الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 351
- بتاريخ: 25 - 03 - 1940
التبشير عدو للسلام
وهو في مصر عمل لا يليق
كان التبشير والتجارة رائدي الاستعمار السياسي منذ اعتزم الغرب الطموح الإغارة على الشرق الغافل. وكان التبشير أشد الرائدين تدخلاً في شؤون الناس، وتغلغلاً في أصول المجتمع، لما تهيأ له من شتى الوسائل في التعليم والتطبيب والتمريض والاستشراق والخدمة العامة، فاستطاع أن يرهج بين الأمة المتحدة الغبار الخانق، ويزرع بين الملة الواحدة الزرع الخبيث، ويخلق في كل شعب من شعوب الشرق بالعصبية الدينية والتربية المذهبية قلةً حاقدة تعارض الكثرة في الرأي، وتخالفها في الهوى، وتغري بها الشر، وتمالئ عليها العدو، وتحاول أن تتحيز في السكن والعمل، وتتميز بالشعار والجنس، فلا تكون من قومها في دنيا ولا آخره
ليس التبشير بهذا المعنى ولهذا الغرض من ألسنة الدين ولا من سبل
الحق؛ فإن الدين مهما تعددت أسماؤه وغير فيه أبناؤه لا يزال في
حقيقته الحبل الذي يصل به الله من انقطع ويجمع عليه من تفرق. وإن
الحق مهما تفرقت سبله وتنوعت وسائله لا تزال له غاية واحدة يهتدي
إليها من ضل، ويتوافى عليها من تأخر. وإذن لا يكون هذا التبشير
القاطع المفرق إلا وسيلة من وسائل السياسة الماكرة، أو حيلة من حيل
العيش الرخيص
وأعجب العجب أن الدولة الديمقراطية الثلاث هي التي تحضن هذا النظام الطفيلي وتعوله وتقوده وتحميه. وكان أقرب الظن بها أن تنكره بعد ما أمكن الشرق من يده وخلى بينها وبين ميراثه؛ فإن السلام والوئام والحب هي التي تقرب إليها من تسوس، وتحفظ عليها ما تملك. وهؤلاء المبشرون الذين اضطرهم اليأس أو البؤس أو العجز إلى الاتجار بالدين والعيش على ضلالات العقول وحزازات النفوس وسفاهات الألسن، لا يستطيعون أن يبذروا غير الخلاف، ولا أن يحصدوا غير الضغينة
إن ميدان الدعوة إلى الله لا يكون بالطبيعة إلا في بلاد الوثنية والجهالة. هنالك يجد المجاهدون في سبيل الحق والخير ملايين من عمي القلوب يخبطون الظلام ويطئون الشوك ويعانون الحيرة ويكابدون اللغوب، فيخرجونهم إلى نور الله ويلحقونهم بركب الإنسانية. ولكننا لا نرى جمهرة المبشرين ولا معركة التبشير إلا في مصر، كأنما انحصر جهد هؤلاء المتعطلين في فتون المسلم عن دينه، وإخراج المسيحي عن مذهبه! فهل حسب أولئك الناس أن الإسلام بالنسبة إلى المسيحية كفر، وأن الأرثذكسية بالقياس إلى البروتستانتية فسوق؟ لا يمكن أن يقع هذا في حسبان عاقل؛ والقوم قد جاوزوا العقل والفطنة إلى الدهاء والخبث؛ فهم أكيس من أن يجهلوا حقيقة الإسلام وينكروا أثره الإلهي المحمدي في تكريم الإنسان وتنظيم العيش وإصلاح الأرض؛ ولكن الأشبه بالحق أنهم اطمأنوا إلى العيش الغرير في ظلال النيل، فأمنوا وسمنوا وخاروا، وعز عليهم أن يبعدوا عن مصاب الدولار والجنيه والفرنك في بنوك القاهرة، فأدخلوا في روع الشيوخ والعجائز من المؤمنين المثرين في أوربا وأمريكا أن البلد الذي يقوم فيه الأزهر هو المكان الذي لا يزال يصلب فيه المسيح. واستعانوا على خديعتهم بما افتراه قساوسة القرون الوسطى على الإسلام من الزور الغبي والكذب الأحمق. وأوهموهم أنهم إذا أمدوهم بالمال ورفدوهم بالنفوذ جندوا الجنود، وأحكموا الخطط، وهجموا على الإسلام فصرعوه في عقر داره من أجل ذلك كان المبشرون حراصاً على أن يجمعوا الأزهريين للمناظرات أو المحاضرات بشتى الحيل؛ فإذا ما اجتمعوا أخذوا صورهم في أروقة الكنائس أو في أفنية المدارس، ثم بعثوا بها إلى مرسليهم ومموليهم مدسوسة بين صحيفتين بارعتين إحداهما تبشر بتنصير (العلماء)، والأخرى تلح في مضاعفة الجزاء!
وفي سبيل أن ينعم المبشرون بالطعام الدسم، والشراب السائغ، والفراش الوثير، والفراغ الوادع، تتمزق العلائق بين الأخوة في النسب والوطن والعقيدة، وتكون الجفوة بين المسلم والقبطي في مصر، وبين المسلم والماروني في لبنان!
إن التبشير عدو للسلام، لأنه تأريث للعداوة وتشتيت للوحدة في غير طائل. وهو في مصر عمل لا يليق، لأنه إهانة وقحة لدينها وعقلها، وإن لهما في تاريخ الحضارة والثقافة والمجد صفحات لا يزال إشراقها السماوي يضئ جوانب الحاضر ويبدد غياهب المستقبل
لقد آن للديمقراطيات التي تقاتل عصبية الجنس في ألمانيا، وتناضل عصبية المذهب في روسيا، أن تخلص سياستها من عصبية الدين؛ فإن ذلك أخلق بالسلام الأدبي الدائم الذي تحارب الطغاة على سلطانه، وتريد أن تقيم العالم الجديد بعد الحرب على أركانه
إن للتبشير في مصر فواجع لا تزال الضلوع محنية منها على نار. ولعل أرمضها للقلب وأبعثها للدمع مأساة ابنة الوزير الذي حال المبشرات بينه وبينها بالقوة لأنها نذرت نفسها للمسيح، ثم أخفوها عن العيون حيناً من الدهر، ثم نقلوها على رغم الأسرة والحكومة إلى فرنسا فانقطعت الأسباب بين أهلها ودينها ووطنها إلى الأبد!
ذلك ما خطر لي أن أكتبه ساعة قرأت ما كتبته مجلة التبشير الدولية عن حركة التنصير في مصر. وإن في ذلك المقال الخبيث من اقتراح تأليف مجلس مسيحي وطني لتنظيم التبشير وتعميمه في المدن، وإنشاء المدارس الإلزامية لفتنة الصبية والأيفاع في القرى، لبلاغاً للقائمين على سلامة التربية وحماة العقيدة من لصوص الضمائر وشياطين القلوب!
احمد حسن الزيات
عبقرية محمد الإدارية
للأستاذ عباس محمود العقاد
في الإسلام أحكام كثيرة مما يدخل في تصرف رجال الإدارة كما نسميهم اليوم
وفيه وصايا كثيرة عن المعاملات، كالمساقاة والمبايعة والاستقراض والشفعة والتجارة وسائر شؤون المعيشة الاجتماعية يقتدي بها المشترعون في جميع العصور
ولكنا لا نريد بما نكتب عن النبي أن نسرد أحكام الفقه ونبسط وصايا الدين، فهي مشروحة في مواطنها لمن شاء الرجوع إليها
وإنما نريد أن نعرض لأعماله ووصاياه من حيث هي ملكات شخصية وسلائق نفسية تلازمه حيث كان مؤدياً لرسالة الدين، أو مؤدياً لغير الرسالة من سائر أعمال الإنسان
كذلك لا يعنينا مثلاً أن نتكلم عن (الإدارة) كأنها نصوص المنشورات و (اللوائح) التي تدار بها الدواوين وتجرى عليها تفصيلات الحركة في مكاتب الحكومة، فإن هذه وما إليها هي أعمال منفذين مأمورين وليست أعمال مديرين آمرين
وإنما نعني الملكة الإدارية من حيث هي أساس في التفكير من اعتمد عليه استطاع أن يقيم بناء الإدارة كلها على أسس قويمة، ثم يدع لغيره تفصيلات الأضابير والأوراق
فليس في وسع رجل مطبوع على الفوضى مستخف بالتبعة أن يؤسس إدارة نافعة ولو كان فيما عدا ذلك كبير العقل كبير الهمة
أما السليقة المطبوعة على إنشاء الإدارة النافعة فهي السليقة التي تعرف النظام وتعرف التبعة وتعرف الاختصاص بالعمل، فلا تسنده إلى كثيرين متفرقين يتولاه كل منهم على هواه
وقد كانت هذه السليقة في محمد عليه السلام على أتم ما يكون
كان يوصى بالرياسة حيثما وجد العمل الاجتماعي أو العمل المجتمع الذي يحتاج إلى تدبير. ومن حديثه المأثور: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم). ومن أعماله المأثورة أنه كان يرسل الجيش وعليه أمير وخليفة للأمير وخليفة للخليفة إذا أصيب من تقدمه بما يقعده عن القيادة
وكان إلى عنايته بإسناد الأمر إلى المدبر القادر عليه حريصاً على تقرير التبعات في جميع
الشئون ما كبر منها وما صغر على النهج الذي أوضحه صلوات الله عليه حيث قال: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وهي مسئولة عنه، والعبد راع على مال سيده وهو المسئول عنه. ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)
وقد كانت أوامر الإسلام ونواهيه معروفة لطائفة كبيرة من المسلمين أنصاراً كانوا أو مهاجرين، ولكنه عليه السلام لم يترك أحداً يدعى لنفسه حقا في إقامة الحدود وإكراه الناس على طاعة الأوامر واجتناب النواهي غير من لهم ولاية الأمر وسياسة الناس
فلما قتل بعض المسلمين غداة فتح مكة رجلاً من المشركين غضب عليه السلام وقال فيما قال من حديثه المبين: (. . . فمن قال لكم إن رسول الله قد قاتل فيها فقولوا إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحللها لكم يا معشر خزاعة. . .)
ولما أراد أن يصادر الخمر نهج في ذلك منهجاً يقصد به إلى التعليم والاستنان كما جاء في رواية ابن عمر حيث قال:
(أمرني النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن آتيه بمدية، فأتيته بها. فأرسل بها فأرهفت ثم أعطانيها فقال اغد علي بها. ففعلت، فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة وفيها زقاق الخمر قد جلبت من الشام. فأخذ المدية مني فشق ما كان من تلك الزقاق بحضرته ثم أعطانيها، وأمر الذين كانوا معه أن يمضوا معي ويعاونوني، وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها زق خمر إلا شققته ففعلت، فلم أترك في أسواقها زقاً إلا شققته)
وهذا تصرف المدير بعد تصرف النبي الذي يبين الحرام ويبين الحلال
فالخمر شربها وبيعها ونقلها حرام يعلمه جميع المسلمين من تفقه منهم ومن لم يتفقه في الدين، ولكن المحرمات الاجتماعية ينبغي أن تكون في يد ولي المسلمين لا في يد كل فرد يعرف الحلال والحرام. وليست المسألة هنا مسألة تحريم وتحليل ولكنها مسألة إدارة وتنفيذ في مجتمع غافل يشتمل على شتى المصالح والأهواء ولا يصاب ببلاء هو أضر عليه من بلاء الفوضى والاضطراب واختلاف الدعاوى وانتزاع الطاعة وتجاهل السلطان؛ فلم يكتف النبي بصريح التحريم في القرآن، ولا اكتفى بإسناد الأمر إلى غير معروف الصفة في
تنفيذ الأحكام، بل خرج بنفسه ثم أمر رجلاً بعينه وأناساً بأعينهم أن يمضوا في إتمام عمله، ولم يجعل ذلك إذناً لمن شاء أن يفعل ما شاء
وما أكثر ما سمعنا في أيامنا الأخيرة عن الأمن والنظام، وتوطيد أركان الشريعة والقانون، ولكننا لا نعرف في كل ما قيل كلاماً هو أجمع لوجوه الصواب في هذه المسألة من قول النبي:(السمع والطاعة حق ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) ومن قوله فيما رواه عبادة بن الصامت (. . . ألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحا عندكم من الله فيه برهان) ومن قوله: (الإمام الجائر خير من الفتنة، وكل لا خير فيه. وفي بعض الشر خيار) ومن قوله: (إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم) إلى أحاديث في هذا المعنى هي جماع الضوابط التي تقوم عليها الإدارة الحكيمة، والخطط السليمة المستقيمة، بين آمر ومأمور: نظام وفوق النظام سلطان، وفوق السلطان برهان من الشرع والعقل لا شك فيه، وجميع أولئك على سماحة لا تتعسف النزاع ولا تتعسف الريبة ولا تلتمس الغلواء
هذا الإلهام النافذ السديد في تدبير المصالح العامة، وعلاج شئون الجماعات، هو الذي أوحى إلى الرسول الأمي قبل كشف الجراثيم، وقبل تأسيس الحجر الصحي بين الدول، وقبل العصر الحديث بعشرات القرون، أن يقضي في مسائل الصحة واتقاء نشر الأوبئة بفصل الخطاب الذي لم يأت العلم بعده بمزيد، حيث قال:(إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها)
فتلك وصية من ينظر في تدبيره إلى العالم الإنساني بأسره لا إلى سلامة مدينة واحدة أو سلامة فرد واحد. إذ ليس أصون للعالم من حصر الوباء في مكانه، وليس من حق مدينة أن تنشد السلامة لنفسها أو لأحد من سكانها بتعريض المدن كلها لعدواها
على أن الإدارة العليا إنما تتجلى في تدبير الشؤون العامة حين تصطدم بالأهواء وتنذر بالفتنة والنزاع، فليست الإدارة كلها نصوصاً وقواعد يجرى الحاكم في تنفيذها مجرى الآلات والموازين التي تصرف الشؤون على نسق واحد، ولكنها في كثير من الأحيان علاج نفوس وقيادة أخطار لا أمان فيها من الانحراف القليل هنا أو الانحراف القليل هناك
وذلك هو المجال الذي تمت فيه عبقرية محمد في حلول التوفيق واتقاء الشرور أحسن تمام.
فما عرض له تدبير أمر من معضلات الشقاق بعد الرسالة ولا قبلها إلا أشار فيه بأعدل الآراء، وأدناها إلى السلم والإرضاء
صنع ذلك حين اختلفت القبائل على أيها يستأثر بإقامة الحجر الأسود في مكانه، وهو شرف لا تنزل عنه قبيلة لقبيلة، ولا تؤمن عقبى الفصل فيه بإيثار إحدى القبائل على غيرها ولو جاء الإيثار من طريق المصادفة والاقتراع فأشار محمد بالرأي الذي لا رأي غيره لحاضر الوقت ولمقبل الغيب المجهول. فجاء بالثوب ووضع الحجر الأسود عليه وأشرك كل زعيم في طرف من أطرافه، وكان من قسمته هو على غير خلاف بين الناس أن يقيمه بيده حيث كان، وأن يتسلف الدعوة وهي مكنونة في طوايا الزمان، ولو علموا بها يومئذ لما سلموا ولا سلم من عدوان وشنآن
وصنع ذلك يوم هاجر من مكة إلى المدينة فاستقبلته الوفود تتنافس على ضيافته ونزوله وهو يشفق أن يقدح في نفوسها شرر الغيرة بتمييز أناس منهم على أناس أو اختيار محلة دون محلة، فترك لناقته خطامها تسير ويفسح الناس لها طريقها حتى بركت حيث طاب لها أن تبرك، وفصلت فيما لو فصل فيه إنسان كبير أو صغير لما مضى فصله بغير جريرة لا تؤمن عقباها بعد ساعتها ولو أمنت في تلك الساعة على دخل وسوء طوية
وصنع ذلك يوم فضل بالغنائم أناساً من أهل مكة الضعيف إيمانهم على أناس من الأنصار الذين صدقوا الإسلام وثبتوا على الجهاد. فلما غضب المفضولون لم يكن أسرع منه إلى إرضائهم بالحجة التي لا تغلب من يدين بها بل تريه أنه هو الغالب الكاسب، وأنها تصيب منه المقنع والإقناع في وقت واحد:(. . . أوجدتم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار. اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار. . .)
كلام مدير فيه الإدارة والرياسة هبة من هبات الخلق والتكوين، فهو مدير حين تكون الإدارة تدبير أمور، ومدير حين تكون الإدارة تدبير شعور، وهو كفيل ألا يلي مصلحة من المصالح تعتورها الفوضى ويتطرق إليها الاختلال، لأنه يسوسها بالنظام وبالتبعة، وبالاختصاص وبالسماحة. وما من مجتمع يساس بهذه الخصال ويبقى فيه منفذ بعدها
لاختلال أو انحلال، أو لخطل في إدارة الأعمال.
عباس محمود العقاد
ليلة نابغية!
للدكتور زكي مبارك
أخي الأستاذ الزيات:
في نيتي أن أريح قراء (الرسالة) من شطحات قلمي شهراً أو شهرين لأفرغ لواجبات أدبية لا يصح معها الانشغال بمواجهة القراء من أسبوع إلى أسبوع، وهي واجبات كواجبات القراء
وقبل أن أشرع في تناسي الشوق إلى قرائي، وهو تناس موجع، أصور لك ولهم ما وقع بيني وبين الأستاذ لطفي جمعة ليلة المناظرة بكلية الآداب، وكانت مناظرة عنيفة لا يزال صداها يقرع سمعي فيبدد ما أشتهيه من الأنس بالهدوء والصفاء
وما ذكرت تلك المناظرة إلا جزعت، وتولاني الندم على الاشتراك في جدال يضيق به صدر الغالب والمغلوب، لأنه لم يمض بلا هنوات مزعجات
ولهذه المناظرة تاريخ:
سألني فريق من أعضاء اتحاد كلية الآداب أن أشترك في مناظرات هذا الموسم، وعرضوا عليَّ طوائف من الموضوعات لم يرقني منها غير موضوع:
(يزدهر الأدب في عصور الفوضى الأخلاقية)
ولكني اقترحت أن يعدل فتوضع (الفوضى الاجتماعية) مكان (الفوضى الأخلاقية) فراراً من التجني على كلية الآداب باسم الغيرة على الأخلاق!
ومضت أيام وأسابيع، والاتحاد مشغول بالبحث عمن يناظرني من أساتذة كلية الآداب، ثم علمت أن الأساتذة لم يرقهم أن يناظروا (المشاغب الأكبر) على حد تعبير الدكتور هيكل باشا. وهل من العقل أن يتقدم أحد الأساتذة لمناظرتي وقد شاع وذاع أني أكبر المشاغبين؟!
هي تهمة ظالمة، كما تعرف، ولكنها حقت علي، وسأقضي بقية العمر في الدفاع عن نفسي، ولكن بلا نفع ولا غناء، لأن الناس عندنا يؤذيهم أن يصححوا رأيهم في رجل ظلموه بلا بينة ولا برهان!
وأخيراً، ظفر اتحاد الكلية برجل يناظرني. ولكن، أي رجل؟ كاتب مشهور كانت لي معه وقائع في بعض الجرائد والمجلات؟ فقلت في نفسي: هي مكرمة من مكرمات الأستاذ لطفي
جمعة، فقد هداه القلب الطيب إلى أنني رجل ينهاه الأدب والذوق عن الاستخفاف بأقدار الزملاء
واتصلت به تليفونياً لأقول له: إني أريد أن تكون هذه المناظرة مثالاً في التلطف والترفق، وإني سأبدأ خطبتي بكلمة في الثناء عليه، وإني أنتظر أن يقابل الجميل بالجميل!
وكنت صادقاً فيما قلت، لولا خاطر واحد كدر صدقي بعض التكدير، وهو الحرص على أن يبقى هذا المناظر فلا يطير من يدي، كما طار من كنت أرجو مناظرتهم من أساتذة الكلية. صفح الله عنهم وعفا عني!!
كان الأستاذ لطفي جمعة متردداً في القبول، ثم قبل بعد تمنع؛ والحر قد ينخدع في بعض الأحايين!
وفي تلك الأثناء نقلت الإذاعة اللاسلكية مناظرة قامت بين الدكتور طه والدكتور هيكل في كلية العلوم، مناظرة مرتجلة قام بها الرجلان بدون استعداد، فقلت: يجب أن أستعد لتكون مناظرة كلية الآداب أقوى من مناظرة كلية العلوم، ولأعطي الدكتور طه والدكتور هيكل درساً في وجوب الاحتفال بمقامات الكلام، ولأحمي نفسي من شر المرجفين، وأنا أدافع عن رأي شائك لا ينظر إليه المجتمع بغير الاستخفاف
ورجعت إلى مذكرات كنت أعددتها يوم عرض على الموضوع أول مرة، ولكني لم أجد تلك المذكرات، فأقبلت على الموضوع من جديد وشغلت به نفسي سهرتين طويلتين ليصل في الجودة والقوة إلى ما أريد
وبعد أن فرغت من تحريره وتحبيره دعوت أحد أبنائي ليقرأه علي فكانت فرصة لدرس طريف من دروس التربية، فقد عرفت أن الرجل لا يدرك ما في أسلوبه من نبوات إلا حين يسمعه من رجل سواه، وكذلك غيرت بعض الألفاظ وعدلت بعض التعابير، فظهرت الخطبة وهي فن من الكلام المصقول
ثم مضيت إلى كلية الآداب في أصيل اليوم الأول من أيام آذار، ولا يمكن الوصول إلى كلية الآداب إلا بالسير في شارع فؤاد الذي يعبر الزمالك مرة ويعبر النيل مرتين، ثم انعطفت السيارة فسايرت النيل حتى وصلت إلى شارع الجامعة المصرية، عليه وعليها أطيب التحيات!
