المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 353 - بتاريخ: 08 - 04 - 1940 - مجلة الرسالة - جـ ٣٥٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 353

- بتاريخ: 08 - 04 - 1940

ص: -1

‌خواطر يثيرها سائل

للأستاذ عبد المنعم خلاف

إلى السائل المجهول في بيروت

أحسب أن ما عندك من العلم والرأي كفيل أن يردك إلى الاطمئنان متى حرصت على أن ترى دائماً بدهيات الحياة ولا تنساها، وعلى ألا تترك النظرات الفلسفية الشاردة تقودك إلى الخروج عن حدود الواقع العملي الذي لا نرى غيره في الحياة متسلطاً على عقول الناس.

إن النظرات الأولية للحياة، هي التي تفرض علينا الإيمان، فإذا جاوزناها، لابد أن يكون لنا من القدرة على الرجوع إليها ما يضمن لنا الاعتصام بصخرة النجاة والطمأنينة على الحياة وقيمتنا فيها.

وينبغي لرجل الفكر أن يتذكر دائماً أن إنكار وجود الله، أو القيمة السامية لحياة الإنسان هنا، أو المصير السامي لحياته الأخرى هناك: معناه تخبيل العقل وتشريده. ولئن كان في الإثبات بعض الإشكال عند من لم يتصل بأصول الحياة، ففي الإنكار كل الإشكال.

وأمامك فرصة من التسامح المطلق لتوازن بين فكرتي الإثبات والإنكار؛ وأنت مجرد من أي تأثير نحو إحداهما، لترى النتائج العملية لكل منهما.

وعلى هذا، هب أن كل ما في نفسك من الإيمان تحول إلى كفر ونكران، وكل ما في خلقك من البراءة والطهر تحول إلى نجس وعهر؛ أفتتخيل أنك واجد الطمأنينة والسعادة ووضوح الحياة بعد هذا التحول؟ لا شك أن مثلك يجيب: كلا. . . ذلك لأن الكفر المبني على فكر، ليس معه طمأنينة ولا استقرار على شيء، بل هو في ذاته كل القلق وكل الضياع الذي يجعل الإنسان في الحياة كطائر في قفص يرى قضبانه محكمة متينة، ومع ذلك يطفر ويحاول تحطيمها والانطلاق منها، وليس له على ذلك طاقة، (ولن نُعجزَهُ هرَباً).

فالإيمان ضرورة فكرية للراحة في الحياة قبل أن يكون تقليداً موروثاً عن الأم والأب والبيئة. ثم إن حياة الإثم والانطلاق وراء الشهوات والآثام ليست مبعث سعادة عند ذوي الأفكار ولا عند الأغرار والسفهاء أنفسهم. واسألهم ينبئوك أنها ظمأ لا يرتوي. دع عنك عقابيلها من الأوجاع والضياع؛ ولا يمكن للجماعة أن تقرها، لا لأن الدين ينهي عنها بل لأن حياة الاجتماع تأباها وتعلن الحرب عليها بعد أن اختبرت نتائجها السيئة

ص: 1

فالدين لم ينزل بالفضيلة من المساء، وإنما الاجتماع الإنساني هو الذي قررها. ثم جاء الوحي فأقرها، لأن الحسن والقبح عقليان يدركان بالعقل قبل الوحي، ولذلك عبر القرآن عن الحسن والقبيح (بالمعروف) و (المنكر) أي ما يتعارفه الناس، وما ينكرونه بطبائعهم العامة وأذواقهم المشتركة

ثم الواقع أن الخير الشخصي جزاؤه فيه والشر الشخصي جزاؤه فيه في هذه الدنيا قبل الآخرة. وكذلك الخير الاجتماعي والشر الاجتماعي جزاؤهما معهما في هذه الحياة إذا ما كان المجتمع حارساً متيقظاً لحقوقه وواجباته

هذا دفاع سلبي عن فكرة الإيمان بالله وفكرة الخير كأصل من أصول الحياة الاجتماعية. وقد سبق لي في العام الماضي أن كتبت في هذه المجلة سلسلة مقالات في الإيمان كحقيقة من الحقائق العليا في الحياة، وعرضت فيها لكثير من القضايا والشبه التي تشغل بالك وأوردتها في كتابك الأخير إليّ، فأرجو أن ترجع إليها فلعل ما فيها وما أنا بسبيله الآن يقع من قلبك الموقع المأمول

إن الذي عناني أكثر من غيره مما أوردته في كتابك هو شكك في القيمة السامية للإنسان ومحاولتك أن تجعل حياته كحياة النبات والحيوان والحشرات: ليست أكثر من ظواهر طبيعية ودورات أبدية تأنى بها أيام وتذهب بها أيام

ومعرفة قيمة الإنسان هي في رأيي أول المعاني الدينية؛ لأن الذي يذهل عن قيمة حياة الإنسان لا يمكن أن يتيقظ لشيء آخر. فلن يفكر في الكون ولا خالقه. فالذي لا يسترعي انتباهه هذا الجسم المتحرك المريد الناطق المتنوع الفكر لا يمكن أن يتنبه للصمت المطلق والسكون المطلق والاطراد المطلق في الطبيعة. ودع ما وراءها من العالم الخفي الذي لا يناله الإنسان بالحواس. . .

وأسألك: هل رأيت نوعاً آخر متسلطاً على الأرض بغير أوضاعها ويتصرف في موادها ويسخر قواها وينقح الطبيعة، يزيد فيها وينقص منها، متنوع المرافق متجدد الأفكار، له حياة فكرية وقلبية تكاد تكون لا حدود لمظاهرها؟

وهل رأيت غير الإنسان اخترع شيئاً يزيد عن ضرورات حفظ حياته؟ هل رأيته يكتب تاريخه أو يتطلع لمستقبله، أو يركب آلات معقدة، أو يغني أغاني مُفّنَّنَة، أو يستخرج

ص: 2

أصواتاً موسيقية من الجلد والخشب والمعادن، أو يقيم أهراماً وعمارات ذات أرصاد وأوضاع محبوكة وفنون بارعة؟

وهل رأيت نوعاً آخر اخترع طيارة وسيارة وراديو وتلغراف وتليفون وتلفزيون وغيرها وغيرها مما يصيد به الأصوات ويقتنص الأضواء والمسافات؟

ثم هل رأيت نوعاً آخر يسكر (ويحشش) ويدخن (ويشم) ويقامر ويقيم مهازل ومساخر بذكاء ومهارة؟ هل رأيت غيره يزارع ويتاجر ويضارب بعمليات اقتصادية معقدة غاية التعقيد؟

هل رأيت غيره يحارب بآلات كلها إبداع وبراعة تكاد تجعلها عند المتطلعين لما يولد في الكون من عجائب والمتوسمين لما في حياة الإنسان من بدع، فرجة من فرج القلوب تعلى شأن الحروب؟!

تخيل جميع الأساطيل الجوية والبحرية وجميع الجيوش البرية انطلقت في الجو والبحر والبر، يعبئها ويزجيها وينسقها الإنسان ذو الجمجمة العجيبة. . . تملأ الأثير بلمعات فكره وومضات خواطره لتعلم أيُّ فن إلهي هذا الإنسان المخلوق من ماء مهين!

تخيل مدينة عظيمة كنيويورك أو لندن أو برلين أو القاهرة بما فيها من فنون الحياة والأفكار والشعور. وما يغمرها من الأضواء والألوان وما يضطرب في أحشائها من المصانع والمعاهد والمعابد، وما يثوي فيها من دور الكتب والآثار ومخازن التحف وأدوات الجمال، وما تسيل به شوارعها من وسائل الأنتقال، وما تضج به من الأصوات والمقالات والخطب والأسمار ولأحاديث، وما يتوزع فيها من الأعمال والأموال والحرف تخيّل هذا ثم قل: هل رأيت في الحياة منذ دخولك إليها نوعاً غير الإنسان يقيم أسواقاً للحياة مثل هذه الأسواق؟ ثم هل رأيت نوعاً آخر يعلو بالحياة حتى يأتي في علوه بالعجب العجاب. . . ويسفل بها حتى يأتي في السفالة بالعجب العجاب؟. . . وهل رأيت نوعاً آخر يتفنن في وسائل متاعه هذا التفنن الذي تراه في السينما والمسرح ومخازن الملابس والفرش وأدوات الزينة؟. هل رأيت. . وهل رأيت؟

وأخيراً هل رأيت نوعاً آخر يترقى في سلم الحياة باطراد وخطى ثابتة وقياس متناسب بعد أن أتى عليه (حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً) كما قال القرآن؟

ص: 3

فكيف بعد هذا تسوي بين قيمة هذا الإنسان أبي العجائب وبين قيم النبات والحيوان، وتريد أن تسلكه في سلك الفناء المطلق الذي يأتي على أجسامها وأرواحها بدون مآل أسمى ومصير أكمل؟!

وكيف تريد أن تضرب عليه ما ضربته عليها من الأحكام المنحطة وتحشر أفراده في مليارات أفراد الحيوان والحشرات التي تعيش على العشب والجيف والروث والعفونات؟!

إني لأستعرض تنوع حياة الأمم والأفراد وأتصفح الوجوه والنفوس، وأسمع حديث الأطفال والعجائز والنساك والفتاك والفقراء والأغنياء والعلماء والجهلاء والذكور والإناث. . . فأجدني بعد هذا الاستعراض في دوار من الفكر!

وإني لأخرج بعد هذا الاستعراض وأنا أشعر كان لابد أيضاً في الأرض مما نسميه الشر والضلال ليدوم ظهور أسرار التكوين!

إن الإنسان خلق ليكون أشبه بمِجْهَزٍ تمر من خلاله الطبيعة الأرضية بخصائصها التي كانت (غَيْباً) مستوراً قبل ظهور هذا النوع. فكل شيء في الطبيعة الأرضية كان لابد أن يمر من حواس هذا النوع وفكره ليأخذ حدوده ومميزاته ويرمز إليه بكلمة بيانية يضعها خليفة الله في الأرض. . .

وإذا صح ما أثبته علم تحليل ضوء العناصر من أن العناصر التي في النجوم والكواكب هي بعينها العناصر التي في الأرض كان في هذا زيادة في النظر لقيمة الإنسان كمترجم أيضاً ومحدد لعناصر الطبيعة في غير الأرض. . .

إن شئت فقل إن الإنسان آلة في يد الخالق يتمم بها التنويع والتفريع والتركيب في خلق المادة الميتة الجامدة وتصويرها وصقلها وتزويقها وتوشيعها حتى تصل إلى الدقة المتناهية في تركيب تروس الآلات ومساميرها الصغيرة، وإلى الزركشة والنمنمة و (المونوكير) في ثياب المرأة وأظافيرها! وعندئذ يكون الإنسان امتداداً لعوامل التكوين والإنشاء والتعمير التي في يد الله. . . يكون إزميلاً في يد الفنان الأعظم، وريشة بين إصبعيه يشكل بهما المادة أشكالاً ويملؤها بهما تزاويق وتهاويل!

وإن شئت فقل: إنه (مِجْهر) يلتقط آثار الصنع العظيم في المواد (الخام) فتتساقط على عينه أنوارها وظلماتها وعلى سمعه نغماتها وأصواتها، وعلى خياشيمه عطورها ونفحاتها، وعلى

ص: 4

ملامسه نعوماتها وخشوناتها، ويقع على إحساسه العام ثقل المادة وصعق الكهرباء وشد الجاذبية، ويمر على فكره معاني الوجود ومعاني العدم. . . . ثم يترجم كل هذه الكلمات الصامتة بكلمات ناطقة من بيانه الذي اختصه به بارئ الطبيعة. . .

إن رب الطبيعة أراد أن يترجم هذا الطين الذي سواه بيديه ونفخ فيه من روحه بعض كلماته الصامتة في أسرار التكوين والخلقة، وكانت قبل الإنسان غيباً في السموات والأرض لا يعلمها أحد غيره حتى الملائكة

ولذلك كان العلم بأسرار الطبيعة أشرف عبادات هذا النوع ما دام متوجهاً فيه إلى رب الحياة ومتعرفاً إليه به. أما الملائكة فعبادتهم طاعة عمياء ليس لهم على غيرها طاقة

واقرأ إن شئت بعد هذا قصة خلق الإنسان في القرآن لترى منها العجب الذي رأيناه: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة. قالوا أتجعل فيه من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ قال إني أعلم ما لا تعلمون. وعَلْم آدمَ الأسماءَ كلها ثم عرضهم على الملائكة. فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا سبحانَك لا علمَ لنا إلا ما علَّمتَنا إنك أنت العليم الحكيم. قال يا آدم أْنِبئْهُم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلمُ غَيْبَ السموات والأرض وأعلمُ ما تُبدُون وما كنتم تكتمون؟)

وأرجو أن تقف طويلاً أمام قوله تعالى: (إني أعلم ما لا تعلمون) رداً على سؤال الملائكة: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء. . .) لتعلم أن الله نظر نظرة سماح واغتفار لما تستلزمه حياة الإنسان في مجموعه بالجسم الحيواني من بعض الآثام والشرور، إذ علم ما وراء فتوح الإنسان في (غيب السموات والأرض) من آثار علمية ترجح على ما يرتكبه من شرور. . .

فلا يهولنك ما تراه من الجريمة والفساد والأوباء والنكبات التي تحتاج حياة لإنسان. . . فإن الذي خلق هذا النوع متيقظ له دائم الرعاية عليه يسوقه في طريق مرسوم حتى يبلغ غايته برغم كل ما نسميه الشر والفساد لأن الشر والفساد والباطل ما خلقه إلا للحق والصلاح. . . فلولا الأمراض ما ظهرت علوم الطب التي كشفت لنا عن ملايين من عوالم الجراثيم. . . وكانت حياتها مستوردة في (غيب السموات والأرض). . . ولولا الحروب، والجرائم ما ظهرت أدوات الانتقال السريع، واختزال المسافات وما تنافس الناس على

ص: 5

استخراج ما في المناجم من الركاز. . . وكان كل ذلك (غيباً) محجوباً في الأرض. . . ولولا الغرائز السفلى كالطمع والجشع والأنانية ما رأيت في الأرض هذه الحياة العنيفة الحركات في التعمير والاقتناء والتسابق على كشف بقاع الأرض المجهولة وإظهار عيوبها، وإقامة الحياة العلمية المتحضرة فيها

ولولا البأس الشديد في الحديد والنار ما تكونت الإمبراطوريات الواسعة التي ربطت بين كثير من أمم الأرض برباط التفاهم والحب والخدمة المشتركة. . . وما ابتدأت البشرية الآن تفكر في جامعة عامة لجميع الشعوب والأمم تجمعها على حدود العدالة والسلامة الإجتماعية، وخدمة العلم خدمة مشتركة، وتقيها من شرور التدمير والتخريب وما تتجه الحروب

ونظرة إلى تاريخ البشرية ترينا التقدم المطرد في سبيل التجميع والتوحيد. فقد كان الإنسان فرداً ثم صار أسرة ثم صار قبيلة ثم صار أمة ثم صار إمبراطورية وولايات متحدة ثم بدأ يصير (جامعة أمم) ولا بد من ذلك في يوم ما قريباً كان أم بعيداً. والشر هو الذي يدفع دائماً إلى الجهاد للخير. (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض)(ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم) فإن الأرواح لا تقوى إلا بالمجاهدة كما أن الأجسام لا تقوى عضلاتها إلا بالمقاومة. فلا تذهبن من نفسك قداسة الإنسان فإنه الابن البكر للأرض يعمر ديارها ويستقبل ليلها ونهارها

وقد كان يجوز الشك في قيمة الإنسان السامية أيام الجهل والغفلة والحيرة قبل عثوره على مفاتيح العلوم الطبيعية وابتدائه فتح أبوابها باباً فباباً. . . أما الآن بعد أن تيقظ الإنسان لحياته وابتدأت الأرض والسماء تحدثه أخبارها وتوضحت أمامه معالم طريق الحياة؛ فلن يرضي لنفسه الارتداد ولن يجوز الشك في قدسيته وامتيازه

وإن قيادته إلى الله رب الطبيعة قد صارت الآن من أسهل الأمور لأن العلم قد ألقي كثيراً من أشعته على مواقع يد الله في الطبيعة وعلى كثير من الأبواب التي توصل إليه. . .

ولكن كثيرين جداً من الذين يحترفون قيادة الأرواح أغبياء محدودون عميان. . . فكيف يقودون في طريق مملوءة بكثير من جثث الخرافات والأباطيل التي لصقت بالدين في زمن الجهل والظلام، والتي صرعها العلم الواضح والعقل الطلق المستنير؟!

ص: 6

(القاهرة)

عبد المنعم خلاف

ص: 7

‌عقيدة النازي المالية

للأستاذ عباس محمود العقاد

قرأت في العدد السابق من الرسالة مقالاً عن عقيدة النازي المالية أو عن فلسفة النازيين في علم الاقتصاد للأستاذ جواد علي العراقي (خريج جامعة هامبرك بألمانيا) فرأيت عرضاً صحيحاً لتلك الفلسفة من جانب واحد وهو الجانب الذي يكتبه النازيون ليبقي حبراً على ورق أو لينشروا به الدعوة ويكسبوا به الأنصار

ولهذا وجب أن نلم بتلك الفلسفة من جانبها العملي الواقعي تصحيحاً للآراء فيها وبياناً للحقيقة عن مقاصد أتباعها وأعمال المبشرين بها. فإن الجانب المكتوب والجانب المعمول من فلسفة النازيين الاقتصادية يختلفان كثيراً فيما هو حادث الآن، بل يتناقضان كل التناقض في أكثر الأحيان

مثال ذلك يقول الأستاذ جواد في تلخيص بعض المبادئ النازية إنهم: (لإنقاذ الشعب والحكومة من عبودية الربا وجب تنظيم الأرباح على قاعدة الربح على قدر العمل، والقضاء على بيوتات البيع الكبرى والشركات الاحتكارية. وتقسيمها إلى محال صغيرة، فنحو مائة ألف إسكاف خير من وجود خمس شركات كبرى، لأن من طبيعة المحال الكبرى الميل إلى الأرباح دون الالتفات إلى التحسين. . . أما التجارة الخارجية للشعب فيجب أن تشرف عليها الدولة كذلك وتحدد أسعارها. وتقوم بذلك الدول فيما بينها بعقد معاهدات تجارية حسب رغبات الدول وحاجاتها لا على قواعد علم الاقتصاد ومبادئ حرية التجارة أو المبادئ المالية الأخرى).

