أفكاك مرضاه؛ وبطريقة خاصة من اختراعه يردها إلى مكانها من الفك بعد تنظيفها وإزالة الأجزاء الفاسدة والتي مشى فيها السوس.
وتعاد السن إلى التجويف وتستقر في مكانها الأصلي بواسطة جبيرة من الذهب حتى تنمو حولها اللثة والنسيج. والأسنان التي تعد بهذه الطريقة تصلح للعمل مدة أقلها عشرة سنين.
حول آلهة الكعبة
قرأت العدد الممتاز من رسالتكم الزاهرة الخاص بذكرى هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فأقدم لكم جميل الشكر والثناء على عنايتكم بهذه الذكرى المباركة، كما أتقدم بالحمد لحضرات الكتاب الكرام الذين عاونوا على إصدار العدد بما جادت به قرائحهم. بارك الله
فيكم وجزاكم عن نبيه وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء
ولقد استوقف نظري عنوان قصيدة الأستاذ الشاعر محمود حسن إسماعيل (آلهة الكعبة) بإضافة آلهة إلى الكعبة. فالتحاور في القصيدة محصور بين مناة واللات والعزى، وليس واحد من هذه الثلاثة من أصنام الكعبة، بل لم يكن واحد منها داخل الكعبة ولا حولها. فمناة كان منصوباً على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد بين المدينة ومكة. واللات كانت بالطائف وكانت موضع منارة مسجد الطائف اليسرى اليوم. والعزى كانت بواد من نخلة الشامية يقال له حُراضٌ بإزاء الغمير عن يمين المصغد إلى العراق من مكة: راجع كتاب الأصنام لأبي المنذر هشام بن محمد الكلبي: ص13 و16 و18
وقد يعتذر عن هذا الإبهام بأن إضافة آلهة إلى الكعبة لأدنى ملابسة كما يقول النحويون في مثل هذا، كما قد يقال أيضاً إن ما تضمنته القصيدة إنما هو أسطورة غير واقعية بل خيالية فاضت بها قريحة الشاعر، وقد أشرتم إلى هذا في الرسالة. غير أنه حدث أن بعض طلاب العلم كانوا يزورونني وأحدهم يسمعني بعضاً من المقالات والقصائد من عدد الرسالة حتى قرأ (آلهة الكعبة) فتبادر إلى ذهن البعض منهم أن هذه الأصنام كانت في الكعبة فصححت لهم مما ظنوا. وتبن لي أن ما اشتبه على هؤلاء ربما أشتبه على غيرهم؛ لذلك رأيت أن أكتب إليكم هذه النبذة إيضاحاً وكشفاً لهذا الإبهام غير المقصود:
ومما يناسب هذا البحث ما رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أبى أن يدخل البيت (الكعبة) وفيه الآلهة، فأمر بها فأُخرجت، فأخرج صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في أيديهما الأزلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قاتلهم الله! أما والله لقد علموا ما اقتسما بها قط، ثم دخل فكبر في نواحي البيت. (مسند الإمام أحمد ج1 ص 334)
محمد صبري
إلى الأستاذ إسماعيل أحمد أدهم
قرأت مقالك في عام الفيل وميلاد الرسول فأعجبني رأيك في تحقيق ذلك الميلاد، وكنت موفقاً كل التوفيق في تأييدك وجود الفيل في حملة الأحباش. وقد أشكل علي في مقالك أمور
أعرضها عليك لتتفضل بإيضاحها
1 -
