الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 352
- بتاريخ: 01 - 04 - 1940
فقهاء بيزنطة
فقهاء بيزنطة هم الذين كانوا يجادلون في البيضة والدجاجة: أهذي أصل تلك، أم تلك أصل هذى، بينما كان محمد الفاتح يرسل الصواعق دراكاً على أسوار القسطنطينية، فلا يخرجهم من شدة الخلاف وحدة الجدل ما فوقهم من حمم المنايا، ولا ما حولهم من صرخات الفزع!
وفقهاء بيزنطة هم الذين يجادلون اليوم في محراب المسجد بعد ألف ومائتي عام: أهو سنة فيبقى، أم هو بدعة فيزول؛ وفي محمل شجرة الدر: أهو موافق للشرع فيسير، أم هو مخالف له فيقف! يجادلون في هذا وفي ذاك بين أعمدة الجرائد والمساجد، ويسرفون في الجدال حتى يتشعب الخلاف ويتمادى، ويتقسم الرأي ويتعادى، فيكون لكل شيخ شيعة، ولكل شيعة عصبية جاهلة تمزق ما وصل الدين به القلوب من وشائج الإخاء والمودة
نعم يجادل فقهاء بيزنطة اليوم في المحراب والمحمل، ومن قبل كانوا يجادلون في زر العمامة أيبتر أم يضفي، وفي شعر الذقن أيحفى أم يعفى، وفي قبر الميت أيسوى بالأرض أم يقام؛ حتى أدخلوا في روع العامة من طول ما شغلوهم بهذه الصغائر أن الدين هو هذا وليس غير هذا. فلو تسنى لك أن تكشف عن عقيدة الإسلام في ذهن العامي أو شبهه لما رأيت إلا صورة مشوهة من رسوم العبادات وأوضاع العادات وألوان الأدعية. أما الإسلام الذي وضع الدساتير الخالدة لسعادة الفرد والأسرة والأمة والإنسانية في كل زمان وفي كل مكان، فذلك معنى لم يجر في شعوره ولم يدخل في علمه. والعوام وأشباه العوام هم جملة الأمة الإسلامية اليوم، فما تسمعه من هذا تسمعه من ذاك، وما تراه هنا لابد أن تراه هناك. وعلة هذه الجهالة الفاشية هي طريقة أهل الدين في تعلمه وتعليمه ونشره، فهم يقفون في تحقيقه عند النقل، ويقتصرون في تطبيقه على الشكل، ويكتفون في نشره بهذه المظاهر الصوفية الباطلة؛ فكان من جرائر ذلك عليهم أن قصرت مداركهم عن مداه، وبان على القدر الذي شدوه منه الضيق والضحل والجمود، ووهم الناس أن ما عندهم هو الدين كله فزهدوا فيه ونفروا منه.
إي والله تزال فقهاء بيزنطة يفرقون بين الناس بصدعات الرأي والهوى في المحراب والمحمل، وفيما هو أدنى عن المحراب والمحمل، وهم يعلمون أن الأديان البشرية التي وضعها الطغاة تحدياً لله وتهجماً على دينه، تحاول بقوة الجيش وحجة المدفع ودعاية المذياع أن تخفت ذكر الله في كل أرض، وتطفئ نوره في كل سماء. وهذه المذاهب
الأرضية إنما تجادل خصومها فيما تزعمه لنفسها من قتل البؤس ومحو الفروق ونشر العدالة، لا فيما تتخذه بشعائرها من بنىً، أو تبتدعه لمظاهرها من شكول
ثم جعلوا غاية الدين أن يتزيوا بالورع، ويتفقهوا في علومه بتشقيق الجمل وتوليد الألفاظ وتعديد الفروض، فإذا زادوا على ذلك شيئاً فهو الوعظ الذي يميت الطموح ويخمد العزيمة ويحقر الدنيا ويهيئ النفوس المثقفة التي أعوزها النور الهادي والصوت المهيب لأن تصغي لما يتقوله المبشرون على الإسلام من الأباطيل ويزورونه عليه من الشبه.
ليس من البر بالدين يا ورثة الأنبياء أن تخذلوا دعوة الله لتنصروا دعوة الإنسان
إن الدعوات السياسية التي تتخذ شعار الإصلاح، أو تلبس مسوح الدين، تسلك إلى النفوس المؤمنة المطمئنة سبل الغرور والغي في غفوة من العقل أو سورة من الجهالة، فتزعزع إيمانها بالشكوك، وتذهب اطمئنانها بالفتن. فماذا أعددتم لحماية هذه النفوس الغريرة الغضة من وساوس الفتنة وهواجس الجهل؟ إنني ألقي هؤلاء النشء في كل يوم، وأحدثهم في كل لقية، وأكشفهم في كل حديث، فلا أجد عندهم من الإسلام إلا ما كان عند نصارى القرون الوسطى منه؛ ثم لا تسمع منهم إلا غماغم من الألفاظ المنكورة المكرورة عن الزواج والطلاق وحرية الفكر ومجافاة التمدن. فإذا أخذت تقرر لهؤلاء كيف كان الإسلام بتوحيده بين الدين والدنيا علاجاً لأدواء المجتمع ونظاماً لفوضى الطبيعة، وتدلل على أن ميزة الإسلام التي تفرد بها هي أنه يساير التطور ويطاول الزمن، فلا يمكن أن تكون فيه مناقضة للمدنية الصحيحة ولا معارضة للتقدم الحق، سألوك دهشين: وأين نجد بيان هذا؟
والمعضلة التي لم نجد لها إلى اليوم حلاً هو إجابتهم عن هذا السؤال: وأين نجد بيان هذا؟ الواقع الذي يكسف البصر ويرمض الفؤاد أنك لا تجد في مكتبة الدين الإسلامي على ضخامتها وسعتها كتاباً واحداً يشرح للناس عبقرية هذا الدين وفلسفة تشريعه ووجوب إصلاحه وأسباب خلوده، على ضوء العلم الكاشف ونظام التأليف الحديث. وما أظن ديناً من الأديان قد نكب في نفسه وفي أهله بمثل هذه النكبة!
فلو أن الله وفق (جماعة كبار العلماء) فألفوا هذا الكتاب بدلاً من تأليفهم في (المياه التي يجوز بها التطهير) مثلاً لدفعوا عن أنفسهم معرة الجود وعن دينهم نقيصة التخلف.
ولكن كبار العلماء لم يدخلوا هذه (الهيئة) إلا ليعظم القدر ويضخم المرتب، فكيف نجشمهم
أن يبطلوا كيد المبشرين بوضع هذا الكتاب، أو يفصلوا بين المجادلين المتقاتلين في المحمل والمحراب؟
أحمد حسن الزيات
3 - في أرجاء سيناء
للدكتور عبد الوهاب عزام
دير سنت كترين
- 1 -
عطفا إلى اليسار في شعب من وادي الشيخ، فمررنا بأبنية قليلة الملاط كأنها حجارة مرصوصة، وعرفنا من بعد أنها كانت للجنود الذين رافقوا عباس باشا الأول حينما أقام في هذه البقعة من سيناء، وقد رأينا بناءً كبيراً على جبل شامخ قريب من الدير وهو قصر عباس باشا، وكان يحب الإقامة في البراري، ولا سيما في برية سيناء. وبلغنا الدير قبيل الغروب، فإذا حديقة إلى اليمين ذات سور قصير، بينها وبين الجبل طريق ضيقة تؤدي إلى الدير
والدير بناء واسع عال يحيط به سور متين علوه أحد عشر متراً وفي جداره الغربي باب صغير دخلناه إلى باب آخر وراءه باب ثالث إلى اليمين. وهذا السور الضخم، وهذه الأبواب الصغيرة المتتابعة تدل على ما كان يخشاه أهل الدير من غارات البدو وغيرهم في العصور السالفة. وللدير في أعلى جداره الشمالي باب عليه وقاية من الخشب أعد للدخول إلى الدير وقت الخوف. فيرفع الداخل في سلة معلقة ترفعها حبال على بكرة كبيرة تسمى (الدوار)، وتشد الحبال إلى عمود له ترس كبير يدور به عدة رجال، فتلتف الحبال وتمر على البكرة فترفع السلة، من هذا الباب أدخلت أمتعتنا
دخلنا إلى أبنية كثيرة لا يتيسر وصفها، فإنها لم تخط في وقت واحد، بل بنيت في عصور مختلفة. صعدنا درجاً إلى مستوى، ثم صعدنا مرتين فلقينا رئيس الدير فدخلنا إلى حجرة كبيرة، فجلسنا نتحدث وقدمت إلينا القهوة على الطريقة المصرية وعرض علينا النبيذ، والنبيذ يصنع في الدير وفي الواحات التابعة له في أنحاء سيناء، وهو من التمر، ولخمور الأديرة صيت ذائع في الشعر العربي، ومن أجل هذا كثر ذكر الأديار في الشعر منذ عهد أبي نواس، كان الشعراء يقصدونها لبعدها عن البلدان ونزاهتها وما فيها من خمور.
ثم خرجنا من الحجرة لنرى الحجر التي أعدت لنزولنا، فصعدنا إلى طبقة ثم أخرى في
الجهة الغربية، فإذا مكتب رئيس الدير، ثم غرفة كبيرة للجلوس والمائدة، ثم مطبخ، ثم صف من الحجر أمامها طنف يفضي إلى الجناح الجنوبي من الدير، وقد عمر حديثاً بالأسمنت المسلح فكان شذوذاً في هذه الأبنية العتيقة
ويفضي الدرج الصاعد إلى هذه الطبقات العليا إلى سطح تحده من الشمال والغرب شرفات السور المطلة على حديقة الدير ومدخله. وهناك مدافع صغيرة يقال إن بعضها من أيام السلطان سليم، وقد أهديت إلى الدير لمدافعة المغيرين
أكرم القوم مثوانا فأنزلونا في عشر حجرات في كل حجرة سريران. فأمضينا ليلتنا مستريحين
- 2 -
بني هذا الدير القيصر جستينيان حوالي سنة 545م، باسم كترين زوجه التي عرفت من بعد باسم سنتا كترينا، في موضع يعلو سطح البحر بنحو خمسة آلاف قدم، وهو يشبه مربعاً طول ضلعه ثمانون متراً. وله أوقاف كثيرة في سيناء ومصر وبلاد اليونان. وكان له أوقاف كثيرة في بلاد الروس استولى عليها البلشفيون. له في سيناء بساتين كثيرة وأديرة وكنائس، وله أبنية في القاهرة الإسكندرية والسويس، ويقيم مطران سيناء في القاهرة وقت الشتاء
وأعظم غلات الدير الآن ريع مائة فدان في سرياقوس وهبها له عباس باشا الأول. وكان دخل الدير زهاء ستة آلاف جنيه نقصت كثيراً بعد استيلاء الروس على أوقافه
وينفق بعض الريع على أعراب سيناء، يعطون الخبز كل يوم ولكل واحد من الأعراب الذين يقصدون الدير أن يأخذ الخبز يوماً بعد يوم، ثلاثة أرغفة لكل إنسان. وكان في الدير رهبان كثيرون ثلاثمائة أو أكثر وهم الآن زهاء الأربعين.
- 3 -
وفي صبيحة يوم الأربعاء 15 ذي الحجة (23 يناير) سار معنا أحد الرهبان ليرينا بعض أبنية الدير فذهبنا إلى الكنيسة الكبرى: باب ضخم من الحديد ثم باب خشبي دقيق الصنع عتيق يقال إنه من عهد جستنيان
ويلقى الداخل بهو كبير على جانبيه صفان من عمد الجرانيت ثم رواقان وراء الأعمدة. وفي الكنيسة من النقش والتذهيب ومن الصور والألواح ما يعيي الناظر إحصاؤه بله التأمل فيه ومعرفة دقائقه
ومما أذكر من هذه المناظر منبر إلى اليمين عليه صورة للدير واضحة ملونة، وهي من تصوير الأب كرنارس الكربتي من مصوري القرن الثامن عشر الميلادي؛ ومن الصور القديمة صورة للسيدة مريم تحمل عيسى عليه السلام ويقال إنها من صنع لوقا الإنجيلي، وصورة أخرى يقال إنها صنع جستنيان
ويعلو هيكل الكنيسة عقد قد صور عليه المسيح والرسل والأنبياء بالفسيفساء في جمال وإتقان الخ
ووراء هذه الكنيسة كنيسة صغيرة لسنت هيلانة وتسمى كنيسة العليقة ويقال إنها في مكان شجرة العليق التي رأى فيها موسى عليه السلام النار، وفي الجدار الشرقي كوة تقابل صدعا في الجبل. وتدخل الشمس يوم 23 مارس من الصدع إلى الكوة فتقع على مكان الشجرة. ووراء الجدار شجرة يزعمون أنها هي شجرة موسى، ولكني لم أرها
ويلزم داخل هذه الكنيسة الصغيرة بخلع نعليه اقتداء بموسى عليه السلام في القصة التي ذكرت في القرآن الكريم: (فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى)
وخرجنا من الكنيسة إلى مشاهد أخرى منها مكتبة الدير وفيها كتب دينية كثيرة قليل منها باللغة العربية. وقد رأيت هناك تمثالاً لإسماعيل باشا الخديوي فسرني جداً أن رأيته في هذا المكان فشعرت أن سلطان مصر ممتد إلى هذا الدير
ثم رأينا مسجد الدير، ولا ريب أن القارئ سيعجب حين يقرأ هذا التركيب المتناقض:(مسجد الدير)، ولكنها حقيقة، ففي الدير مسجد صغير ملاصق كنيسة صغيرة. وهو مسجد ساذج له منبر قديم قد وضعت عليه أعلام مزركشة جديدة مصنوعة في مصر؛ على العلم الأمامي (أنا فتحنا لك فتحاً مبيناً) من فؤاد الأول. وعلى كل من العلمين الجانبيين: لا إله إلا الله الملك الحق المبين محمد رسول الله صادق الوعد الأمين. من فؤاد الأول. والتاريخ 1349
وفي جانب المسجد منضدة عليها كسوتا ضريحين مصنوعتان في مصر أيضاً أهداهما الملك فؤاد رحمه الله؛ إحداهما لقبر النبي هرون والأخرى لقبر النبي صالح، وتؤخذان في مواسم الزيارة، ثم تردان إلى الدير فتحفظان في المسجد
وبجانب المسجد مئذنة مربعة لها سلم خشبي وفيها ثلاث طبقات أو أربع صعدت فيها مع بعض الرفاق وشاقني الأذان هناك فأذنت، ولعل هذا الأذان كان إيناساً لهذا المسجد المعطل المستوحش
وكنت قرأت في كتاب نعوم شقير عن سيناء، أن على منبر هذا المسجد كتابة قديمة، وأن فيه كرسياً قديماً، ولكني لم أجد الكتاب ولا الكرسي، فسألت المطران، فقال: حفظناهما في المكتبة. ولست أدري لماذا لم يحفظا في موضعهما من المسجد. وكان المرحوم أحمد زكي باشا زار الدير ونسخ الكتابة التي على المنبر والكرسي. فأما الكتابة الكوفية التي على المنبر فهي مصورة في كتاب شقير، وهذا نصها:
(بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. نصر من الله وفتح قريب، لعبد الله ووليه أبي علي المنصور، الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه المنتصرين أمر بإنشاء هذا المنبر السيد الأجل الأفضل أمير الحرمين سيف الإسلام ناصر الإمام، كافل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين أبو القاسم شاهنشاه عضد الله به الدين وأمتع بطول بقائه أمير المؤمنين وأدام قدرته وأعلا كلمته. وذلك في شهر ربيع الأول سنة خمسمائة. أثق بالله)
والخليفة الآمر الفاطمي تولى الخلافة من سنة 495 إلى سنة 524
وأما الكتابة التي على الكرسي فهي أعظم خطراً ودلالة على عناية الفاطميين ببناء المساجد في هذه البقعة:
(بسم الله الرحمن الرحيم. أمر بعمل هذا الشمع والكراسي والجامع المبارك الذي بالدير الأعلى والثلاث مساجد التي فوق فاران والمسجد الذي تحت فاران الجديدة والمنارة التي بحضر الساحل، الأمير الموفق المنتخب منير الدولة وفارسها أبو منصور أنوشتكين الآمري)
والآمري نسبة إلى الآمر بأحكام الله. فالكرسي والمنبر صنعا في زمان الخليفة الآمر
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام
مزامير للنفس العربية!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
تمهيد:
استوحى روح مولى نفوسنا وسيد عقولنا وآخذنا إلى رب الحياة ومقدمنا إليه بسنته وحنيفيته السمحاء (محمد)، ليملأ قلبي ويفيض على قلمي ويهديه ويسدده في وفائه له ولقوميته التي حملت أجمل الأمثال العليا في الفكرة والفطرة والخلق والمعاملة
أستوحي هذا الروح الأكبر، ويتعرف قلبي الصغير إلى قلبه الكبير، كما يتعرف الجدول الضحضاح إلى النهر البراح؛ وأستعينه في خدمة النفس العربية بالمساهمة في حملها على إدراك فضائلها وحاجة الإنسانية إليها.
وإنما أتوجه إليه إذ هو باعث روح أمته العجيبة ومخلدها على مر الأيام وكر الأعوام، وموحد شملها، وفارض أمجادها على القلوب والعقول
وأومن إيماناً لا يتزعزع أن أمته هذه لا ينقصها إلا الوحدة في القلوب أولاً كما توحدت على يديه حتى تعود فتنهض بجسمها العملاق الهائل فتستلم الشمس من المشرق لتسلمها إلى المغرب
وأستوحي المهد الأول الذي درجت فيه هذه الأمة العجوز وانبثق منه ينبوعها الأزلي. . . ذلك المهد الناطق بالصمت، العامر بالنجوم، الحصين بالتجرد والتفرد، المبني بالجبال، المفروش بالرمال، مراد الأرواح، ومجتلى الإلهية، ومبعث النبوات، ومركز المعمور، وملتقى الشرق بالغرب. . .
كما أستوحي بلادها الثانية التي فاضت عليها أمواجها، وتلاحقت أرتالها، ونشرت عليها سلطانها الروحي واللغوي، وسطرت على أديمها تاريخها بعروشها وفتوح سيوفها وأقلامها
وحينما أستوحي كل أولئك أجد السماء تنطق والأرض تنطق وكل شيء يوحي ويلهم ويدفع القلم دفعاً إلى التسطير والتحرير لبعث هذه الأمة والتفاني في خدمتها والتفادي في إحياء مثلها الأعلى الذي رسمه الله في قلب أبيها محمد، وملء أسماعها بأناشيد مجدها وترانيم وحدتها حتى تعود فتملأ الدنيا وتشغل الناس وتنثر أشخاصها وكلماتها الصامتة والناطقة في مجاهل الأرض كما تنتثر النجوم في مجاهل السماء
غير أني أبادر فأبرأ إلى الله من العصبية القومية الجاهلية وضيقها وسفاهتها على غيرها، وإنما أرجو أن تقوم العربية كما قامت أول أمرها على يد أبيها محمد أداة تنظيف للبشرية وتوكيد لوحدتها. . . ولذلك أبادر فأنبه إخواننا وأصدقاءنا من الجنسيات الإسلامية الأخرى إلى هذا حتى يستيقنوا أننا لا نريد مفاخرة ولا منافرة جنسية دموية قائمة على زعم فروق جوهرية بين الأجناس والألوان؛ وإنما هي دعوة للعرب - وهم مادة الإسلام الأولى وقوم القرآن - إلى الاعتداد والاستمساك بالمثل العليا التي اختار الله القومية العربية لحملها إلى الناس، وبالصفات الطبيعية العربية العليا التي كانت سنداً لهذه المثل
وقد دعاني إلى اختيار هذا الزمان للبوح بهذه الأناشيد التي طالما ترنمت بها نفسي معاني مطلقة حرة غير مصبوبة بالألفاظ، أنني وجدت الأقدار تنزل فيه وتتلاحق بسرعة وتتولى تغيير مقدرات الأرض وأوضاعها النفسية والجغرافية، ووجدت صراع القوميات الآراء والمعتقدات والفلسفات في رءوس الناس وقلوبهم لا يقل قسوة وعنفاً واحتداماً عن صراع القوى الحديدية العمياء النارية التي تأكل الأخضر واليابس وتحطم القائم والحصيد وبين هذين الصراعين يقف قومي العرب متفرقي الرأي ف الحاضر مختلفي التقدير للمستقبل حائري الألباب لا يكادون يعرفون في أي النواحي موضعهم، ولا من أي الآفاق مطلع مستقبلهم. ولا يكادون يعرفون ما في مصاحفهم ودساتيرهم من المثل العليا التي تستطيع أن تجمع أمم الأرض كلها على حدود العدالة والسلامة الإجماعية متى وجدت قوماً يؤمنون بها ويحسنون ذلك الإيمان، ويمثلونها خير تمثيل ويدعون إليها بأسلوب هذا العصر الذي يعتمد على براعة الاستلفات والإعلان
وذلك لأن قومي فقدوا (الأب) الواحد الذي يجب أن (يلدوه) في كل جيل ليتكلم بلسانهم ويتبنى قضيتهم ويتولى حراسة ميراثهم القلبي والفكري والمادي حتى لا تمحوه الغفلة أمام الأقدار التي لن تزال تغير أوضاع الناس ومقدرات الأمم، ولا ترحم الضعيف الكسلان المتواني في حراسة حقه وأمجاده بالسيف والقلم، ولا تقيم وزناً لمن لا يقيم وزناً لقوانين الطبيعة وسنن الله فيكتفي بالأماني والأحلام وتزويق الكلام ويترك ما آمن الله به وأولو العلم وهو الوحدة والعدالة والعلم والعمل
فإلى أن يوجد الأب الواحد العادل العالم العامل، فيتولى بوحدة فكره وفنه وضع القضية
العربية الوضع المحكم وتنسيق قواها التنسيق البديع، ويتولى بعدله توزيع الاهتمام والشعور على كل بقعة في الوطن العربي الأكبر، ويتولى بعلمه الإحاطة بالتدقيق والجليل من شئون أمته في بطون وديانها وشعاب جبالها في صحرائها وخضرائها، في حواضرها وبواديها، من الخليج الفارسي إلى الأطلسي، ويتولى بعمله جمع أيديها حتى تكون يداً واحدة، تصفق بها في مواثيقها وعهودها صفقة واحدة، وتلوح بها لأعدائها قبضة واحدة وتضرب بها قيودها وأغلالها ضربة واحدة أقول إلى أن يوجد ذلك الأب لا أقل من أن ينشد لها القادرون على الإنشاد والبيان بمزامير وأبواق تهتف في أرضها النائمة بنداء اليقظة والانبعاث في فجر الحياة الجديدة التي لا بد فيها لطالبي المجد من التبكير للسبق في المضمار
وإن قدر الله - لا قدر! - فأفلت الحاضر الراهن من أيدي العرب من غير أن يجمعوا أمرهم ويخفوا في طريق الحياة مع الزمن الذي يجري بالناس، ويخضعوا أجسامهم وعقولهم لضرورات العلم والقوة والاتحاد ملاقاة الصعاب بجبهة متحدة، فسوف تموت آمال تحبط أعمال وتحدث أهوال!