هذا ما يقولون عن الأرباح، وشركات الاحتكار. أما ما يعملون فهو تسليم شركات الاحتكار زمام التجارة والثروة في جميع مرافق البلاد. فإن مديري (الغرف الاقتصادية) المشرفين كذلك على فروع الصناعة والتجارة هم جميعاً من رجال الاحتكار المعدودين كالهر كارشر مدير المصانع في إقليم السار الذي اشتهر بالقسوة البالغة على العمال، وكالمصرفي البارون فون شرودر مدير غرفة أقاليم الرين، وكالهر بيتزش مندوب الشركات الكيمية ومدير الغرفة الاقتصادية في بافاريا. . . وقس على ذلك سائر المديرين

وقد اصدر النازيون قانوناً سموه قانون إصلاح السهوم أو حصص الشركات حرموا فيه

ص: 8

بقاء الشركات التي يقل رأس مالها عن مائة ألف مارك بعد نهاية سنة 1940، ولم يوجبوا التصفية على الشركات التي يبلغ رأس مالها خمسمائة ألف مارك بل أوجبوا على كل شركة تؤلف بعد التاريخ المحدود ألا يقل رأس مالها عن ذلك المقدار

وكان النازيون يقولون قبل ولاية الحكم إنهم سيضعون أيدي الحكومة على المصارف، ويمنعون الاتجار بمناصب الإرادة فيها، فصنعوا نقيض ما دعوا إليه وباعوا المصارف مرة أخرى جميع الحصص التي كانت الحكومات السابقة قد اشترتها منها تدعيماً لرؤوس أموالها ومساعدة لها على مقاومة الصدمات التي استهدفت لها في أيام الكساد، وهذا ما حدث في مصرف الديتش ومصرف درسدنر ومصرف التجارة وغيرها من المصارف الكبيرة والصغيرة

وكان المستشار بروننج قد أعلن في مرسوم الطوارئ الذي صدر في الحادي والثلاثين من شهر أكتوبر سنة 1931 ضرورة النقص من مكافآت رجال الإرادة والرقابة على الشركات والمصارف. فلم يزد النازيون في المادة الثامنة والسبعين من قانونهم على الوعد بأن تكون (المكافآت مناسبة للأعمال التي يؤديها المديرون والمراقبون) ثم اكتفوا بتحريم الاشتراك في أكثر من عشرة مكاتب للشركات والهيئات الاقتصادية من جهة المبدأ. . . ومعنى (من جهة المبدأ) هذه أن الاشتراك في أكثر من عشرة مكاتب جائز من جهة الواقع. مع أنها لو حرمت الاشتراك في أكثر من ذلك العدد تحريماً باتاً لما صنعت شيئاً فيما زعمته إصلاحاً تحتاج إليه تلك البلاد

وعلى خلاف ما أذاعوه عن مكافحة الاحتكار أصبح المحتكرون وهم مالكون لزمام التجارة الخارجية في كثير من القطار. فعقد الهر أوتوولف اتفاقاً مع حكومة منشوكيو باسم المحتكرين للحديد في ألمانيا الغربية يقرضون تلك الحكومة بموجبه مليوني جنيه، ويشترطون عليها فيه أن تقصر الشراء عليهم دون سائر الشركات، وكذلك انعقد الاتفاق بين مصانع كروب وبين اليابانيين على أمثال هذه الشروط

ويقول الأستاذ جواد: إن الهتلرية رأت (أن خير حل لمشكلة العمل والعمال هو الاعتراف بمبدأ الملكية الشخصية ورأس المال، ولكنها ترى أن صاحب المال أو المعمل من جهة أخرى هو مدير لماله أو لمعمله أو قائد يتصرف به وفق الأنظمة والقوانين والطرق

ص: 9

الشرعية الشريفة. . . وكل من يحاول استغلال ماله عن طريق يخالف مبادئ النازية يكون نصيبه العقاب الصارم أو الإعدام. .)

وهذا أيضاً من الحبر على الورق الذي لا أثر له في عالم الواقع. فقد سمعنا عن ألوف العمال الذين قتلوا بمحاكمة أو بغير محاكمة، والذين أرسلوا إلى معسكرات الاعتقال أو حرموا العمل في أنحاء البلاد كافة لأنهم يطالبون بحقوقهم أصحاب المصانع والشركات، ولكننا لم نسمع بصاحب مصنع واحد قتل أو أرسل إلى معسكرات الاعتقال أو أغلق مصنعه لأنه ظلم العمال أو حرمهم حصتهم من الربح والأجر المعقول

وقد ظل التفاوت عظيماً بين أرباح المديرين وبين جملة الأجور التي يعطاها العمال. فإن الهر كوتجن ? مدير شركة يقبض وحده ثمانمائة ألف مارك في السنة أجراً لإدارته، عدا الأرباح والمكافآت التي يتقاضاها على الإدارات الأخرى. وفي مصرف التجارة السابق ذكره ستة مديرين يعطون تسعمائة وستة وخمسين ألف مارك في السنة، ولا يبالون تنقيص أجور العمال الصغار لزيادة الأرباح

واقترح بعضهم في الشركة الأولى، شركة أن توزع حصة من الأرباح على عمال الشركات من قبيل المكافأة لأن الأرباح العامة قد أربت في تلك السنة - 1937 - على عشرين مليون مارك. . فرفض النازيون الاقتراح

وقس على ما تقدم سائر المبادئ التي يدقون بها الطبول لإفهام العمال أنهم ينصفونهم ولا يحابون المحتكرين والمتجرين بالثقة في الأسواق

أما التجارة الخارجية فكل ما صدقوا فيه من قواعدها النازية أنهم خرجوا على قواعد علم الاقتصاد ومبادئ حرية التجارة والمبادئ الاقتصادية الأخرى، وأداروها على النصب والغش الصريح

وهذه خلاصة السياسة الاقتصادية التي يعاملون بها الأمم الأجنبية:

يغزون تلك الأمم بمعاملتهم فيعرضون عليها أثماناً أغلى من الأثمان التي تبيع بها محصولاتها في الأسواق الأخرى

ثم يأخذون تلك المحصولات فيعرضونها في الأسواق بأثمان أرخص كثيراً من أثمانها التي اشتروها بها

ص: 10

ثم يعطون البدل مقايضة لا نقداً ولا عملة تشبه النقد في السداد العاجل، فيعرضون مصنوعاتهم وأدواتهم بدلاً من المحصولات الزراعية التي هم في حاجة إليها

ثم يتحكمون في الأمم التي اشتروا منها تلك المحصولات الزراعية فلا يعرضون عليها إلا المصنوعات التي يستغنون عنها ولا حيلة لها في رفضها، لأنها لا تعرف وسيلة غير هذه الوسيلة للوصول إلى حقوقها

فماذا تكون النتيجة؟

تكون النتيجة أن الأمم التي تعاملهم تخسر (عملاءها) الأولين لأنهم يشترون محصولاتها من النازيين بأرخص من الأثمان التي يشترونها بها منها

وتكون النتيجة أن الأمم تضطر إلى قبول مصنوعات لا تحتاج إليها. ثم تقبلها شيئاً فشيئاً بأثمان أغلى من أثمانها بعد أن تصبح مضطرة إلى البيع للنازيين والشراء من النازيين دون سائر (العملاء) الآخرين

وقد يُسَّمى هذا الأسلوب اختراعاً أو فلسفة أو مهارة كما يشاء السماسرة النازيون المعجبون بأمثال هذه الأساليب

لكن الواقع أنه هو أسلوب التجار المجازفين اليائسين من قديم الزمان، وعندنا يقول العامة عمن يباشر هذه المراوغات في التجارة والمبادلة (إنه يلبس طاقية هذا لذاك)، وإنه يعطي بالشمال ويأخذ باليمين. ولو سلك تاجر مثل هذا المسلك في مدينة من المدن لضاع شرفه وضاعت سمعته بعد أشهر معدودات

نحن في الشرق نسمع كثيراً عن فلسفة النازيين في الاقتصاد، وفلسفة النازيين في التربية، وفلسفة النازيين في السياسة، وفلسفة النازيين في القوانين وغير القوانين.

ومن الواجب أن نسمع كثيراً عن جميع أولئك على شريطة أن نسمع كل شيء وان نحيط بكل جانب وأن نسمع الجعجعة ونحاول أن نرى الطحن الذي وراءها

وعندئذ نعرف الحقيقة ونعلم أنها جعجعة ولا طحن في كل شيء وفي كل مضمار

ونفهم أن (النازية) أكذوبة كبيرة حشوها الغش والخداع والأعراض الزائلة والتهويش الذي ينخدع به الأغرار ولا يجوز على أحد من المنصفين

عباس محمود العقاد

ص: 11

‌بابر

للدكتور عبد الوهاب عزام

- 1 -

لقد أعقب موت تيمورلنك عصراً من الاضطراب السياسي في إيران وما وراء النهر. وقد استطاع ابنه شاه رخ أن يثبت سلطانه على معظم ملك أبيه، ويكبح الثائرين من أقاربه. فلما توفي سنة 850، عم النزاع، وأشتد الاضطراب، حتى نشأت الدولة الصفوية، فكان انتصار الشاه إسماعيل في موقعة شرور سنة 907 بعد قرن كامل من وفاة تيمور فاتحة حروب مظفرة مدّت سلطان إسماعيل إلى أفغانستان ونهر جيحون، فشمل هذه البلاد سلطان واحد.

ولقد كان لبني تيمور على ما كان بينهم من حروب، وعلى قصر زمان كثير منهم، أثر محمود في الفنون والآداب، وقد نبغ منهم جماعة من ذوي الآثار الواضحة في ذلك العصر مثل شاه رخ وألوغ بك، والسلطان أبي سعيد، والسلطان حسين مرزا.

- 2 -

ونتكلم الآن في سيرة عبقري من سلالة تيمور تقلبت به غير الدهر بين هزيمة وانتصار، ونجاح وخيبة، فكشفت عن خلال من الهمة والطموح والشجاعة والصبر، انتهت به إلى إقامة دولة من اعظم الدول التي عرفها تاريخ الإسلام، وبقيت سيرته في صفحات التاريخ عبرة لذوي الهمم، ومثلاً لأصحاب النفوس الكبيرة.

ذلكم محمد ظهير الدين بابر الذي يصل نسبه بتيمور أربعة آباء: بابر بن عمر بن أبي سعيد بن محمد بن مير انشاه بن ييمور.

ويمتاز هذا الرجل العظيم بأنه ترك للتاريخ سيرته مفصلة بينة مصورة صورة صادقة طبيعية بعيدة من التكلف والرياء في كتابه (بابر نامه) الذي سنذكره من بعد، ولست أعرف بين العظماء رجلاً كتب سيرته بيده في بيان مسهب ممتع طبيعي صريح كما فعل بابر.

- 3 -

كان أبوه عمر شيخ أميراً على فرغانة تولاها سنة 870 من قبل أبيه السلطان أبي سعيد؛

ص: 13

واستمر أميراً عليها بعد وفاة أبيه إلى أن توفي سنة 899. وهنا تستمع حديث بابر عن أبيه في (بابر نامه):

(كان حنفي المذهب، صحيح العقيدة، مواظباً على الصلوات في أوقاتها. قد قضي جميع ما فاته من الصلوات، وكان يديم تلاوة القرآن، وكان من مربدي الشيخ عبد الله - وهو المعروف بخواجه أحرار - يحرص على صحبته والتبرك به، ويدعوه الشيخ ابنه

(وكان يحب الأدب، قرأ منظومات: نظامي والمثنوى والشاهنامه، وكتباً في التاريخ؛ وكان قادراً على نظم الشعر، ولكنه لم يحفل به

(وكان عادلاً تبين حبه للعدل من هذه الواقعة: بغتت عاصفة شديدة من الثلج قافلة آتية من بلاد الخطا على سفوح الجبال شرقي أندجان. فلم ينج من ألف رجل إلا رجلان فلما بلغه الخبر بعث رجالاً أحرزوا أموال القافلة وأتوا بها فحفظها لأهلها مع احتياجه إلى المال. فلما عرف ورثتهم بعد سنة أو سنتين دعاهم وسلم إليهم أموالهم

(وكان سخياً حسن الخلق فصيح الكلام حلوه، شجاعاً باسلاً يحسن الضرب بالسيف، وكان وسطاً في الرمي بالسهام شديد اللكم لا يثبت للكمته مصارع) إلى أن يقول: (وكان يكثر من الخمر ولكنه اقتصد من بعد فكانت مجالس أنسه يوماً أو يومين في الأسبوع الخ. . .)

وقول: (كان عمر شيخ مرزا قصير القامة مستدير اللحية بدينا ممتلئ الوجه يلبس ثوباً ضيقاً جداً فإذا شد أربطته ضغط على بطنه وكثيراً ما تقطعت الأربطة بعد أن يشدها، وكان لا يتكلف في ملبسه ومأكله، يلف عمامته لفة واحدة، وكانت العمائم إذ ذاك أربع لفات وكان يلفها دون طيّ ويترك لها عذبة. ويلبس في أكثر أوقات الصيف خارج الديوان فلنسوة مغولية)

ويقول عن أمه إنها من بنات يونس خان وهو من ذرية جفتاي بن جنكيز. وبعد أن يتكلم عن نسب يونس خان وسيرته يذكر أولاده واحداً واحداً إلى أن يقول: (وكانت بنت يونس خان الثانية أي قتلق نكار، وقد رافقتني أكثر أيام كفاحي ومحني وتوفيت رحمها الله عام 911 بعد استيلائي على كابل بخمسة أشهر أو ستة)

ويذكر أولاد أبيه فيقول: (ترك ثلاثة بنين وخمس بنات، وكنت أنا ظهير الدين محمد بابر أكبر أبنائه وأمي تدعى قتلق نكار)

ص: 14

- 4 -

مات عمر شيخ سنة 899هـ فورث ابنه بابر ملك فرغانة، وهي ولاية على نهر سيحون وكانت سنه إذ ذاك اثنتي عشرة سنة

ومن الممتع أن نقرأ في بابر نامه الفصل الأول الذي يفتتحه بابر بقوله:

(في شهر رمضان من سنة 899 وفي الثانية عشرة من عمري صرت ملكاً على فرغانة وهي من الإقليم الخامس من طرف المعمورة تحدها كشغر من الشرق وسمرقند من الغرب وجبال تبرخشان من الجنوب، وكان في شمالها مدن عظيمة. (ثم يفيض في ذكر مدن فرغانة وأنهارها وحيوانها ونباتها)

لم يكن ملك فرغانة مسيراً لبابر، فقد مرت عليه أحداث عظيمة لم يستقر فيها ملكه إلى أن أخرج منه طريداً بعد عشر سنين من موت أبيه

طمع أعمامه في ملكه أول الأمر وحاولوا أن يغصبوه عرش فرغانة، فلم يبلغوا ما أملوا

يقول بابر: (لما توفي عمر شيخ مرزا فجأة كنت في جهارباغ في أندجان

(ويوم الثلاثاء 15 رمضان جاء الخبر مدينة أندجان فركبت جوادي على عجل وصرت إلى القلعة فيمن كانوا في خدمتي فلما بلغت باب مرزا أمسك (شيريم قفاي) بعنان الفرس، وصار إلى المصلى (نمازكاه) وكان قد خشي أن يأتي السلطان أحمد مرزا في جيوشه الكثيرة فيسلمني الأمراء إليه مع المملكة، وأراد أن يذهب بي إلى أزكند على سفح جبل آلاتاغ، فإذا سّلم الأمراء الولاية للسلطان أحمد نجوت أنا وذهبت إلى آلاجه خان أو السلطان محمود خان من إخواني)

كان هم بابر منذ ورث ملك فرغانة أن يستولي على سمرقند ليكون خليفة جده تيمور في دار ملكه. فما زال حتى فتح سمرقند سنة 903هـ (1497م) ثم ثار بعض الكبراء في فرغانة فأخر جوها من سلطانه، فخرج ليردها إلى حكمه فخذلته جيوشه ففقد سمرقند أيضاً ولكنه استطاع أن يسترد فرغانة وسمرقند بعد جهاد ومحن

ولم يستقر له الأمر طويلاً فقد أخرجه الأزبك من سمرقند، وفرغانة معاً سنة 906هـ فبقي بابر سنين ثلاثاً يطوف في البلاد ويحاول استرجاع ملكه؛ وهو يحدث أنه هزم مرة ففر في ثمانية من أنصاره وتعقبهم العدو وأعيت الخيل، فتخلف بعض رفاقه، وبقي معه اثنان، فلما

ص: 15

أعيا فرسه نزل له أحد الرفيقين عن فرسه، فسار حتى أعيا الفرس الثاني، فقدم إليه الرفيق الأخير حصانه، وسار وحده ووراءه اثنان من الأعداء حتى جن الظلام، فترحل وأوى إلى صخرة ليعتصم بها ويرمي من يتعقبه بالنبال. وذلك مثل مما مر بهذا الرجل الشجاع الصبور

ولابد لمثل بابر أن يكون ملكاً، فلما عجز عن استرجاع فرغانة وسمرقند عزم على أن يختط بالسيف مملكة أخرى، فما كان له بد من أن يكون ملكاً طوعاً أو كرهاً، فها هو ذار يجتاز جبال هند كوش الثلجية ويفتح كابل ثم يمد سلطانه في أرجاء أفغانستان

بابر اليوم ملك مسلط على أقاليم من أفغانستان ولكن همته تحاول ملكاً أعظم، وعزمه لا يقر بالعجز عن استرجاع عرش آبائه فيما وراء النهر. وهاهو ذا السلطان إسماعيل الصفوي يطوي الأرض من أذربيجان إلى أفغانستان فيحالف بابر إسماعيل الصفوي على عدوه من الأزبك

سار بابر إلى سمرقند سنة 914 فأخذها ولكنه أخرج منها بعد حين وهزم هزيمة شنيعة أبلغته كابل بعد أن أشفى على الهلاك

يئس بابر من سمرقند بعد هذه الخطوب أو كاد ييأس منها فمنالها اليوم بعيد. فماذا يفعل؟ أيقنع بما ملك من أفغانستان ويرتقب الحوادث لعلها تتيح له فرصة، أم يقهر الحوادث على الخضوع لمشيئته ويوسع سلطانه في أرض الله الواسعة؟

كانت جيوش بابر تشرق إلى حدود الهند أحياناً فما الذي يمنعه أن يحاول ملكاً عظيماً في هذه الأرض العظيمة؟

غزا الملك الطموح أطراف الهند سنة 925هـ (1519م) واستولى على بعض الأقاليم ثم رجع إلى كابل فانتقضت عليه الأرض التي فتحها، ولكن هذه الغارة مدت عينيه إلى هذه الأرض الغنية الواسعة

- 5 -

كان السلطان في وهلي إذ ذاك إبراهيم اللوري الأفغاني الأصل استولت عليها أسرته سنة 855. وكان إبراهيم ولوعاً بأبهة الملك يريد أن يخضع رؤساء الأفغان لآداب وسنن لم يألفوها. كان يلزمهم أن يقفوا في حضرته صامتين مطرقين، فسخطوا عليه واجتمع بعضهم

ص: 16

على أخيه جلال فحاول أن يقاسم إبراهيم الملك، وثار آخرون فقابل إبراهيم ثورتهم بالشدة والقسوة، وقتل بعض زعمائهم، وتعاقبت الثورات في أرجاء المملكة حتى وفد عمه علاء الدين إلى كابل يلتمس عوناً من بابر على ابن أخيه؛ وتلك هي الفرصة التي لا يضيعها بابر، والأمنية التي كان يتمناها والمغامرة التي يميل إليها وينشط لها، وكان محبَّاً للمخاطرة والمغامرة

أسرع إلى انتهاز الفرصة حتى بلغ لاهور فإذا جيوش وهلي قد انتصرت على (الثائرين دولت خان)، فقلب بابر انتصارهم هزيمة وتعقبهم في شوارع لاهور، ثم أسرع ففتح ديبل بور وترك علاء الدين اللوري فيها ورجع إلى كابل

وفي سنة 931 (1525م) رجع بجيوشه إلى الهند وقد أعد لها عدته فلقيه (الثائرين دولت خان) محارباً، وكان قد أوهمه انه سيؤيده، ولكن جنده تفرقوا حينما اقترب بابر. وتقدمت جيوش كابل للقاء جيوشه وهلي. وكان السلطان إبراهيم خرج للحرب في مائة ألف مقاتل ومائة فيل. وجعل بابر مدينة باتيبات إلى يمينه وجعل على يساره خنادق وحاجز من الأشجار، ووضع أمام جيشه عربات المدافع مشدوداً بعضها إلى بعض وجعل بينها فرجاً تتسع الواحدة منها لمرور مائة فارس ورتب جيوشه خلفها، ووقف إلى أقصى اليسار وأقصى اليمين سرايا من المغول للمفاجأة حين الحاجة

وفي ليلة الثامن من رجب سنة 932 (21 إبريل سنة 1526) فاجأ بابر جيش السلطان إبراهيم فلم يفلح غير أنه أخرج عدوه من معسكره، وعند الفجر تحركت جيوش إبراهيم فهجموا دون تلبث، وحسب بابر أنهم يقصدون في جناحه الأيمن فأمده، ولما جاءت الجيوش الهاجمة إلى الخنادق والحواجز وصف العربات المشدودة ترددوا وضغطتهم الجماعات إلى ورائهم، فاضطرب أمرهم، فانتهز بابر الفرصة وأرسل سرايا المغول من الفجوات التي بين العربات فداروا حول العدو وشرعوا يرمونه من الخلف، ووقف بابر كالصقر يرقب المعركة، فلما تقدمت جماعة من ميسرته على غير حذر فزلزلهم العدو سارع إلى إمدادهم، ولما اشتد ضغط العدو على ميمنته أسرع إلى إمدادهم أيضاً، وكان الأستاذ علي رئيس المدفعية في مقدمة الجيش ناشطاً موفقاً في عمله

وانجلت المعركة عن السلطان إبراهيم قتيلاً بين خمسة عشر ألفاً من جنده.