ذكرت أن النجاشي كان يرى أن فكرة هذه الحملة خيالية لا يمكن تحقيقها، فكيف يعلم النجاشي هذا وهو من شعب فطري، ثم يغيب على الروم وهم أهل علم وثقافة ودراية بفنون الحرب وطبائع البلاد؟
2 -
وذكرت أن مساعدة النجاشي للروم لم تكن ممكنة من جهة الخليج الفارسي، لأنه لم يكن له أسطول ينقل به جنوده إليه، مع أنك ذكرت أنه كان للروم أسطول بالبحر الأحمر والمحيط الهندي، وأن هذا الأسطول هو الذي نقل جنوده الأحباش إلى اليمن، وكانت الأفيال تأتي به إليهم من الهند
3 -
وذكرت أن الأحباش تعرضوا للحجاز بتحريض الروم، ثم عدت فذكرت أن الأحباش لم يكن قصدهم التعرض للحجاز، وإنما كانوا يقصدون مساعدة الروم
4 -
ويفهم من كلامك أن المرض والوباء الذي حصل للأحباش عند وصولهم إلى مكة لم يكن بعناية إلهية، وأن أهل الحجاز هم الذين فهموا ذلك حين فهموا خطأ أن الروم يقصدون هدم الكعبة، ولكن الأمر في هذا لا يقف عند فهم أهل الحجاز فقد جاء القران الكريم موافقاً لما فهموه من تلك العناية، وذلك في قوله تعالى:(ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، ألم يجعل كيدهم في تضليل) الآيات
5 -
وقد جعلت الرواية اليونانية تناقض الرواية العربية في سبب حملة الأحباش، مع أنه لا يتناقض بينهما، والشيء الواحد قد تتعدد أسبابه، ولا يضير الرواية العربية أن تجهل أمر سفير الروم إلى النجاشي، لأن ذلك جرى بين النجاشي وجوستنيان، ولم يكن العرب في ذلك الوقت في حالة تمكنهم من الاطلاع على هذه السفارة
(قارئ)
سؤال
جاء في مقال الأستاذ الكبير عبد الله عفيفي بك بالعدد الممتاز (ميراث لا وارث له):
(وما كان أقوى تلك الطفلة الناشئة عائشة بنت أبى بكر حين اقتحم رجال قريش عليها البيت. . . ولطمها الشريف النذل أبو جهل بن هشام لطمة لطارت قرطها من أذنها لتتكلم
فما نطقت إلا بعبرة واحدة سقطت من عينيها على الأرض).
وجاء في قصيدة الأستاذ محمود الخفيف بالعدد نفسه (في الطريق إلى يثرب):
حيِّيا أسماَء كالطيف الرفيق
…
تسرق الخطو على هول الطريق
يا ابنة الصدِّيق هل من نبأ
…
للرفيقين عن الشرك وثيق
أمسكي عن لطمة فاجرة
…
طرحت قرطك من وغد صفيق
فيتضح من مقال الأستاذ عفيفي بك أن لطمة أبى جهل كانت لعائشة بنت أبى بكر، ومن قصيدة الأستاذ محمد أن اللطمة كانت لأسماءَ. فعلى أي شئ جاء هذا الاختلاف؟ أَسَهَا أحدهما فأورد القصة على غير ما هي، أم ماذا؟
(صا الحجر)
السيد محمد أحمد الفقي
(الرسالة):
الصحيح أن اللطمة كانت لذات النطاقين أسماء، أما ذكر عائشة فهو سهو
(جواب)
سأل (قناوي) عن كلمة وردت في كتاب (تاريخ الأدب) الذي ألَّفه مؤلفو وزارة المعارف العمومية! حيث زعموا أن أبا دهبل الجمحي من شعراء المخضرمين (بين الجاهلية والإسلام) وقالوا إنه مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبياته التي أولها:
إنّ البيوت معادنُ، فِنجارُه
…
ذَهَبُ وكلُّ بيوته ضَخْمُ