ولست أعلم زمناً أصلح للسعي إلى تحقيق الجبهة العربية الواحدة، وأدعي إلى الإيمان بها من هذا الزمن الذي تداس فيه الأمم الصغرى، ولا يكون فيه لغير القوميات الكبرى وزن، أو اعتبار في أي معيار. .
ولست أعلم كذلك قوماً لهم مثل أوطاننا المتصلة المكونة من مجموعة نادرة فريدة من الوديان والسهول والجنات والأنهار، ولهم مثل أعلى واحد في العقيدة والتقاليد والأخلاق، ولهم لغة واحدة يفرغ عليها التاريخ والدين جلالاً وسحراً، ثم يتوانى قادتهم وزعماؤهم في استغلال هذه الظروف والفرص هذا التواني الذي وراءه التفكك وتبديد الميراث
ويشهد الله أنني لا أتمنى قيام القومية العربية للانتفاع فقط بما فيها من العزة لكل فرد ينتسب إليها، ولا لما فيها من الخيلاء والكبرياء اللتين تصاحبان الغرور القومي لدى أكثر الأقوام. . . ولكنني أتمنى قيامها للاعتزاز أولاً بمثلها الأعلى الذي رفعته ورفعت الحياة به أيام أن كان لها السلطان والصولجان. . . ذلك المثل الذي لا يتحقق التوازن الدولي، والعدل الطبيعي إلا به، ولا يضع علاقات مودة، ومعاني بر جديدة بين شعوب الأرض إلا
هو. لأنه مثل أعلى يقوم على كلمتين من كلمات الله رب الناس جميعاً وجاعلهم صنوفاً، وأنواعاً وأجناساً، وألواناً كما يصنف البستاني أزهار البستان. . .: على كلمة ناطقة تدور بها الألسنة وتستوحي منها الأفكار، وهي القرآن! وعلى كلمة صامتة مستخفية فيها أسرارها وأوتارها وأشواقها وأوطارها وهي القلب العربي!
وفي الكلمة الأولى اعتمد الله على بلاغة هذه الأمة وفصاحتها وصراحتها في الكشف عن كل مخبوء في الضمير وفي الشعور وفي الفكر وتسجيله بلغة موسيقية موجزة مبينة، وإلقائه على الأسماع والإفهام آيات منزلة من حول العرش. . .
وفيها يضع الله كل شيء في الطبيعة في موضعه أمام الفكر البشري (أنا كل شيء خلقناه بقدر)(أعطي كل شيء خلقه ثم هدى) فلا يجوز الاعتراض والثورة على نظام الكون ومحاولة تبديله (لا تبديل لخلق الله)
وفيها ينظر الله إلى أمم الأرض كأمة واحدة (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون)
وفيها يحطم الله الأصنام الحجرية والبشرية ويسحق (العجل الذهبي) وعباده، ويكسر كل قيد يقيد النفس بالمادة ويجعلها تخلد إلى الأرض وتتخذ الأهواء آلهة وتشبع الشهوات السفلى وتعيش في الأرض في غفلة عن الجمال الأعلى؛ فيخرج الإنسان بعد هذا كله طليقاً حراً قديس الروح نظيف الجسد متجرداً من كل شيء لله الذي أعطاه كل شيء. . .
وفيها يعقد الله بينه وبين الإنسان صلة مبنية على منطق الفكر ومنطق الوجدان، فما يقدره الله في الطبيعة ويحترمه يقدره الإنسان ويحترمه، وما يبغضه الله ويمتهنه يبغضه العقل الإنساني ويزدريه؛ فالعقل البشري صورة مصغرة من العقل الأعلى الذي يدير الكون ويحرسه ويمسكه أن يزول. ألم يقل:(ونفخت فيه من روحي)(إني جاعل في الأرض خليفةً)؟
وبدهي بعد ذلك أن يصدر العربي من بين يدي القرآن الذي يضعه في الحياة هذا الموضع الأكرم الأعلى، وهو معتقد أنه قوة من قوى الله مستخلفة لحراسة الأرض وحراسة النفس والإنسانية من فتن الحياة وقوى الشر ونوازع الإثم، وأن ينظر إلى الناس كما ينظر إليهم الله نظرة رحمة وغيرة على مصالحهم وسعي حثيث لها، لا كما ينظر الملحدون إلى أنفسهم
وإلى الناس نظرة ضياع وحيرة بين القوى العمياء، ولا يعتقدون أن القوة المتسلطة على الكون تأبه لهم أو تقيم لهم وزناً، فهم كذلك لا يقيمون لقوانينها في الطبيعة وزناً، وإنما يدخلون الحياة ويخرجون منها كما تدخل وتخرج السباع إن كانوا أقوياء، أو كما تحيا وتموت الخراف البلهاء إن كانوا ضعفاء
وبدهى كذلك أن تكون هذه الصداقة المعقودة بين العربي ورب الطبيعة مبعث اعتزاز وقوة واعتصام بقوة الذي بنى السماء والأرض، يتحول بها إلى قوة مندمجة في قوى الكون التي في يد الله. وينظر بها إلى ما في السماء والأرض وكأنه ينظر إلى أشياء موضوعة مهيأة له في دار أبيه. . .
أما القلب العربي، وهو الكلمة الصامتة، ففيه حيثما كان وراثات مدخرة من بساطة الحياة في الصحراء واتساعها وعزلة الفكر فيها عن المؤثرات الصناعية، وإشراق النجوم عليها، واحتكاك الفكر فيها بالسماء دائماً، وانطلاق النفس من غير سدود وقيود، واعتداد الإنسان فيها بنفسه، واعتماده على قواه الذاتية، وسبح الخيال وراء المجهولات والغيوب، وتجرد الحياة فيها من الزينة الصناعية والتكليفات الوضعية التي لا تطلق النفس لدواعي الفطرة بل تجعل عليها ركاماً من قيود التقاليد
يضاف إلى هذه الوراثات الاستعداد الدائم لبذل الدم والمال في سبيل الشرف وحسن الأحدوثة، وعدم الارتباط بالأرض إلى درجة التضحية بالحرية والخضوع لسلطة مذلة واستبداد مهدر لكرمات الإنسان وحرمات الحياة. . .
وهذه صفات ترشح قومها لحمل دعوة كالدعوة الإسلامية التي تطلب الدم والمال للوصاية على كل حق في الحياة. ولن تستطيع نفس مترفة معقدة الفكر بتعقد الحياة التي نشأت فيها، معقدة النفس بتعقيد التربية السياسية ذات الأوضاع والقوانين الكثيرة، محبة للحياة حريصة عليها لما فيها من الترف والنعمة، بعيدة عن الطبيعة لأنها عاشت سجينة بين الجدران أو مكبة على عبادة الزراعة والصناعة، مثقلة بالأموال والخيرات الكثيرة فليس لها فراغ للفكر في الكون وربه. . . لن تستطيع هذه النفس أن تحمل ما تحمل النفس العربية من رسالة البساطة والمساواة والرجوع إلى قوانين الطبيعة والنظر إلى أوليات الحياة ومبادئها والتجرد من التعقيد وركام التقاليد
ومن أجل ذلك لم يصطف الله أمة من الأمم المتحضرة كالرومان والفرس لحمل رسالة الإسلام مع أنهما كانتا على علم كثير وحضارة عظيمة، بل اصطفى العرب لتلك الرسالة، رسالة الفطرة والبساطة، لأنهم أقرب الناس في حياتهم من مبادئ الحياة العامة التي تجعل الإنسان شيئاً من الطبيعة غير منفصل ولا معزول عنها بجو صناعي، ولأنهم يكونون وهم الغالبون أسرع من المغلوبين إلى ما يحقق العدالة والمساواة، إذ لا يشعرون بفرق كبير بين حياتهم في الحكم وأبهته، وبين حياتهم على قدم المساواة مع أقل الناس تكاليف
واعتقادي أن الرجل الأوربي أو (الرجل الأبيض) على العموم لا يمكن أن ينهض برسالة المساواة بين الناس، لأنه يجد في شكله جمالاً وفي قده اعتدالاً وفي عقله تركيباً، وفي حياته على العموم زيادات لا يجدها عند سواه. . . بل إن بعض أنواع الرجل الأبيض - وهم الجرمان - قد بدءوا فلسفة جديدة في الفروق الجنسية لا يمكن مطلقاً أن تقوم معها عدالة أو مساواة حتى بين أنواع الرجل الأبيض نفسه. . .
وقد يكون للبيض بعض العذر من ملاحظة الفروق الظاهرة بين بيئاتهم وبيئات الأجناس الملونة، فلا يجدون أنفسهم تطاوعهم على تناسيها، والنزول بين غيرهم من بني البشر على قدم المساواة، لأنهم أولاً معزولون من قديم الزمان عن الاتصال بالأجناس الملونة التي تسكن في وسط الأرض وحوله، فلا يعلمون جوهر نفوسهم ولأنهم ثانياً يعتدون بشكليات الحياة اعتداداً كبيراً، ولذلك ملئوا حياتهم بها؛ فلا يمكن مطلقاً أن يغتفروا الفرق بين الجلدة البيضاء والجلدة الصفراء والسوداء والحمراء. . . وإنهم ليغفرون الفروق بين الإنسان والكلب، فيحتضنون الكلاب ويقبلونها ويبكون رحمة لها ويعاملونها بالحسنى، ولكنهم يأنفون من رؤية الرجل الملون ويهينونه ولا يرحمونه ولا يجتهدون في رفع حياته وإنقاذه من وثنياته وخرافاته. مع أنهم فتحوا دياره بالقوة منذ أكثر من قرن، وعندهم من وسائل إخضاعه للتعليم والتهذيب بالإحسان والقوة الشيء الكثير. . . ولكنهم مشغولون فقط بالبحث عن الذهب الأصفر والذهب الأسود. . .!
والذين شاهدوا الشريط السينمائي الذي عرض في بعض دور السينما بالقاهرة منذ قريب عن حياة (لفنجستون) الكاشف الإنجليزي المشهور، يدركون تماماً ما يرمى إليه واضع هذا الفلم ومخرجه من نقد، لإهمال التبعات الملقاة على عاتق الرجل الأبيض في تحضير هذه
البقايا من الإنسانية الباقية على وثنياتها وخرافاتها وانقطاعها عن حياة العلم والدين.
دع عنك المؤثرات الطبيعية والصناعية التي جعلت الرجل الأبيض يهمل في واجباته نحو إخوانه من بني البشر هذا الإهمال وتعال معي ننظر إلى نعم الله على القومية العربية حيث وضعها هذا الوضع الوسط العجيب بين أجناس الناس وبقاع الأرض. . .
إن وضعها هكذا من الخليج الفارسي إلى المحيط الأطلسي وسطاً بين أمم الشرق والغرب والشمال والجنوب لتلتقي عندها الألوان والأجناس والدماء والأجواء والثقافات والحضارات والطباع والأمزجة، فتأخذ قلوبها من جميع القلوب، وعقولها من جميع العقول، وأجسامها وألوانها من جميع الأجناس والألوان، ثم يمتزج كل أولئك ويصهر في طبيعتها المعتدلة ويخرج للناس بعد هذا ثقافة نفسية وسياسية يلتقي عليها الشرق والغرب لقاء يحطم القيود ويجتاز الحدود. لأن فيها من كل جنس رفداً، ومن كل عقل مدداً، ومن كل قطر ورداً. . .
فإذا خاطب الله برسالته الأخيرة وكلمته الخاتمة هذه الأمة التي في مركز الأرض فإنما يخاطب البشرية جمعاء متمثلة في هذا الجنس
وإذا خاطب العربي المتحضر أمم الشمال والغرب المتحضرة، أخذوا عنه خطابه وعقلوه لأن فيه مسحة من بياضهم وثقافتهم، ولأنه أقرب الأجناس إليهم وأكثرها اختلاطاً بهم
وإذا خاطب العربي المتبدي أمم الجنوب والشرق، أخذوا عنه وعقلوا منه، لأن فيه بساطتهم ومعارفهم، ولأنه من أقرب الأجناس إليهم وأكثرها اختلاطا بهم
وتلك نعمة عظمى حتم على العرب أن يتفطنوا لها ويبنوا جهادهم ورسالتهم عليها ويدركوا امتنان الله عليهم بها في قوله: (وكذلك جعلناكم أُمةً وسَطاً لتكونوا شهداءَ على الناسِ)
(القاهرة)
عبد المنعم خلاف
نشر الثقافة وكيف يكون
للأستاذ محمود العمري
نشرت الصحف في المدة الأخيرة أن وزارة المعارف قررت تكليف بعض المؤلفين وضع كتب في سير أبطال الإسلام، وعهدت إلى بعض المترجمين ترجمة مؤلفات أجنبية إلى اللغة العربية
ولا شك أن عناية وزارة المعارف بنشر الثقافة أمر توجبه عليها مهمتها، إذ الحقيقة التي لا مفر من الاعتراف بها أنه لا يغنى عن البلاد كثرة حملة الشهادات الدراسية فيها، وليس مما يشرفها أن يقال في التدليل على انتشار التعليم إن الناجحين في امتحان شهادة كذا بلغ عددهم كذا ألفاً. ولكن الذي يدل دلالة حقيقية على انتشار التعليم أن يقال إن أحد المؤلفات قد بيع منه كذا ألفاً. فهذا وحده هو القياس الصحيح الدال على أن التعليم انتشر انتشاراً حقيقياً كان له أثره في أمرين لا غنى عنهما في كيان أمة، أولهما انتشار الثقافة وسريانها سرياناً طبيعياً اختيارياً تتكيف به حياتها الفكرية، وثانيهما عيالة طبقة من المؤلفين
أما أن تقتصر الحياة العلمية على البرامج الدراسية وتحصيل الشهادات فحالة سطحية مصطنعة. وقد شعر المفكرون منذ مدة بعدم كفاية هذه الشهادات في تكوين الحياة الفكرية، بل لقد نزل مستوى التعليم لدى حامليها، وفطنت الأمة إلى ذلك بعد أن قطعت شوطاً بعيداً في الإكثار منهم. كما تبين أن من أكبر أسباب ضعف التعليم المدرسي عدم وجود المؤلفين والباحثين الذين يتغذى التعليم بمؤلفاتهم وبحوثهم، وتقوم الحركة العلمية على جهودهم قياماً مستقلاً يرفعها إلى حيث تمد البرامج بعناصرها وتنشئ المثل الفكرية العليا نشأة قائمة بذاتها مما يجعلها أساساً للتعليم والتطبيق بدلاً من أن تكون مقصورة عليهما
ولا شك أيضاً أن مساهمة وزارة المعارف في زيادة الثروة الفكرية على النحو الذي انتحته لا تخلوا من فائدة، ولا سيما إذا أحسنت الاختيار وتوخت ملء فراغ، كما فعلت في سير أبطال الإسلام، وفي ترجمة كتاب هانوتو في تاريخ الأمة المصرية
إن أولى الكتب بالنقل إلى العربية وأحقها بالجهود المحدودة التي في طاقتنا في الوقت الحاضر الكتب التي لا تفقد شيئاً من معانيها إذا هي ترجمت إلى لغتنا، والتي تتسق مع حياتنا الفكرية في المرحلة التي نجتازها الآن. أما مؤلفات شكسبير وإضرابه من أعلام
الأدب الغربي الذين ترجمت وزارة المعارف كتبهم في عهود مضت وتزمع الآن ترجمتها، فإن كثيراً منها يعد نقلها إلى العربية من الكماليات
يعرف الملمون بالأدب الغربي أن اختيار المؤلفات التي تفيد ترجمتها أمر في غاية الدقة، إذ أن كثيراً منها ترجع قيمته إلى اللغة الأصلية وإلى الفنون الأدبية والأوضاع الاجتماعية المحلية، فهي حافلة بإشارات لها مدلولها في ذهن قارئها في بلادها أو على الأكثر في البلاد القريبة الشبه بها في البيئة. ولسنا نأتي بجديد إذا قلنا إن الناحية الفنية في الأدب الغربي تتأثر كثيراً بالنقل إلى العربية لبعد الشبه بينها وبين اللغة الأصلية. بل إن المعاني الأدبية العميقة في الأدب الأوربي العويص كثيراً ما تخفى على غير المتعمقين فيه من المبتدئين في الاطلاع، معتمدين على مجرد فهم المعنى اللفظي دون أن يغوصوا إلى ما وراء اللفظ وما بين السطور
فخير لوزارة المعارف أن تختص بعنايتها بالنقل إلى العربية الكتب التي تستساغ لدى قراء العربية دون غيرها من اللغات، فتنسجم ضمن غذائهم العقلي ولا تفقد معانيها شيئاً بالترجمة لأنها تتناول مادة عامة وعلى الأخص الكتب التي تتناول مادة أصلها عربي ككتاب هانوتو، فإن معانيها تزداد في العربية وضوحاً
والكتب التي من هذا القبيل كثيرة في اللغات الأوربية، من أهمها كتب المستشرقين في تاريخ العرب والإسلام، وقد سبق أن عرض كتاب هذه السطور مقترحاً بترجمتها أيام وزارة المرحوم زكي باشا أبو السعود، كما تكلم في هذا الشأن مع المرحوم الشيخ شاويش
ولا جدال في أن ترجمة المؤلفات المذكورة تعد من قبيل رد مادة إلى أصلها العربي فتزداد بالترجمة وضوحاً كما أنها تدخل مع ثقافتنا في نسق واحد مستساغ
على أن أهم ما أقصده من كتابة هذه الكلمة أن أتناول الرأي الأساس في نشر الثقافة عن طريق تكليف بعض المؤلفين أو المترجمين وضع كتب أو ترجمتها
هذا الرأي على عدم خلوه من فائدة كما قدمت لا يؤتى في النهاية إلا ثمرة محدودة الفائدة، وليس فيه دواء حاسم للمشكلة الأصلية وهي فقر الثقافة وعدم انتشارها
لا شك أن أفاضل المؤلفين والمترجمين الذين كلفتهم الوزارة القيام بذلك العمل سيبذلون جهداً مشكوراً وستظهر لهم كتب قيمة، إلا أن الداء الأساسي سيظل كما هو
قامت الوزارة منذ مدة بعمل آخر في تشجيع الثقافة فجرت على عادة شراء مقادير من المؤلفات التي تصدر من وقت إلى آخر تعضيداً للمؤلفين وتعويضاً لهم عن قلة ما يباع من كتبهم. ولا ريب أن هذا التشجيع بشراء الكتب ولو لوضعها في مخازن الوزارة كان فيه بعض الفائدة في ذاته، إلا أنه كان من قبيل دخول الحكومة في سوق القطن بالشراء إنقاذاً لقيمة المحصول من أن يباع بقيمة دون قيمته، وضنا بثمرة جهود المنتجين أن تضيع هباء، وتشجيعاً لهم على المضي في الإنتاج
غير أن الناس لم يلبثوا أن فطنوا إلى ما نبه إليه المستر طود الاقتصادي المختص بشئون القطن وهو أن هذا العلاج محدود الأثر؛ فإن القطن الذي تشتريه الحكومة اليوم لابد أن تبيعه غداً، وعندئذ يزيد المعروض فيهبط السعر. وإن شراء الحكومة ليس شراء بمعنى الكلمة لأنها ليست مستهلكة له في واقع الأمر، وإنما الشراء الحقيقي من الوجهة الاقتصادية شراء المصانع التي تستهلكه في الصناعة وتستبعده نهائياً من عداد المادة الخام وتقوم بتصريفه في شكل جديد
يحضرني عند التفكير في حل هذه المشكلة حلاً طبيعياً أساسياً ذكر ما توصلت إليه دول أوربا للنهوض بالزراعة ووضعها على أساس علمي
بذلت تلك الدول في أول الأمر جهوداً عظيمة من الناحية المباشرة فذهب عناؤها هباء. ثم أتتها فترة تهيأت فيها ظروف ساعدتها على رفع أسعار المحاصيل الزراعية بسبب اتساع الأسواق العالمية وسهولة النقل، فما هي إلا أن أصبحت الزراعة مهنة رابحة، وسرعان ما انشحذت الملكات وانطلقت نحو الزراعة بأقصى ما أوتيت من قوة فازدهرت الفنون الزراعية من الناحيتين العلمية والعملية. وهكذا عولجت المشكلة من صميم أسبابها.
عانت فرنسا في السنين الأخيرة أزمة نسبية هي ضعف انتشار المؤلفات الفرنسية وذلك لأسباب منها انتشار الراديو والسينما والألعاب الرياضية، فخشي مفكروها ضعف ثقافتها وهي سند مدنيتها، وخافوا أن يهبط بذلك نفوذ بلادهم الأدبي في العالم كما خافوا أن ينحط الإنتاج الفكري عندهم لقلة ما يباع من مؤلفاتهم عن القدر الكافي لعيالة طبقة مؤلفيهم وشحذ هممهم
أجمع هؤلاء المفكرون أمرهم وأنشئوا جماعة برياسة جورج دوهاميل الكاتب المشهور
واستعانوا بوزير معارفهم جان زاي وهو الوزير الذي رآه المصريون عندما جاء منذ عامين لافتتاح معرض الفن الفرنسي الذي كان للكتب الفرنسية فيه حظ كبير؛ وقد تمت إجراءات مهمة بتعاون الوزير المذكور مع تلك الجماعة.