ص: 17

يقول بابر: (كانت الشمس قد ارتفعت حينما بدأ الهجوم واستمرت المعركة إلى الظهر فكانت هزيمة العدو، وتم انتصارنا ويسر الله العظيم لي هذه المصاعب ومحق هذا الجيش الكبير في نصف يوم)

وغنم في هذه الموقعة وبعدها من الذهب والجواهر والسلاح والخيل ما لا يحصى ففرقة بابر غير ضنين به ولم يحرص على ادخاره

وبادر بابر فأرسل سريتين فاحتلنا وهلي واكراز، وفي يوم الجمعة 14 رجب سنة 932 خطب لبابر في جامع وهلي فبدأ في الهند تاريخ الدولة الإسلامية العظيمة التي سيطرت على الهند كلها حيناً وبقي سلطانها في تلك البلاد إلى سنة (1275هـ - 1858م)

(البقية في العدد القادم)

عبد الوهاب عزام

ص: 18

‌في الاجتماع اللغوي

نشأة اللغة الإنسانية

للدكتور علي عبد الواحد وافي

تمهيد في أنواع التعبير الإنساني

للتعبير الإنساني طرق كثيرة يرجع أهمها إلى قسمين رئيسيين

القسم الأول: التعبير الطبيعي عن الأنفعالات، ويشمل جميع الأمور الفطرية غير المقصودة التي تصحب مختلف الانفعالات السارة والأليمة: كالصراخ، والضحك، والبكاء وتفتح الأسارير وانقباضها، واتساع الحدقة، وإغماض العينين، واحمرار الوجه واصفراره، ووقوف شعر الرأس، وارتعاد الجسم. . . وما إلى ذلك من الظواهر الفطرية التي تبدو بشكل غير إرادي في حالات الفرح والحزن والألم والخوف والخجل والاشمئزاز. . . وما إليها، والتي تعبر عن قيام حالة وجدانية خاصة بالشخص الصادرة عنه

وتنقسم هذه التعبيرات من حيث الحاسة التي ندركها عن طريقها إلى نوعين:

1 -

تعبيرات بصرية، أي تصل عن طريق البصر كالحمرة والصفرة والرعشة وانقباض الأسارير وانبساطها واتساع الحدقة وإغماض العين ووقوف شعر الرأس والعدْو. . . وما إلى ذلك من الظواهر الجسمية التي تصحب مختلف الانفعالات

2 -

تعبيرات سمعية، أي تصل عن طريق حاسة المسع، كالضحك والبكاء والصراخ. وما إلى ذلك من الظواهر الصوتية الفطرية التي تصحب حالات الفرح والألم والحزن والسرور. . . وهلم جراً، ويتألف هذا النوع من أصوات مبهمة (تشبه أصوات الحيوان وأصوات مظاهر الطبيعة) وأصوات لين (حروف مد) مختلطة أحياناً ببعض أصوات ذات مقاطع (حروف ساكنة)

(القسم الثاني): التعبير الإرادي عن المعاني، ويشمل جميع الوسائل المكتسبة التي يستخدمها الإنسان بشكل إرادي للتعبير عن المعاني والمدركات. فهذا القسم يختلف عن القسم السابق في منشئه وطرق استخدامه وما يعبر عنه. فهو كسبي في منشئه، إرادي في استخدامه، معبر عن معان ومدركات؛ على حين أن القسم الأول فطري النشأة، يصدر

ص: 19

بشكل غير إرادي، ويعبر عن تلبس الشخص بحالة وجدانية انفعالية.

وتنقسم هذه الطائفة من التعبيرات، من حيث الحاسة التي ندركها عن طريقها، إلى نوعين مشابهين لنوعي الطائفة الأولى: أحدهما التعبيرات الإرادية البصرية، وثانيهما التعبيرات الإرادية السمعية:

1 -

أما التعبيرات الإرادية البصرية، فهي التي تصل عن طريق حاسة النظر، وتشمل جميع الإشارات الحسية التي تستخدم بقصد الدلالة. وهي على ضربين:

(أحدهما) إشارات مساعدة ونائبة، أي تساعد لغة الكلام أو تنوب عنها في حالات خاصة أو لضرورة ما.

فمن هذه الطائفة الإشارات البحرية، وهي التي يستخدمها عن بعد بحارة سفينة مع بحارة سفينة أخرى، وهي إشارات دولية معروفة لجميع البحارة وتدرس في مدارس البحرية.

ومنها كذلك إشارات الصيد وهي التي يستخدمها الصيادون بعضهم مع بعض، حتى لا يسمع صوتهم الحيوان المطارد.

ومنها الحركات اليدوية والجسمية التي يستخدمها الصم البكم للتعبير عما يجول بخواطرهم.

ومنها الإشارات التي يلجأ إليها الفرد أحياناً للتعبير إذا كان المخاطب لا يفهم لغته؛ والتي جرت العادة في بعض الأمم الأولية أن يستخدمها أفراد العشائر المختلفة اللهجات بعضهم مع بعض. وقد عثر علماء الاجتماع والإتنوجرافيا على شواهد كثيرة من هذه الظاهرة عند كثير من عشائر السكان الأصليين لأمريكا واستراليا وعند بعض القبائل الإفريقية. فقد روي الأستاذ كوهل أنه إذا التقى أحد الهنود الحمر (السكان الأصليين لقسم من أمريكا الشمالية) بآخر من غير عشيرته، مختلف عنه في لغته، فإنهما يلجأن في تعبيرهما إلى لغة الإشارات التي تنزلها هذه العشائر منزلة لغة دولية. وقد مهر الهنود الحمر في هذه اللغة أيما مهارة. ففي إمكان المتخاطبين أن يظلا يوماً كاملاً يتحادثان عن طريق الإشارات باليد والأصابع والرجلين، وأن يقص كل منهما على الآخر كل ما يود قصه عليه

ومنها الإشارات التي تستخدم في بعض الشعوب في حالات الصيام الديني عن الكلام. وهذا النوع من الصيام متبع عند كثير من الأمم الأولية وبخاصة عند السكان الأصليين لأستراليا وأمريكا. فقد ذكر الأستاذان سبنسر وجيلين في كتابهما عن سكان استراليا الوسطى حالات

ص: 20

كثيرة من هذا القبيل، منها أن المتوفى عنها زوجها يجب عليها أن تظل مدة طويلة، تبلغ أحياناً سنة كالمة صائمة عن الكلام. ويظهر أن شيئاً من هذا كان متبعاً عند اليهود، بدليل قوله تعالى على لسان مريم:(إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيَّا، فأشارت إليه. . . الآية)

ومنها الحركات التي يستعين بها في أثناء حديثهم أهل اللغات الساذجة الناقصة لتكملة ما ينقص تعبيرهم وما يعوزه من دلالة. وقد لوحظ هذا في كثير من الأمم الأولية. فقد روي عن البوشيمان (عشائر أولية تسكن بعض مناطق في أفريقيا الجنوبية) أنهم إذا أرادوا المحادثة ليلاً أشعلوا النار ليتمكنوا من رؤية الإشارات اليدوية التي تصحب كلامهم فتكمل ناقصه وتحدد مدلولاته

ومنها الإشارات التي تصحب حديثنا نحن لتوكيد المعاني، أو لتمثيل الحقائق، أو لزيادة التوضيح؛ والتي تستخدمها وحدها للدلالة على الإيجاب والنفي والاستحسان وما إلى ذلك: كالإيماء بالرأس للتعبير عن القبول، وتحريك السبابة حركة مستعرضة للتعبير عن الرفض أو النفي، ومد الشفتين ووضع السبابة عليهما للأمر بالسكوت. . . وهلم جرا

(وثانيهما) إشارات أصيلة عامة، وهي التي يتكون منها لغة كاملة مستقلة تستخدم وحدها في جميع الشئون والظروف. . . . وقد استخدم هذا النوع من اللغات عند بعض الجماعات الإنسانية ولا يزال مستعملاً في بعض العشائر. فقد عثر في الأمم الأولية على جماعات كثيرة لا تكاد تستخدم في تعبيرها غير الإشارات اليدوية والجسمية. ومن هؤلاء بعض قبائل السكان الأصليين لأمريكا واستراليا وبعض عشائر أفريقيا. ويطلق على هذا الضرب من التعبير اسم (لغة الإشارات) أو (الإشارات التحليلية) وقد عني بدراسته عدد كبير من علماء الأتنوجرافيا والاجتماع من أشهرهم مولري وتيلور ورومان ولوبوك وسبنسر وجيلين وليفي برول وريبو والدكتور فيشر الألماني

وقد صور الدكتور (فيشر) هذا النوع من اللغات وقربه إلى الأذهان إذ يقول:

إذا التقيت بأحد الهنود الحمر وأردت أن أخاطبه بلغة الإشارات لأسأله هل رأى ست عربات يجرها ثيران ويصحبها ستة سائقين منهم ثلاثة مكسيكيون وثلاثة أمريكيون وواحد ممتط صهوة جواده، فإنني أشير إلى شخصه بيدي للدلالة على كلمة (أنت)، ثم أشير إلى

ص: 21

عينيه للدلالة على فعل (الرؤية)، ثم أبسط أصابع يدي اليمنى وسبابة يدي اليسرى للدلالة على عدد (ستة)، ثم أكوّن صورة دائرة بإلصاق نهايتي السبابتين الإبهامين إحداهما بالأخرى وأمد يديّ إلى الأمام وأحركهما كما تتحرك عجلات العربة وهي تسير للدلالة على (العربة)، ثم أضع الكفين ممدودتين بجانب الجبهة ممثلاً قرن حيوان للدلالة على (الثور)، ثم أمد ثلاثة أصابع من يدي اليسرى وأضع يدي اليمنى تحت شفتي السفلى وأنحدر بها إلى صدري ممثلاً اللحية للدلالة على (ثلاثة مكسيكيين)، ثم أمد مرة ثانية ثلاثة أصابع وأمسح جبهتي بيدي من اليمين إلى الشمال ممثلاً وجهاً شاحباً للدلالة على (ثلاثة أمريكيين)، ثم أرفع إصبعاً واحداً وأضع بعد ذلك سبابة اليسرى بين سبابة اليمنى ووسطاها ممثلاً الراكب للدلالة على (رجل واحد راكب حصاناً)

وأضاف إلى ذلك أن الوقت الذي يقضيه أحد المتكلمين بهذه اللغة في أداء هذه الحركات لا يزيد كثيراً على الوقت الذي يستغرقه تعبيرنا باللغة الكلامية عن هذه المعاني

وذكر الأستاذ تيلور بصدد هذه اللغة أن لها قواعد إشارية لربط أجزاء العبارة بعضها ببعض وترتيب عناصرها؛ وأنها في مجموعها تكاد تكون متحدة عند جميع الشعوب التي تستخدمها، فهي من هذه الناحية أشبه شيء بلغة دولية، وأنه يمكن أحياناً للتعبير بها عن حقائق دقيقة كعظات وضرب أمثال وقص حكايات؛ وأنها في جملتها ومعظم تفاصيلها تشبه لغة الصم - البكم. فقد جمع مولري بين رجل أصم - أبكم وطائفة من الهنود الحمر المتكلمين بلغة الإشارات، فأخذ الأصم - الأبكم يقص عليهم بالإشارات قصة طويلة تتعلق بحادث سرقة، وعقب على هذه القصة بتعليقات من عنده، فلم يفتهم فهم أي حركة من حركاته، لاتحادها مع حركاتهم اللغوية

وذهب العلامة (ريمو) إلى أنها قابلة للإصلاح والتهذيب، وأنه لو طال استخدام الشعوب الإنسانية لها لسارت في سبيل الارتقاء، ولأصابها كثير من أسباب التنقيح تحت تأثير الرقي العقلي ومطالب الحياة الاجتماعية، واتساع حاجات الإنسان، وأعمال المخترعين والعلماء. . . وما إلى ذلك

غير أنها مهما ينلها من التهذيب فلن تخلو من مساوئها الذاتية، فهي تستأثر باليد، فتحول دون القيام بأي عمل آخر في أثناء التعبير. ويتوقف إدراكها على النظر، فلا يمكن التعبير

ص: 22

بها عن بهد ولا في الظلام وهي قائمة على تقليد الأشياء المحسة، فلا تكاد تقوي على التعبير عن المعاني الكلية أو وصف المشاعر والوجدان هذا إلى أنها عارية عن الدقة في كثير من مظاهرها، وأنها تقتضي إسرافا كبيراً في الوقت والمجهود

2 -

وأما التعبيرات الإرادية السمعية، فهي التي تصل عن طريق حاسة السمع، وهي الأصوات المركبة ذات المقاطع التي تتألف منها الكلمات

وهذا النوع هو الذي تنصرف إليه كلمة (اللغة) إذا أطلقت وهو وحده الذي يهمنا في بحثنا. وإنما ذكرنا الأنواع الأخرى لاستيفاء مظاهر التعبير من جهة، ولأننا قد نحتاج إليها من جهة أخرى في بيان نشأة هذا النوع، أو في ضرب الأمثال، أو الموازنة، أو مناقشة النظريات وتوضيحها. . . وما إلى ذلك من الأمور التي ستعرض لها، بصدد نشأة اللغة، في المقالات التالية إن شاء الله.

علي عبد الواحد وافي

ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون

ص: 23

‌أفانين

أبو النجم الرجاز وهشام بن عبد الملك

للأستاذ علي الجندي

في عصر بني أمية لعمت ثلاثة مت الرُّجاز، زاحموا الشعراء بالمناكب على أبواب الخلفاء والولاة، وقاسموهم جزيل الصَّلات وسنيّ الهبات، بل أكرهوهم على أن ينظروا إليهم بعين الجلّة والإكبار، ويروا فيهم منافسين يُخشى بأسهم، وترهب صولتهم، فاضطروا إلى مجاراتهم في هذا الفن الناهض، ليفوزوا بالحسنيّين، فكان جرير والفرزدق من الشعراء الرجاز

هؤلاء الثلاثة الذين سمْوا بالرجز من الحضيض إلى الذروة، واستنفذوا أهله من الخمول والضّعة: هم: العجّاج التميمي وابنه رُؤبة، وأبو النجم العِجْلي، وفيهم يقول أبو عبيدة: ما زالت الشعراء تقصر بالرجاز حتى أبو النجم:

الحمد لله العلي لأجلل

وقال العجاج: قد جبر الدين الإله فجُبرْ

وقال رؤبة: وقاتم الأعماق خاوي المخترق

فانتصفوا منهم!

لم يكن للرجز في الجاهلية نباهة شأن، فقد كان البدوي يصوغ منه بضعة مشطورات في الحرب والمفاخرة والسَّباب، أو يرسها في غرض تافه كوصف ظبي أو ظلم أو ثور وحشي، حتى جاء شيخ الرجاز وأرصنهم قولاً: الأغلب العجلي من المخضرمين؟ فأطاله قليلاً على عهد الرسالة، فكان مثله في الرجاز مثل المهلهل التغلبي في الشعراء

ولكن في هذا العهد - عهد بني أمية - وثب الرجز وثبة قوية موفقة، فبارى الشعر في جُلّ خصائصه كما بارته الرسائل الأدبية في أواسط العصر العباسي، فاستعمل في المدح والهجاء والفخر والرثاء، وذكر الديار والظعائن، والوقوف على الأطلال والرسوم والدَّمن، وبكاء الشباب ووصف الرحلة إلى الممدوح، والتمهيد بالنسيب، والتخلص منه إلى المدح والذم إلى غير ذلك من أغراض الشعر الصميمة

وحسبك فيما بلغه الرجز من رفيع المنزلة، قول المنتجع لرجل من الأشراف: ما علمت

ص: 24

ولدك؟ قال: الفرائض. قال: ذلك علم الموالى لا أبالك! علمهم الرجز فإنه يُهَرِّت أشداقهم (يوسعها)

ويقتضينا الإنصاف أن نقول: إن السابق إلى تقصيد الرجز وتضمينه فنون الشعر: العجاج. ولذلك عده الرواة في الرجاز كامرئ القيس في الشعراء

والذي يعنينا من هؤلاء الثلاثة الصدور المقدمين هو أبو النجم العجلي

واسمه المفضّل أو الفضل بن قدامة، يرتفع نسبه إلى عجل ابن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل

وقبيلة بكر من القبائل المعرقة في الفصاحة والبيان! ويكفيها فخراً أنها أخرجت للعرب الأغلبَ وأبا النجم من الرجاز، وطرفة ابن العبد والحارث ابن حِلّزة وأعشى قيس من الشعراء أصحاب المعلقات!

كان أبو النجم يمتاز من صاحبيه: العجاج ورؤية - على ما لهما من مزايا - بأشياء:

كان بارعاً إلى الغاية من البراعة في النعوت

وكان حاضر البديهة سريع الخاطر: يحدث الأصمعي أنه قال أرجوزته: الحمد لله العلي الأجلل، في قدر ما يمشي الإنسان مسافة غلوة أو نحوها (مقدار رمية سهم)

وكان أحسن الناس إنشاداً، وكانت له في الإنشاد عادة غريبة! وهي أنه يُرغى ويُزيد ويرمي بثيابه فيضفي عليه ذلك رهبة وهيبة!

وروعة الإنشاد لا يفكر أثرها في الغلبة والفلج! وبخاصة في عصر يعتمد فيه على المشافهة والسماع، ويتلاقى فيه الخصوم وجهاً لوجه في المواسم والأسواق

بل إن الإنشاد لم يفقد روعته في عصرنا هذا - عصر القراءة والكتابة - فقد كان عدة (حافظ) في لتلعب بعقول الجماهير، وانتزاع التصفيق منهم، حتى لقد كان يقوم له ذلك مقام البراعة والإبداع في شعر (شوقي)

ومن شعرائنا المعاصرين من تسمع شعره ثم تقرؤه، فإذا الفرق بين ما سمعت وما قرأت كالفرق بين الدر والخزف لكثرة ما يتحاسن في إنشاده ويتصايح ويمعن في التأوّه والتباكي والشهيق والزفير!