هو اليوم الأول من أيام آذار، وأيام مصر كلها آذار، فما تعرف بلادنا غير نضرة النعيم في جميع الفصول
ونظرت في الساعة فلم أجد من فسحة الوقت غير خمس دقائق، وهي مدة لا تسمح باجتلاء المحاسن في شارع الجامعة، الشارع الجميل الذي كان يستهويني فأسير فيه بتأدب واستحياء رعاية لحقوق العين والقلب في البقعة التي صارت مراتع ظباء، ومرابض أسود
الله أكبر ولله الحمد!
هذه كلية الآداب التي قضيت فيها مواسم شبابي، يوم كنت فتىً عارم العزيمة يؤذيه أن يقال إن في الدنيا كتاباً لم يطلع عليه، ويوم كنت معمور القلب بأرواح الأماني، ويوم كنت أتوهم أن الجد في طلب العلم لا يظفر صاحبه بغير الإعزاز والتبجيل، ويوم كنت أخال أن الكفاح في سبيل الأدب قد تنصب له الموازين، ويوم كنت أومن بأن الجهاد لا يضيع في هذه البلاد!!!
تقع كليتنا الغالية على يمين من يدخل حرم الجامعة المصرية، جامعة فؤاد الأول. وسميت بذلك، لأن فؤاداً العظيم كان أول رئيس للجامعة المصرية. وكليتنا الغالية لها روح قهار، لأنها شرعت للناس مذاهب التفكير في الآداب والفنون، ولأنها أول معهد في مصر فتح أبوابه لحرية الفكر والعقل بلا تمييز بين العقائد والآراء
كاد الدمع يطفر من عيني حين دخلت كليتنا الغالية، فقد خيل إلي أن أحجارها لا تنطق، وإلا فكيف غاب عني تفصيل ما فيها من حجرات وغرفات؟ وكيف نسيت الأماكن التي كنت ألقي فيها دروسي ومحاضراتي على قرب العهد؟ وكيف غفلت عتباتها عن الوثوب لمصافحتي وقد صحبتها طالباً ومدرساً من سنة 1913 إلى سنة 1937 ودرت معها من ميدان الإسماعيلية إلى ميدان الفلكي، ومن حي المنيرة إلى قصر الزعفران، ثم إلى حديقة الأرمان، ولم يزاحم هواها في فؤادي غير الأعوام التي قضيتها بكلية الآداب في جامعة باريس؟
وزاد في أساي وشجاي أني سأخرج مهزوماً في المناظرة التي تقام بكليتنا الغالية، لأني سأدافع عن رأي جرئ لا يقول به إلا من يخاطر بنفسه فيتعرض لغضب المجتمع. ولكن لا بأس فكليتنا الغالية قد علمتنا الثورة على أوهام المجتمع
وألفت ما تبدد من شمل عزيمتي وصعدت إلى غرفة الأساتذة، الغرفة التي صاولت فيها من صاولت، وكايدت من كايدت، يوم كنت أحسب أن مغايظة الرجال لن تكون لها عواقب سود. . . فماذا رأيت؟
رأيت الأستاذ لطفي جمعة قد انحاز إلى شابين من طلبة الكلية يدبر معهما خطط النضال، فأردت أن أفسد ذلك التدبير بدعوته إلى المسارعة بالنزول إلى المدرج الأكبر حيث ينتظر جمهور المستمعين. ولكن لم أفلح، فقد تعلل بأنه ينتظر فنجاناً من القهوة، ورجاني أن أعفيه من حضوري لحظات!
وسألت عن نصيري في المناظرة فرأيت فتاة حيية اسمها ليلى، وفتىً ناشئاً اسمه صادق، فحدقت فيهما وقلت: أين تقعان مما أريد؟!
ونزلت إلى المدرج بعد أن أعلن الدكتور إبراهيم مدكور أن الطلبة هم الذين سيبدءون ثم تقع الموقعة بيني وبين غريمي
وبعد تلبث وتمكث حضر الأستاذ لطفي جمعة ومعه نصيراه من الطلبة، ونصير ثالث هو الدكتور أحمد موسى، وهو فيما سمعت أديب متمكن من ناصية الفكر والبيان
ثم صرح رئيس المناظرة بأنه أستاذ ونائب، وأنه سيطبق اللائحة الداخلية إذا وقع بين المتناظرين شجار، فعرفت أن الأمر جد في جد، وأنى سأعاني من هذه المناظرة ليلةً نابغية
وشرعت ليلى تتكلم، ليلى يوسف، وهي فتاة جملها الله بالأدب والحياء، فما كانت إلا دمية مصقولة صيغت من العقل والذوق، وسيكون لها في حياة الأدب تاريخ، وقد تفوق الفتاة المبغومة الصوت التي نضجت قبل الأوان فأضر بها الزهو والخيلاء
ولكن ليلى ستلحن كما تلحن سائر (الليالي) ستلحن لحناً خفيفاً في مواطن لا تسلم فيها ألسنة (بعض) الأساتذة، ومع ذلك يثور الجمهور ويصخب ليصح له أن يضايقني ويضايقها باسم الغيرة على قواعد اللغة العربية!
ثم يتكلم الشيال أفندي فيقترح أن يحال الدكتور زكي مبارك إلى المعاش لأنه من دعاة الفوضى الاجتماعية ولأن مؤلفاته تشهد بأنه يستهين بالعادات والتقاليد!
ويتكلم بعد ذلك محمد عبد الرحمن صادق أفندي بأسلوب يشهد بأنه من طلبة كلية الآداب، كليتنا الغالية التي نذكر عهدها بالحب والعطف، ونعرف فضلها في تثقيف الأذواق والعقول
ويميل بدير متولي أفندي على أذني فيسر إلي أنه قد يستبيح ما لا يباح في تحقير الرأي الذي أرتضيه، فآذن له بذلك، لأني من أقوى أنصار حرية الرأي، ولكن الفتى يخلف ظني به كل الإخلاف فيعلن عجبه من أن أكون مفتشاً بوزارة المعارف مع أني من دعاة الفوضى الاجتماعية، ويدعو الجمهور إلى الحذر من آرائي!
ويجئ دوري في الكلام فأبدأ بالثناء على الطالبين اللذين شتماني بلا ترفق ولا استبقاء، لأنهما من طلبة كليتنا الغالية، ولأنهما سمعا أصوات مصطفى عبد الرزاق وطه حسين وشفيق غربال، ولأننا حضرنا لتمرينهم على النضال والصيال
ثم أشرع في الخطبة التي أعددتها في سهرتين طويلتين، وبعد لحظات يقوم شاب ثائر فيقاطعني مقاطعة عنيفة ويؤلب عليَّ الجمهور بشطط وإسراف، وأنظر فأراه أحد تلاميذي، التلاميذ الذين كنت أشقى في سبيلهم إلى عهد قريب
ويدور رأسي من هول ما أراه، فهذا الشاب كان موضع ثقتي، وكنت أكرمه لنفسه ولأخيه ولقرب بلده من سنتريس
وتطوف بذهني أخيلة مزعجة: فليس هذا الشاب أول من يغدر ويخون، وليست ليلتي هذه أول ليالي في المحرجات والمضجرات، ولن تكون آخر العهد بشقائي في رحاب كلية الآداب، فسأرجع إليها لخدمة الأدب والفلسفة بعد عهد قريب أو بعيد، يوم يعتدل الميزان. وأنظر فأرى الأستاذ لطفي جمعة قد اطمأن واستراح، وأرى أنصاره في جذل وانشراح
هي إذن معركة جديدة سأنهزم في ميدانها المشئوم وسيلحقني عارها الباقي، والله الحفيظ!
وينهض رئيس المناظرة فيهدد الشاب الذي يقاطعني، يهدده بالطرد، فيخشع الشاب ويستكين، ويصفق الجمهور إيذاناً بالشوق لسماع صوتي، فأمضي في إلقاء خطبتي وأنا جريح، وأضيف إلى خطبتي كلمة أقول فيها: إني اشتغلت بالتدريس في كلية الآداب أربع سنين ومن حقي عليها أن تسمح بأن أجهر في رحابها بكلمة الحق
وما قيمة الاشتغال بالتدريس أربع سنين في معهد مصري وقد صرح شاعرنا شوقي بأن كل شيء في مصر ينسى بعد حين!
ما قيمة الاعتماد على الماضي وهو ذخر الفانين؟ وبأي حق أغضب على شاب يقاطعني وقد أخذ عني أصول الثورة والصيال؟
ثم أمضي في خطبتي كالسيل الجارف فأفتن الجمهور فتنة ماحقة يضج لها خصومي بتصفيق الإعجاب ليسلموا من سخرية الجمهور الذي سحره بياني
ويميل الأستاذ لطفي جمعة على أذني وهو يقول: أهنئك على أن عرضت سمعتك للأراجيف في سبيل الحق. فأبتسم وأنتظر أن يصنع كما صنعت ليظفر بتهنئتي! وينهض الخصم الشريف فيسلك في تحقيري جميع المسالك، ويدعي أني فوضوي أثيم، وينهي الجمهور عن الانخداع بآرائي، ويعلن عجبه من أن يكون لي كتاب اسمه التصوف الإسلامي في مجلدين كبيرين مع أني من أنصار الفوضى الاجتماعية، ويقضي في تحامله وتجنيه ساعة وبعض ساعة وأنا ساهم مطرق أكاد أذوب من الخجل والحياء
وأعود إلى نفسي فأندم على تعريض سمعتي لهذا الضيم البغيض وأعرف أني أخطأت في قبول المناظرة مع هذا الخصم الشريف، وأعاهد الله على اعتزال الناس إلى يوم الممات. وما الذي يغريني بصحبة بني آدم ولم أر منهم غير شجا الحلوق، وقذى العيون؟
لقد أقمت داري على حدود الصحراء لآنس بظلمات الليل، ولأنسى أنني موصول الأواصر بهذا الخلق، ولأناجي موات البادية حين أشاء، ثم قهرني حب العزلة على أن أغلق نوافذ داري فلا أرى الوجود إلا بأوهام من طيف الخيال
لطفي جمعة الرجل الفاضل الذي أثنيت عليه في خطبتي يقضي في شتمي ساعة وبعض ساعة؟ تلك إحدى الأعاجيب، إن كان النكر في زماننا من الأعاجيب!
أين أنا من دهري وزماني؟ أمثلي يشتم جهرة في كلية الآداب، وقد حملت على كاهلي أحجار الأساس؟
هو ذلك، وعلى نفسي أنا الجاني، فقد عرضت سمعتي للجدال الذي يسمونه مناظرات! وينتهي الأستاذ لطفي جمعة من خطبته بعد أن مزق آرائي كل ممزق، وبعد أن شفي صدره مني، وكانت بيني وبينه ترات وضغائن وحقود
ويعلن رئيس المناظرة أن ليس لي غير خمس دقائق. وما الذي أستطيع أن أصنع في خمس دقائق وقد جرحت أشنع تجريح؟ ما الذي أستطيع أن أصنع وقد سمعت ما أكره في معهد يؤذيني أن أذكر فيه بغير الجميل؟ في خمس دقائق يعرف الأستاذ لطفي جمعة أن لحمي مر المذاق، ويؤمن وهو كاره بأن التطاول على رجل مثلي لا يمر بلا جزاء،
ويعرف من قاطعوني أن شأني أعظم مما يظنون. في خمس دقائق تحول السامعون إلى من حال إلى أحوال فصاروا جميعاً من أنصاري، في خمس دقائق شهدت أحجار كلية الآداب بأن المنطق أعظم من التنكيت، في خمس دقائق عرف غريمي أن سهر الليل في الاستعداد للحرب أمر يوجبه العقل الصحيح
وبعد كلمات ألقاها الأستاذ مندور والدكتور موسى طلب رئيس المناظرة أصوات الحاضرين فكانوا جميعاً في صفي، وهتف هاتف:(تحيا الفوضى الاجتماعية!)
فأجبت: (تسقط الفوضى ويحيا النظام!)
والآن، يا صديقي الزيات، أحب أن أسجل في مجلتك ظاهرة من شمائل الجيل الجديد، لتعرف أن اليأس الذي يساورنا قد يكون من الأوهام في أكثر الأحايين
وهذه الظاهرة هي يقظة الجمهور في هذا العهد، وقلة انخداعه بالتزاويق والتهاويل. وأؤكد لك أنه كان مفهوما عند أنصاري أني لن أخرج من تلك المعركة بغير الهزيمة، وأن التعلق بالشكليات سينفع خصومي فيظفرون بالنصر المبين
وقد أراد الأستاذ لطفي جمعة أن يغض من جهودي فقال إني شغلت نفسي بالموضوع أياماً وليالي، ولكن هذه السخرية لم تنفع، لأن الاستعداد للنضال من أصول التشريف، وهو يقابل عند الجمهور بالإعزاز والتبجيل. وهل كان يجوز لي أن أستخف بمناظرة تقام في كلية الآداب؟
وهذا النصر الذي نظفر به من وقت إلى وقت هو الذي ينسينا ما قد نجني من الحنظل في الحياة الأدبية، وهو الذي يهون ما نعاني من عقوق الزملاء، أو (بعض) الزملاء!
وقد حدثتك في مطلع هذا الحديث أني سأريح قراء الرسالة من شطحات قلمي شهراً أو شهرين، فلتعلم وليعلموا أني قد أشتاق إليك وإليهم فأرجع بعد أسبوع أو أسبوعين، والسلام.
زكي مبارك
في الاجتماع اللغوي
صراع اللغات
للدكتور علي عبد الواحد وافي
مدرس العلوم الاجتماعية بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
ذكرنا في المقالين السابقين أن عوامل الصراع بين اللغات يرجع أهمها إلى عاملين: أحدهما أن ينزح إلى البلد عناصر أجنبية تنطق بلغة غير لغة أهله، وثانيهما أن يتجاور شعبان مختلفا اللغة فيتبادلا المنافع، ويتاح لأفرادهما فرص للاحتكاك المادي والثقافي. وقلنا إن نتائج هذا الصراع تختلف باختلاف الأحوال: فتارة ترجح كفة إحدى اللغتين المتنازعتين فتصرع اللغة الأخرى؛ وتارة تتكافأ قواهما أو تكاد فتعيشان معاً جنباً لجنب
ثم عرضنا للحالات التي يحدث فيها تغلب إحدى اللغتين على الأخرى. فذكرنا أنها ترجع إلى أربع حالات: اثنتان منها تتصلان بالعامل الأول (نزوح عناصر أجنبية إلى البلد) واثنتان تتصلان بالعامل الثاني (مجاورة شعبين مختلفي اللغة). فأما حالتا العامل الأول فهما:
1 -
أن يكون كلا الشعبين همجياً قليل الحضارة منحط الثقافة، ويزيد عدد أفراد أحدهما عن عدد أفراد الآخر زيادة كبيرة. ففي هذه الحالة تتغلب لغة أكثرهما عدداً سواء أكانت لغة الغالب أم المغلوب، لغة الأصيل أم الدخيل؛ على شريطة أن تكون اللغتان من شعبة لغوية واحدة أو من شعبتين متقاربتين: كما كان شأن الإنجليزية مع النورماندية
2 -
أن يكون الشعب الغالب أرقى من الشعب المغلوب في حضارته وثقافته وآداب لغته، وأشد منه بأساً، وأوسع نفوذاً. ففي هذه الحالة يكتب النصر للغته، فتصبح لغة جميع السكان، وإن قل عدد أفراده عن أفراد الشعب المغلوب؛ على شريطة أن تدوم غلبته وقوته مدة كافية، وأن تقيم بصفة دائمة جالية يعتد بها من أفراده في بلاد الشعب المغلوب، وأن تمتزج بأفراد هذا الشعب، وأن تكون اللغتان من شعبة لغوية واحدة أو من شعبتين متقاربتين: كما كان شأن اللاتينية مع لغات كثير من الأمم التي تغلب عليها الرومان في العصور القديمة؛ والعربية مع لغات معظم الأمم التي تغلب عليها العرب في العصور
الوسطى
وأما الحالتان اللتان يؤدي فيهما العامل الثاني (مجاورة شعبين مختلفي اللغة) إلى هذه النتيجة، فهما:
1 -
أن تكون نسبة النمو في أحد الشعبين المتجاورين كبيرة، لدرجة يتكاثف فيها ساكنوه، وتضيق مساحته بهم ذرعاً، فيشتد ضغطه على حدود الشعب المجاور له، وتكثر تبعاً لذلك عوامل الاحتكاك والتنازع بين اللغتين. وفي هذه الحالة تتغلب لغة الشعب الكثيف السكان على لغة المناطق المجاورة له؛ على شريطة ألا يقل عن أهلها في حضارته وثقافته وآداب لغته؛ ويتأكد انتصاره إذا كان أرقى منهم في هذه الأمور: كما كان شأن الألمانية مع لغات المناطق المجاورة لألمانيا بسويسرا وتشيكوسلوفاكيا وبولونيا والنمسا
2 -
أن يتغلغل نفوذ أحد الشعبين في الشعب المجاور له. وفي هذه الحالة تتغلب لغة الشعب القوي النفوذ؛ على شريطة ألا يقل عن الآخر في حضارته وثقافته وآداب لغته؛ ويتأكد انتصاره إذا كان أرقى منه في هذه الأمور: كما كان شأن الفرنسية والأسبانية مع لغة شعوب الباسك بمناطق البرانس؛ والإنجليزية والفرنسية مع اللغات السلتية بأيرلندا واسكتلندا وويلز ومنطقة البريتون
وسنختم هذا البحث في مقال اليوم بالكلام عن الحالات التي تعجز فيها كلتا اللغتين عن التغلب على الأخرى
فيما عدا الحالات الأربع السابقة تتكافأ قوى اللغتين المتنازعتين فتعيشان معاً جنباً لجنب، وتسلك كل منهما في سبيل تطورها المنهج الذي يتفق مع طبيعتها، وترسمه لها نواميس الارتقاء اللغوي
والأمثلة على ذلك كثيرة في تاريخ الأمم الغابرة وفي العصر الحاضر.
فاللغة اللاتينية لم تقو على اللغة الإغريقية، مع أن الأولى كانت لغة الشعب الغالب، وذلك لأن الإغريق، مع خضوعهم للرومان، كانوا أعرق منهم حضارة وأوسع ثقافة وأقدم لغة. وقد سبق أن انهزام لغة الشعب المغلوب أمام لغة الشعب الغالب لا يحدث إلا إذا كان الشعب الثاني أرقى من الشعب الأول في جميع هذه الأمور
ولهذه الأسباب نفسها لم تقو لغات الشعوب الجرمانية التي قوضت الإمبراطورية الرومانية
الغربية في فاتحة العصور الوسطى على التغلب على اللغة اللاتينية في البلاد التي قهرتها بمناطق (فرنسا) وما إليها
واللغة اللاتينية لم تقو على التغلب على لغات أهل بريطانيا العظمى، على الرغم من فتح الرومان لبلادهم واحتلالهم إياها نحو مائة وخمسين سنة، وعلى الرغم من أن الشعب الغالب كان أرقى كثيراً من الشعب المغلوب في حضارته وثقافته. وذلك لأن الجالية الرومانية في الجزر البريطانية لم تكن شيئاً مذكوراً، ولم تمتزج امتزاجاً كافياً بأفراد الشعب المغلوب. وقد تقدم أن الغلب اللغوي يتم في مثل هذه الحالات إلا إذا أقامت في البلاد المقهورة جالية يعتد بها من أفراد الشعب الغالب، وتم الامتزاج بينها وبين أفراد الشعب الآخر
واللغة العربية لم تقو على الانتصار على اللغة الفارسية، على الرغم من فتح العرب لبلاد فارس وبقائها تحت سلطانهم أمداً طويلاً، وذلك لأن الشعب العربي لم يكن إذ ذاك أرقى حضارة من الشعب الفارسي، ولقلة عدد الجالية العربية بفارس وضعف امتزاجها بالسكان، ولانتماء اللغتين إلى فصيلتين مختلفتين (فالعربية من الفصيلة السامية، والفارسية من الفصيلة الهندية - الأوربية)
واللغة العربية لم تقو على الانتصار على اللغات الإسبانية على الرغم من فتح العرب للأندلس وبقائها تحت سلطانهم نحو سبعة قرون. وذلك لانتماء العربية إلى فصيلة غير فصيلة اللغات الإسبانية ولعدم امتزاج الشعوب القوطية بالشعب العربي
واللغة التركية لم تقو على التغلب على لغة أية أمة من الأمم التي كانت خاضعة للإمبراطورية العثمانية بأوربا وآسيا وأفريقيا، على الرغم من بقاء هذه الأمم مدة طويلة تحت سلطان تركيا، وذلك لاختلاف فصائل اللغات (فالتركية من الفصيلة الطورانية، على حين أن لغات معظم الأمم التي كانت خاضعة لتركيا من الفصيلة السامية - الحامية أو الهندية - الأوربية)، ولأن الترك كانوا أقل حضارة وثقافة من معظم الشعوب التي كانت تابعة لهم، ولقلة عدد جاليتهم في بلاد هذه الشعوب، ولضعف امتزاجها بالسكان
ولم تقو الإنجليزية على التغلب على اللغات الهندية، على الرغم من خضوع الهند لإنجلترا منذ أمد طويل، وذلك لأن شعوب الهند أعرق حضارة من الإنجليز، ولقلة عدد أفراد الجالية
الإنجليزية بهذه البلاد، وعدم امتزاجها بالسكان
والجوار بين فرنسا وإنجلترا وإيطاليا وأسبانيا والبرتغال لم يؤد إلى تغلب لغة شعب منها على لغة شعب آخر. لأن احتكاك لغاتها لا ينطبق على حالة من الحالتين اللتين يحدث فيهما التغلب بالمجاورة.
ولهذا السبب نفسه لم يؤد الجوار بين الفارسية والعراقية والتركية والأفغانية إلى تغلب لغة منها على لغة أخرى
وكذلك شأن الإنجليزية في الولايات المتحدة بأمريكا الشمالية مع الأسبانية المجاورة لها في المكسيك، وشأن البرتغالية التي يتكلم بها في البرازيل مع الأسبانية التي يتكلم بها في الجمهوريات المتاخمة للبرازيل بأمريكا الجنوبية؛ وشأن الحبشية مع الصومالية. وهلم جرا
ولكن عدم تغلب إحدى اللغتين لا يحول دون تأثير كل منهما بالأخرى.