لا شك أن تصريف الكتب في مصر قليل جداً لأسباب تختلف عن أسبابه في فرنسا، وأن ما يباع عندنا من الكتب لا يكفي لسد حاجة البلاد إلى طبقة من المؤلفين المحترفين الذين يستطيعون أن يعيشوا من ثمرة أقلامهم. فعبثاً نحاول أن تخرج البلاد ما فيها من الملكات إلا بإيجاد الحافز.
قال أحد الأدباء في عصر شبيه بعصرنا: (كان الناس في الزمن الغابر يسألون: ما صناعة هذا الرجل؟ فيقال: هو أديب. والآن إذا عرفوا أدبه يسألون: ما صناعة هذا الأديب؟!)
هذه حال لا يصح السكوت عليها، ولا سيما أن لنا مزية انتشار لغتنا في خارج حدودنا انتشاراً من شأنه أن يجعل لمؤلفينا من القراء في غير بلادنا ما يزيد على عددهم في مصر أضعافاً مضاعفة.
لا أريد في هذه الكلمة أن أتكلم عن أسباب قلة الميل إلى القراءة، ولكنني لا أشك في أن الكتب، حتى على أساس هذا الميل القليل غير منتشرة، وأن عدم انتشارها أمر غير طبيعي؛ ومن الأدلة على ذلك كثرة انتشار الصحف والروايات الخفيفة انتشاراً يدل على أن عدم الإقبال على القراءة قد بلغ هذا المبلغ المشاهد في الكتب.
صحيح أن الجمهور أميل إلى القراءة الخفيفة السطحية، غير أن هذا السبب لا يكفي لتعليل البون الشاسع بين انتشار الصحف وانتشار الكتب. إنما العلة الكبرى أن للصحف والروايات الخفيفة أصحاباً يتعهدون نشرها على أساس تجاري وإداري محكم. أما الكتاب في مصر فيتيم ليس له من يتولى أمره، إذ أن كل مؤلف على حدته لا يستطيع شيئاً، والحركة التجارية غافلة عنه، وذلك لسببين: أولهما أن التجارة في مصر رائجة لسبب نأسف له وهو نشاط الأجانب، وهؤلاء لا يقبلون على الكتب العربية إقبالهم على النواحي الأخرى. والثاني أن تجارنا تعوزهم ملكة الابتكار، فتجارة الكتب تختلف عن غيرها في أن الطلب في أمرها يتبع العرض إلى حد بعيد، مع أن العرض في أمر غيرها يتبع الطلب بدرجة عظيمة. وهذا ملموس في كل بلاد وفي كل جهة ليخيل للإنسان أنه لا يوجد ميل
إلى الاطلاع إلا بين الذين اعتادوا المرور في حي معين فيه مكتبة يستوقف ما في واجهتها من الكتب نظر المارة، بل قد يدخل أحدهم بغير قصد شراء كتاب بذاته فيخرج وإذا بيده كتب
يعرف المؤلفون في مصر أن كتبهم لا تباع إلا حيث توجد المكتبات في مدينة واحدة وهي القاهرة، فيخيل إليهم أن الميل إلى القراءة غير موزع بين سكان القطر وأنه مقصور على حي معين. ثم ما هي إلا أن يتطوع صديق في جهة نائية فيبيع له عدداً كبيراً
لا ريب أن تشجيع نشر الكتب أمر حيوي وفيه شفاء للعلة الأصلية من أساسها بشكل يؤدي حتى في ظروفنا الحالية إلى انتشار الثقافة فتربح التجارة، وتنشط المطابع، وتقوم في البلاد طبقة من قادة الفكر على أساس الدافع الطبيعي الذي لا يقتصر على ما لابد منه للمؤلفين من الاستقلال المادي والأدبي. بل إن في انتشار مؤلفات أحدهم ما يقوم في نفسه دليلاً على أنه أدى رسالته، كما أن في الإقبال على كتبه انتخاباً من القراء له وعملاً فيه الكثير من الصدق في التعبير عن أنهم أولوه زعامة طبيعية نابتة من الحركة الفكرية في ذاتها
ولست أريد أن أرسم خطة معينة تتبعها وزارة المعارف في تنفيذ برنامج عملي لنشر الثقافة عن طريق الكتب، ولكنني أورد على سبيل المثال ما يعن لي من الوسائل:
1 -
أن تتفق الوزارة مع مراقبات مناطق التعليم ومجالس المديريات على أن تقصر معاملاتها بقدر الإمكان على المكتبات الواقعة في الجهات نفسها
2 -
أن تتفق مع مصلحة البريد على إعطاء الأفضلية في بيع طوابع البريد وطوابع التمغة للمكتبات دون الصيدليات ومحلات العطارة وحوانيت التبغ
3 -
أن تحفظ لديها سجلاً بالمكتبات في كافة جهات القطر ليرجع إليها الناشرون وأصحاب المطابع والمؤلفون للتعامل معهم، وأن تقوم مراقبات مناطق التعليم بالاستيثاق من أن هذه المكتبات مكتبات حقيقية
4 -
أن تذيع بالراديو أسماء الكتب وخلاصات مشوقة موجزة عن محتوياتها
5 -
أن تتفق مع وزارة الشؤون الاجتماعية على أن تدمج في المراكز الاجتماعية التي تزمع إنشاءها برامج ثقافية
6 -
أن تشجع على إنشاء هيئة مركزية في القاهرة تجمع لديها فهارس ما يصدر من
الكتب وتوزعها على جميع المكتبات في القطر، ويشترك أصحاب المكتبات في هذه الهيئة بضمان أو تأمين لكل منهم بمائتي جنيه مثلاً يجعل لكل منهم حق أخذ كتب بقيمتها حسب اختياره عن طريق الهيئة، وكلما سدد ثمن ما أخذه فتح له اعتماد بدلاً منه بقيمة ما يسدد، حتى إذا كان نشاطا في البيع دار معه مبلغ الضمان خمس مرات أو عشراً، فيكون قد اتجر في رأس مال قدره ألف أو ألفا جنيه دون أن يدفع شيئاً، اللهم إلا ضماناً قدره مائتا جنيه. وهذه الطريقة تتبعها شركة من شركات المنسوجات الأجنبية في مصر
ولابد لي أن أختم هذه الكلمة بتكرار ما قلت فيما سبق، وهو أنني لم أتعرض لمعالجة موضوع عدم الميل إلى القراء، إذ أن هذا أمر يتصل بمشكلة التعليم وبالرأي السائد في البلاد وفي الحكومة عن غاياته وأقيسته
محمود العمري
في الاجتماع اللغوي
تفرع اللغة الواحدة إلى لهجات ولغات
وأثر انتشارها في هذا التفرع
للدكتور علي عبد الواحد وافي
تختلف اللغات الإنسانية في مبلغ انتشارها اختلافاً كبيراً فمنها ما تتاح له فرص مواتية، فينتشر في مناطق شاسعة من الأرض، ويتكلم به عدد كبير من الأمم الإنسانية؛ كما حدث للاتينية والعربية في العصور القديمة والوسطى؛ وللإنجليزية، والأسبانية، والبرتغالية، والفرنسية، والألمانية في العصور الحديثة. ومنها ما تسد أمامه المسالك، فيقضي عليه أن يظل حبيساً في منطقة ضيقة من الأرض، وفئة قليلة من الناس؛ كما حدث للأبنو والبسكية والليتونية، ومنها ما يكون حاله وسطاً بين هذا وذاك، فلا تتسع مناطقه كل السعة، ولا تضيق كل الضيق؛ كما هو شأن الحبشية والفارسية
هذا، ولانتشار اللغة أسباب كثيرة يرجع أهمها إلى ما يلي:
1 -
أن تشتبك اللغة في صراع مع لغة أو لغات أخرى وتقضي نواميس الصراع اللغوي المتقدم ذكرها في المقالات السابقة أن يكتب لها النصر، فتحتل مناطق اللغة أو اللغات المقهورة، فيتسع بذلك مدى انتشارها، وتدخل أمم جديدة في عداد الناطقين بها: كما حدث لللاتينية في العصور القديمة، إذ تغلبت على اللغات الأصلية لإيطاليا وإسبانيا وبلاد (فرنسا وما إليها) والألب الوسطى فأصبحت لغة الحديث والكتابة في منطقة شاسعة في القسم الجنوبي الغربي من أوربا بعد أن كانت قديماً مقصورة على منطقة ضيقة في وسط إيطاليا، هي منطقة اللاتيوم وكما حدث للغة العربية إذ تغلبت على كثير من اللغات السامية الأخرى وعلى اللغات القبطية والبربرية والكوشيتية، حتى بلغ الآن عدد الناطقين بها نحو 40 مليوناً ينتمون إلى نحو خمس عشرة أمة بعد أن كانوا قديماً لا يتجاوزون بضعة آلاف يقطنون منطقة ضيقة في الجنوب الغربي من بلاد العرب؛ وكما حدث للألمانية إذ طغت على مساحة واسعة من المناطق المجاورة لها بأوربا الوسطى (بألمانيا وسويسرا وتشيكوسلوفاكيا وبولونيا والنمسا. . . الخ). وقضت على لهجاتها الأولى،
فأصبحت الآن لغة الحديث والكتابة لنحو 70 مليوناً من سكان أوربا بعد أن كانت قديماً مقصورة على بعض المقاطعات الألمانية
2 -
أن ينتشر أفراد شعب ما - على أثر هجرة أو استعمار - في مناطق جديدة بعيدة عن أوطانهم الأولى، ويتكون من سلالاتهم بهذه المناطق أمة أو أمم متميزة كثيرة السكان، فيتسع بذلك مدى اتساع لغتهم، وتتعدد الجماعات الناطقة بها، ويكثر أفرادها. والأمثلة على ذلك كثيرة في العصور الحديثة. فقد نجم عن استعمار الإنجليز السكسون لأمريكا الشمالية وأستراليا ونيوزيلندا وجنوب أفريقية أن انتشرت الإنجليزية في هذه المناطق الشاسعة، فبلغ عدد الناطقين بها نحو 170 مليوناً موزعين على مختلف قارات الأرض، بعد أن كانت قديماً محصورة في منطقة ضيقة من الجزر البريطانية. ونجم عن الاستعمار الأسباني في الدنيا الجديدة أن أصبحت الأسبانية لغة المكسيك وجزر الفيليبين وجميع دول أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية ما عدا البرازيل، فبلغ عدد الناطقين بها نحو 70 مليوناً ينتمون إلى نحو خمس عشرة أمة، بعد أن كانت محصورة في منطقة ضيقة في الجنوب الغربي من أوربا. ونجم عن الاستعمار البرتغالي في الدنيا الجديدة وأفريقيا والأوقيانوسية أن أصبحت البرتغالية لغة سكان البرازيل بأمريكا الجنوبية وسكان المستعمرات البرتغالية بأفريقيا وجزر المحيط الهندي، فبلغ عدد الناطقين بها نحو 50 مليوناً ينتمون إلى عدة أمم، بعد أن كانت محصورة في منطقة ضيقة في بلاد البرتغال نفسها
3 -
أن يتاح لجماعة ما أسباب مواتية للنمو الطبيعي في أوطانها الأصلية نفسها فيأخذ عدد أفرادها وطوائفها في الزيادة المطردة، وتنشط حركة العمران في بلادها، فتكثر فيها المدن والقرى وتتعدد الأقاليم والمناطق، فيتسع تبعاً لذلك نطاق لغتها ومدى انتشارها، كما حدث لليابانية والفرنسية والإيطالية. فبفضل هذا العامل بلغ عدد الناطقين باليابانية في اليابان نفسها نحو 60 مليوناً، وبفضله كذلك مع مساعدة العاملين السابقين بلغ عدد الناطقين بالفرنسية نحو 50 مليوناً وبالإيطالية نحو 45 مليوناً.
ومتى انتشرت اللغة في مناطق شاسعة من الأرض تحت تأثير عامل من العوامل السابق ذكرها، وتكلم بها جماعات كثيرة العدد، وطوائف مختلفة من الناس، استحال عليها الاحتفاظ بوحدتها الأولى أمداً طويلاً، فلا تلبث أن تتشعب إلى لهجات، وتسلك كل لهجة من هذه
اللهجات في سبيل تطورها منهجاً يختلف عن منهج غيرها، فلا تلبث مسافة الخلف أن تتسع بينها وبين أخواتها، حتى تصبح لغة متميزة مستقلة غير مفهومة إلا لأهلها، وبذلك يتولد عن اللغة الأولى فصيلة أو شعبة من اللغات يختلف أفرادها بعضها عن بعض في كثير من الوجوه، ولكنها تظل مع ذلك متفقة في وجوه أخرى، إذ يترك الأصل الأول في كل منها آثاراً تنطق بما بينها من صلات قرابة، ولحمة نسب لغوي. وكثيراً ما يبقى الأصل الأول لغة أدب وكتابة بين الشعوب الناطقة باللغات المتفرعة منه؛ ولكنه لا يلبث أن يتنحى عن ذلك بعد أن يكتمل نمو هذه اللغات.
ولهذا القانون خضعت اللغات الإنسانية من مبدأ نشأتها إلى العصر فاللغة الهندية - الأوربية الأولى، قد انشعبت في ضحى الإنسانية إلى مجموعات كثيرة، وكل مجموعة منها تفرعت إلى عدة طوائف، وكل طائفة انقسمت إلى شعب، وكل شعبة إلى لغات وهكذا دواليك. . . ومثل هذا حدث للغة السامية الحامية الأولى ولجميع الفصائل اللغوية الأخرى.
وقد شهدت عصورنا التاريخية نفسها كثيراً من آثار هذا القانون، فاللغة اللاتينية، وهي إحدى لغات الفرع الإيطالي المتشعب من الهندية - الأوربية، قد أخذت هي نفسها في أواخر العصور القديمة وفي العصور الوسطى تتشعب إلى عدد كبير من اللهجات، وأخذت كل لهجة من هذه اللهجات تسلك في سبيل تطورها منهجاً يختلف عن منهج أخواتها، حتى انفصلت عنها انفصالاً تاماً، وأصبحت لغة متميزة مستقلة غير مفهومة إلا لأهلها. وقد بقيت اللاتينية مدة ما لغة أدب وكتابة بين الشعوب الناطقة باللغات المتفرعة منها (الفرنسية والإيطالية والأسبانية والبرتغالية ولغة رومانيا. . .) ولكنها لم تلبث أن تنحت عن ذلك بعد أن اكتمل نمو هذه اللغات
والعصر الحاضر نفسه يشهد كثيراً من آثار هذا القانون. فلانتشار اللغة الأسبانية في مناطق شاسعة من الأرض ولاختلاف الطوائف المتكلمة بها، أخذت تفقد وحدتها، فانشعب عنها في أمريكا الجنوبية لهجات كثيرة تختلف كل منها عن الأسبانية الأصلية اختلافاً غير يسير في كلماتها وأصواتها؛ بل إن بعض هذه اللهجات أخذ يختلف عن الأسبانية الأصلية في القواعد نفسها
وهذا هو ما يحدث الآن للإنجليزية والألمانية. فقد أخذت إنجليزية الولايات المتحدة بأمريكا
تختلف عن إنجليزية الجزر البريطانية في كثير من المفردات وأساليب النطق؛ وأخذت ألمانية سويسرا تبتعد عن أصلها ويزداد تأثرها بجارتها الفرنسية، حتى توشك أن تكون لهجة متميزة عن ألمانية الألمان وقد اتسعت مسافة الخلف بين اللهجات المتشعبة عن العربية حتى أصبح بعضها غريباً عن بعض؛ فلهجة العراق في العصر الحاضر مثلاً لا يكاد يفهمها المصري. غير أنه قد خفف من أثر هذا الانقسام اللغوي بقاء العربية الأولى بين هذه الشعوب لغة أدب وكتابة ودين
والعامل الرئيسي في تفرع اللغة إلى لهجات ولغات هو سعة انتشارها. غير أن هذا العامل لا يؤدي إلى ذلك بشكل مباشر، بل يتيح الفرص لظهور عوامل أخرى تؤدي إلى هذه النتيجة. وباستقراء هذه العوامل في الماضي والحاضر يظهر أن أهمها يرجع إلى الطوائف الآتية:
1 -
عوامل اجتماعية سياسية تتعلق باستقلال المناطق التي انتشرت فيها اللغة بعضها عن بعض، وضعف السلطان المركزي الذي كان يجمعها ويوثق ما بينها من علاقات. وذلك أن اتساع الدولة وكثرة المناطق التابعة لها، واختلاف الشعوب الخاضعة لنفوذها. . . كل ذلك يؤدي غالباً إلى ضعف سلطانها المركزي، وتفككها من الناحية السياسية، وانقسامها إلى دويلات أو دول مستقل بعضها عن بعض. وغنى عن البيان أن انفصام الوحدة السياسية يؤدي إلى انفصام الوحدة الفكرية واللغوية
2 -
عوامل اجتماعية نفسية تتمثل فيما بين سكان المناطق المختلفة من فروق في النظم الاجتماعية والعرف والتقاليد والعادات ومبلغ الثقافة ومناحي التفكير والوجدان. فمن الواضح أن الاختلاف في هذه الأمور يتردد صداه في أداة التعبير
3 -
عوامل جغرافية تتمثل فيما بين سكان المناطق المختلفة من فروق في الجو وطبيعة البلاد وبيئتها وشكلها وموقعها. . . وما إلى ذلك، وفيما يفصل كل منطقة منها عن غيرها من جبال وأنهار وبحار وبحيرات. . . وهلم جرا. - فلا يخفى أن هذه الفروق والفواصل الطبيعية تؤدي، عاجلاً أو آجلاً، إلى فروق وفواصل في اللغات
4 -
عوامل شعبية تتمثل فيما بين سكان المناطق المختلفة من فروق في الأجناس والفصائل الإنسانية التي ينتمون إليها والأصول التي انحدروا منها، فمن الواضح أن لهذه
الفروق آثاراً بليغة في تفرع اللغة الواحدة إلى لهجات ولغات
5 -
عوامل جسمية فيزيولوجية تتمثل فيما بين سكان المناطق المختلفة من فروق في التكوين الطبيعي لأعضاء النطق فمن المحال، مع فروق كهذه، أن تظل اللغة محتفظة بوحدتها الأولى أمداً طويلاً
فانقسام المتكلمين باللغة الواحدة، تحت تأثير هذه العوامل، إلى جماعات متميزة، واختلاف هذه الجماعات بعضها عن بعض في شئونها السياسية والاجتماعية، وفي خواصها الشعبية والجسمية والنفسية، وفيما يحيط بها من ظروف طبيعية وجغرافية، كل ذلك وما إليه يوجه اللغة عند كل جماعة منها وجهة تختلف عن وجهتها عند غيرها، ويرسم لتطورها في النواحي الصوتية والدلالية وغيرها منهجاً يختلف عن منهج أخواتها، فتتعدد مناهج التطور اللغوي حسب تعدد الجماعات، ولا تنفك مسافة الخلف تتسع بين اللهجات الناشئة عن هذا التعدد، حتى تصبح كل لهجة منها لغة متميزة مستقلة غير مفهومة إلا لأهلها
ويبدأ الخلاف بين هذه اللهجات من ناحيتين: إحداهما الناحية المتعلقة بالصوت، فتختلف الأصوات (الحروف) التي تتألف منها الكلمة الواحدة، وتختلف طريقة النطق بها تبعاً لاختلاف اللهجات؛ والأخرى الناحية المتعلقة بدلالة المفردات، فتختلف معاني بعض الكلمات باختلاف الجماعات الناطقة بها
أما سواء في ذلك ما يتعلق منها بالبنية (المورفولوجيا) أو ما يتعلق منها بالتنظيم (السنتكس)، فلا ينالها في المبدأ كثير من التغيير. وإليك مثلاً اللهجات العامية التي انشعبت عن العربية بالعراق والشام والحجاز واليمن وبلاد المغرب. . . فإنه لا يوجد بينها إلا فروق ضئيلة في نظام تكوين الجمل وتغيير البنية وقواعد الاشتقاق والجمع والتأنيث والوصف والنسب والتصغير. . . وما إلى ذلك؛ على حين أن مسافة الخلف بينها في الناحيتين الصوتية والدلالية قد بلغت حدا جعل بعضها غريباً عن بعض، كما سبقت الإشارة إلى ذلك
ولكن هذه الوحدة في القواعد لا تقوى على مقاومة عوامل التفرقة إلا لأجل معلوم؛ ثم تهن قواها وتستسلم لهذه العوامل، فيصيبها منها ما أصاب الصوت والدلالة من قبل، وحينئذ تقوى وجوه الخلاف بين اللهجات، وتبدأ مرحلة تحولها إلى لغات مستقلة، ولا تنفك تذهب
حثيثاً في هذا الطريق حتى تبلغ غايته
غير أنه يبقى بها، على الرغم من هذا كله، وجوه شبه قريبة أو بعيدة في أصول المفردات وبعض مظاهر القواعد العامة. وإليك مثلاً طوائف اللغات الهندية الأوربية، فعلى الرغم من استحكام ما بينها من حلقات الخلاف، فإن الأصل الأول قد ترك في كل منها آثاراً تنطق بما بينها من صلات قرابة وتشهد بتفرعها عن أرومة واحدة
ومن هذا يتبين أن اللغة لا تموت حتف أنفها. فما لم تصرعها لغة أخرى على الوجوه التي تقدم شرحها في المقالات السابقة، لا يتطرق إليها الفناء. وخلودها هذا يبدو في أحد مظهرين. فأحياناً تحتفظ بوحدتها، وذلك إذا ظلت حبيسة على منطقة ضيقة وفئة قليلة، وأحياناً تتشعب إلى لهجات ولغات، وذلك إذا انتشرت في مساحات شاسعة من الأرض وتكلم بها طوائف مختلفة من الناس
ومن ثم يظهر كذلك خطأ من يحاولون علاج تعدد اللغات بإنشاء لغة عالمية (إسبرنتو يتحدث بها الناس من مختلفي الأمم والعصور. وذلك أن هذه اللغة الصناعية على فرض إمكان اختراعها وإلزام الناس باستخدامها، لا تلبث بعد تداولها على الألسنة أن تخضع لجميع القوانين التي تخضع لها اللغات الطبيعية والتي خضعت لها أول لغة تكلم بها الإنسان. فما دام أفراد الأمم الناطقة بها مختلفين في أصولهم الشعبية وفي التكوين الطبيعي لجسومهم وأعضاء نطقهم، وفي الظروف الجغرافية والطبيعية والاجتماعية المحيطة بهم، وفي قواهم الإدراكية والوجدانية، وما دامت سنة الطبيعة تقتضي أن يختلف كل جيل عن الجيل السابق له في كل هذه الأمور، فلابد أن تختلف هذه اللغة الصناعية في كلماتها وأصواتها ودلالاتها وقواعدها باختلاف العصور وباختلاف الشعوب الناطقة بها، وتنقسم إلى لهجات يختلف كل منها عما عداه، وتتفرع منها لغات عامية، وتتسع الهوة بين لهجاتها قليلاً حتى تنفصل كل لهجة منها عما عداها انفصالاً تاماً وتصبح غير مفهومة إلا لأهلها، شأنها في ذلك شأن غيرها من اللغات، وهكذا لا يمضي زمن قصير أو طويل حتى يتولد من هذا العلاج نفس المشكلة التي يحاولون القضاء عليها: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم. . .). (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم، إن في ذلك لآيات للعالمين)
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون
من وراء المنظار
صاحب الديوان
إياك أن تظنه صاحب (ديوان شعر)، فمثل هذا أهون من أن يحفل به إلا من كانوا مثله من ذوي الأحلام والأوهام في هذه الدنيا التي باتت لا تحفل بالأحلام ولا بذوي الأحلام. . .