وكان أبو النجم - فوق تمكنه في الرجز - شاعراً مجيداً وقد تغنت في بعض مرّفقاته عُليْة

ص: 25

بنت المهدي، كما أنه انتصر على الفرزدق وجماعة من الشعراء من مجلس سليمان بن عبد الملك، وحاز الجائزة دونهم بقصيدته الفخرية التي أولها:

(علق الهوى بحبائل الشعثاء)

ومن المقرر في عرف النقدة: أن كل مقصّد يستطيع الرجز - وإن لقي في ذلك بعض المشقة - وليس كل راجز يمكنه التقصيد. والشاعر الراجز أعلى مقاماً ممن حظه الشعر أو الرجز فحسب، فإذا اجتمع الشعر والرجز والمقطعات لإنسان سمي: الكامل. وقد ظفر الفرزدق بهذه المرتبة، ثم أبو نواس من المحدثين.

ولم يكن بد أن تستحرَّ المنافسة بين أبي النجم وبين العجاج وابنه رؤبة، وقد أظلهم عصر واحد، وجمعتهم صناعة واحدة. ولكن الباحث المتقصي يستطيع أن يرد هذا الصراع إلى سبب أعمق من المعاصرة: وهي العصبية القبلية؛ فالعجاج وابنه من تمي ثم من مضر، وأبو النجم من بكر ثم من ربيعة، وبين تميم ابن مُرّ وبكر بن وائل إحن ومضاغنات في الجاهلية والإسلام! وبين مضر الحمراء وربيعة الفرس حقود وحزازات حملتها قبائلهما إلى كل بلد نزلت فيه!

وكان العجاج ورؤبة يحذرن أبا النجم ويداريانه، لما عرف عنه من شكاسة الطبع وزعارة الخلق!

يقول عامر بن عبد الملك السمعي: كان رؤبة وأبو النجم يجتمعان عندي، فأطلب لهما النبيذ، فكان أبو النجم يتسرع إلى رؤبة حتى أكفَّه عنه!

ويحدثون: أن فتيانا من عجل قالوا لأبي النجم: هذه رؤبة بالمِرْبَد يجلس فيسمع شعره، وينشد الناس ويجتمع إليه فتيان من تميم، فما يمنعك من هذا؟ قال: أو تحبون هذا؟ قالوا: نعم قال: فأتوني بعسِّ نبيذ، فأتوه به فشربه، ثم نهض قائلاً:

إذا اصطبحت أربعاً عرفتني

ثم تجشّمعتُ الذي جشّمتني

فلما رآه رؤبة أعظمه، وقام له من مكانه وقال: هذا رجّاز العرب

ثم أنشدهم أبو النجم أرجوزته اللامية، فقال رؤبة: هذه أم الرجز

ومن طريف مراجزاته للعجاج: أن العجاج خرج محتفلاً، عليه جبة خزّ وعمامة خزّ، فوق ناقه له كَوْماء (عظيمة السنام) قد أجاد رحلها، حتى وقف بالمِربد - والناس مجتمعون -

ص: 26

فأنشدهم أرجوزته الرائية:

(قد جبر الذين لإله فجبر)

فذكر ربيعة وهجاها، فجاء رجل إلى أبي النجم، فقال له: أنت جالس، وهذا العجاج يهجونا بالمربد قد اجتمع عليه الناس.

فقال أبو النجم: صف لي حاله وزيه الذي هو فيه، فوصفه له، فقال: ابغني جملاً وأكثر عليه من الهناء، فجيء بالجمل إليه، فأخذ سراويل له فجعل إحدى رجليه فيها، وأتزر بالجمل إليه، فأخذ سراويل له فجعل إحدى رجليه فيها، واتزر بالأخرى! وركب الجمل ودفع خطامه إلى من يقوده حتى أتي إلى المربد

فلما دنا من العجاج قال للقائد: أخلع خطامه؛ فخلعه، وأشتد أبو النجم أرجوزته:

(تذكر القلب وجهلاً ما ذكر)

والجمل في أثناء ذلك يدنوا من الناقة ويتشّممها! والعجّاج يتباعد لئلا تفسد ثيابه ورحله بالقطران!

حتى إذا بلغ أبو النجم إلى قوله:

إني وكلُّ شاعر إذا شعرْ=شيطانه أنثى، وشيطاني ذكرْ

فما رآني شاعر إلا استترْ

فِعْلَ نجوم الليل عايَنْ القمرْ

وثب الجمل على الناقة!!

فهرب العجاج والناس يضحكون قائلين:

(شيطانه أنثى وشيطاني ذكر)

وكان أبو النجم ينزل سواد الكوفة وينتجع بقصيده ورجزه خلفاء بني أمية وولاتهم، فيحسنون لقاءه وينفحونه بالعطاء

وله مع الخليفة هشام بن عبد الملك أخبار طريفة ونوادر حِسان كان يجري فيها على سجية الأعراب لا يُوارب ولا يحتشم!

فمن ذلك: أن هشاماً قال له يوماً: حدثني يا أبا النجم. قال: عني أو عن غيري. قال: بل عنك. قال: إني حين علتني الشيخوخة كان يعرض لي البول في اللهيل، فوضعت عند رجلي شيئاً أقضي فيه حاجتي. فقمت ذات ليلة لأبول، فخرج مني صوت! فتشدّدت

ص: 27

وتماسكت، وعدت مرة أخرى، فخرج مني صوت آخر! فأويت إلى فراشي، وهتف بزوجي: يا أم الخيار هل سمعت شيئاً؟ فقالت: لا، ولا واحدة منهما!

فضحك هشام وأمر له بصلة

ومن نوادره المضحكة المبكية: أن ورد على هشام في الشعراء، فقال لهم: صفوا لي إبلاً، فقطروها وأوردوها وأصدروها، حتى كأني أنظر إليها

فأنشده الشعراء وانشده أبو النجم أرجوزته التي مر ذكرها:

(الحمد لله العلي الأجلل)

وهشام يصفق بيديه استحساناً لها! ومضى أبو النجم في إنشاده غلى أن بلغ قوله في وصف الشمس:

حتى إذا الشمس جلاها المجتلي

بين سِمَاطيْ شفق مرعَبل

صَغواء قد كادت ولما تفعل

فهي على الأفق. . . . . . . . .

كان تمام البيت: كعين الأحول

وهنا تذكر أبو النجم - بعد فوات الأوان - أن هشاماً احول! فامتُقع لونه، وتخاذلت أوصاله، وجمد لسانه في فمه!

وأراد أن يغير البيت فخذله شيطانه! وحار في أمره فأطرق واجماً!

ولم يفطن هشام للسبب، فضجر وصاح به: أجز! فلم يسع أبا النجم إلا أن يصدع بالأمر فقال:

كعين الأحول!

نطق بها كحشرجة المحتَضر! والقافية (تعذر)

وكان هشام - على عقله وكيْس - فظاً غليظاً خشناً!

فاستشاط غضباً! وأمر بوجْء عنقه! فتبادر إليه الخدم يدفعون في قفاه! حتى خرج من المجلس وهو لا يصدّق بالنجاة!

ولم يكتف هشام بذلك، فأمر الربيع صاحب شرطته ألا يريه وجه أبي النجم بعد هذا! وأن ينفيه من الرصافة!

ولكن وجوه الناس شفعوا له عند الربيع، فأقرّه فيها

ص: 28

ولم يكن أحد يُضيف في الرصافة، غير سليم بم كيسان الكلبي، وعمر بن بسطام التغلبي؛ فكان يتغدى عند سليم، ويتمشى عند عمر! ويؤم المسجد ليلاً فيبيت فيه!

(البقية في العدد الآتي)

علي الجندي

ص: 29

‌تأملات

في ذهني صورة منك تنسخ كل صورك: صورة استسلام يحمل كل معاني المنعة، ويعصمك من عيني ومن يدي ومن حسي، وكان خليقاً أن يغريني بك، فلم يغرني. . . ملأني إكباراً لك وتدلهاً بك، لأن فيك شيئاً مقدساً يحميك دائماً من الأعين والأيدي، وحول رأسك هالة من الطهر تحوطه مرفوعاً ومطرقاً فاختلاس النظر إليك نوع من العبادة لا يخفره إليك الشيطان، وأنت في صمتك بليغة، تتحدثين بألف صوت كالسينمفوني. . .

جوارحي دائماً مشغوفة بك، مشوقة إليك، يطربها حديثك ويناجيها صمتك، وتستلهم الوحي من إطرافك. . .

تُرَى يا فتاتي، بمن كان شغلك، وفيم كنت تطرقين؟. . . لا يغرنَّني الغرور، فأحسب اتجاهك كان إليّ، وأنت إلى غير الغرض تتجهين. . . بل أنت في أكبر الظن تتساءلين: ماذا تحسين؟ أخداع هو أم يقين؟. . . وتقولين في نفسك: أيجوز أم لا يجوز أن أجيب نداءً ليس بعد من القلب، ولا هو من وراء القلب. . . ولكنه يوشك أن يصدر عن الصميم؟؟

تقولين في أكبر الظن: إني فتاة عديمة التجربة، وهاأنا ذي أتعرض للتجربة، أأقدم أم أحجم؟ وإذا أقدمت ماذا يكون؟ إنني لا أملك الإقدام، لأنه شر، ولا أملك مع هذا الإحجام. . . إنني أتردد وسأبقى مترددة إلى يوم الدين، ومن كان مثلي فسلامته في الاعتصام لا في الإقدام. . . وقد اعتصمت بحبل الله، وحفظت جميله، ومنحته ودي، وجازيته على حبه حباً عذرياً طاهراً. . . أحس الغبطة فيه، ويثير مع ذلك في نفسي الأشجان

إذن فليكن ما تشائين ولي نقف في حبنا يا فتاتي على قدم المساواة؛ فأنت عندي أسمي من أن أقف وإياك في مستوى واحد، وأكرم من أن أحشر وإياك في صعيد واحد. . . وإني بذلت لك من نفسي أكثر مما بذلتِ لي من نفسك. . . لكن العبرة بقيمة ما أبذل وما تبذلين؛ وقد بذلتُ لك عاطفة جياشة لم أحبسها، وبذلت عاطفة مكبوتة جاهدت في كبتها، فجاءت عاطفتي الجياشة أرخص من العاطفة التي زلتِ تكبتين. . . وتجاوزت إليك الحدود، ووقفتِ أنتِ دائماً مني عند حد. . . فأنا أسخو بما لا يكلفني جهداً، وأنت تبذلين جهداً جباراً فيما تكبتين وتكبحين

لا أدرك مبلغ ألمك لأنك صبوحة دائماً، لكني أحس الصراع في نفسك بين واجبك نحوي وواجبك نحو الله وقد تبدو المقابلة بين الموقفين نابية، لكن الواقع لا ندحه عن ذكره

ص: 30

والإشارة إليه، والواقع أني أجاهد في ربط مصيرك بمصيري بهذه الصلة الروحية، ويريد الله أن يكون لكل منا مصير؛ وأنت بما أودعك الله من وداعة تصرفين السوء عن نفسك، وكل شيء يرعاك حتى تلك العين التي ترنوا إليك، واليد التي تتلمس يدك، والحس الذي يهفو إليك بليته ليغمرك أو تغمر به

كوني يا فتاتي ما تشائين فلن تكون مشيئتي غير مشيئتك، وليكن ما يجيش به صدري وفقاً على هذا الحيز الضيق حتى يضيق به فيكون من أمر الله ما يكون

سأبقى أميناً كما كنت شهيداً كما تكونين، ولن أنساك في قيامي وقعودي وركوعي وسجودي ولو ذهبت صلاتي غير مأجورة ولا مثابة، فحسبي أنها خالصة لوجه الله

أنت يا فتاتي شهيدة كأقدس ما يكون الشهداء، قديسة كأكرم ما يكون القديسون. ليست عندنا أديرة ولكنك تلجئين في نفسك الممتنعة إلى دير حصين، وقد تبقين هكذا طوال حياتك وأتقلب أنا مع الأيام، فتبقين لي مثلاً أعلى، وأبيت أنا بشراً ككل الأنام

(م. د)

ص: 31

‌من وحي الحنين

آذار. . . حدثني. . .

(مهداة إلى الأستاذ الزيات)

للأستاذ شكري فيصل

آذار. . . يا مُطلِق الحياة من قيود الشتاء. . . وباعث النور في أرجاء الكون. . . حدثني. . . كيف ضمعت إليك (دمشق) بعد هذا الفصل القاتم، وذاك الجو الغائم؛ وتلك الليالي القريرة؟!. . . هل أزحت عنها أثقال السحاب. . . وجبت ظلام الضباب. . . ونشرب الروح في جنباتها الحلوة. . . أم أنها لا تزال بعدُ غارقة في صمت الشتاء، صابرة على أذى الفرّ. . . تنذرها السماء؛ وتهددها العواصف؟!. . .

آذار!. . . أيها المنطلق هنا على حفاحي النيل. . . تستمع إلى أنشودته الصامتة؛ وهمسه الخفيف. . حدثني عن (بردي) هذا النهر الوادع. . . ألا يزال ثائراً مضطرباً. . . يحمل الخوف، وينشر الذعر، ويبث الاضطراب، ويفيض على أطرافه وجنباته كأنما ملّ مظاهر الجور ومهازل الحياة. . . أم أنه عاد سيرته الأولى. . . يحمل الأمان إلى النفوس، ويشع الحياة في المهج؛ وتصطفق أمواجه الفانيات وتنصت إليه أفئدة وقلوب. . . لتسمع أغنيته الخالدة، ولحنه البارع. . . وتنتشر على ضفتيه طوائف الناس تنعم بهذا الرحيق السلسل، وهذا الصفاء الجميل. . . وتقرأ في صفحاته آيات المجد الذي انبثق مع (الغساسنة) وترعرع في جنبات قصورهم الناعمة؛ وتكامل في عهد (أميَّة) وفي ظلال سلطانهم الواسع. . . ثم غاب حيناً من الدهر. . . فبكاه هذا النهر. . . بدموعه وعبراته. . . حتى إذا ولد من جديد في تاج (فيصل) وملك (فيصل). . . وفتح عينيه للنور، ومدَّ ذراعيه يريد أن يحبو. . . انتزعه الدهر؛ في ليلة سوداء كالحة، ورمى به في صحراء اليأس المجدب. . .

آذار!. . . أيها المرح هنا في ربوع (الأرمان)؛ وملاعب الجزيرة، وحدائق النيل. . . حدثني. . . هلا حملت المرح إلى وطني الآخر. . .؟ هلا زرعت البسمات على الشفاه. . . ودفعت الدم في العروق، وأحييت موات الأمل في القلوب. . . .؟ أم أن القوم في شغل عنك. . . يقارعون الدهر العصيب، ويجالدون الزمن الغادر، ويدارون الأحمق السفيه؟

ص: 32

آذار. . . أيها الضاحك هنا على شفاه الأزاهير الفوّاحة. . . حدثني. . . عن أزاهير دمشق. . . هل تفتحت عنها براعهما بعد هجعة طويلة ثقيلة. . . وهل نشطت الحياة في هاته الشجيرات الفتية القائمة في وسط الحدائق كأنها زمرة غانيات في موكب زفاف. . . ترقص مع خطرات النسيم، وتهتز مع أنداء الفجر، وتصفق كلما ذهب بها الهواء هنا وهناك؟. . . وهل استفاقت هذه الجنات الفيح يا آذار. . . فنثرت الزهر، ونشرت العطر، وطبعت على وجه الدنيا قبلتها الضاحكة. . . كأنها تنفخ فيها روحاً من النشاط؟

والغوطة. . . هل اكتست الغوطة ذاك الثوب الزاهي يا آذار! بعد عرى طويل. . . فنبت في أرضها العشب الأخضر. . . ريّان نديَّاً. . . ينفح الفتوة، ويمور بالحياة، ويستقبل الشمس مع الصباح بقطرات من الندى المبعثر. . . البراق كالماس. . . ويودعها مع المساء وهو يقبلها كأنه يتمنى ألا تزول عنه. . . ثم يبكي فراقها في الليل بدموعه الصافية اللألاءة؟!. . .

. . . والزهر المتشقق على مبسم الغصن يا آذار!. . . هل رقت أوراقه الملونة لنجوى المحبين، وآهات الشاكين، وقلوب المتيمين؟ وهل خرج الناس يشهدون هذا السحر الحلال، وهذه الروعة الضاحكة. . . وينعمون بهذه الأجواء المعطرة، والدنيا المتأنقة، وينشقون في هوائها الأرج والعبير، ويطوفون بها كما يطوفون في جنات الخلد. . . ويقرءون آيات الله البارعات في الغصن المائس والفروع المهتزة، والماء الذي يخرج به نبات مختلف ألوانه؟!

. . . . ومواكب الزهر يا آذار!. . . هل شهدت (دمشق) هذا العام مواكب الزهر؟. . . وهل ضحكت هذه الدنيا الصابرة لصروف الزمان وعبث الدهر. . . وهل صافحت عيناها من جديد. . . هؤلاء الفتيان الذين يذهبون هنا وهناك. . . مع شعاعات الفجر الأولى، يستقبلون الصباح، ويرتعون في الحقول، ويمرحون في الجنان، وينتقلون. . . كالفراشات الطائرة. . . من شجرة إلى شجرة، ومن غصن إلى غصن. . ويصفقون مع أمواه النهر، وينتشون من هذا السحر؛ ويقضون يومهم لله ولأنفسهم. . . ثم يعودون. . . وفي أيديهم هذه الحمالات من الورد؛ وهذه الباقات من الزهر؛ ينشرون عبيرها في رحاب المدينة وأحيائها. . . في صدورهم البشر، وفي وجوههم المرح؛ وعلى ألسنتهم نشيد الوطن الغالي؟!. . .

ص: 33

والريف البعيد يا آذار!. . . هل انتفض من نومه العميق. . . وهل فتح أهلوه أبواب دورهم بعد أن سدتها الثلوج، فحالت بينهم وبين الخروج. . . فظلوا في حصار الطبيعة شهراً أو بعض الشهر لا يغادرون هذه المدافئ المبنية في زاوية من زوايا الغرفة. . . وهل بدءوا حياة الربيع الوادع. . . يتفقدون زرعهم الذي دفنوه في الأرض، ووكلوه إلى الله، وانتظروا موسم حصاده؟!

وهل خرج أطفالهم يتسابقون في طرق القرية، ويتسلقون قمم الجبل؛ ليظفروا بالثلوج المتجمدة. . . يتراشقون بها، ويتزحلقون عليها، على طريقتهم الساذجة الأولية؟!. . .

. . . وفتيات القرى يا آذار!. . . هل انتصبت قاماتهن؛ بعد أن حناها الشتاء؛ في طريقهن إلى ماء القرية، يستقين منه، وقد علتهن الجرار، ولثمت خدودهن هذه النسمات العليلة؛ وعبثت بخمرهن؛ فحركتها ذات اليمين وذات الشمال. . . واجتمعن حول الورد ينشدن في همس خفيف، وتمتمة ناعمة، ويتحدثن حديث القرية وضيوفها ومواسمها وأعراسها. . .؟. . .