ونحن نقول إن الأساتذة المؤلفين قد بلغوا الجهد وسلكوا الحجَّة واهتدوا بأساليب الثقاتِ من أصحابهم في الاستنباط والتحقيق العلمي، فأهدوا إلى العربية ما كانت تجهل من ميلاد أبي دهبل الجمحي! وكان طريقهم إلى ذلك أنهم رأوا في شرح الحماسة للتبريزي ج 3 ص 75 ما نصه:
(قال أبو دهبل الجمحي - وقالوا يمدح النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذكر الشعر، فاستخرجوا من ذلك أن أبا دهبل مخضرمٌ. وهذا نهايةٌ في التحقيق
أما تحقيقنا فهو يخالف ما ذهبوا إليه، فإنك إذا قرأت شرح هذا البيت رأيت التبرزي يقولُ
في شرح قوله (وكلّ بيوته ضخمُ): (يعني ما اكتنفه من أخواله وأعمامه من بني هاشم وأمية ومخزوم) والتبريزي لا يجهل بلا شك أن بني أمية وبني مخزوم ليسوا من أعمام رسول الله وأخواله، وهو يعلم بلا شك أيضاً أن الأبيات في مدح عبد الله بن عبد الرحمن ابن الوليد بن عبد شمس بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي (ابن الأزرق) كما جاء في الأغاني، وهو الذي أعمامه وأخواله من بني هاشم وبني أمية وبني مخزوم
وإذن فصوابُ العبارة في التبريزي على ما نظن: (وقالوا: وهو أحق بمدح النبي صلى الله عليه وسلم فوقف عليها بعض النساخ فلم يفهمها، فحذف قوله (وهو أحق)، فصار الكلام (وقالوا يمدح النبي. .) وصار أبو دهبل في زماننا هذا مخضرماً بعد أن عرفه علماء العربية كل هذه القرون شاعراً أموياً.
(م)
الكُتب
من التاريخ الإسلامي
تأليف الأستاذ علي الطنطاوي
(يصدر في الأيام القريبة هذا الكتاب الأستاذ علي الطنطاوي مصدراً بهذه المقدمة البليغة. ونحن نسارع إلى نشرها تعريفاً بالكتاب تعريفاً بالكتاب وتشويقاً إليه)
لو رجعت إلى أصول هذه القصص التي يشمل عليها هذا الكتاب، لرأيت أنها لا تجاوز بضع صفحات (من التاريخ الإسلامي) متفرقة في مواضيع منه شتى، وفصول مختلفة لا يتنبه إليها القارئ ولا يقف عليها. وليست أروع ما في تاريخنا ولا هي من أروع ما فيه، وإنما هي أخبار عادية استطاع قلم الأدب أن ينسج منها هذه القصص وأن يعرضها على الناس شيئاً جديداً أو هو كالجديد. فكيف إذا تولاها قلم أقوى من هذا القلم؟ وكيف إذا اختار لها مواقف من التاريخ رائعة عظيمة حقاً؟
وإذا كان أصل هذا الكتاب الذي تفرع عنه، وأساسه الذي بني عليه، بضع صفحات من هذا التاريخ العظيم فكم صورة رائعة، وكم قصة بارعة، وكم من الآثار الأدبية الخالدة يمكن أن تخرج من هذا التاريخ؟
أما إن ذلك ليزيد عن العدد ويجل عن الحسبان، وإن السيرة وحدها لتمد الأدب بألف كتاب أدبي. . . ولكن أدباءنا لم يردوا هذا المورد!
وليست هذه القصة كاملة ولا هي الثمرة الناضجة لهذه الدوحة الباسقة، ولكنها بواكير ثمارها، وإن فيها لنقائص وعيوباً أدرك أما الآن بعض منها، وإن عشت وقدر لي الله أن أسلك سبيل الأدب سلوك المسافر المطمئن، لا المتعثر الضال، وأراحني مِّن هم الكد للعيش ونكد الحياة النمطية الجافة (حياة الموظف).