فقد تأثرت اللاتينية بالإغريقية في أساليبها وآدابها، واقتبست منها طائفة كبيرة من مفرداتها.
وقد تركت اللغة العربية آثاراً قوية في الأسبانية، وبخاصة في المناطق التي كانت تسمى بالأندلس أو أندلوسيا دام سلطان العرب عدة قرون.
والصراع بين العربية والفارسية، وإن لم ينته إلى تغلب إحداهما قد ترك في كل منهما آثاراً واضحة من الأخرى؛ وبخاصة من ناحية المفردات.
والصراع بين التركية ولغات الأمم التي كانت خاضعة للإمبراطورية العثمانية، وإن لم ينته إلى تغلب لغوي، قد ترك في التركية آثاراً قوية من هذه اللغات، وبخاصة من اللغة العربية وترك كذلك في كثير من هذه اللغات آثاراً ظاهرة من التركية وقد بلغ هذا التأثير مبلغاً كبيراً في بعض هذه اللغات: فلغة العراق في العصر الحاضر مثلاً قد أخذت عن التركية كثيراً من المفردات وبعض الأصوات التي لا نظير لها في العربية، (كالصوت الذي ينطق به بين الشين والجيم المعطشة في مثل (عربنجي)) وطائفة من القواعد الصرفية كقواعد النسب والنعت والإضافة في مثل (عربنجي)(نسبة إلى العربة)، (خوش ولد):(خوش كلمة فارسية الأصل معناها: حسن) - كتبخانة (دار الكتب)
والإنجليزية الحديثة في إنجلترا والفرنسية الحديثة في فرنسا تتقارضان المفردات منذ أن
أتيح للشعبين المتجاورين فرص للاحتكاك وتبادل المنافع.
وكذلك تفعل الفرنسية بفرنسا مع الألمانية بألمانيا ومع أخواتها المجاورة لها في الجنوب الشرقي والغربي بإيطاليا وأسبانيا والبرتغال.
وتجاور التركية والفارسية، وإن لم يؤد إلى تغلب إحداهما على الأخرى، قد ترك في التركية آثاراً واضحة من الفارسية، وبخاصة في المفردات، وترك كذلك في الفارسية بعض آثار من التركية
وتجاور الفارسية والعراقية في العصر الحاضر، وإن لم ينته إلى تغلب لغوي، قد نقل إلى كل منهما كثيراً من آثار الأخرى في المفردات والقواعد والأساليب
ومجاورة الجرمانية واللاتينية في العصور القديمة، وإن لم يؤد إلى تغلب واحدة منهما على الأخرى، قد نقل إلى أولاهما كثيراً من مفردات الثانية، وترك في الثانية بعض آثار من الأولى
وقصارى القول: متى اجتمع لغتان في بلد واحد أو تجاورا لا مناص من تأثير كل منهما بالأخرى؛ سواء أتغلبت إحداهما أم كتب لكلتيهما البقاء. غير أن هذا التأثر يختلف في مبلغه ومنهجه ونواحي ظهوره ونتائجه في الحالة الأولى عنه في الحالة الثانية.
فإذا كان الغلب كتب لإحداهما نراها تسيغ كل ما تأخذه من الأخرى مهما كثرت كميته؛ فيستحيل إلى عناصر من نوع عناصرها، فتزداد به قوة ونشاطاً، بدون أن تدع له مجالاً للتأثير في بنيتها أو تغيير تكوينها الأصلي. على حين أن المغلوبة لا تقوى على مقاومة ما تقذفها به الغالبة من مفردات وقواعد وأساليب، ولا تكاد تسيغ ما تتجرعه منها، فيتخمها ويضعف بنيتها، فتخور قواها، وتفنى أنسجتها الأصلية شيئاً فشيئاً حتى تزول: كما كان شأن الإنجليزية مع النورماندية، والعربية مع القبطية
وإذا كان البقاء قد كتب لكلتيهما تعمد كل منهما إلى ما تأخذه من الأخرى فتسيغه، وتفيض عليه من حيويتها، وتقاوم آثاره الهادمة. فتبقى كل منهما متميزة الشخصية، موفورة القوى سليمة البناء: كما كان شأن الفارسية مع العربية.
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة باريس
الإنتاج العقلي للأمم
للدكتور جواد علي
كانت الفكرة السائدة حتى أوائل القرن الثاني عشر تقول بتطور البشرية تدريجياً من نقص إلى كمال، ومن جهل إلى علم. وقد اختلفوا في المبدأ، هل كان الإنسان في بدء خلقته كاملاً، ثم انتكس وتدهور لخطيئة وقع فيها، ثم بدأ يستغفر من ذنبه، ويكفر عن سيئاته، أو أنه بدأ كما نعرفه الآن، ثم هو آخذ في التطور إلى التكامل شيئاً فشيئاً، حتى يعود الإنسان الكامل ذا المثل العليا التي يريدها بعض الفلاسفة وأصحاب الأحلام البعيدة. غير أن تطور العلم الطبيعي، وانتصار أوربا في ساحات الفن والصناعات الضخمة والاستعمار، زلزل هذه الفكرة وولد في نفوس العلماء من أبناء تلك القارة، فكرة الاستئثار بالزعامة والقيادة العالمية. فقسمت الشعوب العالمية إلى طبقات وأجناس لكل منها خواص وأوصاف كما هو شأن عالم الحيوان والنبات. وإذا كان علماء النبات أو الحيوان يقسمون العالم النباتي أو الحيواني إلى فصائل وأجناس، فلم لا يقسم علماء الأجناس البشرية، البشر إلى فصائل وأجناس كذلك؟ تستأثر أوربا بالفصائل العالية والأوصاف الراقية؛ ثم تعطى ما تجود به للفصائل التي تمت إليها بصلة وقرابة، ثم الأبعد فالأبعد.
وبعض الآراء المعتدلة ترى العالم مؤلفاً من مجموعة حضارات مستقلة لكل منها روحية خاصة ونفسية سماها (نفسيات الحضارة كما هو رأي الفيلسوف تمر عليها جميع أدوار الحياة المعروفة من ولادة وطفولة وسباب ثم شيخوخة فممات، تستغرق هذه المدة حوالي ألف سنة، وأن ثلاث حضارات جاءت على التوالي تكمل الواحدة الأخرى وهي الحضارة اليونانية وسمتها والحضارة العربية وخاصيتها والحضارة الأوربية الجرمانية وهي بينما رأى الفيلسوف الألماني الآخر (كراف هرمان كيسرلنك مؤسس مدرسة الحكمة في مدينة دارمشتد) تنوع الحضارات البشرية كذلك واختلاقها ولكنها ترجع كلها إلى أصل واحد ومنبع منظم هو القوة الخارقة الموجودة في البشر التي تدفع الأمم بالسير إلى الأمام. قد تكون هي الحكمة لذلك كان يرى وجوب الاستفادة من الحكمة بدلاً من العلم المجرد
وقد نشأ من جراء البحث المتوالي في اختلاف عقليات الأمم وقابليات إنتاجها بحث خاص يسمى التعمق في دراسة أمم الأرض، واستخراج الأسباب التي أدت إلى ازدهار
الحضارات أو هبوطها. وقد قسم العالم إلى أربع طوائف:
1 -
الشعوب الفطرية، أو التي تعيش على الطبيعة الأولى ?
2 -
الشعوب المتوحشة ?
3 -
? أو الشعوب المتمدنة
4 -
المتحضرة. ولكل من هذه الأقسام درجات ثلاث: واطئة، وسطى، وعليا
ولكن هنا مشكلة عظيمة تجابه الباحث، وهي الدوافع الخفية التي تدفع بالشعوب إلى الحضارة وإلى إنتاجها الروحي، هل هو عامل داخلي يدفعها إلى ذلك دون مؤثر خارجي، أو عامل خارجي بحت كما يذهب إليه الماديون وأتباع كارل ماركس، أو دوافع المحيط الخارجي كالزمان والمكان كما هو رأي (ولد1873)(أنظر ص 193 ? وبين المبدأين بدون شاسع كما يظهر. ومن أتباع المذهب الأول العالم (1841 - 139) في ألمانيا في أمريكا. جعلوا العنصرية العامل الأساسي في تكوين الحضارة. ومن هذه النظرية استحدثت النازية رأيها من أن الحضارة العالمية نتيجة العقلية الآرية فقط، وأن العالم يتألف من طبقات ثلاث حسب رأي هتلر مؤسس هذا المذهب، من:
1 -
شعوب أسست
2 -
وشعوب تنقل الحضارة دون أن تضيف إليها شيئاً أو تغير فيها، ?
3 -
وشعوب هدمت الحضارة وأفسدتها سماها: ? هذه الشعوب الروسي البلشفي، ولا أدري أغير رأيه الآن بعد اتفاقه مع البلاشفة أم لا
وتتلخص فكرته في أن الحضارة البشرية نتيجة عاملين فقط: الدم والأرض والعنصرية هي المظهر الخارجي للروح
على عكس هذه النظرية تماماً نظرية (كارل ماركس)(1818 - 1883) مؤسس المذهب المنسوب إليه والبلشفية والشيوعية التي تتخذ المادة كأساس في كل شيء إذ يقول: (الآراء السائدة في زمن ما تمثل آراء الطبقة الحاكمة في ذلك الزمن) وكذلك قوله: (غيروا الوضع السياسي والوضع الاقتصادي تغيروا بذلك البشر) ولذلك تحارب البلشفية النظام الرأسمالي لأنها تعتقد أنه مصدر كل شر، وبإزالة هذا النظام تتغير العقلية البشرية وتفكيرها ويظهر تفكير عالمي جديد. وهذا الرأي مأخوذ بصورة مكبرة عن المبدأ المادي
الذي يجعل المادة أساس كل شيء والروح نتيجة عمل الدماغ. بل لقد غالى الفيلسوف فويرباخ (1804 - 1872) قال: (الإنسان يكون حسبما يكون أكله)
لست بمعترض للنقد هنا ولكن أقول: للطرفين غلو عظيم، وكلا الرأيين قديم في تأريخه يرجع إلى عصور اليونان وربما يرجع إلى أقدم من ذلك. وإني أرى أن هنالك آراء عامة تطرق إليها عقل كل إنسان، كل على حسب قابليته ومحيطه، ومن هذه الآراء هذه المشكلة، ولكن الأساليب في معالجتها تختلف والكلمات تتغير؛ والاكتفاء بالدم والأرض في تعيين الإنتاج العقلي للأمم أمر يخالفه الواقع. ونرى أن التطور الاقتصادي مثلاً قد قلب أوربا رأساً على عقب وغير مقاييسها الأدبية والأخلاقية والنزعة الروحية التصوفية التي سادت ألمانيا والعالم بعد الحرب العظمى، وأن حب التشاؤم الذي ساد كذلك، وظهور ما يسمى ? الميول الشاذة بأجلى مظاهرها ومعالجتها علناً، وظهور مذهب ومذهب على أن المادة مؤثرة في الروح لا محالة. وكذلك من باب المغالطة جعل الإنسان آلة تتحرك بمؤثر خارجي كالآلات الصماء التي تشتغل في المعامل. وما نجده من العوامل الروحية في الطفل وفي حالات المجرمين بالطبيعة، والذكاء أو الجمود الفكري يناقض النظرية المادية تماماً
ولكن ما هي المقاييس التي ستنتخب للحكم على أمة بأنها متحضرة وعلى درجة حضارتها؟ أجد أن الأساليب المتبعة الآن في أوربا في تعيين الحضارات كلها مقاييس واهنة، إذ هي تقيس كل حضارة بالنسبة إلى المقاييس التي لديها، وبالنظر إلى العرف أو العادات أو الذوق الذي تراه، وهذا ما يدعو إلى الحكم المخطئ طبعاً. أضف إلى ذلك أن دراسة الإنتاج الروحي أمر عسير جداً ويحتاج إلى إلمام كثير بالظروف والأحوال التي تحيط بتلك الأمة التي ستدرس أو يحكم عليها. فالعزم يجعله كتاب أوربا اليوم من أهم ميزات الأوربي، وكذلك حبه لو حللنا الظروف والأحوال التي حطمت هذه الميول، وجو الشرق المحرق وخيراته الكثيرة لوجدنا أن تلك لم تعد ميزة عقلية، إنما هي ناحية وردت عن طريق الحاجة والمحيط
إن الفيلسوف نيتشه يجعل الحضارة ترادف (العزم على العمل) التي يرددها دائماً. وقد أخذت الفاشية ذلك، وموسوليني من أكبر المحيين لفلسفة نيتشه، فجعل الإمبراطورية تشمل الناحية الروحية كذلك، فهو ينص في كتابه الذي ألفه في مبادئه على أن السيطرة
والاستيلاء لا تقصر على السيطرة بكثرة الجنود والأراضي، بل تشمل سيادة العالم الروحي وتقوية الإرادة والعزم. وضعف هذه معناه الانحطاط والتدهور
جواد علي
خريج جامعة هامبرك بألمانيا
تأملات
لا أدري يا فتاتي كنه نظراتك، ولا أخدع النفس بتصوراتي؛ إنما
بعينيك سواد يغمر ضوؤه فؤادي، ويذيب حره جناني. أسمع صوتك
المتهدج تحاولين أن تخلعي عليه المستحيل من ثباتك، وأحس خفقان
قلبي يعلوه هذا الشحم واللحم، فتخفى ضرباته على وجدانك.
تضربين يا فتاتي في حدود الثلاثين، ولما تكادي، وأغز أنا السير والأربعون من ورائي؛ فبيننا ما يسوغ لك مناداتي بيا أبي. وكم يحمل هذا النداء من عطف ومن مرثية! وكم تتجلى فيه الحقيقة المرة، وتشرق به النفس الظمأى إلى فيض الحب!. . . كم يردني إلى اليأس قدر ما أرتد إلى الأمل. . . لكن، يا فتاتي، قد آثرتك بحواسي، وهي تهتف بك وتهبب، فهل تستجيبين؟
وكيف تستجيب يا صديقي، وقد كان ما مضى كله عبثاً في عبث. . . لقد فتحت عيني عليه، وكانتا مغمضتين، فروعني ما رأيت: رأيت سداً هائلاً يقوم بيني وبينها، هو فرق ما بيني وبينها من سن. . . دروجي إلى الكهولة، وخطرها في مطارف الشباب هو الذي أترع قلبي غماً وأزال الغشاوة عن عيني. . .
رأيت الأوهام بعين الحقيقة تمضي فراراً لا تلوى على شيء. وكأنها خشيت أن تلقاني وجهاً لوجه، فأبصق من مر الحقيقة على وجهها. خجلت أوهامي فانحسرت عن بصيرتي، وخلفت أثرها في الكآبة التي لا تبرح تلازمني
ظلمتني يا فتاتي حين أرخيت لي في حبل الأمل فتعلقت به وشددت عليه، وتشبثت وكأني أتشبث بالحياة، وأية إيماءة حادة كانت تكفي لقطع الحبل لأنه من عمل الشذوذ ومجانبة الحقائق، والعمى عن الحدود. لكن حبلي لم ينقطع بشيء حاد. نظرة لا حياة فيها، لأنه لا اكتراث فيها، كفت لأن تقطع حبل آمالي بعد إذ كانت تحييها في سالف الأيام نظرة أخرى. وفتور أدل إلى التثاؤب وأوهى منه، طعنني في الصميم فكانت الصرخة التي فتحت عيني على حلمي المنكوب
بلى يا فتاتي! لقد نكبت كما لم ينكب غافل، وعاودني الرشد غير رشيد، وحزت الحسرة في فؤادي ولن تزال تحز إلى الأبد
كنت ماثلة لعيني، في اليقظة وفي المنام، في السر وفي العلن، وخلياً ومشغولاً، ومغتبطاً ومكموداً
ومثلت لعيني بعد الخيبة أجلي ما تكونين، وأنضر ما تكونين، تعلو شفتيك تلك الابتسامة الحائرة فتزيد في حيرتي وتثير من حسرتي
شربت المر ليعوضني من حلوك، وألزمت حواسي حدها لأفر من طيفك. ثم عمدت إلى مخيلتي وقد خفت على نفسي الخبال فمسحت منها صورتك إلى حين. ثم ضبطت خيالك متلبساً بالسطو على رأسي المضطرب وأعصابي المحطمة وليس بها لمثلك غناء فأقصيته، وأغمضت عيني دونه، وذهبت ألتمس السلوان
وكيف تسلو يا صديقي، بل كيف تجبن عن احتمال الذكرى وتتهيب وجه الحبيب؟ أتراك خشيت الألم ولوعة الهوى، وما الهوى من دون لوعة وألم؟ أتريد المتعة الرخيصة؟ إنك إذن لأناني أو عابث؛ وإني لأعيذك يا صديقي أن تكون هذا أو ذاك
فليغش نومك طيف الحبيب، وذهنك رسمه؛ وليكن تفكيرك فيه وعيشك به وله؛ وليكن بعد ذاك ما يكون. فالنار التي تتأجج في قلبك، والجرح الذي يحسه صدرك، يطهران نفسك التي بين جنبيك. وما هو إيثار الروح على الجسد إن لم يكن في تعففك وعفافها، واطراح الإغراء من جانبك وجانبها
ليكن جمال نفسها هو الذي يستهويك لا فتنة الجسد. وليكن صوتك في سمعها كصوتها في سمعك رحمة وخيراً لا شراً وإغراءً
ستألم حين لا تطفئ المتعة نار قلبك المتأججة، فما نفعك بمتعة تطفئ الإيمان وتميت القلب؟ إنما نفعك بالألم الذي يرهف حسك، ويضيء نفسك، ويخضع جسدك. إنما نفعك في البقاء لا الفناء، في بقاء نارك متأججة، ونفسك نيرة، بقاء للحب الذي لا تعرفه المادة ولا ينبغي أن تعرفه، بقاء لروحانية البشر التي تتمثل في الألم، الألم يا صديقي ولوعة الحب والكآبة التي تذيب جسدك كالشمعة لتحترق وتضيء
كل أولئك يا صديقي عناصر تجعل منك الإنسان المنشود لا الإنسان الموجود.
(م. د)
من وراء المنظار
مجلس أدباء
طالما رغبت أن أرى هذا المجلس حتى أتيح لي هذا الحظ العظيم فقادني إلى حيث ينعقد أحد الرفاق؛ وكان المجلس لحسن حظي ليلة خففت إليه حافلاً لم يغب عنه كما علمت إلا واحد أو اثنان ممن يشتركون في حلقته
وأنا رجل طالما أحسنت الظن بالأدباء حسن ظني بالكتب فيما سلف وإن كان أكثرهم ليزعمون أني متكبر أعيش في علبة لأني ظللت حتى تلك الليلة لا أعرف أكثر هؤلاء إلا في آثارهم
جلست بين هؤلاء الشباب صامتاً أنقل بصري من وجه إلى وجه، وأتبين الأشخاص من أحاديثهم، وهم قد وضعوا أنفسهم بحكم رسالتهم في مركز وسط بين الملائكة والناس؛ ولم تمض لحظة حتى عرفت من كلامهم أولاً أنهم جميعاً شعراء؛ ثم تبين لي بعد ذلك أن كلا منهم يسمو في فنه على الباقين حتى ما يلحق به أحد وإن كان لا يصرح أحدهم بذلك، وإنما يشير إلى ذلك المعنى في لباقة عجيبة
وأعجبني منهم لعمر الحق أنهم كانوا يديرون بينهم كؤوس الثناء بدل كؤوس الصهباء إن جاز في ذوقهم هذا التعبير. فهذا يثني ما وسعه الثناء على القصيدة الأخيرة لجاره؛ وذلك يمتدح ديوان صاحبه حتى ليجعله من مفاخر العصر ومآثر الجيل، وفلان يستزيد فلاناً من طرفه. . . وهكذا يتبادلون بينهم الثناء حتى لا يتركون معنى من معانيه
ولكنني ما لبثت على الرغم من ذلك أن تبينت في حلقتهم أحزاباً، وساعدني على فهم ذلك ما عرفته من سالف كتاباتهم، فهذا شخص أعرفه من قبل قد جعل لصاب له الزعامة فيما كتبه عنه، وأراه في المجلس يقبل عليه إقبالاً شديداً فما تبدو منه نكتة إلا انطلق وراءها مقهقهاً مستحسناً مهما بلغ من تفاهتها، وما يبدي رأياً إلا انحاز فيه إليه مهما خالف فيه كل قياس وخرج به على كل ذوق. . . وهذا شخص آخر يعلم أن بين فلان وفلان حقداً وهو يحقد على أحدهما فيما أعرف فلا يزال يمتدح الآخر بكل ألوان المديح، وألمح أنا الامتعاض على وجه المغضوب عليه فأفطن وأبتسم
وأعجب لهذا التناقض الغريب، وهم كانوا قبل ذلك يبدون لي وقد ألف الفن بين قلوبهم
وملأها بالمحبة. . .! وينتقل بهم الحديث من تبادل الثناء ثم من اللمز إلى المباهاة والمفاخرة. فهذا تنهال عليه رسائل الإعجاب حتى ليترك بعضها دون قراءة لكثرتها؛ وذلك بتهافت على قصائده كبار الملحنين ولكنه يضن بها ضناً بالشعر عن التكسب والتبذل؛ وثالث يقول في خجل مصطنع إنه يشار إليه في كل ناد ويتهامس الفتيان والفتيات باسمه، ويرد عليهم من يذكر كيف يحرص على مودته أصحاب الصحف اليومية والأسبوعية على اختلاف نزعاتها؛ ويسكت أحدهم تاركاً لصاحبه المفتون به أن يتلو عليهم من حالاته ما يعجبون معها لشذوذه المحير، ذلك الشذوذ الذي يصل به إلى الجنون، ولكنه بأي حال لا يفسر إلا بأنه شذوذ العبقرية وجنون الملهمين، وإن كانوا ليعلمون أنه متكلف يبلغ غاية السخف في تكلفه. . .