ولعلك فطنت بعد هذا إلى من أعنيه بهذا اللقب؛ ثم لعلك فهمت لِمَ أسميه (صاحب الديوان)، فما كان لفظ (الموظف) و (المستخدم) وما يجرى مجراهما مما يفي بالغرض في معرض الحديث عن ذلك الذي توافي له من أسباب الجاه والسلطان ما يسمو به على الناس، رضوا بذلك أو لم يرضوا؛ وما أرى نعته بمثل تلك الألقاب المتواضعة إلا ضرباً من الخطأ أسبق مجمع اللغة في تلافيه، فأضع له هذا الاسم الجديد، وبودي لو وقعت له على اسم آخر أكثر فخامة وأضخم جرساً وأبلغ رهبة
ولست أدري وقد وقع منظاري على أنماط وأشكال من أصحاب الديوان إلى من أدير الحديث منهم أولاً فأجعله في طليعة أصحابه فإني لست بمعفيهم جميعاً من حديثي ولو لحقني بعدها من سطوتهم ما أعض إصبع الندم عليه
أأبدأ بالحديث عن ذلك الشاب الماجن المتظرف الذي لا تساوي الدنيا في نظره شيئاً؟ أم أبدأ بصاحبه المتزمت المتبرم الذي يحمل الدنيا كلها على رأسه؟ أم أدعهما إلى ذلك الكهل الذي أخلق برد الشباب على مقعده وهو يلتفت إلى الماضي في حسرة ويحتمل الحاضر في ملل وينظر إلى المستقبل في يأس، ولا يني عن احتقار من هم دونه والحقد على من خلفوه وراءهم وكانوا وإياه في صف واحد عند بدء الشوط؟ أم أبدأ من عل غير متهيب، فأتحدث عن ذلك الذي يخضع له هؤلاء جميعاً ويتملقه أكثرهم وليس فيهم من لا يكره أن يودع كرسيه في أقرب فرصة؟
الحق أني حائر، ولا مخرج لي من هذه الحيرة إلا بأن أعرض عليك في هذه الكلمة صورة لفريق من أصحاب الديوان في قاعة من قاعاتهم، على أن أتناول هذا الإجمال بعد بالتفصيل
دجلت تلك القاعة في شأن من الشؤون فوجدت نحو خمسة عشر من هؤلاء ينصتون إلى من يتلو عليهم حديثاً وهم على مكاتبهم يرنون إليه حتى إذا فرغ من قصته انطلقوا
يضحكون في صخب عظيم، ثم أخذ كل منهم يسابق الآخر في التعقيب عليها بما يسعه من نكتة أو قصة مشابهة، ومضى على ذلك وقت ليس بالقصير، وأنا واقف في ركن عند مدخل القاعة لا أدري من أقصد ولا أجد من يلتفت إلى كما لو كنت (صاحب ديوان) مثلهم لا حرج علي ولا غرابة في أن أكون معهم في حجرتهم
وكان قد مضى على بدء العمل أكثر من ساعة، ولكن أغلب المكاتب كان لا يزال خالياً من الأوراق، وبعضها كانت خالية حتى من أصحابها؛ ونظرت إلى الباب فإذا فريق من الصبية يدخلون وفي أيديهم أصناف (الصينيات)، فهذا يحمل (الفول)، وذلك يقبل (بالطعمية)، وثالث لا يحمل غير القهوة. . .
وأخذ أصحاب الديوان في تناول طعام فطورهم أو في شرب القهوة، اللهم خلا ثلاثة أو أربعة، راح أحدهم يقرأ في جريدة الصباح وراح الآخر ينظر إلى السقف كأنما يفكر في حل معضلة، ولعله كان ينتظر أن يفرغ صاحبه من جريدته ليتناولها بعده، وأخذ الثالث يفتح أدراج مكتبه ويغلقها ولا يخرج منها شيئاً، أما الرابع فقد تناول بعض (الدوسيهات) وصار ينظر فيها واحداً بعد الآخر ثم فتح أحدها أمامه وأخذ يصفر بشفتيه لحناً جميلاً
وكنت قد جلست على مقعد خال بجانبي، وليس ما يمنع وإن لم يكن في يدي عمل أن أكون أحدهم، ولعلهم ظنوا - إن كان فيهم من عنى بأن يظن - أني انتظر أحد الغائبين بناء على موعد سالف؛ وكان علي في الواقع أن أنتظر ولكني كنت أنتظر الحاضرين حتى يفرغوا من طعامهم وشرابهم أو من قراءة صحفهم لأستطيع أن أعرف فيهم من يوجد لديه حل مسألتي
وأزف موعد عملي، ودخل السعاة بأضابير من الأوراق وأخذوا يوزعونها على أصحابها، وحال ذلك دون أن أتقدم إلى أحد، فخرجت على أن أعود مرة أخرى إلى الديوان
(عين)
عقيدة النازي المالية
للدكتور جواد علي
سمَّيت سياسة الوطنية الاشتراكية المالية وآراءها الاقتصادية (عقيدة)؛ لأن الهتلرية لا تعتقد بالنظريات العلمية، ولا تعترف بالقواعد التجارية التي تسير عليها الدول الأخرى؛ بل تدين بعقائد ثابتة مكتوبة ونصوص تخضع لها ولا تحيد عنها: هي نصوص العنصرية والدم والأرض وهي المفتاح لكل حضارة أو مدنية في العالم، والتجارة والثروة من نتائج الحضارة البشرية، والحضارة البشرية هي المظهر الخارجي للعامل الداخلي الأساسي المختفي: الدماء
لذلك فاقتصاديات شعب مرتبطة بقوته وبسلامة العنصرية من الامتزاج بالدم الأجنبي الدخيل. والروح التي تكون في كل جسم، كما أنها في كل أمة، هي التي تغير اقتصاديات أمة وتكيفها حسبما تريد؛ لا الإنتاج كما هو مذهب كارل ماركس إذ يقول:(غيروا الإنتاج تغيروا البشر). ولا المادية كما عليه البلشفية وأصحاب المادة؛ والروح ليست من قبيل الأحلام أو الأفكار أو الاصطلاحات العلمية أو بالمعنى الذي ورد في فلسفة أفلاطون؛ بل هي حقيقة واقعة لا شك فيها، عاملها الدم لا التفكير البارد فقط
وبما أن لكل شعب روحية خاصة وعقلية تميزه عن عقليات الشعوب الأخرى، فاقتصاديات كل أمة ونظمها التجارية يجب أن تكون وفق نظمها وقواعدها السياسية والعقائد الاجتماعية والتاريخية وآرائها الثقافية العالمية. وعلى ذلك يجب أن نجعل القواعد الاقتصادية وأساليبها خاضعة لمصلحة جماعة الأمة لا أن نجعل الاقتصاد خاضعاً لنظريات وقواعد عالمية وأصول علمية وضعتها أدمغة العلماء بصورة مجردة نظرية لم تستند إلى قواعد العنصرية والظروف التي تحيط بكل أمة. فهي لذلك تضحك من كل علم يحاول وضع قواعد عامة مسلمة أو آراء أممية يجب السير عليها. وهي تفتخر بأنها ألغت نظريات العلم الشائعة اليوم واتخذت قواعد مكتوبة وفق آرائها وعقيدتها. وهي تحارب فكرة حرية التجارة وإلغاء الرسوم الكمركية ومبادئ (آدم سميث) و (ريكاردو) وجميع وهي بالجملة تقارب أصحاب فكرة حماية فكرتها، وتحذو حذو مذهب ال الذي يحاول أن يجعل الدولة المسيطرة على جميع اقتصاديات المملكة ومواردها التجارية
ولكنها تختلف هنا عن الشيوعية والبلشفية في نظرية إشراك الدولة في المسائل الاقتصادية رأساً. فالوطنية الاشتراكية تريد كما تدعى حق الإشراف المطلق على سياسة الأمة الاقتصادية فتسيرها وفق مبادئها وآرائها، فلا تتساهل مع كل متوان أو متجاهل لأنظمة النازي بواسطة القوانين التي تضعها والمحاضرات التي تلقيها على التجار وبواسطة الهيئات التجارية التي تعينها من بين رجال حزبها لا بطريقة الانتخاب وبواسطة هيئة وضع الأسعار التي يشرف عليها قوميسير الأسعار إلا أنها لا ترى وجوب اشتراك الدولة في البيع والشراء وإدارة المعامل والإنتاج رأساً، ولو أنها تتدخل في الحقيقة في كل شيء، ولها في كل معمل أو محل رجل معين من قبل الحزب يسمى بمثابة عين على كل عامل، وذلك ما يخالف مبدأ البلشفية والمركسية الذي يدير المعامل رأساً وكذلك الاقتصاديات الكبرى.
رأت الهتلرية أن خير حل لمشكلة العمل والعمال هو الاعتراف بمبدأ الملكية الشخصية ولكنها ترى أن صاحب المال أو المعمل من جهة أخرى هو مدير لماله أو لمعمله أو قائداً يتصرف به وفق الأنظمة والقوانين والطرق الشرعية الشريفة، فسمته مدير محل، ولم تسمه مالكاً إذ يتصرف المالك قانوناً كيف يشاء بينما سلب منه هذا الحق هنا. وعلى ذلك فوضع الأسعار والأجور وأوقات العمل وأسعار التصدير إلى الخارج أو البيع في الداخل لم يعد من حق أصحاب المال بل من حق الحكومة فقط. وكل من يحاول استغلال ماله عن طريق يخالف مبادئ النازية يكون نصيبه العقاب الصارم أو الإعدام لأنه خائن للأمة ولص خطير. كما أن كل عامل رجل مؤتمن على العمل فعليه الإطاعة والخضوع لأنظمة العمال التي هي أنظمة الشعب والدولة وإطاعة أوامر من هو أعلى منه درجة، وكل مخالفة تكون عاقبتها العقاب الصارم أو الإعدام أيضاً
تعترف الهتلرية بالأنانية وحب الذات كصفات غريزية في البشر، لذلك ترى مكافحتها بقاعدة (النفع العام قبل النفع الخاص وهذه القاعدة تستدعي وضع تربية سياسية جديدة تكون أسسها مرتكزة على العواطف قبل التفكير وعلى الإطاعة قبل إدراك السبب أو الباعث وهو الطابع الحديث الذي تنطبع به فلسفة الوطنية الاشتراكية. ونظراً إلى ذلك وجب مراقبة الأرباح التي تدعو إلى كل مشكلة وتخليص البشرية من عبودية المرابين،
وذلك بجعل أصحاب المال تحت سيطرة سياسة الدولة رأساً لا الدولة تحت سيطرة أصحاب رؤوس الأموال الذين يطلقون عليهم لقب هو الشأن في الدول الديمقراطية والأمريكية، ولذلك يجعلون هؤلاء مصدر كل حب وبغض إلى الألمان ويتهمون هذه الدول بكونها تخضع للسياسة اليهودية التي تنتمي إلى هذه الطغمة
ولإنقاذ الشعب والحكومة من عبودية الربا وجب تنظيم الأرباح على قاعدة (الربح على قدر العمل والقضاء على بيوتات البيع الكبرى والشركات الاحتكارية وتقسيمها إلى محال صغيرة فنحو (100000) اسكاف خير من وجود خمس شركات كبرى، لأن من طبيعة المحال الكبرى الميل إلى الأرباح دون الالتفات إلى التحسين، وبتخليص الفلاح من الديون. والفلاح هو رمز العنصر الشمالي الآري وكل سياسة اقتصادية لا تستند إلى محصولات تكون سبباً لهلاك الشعب وتدهوره. والتاريخ يرينا كما يقول هؤلاء أن سبب سقوط الشعوب هو إهمالها الزراعة، وبسبب تقدم الصناعات الكبرى توسعت المدن وظهرت روح جديدة هي روحية المدن بأمراضها المختلفة وازدراء الفلاحة وسكان الأرض وهذا معناه الانحطاط الثقافي. لذلك كان من واجب الوطنية الاشتراكية مقاومة توسع المدن وإرجاع السكان إلى العمل في الأراضي خارج المدن واتخاذ سياسة استيطان جديدة وإلغاء القوانين التي تجعل الفلاح في عزلة عن أهل المدن أو أقل منهم ثقافة واجتماعاً، وتحويل المدنيين إلى شعبيين؛ وبذلك تعود الحضارة البشرية والروح الجرمانية التي يحلم بها هتلر، وتختفي الفروق الموجودة بين الشعب الواحد، وتنفيذاً لهذه السياسة ترى وجوب الإشراف على بيع الأراضي وتوزيعها بحيث تضمن ما تراه بصورة عملية
أما التجارة الخارجية للشعب فيجب أن تشرف عليها الدولة كذلك وتحدد أسعارها. وتقوم بذلك الدول فيما بينها بعقد معاهدات تجارية حسب رغبات الدول وحاجاتها لا على قواعد علم الاقتصاد ومبادئ حرية التجارة أو المبادئ المالية الأخرى، وتكتب هذه المعاهدات بلغات الدول المتعاقدة لا باللغة الفرنسية كما هو الشائع الآن. وأساس هذه المعاهدات هو نظام المقايضة أو تبديل بضاعة ببضاعة، وهو نظام تراه الوطنية الاشتراكية أكمل نظام طبيعي، وقد كانت تتبعه قبل الحرب العظمى فسبب حصول التوتر الشديد فيما بينها وبين بريطانيا وهو الذي يدعو إلى قلق الأمريكيين دائماً وخوفهم من تفوق التجارة الألمانية على
أسواق أمريكا الجنوبية، وذلك الذي تطلب منعه واتخاذ أساس الشراء الحر
ونظراً إلى أن ألمانيا فقيرة في المواد الابتدائية فمن الواجب إيجاد مصادر لها في الخارج وهي المستعمرات. وتقسم ألمانيا مبدئيا العالم إلى قسمين: أمم متحضرة مستهلكة ومصدرة، وأمم كتب عليها أن تشتغل لتزويد هذه البلاد المختارة. ولكن ما هي المقاييس التي تتخذ قاعدة في الشراء؟ الذهب أو الإنتاج؟ إن خلو ألمانيا من الذهب يجعل هتلر يرفض قاعدة الذهب ويطعن في البلاد التي تتعامل به. وإن والعمل هما رأس المال فقط. وعلى ذلك فكل دولة تشتغل بنشاط وتكافح في سبيل قوتها تكون هي المملكة الغنية في العالم، ولهذا وضع مشروعاً سماه مشروع أربع السنوات غايته الاعتماد على المنتجات الداخلية واستخراج كل ما يمكن من الأرض الألمانية بتفضيل كل ما هو ألماني على غيره ولو كان أقل جودة وأردأ نوعاً. فالمطاط يجب أن يستخرج من مواد ألمانية سرية، وكذلك السلولوز والنفط والبنزين من الفحم الألماني، وكل مملكة تسد نقصها من الخارج فهي دولة منحطة متأخرة؛ حتى قوائم الأكل يجب أن تكون ألمانية بحتة، ولذلك تستخدم لجنة مشروع أربع السنوات كل ما لديها من وسائط في سبيل إقناع الأمهات وخصوصاً العجائز منهن بعدم شرب القهوة أو الشاي بكثرة، وبعدم أكل القشدة المحبوبة لدى المسنات على الأخص بإفراط اقتصاداً وحفظاً للنقد الألماني من الذهاب إلى الخارج. ولكن ذلك ليس من السهولة بمكان، فقد اختفت الأقمشة الصوفية الجيدة من الأسواق الألمانية، وظهرت عوضاً عنها الأقمشة الصوفية السلولوزية المنتجات المتينة ولكنها أخذت تنافس أحسن الأقمشة البريطانية في الخارج، وتنافس بضاعات الأمم الأخرى حتى في أسواقها المحلية. كل ذلك لجر النقد الأجنبي إلى ألمانيا وتغطية العملة الورقية فيها
جواد علي
خريج جامعة هامبرك بألمانيا
أيها الأطفال!
للأديب أحمد محمود فهمي
أنتم أولاد الطبيعة أما نحن فأولاد الحياة!
أنتم تصورون لنا الطبيعة في شكل آدمي لأنكم صورتها الآدمية!
تغريكم الدمى وتسركم الأضواء وتبهركم الألوان
لا تحتاجون إلى أسرار أيها الأنقياء الأطهار.
وما حاجتكم إلى صدر زاخر بالأسرار وأنتم الذين لا تقبلون الحياة إلا بسيطة سهلة لا تعقيد فيها ولا إشكال
خير عندكم من كل مباهج الكبار ومسراتهم، دمية صغيرة محبوبة، تدورون بها في مجال المرح والسرور
يقينكم أنه ليس لكم يقين، وظنكم أنكم لا تعرفون الظنون أأنتم لاهون عن الحياة أم الحياة لاهية عنكم؟
تمر عليكم قافلة الحياة حافلة بشتى المعاني والألوان، وأنتم عنها لاهون، كأنكم من غير أعين ولا آذان
لا تعرفون من الحياة إلا طفولتكم، ولا تعرفون من الطفولة إلا الفطرة والسذاجة والإخلاص!
نحن نحتاج أحياناً أن نجالسكم لنتذكر في ظل طفولتكم أيام كنا مثلكم، وننشق من عرف لهوكم وعبثكم ما كان لنا في ماضينا الطفلي العجيب من لهو عابث وعبث لاه، في قلوب مطمئنة متوثبة معاً، تعرف كل شيء، ولكنها لا تعرف شيئاً!
حياتكم هادئة مطمئنة لا يفزعكم فيها شيء؛ ونحن نثوب إليكم دائماً كلما ثارت بنا الحياة، أو اضطرب عليها هدوءنا وطمأنينتنا، فنراكم في حجر الطبيعة الأم الحنون، تهدهدكم وتنثر بين أسرتكم الورود والرياحين
إن الحياة تفسد الطبيعة، ولكن الطبيعة تصلح الحياة، وإلا فما كانت الحياة تسلب من علَتْ به السن معالم الطبيعة ونقاء الفطرة
أيها الأطفال!
أراكم تجرون في العمر تريدون أن تلحقوا بنا في مضمار الحياة، ونحن كذلك نجري في طريق العمر إلى مدى لا يعلمه إلا الله
إن منكم من سيظل طفلاً برغم تقدم الحياة والسن، لأن لون الطبيعة قد انطبع على إهابه
وإن منكم من ستسلب منه الحياة فطرة الطبيعة، فيصير كأهل الحياة، يتعلم مكرهم وختلهم، وتتلاشى من نظراته تلك الأضواء البراقة التي عرفها في طفولته أسلوباً من لغة الطبيعة. والناس بهذا الوضع سيندفعون مع التيار، وتنغمر عواطفهم في العباب
ليت الطفولة لا تفارق الناس في كبرهم، ولكن هل كانت الحياة تستقيم على هذا المنهج؟
إننا إذا خرجنا عن نطاق الفلسفة أو دخلنا في نطاقها وجدنا أنفسنا أحوج ما نكون إلى أن نتخلق ببعض أخلاق الطفولة، فليست كل مميزات الطفولة غير صالحة؛ فإن بين طباعها الطهر والنقاء والصفاء؛ وما أحوجنا في كل حين أن نكون أنقياء بكل معاني النقاء!
إن الطبيعة والحياة لا تتنافران، بل ما أحوج المجتمع أن يمزج بين عناصرهما ليتحقق الانسجام والاعتدال
يريد المصلحون أن تقل من المجتمع الشرور والآثام، وهل يتحقق ذلك إلا إذا مزجنا حياة الكبار بطبيعة الأطفال
وماذا يمحو الشر والإثم غير الصفاء والنقاء. . .؟
الواقع أننا في حاجة إلى مدرسة للطفولة نعلم فيها الكبار فطرة الأطفال، نعلمهم أو نذكرهم فيها طبيعة الطفولة فيما تفردت به خصائصها ومميزاتها من الفطرة والسذاجة والنقاء
وهل ينسى من فارق مجال الطفولة أنه كان من أبناء الطبيعة فأصبح من أبناء الحياة!
أحمد محمود فهمي
رسالة الشعر
عيد الربيع. . .