فلأخرجن على الناس بقصص من التاريخ تبكي منها عيون الصخر ويرق قلب الجماد. وإني لأقرأ في التاريخ ما يزلزل شعوري وهو على اختصاره وجموده على أساليب العلماء، فما له لا يصنع الأعاجيب إذا فصل ووسع وطار في آفاق الأدب؟
وإن لنا من تاريخنا لثروة ما لأمة مثلها. لنا منه عالم يفيض بالحب والإخلاص والنبل والتضحية والبطولة والخلود فيه مآس وفيه ملاحم وفيه من كل فن من فنون الأدب. ولكن
عيب هذا التاريخ أنه لنا، وأنه ليس لأمة من (تلك) الأمم الحية، وأن علماءنا - أعني الفقهاء والمحدثين والمفسرين - قد انصرفوا عنه جملة، وكانوا يعدونه إلى عهد قريب من فضول الكلام، ويرون الاشتغال به مضيعة للوقت. ثم إنهم إذا عرفوه لم تفدهم معرفتهم به، فيما نحن بصدد الكلام عنه، لأنه ليس لأكثرهم أقلام، ولا بصر لجمهورهم بالأدب، ولا يعرفون من البلاغة إلا حدودها الجافة وتعريفاتها الجامدة التي بقيت في الكتب واشتملت عليها (شروح التلخيص) فهم يعرفون الاستعارة وأقسامها ولكنهم لا يستعيرون؛ ويحفظون أنواع المجاز ولكنهم لا يتجوزون. فاترك العلماء وقف على الشبان الذين اشتغلوا بهذا الفن، وكانوا هم المرجع فيه وكانوا معلميه، تر أكثرهم قد تلقى تاريخنا على غير أهله، وقرأه في غير كتبه، ولم يأخذ من التاريخ رواياته، ولا عن الرجال نقولهم، ولكن أخذ آراءهم وأغراضهم وحسب أن التاريخ يكون بالعقل، وأنه يرتجل ارتجالاً، ونسي أو هو لم يعرف أن العقل لا يصنع في التاريخ شيئاً إن لم تكن معه الرواية، وأن القيمة فيه للنص الصحيح، وأن نصوص التاريخ عندنا لا عند غيرنا. . . والبلية بهذا النفر من الناس كبيرة. ثم أن هؤلاء كلهم أو من عرفنا منهم لا يكتبون ولا يبينون عن أنفسهم، وأنهم في البعد عن الأدب كالعلماء، إلا أن العلماء حفظوا قواعد النحو والصرف والبلاغة، وقرءوا فيها الشروح الضخمة والحواشي، وهؤلاء استراحوا من ذلك كله. . . بقي الأدباء فسأل الأدباء، أن ما حال بينكم وبين التاريخ وما منعكم أن تمدوا أيديكم إلى هذا الكنز العظيم؟ وانظر ماذا يقولون!
على أن من الإنصاف أن نقرر أن هذا التاريخ الذي انصرف عنه علماؤنا وعدوه من فضول الكلام، وأخذه الشباب من غير مأخذه، إنما هو التاريخ السياسي، تاريخ الملوك والأمراء، والحروب والوقائع، وهو أضعف جانب في تاريخنا - على قوته وعظمته إذا قيس بتواريخ الأمم الأخرى - أما تاريخنا القوي حقاً، الحافل بالأمجاد الطافح بالعظمة فهو تاريخنا العلمي الذي عني به العلماء بعض العناية، وانصرف عنه الشبان الانصراف كله، ولم يكونوا منه في القليل ولا كثير، لأن دراسته تحتاج إلى آلات لا يملكونها، من اطلاع على اللغة وتمكن منها، إلى معرفة بمصطلحات أهل الحديث والفقه، إلى وقوف على التفسير ومعرفة بالأثر؛ فإذا عرضوا له على جهل بهذا كله، فإنما يعرضون نفوسهم إلى