واجتمع هؤلاء الشباب على رأي واحد، وذلك هو رأيهم فيمن سموهم شيوخ الأدب فأولئك عندهم قوم نالوا من الشهرة ما لا يستحقون، وليس فيهم إلا من يحقد على الشباب وعبقرية الشباب وطموح الشباب، ولذلك فهم يحاربونهم ويضعون في طريقهم العقبات، ولكن الغلبة في النهاية لا شك للجيل الناهض. . .
ويحمل هؤلاء الملهمون حملة صارمة على هذا البلد الجاحد ويألمون لحظهم فيه، ويتساءلون: لم أطبقت الغفلة على هذا الجيل إلى مثل هذا الحد؟ فإذا مال الحديث إلى من أصول الأدب رأيت بين هؤلاء الذين يرمون الجيل بالغفلة تناقضاً وتبايناً واختلافاً شديداً حتى ليصعب على من يقرأ مثل آرائهم أن يصدق أنهم يعيشون في عصر واحد وفي بلد واحد، وكيف يلتقي هؤلاء على ذوق أدبي والمسألة بينهم رياء وتقارض ثناء؟
وبعد أفلا يسهل على بعد أن بلوت مبلغ صدق هؤلاء بعضهم تلقاء بعض أن أصدق ما يقال عن مبلغ صدق أكثرهم في فنهم؟ ذلك الصدق الذي ترى من آياته أن ينظم أحدهم فيما رأى من جمال الربيع وهو لم يخرج من مكتبه، أو يصف الشروق والغروب والليل في القرية وهو لم ير مدى عمره قربة، أو يتوجد ويتوجع ويشتكي إلى ملهمته وهي لا توجد إلا في مخيلته! لقد أسرفنا في الهزل فمتى نجد، وبالغنا في الاستهتار فمتى نستحي؟
(عين)
رسالة الشعر
من شكوى الزمن
للدكتور إبراهيم ناجي
يا ويلتا من عُمري الباقي
…
هذا سوادٌ تحت أحداقي
هذا بياض الشيب وا عجبي
…
من مَغْربٍ في زِي إشراق
ويلي على كأس معربدة
…
وعلى دم في الكأس مُهراق
وعلى سراب خادع وعلى
…
متألق اللمحات بَرَّاق
طاف الزمان به على نفر
…
مالوا بهاماتٍ وأعناق
صُرعوا وكنت تظنهم سكروا
…
مات الندامي أيها الساقي!
يا دهر لم أشك الكلال ولا
…
مَلكتْ خطوب الدهر إرهاقي
عذبت أيامي بِعِفتها
…
وقتلتني بصفاء أخلاقي
يا كَمْ غرستُ وكم سَقَيتُ وكم
…
نضَّرتُ من زهر وأوراق
ما حيلتي والأرض مجدبة
…
سيّانِ إقلالي وإغداقي
أين الذين رفعتُ فانحدروا
…
وبنيتُهم بُنيان خلاق
إن الوفاء بضاعة كسَدَتْ
…
ومآل صاحبها لإملاق
إفلاس أرواح وَمَضْيعةٌ
…
لقلوبنا في شر أسواق
إن كنتُ لم أغْنَمْ فقد ظفروا
…
مني بمغفرتي وإشفاقي
لكنني والجرح يُلهب لي
…
حِسَي ويكون كيَ إحراق
هيهات أنْسى أنهم عبثوا
…
وَوَفيتُ لم أعبث بميثاق
احترق. . . احترق!
للأستاذ أمجد الطرابلسي
لا تقف يا قطارْ
…
لا تهِن يا خَفِقْ
نَخَلات الديارْ
…
من وراء البحارْ
لَمَعَتْ فِي الأفُقْ
ويك! لا تحترقْ
قد بلغنا الفِناءْ
…
بعدَ كَدِّ المسيرْ
ليس دونَ اللقاءْ
…
بعدَ هذا المساءْ
غيرُ بعض العصورْ. . .
وبحارٍ تمورْ. . .
سرْ بنا سرْ بنا
…
في الّدجى يا أملْ
الهوَى نايُنا
…
والمدَى. . . غايُنا
يا هَنَا مَنْ وَصَلْ
بعدَ فَوْتِ الأجَلْ. . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
قفْ بنا يا قطارْ
…
واسترِحْ يا خفِقْ
بيننا والديارْ
…
غَمَرَاتُ البحارْ
وظلامُ الأفُقْ
احترق. . . احترق!
يومان
للأستاذ صالح جودت
اليوم الأول
(المنظر: هو وهي على الشاطئ)
هي: ما لعَيْنَيْكَ يا رهيبُ تُثيرا
…
نِ طيوفَ الأوهام حول أماني؟
هو: أنا يا فتنةَ الوجود؟
هي: أجل أنت
هو: وكيف اتهَمْتِ؟
هي: مجنونتان!
فيهما حيرةٌ وغمرةُ شَكٍ
…
ومعان ما تُرجمتْ بلسانِ
كم عَلَتْني غِشاوةٌ عند لُقيا
…
ك فأنكرتُ رؤية الإنسان
لستَ كالناس!
هو: هل أكون ملاكاً؟
هي: حيرتي في الملاك والشيطان!
هو: أنتِ يا مَنْ سكبتِ خمرةَ إِلْحَا
…
دي وأترعْتِني من الإيمانِ
عند عينيكِ تنتهي أَعْيُنُ الل
…
هـ فأَنْي مضيتُ شارفتاني
سهدُ جَفْنَيهما من السَرْمَدِ الخا
…
لدِ مهما استطال لا يَغْفَوَان
غير أني أحسن سراً دفينا
…
وهما دون غَيْبِهِ مُغلقان
هي: ثم ماذا؟
هو: أهواكِ يا ربة الْحُسْنِ!
هي: وماذا أعددتَ للقربان؟
هو: كل ما شئتِ لا يعزُ، وإن كا
…
ن محالاً فإِنه لك دَانِ
هي: قمْ بهذا الكُرازِ أَنْضِبْ لِيَ البَحْر!
هو: وهل أستطيع ما فوق شاني؟
هي: خَلَهِ عنكَ. . قم وأَنْضِب من الشا
…
طئ بعض المياه
هو: يختلطان
هي:
كاختلاط الشهْوات بالأثْرِة العمي
…
اء في لجةٍ من الوجدان
واختلاط الحِجَي ببوقتة الجن
…
س فَتْبني من المحال الأماني!
أَوَ ما قلتَ إنه لِيَ دانِ؟
…
ما لَكَ الآن نَؤْتَ بالبرهان؟
هو: لستُ رباّ!
هي: وما أنا؟
هو: أنتِ عندي
…
رَبَة في سماوة الفَنَان
هي: كيف ترجو إذَنْ هواي وما أن
…
تَ بصنْوٍ مكانه كمكاني؟
هو: اجعليني فيما مَلَكْتِ قطيناً
…
أو هبيني مُوَكلاً بالْجِنَانِ!
هي: هل رأيتَ الْجِنَات؟
هو: في جسمِ أُنثى
…
عبقري الظلال والألوان
فعَلَى صدرها الثمار وفي الثغْرِ
…
من الخمر سلسبيل المعاني
وعلى شَعْرها المذَهَبِ أشبا
…
حُ قصورٍ ما شَيَدَتْها يدانِ
اليوم الثاني
(المنظر: هو وهي خارجين من الصومعة)
هي: كنتَ في الليل راعياً في الْجِنَانِ
هو: ليل أمس في ذمة النسيان
كنتِ فيه إلهةً!
هي: ما أنا الساعةَ؟
هو: لاشيء، أنتِ كالجثمان
أنتِ مخلوقةٌ تعيشين بالْجِسْمِ
…
وتُفْنِيكِ شهوة الحيوان
هي: قُبلةً!
هو: ما وراءها؟
هي: هِيَ معنىً
هو: هَتَكَتْ شهوةُ الجسوم المعاني
ونَضَتْ سِتْرَ ناظريك وذاع الس
…
رُ فيما فَقَدْتِ من أكوان
هي: أَوَ أَنْزَلْتنِي عن العرش لما
…
ذاع سرى لديكَ؟ أي بيان!
:. . . . . . . . . . . . . . .
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
:. . . . . . . . . . . . . . .
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
:. . . . . . . . . . . . . . .
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
: غادرٌ أنتَ؟
هو: نحن للفن نحيا
…
ونراكم له من القربان
فنُضَحي بكم على مَذْبح الفكر
…
ليُهدَي بالفكر جيلٌ ثان
صالح جودت
الأدب في أسبوع
العودة
إن بعض الحوادث في حياة الرجل لتنزل منزلة الآية المحكمة: ننسخ ما كان قبلها، ثم يأتي بعضها كالقنبلة: تخسف الأرض أمامه فلا يرى إلا هوة وغبارها، فإذا تلاحقا لم يدري المرء ما يستدبر من أمره ولا ما يستقبل، وإنما هو الحيرة والظلال والرعب، والتردي كلما أقدم أو أحجم. . . بلى، إن علينا أن نصارع الحياة بالقوة، وأن نداورها بالحيلة، حتى نخلص إلى الأرض المطمئنة، ولكن هل يستطيع أحدنا بعد ذلك أن يصل إلى هذه الأرض؟! لولا أن اليأس هو باب الموت، لكان هو - في الحقيقة - إحدى الراحتين. . .
كتب
ولنعد. . . أصدرت المطابع المصرية في الأسابيع الماضية طائفة كثيرة من الكتب العربية، بعضها لأصحابنا من المعاصرين، وبعضها مما أنقذه المعاصرون من المكتبة العربية المدفونة في خزائن الكتب، فنحن نختار من هذه الكتب ثلاثة يجرى الحديث فيها مجرى واحداً في الغرض الذي نرمي إليه، وهي كتاب:(التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية) وهو دراسات لكبار المستشرقين مثل: بكر، وجولد تسيهر، ونلينو، ومايرهوف. ترجمها إلى العربية الأستاذ عبد الرحمن بدوي؛ وكتاب (الرسالة) لإمام المذهب محمد بن إدريس الشافعي. نشره العالم المحدث الثقة الشيخ أحمد محمد شاكر، وكتاب (الذخيرة) لأبي الحسن علي بن بسام، نشرته كلية الآداب مستعينة بمراجعة الأساتذة محمد عبده عزام، وخليل عساكر، وبخاطره الشافعي؛ وأشرف على عملهم أساتذة الجامعة: أحمد أمين، ومصطفى عبد الرازق، وعبد الحميد العبادي، وعبد الوهاب عزام، وطه حسين
وهذه الكتب الثلاثة لا يجمعها باب واحد من حيث موضوعها، فالأول آراء للمستشرقين في فروع من الحضارة العربية والآراء الإسلامية، ورسالة الشافعي هي أصل علم (أصول الشريعة). والثالث في تاريخ الأندلس، وشعرائها، وبلغائها، وكتابها. فالذي حملنا على جمعها في باب واحد من كلامنا هو الرأي في المستشرقين، وما يجب علينا أن نتابعهم عليه، وما ينبغي لنا أن نحذره منهم
المستشرقون
فقد قرأت مقدمة كتاب (التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية) - كتبها الأستاذ (بدوي) بحرارة الشباب التي تتضرم في دمه، وجعل يتهدم فيها على التراث العربي بآراء كالمعاول: تضرب في الجذع بعد الجذع على غير هدى ولا كتابٍ منير. فلما توغلت في الكتاب رأيت أن آراء المستشرقين - الذين ترجم لهم كلامهم - هي التي وضعت في يديه هذه الفأس ليعمل بها؛ ونحن لا نرى أن مثل ذلك مما يضر بالتراث الإسلامي بشيء، ولكنا نرى أنه يضر بأصحابه والعاملين عليه أول، لأنه يأكل قواهم في شيء لا يمكن أن ينال منه شيء (ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً). والمشكلة كلها هي فتنة أكثر الناس بأسماء المستشرقين، وأن ما يكتبون في التاريخ الإسلامي والعربي ينزل من قلوب كثير من شبان الجامعة وغيرهم منزلة الكلام القدسي: تحريف معانيه إبطال لقوة (الاستشراق) التي فتنتهم. ونحن - حين قرأنا بعض آرائهم التي ترجمها الأستاذ (بدوي) - وجدناها عملاً صالح المذهب من ناحية مدرجه، وأما من ناحية التحقيق العلمي، والغاية التي يرمى إليها، فهو عمل غير صالح. فكان هذا الذي عرفناه هو الذي دفعنا أن نخصص هذه الكلمة للكتب الثلاثة المذكورة آنفاً، ولمذاهب المستشرقين في تناول الكتب العربية القديمة بالتحقيق لنشرها، ثم مذاهبهم خاصة فيما يعالجون من تاريخ الفكر الإسلامي أو الحضارة الإسلامية. وليس غرضنا هنا أن نعرض لنقد شيء بعينه من آرائهم، وإنما نريد أن نثبت لهم حقهم الذي وجب لهم بما بذلوه من جهد، ونحذر شباننا من الافتتان بباطل من باطلهم
وينقسم أمر المستشرقين كما ترى إلى عملين: أحدهما عملهم في الكتب العربية القديمة التي نشروها من بدء توجههم إلى هذا الغرض، والآخر ما كتبوه من دراساتهم في الآثار العربية، وما أرخوه من تاريخ الإسلام، وتاريخ آرائه ومذاهبه العلمية والفلسفية.
نشر الكتب العربية
فالمستشرقون حين بدءوا فنشروا الكتب العربية القديمة لم يقصروا في بذل المال والوقت لاستجلاب الأصول التي يطبعون عنها هذه الكتب، ثم يتفرغ أحدهم لمقارنة الأصول بعضها ببعض، وإثبات الاختلاف بين النسخ الكثيرة التي تقع لهم، وتحرير ذلك بالحرف والنقط والشكل على ما هو عليه في أصل من الأصول، وأمانتهم في إبقاء المحرف على
تحريفه والخطأ على صورته. . . إلى غير ذلك من الدقة والأمانة في إعطاء القارئ صورة كاملة في نسخة واحدة من الكتاب المطبوع - لعدة نسخ مختلفة متباينة من الأصول المخطوطة. حتى إنهم ليثبتون في (الهامش أو الاستدراك) ما هو خطأ بين لا يصح على وجه من الوجوه، وإنما هو جهل ناسخٍ وإفساد كاتبٍ، ثم لا يعطونك رأياً يرجحون به لفظاً على لفظ. . . وحتى إنهم ليثبتون الخطأ الصرف في صلب الكتاب ويكون صوابه في الاستدراك، وحجتهم في ذلك أنهم يعتمدون أقدم النسخ عندهم، يطبعونها كما هي، وأما اختلاف سائر النسخ فهو من حق المستدرك وإن كان هو الصواب الذي لا صواب غيره
وهذا - على علاته - عمل جيد وأمانة صحيحة. ثم جاءتنا هذه المطبوعات في بلادنا على فترة جهل وإهمال، وعلى زمن كل أصحاب المال الذين ينشرون الكتب فيه، إنما هم عامة لا يعنيهم إلا الربح من طبع الكتب حروفاً قد جمع بعضها إلى بعض على غير نظام ولا تحرير ولا فن؛ فلما قارن بعضنا هذا بهذا ونحن عرب وهم أعاجم لا يعنيهم من عربيتنا ما يجب أن يعنينا - انبثق بثق الفتنة، ومجد الناس همة هؤلاء المستشرقين الأعاجم - وحق لهم - وجعل جماعة ممن لبس عليهم يدفعون القول بعد القول في تعظيمهم والمغالاة فيهم بغير الحق. . . ثم مضى ذلك وانسحب التبجيل على آرائهم في الفكر الإسلامي والتاريخ العربي كما انسحب على أعمالهم في نشر الكتب. . . وأين هذا من ذاك؟
ثم انبثق بثق آخر، فظن بعض المغالين أن المذهب الذي سلكه المستشرقون في التصحيح، هو المذهب لا مذهب غيره، وجعلوا ينعون على من يخالفهم من أصحاب اللسان العربي في طريقة نشر الكتب العربية. ومع ذلك فهم على الحق في بعض ما يقولون، ولكنه ليس كل الحق؛ فإن المستشرقين لم يذهبوا هذا المذهب، ولم يقفوا هذا الموقف من اختلاف النسخ، إلا لعجزهم عن ترجيح بعض الكلام العربي على بعض، وذلك لعلل بينة: أولها جهلهم بالعربية على التمام، فإن تمام العربية هو السليقة التي لا تكتسب، كما أن تمام الإنجليزية والفرنسية هو السليقة والنشأة والاندماج في الوسط الإنجليزي أو الفرنسي من بدء المولد والحضانة؛ والثاني أنه قلما يوجد فيهم المتخصص في فقه علم بعينه حتى يكون حجة فيه، اللهم إلا أن تكون الحجة - عندهم - في جمع نصوص كثيرة في موضوع واحد من كتب شتى، ولكنهم لا يدعون أبداً أنهم أصحاب رأي في البيان والتأويل والترجيح
رسالة الشافعي
ويجب أن نضرب المثل هنا (برسالة الشافعي) التي طبعها العالم الجليل الشيخ أحمد محمد شاكر، فهو طبعها عن أصول مخطوطة ومطبوعة، وأقدمها نسخة منها بخط الربيع بن سليمان تلميذ الشافعي وراوي كتبه؛ فالأستاذ الشيخ شاكر حجة في علم الحديث النبوي، وفقيه متيقن للسنة التي هي أصل من أصول الدين، فلما تناول (الرسالة) يعدها للطبع لم يترك شاردة ولا هائمةً من اللفظ إلا ردها إلى مكانها من عربية الشافعي وأصوله التي في كتبه، وأثبت الاختلاف ورجح بعضه على بعض، وعمل في ذلك عمل العقل المفكر بعد أن ضبط كل اختلاف رآه إلى غير ذلك من أبواب التحرير والضبط. فإذا أنت قرأت الأصل دون التعليق رأيته قد سلم من كل عيب، وصار بياناً كله، بعد أن كان في الطبعة الأولى من (الرسالة) شيئاً مختلفاً يتوقف عليه البصير، فما ظنك بسائر الناس ممن يقرأ وليس له في هذا العلم قديم معرفة أو مشاركة؟ وأنت إذا قارنت هذه الرسالة بأي كتاب من الكتب التي أتقنها أصحابها من ثقات المستشرقين، وجدت الفرق الواضح، وعرفت فضل العربي على الأعجمي في نشر الكتب العربية، إذا هو حمل أصولها على أصول الفقه والدراية والتثبت، ولم تخدعه فتنة برأي لعله غيره أقوم منه وأجود
وأنا أذكر بهذه المناسبة أن الأستاذ قد أرسل إلي في (إبريل سنة 1932) يسألني عن كلمة وردت في حديث من مسند أحمد ابن حنبل، ولم أكن قرأتها قبل ذلك، فكتبت إلى الرافعي رحمه الله أسأله عنها وعرضت له ما رأيت من رأي، فخالفني الرافعي، ثم لم تمض أيام حتى وجدت في الطبري ما يوافق بعض رأيي أو يدل عليه، وأبى الرافعي أيضاً. ثم لم ألبث أن وجدت نصاً بعينه على الذي رأيته، وهذه الكلمة هي في الحديث. . . (رجل قد جرد نفسه، قد (أطنها) على أنه مقتول)، فرأيت أن قراءتها:(أطنها) والهمزة فيها منقلبة عن الواو فهي (وطنها) وكذلك وردت في الطبري، ولكن أصحاب كتب اللغة لم يثبتوا ذلك في كتبهم كما أثبتوا (وكد وأكد، ووثل وأثل) إلى غير ذلك. فأنت ترى أن الطبع والسليقة ربما هدت إلى ما لا يقع إلا بعض طول التنقيب والبحث والتجميع
الذخيرة
وهذا أيضاً كتاب (الذخيرة) فإن الجهد الذي بذل في تصحيحه وضبطه على الأصول المخطوطة التي طبع عنها وبيان اختلاف النسخ، قد أوفى على الغاية، وقل من المستشرقين من يستطيع أن ينفذ إلى إجادة مثله في التحرير، ومع ذلك فقد وقع فيه بعض ما كان يمكن تجنبه، لولا أن الأساتذة المصححين قد تهاونوا في تحطيم أسلوب المستشرقين الأعاجم، في التوقف الذي لا معنى له عند العربي، ونضيف إلى هذا علة أخرى، هي أنهم ليسوا ممن تخصص لشيء بعينه من تاريخ الأندلس وأدبه، فكذلك بقى بعض الخطأ كما هو، وأثبت على ذلك وليس له أي معنى. وترك مثل ذلك للقارئ مما لا يصح ولا يستحسن، ولنضرب لذلك مثلاً أو مثلين: ففي ص82 (. . . دبروا جميعاً عليه فقتلوه ليلاً. . .) وفي نسخة أخرى (بدروا)؛ وكلا الحرفين لا معنى له في الجملة، والصواب عندي أن يكون (اندرأوا عليه. . .) أي هجموا عليه واندفعوا، ومن قرأ النص عرف أن هذا هو حق السياق، وكذلك في ص110 (وفارس ميدان البيان، وذات صدر الزمان) وفي نسخة (وأذات) وكلاهما ليس له معنى، وهو محرف عن (ودرة) أو أي شيء يكون حلياً للصدر. . . ونحن لا نتتبع وإنما نقلب بعض أوراقه الآن على غير ترتيب، ومع ذلك فهو أجود بكثير من أغلب كتب المستشرقين
هذا. . .، وليس كل المستشرقين ممن يصح الاعتماد عليهم في كل شيء، فقد طبعوا كثيراً من الكتب. . .، وأقل كتاب وأردأه مما يطبع في مصر هو خير من مثل هذه الكتب. فلو أخذت مثلاً (كتاب الزهرة) لابن داود الظاهري، الذي طبعه الأستاذ (لويس نيكل) بمساعدة الأخ (إبراهيم طوقان) لوجدت أكثره خطأً، بعد الذي بذله الأستاذ طوقان في الاستدراك عليه. . . ولو شئنا أن نضرب المثال بعد المثال على ذلك لضاق المكان عن إتمام ذلك
مباحثهم
أما مباحث المستشرقين فهذه هي موضوع الإشكال كله، والمستشرقون - كما لا يشك أحد - ثلاث فئات: فئة المتعصبين الذين تعلموا العربية في الكنائس لخدمة التبشير، وهم الأصل، لأن الاستشراق في أوله كان قد نشأ هنالك بين رجال الدين. .؛ وفئة المستشرقين الذي يخدمون السياسة الاستعمارية في الشرق العربي، وفئة العلماء الذين يظن أنهم تجردوا
من الغرضين جميعاً. . . فأما الفئة الأولى والثانية فما نظن أكثر أقوالهم في المباحث الإسلامية إلا جانحاً إلى غرض أو مركوساً بقوله إليه، وهم أكثرية المستشرقين، ولا نظن أن كلام هؤلاء مما يمكن أن يعتمده أحد إلا أن يكون مفتوناً جاهلاً. وأما الفئة الثالثة، فهي أيضاً موضع الإشكال؛ فمن غير الممكن فيما نظن أن يتجرد هؤلاء عن الغرض الخفي الذي يدب من وراء الكلام؛ هذا على أنهم كما قدمنا ليسوا أصحاب سليقةٍ في فهم النصوص العربية على التحري لموضوعها، وتمام الفقه لمعانيها التي يتعاطونها؛ وإذن فمن واجب قارئ كلامهم أن يقف عند آرائهم موقف الناقد الذي لا يقبل إلا ما تقبله الطبيعة الفطرية للغة في المعاني التي يستخرجونها من الكلام. ومع ذلك أيضاً فمن عيوب هذه الفئة أنهم ربما استخرجوا قولاً ضعيفاً فاسداً ليس بشيء في تاريخ الإسلام والعربية، ثم يكتبون وقد اتخذوا هذا القول أصلاً ثم يجرون عليه سائر الأقوال ويؤولونها إليه، ثم يحشدون لذلك شبهاً كثيرة مما يقع في تاريخ مهمل لم يمحص كالتاريخ الإسلامي، وكذلك يلبسون على من لا يعلم تلبيساً محكما لأنه حشد وجمع، وتغرير بالجمع والاستقصاء الذي يزعمون. وسنتناول ذلك بعد قليل بعرض بعض الآراء التي ترجمها لنا الأستاذ بدوي في كتابه لنحقق كل ذلك إلى نهايته، حرصاً على أن نحصر الفساد في أضيق محيط
العقاد
وأنا لا أحب أن أختم هذا الحديث بغير مثل أيضاً. فهذا الأستاذ (العقاد)، وكلنا يعلم أنه قلما كان يتناول الأغراض الإسلامية بالتحرير والبحث، ولكن منذ العدد الهجري للرسالة كتب مقالة عن عبقرية محمد صلى الله عليه وسلم العسكرية، ثم عن عبقريته السياسية، فاستوفى القول في ذلك وأشبعه، ورد كثيراً من الشبه التي كان يلبس بها الأعاجم على الأغرار من شبابنا: وليس يستطيع مستشرق أن ينفذ في فهم التاريخ العربي، والاجتماع الإسلامي، والفلسفة الإسلامية، كما يستطيع كاتب قارئ مطلع كالأستاذ العقاد. ثم هو فوق ذلك أديب عربي يستطيع أن يجعل فطرته العربية الأدبية عوناً له على التغلغل في أسرار تاريخية مطموسة، لا يطيقها المستشرق بفقدانه مثل هذه الفطرة؛ ثم لأن البيئة العلمية والاجتماعية التي نشأ فيها وتثقف على أساسها لا تطاوعه أو تلين معه، حتى يكون في نظره إلى التاريخ العربي أو الفلسفة الإسلامية، خراجاً ولاجاً على طبيعة العرب وطريقتهم في تداول
معاني حياتهم، وحياة أفكارهم وفلسفتهم. ونحن نرجو ألا يخلي الأستاذ العقاد مباحثه من هذا النوع الجديد من الفكر في تاريخ تنقذف عليه كل يوم جهالات كثيرة مفسدة ليس لها أصل ولا بها قوة.