للأستاذ أحمد محرم
هتف الداعي، فلبوا يا رفاق
…
واجمعوا شمل الهوى بعد الفراق
مورد العيش صفا، والجو راق
…
فهو طلق الساح، فضي الرواق
ما لمن يزهد فيه من خلاق
عاد في بهجته عيد الربيع
…
يزدهي في معرض الحسن البديع
هو يا أهل الهوى عيد الجميع
…
ليس للهاجر فيه من شفيع
عيدكم عيد اجتماع وتلاق
كان للهجر زمان، فانطوى
…
وخلت من شره دنيا الهوى
كم جريح فيه بالشوق اكتوي
…
كم جريح فيه بالدمع ارتوي
كم مشوق بات مشدود الوثاق
يا شفاه الزهر، ما أبهى الشفاه
…
اضحكي بالله يا دنيا الحياة
وانظمي شعر الهوى، إني أراه
…
سلوة الصب المعنى في هواه
اسكبيه سلسلا عذب المذاق
لك من شعري ربيع دائم
…
كل بيت فيه عيد باسم
كل معنى فيه حب هائم
…
كل حب فيه معنى حالم
كل حلم يملأ السبع الطباق
مرحباً بالعيد، عيد الشعراء
…
قادة الحب، وأبطال الوفاء
اعرفوهم، إنهم حول اللواء
…
صفوة القتلى، وخير الشهداء
اعرفوهم واستعدوا للّحاق
يا قلوب الناس، ما هذا الجمود؟
…
أجنوب تلك منهم؛ أم لحود!
أنتِ موتي؛ وبنو الحب شهود
…
ليس في الدنيا حياة أو وجود
حيث لا يوجد حب واشتياق
لا يحب الله من لا يعشق
…
يشهد العقل؛ ويرضى المنطق
كل حسن أو جمال يخلق
…
فهو منه؛ وعليه يطلق
وإليه في معاليه يساق
كل حب، فهو منه وإليه
…
وقلوب الناس ما بين يديه
عالم الغيب، فلا يخفى عليه
…
كل ما في الكون مسطور لديه
في كتاب أزلي العهد باق
يا كتاب الحب، ما هذى السطور
…
حِكم الإنجيل أم آي الزبور!
هي كالفرقان نور فوق نور
…
إن فيها لشفاءً للصدور
وغنى للناس عن آس وراق
رددي يا طير آيات الحنين
…
وتغني بحديث العاشقين
نبهي الأشواق في رفق ولين
…
نبهيها في قلوب الراقدين
الهوى استيقظ، والحب استفاق
عبقُ الريحان، يُهديه النسيم
…
وجمال الورد في الروض الوسيم
وصفاء الجو في دنيا النعيم
…
ووفاء الصاحب السمح الكريم
كل هذا من أناشيدي الرقاق
كلما رددت آيات الكتاب
…
في محاريب الهوى بين الصحاب
ضجت الدنيا وظلت في اضطراب
…
إنما الدنيا عذاب في عذاب
وبنو الدنيا بلاء لا يطاق
تلك خمري يا رفيقي خذ وهات
…
ودع الهم لأهل الترهات
نحن في المعبد نقضي الصلوات
…
هات كأسي يا صريع النشوات
يا لها يا صاح من كأس دهاق
نحن في عالمنا السامي الجليل
…
ديننا الإيمان، والحب النبيل
لا نبالي في كثير، أو قليل
…
كل من لام خليلاً في خليل
ما لكم والحب يا أهل النفاق!
يا رفيقي ليس للحب مدى
…
وقلوب الناس لم تخلق سدى
أين من يعقل، أو يبغي الهدى
…
لا أرى إلا غويَّا مفسدا
يتمادى في ادعاء واختلاق
طال عهد الزهر بالوادي الخصيب
…
وتمادت وحشة النائي الغريب
وأتى (آذار) من بعد المغيب
…
فتلاقى، من محب وحبيب
بين تسليم، ولثم، وعناق
يا نشيد الحب من ذا صنعك!
…
غن يا (قيس) وقل ما أبدعك
كل طير يشتهي أن يسمعك
…
هذه (ليلاك) يا (قيس) معك
كاذب من قال (ليلى) بالعراق
أحمد محرم
وحي الطبيعة الغربية
الجبل الأبيض
بشاموني - فرنسا
(مهداة إلى الدكتور بشر فارس تذكاراً لزيارة ممتعة)
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
يُطلُ على الكونِ من شاهقِِ
…
كنسرٍ يُرفرفُ مِنْ حالق
وتلمعُ فوقَ ذَراهُ الثلوجُ
…
وتَبرقُ كالأمل البارقِ
له قِمَّةٌ كلَّلَت بالمشيب
…
على ظهرِه الأدكنِ الغامق
وشابَ. . . ولكنَّه لم يَزَلْ
…
فَتِيَّ الغوا رب والعاتق
فما قوَّسَتْهُ همومُ السنينَ
…
ولا ضَرْبةُ الزمنِ الصاعق
تَسامَى إلى جَنباتِ السماء
…
وطال على رأسِها السامِق
يلوحُ عليه اتَّزانُ الوَقورِ
…
وتَبدو به ثقةُ الواثق
تمرُّ عليه تَوالي العُصورِ
…
ثِقالَ المؤخرِ والسابق
وتطرقه حادثاتُ السنين
…
فيهزأ بالقَدَرِ الطارق. . .
هُناك صعدنا إلى مَتْنه
…
وطُفنا على نَبْعه الدافق
وقد ثار جدولُه ثورةً
…
تذكرني غَضبةَ الحانق
صعدنا هناك إلى عالَمٍ
…
لذيذِ المنى خالصٍ رائِق
تَخَلَّصَ من صَرَخات الحياةِ
…
ومن إنْسها الناعبِ الناعِق!
وَمِنْ زَفْرة الحِقْدِ بين القلوبِ
…
ومن دُخْنَة النَفَسِ الخانق. . .
هناك رأيتُ شعاعَ الغروب
…
يَدبُ على الثلج كالسارق
وقد طالَ وجهُ النهار الضَّحوك
…
كما طال ليلٌ على العاشق. . .
وسار بياضُ الثلوج الكثيفِ
…
على حُمرة الشفَقِ الغاسقِِ
وقامت على مَزْج ألوانِه
…
يَدُ الصانعِ الماهرِ الحاذق
تُصَورُ كل طريفِ الجمالِ
…
وكلَّ بديعِ الحلي شائِقِِ
محمد عبد الغني حسن
الفيلسوف المجهول
(إلى روح المرحوم الدكتور علي العناني بك)
للأستاذ عبد الرحمن الكيالي
ضلت ركاب الفكر عن أخباره
…
فسعت تحت الخطو في آثاره
سبق الزمان إلى الزمان فقصرت
…
عن شأوه الأيام في مضماره
هتفت بأذنيه الهموم وجلجلت
…
في صدره الهمسات من أفكاره
فسمت به فوق السماء وأرسلت
…
نغماته بالسحر من أوتاره
كالنجم أفرط في العلو وإنه
…
ليذود لحظ الطرف عن إبصاره
لم يصبه للمجد طيف لم تزل
…
همم النفوس تُساق في تياره
ورمى الخلود بنظرة لو صادفت
…
طوداً أشم لدُكَّ من أقطاره
ما الخلد في عينيه إلا ومضة
…
للوهم ترفل في شفيف دثاره
فتكت بأوطار النفوس ولم تكن
…
لتفوز باللمحات من أوطاره
ما ضره ليل تجهم حوله
…
وأحاطه بالسود من أستاره
والعود يذهب في الرماد إذا التلظي
…
وهج اللهيب يشف عن أسراره
فليرتفع عن دهره متكبراً
…
وليجف هذا الدهر عن إكباره
وليشد في مزماره مترنماً
…
ويرى النعيم الحق في مزماره
فدعوه لا تتسمعوا نغماته
…
نغماته وقف على إسكاره
لا تنفحوه بالكؤوس فقلبه
…
كأس تصفق في يدي خماره
ملئت بمعسول العقار ولم تكن
…
لهواتكم تسمو لرشف عقاره
فليطلع الفجر الوضئ وخلفه
…
حجب ترد العين عن أنواره
وليكتم الروض الأريج عبيره
…
عن كل مشتم سوى أزهاره
وليحم ذو اللب الكبير شعاعه
…
أن تُخطف الأبصار من إسفاره
نفحاته قدسية جياشة
…
فاضت بماء القلب من قيثاره
ما بالها سلكت سبيلاً موحشاً
…
يرتاح فيه العقل من أسفاره
نسلته من دنيا الفتون ولم تكن
…
ترضى بهذا الكون من سماره
فنضا الكرى عن مقلتيه مغرد
…
للفجر يهتف بانتعاش نهاره
كشف الصباح لناظريه فأبصرا
…
صبح الأنام يموت في أسحاره
دفن الرقاد قلوبهم برموسه
…
وحبا الرياء نفوسهم بشعاره
فانساب تحت الليل يقبس لمعة
…
كالمستجير من الصقيع بناره
وازوّر عن أفق الظلام مُغبراً
…
تتقطع الأعناق دون غباره
متبتل ترك الأنام وراءه
…
ونجا يحطم من وثيق إساره
حتى إذا نسج الظلام حياله
…
ثوب الفناء ولفه بإِزاره
أرست نوازعه وأشرق لبه
…
ورمى الأزمة في يدي أقداره
فتطايرت آماله من قلبه
…
مذعورة النسمات من إعصاره
وترنمت في ثغره ضحكاته
…
بالسخر ترسل من فحيح جماره
ورد الحياة وفر عن آفاقها
…
مستهزئاً بقدومه وفراره
(الخليل - فلسطين)
عبد الرحمن الكيالي
الأدب في أسبوع
توطئة. . .
كتبت - في هذا الباب - منذ أسابيع بعض رأيي في الشعر والشعراء، ولم يكن همي أن أستوفي كل الرأي فيهما وليس من عملي الآن أن أفعل ذلك، وإنما هي إشارات في لمحات يأخذ بها من يأخذ، ويدعها من شاء أن يدع؛ وأنا أحب أن أقدم بين يدي كلامي. . . فإن بعض من يغافل نفسه عن حدود الألفاظ ومعانيها ينطلق من ورائها يمد منها بأوهامه مداً بعيداً حتى يخرج بما نكتبه عن المعنى الذي نريده إلى أحلام ووساوس وخطرات يحم بها ثم يغلى ثم ينتفض. . . ثم لا يكون رأيه فينا إلا وهماً، من فوقه وهم، من فوقه عناد، ظلمات بعضها فوق بعض
فأنا حين أهجم على الغرض الذي أريده من النقد أو البيان، لا أتلجلج دونه لما أخشاه من قالة السوء التي يوكل بها بعض من فرغ زمانه إلا من الفراغ الذي يستهلكه في اختلاق الأوهام واقعة وطائرة، رائحة وغادية، ثم هو يجلس إليها - بعد أن تفصل عنه - ليتأملها ويملأ عينيه وأذنيه من مفاتنها وألحانها! وأنا أحب أن يعلم من ليس يعلم أني حين أكتب عن صديقي وكأن ليس بيني وبينه سبب من مودة، وأكتب عن عدوي وكأن ليس بيني وبينه دخان من غضب. فإذا خُيَل لبعض من يتخيل أني أماسح صديقي أو أتلفف على عدوي فقد أخطأ، وإنما العيب منه لا منا. . . وذلك عيب علمه أن هذا عدو وهذا صديق، فيرى من وراء اللفظ ومن تحته ومن فوقه ومن بين يديه معاني ليست منه ولا تتداعى إليه، وإنما نحن نستوفي الكلام ونعطيه حقه على وجوهه في الرضا والغضب، ونأخذ أنفاسنا بذلك ما استطعنا، فإن الحق في هذا الذي نكتبه هو حق القارئ لا شهوات من يكتبه؛ ثم هو بعد ذلك رأينا أصبنا أو أخطأنا، وليس علينا أن نوافق هوى قارئ لأنه هواه، بل علينا أن نجتهد له في إمحاض الرأي الذي نراه ليأخذ منه أو يدع على قدر من اقتناعه أو مخالفته؛ فهذه كلمة أوَطئُ بها ما بيني وبين القراء، ليسيروا إلينا ونسير إليهم في مهاد مذلّل من الرأي والنصيحة. . .
ويعتَدُه قومٌ كثيرٌ تجارةً
…
ويمنعُني من ذاك ديني ومنصِبي
الملاح التائه!
أما (الملاح التائه) فذاك هو الصديق الشاعر المهندس (علي محمود طه)، وقد عاد بعد خمس سنوات فألقى على شاطئنا ديوانه الثاني (ليالي الملاح التائه) ثم نشر شراعه ومضى. وقد أحدث ظهور هذا الديوان الجديد - في معرضه الأنيق وشعره القوي الجميل - آثاراً في توجيه أنظار الناس إليه وإلى صاحبه ثم إلى الشَعّر خاصة، ثم اختلف الأدباء عليه بأحاديثهم وآرائهم، ولغوْا لغواً كثيراً في الأغراض التي اشتملتْ عليها ضفتا هذا الديوان الثاني من شعر (الملاح التائه). ونحن لن نعرض لشيءٍ مما قيل في ذلك إلا كما يدرج الكلام على أغراضه بالإشارة والتنبيه والبيان على مجاز السياق
والشعر أيضاً
ولاُبدّ من أن نعود مرة أخرى للحديث عن الشعر عامةً، ليكون بعض الرأي فيه مدخَلاً للكلام عن (الملاح التائه)، فإن أكثر ما قيل - عن ديوان هذا الشاعر - إنما مرُّده إلى آراء فاسدةٍ في معنى الشعر، وما هو، وكيف هو؛ وإلى الجَهْل بطبيعة الشاعر وفطرته ومن أين تأتي، وأنى تتوجَّه، وكيف تجري به إلى أغراضِها على نِظامٍ لا ينفَكُّ عنه أراد أو لم يُرِدْ
وليس يشكُّ أحدٌ أن الشَّعْر في أصله هو معانٍ يريدُها الشاعِرُ، وأن هذه المعاني ليست إلا أفكاراً عامّةً يشتركُ في معرفتها كثير من الناس، وأنها دائرةٌ في الحياة على صورتها التي تأخُذُها بها كل عينٍ، ويتداولَها من جهته كل فِكْرٍ، وأنها - إذ كانت كذلك - ليست شيئاً جديداً في الحياة ولا في معانيها وأوصافها وحقائقها، وإنما تصيُر هذه المعاني شعراً حين يعرضُها الشاعر في معرضٍ من فّنَهِ وخياله وأدِائه ولفظه، فيجدد لك هذه المعاني تجديداً ينقلها من المعرفة إلى الشعور بالمعرفة، ومن إدراك المعنى إلى التأثُّر بالمعنى، ومن فهم الحقيقة إلى الاهتزاز للحقيقة، فتجد المعنى القريب وقد نقلك الشاعر إلى أغواره الأبدية وأسراره العظيمة وكأنه قد خرج عن صورته التي ضُربت عليه في الحياة السَرّ الأول الذي أبدع هذه الصورة، وإلى الصلة التي تصل ما بين المعلوم إلى المجهول البعيد الذي لا يُرى ولا يلمس
فالشعور والتأثر والاهتزاز هي أصل الشعر، ولا يكون شعر يخلو منها ومن آثارها وتأثيرها إلا كلاماً كسائر الكلام ليس له فضلٌ إلا فضل الوزن والقافية وهذه الثلاثة لا
يكتسبها الكلام من المعاني من حيث هي معان معقولة مدركة، وإنما هي فيه من روح الشاعر وأعصابه، ونبضات الشوق الأبدي التي تتنزى في دمه؛ فأيُّما معنًى عرفه الشاعر، وأيُّما صورة رآها، وأيُّما إحساس أحس به، فهو لا يكون من شعره إلا حين يتحول في روحه وأعصابه ودمه إلى أخيلة ظامئة عارية تبحث عن زيها ولباسها من أسلوب الشاعر وألفاظه، ثم تريد بعد ذلك زينتها من فن الشاعر لتفصل عنه في مفاتنها الجميلة كأنها حسناء قد وجدت أحلام شبابها في زينتها وأثوابها. وبقدر نقصان خزائن الشاعر مما تتطلبه أخيلته الظامئة العارية، يكون النقص الذي يلحق العذارى الجميلة التي تسبح في دمه من معانيه
والشعر على ذلك هو فن تجميل الحياة، أي فن أفراحها الراقصة في نسمات من الألحان المعربدة بالحقيقة المفرحة؛ وفن أحزانها النائحة في هدأة التأملات الخاشعة تحت لذعات الحقيقة المؤلمة؛ وفن ثوراتها المزمجرة في أمواج من الأفراح والأحزان والأشواق، قد كُفَّتْ وراء أسوار الحقيقة المفرحة المؤلمة في وقت معاً
وهو على ذلك فلسفة الحياة، أي فلسفة السمو بالحياة إلى السر الأبدي الذي بث في الحياة أسرار المستغلقة المبهمة التي تُرى ولا تُرى، وتظهر ولا تظهر، وتترك العقل إذا أرادها حائراً ضائعاً مشرداً في سبحات من الجمال تضيء فيه بأفراحها كما تضيء بأحزانها، وتفرح بكليهما وتحزن، فرحاً سامياً أحياناً، وحزناً سامياً أبداً
وإذا كان الشعر هو فلسفة السمو بالحياة، فمعنى ذلك أنه النظام العقلي الدقيق الذي يبلغ من دقته أن يكون منطقه إحساساً مسدداً لا يخطئ ولا يزيغ ولا يبطل ولا يتناقض في أسلوبه الفني ونظامه الشعري البديع، وهذا النظام العقلي النابض الذي يتلقف مادة أفكاره من الحياة لا يستطيع أن يشعر أحياناً، ولا يشعر أحياناً، كما قال بعضهم، ولا يستطيع أن يتقيد بزمان ومكان يستوحى منهما الشعر ثم لا يكون هو يستوحي من غيرهما، كما ذهب بعض أصحاب الكلام إلى القول حين ظهر (ليالي الملاح التائه) في شعر الطبيعة المصرية، وشعر الطبيعة الأوربية وما إلى ذلك من فضول الحديث
إنّ هذه الحاسَّة العاقلة المفكرة النابضة في الشاعر تأخذ مادتها من مساقط الوْحي في كل أرضٍ وتحت كل سماءٍ؛ وربَّ خمول أو فِترة تأخذُ هذه الحاسة في موطنها ومنشئها
ومدْرجها ثم تكونُ البلاد البعيدة في مطارح الغُرّبة هي التي تنفُض عنها غبارها وتمسحه حتى تجلوها جلاء المرآة، أعداداً لها لتتلقى صُورها التي تجري في مائها إلى دم الشاعر ثم إليها مرة أخرى، ولا تزال كذلك بين الأخذ والإعطاء حتى ينبثق ماءُ الينبوع من صخرة الحياة الشاعرة
فلا يخدعنَّك ما يقول فلانٌ وفلانُ، فإنْ هم إلا أسماء قد ركبتْ على ألقابها تركيباً مزجياً على خطأ وفساد، كما ركَبّتْ حضرمَوت وبعلَبك تركيباً مزجَّياً على صحة وصواب
ليالي الملاح التائه
كل هذا الديوان شعٌر من شعر (علي طه) بعد رحلتيْه من مصر إلى أوربا في خلال هذه السنوات التي انقضت بعد نشره الجزء الأول من ديوانه وهو (الملاح التائه). وقد كانت هاتان الرحلتان وحياً جديداً في نفس الشاعر وأعصابه وأحلامه، وكانتا تغييراً في حياته عامة وفي أفكاره خاصة، ولم يكن بد إذن أن يجد قارئ هذا الديوان فرقاً بيَنّاً بين شعر (الملاح التائه) و (ليلي الملاح التائه). وليس هذا الاختلاف بشيء ألبته، فإن شاعرّيته لم تزل هي ما هي في كليهما على نمط لم يختلف، ولكنه نزع في هذا الطَّوْر الجديد إلى السهولة والرَقة ومعابثةِ المعاني والألفاظ بغزل رقيق من عواطفه. وعلةُ ذلك فيما نرى أنه انطلق من قيود مصر في أول رحلته وخرج شارداً يستجلي روائع الحياة الأوربية الزاخرة ببدائع الفن ومعجزات الحضارة والعلم، ونزلَ المنازل المتبَّرجة بفتَنها في عواصم المدن الأوربية، وعبَّ من مُسكرَاتِ الجمال الفطريَّ والصناعَّي البديع الذي تستجيده أناملُ الحضارة الرقيقة العابثة اللاهية، والتي لم تدع للفنَ معقلاً إلا لعبت به واستخرجت كنوزه وتلاعبتْ بها على أصول أخرى غير التي بنى عليها الفن القديم البارع المحكم، وعرضت له الصور التي تفتن الناس بجمالها وتهدمهم بفتنتها، وتقعُ في دمائهم موْقعاً لا تلبث معه إنسانية الإنسان أن تشتمل من جميع نواحيها بلهيب من اللذة والسكر والفرح. . كل ذلك هزَّه وهزَّ أعصابه وألقى عليه من وحيِه وتركه يقول من الشعر على السجية غير متكلَّف ولا مُنقَّح ولا راغبٍ في الكد والعناء و. . .، والحنبليَّة الفنية التي تريد البديع، فإذا أدركته طلبت الأبدع، فإذا بلغت تسامت إلى ما هو أبدع منهما؛ لا تهدأ ولا تقرُّ ولا تستريح إلى جميل
كان هذا - فيما نرى - وكانت نفسه الشاعرة المتلقّفة - والتي تهجم بعينيها على أَبكار المعاني بنشوة الشباب العِربيد - تتلفت تلفُّت الصائد، تكاثَر الصيد بين يديه، فما يدري ما يأخذ وما يدع، وهو مع ذلك لا يزال يذكر صِغاره وأحبابه وهوى قلبه، ومن يريد أن يصنع لهم حياةً من صَيده؛ فهو يتلفَّت إليه بقلبه حنيناً وذكرى وصبابة. فهذه العواطف الدائبة في تكوين شاعريته، والتي تلونها بألوّانها وتخاريجها، هي التي جنحت به إلى السهولة والرقة والغزل الحُلو بينه وبين معانيه وألفاظه، ومن غير الممكن أن يتقيد الغزل الشعري بقيودٍ تضبطه، وإلا انقلب تكلفاً واستكراهاً وجفوة.
الجندول
وإذا أردت أن تعرف صدق الذي قلنا به من العوامل الجديدة في تلوين هذا الشعر، فخذ هذه الأغنية الجميلة التي ترنَّم بها الشاعر الموسيقي، ثم أعطاها الموسيقيّ البارع (عبد الوهاب) جوّ تغريدها في ألحان هي من شعر الموسيقى. . .