وحديث الجبال يا آذار!. . . هل اتشحت بوشاحها الأخضر الزاهي؛ وهل نبتت فوق تربتها هذه الحشائش القصيرة، على أنقاض الثلوج، وبقايا السيول. . . وهل خرجت القطعان تسرح في شعاب هذه الجبال؛ وفي صعابها؟. . . وهل سمعت يا آذار. . . أصوات أجراسها حين تتضيَّف الشمس إلى الغروب. . . وتنسحب غلائلها على صفحة الأفق الوردية. . . وتتراءى صفحة السماء رائعة جميلة. . . وتظهر الشمس كدائرة من النار الملتهبة، تغطس في بحر الظلام فيخمد لهبها ويطفأ نورها، وتمَّحى شعاعاتها من السماء. . . فتبكيها هذه القطعان. . . بأصوات أجراسها الحزينة؛ وتلتفت لتعود إلى القرية. . . في جنح الليل، وستار الظلام. . . والرعاة، يا آذار. . . هؤلاء الذي شرفهم الله، فجعل منهم الأنبياء. . . هل تسلقوا الجبل مع قطعانهم، وحملوا مزاميرهم في أيديهم، ووقعوا عليها نشيد الحياة الهادئة التي تتعالى عن الأرض، فلا تعرف المكر والغل. . وتتقرب من السماء، فلا تعرف إلا الإيمان والنور والحق. . . وهل أنصت إلى نغماتهم الحلوة يا آذار التي يرسلونها في هذه الوحدة كأنها وحي السماء، ونغمة الكون المتسقة، فتنتقل أصداؤها في الجبال مع خفقات الريح. . . ويلقنها الطير ليذهب يرتلها على الناس في الوديان

ص: 34

والحقول والبساتين. . .

. . . حبذا يا آذار. . . حبذا لو استطعت أن تحملني على جناحين رفيقين من نسماتك اللطاف. . . إلى مجالي الأنس، وربوع الحياة إلى مطارح الصبا وملاعب الفتوة. . . أطفئ هذا الحنين الذي يأكل كبدي، وأقنع هذا الشوق الذي يضطرم في صدري. . . برشفات من بردي. . . ونسمات من (قاسيون)

حبذا يا آذار. . . حبذا. . .

(القاهرة)

شكري فيصل

ص: 35

‌من وراء المنظار

صاحب الديوان أيضا

مضيت إلى الديوان للمرة الثانية، وأنا أمني النفس أن أحظى هذه المرة بما لم أحظ به في المرة السالفة من حل مسألتي؛ ولقد حرصت على أن يكون حضوري إلى الديوان في وقت لا يدع مجيء إليه فيه مجالاً للشك في بدء العمل به؛ فكنت هناك في نحو الساعة العاشرة من صباح أحد الأيام.

ورأيت في إحدى الردهات من توسمت فيه أنه صاحب ديوان فاتجهت إليه مبتسماً محيياً، ورجوت منه أن يدلني أين أذهب للسؤال عن كيت وكيت، فأجاب دون أن يقف، وأنا أسرع الخطو لألحق به، كأنما كان في سبيله لتلافي خطر من الأخطار الداهمة:(عند حسني أفندي في الشطب هناك على شمالك وراء السلم)

وذهبت إلى (الشطب)، فإذا هو قاعة كبيرة، فيها نحو عشرين من أصحاب الديوان، ورأيتهم جميعاً لأول نظرة، والحق يقال، منكبين على أوراقهم. فقصدت أقربهم إلى الباب، فحييت وقلت:(حضرتك حسني أفندي؟) فلم يزد أن أشار بإصبعه إلى من أردت دون أن تنفرج شفتاه ولو برد التحية، ولعله كان في شغل بعملية حسابية معضلة أو بتدبير حل لمشكلة من مشاكل عمله

ونظرت إلى حسني أفندي وأنا أخطو إليه، أحاول أن أتبين شيئاً عن خلقه من مظهره، فخانتني فراستي إما لقصر المدة، وإما لأني رأيت منظره يدل على ألف معنى فلا يدل من أجل ذلك على معنى!. . . ووقفت أمام مكتبة فحييت في هدوء مبتسماً متظرفاً أحرص الحرص كله على أن أكون خفيفاً ظريفاً على نفسه ما وسعني الظرف. . . ولكن ظرفي أو قل تظرفي ذهب عبثاً، فإنه لم يرفع رأسه من بين أوراقه ليراه؛ ولمحت دلائل الغضب على محياه فتهببت! ولكني استعنت ثانية بابتسامة عريضة وكررت التحية فرفع رأسه هذه المرة ونظر إليَّ قائلاً:(أهلاً وسهلاً يافندم) ثم عاد إلى أوراقه كأني ما جئت إلا لأتبادل وإياه عبارة التحية على هذه الصورة الجميلة ثم انصرف!

وانتظرت برهة، وهو ينقل عينيه من هذا الدفتر إلى ذاك، ويكتب هنا كلمة وهنا سطرين، دون أن يخطر على باله أن هناك أحداً يريد التحدث إليه. . . ولعله قد تعود ذلك فما يأبه

ص: 36

لمن يقف أمام مكتبه. ولو ظل هناك إلى موعد الانصراف

وطال انتظاري حتى أوشك أن ينفد صبري، والمرء على أي حال لا يطبق مهما بلغ من حلمه ألا يأبه به الناس في غير داع إلى ذلك. . . على أني عدت فتلطفت وإن كرهت من نفسي هذا التلطف الذي أخذ يسمج كسماجة ذلك الذي لا يريد أن يلتفت إليَّ؛ وناديته باسمه في صوت مسموع ونفسي تحدثني أنه قد يكون بانكبابه هذا على العمل من ذوي النشاط فعسى أن أفيد من نشاطه

وأخيراً بدا له أن يستجيب إليَّ؛ فقال في كثير من التؤدة وعدم المبالاة (نعم يا أفندي) فأخذت أشرح له أمري، ولكنه ظهر كمن لا يعي مما أقول حرفاً وبدا في وجهه التململ والامتعاض ثم مد يده إلى أوراق كنت أعددتها في يدي، فنظر فيها نظرة ثم قال:(لا، دا هناك في المستخدمين عند عزت أفندي). . . . وعاد بعدها قبل أن أدير ظهري إلى ما كان فيه من جسيمات المشاكل

وانطلقت أبحث في (المستخدمين) عن عزت أفندي هذا لأخبره بما قال حسني أفندي الذي في (للشطب) فكان حالي معه كما كان مع سلفه: تشاغل عني وصلف في الرد عليّ، وما كان جوابه سوى أن قال هو أيضاً:(يا فندم موضوعك ده في الحسابات عند مراد أفندي)؛ خرجت من لدنه أسأل نفسي أأخرج إلى غير عودة ن الديوان، فقد آلمني ما ألاقيه وليس في مسلكي ولا في مظهري ما يستأهل هذه المعاملة، أم اعتصم بالصبر فأحظى بالمثول بين يدي مراد أفندي أيضاً؟ وملت بعد تردد إلى الرأي الثاني؛ ولكن مراد أفندي أكد لي أن مسألتي عند حسني أفندي في الشطب وإلا فهو لا يعرف في الديوان شيئاً

ولعله كان بين مراد وحسني ما جعل أولهما ينهض ليذهب معي إلى الثاني، وعدت إلى حسني أفندي في الشطب وبين يدي هذه المرة صاحب ديوانه مثله، وبعد نظرات كريهة رماني بها حسني وبهد مشادة ليست بالهينة بين صاحبي الديوان تبين أن المسألة عند هذا الذي أحالني من أول الأمر على غيره!. . . ولكنه لم ينظر فيها بل استمهلني إلى غد، ولم يسعني، وقد رأيت ما رأيت إلا أن أخرج وأمري لله!

(عين)

ص: 37

‌رسالة الشعر

رَجْعُ أياَّمي. . .

للأستاذ محمود الخفيف

كَنْتَ يا قَلْبُ قَدْ نَسِيتَ الْحَنيناَ

وَتَأَسَّيْتَ عَنْ هَواكَ سِنيناَ

أَخْرَسَ اليَأسُ لحنَ ماضِيكَ دَهْراً

وَأَلِفْتَ الْجَوَى وَعِفْتَ الأ نَيناَ!

تخفقُ اليومَ للِزَّمان الغَرِيضِ

طاَفَ بالدِّفْءِ والسَّعى المُسْتَفِيضِ

خَفْقَةَ الرَّاسِفِ الْجَرِيحِ المُعَنَّى

رَفَّ للِطَّيْرِ بالْجَناحِ المَهِيضِ

هَتَفَتْ في الضُّحَى شوادِي الرَّبيعِ

وكَسَا السِّحْرُ كلَّ وَادٍ مَرِيعٍ

وَجَرَتْ مِنْ أُرْغُوِ لِهِ فَرْحَةُ المَوْ

سِمِ لَحْناً وَهَامَ رَاعى القطيع

لَمَحَاتُ الرَّبيعِ في تَرْناَمِهْ

والرَّخِيُّ الشَّذِيُّ مِنْ أنْسَامِهْ

فَسَّرَ اللَّحْنَ كلُّ مُصْغٍ طَرُوبٍ

بالْمُنَى الضَّاحِكاتِ مِنْ أَحْلَامِهْ

رَفٌّ في لَحْنِهِ شَبَابُ الزَمانِ

وَخَيالُ الصِّبا وَضِحْكُ الأمانِي

وَشَدَا فِيهِ حُبَّةُ فَكَسَاهُ

رَجْع أَحْلَامِهِ أَحَبَّ المعانِي

كلُّ حَيٍّ هَفاَ إلَى أَلْحْانِهْ

ومَعَاني الرِّضاءِ في تَحْنَانِهْ

أنَا وَحْدِي اللَّهِيفُ فُي فَرَحِ الكَوْ

ن الوَحيدُ الغريبُ في مِهْرَجَانِهْ!

أَيْنَ منِّى في الرَّوْضٍ فِتْنَةُ أَمْسِى

أيَّ سِحْرٍ فَقَدْتُ؟ والَهْفَ نَفْسي

أوَ لَيْسَتْ يا قَلْبُ هَذي ربُوعي

وَرُؤَى جنَّتِي وَبَهْجَةُ حِسِّي؟

كلُّ حُسْنٍ أَرَاهُ بَيْنَ يَدَيَّا

هَامِسٌ بالرِّثَاءِ في أُذُنَيَّا

غابَ سِرُّ الجمالِ عَنْ مَوْسِمِ الزّ

هْرِ وَهَيْهاتَ أن يُردَّ عَلَيَّا!

أَسْلَمَتْني نواَضِرُ الزّهَرَاتِ

لِمعَاَني الُّذبُولِ مِنْ خَطَرَاتي

صَوَّحَتْ وَيْلَاهُ خُضْرُ الأماني

وانْطَوَى السَّحْرُ من رَبَيعِ الحَياةِ

أَينَمَا سِرْتُ ذَكَرَتنِي مَآلي

بَعْدَ عَيْشي الغَرِيرِ، هَذِي المجالي

أَيُّ شيء أَخّافُ ثَمَّ عَلَيْهِ

بَعْدَ مَوْتِ المُنَى، وَشِيكَ الزوالِ؟

زَمَنُ الوَرْدِ كَمْ هَفَا لإبايِهْ

أَمسِ قَلْبي وَتاَق بَعْدَ ذَهَابِهْ

كَمْ رَفَفْنَا مِثلَ الفراشاتِ فيهِ

وَنَهَلنَا السُّرُورَ مِن أكوابِهْ

ص: 38

كَمْ غَنِمْنَا الجمَالَ في أَيسحَارِهْ

وَاجْتَلَيْنَاهُ فِي مُتُوعِ نَهارِهْ

وَعَشِقْنَا النَّارَنْج في الروضِ تَسْرِي

نَفَحَاتُ الرَّبيعِ مِن نُوَّارِهْ

وَهَشَشْنَا للِكَرْمِ حَوْلَ الضِّفَافِ

أَرْقَطَ الظِّلِّ، خَافِقَ الألفَافِ

نَاضِر العُودِ، كم تَرَى العَينُ فيه

للِرَّبيعِ الجدِيدِ مِنْ أَطيَاف

زَهْرَتِي فِي الرَّبيع أَنْضَرُ حُسْناً

مِنْ بَوَاكِيرِهِ وَأَجْمَلُ يُمْنَا

وَهَيَ أَشْهَى شّذًى وَأَبْهَجُ بِشْراً

وَاهْتِزَازاً بِهِ وَأَرْهَفُ غُصْنَاً

تُنْقِصُ الوَرْدَ سِحْرهُ وَجْنَتَاهَا

وَسَنَى الكَوْنِ لَمْحَةٌ مِن سَنَاهَا

تَقْطَعُ الرَّوضَ كالفَرَاشَةِ وَثباً

لَيْسَ غيرُ الجَمالِ دُنْيَا مًنَاها

كم حَلَلْنَا عَلَى الضّفَافِ مَقِيلا

وَعَرَفْنَا الُّكُونَ لَحْناً جَميِلا

وَاسْتَرَحْنَا هُنَاكَ حَتَّى تَرَامَتْ

رُقْعَةُ الظّلِّ فانتَهَبْنا الأصِيلا

نَجْعَلُ الصُّبْحَ إِنْ طَلَبْنَا الرَّوَاحَا

مَوْعِداً نَسْتَعِيدُ فِيهِ المِرَاحَا

فتَرَانَا الرّياضُ وَالصُّبْحُ وَسْنَا

نُ سَبَقْنَا إلى الشّثرُوقِ الصَّبَاحَا!

إنْقضَى الحُلْمُ فيِ ظِلَالٍ وَوَرْدِ

أنا ذا اليومَ أَثْقُلُ الخطْوَ وَحْدِي

أَوْحَشَتْ جَنَّتيِ وأضحت رؤاها

وشذاها البَهيجُ مَبْعَتَ وَجْدِي

كم حَوىَ اليَوْم كَلُّ وَادٍ عَشيِبِ

مِنْ طُيُوفٍ تَلجُّ فِي تَعذيِبي

يُوجعُ النَّفْسَ فيه مَرْأَي خَلِيٍّ

وَمُحِبٍّ يَصْغِى به لِحَبيبِ

قّدْ تَوَلّى بَعْدَ الثّلاثينَ عامُ

فيمَ يا قّلْبُ هّذِهِ الأوْهَامُ؟

أَيُّها القَلْبُ لَمْ تَعُدْ طِفْلاً

فِيمَ تَصّبو؟ هَلْ تَنفَعُ الأحلامُ؟

(الخفيف)

ص: 39

‌وحي الطبيعة الغربية

النبع المتدفق

(زار الشاعر نبع (إيفيان) بفرنسا فأوحت إليه هذه الزيارة

العابرة بهذه الأبيات)

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

تَدَفقْ على جانبِ الصَّخْر ماَء

وَطُفْ بالعِطاشِ وَرَوِّ الظَماَء

وَفِضِ فِضَّةً أين منها النضارُ

إذا لاح في صُفْرة أو تراءى

ورأيتُ لديكَ مراضَ الجسوم

وقد عقدوا في يديكَ الرجاء!

يعزُّ عليهم شفاءُ الطبيبِ

فيلتمسون لدّيكَ الشِّفاَء

تعالى الذي بثَّ فيكَ العلاج

وَأوْدَعَ في قطرتيكَ الدَّواء. . .

وبعضُ الصُّخوِرِ على عُنفها

تَمدُّ إلى الظامئين الرِّواَء

وتعطى بلا كبرياءِ الغَنِيِّ

وفي الناسِ ما أكثَرَ الكبرياَء!

تدفّقْ فإِن قلوبَ الأنام

دماءٌ. . . ولكن تحب الدماَء

قسونَ فكنَّ كبعض الصخور

جموداً وزدنَ عليها الرياَء. . .

لقد أحكموا سَتْر سَوَْءاتهم

وخاطوا لها من نفاقٍ كِساء. . .

يُزَحْرِفُ كذَابُهُمْ في الكلام

ويَرمى بآفاتِه الأبرياَء. . .

تدفّقْ فإن معانِي الحياة

نَضَبْن وأصبحن فيها هباَء

تدفقْ، كفكر الشُّجاع الجريءِ

يُشعُ على الآخرينَ الضِّياَء

تدفق، كحدِّ الحُسام الحديدِ

إذا زاد في كل هولٍ مضاء

تدفق هناكَ صفاءً فإنا

عدمنا بتلك القلوبِ الصَّفاء. .

وكيف يُصّفَّى سليلُ التراب

وقد كان بالأمسِ طيناً وماَء؟

محمد عبد الغني حسن

ص: 40

‌الأدب في أسبوع

الربيع

أَيَّامُهُ كالغِيدِ، نَضَّرَها

تَرَفُ الصِّبا وَغَضَارةُ الحبِّ

زُهْرُ نَوَاعِمُ في نَضَارَتِها

سَحْرُ الحَياةِ وَفِتْنَةُ القَلْبِ

تَمْشي بأَنْفَاسٍ مُعَطَّرَةٍ

تُحْيي بِرَيَّا الحُبِّ أَوْ تَسْبي

تَنْسَابُ في الصَّبَوَاتِ عَاِبثَةً

عَبَثَ الدَّلَالِ بِرِقَّةِ العَتْبِ

وَتَدَبُّ في الأرْوَاحِ نَشْوَتُها

هَفَّافةً، نَفَحَاتُها تُصْبِي

عَطرُ الحَبِيبِ عَلَى نَسَائمَهاَ

يُذْكِى غَرامَ الهائمِ انصَّبِّ

تُدْنِى إِلَيْهِ خَيَالَ مَمتَنَعِ

بالدَّلَِ، مُبْتَعِدٍ عَلَى القُرْبِ

وَتُرِيحُ أَشْوَاقاً مُعَذّبةً

ظَمْآي، بلَذَّةِ مَنْهَلٍٍ عَذْبِ

هّذّا رّبيعُ النَّاسِ، واحَزَني،

وَرَبيعِيَ الأشْوَاكُ في قَلْبِي!

أَغْضَي شَبابي في مُلَاوَتِهِ

كالشَّيْخِ تَحْتَ عَمائمِ الشَّيْبِ

وَدَلفْتُ بالأيَّام مُتَّئِداً

حُمْلْتُها خَطْباً عَلَى خَطْبِ

أَمْشِي بأفْكاَرٍ مُحيَّرَةٍ

بالشَّوْقِ آوِئةً وبالرُّعْبِ

هَذَا شَبَابي، سَائرٌ أَبَداً

برَبيِعِه في مْقْفِرٍ جَذْبِ

أَحْيَا الشَّبابَ رَبِيعُ حُبِّهمُ

- نَعِمُوا بِهِ - وَأَمَاتَنِي حُبِّي!