محمود محمد شاكر
رسالة الفن
تأملات في الفن:
نبئيني غداً بما تسمعين
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- لست أدري لماذا تحب أن تسمع موريس شفالييه وهو يغني بالإنجليزية، مع أنه إذا غنى بالفرنسية كان أبدع
- من غير شك يكون أبدع، ولكني أسمعه يغني بالإنجليزية لكي أضحك لا لكي أطرب؛ فهو ينطق الإنجليزية بلكنة فرنسية فيزيد هذا الشذوذ تهريجه حلاوة وخفة
- وهل موريس شفالييه مهرج؟
- وأي شيء هو غير هذا؟ إنما هو مستساغ ومحبوب لأن تهريجه في طبعه، فلو لم يكن شفالييه مهرجاً محترفاً يربح من تهريجه المال الوفير، لكان مهرجاً في أي عمل يعمله وأينما كان وكيفما كان
- ليت عندنا مهرجين مثله
- وهل عندنا غيرهم. . . ولكن الذين لا يحترفون التهريج ويدعون الوتار ويصطنعون والتعالي عن سفاسف الأمور
- مثل من؟
- دعينا من هذا، فأهلنا هنا في مصر يوجعهم الحق. بنا إلى موريس شفالييه واذكري له حسنة أخرى إلى ما ذكر من حسنة التهريج الصريح
- خفة روحه
- إنها مع تهريجه وفي خلاله، بل إنه منها وبها. نريد له حسنة أخرى لا صلة لها بالتهريج. . .
- مثل ماذا؟
- مثل لكنته هذه. أليست تدل على شيء طيب في نفسه أليست تشهد بأن موريس شفالييه قوي الشخصية، ومن قوي شخصيته هذه القوة الفرنسية التي لم تخذلها رغبته في الربح
وطعمه في الدولار الأمريكاني الرنة الإنجليزي اللغة. . . إني أرى في شفالييه هذه الحسنة
- ولكني أرى هذه سيئة لا حسنة. فالممثل هو الطيع النفس الذي يستطيع أن يتشكل بسهولة لا الجامد النفس الذي يستعصي عليه التلون
- هذا حق. وإني أعتقد أن موريس شفالييه إذا مثل شخصية إنجليزية معينة فإنه سيكون في تمثيله هذا أقرب إلى سلامة (التجنلز) منه وهو يمثل شخصيات غير محدودة لا ينطق الإنجليزية بلسانها بضرورة فنية، وإنما لضرورة تجارية ألزمته إياها شركات السينما الأمريكية. . . ولو لم تكن الأدوار التي يخرجها موريس شفالييه كلها تهريج ومرح ومجون وفكاهة لا تجب معها المؤاخذة على سلامة كيانها الفني لفشل موريس شفالييه ولعاد إلى التمثيل بلغته الفرنسية كما عاد إميل جاننجز إلى التمثيل بلغته الألمانية على ما تكبد في ذلك من خسارة مادية هائلة، إذ كانت أمريكا تعتبره ممثل الدنيا الأول
- أو إلى هذا الحد يصعب على الإنسان أن يمثل بلغة غير لغته؟
- إذا كانت لغته متغلغلة في نفسه قابضة على زمام روحه
- وكيف يكون هذا وكيف لا يكون؟
- اللغة هي لسان فريق من الناس يقال لهم شعب، لأنهم تشعبوا من أصل البشرية إلى اتجاه إنساني خاص يستدعي سلوكه مميزات نفسية خاصة. وهذه المميزات يظهر بعضها في التفكير، ويظهر بعضها في الذوق، ويظهر بعضها في الأفعال والحركات، ويظهر بعضها في اللغة وفي طريقة إلقاء هذه اللغة. وكلما تأصلت هذه المميزات في نفوس الشعب وضحت آثارها في المظاهر التي ذكرناها، وليس هذا الوضوح إلا دليلاً على تمكن هذه المظاهر من تلك النفوس، وشدة ارتباطها بها، فإذا أكرم شعب من الشعوب أفراده تأصلت في أفراده مظاهره حتى لتكون هي الطابع الذي يطبعهم، وإنهم لينمون هذا مدفوعين إليه بالذي يشعرون به من الاعتزاز بانتسابهم إلى أنفسهم، وهم لا يشعرون بهذا إلا إذا كانوا عل خير، وإذا كانوا بهذا الخير راضين. وليس هناك شك في أ، موريس شفالييه يعتز بانتسابه إلى فرنسا، كما أنه ليس هناك شك في أن إميل جاننجز يعتز بانتسابه إلى ألمانيا، كما أنه ليس هناك شك في أن شارلي شابلن يعتز بانتسابه إلى العبرية، أما موريس فإنه رأى الناس لا يطلبون منه إلا أن يضحكهم وأن، يمازحهم، فلم يعبأ بأي لسان يتحدث إليهم
ويغنيهم، فهو ينطق أحياناً بالفرنسية وأحياناً بالإنجليزية، ولو كفل له استديو مصر حاجته من المال لمثل بالعربية ولم يجد مانعاً من ذلك ما دام غرضه وغرض الناس منه هو العبث، وأما شارلي شابلن فإنه يمثل من غير أن يتكلم لأنه لا يهرج، وإن كان يضحك الناس على أنفسهم، ولأنه يريد أن يحسه الناس جميعاً مجرداً من كل بلبلة مما فرق البشرية وشعبها، وقد كان شارلي يستطيع أن يمثل بالإنجليزية وهو مولود عليها، ولكنه يشعر بالحق فيما بينه وبين نفسه أنها لغة طارئة على تكوينه غريبة على نفسه ذات المميزات العبرية الشرقية التي أنعم الله بها على بني إسرائيل، وهذا الشعور مع رغبته في الشيوع مع النفوس المختلفة هما اللذان يلزمانه التمثيل الصامت وإلا فقد كان يمثل بالإنجليزية وهي لغة جمهور السينما
- أو العبرية وهي لغته
- ولكن أهلها قليلون جداً وحرام أن يخصهم شارلي وحدهم بفنه مثلما خص إميل جاننجز أهله الألمان وحدهم بفنه بينما كان الواجب الإنساني عليه أن يظل في أمريكا يمثل صامتاً مثلما يفعل شارلي، وقد كان ينجح كل النجاح ويوفق كل التوفيق فهو في الممثلين آية. أذكر أني رأيته مرة في فيلم يبكي بضلوع ظهره بكاء أبكاني وأبكى كثيرين معي، وليس كل ممثل بقادر على هذا
- فما الذي منعه؟
- لست أدري، وإن كنت أظن أن إميل لو كان صاحب ثروة مدخرة لبقى في أمريكا وفعل الذي يفعله شارلي ولما اضطره الفقر إلى أن يقف موقف الاختيار بين ما يريده الأمريكان من التمثيل الناطق، وما يريده الألمان من النطق بالألمانية وحدها
- إذن فلو كان إميل غنياً لكان قد تخلص من ألمانيته، فالألمانية إذن ليست متغلغلة فيه كما تدعي، وما دام الأمر كذلك فقد كان يمكنه أن يظل في أمريكا وأن يمثل بالإنجليزية
- لا. إن الألمانية متغلغلة فيه، فلا أحد ينكر أن الألمان من الشعوب الذين يعتزون بأنفسهم، بل الذين يصل بهم اعتزازهم بأنفسهم إلى أن يصبح صلفاً وتكبراً مذمومين، وكل الذي كان يستطيعه إميل مع هذه الألمانية المتمكنة فيه من ألوان الكفاح هو سترها بالصمت، ولكنه لم يكن ليقوى على أن يسترها إذا نطق فبأي لسان نطق ظهرت ألمانيته، وظهر فيها صلفه
وكبرياؤه وغروره، والصلف والكبرياء والغرور من الصفات التي يراها البشر عامة شذوذاً وانحرافاً عن الفطرة الإنسانية السهلة السمحاء وليس يقبل فريق من الناس أن يكون الإنسان ذا صلف وكبرياء وغرور إلا الألمان، لأنهم كلهم هكذا أصحاب صلف وكبرياء وغرور، فمجتمعهم مملوء بهذه الصفات حتى إنهم لم يعودوا يرون فيها غرابة ولا شذوذاً ولا عيباً، وقد يقبل الناس من غير الألمان أن يروا إميل جاننجز في دور تمثيلي فيه صلف وغرور وكبرياء، ولكنهم لن يقبلوه في هذا الدور بهذه الصفات إلا إذا كانت هذه الصفات مما يستدعيه الدور، كأن يكون دور قائد من المحاربين المغامرين المفتونين، أو حاكم من الحكام المستبدين المغرورين، أما إذا لم يستدع هذا الدور هذه الصفات وظهرت هذه الصفات في لهجة إميل جاننجز وإلقائه للإنجليزية أو الفرنسية فإن الناس سيضحكون عليه من غير شك لأنها صفات غريبة على الدور خارجة عن طبيعته. . . أولا تضحكين أنت من المتكبر المغرور إذا لم يكن له جاه يبرر - ولو للعرف - كبرياءه وغروره؟. . . لهذا عجز إميل جاننجز عن التمثيل بالإنجليزية
- وهؤلاء الممثلون جميعاً الذين يمثلون في هوليوود باللغة الإنجليزية وهم من شعوب مختلفة ولهم ألسنة مختلفة، ألا يراعون هذا الذي يراعيه إميل جاننجز وشارلي شابلن وموريس شفالييه؟
- أما شفالييه، فهو لا يراعي شيئاً كما قلت لك، واللذان يراعيان هما شارلي شابلن وإميل جاننجز، فهما من عشاق الكمال الفني، وقد تركزت في كل منهما خصائص قومه، فهو في فنه يمثل شعبه في حياته، فهذا شارلي ضاقت العبرية به، فصمت وانتشر بصمته في الأرض، كما ضاقت الأرض المقدسة عن بني إسرائيل، فصمتوا عنها وانتشروا في الأرض، وهذا إميل جاننجز ضاقت به الألمانية، فتشبث بها وانحصر في حدود بلاده يجتر كبرياءه وصلفه وغروره كما ضاقت ألمانيا نفسها بأبنائها فلم يصمتوا عن صلفهم وكبريائهم وغرورهم، وإنما انحصروا في أرضهم يأكلون صراخاً وزعيقاً وصخباً وجلبة. ولو كانوا على شيء من الحكمة، لنزلوا عن شيء من صفاتهم هذه، ولكانوا كالإنجليز معتدين بأنفسهم ولا غرور، أو كانوا كالمسلمين معتمدين على الله ساعين في أرضه الواسعة بالحق والسلام والصبر في البأساء ويوم البأس. . . كم أريد أن أسمع صوتاً مسلماً: في حديث أو غناء أو
ترتيل أو تمثيل لحال أو موعظة تلقى. . . ولكن أين نحن من هذا. . . إنه لن يكون إلا إذا أسلم كاتب من الكتاب، فاهتدى إلى موضوع مسلم، فكتبه، فعهد به إلى مخرج مسلم، فسلمه إلى ممثلين مسلمين وملحنين مسلمين ومغنين مسلمين، فعندئذ فقط نسمع الصوت المسلم. . .
- وهذه الأصوات التي تسمعها؟ ألا يشبعك منها ولا صوت جورج أبيض؟. . .
- فيه رنة لذيذة كرنة الذهب، ولكن فيه أيضاً عجمة غريبة تشربها في فرنسا حيث تعلم التمثيل، وإنه في هذا يشبه الدكتور طه حسين بك في إلقائه، فهو ينطق الحروف العربية سلة مسلمة نقية مجودة، ولكنه إلى هذا يموج صوته في إلقائه تمويجاً فرنسياً فيه التلطف، وفيه القصد إلى التأثير، وفيه التأنق في الاسترسال والتأنق في الوقف، وهذا شأن مستشرق فرنسي تعلم العربية فأجادها، وليس شأن عربي يتكلم. والدكتور طه معذور في هذا فقد تعلم في مصر ولكنه تربى في فرنسا وقد اختار أن يتفرنس ثم يستشرق لأنه رأي المستشرقين الفرنسيين أرقى علماً وأخصب حالاً من المصريين ومن العرب، وأنا مؤمن بأن الدكتور طه لو كان قد احتك بمثل إنساني حي أعلى منه ومحبب لديه من المسلمين أو المصريين أو العرب لكان قد مكن لغته العربية من نفسه على مثال تمكنها من نفس ذلك المثل الذي لم يره فلم يجد بداً من أن يبحث عنه بين المستشرقين، كما تعلم الأستاذ جورج أبيض التمثيل على يد أستاذ فرنسي فطوع له نفسه حتى تترجمت إلى نفس فرنسية تلقى العربية برنة فرنسية هي صدى لأسلوب الإحساس الفرنسي الذي دربه عليه أستاذه. . .
- وهل للإحساس أساليب؟
- من غير شك. تصيب المسلم المصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ويقبل على الحياة مجاهداً وهو يقول: لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، والمؤمنون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وتصيب الكافر المصيبة فيهلع لها ويتخبط من جزعه في أرجائها فلا يخرج منها - إن خرج - إلا منهوكا زادته المحنة كفراً وبعداً عن الله واستغرقاً على نفسه، له أسلوبه في الحس وللمسلم أسلوبه، وأسلوب الكافر ظاهر في لهجته وكلامه، فهو نضطرب حائر يلفظ الكلمة يكاد يخفيها أو يأكلها خشية أ، تفضح ما في نفسه، فإذا أفصح انفضح اضطرابه وهلعه وجزعه، وأسلوب المسلم ظاهر في لهجته وكلامه، فهو مطمئن هادئ مستبشر واثق
من رحمة ربه. . . ولكل شعب من الشعوب أسلوب في الحس ومختار من الإحساس يحبه ويغذيه من نفسه وينميه فيها فيظهر في لهجته وكلامه. فالألمان يعتقدون أنهم أقوى ما في الدنيا ولذلك فإنهم يقبلون على الدنيا بهذا الإحساس يتحدون كل قواها مقعقعين بلغتهم وكلامهم كأنهم المدافع، والفرنسيون يعتقدون أنهم أجمل ما في الدنيا وأشد ما فيها عصفاً وهم لهذا يقبلون على الحياة مدللين متأنقين متلطفين مغرين الناس بأنفسهم قد أرهفوا انتباههم إلى مسة تخدشهم فما تخدشهم حتى يثوروا فما يسترضون حتى يرضوا. . . طبيعة الجميل المدلل الأنيق المتلطف؛ وكل هذا باد في لغتهم ومطاتها الرشيقة ووقفاتهم الأنيقة كما يبدو في عواصف إلقائهم وزوابعه إذا هم غضبوا. . . وأهل لبنان في إلقائهم للعربية بداوتهم الباقية وعنجهيتها الفخور. . . وأهل المغرب في سرعة إلقائهم ومضغ الحروف و (كركبة) الألفاظ بعضها فوق بعض لا يزالون في الهلع الذي أصابهم منذ أريحوا عن الأندلس بما كانوا يلهون فيها. . .