فإن الشاعر حين لعبت به فتن (عروس الإدرياتيك) في كرنفالها المشهور، وَدفِيءَ دَمهُ في أنفاسها الحبيبة المعطَّرة، وفاجأته فتنة من فِتَنِهِ التي عرضت في صبابته. . . أرقَّ فِتنة في أحلى جوّ في سِحر الليل المضيء في أجمل فن الحضارة في أحفل الليالي باللهو والعبث، والضحكات التي تتردد بين أضواء الكهرباء، حتى كأنها أمواجٌ من الضوء تضحك ضحكها - لم يستطيع أن يضبط تلك الأمواج الفرحة المعربدة في إحساسه الشاعر، فبدأ يترنَّم:
أين من عينيَّ هاتيك المجالي
…
يا عروس البحر يا حلْم الخيال
أين عُشاقُك ُسُمار الليالي
…
أين من واديك يا مهد الجمال
ثم انطلق يصف عاطفته وجو عاطفته وعطر عاطفته، كل ذلك بألفاظٍ غزلةٍ عاشقةٍ، تتنفس أنفاسها من المعاني المرحة، حتى في بعض اللوعة المستكنة وراءَ نفسه، والتي استعلنت في قوله:
(أنا من ضيَّع في الأوهام عمره)
بعد أن قال:
ذهبيُّ الشعر شرقيْ السماتِ
…
مرح الأعطاف حُلوُ اللفتات
كلما قلت له: خذ، قال: هات
…
يا حبيب الرُّوح، يا أُنس الحياة
كل ذلك والشاعر في مرح ونعمة وخيال وافتتان، وكأنه نسي الدنيا التي ولد فيها كما (نسي التاريخ أو أنسى ذكره). . . ولكنه لا يلبث يتلفت بعد ذلك تلفتاً مؤثراً عجيباً، هو دليل الشاعرية الصحيحة التي اشتمل عليها تكوينه العصبي. . . يقول:
قال: من أين؟ وأصغي ورنا
…
قلت: من مصر، (غريب) هاهنا
(غريب)، هذه كلمة النفس الشاعرة في مكانها من العاطفة وفي أقصى مدَّها من التأثير، إنه حرف يبكي من الغربة والحنين والذكرى، ولو سقطت هذه الكلمة من الشعر لسقط كل الشعر ولسقط معه رأينا في العوامل التي عملت في شعر (علي طه) بعد رحلته إلى أوربا، لو قال:(من مصر) وسكت، أو أتى بذلك الحشو الذي لا معنى له، والذي يكثر في شعر الضعفاء، لا نسلخ عن الشعر إلى سؤال يتلقاه المرء من فضولي قائم على طريق السابلة، وجواب استخرجه الفضول واللجاجة. . . ثم هي بعد ذلك التفات يخيل لك معه أن الشاعر قد رد فقال: من مصر، ثم انفتل بوجهه إلى مصر، وتلقى دمعة يموَهها بيده ويمسح أثرها بمنديله - في هذا الجو المرح العابث اللاهي - وهو يقول:(غريب هاهنا)
هذا. . . وقد أخذت هذا الموضوع وحده من القطعة لشهرتها الآن وليتدبر من يسمعها فإن فيها من أمثال ذلك كثير، مما هو دليل الشاعرية الناضجة التي لا تخطيء معانيها. ولو أخذت سائر شعره على هذا الأساس الذي كشفنا لك عنه في حديثنا عن الشعر لوقفت على روائعه التي هي روائعه
محمود محمد شاكر
رسالة الفن
نحو التربية الفنية
هذا أستاذ
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- هل تستطيعين أن تساعديني على ترشيح صاحب ديوان (الجداول) ليكون أستاذاً في كلية الآداب؟
- ما ديوان الجداول هذا، ومن صاحبه، وأين هو، وما الذي يميزه على غيره حتى تطلب له أن يكون أستاذاً في كلية الآداب عندنا، وأنت تعرف أن للأستاذية فيها شروطاً، منها، أن يكون الأستاذ حاصلاً على الدكتوراه؟
- ديوان الجداول هو مجموعة من شعر إيليا أبي ماضي، وهو به يستحق أن يكون أستاذاً في كلية الآداب، أما الدكتوراه فشهادة يمنحها القارئون الكبار للقارئين الصغار، ولكن إيليا أبا ماضي لم يعد قارئاً، ولا كاتباً، وإنما هو إنسان ينفذ من هذا الوجود المحسوس إلى ما بعده، ثم يعود إلى الناس يروى لهم ما رأى وما سمع وما أحس وما أدرك. . . وهو من كثرة تجواله في آفاق الكون ألم بالكثير من دروبه، وأحاط بالكثير من طرقه، فهو يستطيع أن يكون رائداً لجماهير من التلاميذ تتبعه، يرشد منهم من يسترشد، ويوجه منهم من يحار، ويعلم منهم من يرتبك، ويهدي منهم من يضل. . . وهذا هو عمل الأستاذ. أستاذ الأدب
- هذا عمل الفارغ من حياته المستغنى عن عمره وليس عمل أستاذ الآداب
- ولن يكون الإنسان أستاذاً للآداب إلا إذا فرغ من حياته واستغنى عن عمره، واشترى بهذه الدنيا شيئاً آخر، هو الأدب. والأدب ليس كما تحسبين كلاماً منمقاً مزوقاً لبعض الناس قدرة على تخليقه، والبعض الآخر عاجزون عنه، وإنما الأدب تربية نفسية يجاهد اليتيم في تقويم نفسه بها، وغير اليتيم يسعد بما يربيه عليه أبوه أو أستاذه. واليتامى مساكين، قليلاً ما يوفقون إلى الهدى وكثيراً ما يفلت زمام أنفسهم من أيديهم فينطلقون في الحياة ونفوسهم مشردة معربدة تنغمس في الرذيلة حيناً، وتتخبط أحياناً بين الرذائل والفضائل، ولكنها لا تستقر على فضيلة إلا ما فرضه عليها مجتمع اليتامى المشردين الذين يحيطون بها، وليس
يفرض هذا المجتمع كثيراً من الفضائل، فهو كمجتمعات المشردين والمشبوهين من اليتامى والمساكين الذين ترينهم ملقَين في الشوارع. . .
- وهل فرغ إيليا أبو ماضي من حياته حقاً وتوفر على تأديب نفسه، فهو إذن قادر على أن يؤدب غيره؟ وإذا كان قد فرغ من حياته حقاً فمن أين يأكل. . . وكيف يعيش؟
- إنه يأكل كما تأكل الطير في السماء، ويعيش كما يعيش الحر الكريم؛ منذ سنوات وسنوات هبط مصر وأراد أن يستقر فيها، فاتخذ لنفسه محلاً يبيع فيه السجاير والدخان ووقع عليه أنطون الجميل بك فرآه يكتب شعراً في الدكان، فقرأ شعره فأعجبه فنشره في مجلة كان يصدرها، فقامت قيامة الأدباء والشعراء المصريين عليه فأوسعوه نقداً، وأوسعوه تجريحاً، وتناولوا ألفاظه ولغته وراحوا يناقشونه في هذه الفاء ما موقعها من الإعراب، وهذه النون لماذا هي مفتوحة وهي في الأصل مضمومة، وهذه الهمزة، لماذا قطعها وهي همزة وصل؟ وتكاثروا عليه، وكان في مصر إذ ذاك أمير للشعراء هو المرحوم أحمد شوقي بك، وكان رحمه الله يستطيع أن يقول كلمة ينقذ بها إيليا من بين براثن هؤلاء الذين ينقدون الشعر بغير ما يصلح نقداً للشعر، وكان رحمه الله يستطيع أن يقول لهؤلاء النقاد: إني أربأ بالشعر أن يعيبه هذا الذي تروون مما يعيب اللغة والعروض والنحو وسائر ما يحصل بالقراءة والدرس، وإني أرفع الشعر فوق هذا كله، فهو حديث النفس والنفس من الله وليس لله لسان مما ننطق به. كان شوقي بك رحمه الله يستطيع أن يقف من إيليا هذه الوقفة ولكنه رحمه الله كان مشغولاً بشعره هو وبنفسه هو، وبالملك العريض الذي أرسله فيه الزمن، فلم يشعر مطلقاً بالذي حدث لأبي ماضي، ولم يطق أبو ماضي صبراً على هؤلاء المهاجمين فشد رحاله إلى أمريكا، حيث يتكلم الناس بالإنجليزية، وحيث لا عرب إلا الباحثون عن الرزق، والخارجون من أوطانهم وأيديهم صفر، ثم استطاعوا هناك في أشد معامع الحياة ازدحاماً واصطراعاً أن يجمعوا المال وأن يعيشوا به كراماً، لا ذل يرهقهم إلا الغربة ولا مستعبد يزيحهم عن الأرض؛ وإنما لكل امرئ هناك ما سعى، ولقد سعى أبو ماضي فأنشأ هناك مجلة اسمها السمير ويقولون: إنه أنشأ متجراً للدخان والسجاير أيضاً؛ وراح بعد ذلك يتأمل الدنيا ويرنو إلى الآخرة، ويقيد على الورق ما يتكشف له من الحقائق، وما يلمحه من المبهمات، ويسجل على نفسه بلوغها وقصورها، وخيرها وشرها،
وهداها وحيرتها أفلا يصلح هذا أستاذاً لأدب النفس؟ فإن كان لا يصلح، فمن ذا الذي يصلح؟!
- ولكن هذا الذي رويته من حياته يدل على أنه من رجال الدنيا المغامرين الذين يجرون وراء الرزق والمادة من آسيا إلى أفريقيا إلى أمريكا فكيف تقول إن هذا رجل فرغ من الحياة واستغنى عن مادتها؟
- البلبل يطير من فنن إلى فنن يتلقط رزقه، ولكنه لا يقضي كل وقته في البحث عن طعامه، وإنما يقضي أغلبه في الشدو والترتيل فهما طبعه وقد اختص بهما، وليس الأكل من طبعه إلا كما هو من طبع الخلائق، وليس الشدو والترتيل من خصائص غيره إلا من كان على طرازه من الخلائق. فأبو ماضي لم يجد رزقه في الشام فطار إلى مصر، فوجد فيها الرزق مقدوراً عليه فطار إلى أمريكا، فوجد فيها رزقاً مباحاً طاهراً قد يكون كثيراً وقد يكون قليلاً ولكنه نقي غير محسود، فلا عجب إذا اطمأن أبو ماضي هناك. . . ولكن ثقي أنه يحن إلى الشرق، ولعل أغلب حنينه يهتاج إلى مصر فهو يقول:
وطنان أشواق ما أكون إليهما
…
مصر التي أحببتها وبلادي
ومواطن الأرواح يعظم شأنها
…
في النفس فوق مواطن الأجساد
حرصي على حب الكنانة دونه
…
حرص السجين على بقايا الزاد
بلد الجمال خفيه وجليه
…
والفن من مستطرف وتلاد
عرضت مواكبها الشعوب فلم أجد
…
إلا بمصر نضارة الآباد. . .
- ولكن هذا شعر يسير المعنى قريب اللفظ. . . أليس له شعر أحلى؟
- له. . . له كل هذا الديوان الذي في يدي، وله غيره. . . وبارك الله لصاحب الرسالة الذي ينشر فيها بين الحين والحين شيئاً من شعره، وكم أريد أن أقول أيضاً بارك الله لوزارة المعارف لو أنها عطفت على تلاميذها وطلابها ويسرت لهم شيئاً من هذا الشعر
- ولكنه لا يزال حياً يرزق، والدولة لا تخلد إلا من فارق الحياة. . .
- فأل الله ولا فألك، فوزارة المعارف تخلد كلام الأستاذ الجارم الموظف بوزارة المعارف، ووزارة المعارف تخلد كلام الأستاذ أحمد أمين عضو لجان وزارة المعارف، ووزارة المعارف تخلد كلام الدكتور طه حسين بك مراقب الثقافة بوزارة المعارف، ووزارة
المعارف تكاد لا تلتفت إلا لمن كان في وزارة المعارف، منذ حسنين باشا صاحب كتاب الطبيعة، وعبد الفتاح صبري باشا، وكل ما في الأمر أن الصور تتبدل وتتغير، وأن الكلام يتلون ويتشكل، ولكن الأمر لا يزال كما كان: موظفون يؤلفون كتباً. ثم يؤلفون لجاناً. فتقرر اللجان الكتب. . .
- اخسأ. لا تقل عن هؤلاء الأساتذة الإجلاء إنهم أصحاب أهواء ولا مطامع فهم الأدباء الذين في البلد، وهم الشعراء وهم الكتاب، فإذا لم تأخذ الوزارة كتبهم فأي الكتب تأخذ؟
- إن أساتذتنا هؤلاء هم أساتذة الجامعة، فأحرى بهم أن يوفروا أنفسهم للعلم؛ لأنهم على العكس من إيليا أبي ماضي. . . هو يتاجر في الدخان ليأكل منه وليفرغ للأدب لا يذل نفسه، وهم يتاجرون بالأدب ليأكلوا منه لا يعتزون بأنفسهم، ولا يشكرون الله على ما يسر لهم من وظائف. . .
- ثق أنك مخطئ، وثق أنهم أرفع نفساً مما تحسب، وثق أنهم يتجشمون في سبيل تثقيف البلد ما أسأل الله أن يجزيهم عنه خيراً. . .
- آمين. . . أسمعي أبا ماضي يصف الشاعر:
أتقولون إنه مجنون
أتقولون إنه مفتون
أتقولون شاعر مسكين
كم مليك كم قائد كم وزير
…
ود لو كان شاعراً مسكينا
عاش ملتن فلم يكن مذكورا
وهو ميروسْ كالشيخ كان ضريرا
ولقد مات أبن برد فقيرا
أرأيتم كما رأى العميان
…
أفلستم بنورهم تهتدونا؟
- هل هو زاهد؟
- نعم، وهو يقول في الزهد:
قيل: أدرى الناس بالأسرار سكان الصوامع
قلت: إن صح الذي قالوا، فإن السر شائع
عجباً! كيف ترى الشمس عيون في براقع
والتي لم تتبرقع لا تراها؟. . .
لست أدري. . .
- إذن فهو يسخر من الزاهدين. . .
- إنه لا يسخر من شيء مطلقاً وإنما هو متطلع إلى الوجود يتعلم الحكمة فكلما تعلم حكمة تفتقت له من ورائها حكمة، فهو لا يزال كلما تعلم علماً تبين له في نفسه جهل حتى يقول:
إنني جئت وأمضي، وأنا لا أعلم
أنا لغز، وذهابي كمجيئي طلسم
والذي أوجد هذا اللغز لغز مبهم
لا تجادل. . . ذو الحجى من قال إني. . .
لست أدري. . .
- لعله كافر. . .
- الكافر لا يقول للناس:
لو دخلتم هياكل الإلهام
وسرحتم في عالم الأحلام
واجتليتم سر الخيال السامي
وعرفتم كما عرفنا الله
…
لخررتم أمامنا ساجدينا
- إذن فهو مؤمن. . .
- ومسلم في مسيحيته، لو عرفتِه لوافقتني على ترشيحه للأستاذية في كلية الآداب يعلم طلابها الإيمان والحكمة شعراً، ويؤدب نفوسهم أدباً، فإذا تعذر هذا أو صعب فلا أقل من أن يعرض على التلاميذ ديوانه.
عزيز أحمد فهمي
رسالة العلم
تضارب في الرأي يؤدي إلى كشف خطير
للدكتور محمد محمود غالي
من الفكرة الشيئية إلى فكرة الأثير - هجرة العلماء الفكرة
الشيئية واعتناقهم الفكرة الحديثة - تجربة (ميكلسون) والأثير
- هجر العلماء الفكرة الحديثة وترددهم فيها - تطور يتفتح
عن تعديل في الميكانيكا النيوتونية - لا تعديل في الضوء
نرافق القارئ في مرحلة من العلوم تضاربت خلالها الآراء، تلك المرحلة التي حاول الإنسان فيها أن يفهم الظاهرة الضوئية، ويتعمق في معرفة كنه (الفوتون)، وهو الذرة التي تتكون منها الأشعة على اختلاف أنواعها، والتي كانت عند (نيوتن) جسيما صلباً، وعند (فرنل) موجة، وهي اليوم عند (دي بروي) جسيم وموجة مستصحبة له، وقد شرحنا للقارئ النظرية الشيئية للضوء التي أسسها (نيوتن) والتي موجزها في أن الضوء مكون من جسيمات صغيرة مقذوفة في الحيز في خط مستقيم وبسرعة كبيرة، وذكرنا أن ظواهر الضوء الهندسي من تكوين ظلال الأجسام عند وضعها أمام منبع ضوئي ومن انكسار الأشعة الضوئية عند اختلاف نوع المادة التي يخترقها الضوء، يجوز تفسيرها بالنظرية الشيئية النيوتونية، وعرضنا للقارئ ظواهر أخرى للضوء مثل ظاهرتي التداخل والاستقطاب اللتين كشف إحداهما أيمكن تفسيرها بالنظرية الشيئية المتقدمة، ويمكن ذلك باللجوء إلى فكرة فرضية، فكرة أثيرية أسسها الرياضي (ويجانز) والمهندس الطبيعي (فرنل) ونذكر للقارئ اليوم أن ظاهرتي التداخل والاستقطاب لم تكونا وحدهما سبباً لهجر الفكرة النيوتونية واعتناق المذهب الأثيري، بل إن ثمة ظاهرة أخرى من أهم الظواهر المعروفة وهي ظاهرة (الحيود) في الضوء يتيسر تفسيرها أيضاً باللجوء إلى فكرة نيوتن، وأمكن تعليلها بالنظرية الأثيرية أو الموجية المتقدمة، وتتلخص هذه الظاهرة في أنه قد ثبت بالملاحظة، عند ظروف معينة، أن الضوء لا يسير في خط مستقيم كما هو المعتقد منذ
القدم، بل إن الأشعة الضوئية عند مقابلتها جسماً محدداً بحافة مستقيمة تميل بحالة تدل على حيدها عن مسارها، وتتضح نتيجة ذلك من ظاهرة تشبه ظاهرة التداخل التي تكلمنا عنها
وأمام ظواهر طبيعية لم يكن يعلمها الأقدمون شيد (ويجانز) الهولندي هيكلا رياضياً رائعاَ، وقام (فرنل) بتجارب بالغة حد الإتقان وحسابات لا يتطرق إليها الشك، وهجرا، عن عقيدة، النظرية الشيئية للضوء، وأسسا افتراضاً لفهم الظواهر الضوئية موجزه في أن الضوء حادثة أو أمواج وقعت في مادة تملأ الكون بأسره، وهي مادة الأثير التي طالما سمع القارئ عنها في الكتب العلمية البحتة وفي البحوث الفلسفية، والذين يراجعون اليوم منا تلك الحسابات الباهرة لويجانز وفرنل ويعيدون بعضاً من هذه التجارب الرائعة يتجولون في الواقع في هيكل من أجمل الهياكل التي شيدها الإنسان المفكر ويشاهدون ناحية من أبدع مناحي العلم التجريبي، وهكذا كانت ثقة فرنل بالوسط الأثيري الذي افترضه افتراضاً ثقة علمية ذهبت به إلى حد معاملة (الأثير) معاملة الأوساط المادية، وذلك بالقيام بحسابات رياضية حاول أن يعلم منها الدرجة التي يتحرك بها هذا الأثير عندما تتحرك المادة فيه، وقد دلت تجربة فيزو الذي قام بقياس سرعة الضوء في أنبوبة تحمل ماء متحركا على أن سرعة الضوء في اتجاه حركة الماء تختلف عن سرعته في الاتجاه المضاد، وبذلك بيَّن بطريقة تجريبية حركة للأثير توهمها فرنل الذي نظر إليه كمادة موجودة في الوجود تسري عليها قوانينا الطبيعية ونعاملها معاملة ميكانيكية، ولم يصبح الأثير بذلك فرضاً رياضياً فحسب، بل مادة كائنة في الوجود نطبق عليها قوانين:(جاليليه) و (نيوتن) الميكانيكية، وكانت ظواهر التداخل والاستقطاب والحيود السبب في انتصار هذا النوع من التفكير، وفي تأييد نظرية أثيرية موجية يصح أن نسميها هنا لأول مرة:(النظرية الفريجانزية) نسبة لاسمي فرنل وويجانز.
ولكن رغم هذه الانتصارات المتتابعة ظل الأثير وسطاً عجيباً، إذ يجب أن يكون له خواص الأجسام الصلبة بحكم أن الضوء أمواج مستعرضة، وليس أمواج طويلة، وكانت الفكرة في مولد الأثير عن فرض نظري لتفسير وقائع معينة سبباً جعل العلماء ينظرون إليه بشيء من عدم اليقين، ولم يكن هناك لإثبات وجوده وحركته غير تجربة واحدة لفيزو، لا تكفي باعتبارها تجربة واحدة وصادرة من مصدر واحد أن تقوم دليلاً قاطعاً على وجوده
هذا الشك في الوسط الوهمي الذي افترضه العلماء افتراضاً جعل العالم الكبير ميكلسون يقوم بتجربته الشهيرة التي وإن مضى عليها الآن ستون عاماً إلا أن الأثر الذي أحدثته لم يكن بالأمر الهين، وهي التجربة التي أراد أن يعرف منها كيان هذا الأثير، بل يعرف شيئاً عن وجوده أو حركته
لجأ ميكلسون إلى استنباط جهاز يتركب من ذراعين اب اج طولهما واحد وأحدهما عمودي على الآخر، ووضع مرآة في طرف كل ذراع كما هو مبين بالشكل (1) ووضع عند امنبعاً ضوئياً وأرسل منه في الاتجاه اب شعاعاً ضوئياً يصل للمرآة ب وينعكس مرة أخرى إلى امتتبعاً السهمين اب ب ا، كذلك أرسل من اوفي الاتجاه اج شعاعاً آخر يصل للمرآة ح وينعكس إلى اوفق السهمين اح ح ا
وبديهي أنه في الحالة التي لا يتحرك فيها الجهاز في الأثير، فإن الضوء يأخذ الوقت ذاته لعمل الرحلة اب ا، والرحلة اح ا. كذلك في الحالة التي يتحرك الجهاز فيها في الاتجاه اب مثلاً، ويتحرك الأثير في الاتجاه ذاته بنفس السرعة، فإن الزمن للشعاعين يجب ألا يتغير، ولكنا نعرف من تجربة فنرو السابقة أن الأثير يتحرك بحالة ضعيفة في اتجاه الجهاز، وعليه فيجب أن يكون هناك فارق في سرعة الشعاعين، ويدل الحساب على أن الشعاع اب ا، يجب أن يأخذ فترة من الزمن أطول من الفترة التي يأخذها الشعاع اح ا؛ ومن الواضح أنه يجب لنجاح التجربة أن يتحرك الجهاز بأكبر ما يمكننا من السرعة، حتى يكون في الإمكان قياس الفرق بين الحالتين، نظراً لعظم سرعة الضوء، ولا شك أن القارئ يتساءل الآن: أنَّى لنا هذه السرعة للجهاز التي تجعلنا نستطيع أن نقيس الفارق بين سرعته وسرعة الضوء التي تبلغ 300 ألف كيلومتر في الثانية؟ ولكن ميكلسون وجد ذلك في الأرض نفسها، ذلك أن الأرض غير ثابتة، وتسير حول الشمس سيرها الأبدي بسرعة تبلغ 30 كيلومتراً في الثانية، وعلى ذلك، فقد كان على ميكلسون أن يعتبر الأرض ذاتها كجزء من جهازه، ويبحث دون تحريك الجهاز عما إذا كان هناك فارق في الوقت الذي يتخذه كل من الشعاعين
ترى ماذا كانت النتيجة التي وصل إليها (ميكلسون)؟ لقد وصل إلى نتيجة غير منتظرة بل نتيجة عجيبة. ذلك أنه لم يجد أي فارق بين سرعة الشعاعين رغم أن دقة التجربة كفيلة
بأن تظهر أقل من ذلك الفرق. وهكذا كانت تجربة ميكلسون بمثابة ضربة قاضية على وجود الأثير.