الفضيحة وافتضاح الجهل كما افتضح من هو أعلم منهم، من (أولئك) القوم، واتضح جهلهم، وظهرت أغراضهم. إن تاريخنا القوي حقاً العظيم الماجد هو التاريخ العلمي، تاريخ الرجال. وابدأ فيه بسيرة سيد البشر ومعلم الخير سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم التي ألفت فيها المئات من الكتب، ثم عرج على سير الصحابة فاقرأها في الإصابة أو في أسد الغابة أو في الاستيعاب، ثم انظر العمل الذي قام به مؤرخو رجال الحديث، ومبلغ ما وصلوا إليه من الإحاطة والتدقيق والصدق، وانظر هل أفلت منهم خبر، أو خفيت عليهم حقيقة. وهل صنع علماء أمة كانت أو تكون كالذي صنعوا، أو تصوروا إمكان هذا الصنيع المعجز الهائل؟ لقد صنفوا في الرجال الكتب الجامعة، وافردوا الضعاف والمتروكين بالتأليف، ووضعوا الكتب في ضبط الأسماء وبيان ما تشابه منها وما اشتبه وبحثوا في تواريخ الوفاة، وحققوا الأسانيد. . . ثم انظر ما ألف من كتب لرجال في سائر العلوم والفنون، كطبقات الأطباء وأخبار الحكماء، والنحاة، والأدباء، وفي المذاهب كتاب السبكي الجليل القيم، طبقات الشافعية، والديباج في أعيان المذهب المالكي، وطبقات الحنابلة والحنفية، وما ألف منها في المدن كتاريخ بغداد الذي ترجم لكل من دخل بغداد فلم يبق ولم يذر، والكتاب الذي لم يؤلف في بابه مثله كتاب ابن عساكر العجيب الذي عجزت دمشق عن طبعه ونشره. . . وما ألف بحسب العصور، وعندنا سلسلة كاملة لأعيان كل عصر من العصر السابع إلى الثاني عشر الهجري، وما كان منها جامعاً كوفيات الأعيان الكتاب النفيس الممتاز، وغير ذلك مما يتعسر الإحاطة به، وتقصى خبره في مثل هذا المقام، وفي كل صفحة من هذه الكتب مبعث إلهام للأديب، وأصل قصة للكاتب، وكنز من كنوز العقل والقلب لا يفنى
ومعلمو التاريخ لا يدرون بهذه الكتب ولا يعرفونها، بل هم ينفِّرون منها على جهل بها، وينعتونها بالكتب الصفراء. وإذا عرفوا المشهور منها لم يعرفوا التفريق بين رواياته، ولا دراية لهم برجاله. وإذا وقع أحدهم على خبر في تاريخ الطبري أو ابن الأثير طار به فرحا، يحسبون أن كل ما بين دفتي الطبري في درجة واحدة من الصحة، مع أن الطبري يروي القوي الثابت من الأخبار وما دونه، وهو حين يذكر سند الرواية يسقط عن نفسه تبعتها. وعليك أنت أن تعرف السند الموثوق به من السند الواهي - ومن الرجال من هو
معروف بالكذب كابن الكلبي - ومع ذلك فقد رأينا مدرساً من (هؤلاء) المدرسين يعتمد عليه في رواية عرضها ابن الكلبي بصيغة التضعيف، ويقرر لتلاميذه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسجد للأصنام في الجاهلية، وأن ذلك معنى قوله تعالى:(ووجدك ضالاً فهدى).
ومنهم من ادعى حل الخمر عند فقهاء العراق ظناً منه أن النبيذ معناه الخمر المعروف. . .
ومما يقع فيه (هؤلاء) المعلمون الذين يحملون يداً فيها (الشهادة الرسمية) ورأساً مثل فعل (قال) في الصرف. . . أنهم لا يعرفون درجات الحديث ولا مصطلح أهله. وهم لذلك يروون الحديث الموضوع على أنه صحيح، ويأخذون الأحاديث من كتب الأدب والمحاضرات. ولقد قرأت في كتاب لأديب من أدباء هذا العصر نسبة حديث إلى الصفحة (كذا) من كتاب الأغاني، وإثباته ذلك في حاشية الصفحة كما يعزو العالم إلى (البخاري) أو (مسلم)!