- وأهل مصر؟
- تسمعيهم أنت. . . ونبئيني غداً بما تسمعين
عزيز أحمد فهمي
رسالة العلم
تضارب في الرأي يؤدي إلى كشف خطير
للدكتور محمد محمود غالي
الفكرة الموجية والفكرة الحديثة - لماذا تمذهب العلماء بالفكرة
الحديثة أو الموجية - ظاهرة التداخل الضوئي والاستقطاب
فيم كان التضارب؟ وفي أي المناحي ظهرت أزمة علمية؟ لقد كان في أهم مرحلة من المراحل العلمية التي تتصل بفهمنا للكون ورؤيتنا له، للقارئ بيان ذلك
حاولنا أن نرجع الكون في مجموعه إلى ظواهر أربع: الكهرباء والمادة والإشعاع والطاقة. وحاولنا أن نرجع كل هذه الظواهر إلى ست وحدات أصلية، وذكرنا أن ظاهرة الإشعاع ترجع إلى ذرة ضوئية يسمونها الفوتون، والواقع أن ظاهرة الإشعاع تتكون من الفوتون ومن موجة مستصحبة له، وذكرنا أن هذه الذرة الضوئية تسافر بسرعة عظيمة تبلغ حوالي ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية. ولا نتوسع اليوم مع القارئ في شرح الطرق التجريبية المختلفة التي توصل بها العلماء لقياس سرعة الفوتون الذي لا يمكن أن نعثر عليه إلا وهو في حالة حركة سريعة بالنسبة للمادة، ولكنا نستعرض مناحي التفكير في فهم الظاهرة الضوئية، والوسط الذي ينتقل فيه الضوء، والكيفية التي تصور بها الباحثون هذا الوسط الذي يتصل في أساسه بالكون وبالوجود والحالة التي اضطر لها العلماء في تعديل تصورهم والاتجاهات العلمية التي تناولت هذا التعديل، وبهذا نستعرض موضوعاً تضاربت فيه الآراء، وأزمة كانت من أشد الأزمات العلمية، أزمة لم تنته إلا بتطور علمي جديد، عدل تصوراتنا عن الكون وهذب طريقتنا لمعرفته
ولا عجب في ظاهرة ترجع في تكوينها وفي معرفتنا لها إلى ظروف معقدة يجعل بنا أن نذكرها، فالضوء الذي ترسله إلينا الشمس مثلاً أو المصباح يصل لنا في الحيز من أجسام مادية، لا نعرف على وجه التدقيق ما حدث فيها من عمليات يصل أثرها إلى حاسة من أهم حواسنا هي البصر نعرف به صور الأشياء بالمظهر ذاته الذي يراه كل من وهب هذه العيون
كذلك عندما يتلقن الطفل أن هذا اللون هو اللون الأحمر وذاك هو الأخضر، فإنه بعد المران يعرف دائماً الأحمر من الأخضر، ولا يحدث خلاف بين بني الإنسان في تمييز لون معين من بين الألوان، فثمة اتفاق عام على أن هذا أحمر وذاك أخضر، تلك مسألة نقررها بتجاربنا اليومية، ولكنها تجارب بدائية تقف في حد ذاتها عن الكشف عن طبيعة الظاهرة التي تجعلنا جميعاً نتفق في هذا التعيين
وقد يكون غريباً على القارئ أن نقول له إن الضوء عملية موجية، وإن اللون يترجم عدداً من الذبذبات في الزمن، وإنه إنما يميز الأحمر من الأخضر، لأن ثمة عدداً من الذبذبات في الثانية أثرت على العين ليرى اللون الأحمر. وثمة عدد آخر من الذبذبات يختلف عن العدد الأول وصل إلى العين ليرى اللون الأخضر، ذلك أن القارئ لا يرى هذه الذبذبات، وليس في تجاربه اليومية ما يؤيدها، ولكنا نطالبه أن يتبعنا قليلاً ليرى معنا ماذا تكنه هذه الظاهرة العجيبة التي عرف عندها الأشياء بصورها واستوعب الألوان بحالتها
أول معارفنا عن الضوء ترجع لملاحظة الظواهر العادية التي تتصل بما يسمونه الضوء الهندسي يبين مسيرات الأشعة الضوئية. كلنا يعرف أن الضوء يسير في خط مستقيم ما دامت المادة التي يسير فيها لا تتغير، ويعرف أن الأشعة تنكسر عند انتقالها من مادة إلى أخرى، وما السراب إلا ظاهرة حادثة من انكسار الضوء في الهواء الذي يتكون منه في الواقع طبقات تختلف كثافتها لاختلاف درجة حرارتها وقد عرف نيوتن ظاهرة انكسار الضوء في الزجاج، ودرس من ذلك ظاهرة تحليل الضوء الأبيض إلى الألوان المعروفة، وبذلك عرف أ، الضوء الأبيض الذي يصلنا من الشمس خليط من أشعة مختلفة ألوانها وقد أثبت ذلك بأن جعل الضوء يمر في منشور زجاجي فيتحلل إلى الألوان المعروفة: الأحمر، والبرتقالي، والأصفر، والأخضر، والأزرق، والأرجواني، والبنفسجي، وهي ظاهرة الطيف التي نشاهدها أيضاً في قوس قزح حيث تلعب كرات الماء المنتشرة في الفضاء دور المنشور فيتحلل الضوء عند اختراقها إلى ألوانه السبعة
ويرى القارئ في الشكل (1) تحليل الضوء بواسطة المنشور، ويرى المنطقة التي يكون فيها اللون الأحمر واللون البنفسجي، كما يرى المنطقة التي تكون فيها الأشعة تحت الحمراء وفوق البنفسجية
ولو أننا وضعنا - كما فعل نيوتن - أمام الأشعة المبعثرة عدسة فإن هذه الأشعة تتجمع مرة أخرى بعد خروجها من العدسة وتكون الضوء الأبيض من جديد
ولقد كان الانكسار في الضوء الأساس في اختراع كل الأجهزة الضوئية: كالمنظار الفلكي (التلسكوب) والمجهر (الميكروسكوب) والجهاز الفوتوغرافي. بهذه الأجهزة جال الإنسان بنظره وفكره من العوالم البعيدة إلى الدقائق التي لا تراها العين، واستطاع أن يحتفظ بصورة الأشياء والحوادث، اجتماعية كانت أم علمية؛ وهكذا بتعديل في شكل الزجاج خرجت صناعة هامة هي صناعة العدسات، واقترنت هذه بأعمال الإنسان حتى بات فريق كبير يحملها على العيون ليرى للعالم صورة أوضح من التي تسمح له بها حواسه، وكان ذلك امتداداً عجيباً لوظيفة العين البشرية، امتداداً لحياتنا البيولوجية
لم تكن هذه الظواهر: من مسار الضوء في خط مستقيم، وانكساره عند اختراقه المواد، وتحليله إلى ألوان مختلفة - بكافية لنتعرف حقيقة الضوء؛ وكان على الباحثين لمعرفة ذلك أن يدرسوا خواصه دراسة وافية، وهذا ما عكف عليه العلماء الذين ذهب التفكير بهم إلى افتراض احتمالين:
الأول أن يكون الضوء مكوناً من جسيمات صلبة مقذوفة في الحيز
والثاني أن يكون الضوء حادثة وقعت على جسيمات أخرى مادية، وليس هو الجسيمات بذاتها، وفي الحالة الثانية يكون الكون بأسره مملوءاً بهذه المادة التي سموها الأثير وهذه المادة لا نراها بالذات إنما نرى ما يحدث فيها من تعديل أو تموجات، وظل الرأيان يتناوبان المكان الأول عند العلماء الذين اعتقدوا أولاً في الفكرة الشيئية (أي الجسيمية) ثم اعتقدوا ثانياً في الفكرة الحدثية (أي الموجية)، ولأسباب سنذكرها هنا انتصرت الفكرة الأخيرة عهداً طويلاً، وظلت النظرية الصحيحة إلى أن حولت النظريات الحديثة ونظرية الكم مرة أخرى العقائد نحو الفكرة الأولى
أما النظرية الشيئية فقد أسسها نيوتن أن الضوء مكون من جسيمات صلبة صغيرة مقذوفة في خط مستقيم في الفضاء، وكان لما يتكون من ظل لأي جسم موضوع أمام منبع ضوئي دليل عند نيوتن على ما احتجزه الجسم من هذه الكرات التي حال الجسم دون مرورها
أما النظرية الحديثة، فقد أسسها الرياضي الهولاندي ويجانز في المبدأ على اعتبارات
نظرية وحسابات قام بها هذا العالم، وكان لابد من أسباب علمية هامة لكي يهجر العلماء نظرية نيوتن الجسيمية ما لمؤسسها من مكانة ليتمذهبوا بالمذهب الجديد.
على أننا نلخص المهم من هذه الأسباب التي خرج بها علينا العلم التجريبي:
السبب الأول كان في ظاهرة يسمونها (التداخل الضوئي) والسبب الثاني كان في ظاهرة يسمونها الاستقطاب وللقارئ نوجز الظاهرتين:
عندما يقع شعاع على جسم يضيئه شعاع آخر، فإنه من البديهي أن يزداد توهج الجسم بهذا الشعاع الثاني، وهي نتيجة حتمية لنظرية (نيوتن) التي تقول بازدياد عدد الجسيمات الضوئية الواقعة على الجسم، وبرغم هذه الحقيقة التي نشاهدها في تجاربنا العادية توصل العلماء إلى تجارب من نوع معين يتبين منها أن هذه الإضافة لشعاعين من الضوء ينتج عنها ظلمة حالكة بدل أن ينتج عنها زيادة في الضوء
وقد كشف هذه الظاهرة الطبيب والطبيعي المعروف توماس يونج وتتلخص تجربته في أنه وضع حاجزاً به ثقبان أمام منبع ضوئي وشاهد على حاجز آخر موضوع خلف الأول سلسلة من الخطوط المضيئة والمظلمة المتجاورة، ذلك أن هذا الحاجز يضاء بما ينبعث من ضوء خلال الثقبين، وفي الشكل (2) يرى القارئ صورة لهذه الظاهرة التي لا يمكن تفسيرها بنظرية (نيوتن) ويمكن تفسيرها بالوسائل الرياضية إذا اعتبرنا الضوء ظاهرة موجية، ذلك لأن موجتين متضادتين وحادثتين في مكان واحد تمحو إحداهما أثر الأخرى، ويظهر ذلك في هذه الخطوط السوداء التي رغم تعرضها للمنبعين لا يظهر عليها أثر للضوء. وليس المجال هنا لنذكر التجارب المختلفة التي وفق فيها العلماء لرؤية هذه الظاهرة، ولابد أن يكون قد رآها كل من أتيحت له فرصة عمل تجارب في إحدى كليات العلوم، مثل التجارب المعروفة باسم حلقات (نيوتن) أو (مرآة فرنل) وغيرها. كذلك لا ندخل في تفصيل التطبيقات العديدة التي استخدمت فيها ظاهرة التداخل لكل مهندس تتاح له الفرصة في معرفة ما تقدمه العلوم الطبيعية من تطبيقات مفيدة يعلم أنه يستطيع أن يعرف درجة تمدد أو ضغط إحدى الأعتاب الحاملة للجسور الحديدية بواسطة أجهزة ضوئية تستند إلى ظاهرة التداخل الضوئي، كما يعرف أنه من السهل الآن تعيين سمك لوحة رفيعة أو دراسة ما على سطحها من تعاريج أو حركة بالالتجاء إلى أمواج الضوء، واستخدام ظاهرة
التداخل في القيام بما يصعب قياسه بالطرق العادية
أما الظاهرة الثانية فهي ظاهرة الاستقطاب التي تفرغ لدراستها أيضاً المهندس والعالم (فرنل) ونشرحها هنا في كلمتين:
ثمة نوعان من الأمواج في الظواهر الطبيعية المختلفة، أمواج طويلة حيث تتذبذب الجسيمات في اتجاه سير الموجة، وأمواج مستعرضة حيث تتذبذب الجسيمات في اتجاه عمودي على سير الموجة. وأظهر مثال للأخيرة تلك الأمواج التي نشاهدها على سطح المياه حيث يرتفع الماء ويهبط في مكانه عموديا على الاتجاه الظاهري لمسار الموج دون أن يتحرك الماء من مكانه نحو هذا الاتجاه، ولقد أثبت (فرنل) أن الضوء ظاهرة موجية من النوع الأخير فهي كموجة الماء تتذبذب في اتجاه عمودي على مسار الموجة، ولا تختلف عنها إلا في أنها مع مرور الوقت تدور هذه الذبذبة في المستوى العمودي الذي تتذبذب فيه، وقد لاحظ (فرنل) أن الضوء عندما يخترق نوعاً من البلور فإنه يتذبذب عمودياً كما كان قبل اختراقه البلورة، ولكن الذبذبة تتخذ صفة جديدة، ذلك أنها تتذبذب في اتجاه واحد، ويسمى هذا الشعاع مستقطباً وقد بين (فرنل) أن ظاهرة التداخل لا تحدث بين شعاعين من هذا النوع إلا إذا كانا مستقطبين في اتجاه واحد. وظلت فكرة (فرنل) التي تتلخص في أن الضوء ظاهرة موجية مستعرضة تستلزم وجود مادة أثيرية لحدوث هذه الموجات فكرة غير مقبولة من العلماء الذين لم يؤمنوا بوجود مثل هذه المادة في الكون، وهي المادة التي لجأ إليها كل من (فرنل) و (ويجانز) لتفسير ظاهرتي التداخل والاستقطاب التي صعب تفسيرها بنظرية (نيوتن) الجسمية، وظل الأثير وسطاً يتطلب الدراسة
وهكذا لم يكن من المستطاع التعرف على الضوء كحالة موجية دون أن يكون هناك هذه المادة الأثيرية التي تملأ الكون، وكان شأن الأثير من الضوء شأن الماء في بحيرة سقط فيها حجر، وإلا فكيف تصل لنا آثار الحجر إذا لم يوجد الماء، وكيف تصل لنا هذه الدوائر على سطح البحيرة تتسع رويداً رويداً حتى تبلغ الشاطئ إذا خلت البحيرة مما يحمل هذه الدوائر، ومع ذلك ظل الأثير فرضاً لا نعرف عن خواصه شيئاً، ولكل ما نعرفه أنه مادة خفيفة شبيهة بالغازات، لا نستطيع تفريغها مهما كانت أجهزتنا قوية، فهو يملأ المصباح الكهربائي مهما كان مفرغاً، وبواسطته يمر الضوء من السلك المعدني إلى الغلاف الزجاجي
وإلى ما وراء هذا الغلاف
ولقد صادفت فكرة (فرنل) عن الموجات الضوئية ووصفها بأنها مستعرضة عقبة جديدة، ذلك أن الأثير باعتباره مادة شبيهة بالغازات لا يقبل غير الموجات الطويلة، وقد استمسك (فرنل) برأيه في أن الضوء أمواج مستعرضة حتى أنه، عندما تشبث (بواسون) التموجات الطويلة هي وحدها الكائنة في الأجسام الغازية، لم يسع (فرنل) إلا أن يطلب من هذا العالم أن يصحح رأيه في خصوص الأثير الذي قد يكون له خواص الأجسام الصلبة، ويقول (ريشنباخ) تصميم (فرنل) هذا كان سبباً لكي يمتنع زميله (أراجو) أن يوقع معه النشرة العلمية النهائية الخاصة بهذا الموضوع. وفي القرن التاسع عشر عكف العلماء على القيام بتجارب عديدة يتبنون منها وجود هذا الأثير ويتعرفون بها على شيء من خواصه، وتساءل بعضهم ماذا يحدث في الأثير عندما يتحرك جسم فيه؟ ثمة احتمالات ثلاثة:
الأول أن يحمل الجسم معه الأثير بأسره المحبوس بين جزيئات الجسم. والثاني أن للأثير مرونة عظيمة تسمح أن يمر الجسم فيه دون أي احتكاك ظاهر
والثالث أن يكون للأثير حالة متوسطة، أي أنه يشترك جزئياً مع حركة الجسم، وهو رأي مال إليه (فرنل) وعززه بحسابات أراد منها أن يعرف درجة اشتراك الأثير في مثل هذه الحركة
وقد عمد فيزو لتحقيق ما ذهب إليه فرنل، وفي تجربة معروفة أرسل شعاعاً في أنبوبة مملوءة بالماء الجاري كما أرسل في الأنبوبة ذاتها شعاعاً آخر في الاتجاه المضاد، بحيث يسير مع الماء أحد الشعاعين ويسير بعكسه الشعاع الآخر، وباعتبار أن المادة الحاملة للضوء هي الأثير وأن هذا، وفق النظرية المتقدمة، يتحرك مع الماء بعض الشيء؛ فإنه يجب أن تختلف السرعة لشعاعي الضوء في الحالتين. وباللجوء إلى طريقة دقيقة استخدم (فيزو) فيها لقياس السرعة ظاهرة التداخل الضوئي استطاع أن يقيس الفرق بين السرعتين، فأيدت صحة هذه التجربة فكرة (فرنل) عن وجود الأثير وعن معرفة شيء عن حركته
على أن تجربة أخرى تعد في نظري من أهم التجارب التي أحدثت انقلاباً في التفكير الحديث قام بها العالم المعروف (البرت في سنة 1881، وكان لها أثر في عقيدة العلماء
فيما يخص الأثير، هذا الوسط الوهمي، وسيرى القارئ كيف سببت تجربة ميكلسون تضارباً في الرأي وأحدثت أزمة علمية عصيبة، وماذا كان أثرها على التفكير الحديث في فهم الكون.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة
القصص
عفراء الغجرية
للأستاذ محمود الخفيف
كان على صهوة مهره الجميل ذات صباح من إصباح بشنس البهيجة في طريقه إلى حقل من حقول أسرته المترامية البعيدة، وقد برزت الشمس من وراء كلتها الوردية، وأخذ ذوبها العسجدي يرف في ذرى الأغصان وأطراف السعف وأجنحة الطير. وكان نسيم الصباح الني ينفح الناس والشجر والدواب في تلك البطاح المنبسطة التي لم تبق فيها مناجل الحاصدين إلا جذور القمح، والتي تلمح العين فيها على أبعاد، مزارع القطن الخضراء، وقد أخذت تدب القوة في شجيراته الموموقة المصفوفة. . .
وكانت الحقول آهلة بالناس، فهنا وهناك جماعات الحاصدين قد تحلقوا حول الفطير والعسل، أو تمددوا على فرش الحصيد، أو انحنوا فرادى على السنابل الذهبية يجذونها بمناجلهم. . . وهنا وهناك حاملات الفطور بين غاديات ورائحات، ولاقطات السنابل لا يزال بعضهن يلتقطنها؛ بينما يخطر بها الأخريات حزماً على رؤوسهن يزداد بها قوامهن رشاقة وملاحة؛ والطرق إلى القرية تتقاطر فيها الإبل تحمل السنابل ويتغنى خلفها الفلاحون - وهم بين هاتف وزامر - وبينهم بعض البدو ممن يهبطون القرى بجمالهم في هذا الموسم لنقل أحمال الحصيد إلى البيادر. . .
كان كل شيء باعثاً على البهجة، فما ترى العين ولا تسمع الأذن إلا فيض السرور؛ ولكن (حيناً) كان يحس وحده الانقباض وسط هذا المرح الغامر. . . وكم كان يحسد هؤلاء الفلاحين على ما رأى من مظاهر هناءتهم، وكم كان يتمنى لو أتيح له مثل ما يتاح لهم من نعيم، ولو اشتراه بما يملك جميعاً! بل لقد كان يحسد مهره، وقد خيل إليه كأنما طاف به طائف من هذا السرور، فهو يتبختر تبختر النشوان، حتى لو تكلم لباهى بفتوته وجمال غرته، ولام صاحبه على ما يبدو عليه من هم!
وتنهد الفتى، وقد ذكره ذلك السرور شجونه، واستحث مهره يريد أن يصل به سريعاً إلى حيث كان يريد أن يقضي النهار في منعزله، في ذلك الكوخ القائم على ضفة الترعة الكبيرة، بالقرب من أكواخ تلك الأسرة البدوية التي تقيم هناك منذ سنين لحراسة الزراع؛
وما كان يأوي حسين إلى ذلك الكوخ إلا حين كان يضيق بهمه، وتثقل على نفسه الحياة
وانعطف به مهره عند نهاية قناة طويلة تجري وسط مزارع أسرته، فلم يكد يتجه اتجاهه الجديد، حتى وقعت عيناه خلف شجرة كبيرة على بعض أخبية للبدو لم يرها من قبل هناك، ينبعث الدخان من كوانينها، وتنبح الكلاب المارين بها. ونظر، فإذا هو يرى بأحد هذه الأخبية فتاة مضطجعة، عجب لأول وهلة كيف يتأتى وجود مثلها في خباء من الشعر، وهي لولا ملابسها البدوية، وحليها البدوية، لظنها الرائي إحدى غانيات القصور، ففي وجهها الرائع القسمات، وفي بدنها البض، مخايل النعيم والترف، وفي سمتها معاني الكبرياء والأنفة، هذا إلى بياض بشرتها على نحو لا يكون إلا في الناعمات البيض من ربات الجمال. . .
ورشقته الفتاة بنظرة من عينيها الدعجاوين الرائعتين، نظرة فهم بفطرته منها كثيراً من المعاني: ففيها الإغراء والدلال، وفيها الإعجاب به وبمهره الجميل، وفيها الأنفة وعدم المبالاة، وفيها الإقرار بما يبدو عليه من جاه، وفيها الإيحاء إليه بجاهها هي وإن كان من نوع آخر غير جاهه، نوع كم ذل له كل جاه، وكم دانت له من جباه. . . وسار، وقد انطبعت في مخيلته صورة هذه البدوية الجميلة، ورآها بين من أحطن بها كأنها وردة رائعة في بقعة من الشوك. . . وحدثته نفسه وهو من لا يهاب ولا يضطرب أن يرجع، فيجلس ساعة بين هذه الأخبية ليرى مبلغ كبرياء تلك الفتاة، وهو لم ير هناك رجلاً ولا فتى، ولن يضيره أن يحضر الرجال جميعاً، فهم يقيمون في ملكه، ولا يسعهم إلا الإذعان لسلطانه. . . ولكنه ما لبث أن رغب عن ذلك، ومضى في سبيله إلى منعزله. . .
وبلغ كوخه فترجل وأسرع إليه صبى من البدو المقيمين هناك فأخذ المهر إلى مربطه؛ وجلس حسين في الكوخ ينظر إلى الماء في الترعة الساكنة الهادئة ويمني نفسه بيوم هادئ؛ وطافت برأسه أول الأمر طيوف همه، ثم طاف بها خيال تلك البدوية الجميلة، وتمثلت له عيناها الجريئتان الساحرتان، فسرى عنه بعض ما به لحظة أسلمه بعدها إلى وجد عميق إذ تداعت إليه آلام حبه ولواعج قلبه. . . وأفاق من أحلامه على صوت ارتفع من قرب بالتحية. . . ونظر فإذا الشيخ مصطفى مقبل نحوه، وامتعض حسين ولكنه أخفى امتعاضه بابتسامة متكلفة قائلاً:(وعليكم السلام يا عم الشيخ مصطفى. من أين أنت قادم؟)
- من عزبة علي بك، حيث كنت أحادثه في شأن الأطيان التي يريد عمك البك استئجارها وقد قضيت الليل عنده
- هنيئاً لعمي ما يملك وما يستأجر. . . أما أنا. . . ولكن ماذا أقول ربنا موجود يا عم الشيخ مصطفى
- يا سي حسين بك دائماً تشكو، قريباً تأخذ ملكك وتتمتع به، المسألة زيادة حرص من سيدنا البك عليك
- قريباً. . . نعم قريباً، بمشيئة الله وبإرادتي أنا لا بإرادة سيدنا البك
وخشي الشيخ مصطفى أن يسمع عن سيده ما لا يحب، فاستأذن ونهض يريد الانصراف، ومد يده إلى حسين فسلم عليه وهو مضطجع والشر يلمع في عينيه وقال له وفي وجهه جذوة الغضب:(قل لسيدنا البك إن حسين لم يعد صغيراً وهو لن يطيق بعد اليوم أن يحيا هذه الحياة وله عندك أكثر من ثلاثمائة فدان. . . كفى. . . كفى أني انقطعت عن التعليم بسبب شحة علي وكنت قريباً من النهاية. . . لا! لا! الصبر بعد اليوم مذلة)
ومضى الشيخ مصطفى، يشيعه، حسين بلعناته، وقد كان هذا الرجل من أبغض الناس إليه، لما عرفه عنه من الملق والمداهنة وشدة المكر، هذا إلى أنه لا يذكره عند عمه إلا بالسوء كأنه يرى في ذلك وجهاً من الزلفى
وتشاءم حسين بمرأى الشيخ مصطفى كاتب زراعة عمه ونائبه في أعماله وزاده مرآه هماً على هم؛ وتذكر أنه ما كان يراه مرة أيام كان طالباً إلا رسب في امتحانه أو أصابه المرض إن لم يعقب مرآه امتحان
والتفت حسين نحو الترعة يريد أ، يغيب في سكونها ثورة نفسه فأبصر تلك البدوية الحسناء وقد حسرت ثوبها عن ساقيها الجميلتين ونزلت في الماء تغترف منه في إناء صغير من الفخار، وتبدت لعينيه كأنها تلك الجنية التي كان يسمع من أوصافها وهو صغير ما كان يخفق له قلبه رعباً. . . ولقد خفق قلبه الآن لمرآها ولكنها اليوم خفقات الإعجاب بهذا المنظر الساحر الفاتن. . .