ومع ذلك فإن وجود حالة موجية للضوء أمر لا يقبل الجدل وهي حالة تستدعي وجود مادة أثيرية لها خواص الأجسام الصلبة - من ذلك حصلت أزمة علمية عصيبة، فلا المتذهبين بمذهب نيوتن بقادرين على تفسير ظاهرتي التداخل والاستقطاب وغيرهما ولا الآخذين برأي الموجية ووجود الأثير وهم التابعون لفرنل وويجانز بمستطيعين أن يفسروا لنا تجربة (ميكلسون)
وإزاء هذه الصدمة العنيفة كان يجب أن يبحث العلماء عن طريقة جديدة، وقد انتهى بهم البحث بعد وقت ليس بالقصير إلى أن الضوء ليس هو الذي يجب أن يكون موضع التعديل إنما هي معارفنا عن الميكانيكا وعن الحيز والزمن هي التي يجب أن تعدَّل، وكان على العلماء أن يتفهموا الكون وقوانينه بطريقة غير الطريقة النيوتنية، التي اعُتبرت صحيحة سنوات طوال، والتي كانت في الواقع طريقة تقريبية لكي نفهم الدار التي نعيش فيها، ولكنها لم تكن كافية لكي نفهم تفاصيل هذه الدار
هنا ينحني جيلنا أمام معادلات لورنتز التي سنتكلم عنها، وهي المعادلات التي أدمج فيها الزمن في الحيَّز والحيز في الزمن، بل وينحني جيلنا أمام تفكير أينشتاين الذي أفاد من هذه المعادلات فخرج بنا من المأزق السابق، وأفهمنا الكون على صورة غير التي عهدناها له، ولعل القارئ قد أفاد من تتبع هذه الأزمة الطبيعية التي بدأ بتمثيل الدور الأول منها شيخ علماء الأجيال المنصرمة (نيوتن) والتي ظهر في آخر فصولها شيخ علماء الجيل الحالي (إينشتاين)
ولكنا نورد، قبل الدخول في تفسير معادلات (لورنتز) ونظرية (أينشتاين)، ملخصاً عن الضوء كظاهرة كهربائية وعنه كظاهرة مادية، وسيعلم القارئ منها أن الموجات الضوئية ما هي إلا سلسلة تموجات عامة في الكون، تبدأ بموجات كبيرة أطوالها بضعة كيلو مترات، وهي الأمواج الكهربائية أو (الهرتزية) نسبة للعالم (هرتز) والتي نعرف منها الأمواج الطويلة والوسطى التي تتنقل من مكان إلى مكان متتبعة منحني سطح الأرض ونعرف منها الموجة القصيرة، وهذه الأخيرة تصل من مكان إلى آخر بالانعكاس على الطبقات العليا من
اليونات الجوية
تلي هذه السلسلة من التموجات الموجات تحت الحمراء ثم الموجات المرئية من اللون الأحمر إلى البنفسجي، ثم تلي ذلك الموجات القصيرة غير المرئية، التي تبدأ من الأشعة فوق البنفسجية وتستمر إلى الأشعة السينية بإشعاع الراديوم وبالأشعة الكونية التي كتبنا عنها
وسيتبين للقارئ من استعراض الضوء كظاهرة مادية ما للضوء من ضغط على المادة، وهو الضغط الذي أمكن حسابه وقياسه، كل ذلك يقودنا إلى فكرة النسبية وإلى نظرية الكم نتناولهما قبل أن نتناول موضوع التفتت الذري الموضوع الذي يتطلب الإنسان من ورائه مستقبلاً أرقى مما وصل إليه، ويتطلع إلى نوع من المدنية عجيب، قد يختلف جد الاختلاف عن المدنية التي نستمتع بها اليوم.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة
القصص
أّمٌّ بلا ولد!
للأستاذ محمد سعيد العريان
كانت خديجة في الخامسة والعشرين من عمرها، أو لعلها قد جاوزتها، وإن كانت تبدو لمن يراها أصغر من ذلك؛ فهي قد نالت شهادة (المعّلَمات) منذ سبع سنين؛ فكم كانت سنها يومئذ؟. . . على أن ذلك لم يكن يعنيها كثيراً، ولعلها لم تشغل نفسها يوماُ بحساب عمرها؛ وماذا يجدي عليها ذلك وإنها لسعيدة بحياتها التي تحيا؛ فما لها فكر في غد ولا أمل يمتد إلى ما وراء غد!
وهل يشغل نفسه بحساب عمره وما مضى من أيامه - إلا ذو أمل يعيش به من يومه في غده، أو عاشق تتجاذبه لهفة الذكرى وخطرات المنى؟
منذ سبع سنين لم تغير خديجة شيئاً من نظام حياتها، فهي تغادر مدرستها كل يوم قبيل العصر بعد أن تودع تلميذاتها وتلاميذها، لتلقاهم في صبيحة اليوم التالي أشوق ما تكون أمٌ إلى بنيها وبناتها!
وفيما بين مسائها وصباحها لم يكن لها من عمل إلا أن تأوي إلى غرفتها تقرأ في كتاب، أو تشارك في عمل هين من أعمال البيت، أو تخرج لزيارة بعض جاراتها وصديقاتها منذ أيام الدراسة؛ فإذا بدا لها يوماً أن تخرج إلى بعض الحدائق العامة للرياضة، أو تشاهد رواية جديدة في السينما، أو تقصد إلى بعض المشاهد التي يؤمها الناس للتفرج - فلابد لها يومئذ من رفيقات أو رفقاء من تلاميذها الصغار في روضة الأطفال يشاركونها في الرحلة والتفرج!
على أن هذا الحب العجيب الذي كانت تمنحه هؤلاء الصغار لم يكن بلا جزاء؛ فقد كان تلاميذها يبادلونها حباً يفوق ما يمنحون آباءهم وأمهاتهم اللائى ولدنهم!
وما كانت خديجة هي المعلمة الوحيدة في روضة الأطفال؛ فإن سبع معلمات يحملن معها أعباء العمل المدرسي؛ ولكنها هي وحدها - بهذه العواطف الأمومة الصادقة - كانت في عيون أطفالها هي المعلمة الوحيدة. لا جرم كانت خديجة بذلك أسعد زميلاتها وأكثرهن شعوراً بمسرات الحياة!
وغنيت خديجة بدنياها تلك عن المنى والأحلام؛ فما طوعت لنفسها أن تحلم أو تتمنى، ولا هجس في قلبها أن وراء هذه الحياة التي تنعم بهدوئها حياة تتخايل في أوهام كل فتاة في فنون وألوان!
وكان صباح، وجاءها ساعي البريد بخطاب. . .
ونظرت الفتاة في غلافه قبل أن تفضه فأطالت النظر، وكأنما أحست وراءه عينين تنظران إليها نظرة لم تفهم معناها ولا رأت مثلها لذي عينين؛ وقرأت على الغلاف:(الآنسة خديجة. . .) من يكون صاحب هذا الخط؟. . . وترددت برهة، ثم همت أن تفضه لتعرف ما فيه، ولكنها لم تفعل؛ لقد خيل إليها أن أربع عشرة عيناً تنظر إليها لتعرف قبلها ما في هذا الخطاب؛ إن زميلاتها في المدرسة على مقربة!. . . وتصنعت عدم المبالاة ووضعت الرسالة في حقيبتها وما قرأتها. . .
ولأول مرة أحست خديجة أنها في حاجة إلى أن تبتعد عن أطفالها لتخلو إلى نفسها برهة، وكما تحاول الأم أحياناً أن يبعد عنها أطفالها وهم أحب إلى قلبها لتخفى عنهم بعض أسرار الأمومة، كذلك فعلت خديجة. . .!
وأوت إلى ركن قصي تقرأ رسالتها. . . . . .
(عزيزتي خديجة!
(تُرى هل تذكرين؟ أو تعرفين؟. . .
(إن أياماً لا أتمتع فيها بمرآك، ليست من الحياة؛ إن هذا القدر الذي أبعدني عنك إلى حين، قد صدع صدعاً في أيامي!
(وفاجأني الفراق وأنا بين غفوة الأمل وصحوة الحلم؛ فلم أودعك يا عزيزتي، ولم أتحدث إليك، وسافرت وما تدرين. . .
(تُرَى بماذا تحدثك نفسك الآن يا عزيزتي؟. . . ليتني قريب منك، فأرى، وأسمع، وأعلم. . . بل إنني لأعلمُ علمَ قلبي وإن لم تحدثيني. . . وستعرفين عذري، وتغفرين لي. . . وسنلتقي من بعد يا عزيزتي فأحدثك وتحدثينني؛ وأضحك وتضحكين معي حين نذكر هذا الحاضر بعد أن تطويه الأيام في مدرجة الماضي. . .
(لست أغفر لنفسي ولكنك ستغفرين لي؛ ويوم يجمعنا القدرُ الذي فرَّق بيننا يا عزيزتي،
ويعود ما كان. . . وأراك. . . ويعود الربيع النضر طلقاً ضاحكا يتهلل. . . يومئذ أقول لك. . . لا؛ لستُ قائلها اليوم، ولن أقولها غداً، سأجعلها رسالة على فم طفل صغير يلثغ بها همساً في أذنك؛ فتضحكين، وأضحك، ويضحك الطفل الصغير كأمه وأبيه وإن لم يعرف لماذا يضحكان. . .!
(كيف أنت الآن يا عزيزتي؟ هل رضيتِ وسرّى عنك؛ إن كان كذلك فاكتبي إليَّ لتهدأ نفسي. . .
(مضى يومان وأنا في هذا المنأى البعيد كأنهما ليلٌ مطبق ليس وراءه نهار؛ فكيف تمضي الثلاثون؟
(ارقبي مطلع الهلال يا عزيزتي فإني أرقبه كل مساء لأعرف متى يحين اللقاء!
(وأترك قلبي لديك وديعة إلى معاد!)
محبك: كامل
كانت أناملها باردة كالثلج، وكانت شفتها تختلج، وكانت الصحيفة مبسوطة تحت عينيها ولا تكاد ترى؛ وأحست فجأة، وقد بلغت آخر الرسالة، مثل إحساس من يهبط من علوٍ َشاهق مغمض العينين إلى واد من أودية الجنة كان مخبوءاً عن عينيه فلما وطئته رجلاه فتّح فرأى. . .
وعادت تقرأ الرسالة ثانية وثالثة، وكل مرة تُجِدّ لها فكراً وتوقظ معنى؛ ثم طوت الكتاب برفق وأودعته غلافه، وراحت تفكر. . . وسألت نفسها:(تُرى من هو؟ وأين هو؟ ومتى رآني؟ وأين. . .؟)
وتوزعتها الصور والأوهام، وراحت تكدّ خاطرها، لتذكر وتعاقبت على مخيلتها صور ورسوم، ولكنها لم تعرف. . . أيّ حيرة؟ فتى يبلغ حبها من نفسه هذا المبلغ، فيكتم هواه عنها وعن الناس، ويقنع منها بالنظر على مبعدة وهي لا تدري؛ ويطوى جوانحه على ألم الحب، وبرجاء الوجد، وشقة النوى؛ وهي لا تعرف من أمره، ولا تسمع من خبره، ولا تحس وقع نظرته؛ حتى إذا أبعدته بعض شئون الحياة عن طريقها، وحيل بينه وبين أن يراها، غلبه الهوى على الكتمان فباح بحبه وأمانيه في رسالة.
أيُّ فتىً ذاك؟ وأين مثله في الشباب؟ يا له من رجل!
وأحست الفتاة بعد فترة، أنها قد غابت كثيراً عن أطفالها؛ فأصلحت شأنها وعادت إليهم؛ ولكن خديجة التي فارقتهم غير خديجة التي عادت. . .
. . . ودق الجرس، وقامت خديجة لتودّع أطفالها وتمضي لشأنها، ولكن أين تذهب اليوم؟
وأخرجت الرسالة من حقيبتها وأخذت تقرأ. . .
(عزيزتي خديجة!)
إنه يعرف اسمها، على حين لم تكن تعرف اسمه ولا تحس وجودَه؛ بلى، وإنها إلى الساعةِ لا تعرف من اسمه إلا الكلمة الواحدة التي جعلها في ذيل كتابه؛ وكم مرة رآها، وأتبعها عينيه، واستمع إليها تحدّث صواحبها في الطريق، وهي لا تدري. .!
وعادت تقرأ:
(وفاجأني الفراقُ وأنا بين غفوة الأمل وصحوة الحلم؛ فلم أودّعك يا عزيزتي، ولم أتحدّث إليك. . . وسافرتُ وما تدرين. . .!)
وخفق قلبها، وأحست مثلَ إحساس المفارقِ حِيلَ بينه وبين الكلمة الأخيرة؛ وعضت على شفتها؛ واستمرت تقرأ وفي قلبها وجيب، وفي دمها سعار تلهب!
وجلست خديجة في الشرفة في المساء ترقب مطلع الهلال وتحصي ما بقى من ليالي البعاد!
تغيرت حياة خديجة بعد ذلك اليوم؛ فكأنما هي تعيش في دنيا غير الدنيا التي عرفتها منذ كانت؛ وتضاعف إحساسها بالحياة مذ عرفت أن وراء اليوم غداً، ورأت في عيون أولئك الصغار الذين تعيش معهم نصف حياتها - معاني جديدة لم ترها في عيونهم من قبل؛ إذ كملت في نفسها معاني الأمومة حين بزغ في قلبها الحب. وعمر ليلها بالأحلام!. . .
ولمحت طفلاً يهمس في أذن رفيقه؛ فاشتاقت أن تسمع رسالة على فم طفل صغير يلثغ بها همساً في أذنها فتضحك ويضحك شخص ثان. . .!
ووسع خيالها ما لم يكن يسع!
وتعاقبت الأيام، والأحلام تطاولها وتمد لها. . .
ولما خلت إلى نفسها في غرفتها بعد أسبوعين من تلك الرسالة، اعترفت لنفسها بصوت مسموع أنها تحبه، وأنها تكاد تعرفه لو رأته. . . بل إنها لتعرفه يقيناً لا شبهة فيه. . . هكذا زعمت وهي خالية إلى نفسها تحدثها!
وارتسمت في خيالها صورة كاملة للرجل الذي جاءتها رسالته ولم تره قط، ورسمت لنفسها صورة أخرى من خيالها يوم تراه فتعاتبه ثم تصفح عنه!
وبقى يومان على مطلع الهلال. . . . . .
وكانت واقفة في الشرفة تستروح َروْحَ الربيع، حين سمعت رنين الجرس. . . وكن ثلاثاً من صديقاتها؛ وجلسن وجلستْ معهن في غرفة الاستقبال. ومضى الحديث يتنقل من فن إلى فن إلى فنون. . .
وقالت واحدة لجارتها: (متى زفاف أخيك؟)
قالت: (لقد أذكرتني أمراً. . . فقد أرسل أخي رسالة إلى خطيبته غداة سفره فلم تجبه؛ فغضب وكتب إليَّ يشكوها؛ وذهبتُ أزورها أمس فإذا هي غضبانة كذلك، تشكو إلى أن أخي لم يكتب لها منذ سفره. . . أرأيت. . .؟)
واعتدلت خديجة في مجلسها وقالت: (عجيبة! تقولين إنه كتب إليها فلم ترد؛ ففيم غضبها؟)
قالت: (هنا المشكلة؛ فإن رسالة كامل لم تبلغها!)
واختلجت خديجة، وهجس في نفسها هاجس، وأردفتْ صديقتها:(وبذلك كتبت إلى أخي ليعرف الحقيقة!)
واختلجت خديجة ثانية وقالت: (أتعنين. . .؟)
قالت الفتاة: (أعني أن رسالته لم تصل إلى خديجة. . .!). . .
ووضحت الحقيقة كاملة لعيني الفتاة، وعرفتْ، واستيقظت من الحلم الرائع الذي عاشت منه عُمراً سعيداً في أيام. . .
ونهضت متثاقلة إلى غرفتها لتفتح حقيبتها فتعود بالرسالة التي ضلت طريقها إلى صاحبتها لتضل هي بها. . . ثم دفعتها إلى صديقتها وهي تتمتم معتذرة. . . وتهاوت على مقعدها خائرة!
. . . وصفا ما بين الحبيبين وفاء قلباهما إلى الرضا، وتحطم قلب ثالث. . .
ولما بصرتْ بهما خديجة بعد أيام يمشيان ذراعاً إلى ذراع، أتبعتهما عينيها في ألم ولهفة، ثم دارت على عقبيها، ورجعت من حيث أتت
وعادت إلى أطفالها الذين كانوا، تلتمس بينهم العزاء والسلوى؛ فما وجدتْ أطفالها ولكن
أطفاَل الناس!
واستنجدت أمومتها، فإذا أمومتها التي كانت عدتها من قبل في تأليف هؤلاء الصغار - هي أمومة الأثِر الَغَيران الذي يتشهى ولا يجد، ويرجو ولا يجد سبيلاً إلى تحقيق الرجاء!
ونظرت، فإذا طفلٌ يهمس في أذن رفيقه، فابتسمت، ثم قطبت، ثم مدت يدها إليهما بالعصا!
وهم طفل أن يناديها، فأخطأ النداء ونطق على عادته: أمي!
فلوت وجهها لتخفي عن أطفالها دمعة!
وأحس الصغار إحساس الطفولة الملهَمة فداروا بها يسألونها عما بها محزونين وفي كل عين دمعة!
ونظرت ثانية، فابتسمت وسُرَى عنها؛ ثم ضمت أطفالها إلى صدرها وهي تتمتم:
(لا عَليَّ يا أحبّائي ما دمتم معي! أنتم بنيّ وبناتي، وأنا لكم أم، أم بلا ولد!)