(شاكر)

الرأي العام

كتب الأستاذ (الزيات) في العددين الماضيين من الرسالة كلمتين جليلتين، إحداهما عن (التبشير) والأخرى عن (فقهاء بيزنطة): أي فقهاؤنا وعلماؤنا. وهما تنزعان جميعاً إلى بيان أصل واحد، وهذا الأصلُ هو غفلتُنا وإمهالنا، ثم غثاثة آرائنا وضآلتُها؛ وهذه مردّها إلى عِلل كثيرة قد توغَّل داؤها في أعصاب الأمم الإسلامية، حتى صار الدواء لها باطلاً أو كالباطل، وذلك لغلبة الجهل علينا، وفي الجهل العناد، وفي العناد المكابرة، وفي المكابرة اللجاجة، واللجاجة أمٌ ولودٌ كل أبناءها أباطيل، ومنْ طلب علاج الأباطيل وتِرك أمهاتها

ص: 41

تَلدِ، فقد جعل علاجَه باطل الأباطيل

وهذه الأمة المصرية وسائر الأمم الإسلامية قد خضعت من قرون طويلة لسيطرة الجهل وبغيه، وامتدت عليها حقبٌ طويلة أظلتها بالغفلة والنسيان والموت، وحجبت دونها شمس المعرفة ونور العلم، حتى انحنت على أساطير التراب تجدُ فيها كل معاني الفكر والعقل والقوة، وصار همُّها الأرض وما تنتج مما يكفي شهوات النفوس المستغلة باللذة، أو يردُّ مسغبة النفوس المحطمة بالعمل. ثم جاءت الذئابُ الذكية العاقلة المدّبرة، فعرفت صيدها وقالت له: أعمل عَملك، فهذا طريقُك، ولكنها خشيتْ أن تتمزّق الظُّلَلَ وتسقطَ الحُجُب، وتهبَّ تلك القوة العلوية الرابضة في دمِ الإنسان، فترى أشواقَها فتندفع إليها اندفاع الوحش المجوّع في مَهوى الريح التي تحملُ أنفاسَ فريسته، وعندئذ تعجزُ الحيلة في دفع هذه القوة وردّها إلى ما كانت عليه تحت أطباق الخمول والخمود والغفلة. وعمٍلَ ذكاءُ الذئاب عمله، ورأي أن قمع القوة العلوية بالاستبداد والفجور في الاستبداد هو الشر عين الشر، وأنه كقمع البخار في قماقم الحديد ومن تحتها جاحم من النار يتضرم، فما يعقب إلا الانفجار والتصديع والأذى. فنكبوا عن ذلك إلى تصريف هذه القوة العلوية حين تستيقظ في هذا الشرق تصريفاً يكفل لهم معها أمرين:

الأول التنفيس عن هذه القوة، واتخذوا لذلك أبرع الأساليب، فحاولوا أن يظهروا وكأنهم هم الذين يعملون على إزالة غشاوة الجهل عن العيون المحجبة، فأنشئوا المدارس وتلبَّسوا بالنصيحة للتعليم في معاهدة كلها، وجعلوا خلال ذلك يضعون ويقرون أصولاً تؤدي بهم إلى أغراضهم، ليسيروا بالتعليم إلى حالة ترضيهم وتنفعهم، فلا يخرجون من هذه المعاهدة جيلاً يقف أمامهم كما تقف القوة للقوة وكما يناهض العقل العقل؛ ثم يزاحم في إنشاء الحضارة بالقوة العاملة والفكر المبدع

والأمر الثاني: وهو بناء على ذلك البناء، وذلك اجتهادهم - بكل أساليب التنبيه والدعاية والمثال وغير ذلك - في توجيه الرأي العام في نواح بعينها إلى العصبية الفردية والإجماعية، ثم صرف هذا الرأي العام - أي أهله - عن الاهتمام بتقرير الأصول العامة التي تسير عليها السياسة الخلقية والعقلية والإنشائية والعملية؛ وعن العمل في توحيد الرأي العام للشعب توحيداً يكفل للأمة أن تستغل كل قواها في تدبير المستقبل على نظام ثابت

ص: 42

مستقر ماض على أسبابه إلى النهاية غير مختلف ولا متنافر

وقد كان من نتائج هذين الأمرين العظيمين - حين استيقظنا وأبصرنا - أن تعددت الثقافات في الشعب الواحد، وتنابذت العقول على المعنى الصحيح، واختلفت المناهج المفضية إلى الغايات، وعاون ذلك ما ورثناه من الجهل الداعي إلى العناد والمكابرة واللجاجة؛ فاستشَرى داء العصبية وأصبح العمل عندنا لا يكون عملاً حتى يحاول أن ينقُض كل ما سبقه من العمل، وتعاقبت على الأمة أطوار بعد أطوار ولا نزال في عهد الإنشاء، ولا تزال اللجان تجتمع عاماً بعد عام لتقرر وتضع، وليس إلا التقرير ولوضع وحَضَانة المذكرات!!

وكذلك احتل نظام الرأي العام، وهو لا يكون إلا من اشتراك الجماعة في الأصول الثقافية كلها، واختَل أيضاً مكوَّن الرأي العام، وهو الصحافة وما ينزل في ذلك منزلتها، فتكَون من الصحف المختلفة المبادئ آراء متخالفة، لا بل متباعدة، لا بل متعادية؛ كلا بل هي في الواقع لا تمس جوهر حياة الشعب العامل المستَهلك في الزراعة والصناعة والجهْل أيضاً. . . وحتى لا نجد صحيفة واحدة قد بَنَتْ دعوتها على أصولٍ بينة موافقة لحاجة هذا الشعب، وعلى هذه الأصول تأخذ وتدع، وتحبذ وتنقد، وتهدم وتبني، على تعاقب السنين وتغير الظروف والأحوال

التبشير

وأحدُ الأمورِ التي ابتُغىَ بها العملُ على إضعافِ الشعب والتفريق بين أهله، وإيجادُ ضروب من الثقافات في بلد واحد يجب وجوباً قطعياً - كما يقولون - أن تتوحد ثقافته - هو ما اتخذوه من التبشير ومدارسه المختلفة، وما يبطن أصحابها وما يظهرون. وليس التبشير هو الدعوة الصريحة إلى الدين المسيحي، فإن هذا لا يمكن أن يكون في بلد جل أهله من المسلمين، وخروج المسلم من دين الإسلام إلى دين غيره يكاد يكون مستحيلاً في العامة من الشعب، ويكاد لا يصح عند المتعلمين وأشباه المتعلمين. وهذه حقيقة يعرفها المبشرون قبل أن يعرفها المسلمون، وإذن فليس الغرضُ من التبشير هو المفهوم من لفظه، ولكنه الذي أشار إليه الأستاذ (الزيات) في مقاله، ثم إيجاد ضرب من الثقافة الأدبية والخلقية والعقلية يناقض ضروباً أخرى من الثقافات المختلفة في مدارس الأجانب والمدارس الوطنية، وبذلك تتعدَّد المناهج الفكرية في حياة الشعب، ويعسر بعد ذلك أن تتحد

ص: 43

هذه الثقافات على رأي عام يقوم عليه الشعب ويحرص على تنفيذه، ويأخذ في الإعداد للوصول إليه درجة بعد درجة. وكذلك يبقي الشعب إلى النهاية وهو بدء لا ينتهي وفي اختلاف لا ينفضُّ، بل يصير ولابد إلى المعاداة والمنابذة والأحقاد التي تورثها السياسة الاجتماعية الخفية التي طغت على الشرق من قِبَل حضارة قوية باهرة عظيمة كالحضارة الأوربية

ولا يزال أهل الشرق مختلفين ما بقيت هذه الثقافات المتعددة من مدارس التبشير إلى المدارس الإلزامية، تمد الرأي العام بأصحاب الآراء المختلفة والعقول المتباينة. ولن يصلح أمر هذا الشعب حتى يناهض ذلك كله بانصرافه إلى مدارسه ابتغاء توحيد ثقافته على أصل واحد. والأصل الضعيف الموحد في ثقافة الشعب خير وأنفع من الأصول المتعددة القوية، لأن هذه تغري بالتفرقة والعداء، وذلك يؤلف ويوفق ويضم أشتاتاَ ويقيم القلوب على الإخلاص والتفاهم

فقهاء بيزنطة

وهذا مثل جيد ضربه الأستاذ الزيات لاختلاف عامة المسلمين على بعض أحكام الفقه الإسلامي والسنة النبوية، وبغي بعضهم على بعض في ذلك، وتركهم الأصول الإسلامية التي ترفع المسلم إنسانية فوق إنسانية، وتمحِّصه من الجهل والضعف والفساد والذلة. وكيف يختلف علماء المسلمين على فروع من دينهم ويدعون الأصل لا ينفذ نوره إلى قلوب هذه الملايين من المسلمين، فيطهر أدرانها ويزيل غشاوة العمى التي ضرب عليهم أسدادها.

وضرب الله مثلاً فقال: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على العالمين. وآتيناهم بينات من الأمر، فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ثم جعلناك على شريعة من الأمر، فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون).

فقد بين الله سبحانه أن اختلاف من سبقنا لم يكن إلا بغياً من بعد أن جاءهم العلم، وأنه جعل المسلمين على شريعة من الأمر وحق ذلك ألا يقع الاختلاف بين المسلمين إلا في رأي لا يفضي إلى فرقة، وعلى ذلك كان السلف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعوا قوله:(لا تختلفوا فتختلف قلوبكم)، وقد نهى عن الجدل والمراء وتناهي

ص: 44

أصحابه عنه حتى قال ابن عمر: (لا يصيب الرجل حقيقة الإيمان حتى يترك المراء وهو مُحِقّ)

ونحن قد صرنا الآن إلى زمن قد غلبت فيه بدع كثيرة ليست من الدين ولا تنزع إليه، ولكنها من محدثات الأمم وفتن الأهواء. ونحن أيضاً في زمان ضعف وقلة وتفرق، والأمم من حولنا تتباغى على أنفسها وعلينا، فما يكون اختلافنا على البدع والمحدثات وبغي بعضنا على بعض، ومصير ذلك كله إلى العداوة والبغضاء وأن يكفر بعضنا بعضاً - إلا إعانة لهؤلاء على النيل منا ما شاءوا. ثم نحن في زمان جهل بالدين، فليس من أمر الله أن ندع أصل الدين مجهولاً، وننصرف إلى فروع نحاول على إبطالها أو تحقيقها

وقد روي البخاري: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرءوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا عنه)، فإذا كان من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحسم أصل الخلاف بترك مجلس الخلاف في القرآن وهو أصل الإسلام كله، فأولى أن نقوم عن مجلس الخلاف في فروع وسنن، لئلا يفضي ذلك إلى مثل الذي نراه بيننا اليوم من التعاند على بعض السنن بالعداوة، حتى صار لكل صاحب رأي فريق يحامي دونه ويعادي عليه، ثم يقع بعضهم فيما هو أشد نكراً من أصل الخلاف، ألا وهي الغيبة والتفريق بين المسلمين

سياسة الإسلام

والإسلام في بنائه قائم على مصلحة الجماعة، وجعل المسلمين يداً على من سواهم، وأن يكونوا كالبنيان يشد بعضه بعضاً. وهذه مصلحة مقدمة على كل المصالح الأخرى، وهي مقدمة على فروع الفقه الإسلامي، كما قدم الجهاد في سبيل الله على كل عمل من أعمال الإسلام

والإسلام في أصله أيضاً لا يعرف من نسميهم اليوم (رجال الدين) فإنما هم من المسلمين يعملون أول ما يعملون في حياطة الجماعة وإقامة كيانها الاجتماعي والسياسي بالعمل، كما يعمل فيه سائر الناس في وجوه العيش وضروب البناء الاجتماعي. وليس الانقطاع للجدل في الفقه والسنن والتوحيد عملاً من أعمال الحياطة إلا أن يبنى على المسامحة والأخوة والرضا وترك اللجاج والمعاندة، وإلا فهو شرٌ كبيرٌ يجب على المسلمين أن يحسموا أصله

فإذا استقرَّ البناءُ الاجتماعي للأُمم الإسلامية على أصولِ الإيمان المُبِصر والتقوى الهادية،

ص: 45

وتبرأت النفس والقلوبُ من غوائل الضعف والذّلةِ والخُضوع، وقام على الأمم الإسلامية قرآنُها يَهديها، ويُهذِّبُ شُعوبها، ويرقِّق أفئدتها لدين الله، ويؤلف قلوبها على إعلاء كلمة التوحيد، ويجمعها على دستور الإسلام في التشريع الواضح الحازم القوي، ويجعل الاجتماع في كل بلد إسلامي اجتماعاً بريئاً من فتن الغواية ومحدثات الشر، ثم تكون للمسلمين حضارة من أصل دينها تضارع الحضارات التي تناوئ شعوبها وتستذلها، - إذا كان ذلك كله - فعندئذ يستطيع الحكم الإسلامي أن يرد ما يبقي من البدع التي غلبت على أهل الجهالة بالسلطان الحاكم لا بالكلام المفرق بين الناس وإذن فأجدرُ العملين برجال الإسلام من أصحاب الفقه والشريعة والتوحيد أن يعملوا على إنقاذ المجتمع الإسلامي من أسباب ضعفه بهدايته بأسباب القوة الأخلاقية والفكرية التي جعلت المسلمين في ثمانين عاماً سادة حاكمين على الإمبراطورية التي جاهد الرومان في بنائها ثمانمائة عام. . . وإلا فلن يكون بعد مائة عام محمل في حج ولا محراب في مسجد

محمود محمد شاكر

ص: 46

‌رسالة الفن

تأملات في الفن

في معرض مختار

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

كان الزوار جميعاً في ركن ملتفين حول هدى هانم شعراوي، وسيدتان مفردتان في ركن آخر تحومان حول التماثيل، إحداهما من أصحاب المعرض تشرح للأخرى الزائرة، فعرجت إليهما ووقفت على مقربة منهما أدعى أني أنظر في تمثال، بينما أنا أتسمع إلى ما تقولان، لأرى كيف تتحدث السيدات عن التماثيل. . .

ووقفنا أمام تمثال (المنجد). . . الزائرة تنظر إليه في حيرة كأنها تخاف أن تظهر الإعجاب به، بينما يكون هو مما لا يستحق الإعجاب، وتخاف أن تزدريه، بينما يكون هو من روائع المعرض فوقفت الزائرة ساكتة كأنها مستغرقة في تأمل التمثال، وكأنها ممن لا يتسرعن إلى إصدار الحكم على الأشياء لغرام عندها بالتحقيق والتدقيق، وتقليب أوجه النظر، واستقصاء المحاسن والعيوب، كيلاً يكون حكمها آخر الأمر إلا الحكم الفصل الذي لا يقبل النقض

ورأت صاحبتها أنها لو انتظرتها، حتى تقول كلمة في المنجد أو تعبره من غير كلام، فإنها قد تقضي الدهر واقفة مع زائرها وهي تمثال آدمي لطيف أنيق (أريستكرات)، ينظر إلى تمثال من حجر متواضع ديمقراط. . . فقطعت صاحبة المعرض هذه السكتة الباردة وقالت:

- مدهش التمثال. . .

. . . فبلعت الزائرة ريقها لأنها سمعت كلمة خرجت من فم صاحبتها وفي نبراتها معنى التأكيد فأدركت أن هذه الكلمة حكم على التمثال، ولكنها لم تلبث حتى زاغت روحها مرة أخرى كأنها لم تفهم ما إذا كانت كلمة (مدهش) هذه مدحاً للتمثال أو ذماً، وكادت روحها تتكاسل وتقنع بهذا الزيغ فتظل في التيه الذي انتقلت إليه حتى تستدرجها صاحبتها إلى عالمنا هذا بكلمة أخرى. . . غير أن الله ألهمها أن كلمة (مدهش) هذه قد مرت بها قبل ذلك فقلبت عينها في محجريها فاستدارتا فبان بياضهما وحده، واتجه إنساناهما إلى داخلها

ص: 47

يفتشان في أعصابها وحنايا نفسها عن كلمة (مدهش) هذه ما معناها. . . وأخيراً اهتدت، وظهر عليها أنها ذكرت، وأغلب الظن أنها ذكرتها بمجلة من المجلات العصرية التي تكتب أنباء الطبقة الراقية فقد خدمت هذه المجلات اللغة العربية إذ حملت بعض كلماتها إلى أهل الطبقة الراقية هؤلاء. . فلها الشكر. . .

وكأن صاحبة المعرض أدركت أن زائرتها قد فهمت أخيراً أن هذا التمثال مدهش، ولكنها إلى جانب هذا أدركت أن هذه الزائرة الصغيرة، لا تزال تريد أن تعرف لماذا كان هذا التمثال مدهشاً، فأسرعت وقالت:

- إنه مدهش لأنه ولأنه حلو. . .

. . . وكانت صاحبة المعرض تستطيع أن تقول (بسيط) و (جميل) ولكنها خشيت ألا تفهم الزائرة من كلامها شيئاً، وهي زائرة عليها مظاهر اليسار، وأمثالها وحدهن هن اللواتي يشترين التماثيل ليضعنها في الصالونات لتكون موضوعاً لحديث الزائرين والزائرات ومجال الإشارة إليهن والتنويه بهن في الصحف والمجلات. . .

وانتقلت الزائرة من أمام تمثال المنجد إلى أمام تمثال بائع العرقسوس وهو تمثال كبير في الحجم الطبيعي وقد صنعه صاحبه من الورق المقوى صناعة اهتم فيها بمظهر التمثال وملابسه وأدواته اهتماماً كبيراً

ورأت الزائرة ألوان التمثال فانبهرت، وكأنها قالت في نفسها لابد أن يكون هذا التمثال هو بطل المعرض فليس غيره تمثال مزوق منمق لابس ملابسه كلها، وليس ينقصه إلا أن يمشي في المعرض يبيع للناس مما يبيع. . . وهنا تفتفت في رأس الزائرة مسألة جديدة هي هذا الذي يبيعه الرجل. . . الورقة مكتوب عليها بائع العرقسوس، ولكن ما هو العرقسوس؟. . . بنات الطبقة الراقية لا يعرفن العرقسوس!. . . فسألت صاحبتها:

- دي جيلاتي. . .؟!

وصدمني هذا السؤال فضحكت، وشعرت الزائرة بأني أضحك ساخراً منها فاصطنعت السعال وأرادت صاحبة المعرض أن تنقذ زائرتها فرطنت إليها بالفرنسية كلاماً قد يكون معناه: لا تعبئي بهؤلاء الشعب. وأدركت أني إذا وقفت بعد ذلك على مقربة منها أو تبعتها فإني سأفسد الشغل على المعرض وأصحابه، وأنا من أول الأمر لا فائدة مني للمعرض ولا

ص: 48

نفع فلا أقل من أن أكون غير ذي ضرر. . فانتحيت جانباً أفيض حسرة على متابعة هذا الحديث الشهي الدائر بين هاتين السيدتين. . . أريد أن أسمعه إلى آخره وأن أعتصر كل ما في أسئلة الزائر من بله، وأن أستمتع بكل افي أجوبة صاحبتها من صبر وسخرية. . .

ولكني ابتعدت مجاملاً، وعدت إلى تمثال المنجد عساني أرى فيه شيئاً أكثر مما أشارت صاحبة المعرض لزائرتها. . .

التمثال يمثل شاباً مصرياً منجداً في جلباب قاهري لعله كان من (الزفير) أو (العبك)، وهو جالس على الأرض جلسة المنجدين وفي يده القوي يضرب به القطن. . . وقد كتب عليه أنه من صنع الآنسة جلاديس بولاد وأنه نال الجائزة الأولى

التمثال كله مصنوع بمهارة وحذق ولباقة ورقة، وهو منسجم مستريح سليم لا عيب فيه إلا شيء واحد فقط. . . ذلك أنه إذا أقسم لي أهل الأرض وأهل المريخ بأن الآنسة جلاديس قد نقلت هذا التمثال عن شاب منجد حقاً فإني أصر على رفض هذا القسم ممتنعاً على الاقتناع به. وإنما وجه هذا التمثال منقول عن وجه شاب يخيل أليّ أنه من بيئة مهذبة تهذيباً عالياً، ما يخيل إلى أنه نفسه من المفكرين الذين لا يفتأون يحاسبون أنفسهم ليلاً ونهاراً ويتأملون في كل ما يسنح ويعرض لهم من البوادي والظواهر، كما أني أرى فيه ما هو أعمق من هذا وأشد انطباعاً في نفسه، ذلك أنه لابد أن يكون ذلك الشاب الذي نقل عنه هذا التمثال عاشقاً مدلهاً معذباً أنكسر قلبه من الحب وهو يمسك بعقله خشية أن ينكسر هو أيضاً. . .