وكأنما كانت بما تأتيه من حركاتها الرشيقة تدعوه ليحدثها وما كان بحاجة إلى هذه الدعوة فقد خف إليها وحياها في جرأة فردت في فتور وهي تغريه بعينيها وتتكلف الحياء فتشيح
بوجهها عنه وهي منحنية على الماء، وسألها عن اسمها فتباطأت لحظة وهي تبسم له ابتسامة نفذت إلى قلبه ثم قالت:(خادمتك عفراء. . .) ووثبت إلى الشاطئ ووضعت الإناء فوق رأسها وهمت معجلة بالانصراف، فاستوقفها فتأبت، فقال: إنه لن يسمح لها بالسير إلا على موعد. فضحكت وقالت: حتى ترى القمر في الضحى؛ وأجاب من فوره: ها قد رأيته، وأشار إلى وجهها الجميل. . .
ولم تكد تخطو حتى مر بالكوخ فتى في نحو الثلاثين كره حسين مرآه، ففي لفتته لفتة الذئب ورآه ينظر نحو عفراء نظرة ملؤها الغضب والغيرة
عاد حسين إلى القرية بعد عشرة أيام قضاها في منعزله على ضفة الترعة، حيث كانت توافيه إليه عفراء كل ليلة فتجلس معه ساعة أو بعض ساعة
ووصل إلى منزل عمه وقد غربت الشمس فوجده جالساً على كرسيه أمام داره وحوله جلساؤه وعلى مقربة منه كاتب زراعته؛ وألقى الفتى إليهم السلام فردوا جميعاً إلا عمه فقد نظر إليه نظرة كريهة لمح فيها لأول مرة إلى جانب البغض ما يشبه التشفي. . . وعجب حسين أن رأى معاني الرثاء واضحة في نظرات من لقيهم من الخدم وقرأ على وجوه الخادمات وبخاصة عزيزة أن كلا منهن تريد أن تفضي إليه بنبأ، فاضطرب قلبه في جوانحه وقد فهم كل شيء. . .
ونادى عزيزة فأقبلت عليه لا تدري كيف تفضي إليه بما تريد من نبأ، فارتسمت على شفتيه ضحكة متكلفة حزينة كأنما يقول لها بها: هيه لا تخافي. وقالت عزيزة (يا سيدي حسين ستي ثريا هانم خطبوها خلاص وكتب الكتاب بعد شهر. . .)
وأحس كأن قلبه يدمي في جوانحه؛ وتقطعت أنفاسه كأنما مسه نصب شديد، ولكنه تجلد ريثما صرفها، ثم أسند ظهره إلى حائط البيت يخشى أن يسقط على الأرض. . . ثم مشى يجر رجليه فأوى إلى مضجعه وجلس في الظلام ساعة. . .
وبث اليأس في قلبه البأس والقسوة فلن يعبأ بعد اليوم بشيء وهو يريد أن يعرف أولا ماذا ترى ابنة عمه فيما أريد لها، ولذلك وثب من مكانه لا يدري أين يذهب ولا من يسأل، وفي مخيلته نظرة عمه وما فيها من معاني التشفي، وفي نفسه وساوس وهواجس ونيات سود فزع حتى في ساعة يأسه منها. . . وما قيمة حرمانه مما يرث إلى جانب حرمانه من أمله
الذي لا يرى للحياة معنى من دونه؟ ولم يكد يخطو من منزله إلى منزل إلى منزل عمه حتى رأى عزيزة فناداها وهم بسؤالها ولكنه لم يعرف كيف يدير الحديث إلى غرضه ففهمت ما يريد فقالت في لهجة الواثق: (ما تخافش أبداً يا سيدي حسين أنا عارفه. . .)
- عارفه إيه؟ هل قالت لك حاجة؟ لازم أعرف
- لا ما فيش حاجة إنما أنا عارفة وبكره تشوف وأبقى قول عزيزة قالت لي ولي عندك الحلاوة
وانصرفت عزيزة مخافة أن يراها سيدها، ووقف حسين في مكانه يدير كلامها في عقله متسائلاً هل أتت به من عندها أم سمعت شيئاً من سيدتها ولكنها لا تذكره لأنها لم تؤمر بذكره؟ وفزع بآماله إلى الرأي الثاني فهدأت ثورته قليلاً
مضى حسين إلى (دوار) عمه، وجلس وحده في ركن هناك، وظل يتفكر في همه مطرقاً حتى أحس بيد على كتفه فرفع بصره فإذا هو ابن عمه أحمد، وكان هذا على خلاف أبيه، يبدي المودة لحسين، ويكاشفه بما في نفسه. . . ومال الحديث بين الفتيين أول الأمر إلى الأرض التي يريد أن يستأجرها البك بالقرب من عزبة علي بك، وأظهر أحمد خوفه من عاقبة هذا العمل، ثم أفضى إلى حسين أن علي بك يستأجرها كل عام من البنك، وعلي بك رجل خطر فتاك وبينه وبين أبيه ضغائن وإحن قديمة وليس من الحكمة أن يأتي أبوه هذا العام فيغري البنك بأن يأخذها هو نظير زيادة في الإيجار، وليست به حاجة إليها، بينما يحتاج إليها علي بك أشد الحاجة لأنها تفرج عنه ضائقته التي يعانيها منذ بضع سنين، فضلاً عما في فعل والده من معنى التحدي والتعدي وهو أمر له خطره الشديد عند الأسر
ووثبت إلى ذهن حسين صورة ذلك الفتى الذي مر به غداة ذهب إلى كوخه، والذي كره حسين مرآه ورأى الإجرام واضحاً في وجهه الشبيه بوجه الذئب؛ ولم يدر حسين لم يذكر الآن ذلك الفتى ولم يبعث تذكره في قلبه الرهبة ويشيع في نفسه الكآبة. ورأى حسين في وجه ابن عمه أنه يريد أن يحدثه في أمر، فسبقه حسين إليه وقال ضاحكاً:(مبارك النسب الجديد يا سي أحمد)
- لا دي مسألة وتفوت. عمك يريد معاندتك. . . إحنا كلنا معك، مين يفوت ابن العم ويفضل الغريب - لا تهتم غاية ما في الآمر لا تعاند عمك. وازدادت المحبة في قلب
حسين لابن عمه أحمد، وقد تبين في لهجته الجد والصدق
لم ينم حسين ليلته إلا غراراً وقد ذهبت به الهواجس كل مذهب، ولما أخذته سنة رأى في نومه أنهم قد ذهبوا به إلى القبر وأنه فزع من ضمة القبر وظلمته؛ وأنقذته الديكة بتصايحها من حلمه المخيف، فهب، ولكنه تمنى لو كان الحلم حقيقة. . . أنزف ثريا إلى غيره وهو حي؟. . . ثريا ابنة عمه التي ما أحب غيرها وهي منذ الصغر مسماة عليه؟ أكان يفعل عمه ذلك لو كان أبوه حياً؟ وماذا جنى حتى يطعنه عمه تلك الطعنة؟ لا شيء إلا أنه يطالب بحقه. . . وما قيمة الحياة مع هذا الهوان؟
وتمثلت له أيامه الجميلة، أيام سعادته بحب ابنة عمه، أيام كان يناقلها الأحاديث العفة، وهي مطرقة في سذاجة حلوة تستروح نسمات الحب، وتحلم أحلام الحب، وترى في أبن عمها دنيا آمالها، ويرى فيها جنة أحلامه. . .
وعول من فوره أن يذهب إلى منعزله على ضفة الترعة، فما يطيق العيش على مقربة من عمه. . . بل إنه ما يطيق الوجود كله، وامتطى مهره وانطلق بعد أن قابل عزيزة؛ ومر في طريقه بخيام البدو فلم ير عفراء هناك. . . على أنه كان من همه في شغل عنها وعن سالف لهوه معها.
- كيف الحال يا شيخة العرب؟
- الحمد لله. . . ربنا يخليك يا سيدنا البيك
- مين هوه الجدع اللي كان هنا الغريب ده؟
- ربنا يكفينا شره. . . الله يسهل له. . . دا بعيد عنك. . . دا يقتل الرجل بجنيه أو بكيلتين حب
- ولم يأتي عندكم؟
- دا يروح عند أي جماعة من العرب، ما حدش يقدر يكلمه. . . يا ما يأخذ من هنا خبز ولحم وشاي. . .
وكان حسين يعرف الكثير من أحوال هؤلاء الأعراب الذين يحترفون القتل، وليس يدري لم لاح له شبح الجريمة منذ رأى ذلك الأعرابي. . . هل جاء لقتل عمه؟ يفعلها علي بك ولا يبالي. . .
فكر حسين وأطال التفكير، وبينما هو يقلب الأمر على وجوهه، إذ لمح عفراء مقبلة فحيت باسمة ولمحت عيناها السرعتان اللهم في وجهه، فقلت مداعبة:
- أعف البخت وأقرأ الضمير. . . فهل تريد؟
- أين الرمل والودع؟
- لا. . . يكفي هذا الطمي. . . أرمي بياضك
- ودهشت الغجرية أن رأت حسيناً يرمي إليها جنيهاً براقاً كعين الشمس، ولم تصدق أنه لها أول الأمر حتى استيقنت من ذلك فراحت تقول وهي تخطط الطمي بإصبعها:
- عدو جديد. . . أحذره، ولكن الوردة لك لا لغيرك. . . صلي على النبي. . . واحد يكرهك وواحد يوز عليك والباقي يحبونك وأنت منصور. . . شر كبير ولكن يفوت وربنا يسلم
وسكتت العرافة وتلعثم لسانها، وجرت صفرة في وجهها الوردي، واختلجت عيناها واضطربت أصابعها، ثم قالت:
- وفيه وردة ثانية، لكن آه! تعرفك وتتملى نورك، وأنت موش داري
- وفهم ما تريد ولكنه تغابى، ودنت العارفة منه وهمست في أذنه كلاماً دق له قلبه وانطفأت حمرة وجهه وارتعدت مفاصله. . . وانطلقت وبودها لو عرف الوردة الأخرى وشمها شمة. . .
إذاً فقد أصبح الوهم حقيقة. . . فهذا الذئب ما جاء إلا يفتك بعمه، ولكن من أدرى عفراء؟ لعلها سمعته يفضي بسره إلى زميل له من البدو. وماذا يفعل حسين؟ لقد مرت برأسه فكرة ارتاع منها وانتفض لها جسمه. . . لا، كيف يسكت؟ أيطيق أن تفجع ثريا في أبيها؟. . . وهو؟ أليس هو عمه على الرغم من كل شيء؟ ألم ينحدر هو وأبوه من صل واحد فهو بذلك قطعة من أبيه. . .؟ وكيف يلقى الله ودم عمه على يديه؟ وكيف يهنأ بعيشه بعد الجريمة. . . إنه يحس أن سكوته اشتراك بكل معاني الاشتراك ويوسوس له الشيطان فيقول: هبك لم تعلم ومات عمك أفلا تتمتع بملكك وحبيبة قلبك؟ كلا. . . كلا. . . إن الدم لا يهون؛ وهو يعلم ما يبيت لعمه. . . ولكن كيف تزف ثريا إلى غيره ثم لا يحدث ذلك إلا نكاية فيه؟ ويحه ما باله! تنازعه هذه الهواج والأمر بين؟ ماله يلتفت نحو الترعة؟ أيريد أن
يعبر إلى العدم لجتها؟
قضى ليلته مشرد اللب خائر البدن تفزعه الرؤى السود وتنهش أحشاءه المخاوف، وات يخشى على نفسه هو، ومن يدريه فلعل ذلك الذئب قد علم من حيث لم يدر هو ولم تدر عفراء، بما أفضت به إليه. . . لعله رآها تهمس في أذنه ومثله من يرتاب في كل شيء ومن يفهم باللمحة الخاطفة، وأغمض جفنه، فرأى وهو ين اليقظة والنوم أنه ماثل أمام أبيه مغلول اليدين والدماء على ملابسه ويديه، وعمه في أكفانه ينظر إليه من كثب ولا يستطيع أن يتكلم. . . ومرت بوجهه أنفاس الفجر الندية فقام وهو لا يكاد يقوى على القيام. . . ثم عقد النية أن يخبر الشيخ مصطفى بما علم وهو الكفيل بأن يقضي على الذئب قبل أن يقضي الذئب على عمه
وأرسل من جاءه بالشيخ مصطفى، وجلس كاتب عمه بين يديه ساكتاً، وسكت حسين لحظة
- تألمت والله يا سيدي حسين لما علمت بنبأ الخطوبة الجديدة
- ليه؟ هذا نسب عال. . .
- على كل حال أنت أولى من الغريب ولكن ما الحيلة؟
- يا سيدي دي قسمة وربنا هو اللي عمل كده. . . هل يكون العقد بعد شهر صحيح؟
- لا، ربما كان قبل ذلك فالبك مستعجل
وأمسك حسين وصمم على كتمان ما علم، ولكنه حار كيف يصرف الشيخ مصطفى. . . واستأذنه لحظة وراح يمشي على ضفة الترعة جيئة وذهاباً وهو ضائق بما كان يبدو له من نظرات التشفي في وجه الشيخ مصطفى وإن بالغ في إظهار تألمه. . . وناداه فأفضى إليه بما علم، ثم صحبه إلى القرية وقد أصبح يخاف من كوخه
وانقضت أيام، أخذ يزداد فيها حسين قرباً من عمه بعد أن كان موضع الريبة والحذر الشديد، فقد اتهمه الشيخ مصطفى عند عمه بتدبير الجريمة، ولكن الشيخ مصطفى ما لبث أن جاء من لدن عفراء بالخبر اليقين. . . وأجل العقد الذي أريد من قبل ليحل محله عد التخلص منه عقد أخر. . . وأخذت الأيام تبتسم لحسين بعد عبوس مخيف طويل، ولم يعد يكدر على الأسرة صفوها إلا خوفها وحذرها البالغ على حياة البك، ذلك الحذر الذي كان يتجلى في إحاطة منزله ليلاً بالحرس الساهرين
ولم تحل يقظة الحراس دون أن تفزع الأسرة كلها بعد العشاء ذات ليلة من صوت انطلاق بندقية استقر مقذوفها في كتف البك وهو في مدخل الحارة المؤدية إلى بيته
وهرع إليه ذووه يعتقدون أنه قد فارق الحياة. . . ولكن الله سلم فحالته لا تنذر بالخطر. . . لقد أخطاء الجاني مرماه؛ وشغل الناس هول الفزع عن تعقب المجرم، فتسلل تحت جنح الظلام وهو من يعرف كيف يفلت مهما نصب في طريقه من الفخاخ
ولئن أخطأ الذئب مرماه هنا فلقد أصابه بعد ساعة أو بعضها في مكان آخر؛ فهؤلاء البدو يهبون من خيامهم مذعورين على صوت المقذوف. . . أعقبه صرخة، ونظروا على ضوء مصباح صغير فإذا الدم الحار يتدفق من قلب عفراء، ووجهها الجميل لا تزال عليه بسمة أحلامها وهو متجه إلى السماء. . .
الخفيف
من هنا ومن هناك
الحصار لا يكفي
(ملخصة عن (ذي كونتمبوراري رفيو) لندن)
كثير مما يقال عن تأثير الحصار في الحرب العظمى، ويلغط به الناس، يحمل طابع المبالغة. فعلى الرغم من موقعنا الجغرافي الممتاز وتفوقنا البحري العظيم، فإن هذا الحصار لم يؤت ثماره إلا بعد اشتراك أمريكا في الحرب. إن تنفيذ مبدأ كهذا المبدأ على البضائع التي تصدرها دولة قوية محايدة كالولايات المتحدة يعد من الأمور المستحيلة. فإذا حاولنا ذلك تعرضنا لمشاكل سياسية لا نهاية لها. ومما لاشك فيه أننا كنا إلى منتصف عام 1917 غير قادرين على منع كثير من البضائع الهامة التي ترسل إلى ألمانيا عن طريق اسكاندينافيا وغيرها من الأمم المحايدة
ولم يكن للحصار تلك القوة القاهرة التي تقضي على خصومنا القضاء المبرم كما يعتقد الكثيرون، حتى حين أصبح أمراً واقعاً على الأعداء. فلا نعرف أن خطة حربية ذات أهمية تذكر أخفقت بسبب نقص السلاح أو الذخيرة وكان الحصار السبب المباشر لهذا النقص. ولم يشك أحد من قواد الألمان في جميع الميادين نقص السلاح أو الذخيرة طيلة الحرب، وإن كانوا يشكون قلة الرجال. ولا نستطيع أن نعزو انعدام الدبابات في الجيش الألماني إلى الحصار كما أننا لا نستطيع أن نقول إن الطائرات الألمانية أو الغواصات نقصت بهذا السبب
ولكن ضغط الحصار كان واقعاً في الحقيقة على السكان المدنيين دون الجنود أو البحارة أو الطيارين. ولم يكن حتى هذا الضغط بالذي يؤدي إلى كبتهم وشل حركتهم كما يعتقد الكثيرون ويستدل من الكتاب الذي ألفه (جنرال واندوهر) بعنوان (الجوع) - وهو كتاب موضوع في هذا الشأن - على أن ضغط الحصار لم يكن إلا نوعاً من حرب الأعصاب التي تضايق السكان بحرمانهم من الحصول على المواد التي اعتاد الرجل المتوسط الحال أن يحصل عليها في سهولة ويسر، ولم يكن بذي أثر فعال يصل إلى الإضرار بأجسامهم ونفوسهم كما قد يفهم وهذه نتيجة أستطيع أن أعززها بملاحظاتي الشخصية
ولا يفهم من هذا أن الحصار كان عديم الفائدة أو أن العدو لم يعان من أجله مصاعب لا
يستهان بها، ولكني أرمي إلى الحقيقة التي لا شك فيها، وهي أننا نستطيع أن نحاصر ألمانيا وأن نحكم عليها هذا الحصار، ولكن لا يمكن أن نلجئها بذلك إلى التسليم
قد يكون من المعقول أن يفوز الملاكم على خصمه إذا وقف أمامه موقف المدافع في جميع حركاته، حتى إذا أنهكت قواه تغلب عليه بقوة الاحتمال، ولكننا لا نعرف فيما نعلم أن ملاكما نال جائزة التفوق على خصمه بهذه الوسيلة
وقد يكون من المعقول كذلك أن تتغلب أمة عظيمة على أمة أخرى بإحكام الحصار عليها، ولكننا لم نر ولم نسمع أن حرباً اكتسبت في الواقع بهذه الوسيلة، ولا نستطيع أن نستثني الحرب الحاضرة من هذا الوصف
فإذا أردنا أن نربح الحرب يجب علينا أن نضع خطة حربية إيجابية نقدم عليها بكل ما لدينا من القوة، فإذا كنا سنتعرض في سبيل ذلك إلى بعض الأخطار، فإن هذه الأخطار ستكون عوناً لنا على قهر الأعداء
يجب أن نفهم الفرنسيين
(ملخصة عن (ذي نيو ستيتسمان) لندن)
منذ بضعة أسابيع دعا أحد الرجال الإنجليز البارزين ممن يدعون إلى فكرة الاتحاد الدولي، شخصية ممتازة من الرجال الفرنسيين البارزين إلى اجتماع في أكسفورد. فشرح الإنجليزي رأيه في النظام الأوربي الحديث، وصور لضيفه الفرنسي نظرية الاتحاد الدولي الأوربي، والأساس الذي يقوم عليه، ثم استطرد قائلاً:(سوف ينتخب المجلس بطبيعة الحال من الدول القوية، وسوف يكون عدد الممثلين فيه بنسبة عدد سكان كل دولة). فاعترضه الضيف قائلاً: (ولكن عدد الألمان 80. 000. 000 وعدد الفرنسيين 40. 000. 000، فهل تعني أن يكون عدد ممثلي الشعب الألماني ضعف عدد الممثلين الفرنسيين). قال الإنجليزي: (أو ليس هذا هو المنطق المعقول)؟
لقد وقع هذا الحوار بين رجلين من رجال الأعمال. ولعل الفزع الذي أوقعه كل منهما في نفس الآخر، هو مقياس ما بين وجهتي النظر البريطانية والفرنسية في السياسة الخارجية. فهذا الإنجليزي ينظر إلى الحق بالطريقة الحسابية المجردة، وينظر إلى جميع الاعتبارات
التي نسمها باسم الضمان الوطني، كشيء لا يتفق مع قواعد الأخلاق. بينما يهتم الفرنسي بالضمانات الحربية التي تطلبها بلاده، ويرى أن فكرة الحكومة الدولية، ما هي إلا فكرة (يوتوبية) خيالية أو سياسية ميكافيلية للعود إلى موازنة القوى الدولية ضد فرنسا. ومن ثم غادر أكسفورد وصدره يغلي بالضغينة وفؤاده يفيض بالسخط
إن من الواجب علينا قبل أن نطالب حكومتنا بالبيانات الوافية عن المقاصد الحربية، وقبل أن نتقدم إليها بمزيد من المقترحات، أن نضع حلاً للمشكلة الإنجليزية الفرنسية. فكل ما نشأ منذ نهاية الحرب الماضية، من الاختلافات التي قد تعكر صفاء العلاقات الودية بين الدولتين في بعض الظروف، لم يكن منشأه اختلافاً جوهريا في المبدأ، فنحن مرتبطين مع الفرنسيين برباط وثيق من تقاليد المدنية الغربية العتيدة منذ زمن بعيد، ولكنه يرجع في الغالب إلى اختلاف الطبيعة نظراً للفوارق الجغرافية والتاريخية بين البلدين
يزيد هذا الاختلاف تأثيراً، أن كلتا الدولتين ديمقراطيتان، فبينما تستطيع الدول الدكتاتورية أن تتفاهم فيما بينها على إهمال الرأي العام، وعدم الاهتمام بآرائه ومعتقداته يظل رجال السياسة الديمقراطية مرتبطين بشعور الرأي العام وهو ينظر إلى الظروف الحاضرة من وجهة نظره المحدودة الضيقة
فالرأي العام الفرنسي والبريطاني كلاهما يعانيان تلك النظرة الديمقراطية المحدودة. فإذا أردنا أن نجد حلاً لهذه المشكلة يجب أن نضع قواعد وأسساً صالحة لفهم وجهتي النظر التي تذهب إليها كل من الدولتين. فبدلاً من مناهضة فكرة الضمان التي تغالي بها الوطنية الفرنسية يجب أن نفكر فيما إذا كنا نستطع أن نعود منها بفائدة صالحة للدولتين
البريد الأدبي
(وحي الرسالة)
تفضل صديقنا الأستاذ توفيق الحكيم فبعث إلينا بهذه الرسالة الكريمة:
صديقي العزيز الأستاذ الزيات:
أتيح لي أن أستمتع ساعات بقراءة ذلك الكتاب النفيس: (وحي الرسالة) الذي تفضلت بإهداء نسخة منه إلي. وليست هذه هي المرة الأولى التي أتعرف فيها إلى سمو أسلوبك، وبلاغة تعبيرك، واتساع أفق خيالك؛ ولكنها قد تكون المرة الأولى التي ترتبط فيها وتتركز تلك الفصول، والآراء، والأفكار، والمشاهد الفنية التي تمخضت عنها مواهبك، فيضمها كتاب ينعكس على كل صفحة من صفحاته شعاع من جمال روحك، وفيض من نبع ثقافتك، وذكريات غالية عرفت كيف تحرص عليها وتحتفظ بها، ثم تنشرها تذكرة للناس وموعظة لهم.