محمد سعيد العريان
البريد الأدبي
عام الفيل وميلاد الرسول
كتب أستاذ فاضل بتوقيع (قارئ) كلمة في باب البريد الأدبي من العدد 350 من الرسالة، جاء فيها عدة أسئلة إليَّ بخصوص بعض ما استشكل عليه فهمه في مبحثي (عام الفيل وميلاد الرسول) المنشور بالعدد 348 من الرسالة. والذي أراه أن الروم (البيزانس) كانت معرفتهم ببلاد العرب نظرية، ومن هنا كانت الخطة التي وضعها إمبراطور هم جوستنيان مع قواد جيشه بارعة، كخطة تجري على خريطة الشرق الأدنى. فقد كان هو سيقوم بمهاجمة تخوم فارس المتصلة بحدود إمبراطوريته في الوقت الذي يتعرض قيه حلفاؤه الأحباش بقوات جسيمة من الجنوب الغربي لفارس، فيضطر الفرس أمام هذا الهجوم المزدوج أن يقسموا قواتهم، فيخيف مجموعهم أمام الروم، ويتمكن هؤلاء من ضربهم الضربة القاصمة التي تقضي على نفوذهم خارج بلادهم
وهذه الخطة لو رجعت بها إلى (الخريطة) لوجدتها سهلة، تدل على براعة؛ ولكن كل قيمتها تضيع حين تخرج للتطبيق، فتصطدم بعالم الواقع، لأن الوضع الاستراتيجي لفارس إزاء الحبشة لا يجعل مجالاً لهجوم كبير عليها، سواء عن طريق البحر بالتعرض للخليج الفارسي، أو عن طريق البر بمهاجمة التخوم الفارسية من جهة العراق العربي. ففارس تبعد عن الحبشة بحراً مسافة تتراوح بين 2000 و2500 كيلومتر، كما أنها تبعد مسافة 1000 كيلومتر وأكثر براً من اليمن قاعدة الأحباش في بلاد العرب. ونجاح حملة عسكرية على فارس تهاجمها من جهة البحر، تحتاج على أقل تقدير إلى مائة ألف مقاتل، وبالتالي إلى أكثر من ألف سفينة تنقلهم إلى الشواطئ الفارسية. ولم يكن الروم ولا الأحباش ولا الاثنان مجتمعين يمتلكون مثل هذا الأسطول الضخم في البحر الأحمر والمحيط الهندي. ومن هنا كانت فكرة مهاجمة فارس بحراً غير ممكنة. ولا تناقض في هذا القول مع القول بنقل الروم بأسطولهم الصغير في البحر الأحمر قوات الأحباش إلى اليمين، وهي قوات لم تزد على بضعة آلاف تقدمت لسواحل اليمن واحتلتها، وبقيت تنتظر تجريدات وإمدادات أخرى، كان هذا الأسطول الصغير يقلها من الحين للحين، من الساحل الإفريقي المواجه لليمن، إلى اليمن. ولا شك عندي أن اليمن لو كانت متحدة، ولو لم يكن النزاع يأكلها
والصراع على أشده بين أقبالها وبينهم وبين مليكهم، لما نجح الأحباش في فتحها والاستيلاء عليها بقوات صغيرة. وفي هذا حل للأشكال الثاني الذي استشكله (قارئ). أما نجاح الهجوم الحبشي برَّا، فقد كانت تضاريس الجزيرة لا تجعله ممكناً؛ والأحباش كانوا يعرفون هذا لدرايتهم بشؤون الجزيرة من الوجهة العسكرية عن طريق التجارب، إذ كانوا يجردون التجريدات العسكرية على نجران بين الحين والحين إخضاع القبائل الثائرة، ومن هنا كانت الصعوبات التي يلقونها مضرب المثل. فلا عجب إذا كانت فكرة الأحباش أقرب إلى الواقع من فكرة الروم، رغم تفوق الروم عليهم في المعارف والأفكار. ولا يبعد أن يكون الروم لا يجهلون هذه الصعاب، ولكن الحرب التي طالت بينهم وبين الفرس، جعلتهم يتعلقون بالأوهام والخيالات علّها تأتيهم بمخرج مما هم فيه. وهذا الموقف تجد له شبيهاً اليوم في الأحلام التي تداعب رأس هتلر، في إمكان مهاجمة حلفائه الروس الهند وضربهم إنجلترا فيها، مع أن هذا الحلم دون تحقيقه من الصعوبات مالا يغيب على أحد، والهنود يعرفون اليوم استحالته، والألمان تدفعهم الرغبة لتحطيم بريطانيا لتصوره، بل وتصور نجاحه. وهذا لا يضعف بأي حال من الأحوال من ثقافتهم وعلومهم التي جعلتهم متفوقين على معظم أمم الأرض. فإذا وضعنا هذا موضع النظر فإن الإشكال الأول يزول من نفسه، خصوصاً إذا عرفنا أن معنا حكم التاريخ الحاضر وليس الماضي
بقى أن الفاضل (قارئ) لاحظ أنني قلت في صدر بحثي أن بر وكوب اليوناني تكلم عن تعرض الأحباش للحجاز بتحريض الروم، مع أن الأحباش لم يكن قصدهم التعرض للحجاز بل مساعدة الروم. وهذا صحيح، ولكن كما قلت (ص451 عمود2 من العدد348 من الرسالة) إن إلحاح الروم على النجاشي اضطره أن يأمر عامله على اليمن بالتحرك شمالاً ومهاجمة التخوم الفارسية، ولما كان الطريق الطبيعي إلى هذه التخوم يمر بأرض الحجاز، فإن القوات الحبشية قد ابتلاها الله بالجدري الذي فتك بجندها فاضطروا إلى الرجوع والاعتذار للروم عن تقديم المساعدة إليهم. وتكون بذلك حملة مساعدة الروم وقفت عند حد التعرض للحجاز، ولم تتجاوزها إلى ما بعدها، فاتخذت في الظاهر شكل حملة على الحجاز، وكان العنصر المحرض فيها الروم، بدون أن يكون الغرض منها الحجاز نفسها في حال من الأحوال. وكان يحسن بقارئ أن يراجع نصوص بر وكوب وشروح نولدكه
وكأتاني وملاحظاتي على هذه الشروح في المصادر التي أثبتها في هوامش البحث، وفيها سيجد أن بر وكوب يقدر أن الأحباش بتحريض الروم، حاولوا مساعدة جو ستنيان بمهاجمة فارس، غير أن محاولتهم وقفت عند حد الحجاز فلم تتعدها، وهذا هو تفسير الكلام، وليس فيه تناقض ولا تضارب مع ما يجيء بعده
إسماعيل أحمد أدهم
أبيات في ديوان إسماعيل صبري ليست له
في ديوان المرحوم إسماعيل صبري باشا الذي طبعته ونشرته لجنة التأليف والترجمة والنشر مقطوعة في وصف النيل وردت في صفحة 130 منسوبة إلى الشاعر وهي لابن خروف النحوي المشهور نظمها حينما وفد إلى مصر ورأى نيلها الميمون.
قال الأستاذ الباحث الشيخ محمد الطنطاوي المدرس في كلية اللغة العربية في كتابه (نشأة النحو) صفحة 111: ومن شعره (يعني ابن خروف أبا الحسن الأشبيلي المتوفى سنة 603) في وصف نيل مصر:
ما أعجب النيل ما أحلى شمائله
…
في ضفتيه من الأشجار أدواح
من جنة الخلد فياض على ترع
…
تهب فيها هبوب الريح أرواح
ليست زيادته ماء كما زعموا
…
وإنما هي أرزاق وأرباح
والمقطوعة برمتها موجودة في كتاب (بغية الوعاة في طبقات النحاة) للسيوطي المتوفى سنة 911هـ
فننبه اللجنة الموقرة إذا قامت بطبع الديوان مرة أخرى أن تلتفت إلى تلك الحقيقة.
زكريا علي عبد الله
كلية اللغة العربية
وفاة الأستاذ المستشرق مرجليوث
نعت أخبار لندن في الأسبوع الماضي المستشرق الإنجليزي المشهور الأستاذ مرجليوث.
وقد تلقى علومه في جامعة أكسفورد وتولى تعليم العربية فيها من سنة 1889. وقد نشر
كتباً عربية هامة، منها معجم الأدباء لياقوت، كما نشر رسائل أبي العلاء مع ترجمتها إلى الإنجليزية. ونشر آثاراً عربية مختلفة تاريخية وشعرية، منها قطعة بردى عربية كانت في مكتبة أكسفورد. وألف في مشاهد أورشليم ودمشق كتاباً، وكتاباً آخر بالإنجليزية في السيرة النبوية
والأستاذ مرحلبوث من علماء المستشرقين الأقلاء الذين يعتز أهل العربية بما أدوا إلى لغتهم
نشر المودة بين العالم
ألقى الأستاذ كاتسفليس وكيل جمعية (الأصدقاء في العالم) محاضرة في قاعة (بابازيان) بالإسكندرية استهلها بقوله: إن من يدقق النظر في العالم يدهشه أمران: أولهما تعدد أسباب الموت والفناء من جراء الأعراض الطبيعية مثل البراكين والزلازل والعواصف والأمراض والوحوش المفترسة وغيرها. وثانيهما: ثبات الحياة وتغلبها على عوامل الفناء. ومما يلفت النظر أن ذوات الأجسام الضئيلة كالنمل والذباب تجد أسباب معيشتها على الرغم من وجود أعداء لها أكثر منها قوة وبطشاً
ويتحقق هذا أيضاً في الحياة الاجتماعية، إذ أن كثيراً من ضعفاء الأجسام والعقول يجدون طرق المعيشة إلى أمد طويل، في حين أن المتعلمين وأقوياء الإرادة يصعب عليهم أحيانا أن يجدوها
وهكذا، فإن الأمل لا يمكن ملاشاته من قلب الإنسان. وقد شوهد في جزيرة صقلية وغيرها، حيث قضت الزلازل على مئات الألوف من السكان، أن الذين ظلوا على قيد الحياة منهم سرعان ما أعادوا بناء منازلهم في الحال، وعلى مقربة من البركان الذي كان سبب الكارثة. وهذا ما حدث أيضاً في بلاد الصين واليابان وسواهما
ثم استطرد المحاضر فقال: إن الذي نستخلصه من ذلك هو أن قوة الحياة تتغلب على القوى الأخرى المضادة لها، وأن الأمر يجري على هذا النمط في المجتمع الإنساني، فإن قوة المودة ستنتصر في النهاية، على الرغم من وجود أسباب الخصام والشرور والحروب والمنازعات. على أنه يجب بث هذه الفكرة، فكرة المودة والمصافاة، وتمهيد الطريق لها
ولهذا الغرض قد تأسست (جمعية الأصدقاء في العالم)، وجمعيات أخرى مماثلة لها
وقال: إن كثيراً من الناس يحبذون فكرة جمعية (الأصدقاء في العالم) ولكنهم يقولون بأن تحقيق أمانيها مستحيل، لأن الناس كانوا منذ بدء الحياة وعلى تعاقب الأجيال في خلاف وحروب مستمرة
ولكننا نؤكد أنه ما دامت الإنسانية قد فازت على الطبيعة، وحققت التقدم المادي بالاختراعات والاستكشافات: كالطيران والإضاءة الكهربائية والراديو وغيرها، فلا شك في أنها جديرة بتحقيق التمدن الأدبي وهو الأهم، ولهذا السبب، أي لكونه الأهم، فإنه سيستغرق وقتاً أطول مما استغرقه التمدن المادي، إذ أنه يستلزم كفاح النفس ضد شهواتها وميولها. وهذا الكفاح صعب على الطبيعة البشرية، ولكنه ليس من المستحيل. والبرهان على ذلك وجود كثير ممن فازوا وتغلبوا على ميولهم الأولى كالغضب والبخل، وأصبحوا بكفاحهم الداخلي ذوي حلم وكرم
وانتقل المحاضر إلى القول بأن المساعي لم تنجح حتى الآن في نشر لواء السلام، لأن الداعين إليه يريدون تأسيسه على الماديات فقط لا على ما تكنه الصدور، أعني على القلب
ثم ختم محاضرته بقوله:
(إذا سقط رجل في الشارع مصاباً بصدمة سيارة وشهده جمع من المارة، ألا يتهافتون لمساعدته شفقة عليه دون أن يعنيهم مذهبه أو جنسه أو لأي حزب سياسي ينتمي؟)
فهذا يدل بلا شك على أن هناك شعوراً مكنوناً في صدر الإنسان، وفي أعماق قلبه يمكن بوساطته التفاهم، وإيجاد المحبة بين الجميع. ذلك الشعور هو الأساس الذي يجب أن ينشأ عليه العالم الجديد الذي تسعى إليه جمعيتنا، ذلك هو عالم المودة والوفاق والرقي الأدبي والروحي، أي التمدن الحقيقي
وإذا اعترض أحد قائلاً: (ما هي فائدتي الشخصية في السعي لإيجاد المودة بين الناس كما تقترحه على جمعيتكم؟) لأجبته قائلاً: (لأنك لو حققت السلم في الوسط الذي أنت فيه لعرفت ما هي نفسك التي تجهلها الآن، ولوجدت في أعماقها ينبوع الحياة والسعادة التي لا تزول)
نقد وتصويب
تحت هذا العنوان لفت نظري الأستاذ الفاضل أبو الفضل السباعي ناصف، إلى بيت في
قصيدة الذكرى ندَّ عن الوزن المعروف، وأبى إلا أن يمعن في كرمه فأزاح علة الشعر وأصلح زيفه.
وعذري أنني مع دراستي الوافية للعرض لا أعتمد عليه بتاتاً في الوزن، بل أستشير أذني مساوقاً النغمات الموسيقية، وهي حال قد يضل معها الإنسان أحياناً وبخاصة إذا كان قد نال منه الجهد
وإني لأشكر للأستاذ جميل ثنائه وجم أدبه ورقيق إرشاده وبارع علاجه، والسلام عليه ورحمة الله
علي الجندي
رأي الأستاذ النشاشيبي في نهج البلاغة أيضاً
سيدي الأستاذ الجليل محمد إسعاف النشاشيبي المحترم
تحية العروبة والإسلام
أما بعد فقد تفضل الأستاذ الكبير صاحب الرسالة الهادية المهدية فأدرج لي في (البريد الأدبي) من العدد الـ 346 كلمة صغيرة رجوته فيها نشر ما في تضاعيف كتابيكم الثمينين: (الإسلام الصحيح، وكلمة في اللغة العربية) مما يخص (نهج البلاغة)، لأن الكتاب الأول ممنوع في العراق، والكتاب الثاني نادر الوجود عندنا وذلك تطميناً لرغبتنا الصادقة في الاطلاع على رأيكم في (النهج)
وفي نشر الأستاذ (الزيات) لكلمتي دون مقالتكم دعوة ضمنية لحضرتكم إلى تلبية طلبنا بنفسكم، فأنتم صاحب المقالة ولكم الحق الأول في نشرها وعدمه
وقد صدر بعد العدد الـ 346 ثلاثة أعداد ولم نُتْحَف بمقالتكم، كما لم نتلقّ من حضرتكم كلمة في الجواب على رجائنا
وهذا يحملنا على التساؤل: تُرى لماذا امتنع أستاذنا الجليل العلامة النشاشيبي عن نشر مقالته في (النهج)؟
هل تراءت له جوانب جديدة في التحقيق - وهو هو المحقق المدقق الثبت الأمين - تنسف، أو تلطف من حدة تلك المقالة فلم يشأ أن يدوس على وجدانه العلمي فينشر رأياً في
مسألة خطيرة لا يؤمن به - الرأي - الإيمان كله.؟
أم هل خشي النقد - ونريد من النقد هنا النزيه الخالص لوجه العلم والحقيقة لا يدلف إلى سواهما - يطلع به عليه بعض علماء العراق بعد أن يكونوا قد وقفوا على مقالته؟
إن كانت الأولى: فإن واجب العلم والإخلاص له يحتمان على حامله ألا يتخلف لحظة في نشر ما يتوفق إليه من تصحيح أو تنقيح لآراء خطيرة سبق أن أذاعها وبسطها إلى الملأ من الناس، وأديب العربية الفذ الأستاذ النشاشيبي، والحمد لله، من علمائنا الذين لا يدعون الكمال - إذ الكمال لله وحده - ويعترفون بما قد يقعون فيه من خطأ عن غير عمد (بالطبع)، والذين لا يبخلون قط في الإفاضة من علمهم الغزير بأسلوب هو غاية في الروعة والتواضع وكرم النفس، وقراء الرسالة المدمنون على حرثها والإفادة منها يعرفون جيداً هذه الخلة في أستاذنا الجليل (صاحب التواقيع المستعارة العديدة)
وإن كانت الثانية: فإن عهدنا بالنشاشيبي - ذلك الأديب الألمعي الفحل الصريح الشجاع المرفوع الرأس - لا يخاف في الحق - الذي يؤمن به - لومة لائم، أو نقد ناقد، أو تحامل جاهل
فكيف إذن نوفق يا أستاذ بين هذا وذاك؟؟
وكيف نفسر عدم إجابتكم لرغبتنا الشديدة في نشر مقالتكم الخطيرة القيمة عن (نهج البلاغة)، في مجلة العروبة والإسلام المفضلة (الرسالة) الغراء؟؟
لعلنا نحظى بالجواب. . .
مشكور ألا سدي
عضو جمعية الرابطة العلمية الأدبية في النجف الأشرف
(وحي الرسالة) في رأي سيدة فاضلة
سيدي حضرة الكاتب الألمعي الأكبر الأستاذ الزيات:
كبرت مكانتكم الأبوية في نفسي، فهي لك فيها ولاء وعلى لساني دعاء. . . وبعد، فقد خرج سفرك القيم، وقرأه كل المعجبين به وبك إلا التي كان يجب أن تكون أول من تقرؤه، ولكن حظي السعيد أبي حرماني التمتع بحكمة البليغة، فقرأت منه ما قرأت، وإذا بي بين (وحي
الرسالة)، وقد جاء طرفة هي في معانيها طرف عِدّة وتحفة في مجاليها تزداد على الزمن طرافة وجدّة. وإذا به خرج مخرج صدق في هذه الفترة التي ندر فيها من يعالج أدبنا واجتماعياتنا، وفتر وحي القرائح الخصيبة في دقائقها، وشحت الملكات المجيبة بأسرارها، فكان كالمنبهة لأهل البصر بهما معاً، والحذاقة فيهما أن يشحذوا همتهم من كلالها، ويبرئوا ذمتهم من تبعة إهمالها، ويدأبوا دأبهم على خدمتهما، تارة بالتأليف يراجعون به ما انقطع، وأخرى بابتكار الجديد من عوامل النهضة بهما
وقصارى القول أنك فيه لم تدع غاية في التحقيق إلا ابتكرتها، ولا نهاية في التدقيق إلا استبقتها
ولقد عبرت كتابك هذا عبرة، وجمعته لفظاً ومعني بنظرة، فإذا لمحات من التحقيق لفن الذوق الأدبي تطبع على غراره الملكات فيكون فيها بلاغة فوق البلاغة، وبياناً أسمى من البيان
فلك الشكر المثنى كفاء ما جهدت في عملك، والله المسئول أن ينفع به قارئيه ويكثر في المؤلفين من أمثالك بمنه ويمنه وتوفيقه والسلام. . .
المخلصة وداد صادق عنبر
ذكرى الشاعر المصري إسماعيل صبري باشا
فكر قسم المحاضرات بجماعة الإخوان المسلمين بالمنصورة أن يحيي ذكرى الشاعر المصري الجليل (أستاذ الشعراء) المرحوم إسماعيل صبري باشا بمناسبة ذكرى وفاته في مارس سنة 1923
ورغبة في أن يكون للحفل من الجلال: بما يتناسب مع عظم الفقيد العظيم لهذا نتوجه إلى أبناء الدقهلية عموماً وشعرائها وأهل العلم والفضل فيها أن يكتبوا باسم (الأستاذ إبراهيم عبد الوهاب) الإخوان المسلمين. المنصورة. بما تجود به قرائحهم من قصائد أو بحوث أو أفكار ليتسنى للجنة التي ستجتمع بعد خمسة عشر يوماً أن تقرر منهج الحفل وموعده ثم ندعو حضرات الأدباء والشعراء لإلقاء كلماتهم
ولنا كبير الأمل أن نجد للربيع الذي نستقبله والذي كان الشاعر الفقيد خير لسان له الأثر
المرجو.
والله أكبر ولله الحمد.
الكتب
نشأة النحو
تأليف الأستاذ محمد الطنطاوي
بقلم الأستاذ محمود مصطفى
هذا أول كتاب من نوعه فيما أعلم؛ إذ قد جرت العادة في الكتب التي تؤرخ فيها العلوم والآداب، أن يشغل الحديث فيها عن كل فن أو علم بضع صفحات يلم فيها المؤلف بمجمل من تاريخ ذلك العلم أو الفن. فأما أن يملأ الحديث عن علم واحد كتاباً تصل صفحاته إلى الخمسين بعد المائة من القطع الكبيرة فذلك ما لم نعهده من قبل أن يخرج إلينا الأستاذ الجليل والعالم المفضال صاحب الفضيلة الشيخ محمد الطنطاوي المدرس بكلية اللغة العربية كتابه (نشأة النحو)
والحق أن هذه التسمية (نشأة النحو) تسمية يتجلى فيها التواضع العلمي تمام التجلي فالكتاب ليس عن نشأة النحو فحسب ولكنه يتناول نشأته ودروجه ثم شبابه وكهولته ثم شيخوخته وهرمه وليس ذلك في قطر واحد من الأقطار العربية، بل هو حديث مفصل من كل هذه الأطوار في كل قطر من الأقطار. حديث يتناول المذاهب واختلافها وأسباب نشوئها وعلل تمايزها وينوه بالأعلام من رجالها وما كان لهم من آثار بارزة في خدمة علمهم وتجلية غامضة وتسهيل سبله
قد يتناول الباحث في تاريخ العلوم والآداب دراسة علم أو فن لم يدرسه دراسة وافية مستوعبة ولم يكن له به صلة وثيقة، فيكون همه جمع ما كتبه الكاتبون من ذلك العلم وترتيب أقوالهم بما يملك من قدرة على التقسيم والتبويب، فيخرج عمله معجباً من يطلع عليه، مرضياً من يريد الوقوف على تدرج هذا العلم وتسلسل أطواره، ولكنه مع ذلك لا يستطيع أن يكشف عن أسرار العلم كما يكشف عنها عالم مارسه ودرس كتبه وألم بمسائله وأطال مناقشتها ووازن بين أقوال العلماء فيها، وتكونت له ملكة الحكم وبيان الصحيح الجيد من الزائف المبهرج. وذلك شأن مؤلفنا الفاضل في هذا الكتاب. فهو إذا وازن بين قولين رأيت الحجة في قوله واضحة المحجة، والبرهان يدعم البرهان؛ كالبنيان يشد
البنيان. وكذلك من فضل العالم الذي يؤلف لعلمه أن ترى أثر الاجتهاد ظاهراً في بحثه فهو يضيف إلى أقوال السابقين ما يصبح مادة جديدة في البحث، والفضل في ذلك راجع إلى هداية الفكر الصائب والذهن الواعي لمسائل العلم ومباحثه المتشعبة
وفي هذا الكتاب نجد الأستاذ الطنطاوي ظاهراً موازياً تمام الموازاة لآثار السلف الذين نذكر لهم صنيعهم بالشكر، فقد ذكر المؤلف حفظه الله كثيراً من مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين وتلك مسألة ألف القدماء فيها الكتب وأحصوا فيها كل ما كان من ذلك بين أهل المذهبين، ولكن المؤلف حفظه الله لم يشأ أن يكون ناقلاً فحسب بل إنه وازن بين المذهبين وكانت له بينهما جولة رجح فيها بحق مذهب البصريين على الكوفيين داعماً قوله بالشواهد الصحيحة والعلل المعقولة فكان الناقد الألمعي والحكم الرضي. كذلك نراه يعرض لأثر البغداديين أو المغاربة في علم النحو فيجمع من آرائهم التي اشتغلوا بها، ما تفرق في ثنايا الكتب مما لم يعن أحد قبل الشيخ الطنطاوي بجمعه وضم شتاته، فهذا مظهر من مظاهر الاستقلال في التأليف نذكره لصديقنا بالإعجاب الفائق
وبعد فكتاب (نشأة النحو) سجل واف لتاريخ هذا العلم منذ فكر في وضعه الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى أن انتهى المتأخر ون من تنسيقه وتبويبه فلم يتركوا بعدهم مجالاً لقائل إلا أن يكون في مثل فضل الأستاذ الطنطاوي الذي أرخ لدولة النحو من بدئها إلى ختامها تاريخاً لم يغادر من أمرها صغيراً ولا كبيراً إلا أحصاه، فالله يتولاه ويمنحه على هذا الجهد المشكور أتم سرضاه وأجزل نعماه.
محمود مصطفى
المدرس في كلية اللغة العربية