كل هذا ظاهر في ملامح الوجه الذي ربط على جسم هذا المنجد، فإما أن يكون هذا التمثال منقولاً عن شاب لا صلة له بالقوس ولا بالقطن، وإما أن يكون هذا المنجد من قراء الدكتور غالي الذين يدوخون في تفهم النسبية والإلكترونات وما إلى ذلك من المصاعب، على أن يكون هذا القطن الذي (ينجده) قطن معشوقته التي ستزف إلى منافسه في الغرام. . .

وعلى وجه غير هذين الوجهين لا أستطيع أن أفهم هذا التمثال ولا أن أستسيغه، فأيهما كان هذا الشاب صاحب هذا التمثال؟ على أي حال إن هذا أمر لا يعنينا وإنما يكفينا أن نلمح هذا اللون أو ذاك من الحياة في التمثال، فليس لنا عند الفنان أكثر من أن يسقينا شهده، وليس لنا عليه أن يكون هذا الشهد ما نعرف أو مما سبق لنا أن ذقناه. . .

إنه (منجد) رأته هكذا الآنسة جلاديس بولاد. . . ولها أن تفخر بأنها رأت شيئاً وبأنها تحس

ص: 49

وتدرك ثم تعبر عما تقف أمامه زائرة كالتي رأيناها لا تعرف الفرق بين بائع الجيلاتي وبائع العرقسوس. . .

انتهيت من هذا (المنجد) ونظرت يمنة ويسرة فلفتني تمثال لغجرية تبين (زينا) لامرأتين قرويتين استند إلى كتف إحداهما طفل. . . كنت على بعد خطوات من التمثال أراه ولا أرى تفاصيله وملامح وجوهه، فجذبني إليه (موضوعه) واقتربت منه أبحث عن فعل لفنان فيه، فالغجرية امرأة لها عقل أبرع من بقية العقول، ولها نظرات أنفذ من بقية النظرات، ولها إشارات أكثر امتلاء بالمعاني من بقية الإشارات، والنسوة اللواتي يجلسن إلى الغجرية يستفتينها في شؤونهن لسن هادئات ولا نائمات، وإنما تثور في نفوسهن رغبات، وتصطرع فيها آمال، وتتخبط فيها نزوات ولواعج، والصبي الذي يستند إلى كتف أمه ويقف يسمع الغجرية تحدثها لا يمكن أن يخلو من الفضول وحب الاستطلاع، ولا بد أن يظهر في وجهه تفرس يتتبع به هذا الكلام العجيب الذي يسمعه والذي يحسه لا يشبه غيره من الكلام. . .

دنوت من التمثال لأرى فيه هذا كله فماذا رأيت؟

رأيت الغجرية نائمة والمرأتين ناعستين والصبي المستند إلى كتف أمه شارد الروح. . . بل إن شارد الروح يدل على نفسه، فيعرف الناظر إليه أنه قد سرح إلى دنيا غير هذه الدنيا، فهو موجود فيها، وإن كان مفقوداً في دنيانا. . . أما هذا الطفل، فقد ظهر عليه أنه ابتلع روحه، فهي في بطنه محبوسة لا تكسوه حياة الأرض ولا تنتقل به إلى حياة أخرى. . .

كان هؤلاء الجماعة أشبه الجماعات بتلاميذ المدارس في لحصة الخامسة بعد أكله العدس. . . متهافتين إلى النوم، متبلدين عن الفهم، ولم يكن فيهم ما يكون في غجرية وجماعة مصغين إليها. . . فكسف دخل هذا التمثال هذا المعرض؟ وأي شيء فيه أغرى المعرض بعرضه؟. . . هذا ما يعلمه الله وما يعلمه أولئك الذين يقولون: إنهم يشجعون الفنانين الناشئين. والذين أريد أن أقول لهم: إن تشجيع الفنانين الناشئين لا يصح أن يكون على حساب الفن، ولا يصح أن يتعدى حدود التشجيع إلى أن يكون تحريضاً على الفن، وإكراهاً له أن يخضع ويذل لمن لا يكرمه ويفسح له روحه ونفسه. وهذه كلمة شديدة لا أريد منها إلا أن تحفز صاحب الغجرية على أن يمعن في التأمل إذا تأمل وأن يثابر في تجويد التعبير

ص: 50

إذا أقبل على تمثال جديد، فإذا لم يجد في نفسه القدرة على ذلك استرزق الله عملاً آخر غير الفن. . .

وبدأ الزحام الذي كان محيطاً بهدى هانم شعراوي في الركن البعيد ينحل قليلاً قليلاً، فقصدت إلى ذلك الركن فكان أول ما استرعى نظري فيه تمثال آخر صغير لبائع العرقسوس حسبته أول ما رأيته أنه من صنع آنسة أو سيدة لما رأيت فيه من حنان وإعجاب ذاعا في تكوينه ونحته، وتفصيل جوارحه تفصيلاً لا يمكن إلا أن يكون استجابة لطرب كانت ترقص به اليدان اللتان نحتتا هذا الجسم الفارع المشرق الأنيق. حسبت هذا ولكنني علمت أنه من صنع شاب هو سيد زيدان، فهنأته به ولم أكتم عنه ما خطر لي فابتسم في استحياء كمن لم يكن يحب أن يقال له كلام كهذا، ولكني هونت عليه بأنه لا حرج على الفنان الرجل أن يعجبه جمال الرجال. . . وإني أعتقد أنه لو كان زيدان قد اهتم بوجه تمثاله هذا على نحو ما لكان قد عرض إلى جانب هذا الجسم الحلو وجهاً فيه شيء ما نذكره له إلى ما ذكرناه من جمال البدن في تمثاله، ولكنه استغرق في الذراعين والساقين والكتفين، وغير ذلك واكتفى بذلك. . .

واكتفيت أنا أيضاً وهممت أن أنصرف، لولا أني رأيت عبد السلام الشريف ينطلق إلى تمثال (عازف الربابة) ليقرأ اسم صاحبه فقرأت الاسم معه وسألته رأيه في التمثال وصاحبه فقال: التمثال بديع وصاحبه أحمد صدقي مثال محسن

وعبد السلام الشريف فنان في الصف الأول من الفنانين المصريين، له أسلوب في الرسم والزخرفة لم يسبقه إليه إنسان، وقد أحدث القارئ عنه في فرصة قريبة، وفنان هذا شأنه لا بد أن يكون لشهادته قيمتها. والحق أن تمثال العازف على الربابة تمثال بديع ولو أنه لم ينل جائزة، وميزته أنه منحوت على المنهج الفرعوني وفق الطريقة التي أحياها المرحوم مختار، ومع هذا فإن صاحبه احتفظ (بقاهريته) في وجه التمثال فلم ينحته عن واحد من أبناء الصعيد أو أبناء الريف، وإنما صوره وجهاً قاهرياً فيه تأنق القاهريين، ولطربوشه ميلان التأنق الذي يصطنعه أبناء القاهرة، ولشاربيه انتظام شواربهم وإحسان تنظيمها

ولا ريب أن هذا التمثال كان أحق بالجائزة من التمثال الذي نال الجائزة الثانية، ولكنهم قالوا لي: إنهم منحوا الجائزة الثانية لآنسة متعمدين كي يشجعوا الجنس اللطيف على غزو

ص: 51

ميدان الفن

وأنا منذ اليوم أنذرهم بان ليس في الجنس اللطيف هذا أمل كبير في الحصول على فن من صنع يديه، فعليهم في المسابقات المقبلة أن يراعوا الحق فذلك خير.

عزيز أحمد فهمي

ص: 52

‌رسالة العلم

في بيوت النمل

للأستاذ أحمد علي الشحات

ما من حشرة أكثر انتشاراً على سطح المعمورة من النملة، وقد يبدو عجيباً أن تستطيع هذه الحشرة الصغيرة أن تهيئ نفسها للأجواء والبيئات المختلفة؛ فكما أنها تعيش في أوربا تعيش كذلك في أفريقية - وفي الجبال والأودية، وفي الغابات والصحارى، وعلى شواطئ الأنهار والبحيرات. وقد أحصى العلماء ستة آلاف نوع من النمل تختلف في الحجم والشكل والعادات واللون، فمنها ما لا يزيد طولها عن ملليمتر ومنها ما يصل طولها إلى بوصة. ومنها الأسود والأحمر والبني والأصفر والأخضر وما تضاربت وجهات نظر العلماء كما تضاربت في تعليل عادات النمل ونشاطه وهل مصدرها التفكير أم الغريزة؟

والنملة في الاجتهاد والمثابرة يضرب بها المثل. فمن الهزيع الأخير من الليل إلى غروب الشمس تظل دائبة على العمل في نقل غذائها وتخزينه، أو بناء مأوى لها، وتستطيع أن تحمل ما يزيد على أضعاف وزنها من المواد، فقد أجرى العالم فوريل بعض التجارب فوجد أن النملة تستطيع أن تحمل ما يفوق وزنها ستين مرة.

وقد درس فرولوف وهو عالم روسي يشتغل بدراسة الأحياء بعض عادات النمل، فأتى بصندوق ونزوع أحد جوانبه واستعاض عنه بلوح زجاجي شفاف حتى يشاهد منه حركات النمل، ونزع كذلك السطح العلوي ليدخل الهواء منه إلى الصندوق، ولكنه وضع نسيجاً شفافاً مكانه حتى لا يهرب منه النمل، وسد ما قد يكون من ثغرات دقيقة بمعجون ليضمن عدم خروج النمل، ووضع أمام اللوح الزجاجي ستاراً ليحجب الضوء عنه - وبمجراف ودلو أخذ جزءاً من كوم طبيعي صغير للنم - بما احتواه منه ومن بيض وبقايا نباتات، وما يكون قد وجد فيه غير ذلك - من غابة تبعد ثمانين ياردة عن معمله ووضعه في الصندوق. فلما استعاد النمل هدوءه بعد نقله من موطنه الطبيعي بدأ نشاطه وأخذ ينظم بيته الجديد فخصص مكاناً أميناً للبيض ونقله بعناية إليه، وأقام مما حوله بيتاً منظماً ذا غرف عديدة، وفتحات للدخول وأخرى للخروج، وردهات يجتمع فيها. وظل النمل يومين كاملين يشتغل في موطنه الجديد كأن قد طاب له المقام فيه، حتى إذا ما أقبل الصباح الثالث ورفع العالِم

ص: 53

الستار ليرى النمل، فلشد ما كانت دهشته حين وجد أن ما قد أقامه النمل وتعب في تنظيمه قد دك دكاً، وأن البيت الجديد قد هدمت قواعده فتطرق إلى ذهنه أنه لظروف ما غير ملائمة قد مات النمل ففتح الصندوق ولكن كانت دهشته أعظم حين لم يعثر على نملة واحدة أو بيضة واحدة رغم ما قد اتخذه من احتياطات تكفل له عدم هروب النمل فعاد إلى الكوم الصغير ثانية، فوجد أنه قد أعيد بناؤه ولو أنه لم يبلغ في ارتفاعه ما كان عليه أولاً، فأخذ منه كمية أخرى، وزيادة في الاحتياط طلى ظهر أغلب النمل المأخوذ بلون أحمر ونقله إلى الصندوق فبدأ النمل يعيد سيرته الأولى في البناء والتنظيم ليومين متتالين، إلى أن كل الصباح الثالث فوجد كما وجد في مثيله. البيت تهدم والنمل لا أثر له وكذا البيض، فعاد إلى الكوم الصغير فتملكه العجب أن وجد هناك النمل المطلي على ظهره قد عاد أغلبه إليه؟ أما الباقي فربما كان قد وصل إلى الكوم ثم خرج يبحث عن غذاء، أو قد علك في الطريق، أو لم يصل بعد إلى الكوم، ووجد بعد بحث دقيق بعدسة مكبرة أن النمل قد أحدث ثغرة دقيقة في النسيج الشفاف الذي يقوم مقام السطح العلوي للصندوق ومنها هرب

ولكن كيف اهتدى النمل إلى بيته الأول مع أنه يبعد ثمانين ياردة عن الصندوق وقد حمل حملاً في دلو حين نقل إليه؟ وكذلك ما الذي جعله على عزم أكيد للعودة إلى بيته الطبيعي؟ ففي مرتين يهرب، وكذلك لم حمل البيض معه؟ وإذا كان النمل قد عزم على العودة، فلم كان يشقى كل مرة ويجد في بناء البيت الجديد ثم يهجره بعد بنائه؟ أغلب الظن أن النمل لم يفكر في مثل هذه الأمور، ولكنها الغرائز هي التي دفعته إلى تنظيم موطنه الجديد، وهي التي دفعته إلى الحنين إلى بيته الأول، وهي التي دفعته إلى حمل البيض حفظاً على النوع

ويعيش النمل في جماعات تتكاتف أفرادها في عمل ما ينفعهم كبناء بيت، أو الحصول على زاد وتخزينه، كما تتكاتف في دفع الضر كمهاجمة عدو، فتشتبك الجماعات في معركة يستعر أوارها بسبب القوت غالباً، إذ تتنافس جماعتان في الحصول عليه، فتشتبكان في الملحمة، ومن انتهت رأيت مكان الموقعة، وقد تناثرت عليه أشلاء القتلى، فمن أرجل مبتورة إلى رؤوس مقطوعة إلى أجسام ممزقة. وكثيراً ما تشاهد هذه الظاهرة في النمل الأبيض الذي يعيش في أمريكا. وقد يندفع الفريق الغالب نحو بيت المغلوب ويلتهم البيض. وما العجيب أن الفريق المغلوب قد يتجه نحو بيضه ويشاطر الغالب التهامه بعد أم كان

ص: 54

يحرص عليه حرصاً شديداً

ويختزن النمل غذاء كافياً ليستهلكه في الشتاء، إلا أنه في بيوت بعض الأجناس لم يعثر العلماء على غذاء مخزون للشتاء، كما أن مثل هذا النمل لا يخرج شتاءً للبحث عن غذاء له. وبعد بحث وجدوا أن مثل هذا النمل يكون شتاء في حالة ركود أشبه ما تكون بالنوم. فلا يحتاج في هذه الفترة إلى قوت، حتى إذا لاحت تباشير الدفء في الجو بإقبال الربيع خرج يسعى لرزقه.

وقد توجد حشرات أخرى تشاطر النمل مسكنه وغذاءه، وقد أحصى العلماء خمسمائة حشرة مختلفة تعيش معه نظير أن تقوم ببعض الخدمات كتنظيف البيت، أو إعطاء بعض لإفرازات من جسمها حلوة الطعم كالتي يمنحها إياه بعض أنواع القمل، إذ تضغط النملة بقرني الاستشعار على مؤخر جسم القملة، فيخرج سئل تمتصه. إلا أن بعض الحشرات قد لا ترعى أصول الضيافة وتلتهم الغذاء المخزون للشتاء، عندئذ ينتقض النمل عليها يطاردها وقد يلتهمها

وللنمل أعداء كثيرة أشهرها: (آكل النمل الذي يستطيع أن يبتلع الآلاف منه دفعة واحدة رغم ما يخرج من جسم النمل في فم آكله من سائل حمضي هو حامض النمليك. ويمكن استحضار هذا الحامض كيميائياً من جسم النمل بالتقطير

ويتعهد النمل إحدى يرقاته الصغيرة حين تخرج من البيضة بغذاء خاص حلو الطعم يعرف بالغذاء الملكي. وتصبح هذه اليرقة فيما بعد ملكة على النمل، وهي وحدها القادرة على وضع البيض؛ أما اليرقات التي لا تطعم هذا الغذاء فتصبح ما يسمى (الشغالة) وظيفتها استحضار الغذاء والتنظيف ومهاجمة العدو؛ ولكن لا تستطيع أن تضع بيضاً

وللنمل في سبيل المحافظة على النوع مشاهد عجيبة، فقد أخذ العالم (لوبوك) يوماً نملة من كوم صغير النمل ومعها مئات من البيض ووضعها جميعاً في كأس صغيرة، فما كان من النملة إلا أن استمرت طيلة اليوم ترجع واحدة ثم واحدة من البيض إلى الكوم وقد أخذت هذا العمل المضني على عاتقها بدون مساعدة، حتى أفرغت وحدها الكأس كلها

أحمد علي الشحات

بكالوريوس العلوم ودرجة الشرف

ص: 55

‌أرانب بغير أب

توصل جاك لوب لأول مرة منذ أربعين عاماً إلى طريقة (الإخصاب الكيميائي) أو (التوالد البكري الصناعي) فأثبت ببحوثه المدهشة أن البيض البكر لقنفذ البحر يستطيع بعد غمره في محلول حمضي أو مالح ذي تركيب مناسب، أن ينمو بطريقة منظمة حتى تتوالد منه يرقات تامة التكوين والتماثل لتلك التي تولد من الإخصاب الطبيعي، فاستطاع الإنسان بذلك أن يعتاض بوسائل المعمل عن الإخصاب لطبيعي من الذكر

وبعد عشرة أعوام أجرى العالم البيولوجي الفرنسي الكبير تجربة (التولد البكري الصناعي) على الحيوانات الفقارية، فاستطاع أن يوفق إلى تحديد النمو الكامل للبيض البكر للضفدعة بواسطة تلقيحها بالمادة الليمفاوية أو بالدم، وقد حق بعض هذه الضفادع الوليدة بغي أب هذا الانقلاب ونمت حتى صارت ضفادع طبيعية

وقد عادت هذه النتائج بفائدة جليلة من الوجهة البيولوجية والفلسفية، فقد كان يظن أن هذه التجربة قاصرة على كل حال على الحيوانات الدنيا. وكان يشك في إمكان تطبيق طريقة التوالد البكري على الحيوانات الراقية، فإن البيضة في الواقع عند طبقة الحيوانات الثديية التي ينتمي إليها الإنسان، هي خلية صغيرة لا تكاد ترى بالعين المجردة، ويتم نموها في داخل الأعضاء الأنثوية

ولتحقيق التوالد البكري الصناعي في الحيوانات الثديية، يجب مواجهة سلسلة من العمليات المتناهية الدقة، وهي الحصول على البويضات البكر، ووضعها تحت علاج ناجع دون تعرضها للهلاك، ثم وضعها في رحم مستعد لقبولها، وهذه كلها مجموعة من الصعاب تبدو ذات طبيعة أكثر المختبرين مهارة

إلا أنه يلوح أن العالم الأمريكي (جوبجوري بنكس) قد تغلب على هذه الصعاب، فاستطاع إنماء يويضة الأرنب بالتوالد البكري، وهو كسف عظيم الدلالة، لو أنه كان في وقت قليل الاضطراب لاعتبر كأنه حدث كبير

أخذ ينكس بعض البيض البكر ووضعه تحت تأثر محلول ملح أو حرارة مرتفعة (47ْ) وبعد أن نشطه على هذا المنوال نقله إلى رحم أرنبة أخرى كأن قد أعدها ن قبل في حالة حمل كاذب، أي في الحالة التي يكون للأنثى استعداد لقبول وتغذية البيض، فنما بعض هذا البيض (3 في المائة) بطريق التولد البكري إلى درجة متقدمة في التطور الجيني، بل لقد

ص: 57

أفرخت بيضة منها أرنباً حياً ولد في موعده

ونجاح بنكس إلى هذه الدرجة يذهل، حتى ليصعب على الإنسان ألا يشك في غلطة أثناء التجربة، ولكنه يجب أن نذكر أن هذه النتائج قد أعلنها بيولوجي مشهور أعطى كثيراً من الأدلة على رسوخه الفني، وندين له بأعمال باهرة في تربية بيض الحيوانات الثديية

ولكن من المحتمل على الأقل أن يكون أرنب بغير أب قد رأى النور بفضل العلم، فالعلم لا يتبطل. وقد رأينا التوالد البكري الصناعي لقنفذ البحر في سنة 1900 وللضفدعة في سنة 1910 وللأرنب في سنة 1939. فمتى يكون للإنسان؟

(عن ماريان)

ص: 58

‌القصص

كلاب. . . وكلاب!. . . .