وأكثر (هؤلاء) المعلمين، يدرِّسون التاريخ بالهوى، ويسيرون فيه بالغرض، ويضعون النتائج أولاً، ثم يختلقون لها المقدمات، فعل أساتذتهم من المستعمرين. فالشيوعي منهم يدرس التاريخ بهوى شيوعيته ويسوقه مساق هواه، ولو جار على الحق أو خالف الرواية؛ والقومي (النازي) يبحثه بقوميته وإلحاده، فيكذب فيه على الواقع فيقول بأن العرب كانوا بالغين ما بلغوه ولو لم يأتهم الله بالإسلام، وأن الإسلام فرع من العروبة، ويموِّه على ضعاف العقول بقوله:(نحن عرب قبل أن نكون مسلمين) مع أن العرب ما كانوا شيئاً لولا الإسلام، وأن تاريخ العرب الحق يبدأ بسيد كل عربي خاتم الأنبياء محمد رسول الله إلى الناس كافة، الذي قال:(لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى). وقديماً حرف التاريخ ذوو الأغراض والنحل وصرفوه إلى غاياتهم وأغراضهم.
وبعد فهذه طائفة قليلة من القصص التاريخية، ليست كاملة ولا مبراة من العيوب، ولكنها باكورة الثمار وهي مكتوبة في أزمنة مختلفة في أسلوبها تفاوت، ولعل الله يوفق إلى الثمار الناضجة، ويكتب لنا وللمشتغلين النجاح، ويلهم
الكسالى العمل، ويجعل منا أمة كالأمة التي كتبت بفعلها هذا (التاريخ العظيم).
الثانوية الأولي (دمشق)
علي الطنطاوي
رضا الشاه بهلوي
تأليف الأستاذ احمد محمود الساداتي
بين مصر وإيران صلات تاريخية عريقة، وقد توثقت هذه الصلات بالمصاهرة الكريمة بين الأمتين الخالدتين، وكان أن انتهزها الكتاب والباحثون فرصة حميدة للإشادة بمجد الشعبين وتمكين التعارف بينهما تعريفاً رباطه الدين والعلم، وقوامه الآمال المشتركة، والأغراض المتفقة، وغايته المودة والأخوة الكاملة
وهذا الكتاب الذي كتبه الأستاذ الساداتي إنما هو ثمرة من تلك الثمرات الطيبة، فقد أراد أن يشيد برجولة رضا الشاه بهلوي وما قام به نحو شعبه من ضروب الإصلاح، ولكنه رأى من حق البحث أن يرجع إلى الماضي السحيق يستقبل تاريخ إيران من عهد الإمبراطورية القديمة، ثم الإمبراطورية الوسطى، ثم ما كان من شأن آل ساسان، وما زال يتدرج بالبحث حتى انتهى إلى نهضة إيران الحديثة، وما كان يصطرع فيها من نزاع بين الشرق والغرب، والجمود والتقدم، والرجعية وروح الإصلاح؛ ثم ما كان من جهود رضا شاه البهلوي في إنقاذ بلاده والسير بها في سبيل الرقي والتقدم حتى بلغت إلى ما وصلت إليه وما زالت تواصل الجهود. . .
فهذا الكتاب في الواقع هو كما يقول الدكتور عبد الوهاب عزام في تقديمه: يتضمن طرفاً من تاريخ إيران وجغرافيتها وأحوالها الحاضرة، وهو يجدي كثيراً على قراءة العربية في التعريف بأمة إسلامية لها مكانتها في ماضي الإسلام وحاضره، ويعد فاتحة طيبة لكتب أخرى تفصل الكلام في تاريخ إيران ومكانتها بين الأمم عامة، وصلاتها بالأمم الإسلامية، خاصة، وحسب الأستاذ الساداتي أنه السابق
ولاشك أن الأستاذ الفاضل قد وجد عناء كبيراً في كتابة كتابه، لأن المصادر التي تناولت تاريخ إيران فيها كثير من الشبهات وبعضها قد كتب بروح التعصب وخصوصاً ما كتبه الاستعماريون الذين حقدوا على إيران في نهضتها وأزعجتهم جهود رضا شاه فراحوا يزبعون عنه الأراجيف والأكاذيب، وقد اجتهد الأستاذ في الابتعاد عن هذه الشبهات، وحرص على تخير الصحيح الثابت من الروايات، وهذه لاشك مهمة تحتاج إلى كثير من
الذكانة والحذر والفطنة التي تنفذ إلى ما وراء الظواهر.