إن أدب المقال يا صديقي من فنون الأدب الكبرى. وقل أن تشهد أديباً فحلاً لم يضمن أدبه وعمله الفني آراء اجتماعية ونظرات فكرية، واتجاهات ثقافية. و (حي الرسالة) الذي أشرت إليه. فهو في الواقع مجموعة دراسات عميقة ناضجة للمجتمع، وتصوير بارع للتطورات الخلقية والنفسية، وإشارات دقيقة وجولات موفقة في الأدب والحياة، استقرت عواطفك في أجمل بقاعها، وتغني قلمك الرصين بأبهج مفاتنها.
جميل منك إذن أن تحرص على تدوين هذه الذكريات الغالية، وتنشر هذه الفصول القيمة، لتكون ذكرى للماضي، وعظة للحاضر، وإيماناً بالمستقبل.
المخلص
توفيق الحكيم
الأدب الجاهلي في فجر الإسلام
كتب الأستاذ سليم الجندي عضو المجمع العلمي العربي (بدمشق) مقالاً رائعاً عن المناهج التي تتبع في دراسة الأدب العربي، تطرق فيه إلى الرد على بعض ما وهم الأستاذ أحمد أمين في بحثه عن الأدب الجاهلي في كتابه (فجر الإسلام) وقد رأينا أن من الخير لقراء
الرسالة أن ننقل إليهم قسما من مقال الأستاذ ليتبادل أدباؤنا الرأي وتظهر الحقيقة.
قال الأستاذ الجندي: (وأنت إذا أنعمت النظر وتبينت أن البلية كل البلية أتت اللغة من الكتاب البحثين، وهؤلاء أتتهم البلية من التهاون في البحث وعدم الاستقراء. مثال ذلك أن صاحب فجر الإسلام قال في الجزء الأول من كتابه ص55: إن ألفاظ اللغة في العصر الجاهلي كانت في منتهى الدقة والسعة إن كان الشيء الذي وضع له اللفظ من ضروريات الحياة في المعيشة البدوية. فالإبل خير مأكلهم ومشربهم ومركبهم وعماد حياتهم، ولذلك لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة تتعلق بها إلا وضعوا لها لفظاً أو ألفاظاً (وإذا انتقلت من الجمل إلى السفينة رأيت اللغة في غاية القصور فهم لم يوفوها حقها كما وفوا الجمل، ولم يحصوا كل أجزائها، ولم يضعوا اسماً لكل نوع من أنواعها. نعم إن هناك ألفاظاً تتعلق بذلك، ولكنها لا تكاد تذكر إذا قيست بالألفاظ الموضوعة للإبل وشؤونها. بل إنك إذا فحصت الألفاظ المستعملة ف السفن ومتعلقاتها وجدت كثيراً منها معرباً غي عربي كالسيابجة واليماسرة. . . وكثير منها لا نشك في أنه وضع بعد العصر الجاهلي) انتهى كلام الأستاذ أحمد أمين
قال الأستاذ الجندي: (وأنت إذا رجعت إلى كتب اللغة تبين لك أن هذا الحكم قائم على استقراء غير تام، وأن العرب في الجاهلية ما غادروا صغيرة ولا كبيرة تتعلق بالسفينة المعروفة في عهدهم إلا وضعوا لها لفظاً أو ألفاظاً غير ما أدخل بعد ذلك ف العصور التالية، وأنهم نعتوها وشبهوا بها
وإذا تذكرنا أن السفينة في ذلك العهد كانت تتألف من أجزاء بسيطة، وليس لها أنواع كثيرة التفاوت في الأشكال والمقادير، ونظرنا ما وضع لها ولأجزائها من أسماء ونعوت، وجدنا أن اللغة ليست في قصور في هذا الأمر.
انظر إلى دقة لوضع في التفريق بين الأنواع والأجزاء عند الجاهليين، فإنهم قسموا ما يركبه الإنسان فوق الماء إلى أنواع. فإن كان من قرب تنفخ ويشد بعضها إلى بعض فتجعل كهيئة سطح فوق الماء سمي طوفاً ورمثاً، وربما كان من خشب أو غيره. وما عدا ذلك فهو سفينة. ويقال للسفن الصغيرة زورق وقارب وركوة ومعبر. وللكبيرة: فلك وخلية وقرقور وماخرة ومصباب وجارية وجفل وعدولي. وما يتخذ للقتال منها بارجة
ووضعوا لكل جزء اسماً مختصاً به. فالسقائف ألواحها، والدمر خيوط تشد بها الألواح أو
المسامير، والطائف ما بين كل خشبتين منها، والشراع رواق السفينة، والصاري خشبية في وسطها يمد عليه الشراع، والقلس حبل الشراع من ليف، والصابورة ما يوضع في بطنها من الثقل، والمعايير خشب فيها يشد بها الهوجل، والمردى خشبة يدفع بها الملاح، والمقذاف خشبة في رأسها لوح عريض تدفع به السفينة، والمرساة حديدة تلقى في الماء، والكفر القير الذي تطلى به
وكذلك اختصوا كل قسم منها باسم: فالمرنحة صدرها، والكوثل مؤخرها، والسكان ذنبها، والجمة الموضع الذي يجتمع فيه الماء الراشح
وجعلوا لكل عامل فيها اسماً خاصاً به: فالملاح سائس السفينة، والداري الملاح الذي يلي الشراع، والردفان ملاحان يكونا في مؤخرها، والربان رئيس الملاحين
وقد وضعوا لكل حالة تعرض لها اسماً يميزها من غيرها، فقالوا مخرت السفينة إذا جرت تشق الماء مع صوت، وسخرت إذا أطاعت وطاب لها الريح، ودسرت الماء بصدرها إذا عاندته، وجمحت إذا تركت قصدها فلم يضبطها الملاحون، وجنحت إذا انتهت إلى ماء قليل فلزقت بالأرض فلم تمض، وماهت إذا دخل فيها الماء، وكبت إذا جنحت إلى الأرض فحول ما فيها إلى أخرى، وقمص البحر بها إذا حركها الموج. . . ولولا أن الإطالة تدعو إلى السأم لأتينا على كثير مما يتعلق بالسفينة. فلا يجوز بعد ذلك أن يقال إن اللغة في غاية القصور، وإنما القصور في البحث والتقري. وإذا كان ما جمع من كلام الجاهلين في الجمل أكثر مما جمع في السفينة فذلك منشؤه أمران: الأول أن صاحب المخصص إنما ذكر فيه ما أحاط به علمه في السفينة، وليس هذا كل ما يتعلق بها. الثاني أن السفينة لا تساوي الجمل في كل شيء فهو أكثر أجزاء وأطواراً وأعرضاً وأمراضاً وأغراضاً. . . والسفينة في ذلك العهد مؤلفة من أجزاء قليلة بسيطة. . الخ. آه)
هذا ما كتبه الأستاذ الجندي. والقارئ يلاحظ معنى أن الأستاذ أصاب الحقيقة، وبدد الوهم الذي وقع فيه الأستاذ أحمد أمين فما قول أولئك الذين يرمون اللغة بالقصور؟
صلاح الدين المنجد
مكانة اللغة العربية في العالم
نشرت جريدة (يور كشير بوست) البريطانية مقالة افتتاحية عن المركز الهام الذي تتبوأه اللغة العربية بين لغات العالم جاء فيها: (للغة العربية جاذبية خاصة تجذب الشعب البريطاني في الشرق. ولقد كان هنالك فيما مضى كثيراً من المستشرقين ولكنا لا نغالي إذا قلنا إن بريطانيا هي التي اطلعت العالم في الأعوام الأخيرة على أند ثمار الثقافة العربية)
(كثيراً ما كانت الإمبراطورية البريطانية تعجز عن إدراك أهمية اللغة العربية، ومع ذلك فهي اللغة الرسمية في مصر والسودان والمتغلغلة في صميم أفريقيا حتى البحيرات العظمى. وهي اللسان السائد في جميع أصقاع شبه جزيرة العرب، كما أنها أداة التخاطب في العراق. وهي اللغة التي يستخدمها مسلمو الهند - إخواننا في الرعوية وعددهم ثمانون مليون نسمة - كل يوم في صلواتهم وفي تلاوتهم القرآن الكريم. وهي تعد لغة مراكش، والجزائر وتونس
وهي اللغة التي يستطيع بها العلماء في إيران وأفغانستان أن يدرسوا أحاديث النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم. ولا تقل الحروف العربية انتشاراً عن الحروف الرومانية، فهي لست قاصرة على اللغة العربية وحدها، وإنما هي أساس اللغات الفارسية والهندستانية ولغات البوشتو والهاوسا والأردية وغيرها من اللغات الشرقية
ولا مراء في أن اللغة العربية من أعظم ينابيع المعرفة التي يغترف منها العالم
وبينما كانت أوربا تعيش في ظلمات الجهالة كان علماء العرب في بغداد وقرطبة خير أمنا على مدنية اليونان والرومان وأورثوهما للعالم فيما بعد
ومما يبرهن على أهمية هذه اللغة العظيمة، أنها كانت أولى اللغات التي استعملتها هيئة الإذاعة البريطانية. ويزادا عدد المتكلمين باللغة العربية يوماً عن يوم، وتتسع حدودها. فهي لغة التخاطب في زنجبار وتنجانيقا وفي بلاد بعيدة كجزر الملايو، وتتبوأ اللغة العربية مكان الشرف في مدرسة اللغات الشرقية بلندن
ولقد أدركت الحكومة البريطانية أهمية اللغة العربية، فلا تسمح لأي موظف من موظفيها بالاشتغال في الشرق الأدنى والأوسط ما لم تكن له مؤهلات في اللغة العربية
نقد وتصويب
وافانا العدد (349) من مجلة (الرسالة) الغراء بقصيدة خلابة للأستاذ علي الجندي يرثي فيها صديقه الحميم المرحوم الحاج محمد الهراوي، والقصيدة من مطلعها حتى الختام تتجلى فيها براعة الشعر، ودقة التصوير، ورقة الأسلوب ورصانته، ومع تقديري لعبقرية الشاعر فإني لا أرى مانعاً من لفت نظره إلى بيت من الأبيات لاحظت فيه خروجاً عن الوزن وهو:
تسعد الذكريات أهلها وألقىّ
…
ذكرياتي محطم الأعصاب
وأرى أن لو كان كما يلي لكان أحكم:
يسعد الذكر أهله وألقىّ
…
ذكرياتي محطم الأعصاب
أبو الفضل السباعي ناصف
إلى الدكتور مبارك
قرأت محاضرتك الظريفة ووقفت عند فقرة بشطرها الثاني المنشور بالعدد 350 من الرسالة الغراء هاك نصها: (الشواطئ كلها مآثم ولولا الخوف من بني الحاسدين والحاقدين لقلت إن المآثم لا تخلو من بريق يزلزل القلوب والأذواق والعقول. ومن هذه الزلزلة تكون الرجفة التي تثير شياطين الشعر والخيال) آه ثم رحت أستعيد المعاني الباقية في ذهني لمعنى الزلزلة مما تفضل بشرحه الأستاذين شاكر وبشر فارس، فخلصت إلى أن البريق لا يزلزل القلوب والعقول قياساً على أن الطرب لا يزلزل الآذان. وأظن سيدي الدكتور لا يزال يذكر هذا النقاش حول كلمة الزلزلة فهل للأستاذ أن يتفضل بشرح هذه الكلمة التي شككنا فيها الأستاذ شاكر، وله الفضل والشكر
محمود الأشرم
الكتب
بطل الاستقلال الاقتصادي
طلعت حرب
تأليف الأديب مصطفى كامل الفلكي
هذا كتاب وضعه مؤلفه لبيان ما لزعيم مصر الاقتصادي طلعت حرب من أثر في نهضة مصر الحديثة؛ فبدأ بالإشارة إلى أحوال مصر الاقتصادية والسياسية في أواخر القرن الماضي، مبيناً ما كانت تتطلبه مصر من أوجه الإصلاح وعلى الأخص في الجانب الاقتصادي، مشيراً إلى حاجة البلاد يومئذ وتطلعها إلى (المصلح المنتظر) حتى أذن الله فمن عليها بطلعت حرب
ثم تتبع المؤلف جهاد الرجل العظيم منذ استهلال القرن الحالي، حتى ظفر بتحقيق أمنيته، فظهرت المعجزة في هيكل بنك مصر وشركاته؛ وأورد المؤلف كلمة عن كل شركة من هذه الشركات المباركة الميمونة. وهذا لا ريب من خير البراهين على ما أسدى هذا الرجل العظيم من خير لبلاده، فإنما يعرض المؤلف صحيفة أعماله الجليلة.
ولما كان المؤلف كما يذكر: (قد أتيحت له فرص حسان ألم فيها بكثير من دخائل ذلك النضال السلمي الرائع)، فإن بحثه لا ريب بحث الخبير العليم. والكتاب مطبوع طبعاً جيداً ومحلى بكثير من الصور للزعيم العظيم في كثير من مواقفه المشهورة، وهو خليق بأن يطلع عليه بنو هذا الجيل ليكون لناشئتهم نبراساً ولرجالهم قدوة.
رحلة الباخرة المصرية مباحث في المحيط الهندي
تأليف الدكتور حسين فوزي
يذكر قراء العربية ذلك الكتاب القيم الذي نشره في مصر منذ عامين الدكتور حسين فوزي مدير معهد الأحياء المائية بعنوان (سندباد عصري) وضمنه أثر رحلته في بعثة السير جون موري على ظهر الباخرة المصرية مباحث في المحيط الهندي سنة 1933.
ذلك كان كتاب الأديب والفنان والشاعر؛ أما الكتاب الذي نتحدث عنه اليوم فهو كتاب العالم والباحث والرحالة، يصف فيه الدكتور حسين فوزي الرحلة منذ بدأت حتى انتهت، فلا يترك صغيرة ولا كبيرة مما تهم معرفته والاطلاع عليه إلا عرض لها بأسلوب شائق، ووصف كاشف. والكتاب يقع في أكثر من 120 صفحة من الحجم الكبير، وهو مطبوع طبعاً أنيقاً على ورق فاخر، ومحلى بكثير من الصور الجميلة
وقد صدره صاحب المعالي الأستاذ سابا حبشي وزير التجارة والصناعة بمقدمة تدل على قيمة هذه الرحلة التي يتحدث عنها الدكتور فوزي، كما يتحدث عن قيمة هذا الكتاب.
وهذا الكتاب على أن المقصود به أن يكون وصفاً علمياً - لم يستطع مؤلفه أن يتجرد من روحه الأدبية وإحساسه الفني في وصف بعض ما يعرض له، فجاء كتاباٍ جديداً في فنه وفي أسلوبه.
وقد ختم الكتاب بفهرس كامل للموضوعات والصور.
أخطاؤنا في الصحف والدواوين
تأليف الأستاذ صلاح الدين سعد الزعبلاوي
هو كتاب جديد في اللغة، جعله مؤلفه في بابين: باب للموضوعات، وباب للمفردات؛ وعرض فيه لكثير من الأوهام اللغوية التي تشيع على أقلام الكتاب في الدواوين والصحف؛ ثم فرع هذين البابين إلى فصول، فباب الموضوعات أحد عشر فصلاً جمع كل فصل منها ما تداخلت أو تجاذبت مباحثه؛ وأما الباب الثاني وهو باب المفردات فقد توزعته الفصول على تتابع أحرف الهجاء. وقد حذا المؤلف في ترتيب المواد طريقة الجمهور في اعتبار أوائل الكلمات، ثم جعل في خاتمة الكتاب فهرساً للموضوعات والمفردات التي تناولها بحثه حتى لا يتعب القارئ في التماس موضوعه
وقد تناول المؤلف في كتابه طائفة من المباحث اللغوية التي يهم كل قارئ وكاتب عربي أن يلم بها، وعالجها علاجاً يدل على اطلاعه وصحة نظره
والكتاب يقع في 320 صفحة من الحجم المتوسط، وهو مطبوع طبعاً جيداً على ورق مصقول في المطبعة الهاشمية بدمشق
علم الصحة
تأليف الدكتور عبد الواحد الوكيل بك
هذه هي الطبعة الثانية من كتاب (علم الصحة) للدكتور عبد الواحد الوكيل بك، وقد صدرت الطبعة الأولى منه منذ سنوات فاستنفدها إقبال القراء؛ فزاد فيه ما زاد من الفصول ثم أصدره في هذه الطبعة الجديدة
وكتاب علم الصحة من الكتب التي لا يصح أن تخلو منها مكتبة قارئ يلتمس أسباب الوقاية مما قد يعرض له أو لأهله وولده من المرض؛ وفيه عون كبير للمعلمين والمعلمات في المدارس على النهج الذي يدرسون لتلاميذهم من علم الصحة الوقائي؛ وفيه للوالدات والمولدات والممرضين ومعاوني الصحة وطلاب الخدمة الاجتماعية نفع لا يجزئ بما فيه كتاب غيره.
ويقع الكتاب في نحو ستمائة صفحة من الحجم المتوسط، ويباع في مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة.
4 - وحي الرسالة
(من واجب (الرسالة) أن تنشر ما يتفضل به عليها الأدباء
الزملاء والأصدقاء من صادق النقد وجميل الرأي في كتاب
(وحي الرسالة) تسجيلا للفضل منهم وللشكر منا)
قالت جريدة (الأهرام) الغراء:
للأستاذ الكبير أحمد حسن الزيات، أسلوب فني امتاز بالأناقة والطلاوة
وحسن البيان
وقد عرف قراء العربية هذا الأسلوب العذب فيما أخرجه المؤلف من كتب بعضها مترجم وبعضها الآخر من تأليفه؛ ثم عرفوه في مجلة الرسالة، حيث ظل الأستاذ الزيات سبع سنوات يطالع قراءه كل أسبوع بمقال افتتاحي يمس فيه مختلف الموضوعات. فكان له من قرائه الكثيرين ما للمطرب النابغ من معجبين. أليس هؤلاء المعجبون يحاكون مطربهم، ويرددون أناشيده وأغانيه؟ نعم، وفي هذا إذاعة لسر نبوغه
وإن للأستاذ الزيات لمعجبين من هذا الطراز الرفيع يذيعون سر نبوغه بمحاكاة أسلوبه القوي الرصين، وهذا في الواقع ليس كسباً للزيات بقدر ما هو كسب للبيان العربي الصحيح
ولقد أخرج الأستاذ الزيات منذ أسابيع: الجزء الأول من (وحي الرسالة) وهو مختارات مما نشره في مجلته (الرسالة)، ولعل هذا التعريف الموجز يكفي للدلالة على ما لهذا الكتاب من قيمة أدبية عظيمة. وسنقف عند ذلك، إذ أنه في رأينا معنى من معاني الإطراء يحسن الوقوف عنده
وكتاب (وحي الرسالة) يقع في 480 صفحة من القطع الكبير، طبعت طبعاً أنيقاً على ورق صقيل، وهو يباع في جميع المكتبات العامة، وثمن النسخة الواحدة منه خمسة وعشرون قرشاً.
(ش)
وقالت مجلة (الشعلة) للغراء في عددها الأخير:
نغمط الأستاذ أحمد حسن الزيات حقه ونقلل من قدره إذا كنا نحاول أن نقدمه هنا إلى القراء. فالأستاذ الزيات أعظم من أن يحتاج اليوم إلى تقديم، لا هنا في مصر وحدها بل وفي أنحاء الشرق كله.
ولقد أخرج الأستاذ الزيات منذ أسابيع كتابه الجديد (وحي الرسالة) فكان هذا سبباً في حيرة وحرج تملكانا
ماذا نقول في هذا الكتاب؟
أنتكلم عن أسلوب الزيات الأخاذ الجذاب؟ أنتكلم عن أناقته وذوقه الممتاز في انتقاء ألفاظه؟ أنتكلم عن (الفكرة الرائعة) يقدمها الزيات إلى قرائه في عبارة قوية ومنطق متين؟
ولكن هذا كله معروف، وإعادته وترديده هو من قبيل تحصيل الحاصل. أنسكت إذن ولا نكتب شيئاُ عن الكتاب؟ ولكن هناك تقليداً، تواضعت عليه الصحف جميعاً، أن تقول كلمتها عن كل ما يجد في عالم التأليف!
وأخيراً فكرنا في تقليد جديد: أن نذكر هنا أن الزيات قد أخرج كتاباً. والقراء من أنفسهم يعرفون!
وهنيئاً للزيات كتابه الجديد.
وهنيئاً للكتاب الجديد مؤلفه.
وهنيئاً لقراء العربية أديبهم، وهنيئاً لهم كتابهم الجديد.