للأستاذ عبد الله حبيب

(إلى هذا الشيخ الجاثم في حفرة بين القابرة كما يجثم العقاب

الهرم، وإلى وحيدته فاطمة الراقدة تحت أطباق الثرى، وإلى

هذه الكلاب التي ترفل في نعيم الدنيا، وإلى الصعاليك من بني

آدم أهدي هذه القصة)

ع. ح

- 1 -

كان البدر يتألق في صفحة السماء، وكان الليل مشرق الجبين فتهلل وجه الطبيعة، وانقشعت غياهب يومنا العابس المطير

وكأن صحو هذه الليلة ولإشراقها قد أشاعا الدفء في الأرجاء فنسينا أننا في ليلة من ليالي الشتاء

وكنت مع صاحبي ليلتئذ - في داري التي اخترتها لسكناي بالضاحية النائية على حافة الصحراء - نطوف بالذكريات في ركب الأيام ومواكب الأعوام، وطال بنا الجلوس فمللنا البقاء وهممنا بالخروج ننشق نسيم هذه الليلة التي تشبه ليالي الربيع، وكنا نسير إلى غير قصد معلوم

قال لي صاحبي:

- ألك في رحلة قصيرة نجتاز بها هذا الجانب من الصحراء إلى تلك القرية الصغيرة عل سيرة ربع ساعة ننعم في خلالها بالبدر يسطع فوق رمالها البيضاء، وبالليل نبدد سكونه بما يحضرنا من حديث؟

وكان تألق البدر في الصحراء يغري بالمضي إلى حيث شاء صاحبي فأجبته إلى ما أراد

ص: 59

ونعمنا في طريقنا إلى القرية بسكون الليل وفتنة القمر ما شاء الله أن ننعم. ثم أراد صاحبي أن نسلك في عودتنا طريقاً أخرى. . .

- وماذا نبغي من هذه الطريق؟

- لنمر بمقابر هذه القرية لعلنا نجد الشيخ الكفيف المسلوب العقل في صحوة من صحواته هناك فأريك منظراً عجباً، وأحدثك حديثاً أعجب من العجب. . .

- شيخ كفيف مسلوب العقل يسكن هذه المقابر وهو حي؟

- أجل، وفي حفرة عميقة تشبه الجب لا يبرحها ليلاً أو نهاراً إلا إذا ثارت ثائرته فنهض منها ينفض عن بدنه وثيابه ترابها، ويمتشق عصاه فيلوَّح بها في الفضاء صائحاً:

كلاب! كلاب. . .

- وما شأن هذا الشيخ؟

- إن أكثر سكان الضاحية يعرفون خبره ومصرع ابنته فاطمة. إنهم يمرون به في طريقهم إلى السوق فيحسنون إليه بإلقاء بعض الطعام في حفرته دون أن يدنو منه أحد. إنه على ضعفه وكبر سنه وذهاب بصره وتخاذل قواه يفتك بمن يقترب منه. إنه يعاف ما يلقي إليه من الطعام فيظل أياماً لا يأكل منه شيئاً، كأنه يريد أن يعجّل في أجله فنأبى عليه الأقدار العاتية إلا أن يتعذب. . .

- وما خطبه صنع الله له؟

وكنا في مسيرنا قد أشرفنا على مقابر القرية، فبدت لأعيننا في وحشة الليل وجلال الصحراء كالأشباح المترامية بين الوهاد والآكام

لزم صاحبي الصمت، وسرت بجانبه مأخوذاً برهبة الموت، فلا هو استطاع أن يسترسل في حديثه عن الشيخ ولا أنا أصررت على أن يجيب

وكنا كلما اقتربنا من هذه المقابر الجاثمة في الفضاء زادت وحشتنا من سكون الليل الرهيب

- 2 -

الآن نحن على حافة الحفرة العميقة التي اتخذها شيخنا المسكين مقراً، وهاهو ذا ملقى على ترابها في ثيابه المهلهلة بغير غطاء، وتلك عصاه التي حدثني عنها صاحبي يقبض الشيخ عليها وهو في غفوته ساكن لا يتحرك، وتلك أنفسه المتقطعة كأنها حشرجة الموت لا نسمع

ص: 60

سواها في وحشة الليل وسكونه

إنه الآن يتململ في ضجته، لقد أيقظه السعال!! - ما أشد وقع هذه اللحظات الرهيبة على نفسي - هاهو ذا يئن متهالكاً على نفسه. . . إنه يعتمد على عصاه فيقف وكأنه ميت قام يجرجر أكفانه. . . وهاهو ذا يتحسس الطريق إلى الأرض المستوية

. . . إنه يمد عنقه، ويتسمع بأذنه، ويتشمم الهواء. كأنه أحس أنفاساً غريبة في جو المقبرة. وهاهو يتمتم بكلمات متقطعة

لقد ابتعدنا عن حافة حفرته حين صعد إلى الأرض المستوية. لكنني غالبت الخوف والرهبة فبقيت على مقربة منه أنظر إلى وجهه على ضوء القمر الساطع. . .

ما أروع هذا الوجه وما أحفله بالأسرار والمعاني. عينان أطفأ نورهما فعل السنين وجبين خطت فيه الشيخوخة سطوراً متعرجة من الغضون والتجاعيد، وأنف أشم أقنى، ورأس ضخم جلله المشيب، وجسم ناحل ضامر

وقف يجمجم بكلمات لا تبين، ثم لم لبث على هذا الحال كثيراً، وكأن قوة عاتية سرت في خذا الجسم النحيل الذاوي، فانتفض كالأسد الهصور يلوح بعصاه ويعدو في الفضاء

كان المسكين يحارب الهواء، وينازل الأصداء، وكنت في هذه اللحظة أحبس أنفاسي، وأتحاشى مواضع جولاته ومطارح عصاه. وكان في هذه الثورة الجارفة يكرر كلمة واحدة بصوت قاصف كالرعد: كلاب!! كلاب. .

ثم خارت قواه وانطفأت جذوة غضبه فراح يتهالك على نفسه ويجر قدميه يتمس مكان الحفرة التي صعد منها، وما زال كذلك حتى أحست إحدى قدميه مكانها فألقى بنفسه فيها فإذا هو جاثم كما يجثم العقاب الهرم لا حركة ولا نأمة

ودنا مني صاحبي - وكنت أستند إلى جدار مقبرة نائية كالمسحور لا أقوى على الحركة أو الكلام - فاجتذبني من يدي لنواصل السير، فمشيت بجانبه مأخوذاً من هول ما رأيت ذاهلاً عن كل شيء. وما زلنا حتى ابتعدنا عن هذه المقبرة وجوِّها المفزع لرهيب، ثم بدأ صاحبي يقول:

- يوم رأيت هذا الشيخ أول مرة تولاني من الفزع مثل ما تولاك. أما اليوم فقد ألفت مرآه، وإن كنت لا أزال أرثى لحاله وأجزع عليه أشد الجزع كلما تذكرت مأساته الدامية. .

ص: 61

- وهل للمسكين مأساة غير ذهاب بصره وعقله وارتمائه في هذه الحفرة بين الأموات؟

- إن هذه الحال الأليمة التي شاهدتها إنهما هي آخر مأساته. أما أولها فهو آلم وأوجع مما شاهدت. . .

- 3 -

. . . ومضى صاحبي يتحدث عن هذا الشيخ فقال:

كان المسكين وجيهاً في قومه وأحد أغنياء قريته، مرموقاً بين أهلها بالتجلة والاحترام، واستنار في صباه بما قرأ من كتب الأقدمين والمحدثين، واستطاع بما وهبه الله من بصيرة نِّيرة وإحساس مرهف مشبوب أن يدرك مقدار ما يعاني فقراء قريته وعمالها المكدودون، وأرَّقه همُّ التفكير في شأن هؤلاء المساكين وما يعانون من ظلم الأغنياء وتحجر قلوبهم، فوهب حياته وماله في سبيل نصرتهم وحثهم على إدراك ما لهم في أعناق أولئك العتاة من ذوي النعمة واليسار، فراح يجمعهم حوله وينادي فيهم بمبادئه السامية. وكان عمدة القرية رجلاً عاتياً ظالماً فجمع لمحاربته كل قواه، وأخذ يكيد له من الجهر والخفاء ويوقع به في كل فرصة. وما زال الرجل يتلقى ضربات هذا الطاغية فيصمد لها مرة ينهزم أخرى حتى أوشك ماله أن ينفذ

وظل المسكين يجالد الأيام ويناضل العتاة من أهل قريته، وينفق من صبابة ماله على مواساة ذوي الحاجة والمعوزين حتى نضب معين ثروته فتنكرت له القرية بأسرها، وشمت به أعداؤه، ونفر من حوله أنصاره الذين أنفق في سبيلهم ماله وشبابه وجاهه. واسترسل عمدة القرية في النكاية به فألب عليه هؤلاء الأنصار الذين نعموا بثروته، واستناروا بآرائه، وجرَّد منهم جيشاً للتنكيل به وإيذائه

وأصبح المسكين؛ فإذا هو في القرية البائس اليائس الذي لا يملك من حطام دنياه غير دار صغيرة لا يفي ثمنها بما هي مثقلة به من الديون

وفي ذات مساء جلس الرجل في داره حزيناً كئيباً يتحدث إلى زوجه الوفية الحنون وينفض بين يديها جملة حاله، وقد جدعت الحاجة أنف العزة، فكاشفها بما آل إليه أمره، وكان يخفي عنها كثيراً مما أصابه من الخيبة والفشل. . .

ورأى آخر الأمر أن يرحل عن قريته تحت ستار الليل تاركاً داره دون أن يشعر بهجرته

ص: 62

أحد، واستقر رأيه على أن بصحب زوجه وابنته فاطمة التي كان قد رزق بها في آخر أيامه

وكانت الأيام قد غالته في بصره، فأصبح كفيفاً يدب على عصاه، وتألبت عليه الكوارث، فألحت علة الصدر على زوجه لوفيه، وأعوزه المال، فلم يجد منه ثمن الدواء!

خرج المسكين في جنح الظلام يحمل بعض الثياب والزاد. . . وخرجت معه زوجه تقوده إلى ظاهر القرية، وابنته الصغيرة تدرج إلى جواره، وهي لا تعرف من شأن هجرة أبيها وأمها شيئاً

وكان قد أجمع الرأي على أن يقصد العاصمة علة بحد بين أغنياءها محسناً كريماً يدفع عنه غائلة الحاجة فيمد إليه يد الرحمة بقية أيامه

وليست العاصمة بقريبة من قريته، فالشقة بعيدة والزاد قليل والبرد قارص، وزوجه المريضة يتولاها السعال، وتقسو عليها علة الصدر. كلما جد بهم السير. . .

لكن الشيخ إبراهيم مجاهد - وهذا اسمه - رجل غالب الأيام وصبر على أذاها، فهو لا يزال رغم ذهاب بصره وماله وشبابه الرجل القوي الشكيمة، وقد أراد أن يصل إلى العاصمة، فلا بد أن يصل. . .

ورأى الشيخ إبراهيم أن يجعل مسيره ليلاً ليتقي بالمسير غائلة البرد، ولكيلا يراه سكان القرى القريبة في غدوهم ورواحهم نهاراً، فظل يسير الليل ويستريح النهار حتى صار قريباً من العاصمة. . .

لكن العلة كانت قد اشتدت وطأتها على زوجه، وأنهك السير وحيدته لطفلة، وهو لا يزال - مع ذلك - يسكب في آذانهما كلماته العذبة الرقيقة يغريهما باقتراب العاصمة ويمنيهما بالراحة الدائمة في كنف المحسنين من سكانها العظماء!!

وكان قارص البرد يوغل في القسوة والشدة يوماً بعد يوم، واحتمال الزوج المريضة والطفلة الناعمة ينفد يوماً بعد يوم. . .

- 4 -

في ليلة من تلك الليالي الجاهدة كان الشيخ إبراهيم وزوجه ووحيدته قد أشرفوا على قرية من قرى القليوبية. وكان السائر في طريق تلك القرية يرمي في هجعة الليل وإغفاءة الفجر

ص: 63

ثلاثة أشباح تترنح في الظلام الدامس من فرط الإعياء والجوع والبرد. أولئك هم التعساء الثلاثة في طريقهم إلى القرية

وقال الشيخ لزوجه: اسمعي يا عائشة!! هذا صوت المؤذن يجلجل: الله أكبر الله أكبر حي على الصلاة أن الفجر يوشك أن ينبثق. سنصل إلى هذا المسجد القريب فأدرك الصلاة الصبح، وهناك نحتمي من هذا المطر المنهمر وننعم بدفء الشمس في الصباح هيا يا عائشة انهضي، اعتمدي علي منكبي فقد أوشكنا أن ندرك الغاية. .

وكانت المسكينة قد أخذتها نوبة السعال، والمطر ينهمر، والرعد يقصف، والسماء غاضبة، والليل موحش. وتهالكت على نفسها فنهضت تخفي بين جوانحها ما تعاني من ألم وضعف وتخاذل ومشت إلى جواره خطوات، ثم اشتدت عليها وطأة الداء، وأعياها المسير فسقطت تحت أقدام زوجها الضرير وظلت تئن وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة. والزوج يتحسس مكانها ولا يراها، ويتشمم أنفاسها الخافتة، ويتسمع دقات قلبها الموجع. . .

وفي هذه اللحظات الرهيبة دوَّي صوت المؤذن مرة أخرى: (الله أكبر. الله أكبر) وكانت الزوج قد لفظت آخر أنفاسها وأصبحت جثة ملقاة في وحل الطريق، طريق العاصمة. . .

وأدرك الشيخ أن زوجه قد ماتت فألهبت الفجيعة رأسه وراح يتخبط كالمجنون، ويصيح فتذهب صيحاته في سكون الليل بدداً. . .

وكان المؤذن لا يزال يدعو الناس إلى الصلاة فاختلط صوته بصوت ذلك المفجوع الذي وقف في الطريق يدعو الناس إلى عونه في مصابه

وظل الشيخ الضرير يتشمم جثة زوجه الوفية ويبلل وجهها بدموعه. أما وحيدته فاطمة فقد كان منظرها في سواد الليل وإلى جوار جثة أمها تصطك أسنانها من شدة البرد وتبكي من ذوب قلبها دموعاً - منظراً يذيب قلب الحجر. . .

. . . ثم مضى الليل! فوا رحمتاه! كيف مضى؟!

وكان الصباح. . .

وبكر فلاحو القرية بالماشية إلى مزارعهم، وانتشروا على ظاهر الطريق يتلاقون على تحية الصباح، ثم رأوا ذلك الشيخ الضرير يحنو على جثة زوجه، ورأوا وحيدته الطفلة وقد ارتمت في أحضان أمها خائرة تبكي وتئن

ص: 64

واجتمع أهل القرية على فعل الخير فأعانوا هذا الضرير المرتحل فواروا جثة زوجه التراب. وظل الشيخ مع ابنته في مقبرة القرية أياماً طوالاً لا يبرحها ولا يكف عن النحيب، ووجد زاده من جود أهل القرية، فكانوا يمدون إليه يد الإحسان يوماً بعد يوم

ثم رأى الشيخ أن يرحل عن المقبرة إشفاقاً على وحيدته الطفلة، وأن يمضي بها إلى غايته، فقد أصبح على مقربة من العاصمة. . . فليعش من أجل هذه الطفلة الغريرة، وليجد لها سبيل العيش في كنف رحيم من ذوي اليسار هناك

- 5 -

وصل الشيخ إلى ضاحيتنا على حافة الصحراء، واقترب من المدينة الآهلة بذوي البر والثراء وأصبحت منه على بضعة كيلو مترات، وجلس يستريح من وعثاء الطريق، وراحت ابنته تلعب من حوله وتطفر في دفء الشمس لاهية

ونظرت الطفلة فرأت قصراً كبيراً تحيط به حديقة غناء ذات سور من القضبان الحديدية، وكان أبوها قد أحس ببعض الراحة وبعض الدفء فأغفى إغفاءة المتعب المكدود، وعدّت الطفلة نحو سور القصر تنظر من بين قضبانه لترى أشياء وأشياء لم تكن رأت مثلها من قبل، وأطلت على الحديقة، فلم يكد نظرها يقع على ما في ادخلها حتى عادت إلي أبيها تعدو فأيقظته - وقد راعها ما رأت - ثم راحت الكلمات تتناثر من فمها الصغير في غير ترتيب

- قم يا أبي، قم ولا تنم، تعال انظر ما في هذه الحديقة، وكأن المسكينة نسيت أن أباها لا يستطيع أن ينظر. . . تعال يا أبي لأريك دنيا غير دنيانا. نظرت هنا يا ألبي من بين القضبان في حديقة هذا الدار الكبيرة فرأيت الأرض كلها مفروشة بشيء أخضر يشبه الزرع الذي نزرعه في بلادنا، لكنه ناعم ملتصق كله بالأرض، ورأيت الأرض التي يمشي عليها الناس مفروشة بشيء أصفر يشبه الدقيق لكن الدقيق أبيض، ورأيت رجالاً كثيرين يذهبون إلى آخر الحديقة من الجهة الأخرى ويفتحون أبواباًُ صغيرة فتخرج منها كلاب تجري في الحديقة. . . أي والله إنها كلاب يا أبي تشبه كلاب بلدنا، إنها كثيرة جداً أكثر من كلاب بلدنا جميعها؛ إن الناس هنا يا أبي يلبسون الكلاب ثياباً خضراً من القطيفة كالتي كنت ألبسها وأنا صغيرة ويصغون في رقابها أطواقاً تلمع مثل الذهب كالتي كانت أمي

ص: 65

تلبسها في رقبتها. إنها كثيرة جداً يا ألي، إنها كلاب حقيقية، لقد سمعتها تنبح مثل كلابنا تماماً. تعال يا أبي نطلب من هؤلاء الرجال طعاماً من الذي وضعوه الآن لهذه الكلاب، إنني رأيتهم يحملون آنية كبيرة وفيها الثريد وعليها الحم ودخان الثريد يتصاعد في الفضا، اللحم هنا يا أبي كثير جداً، لقد سممته بأنفي ورأيته بعيني. قم يا أبي، قم ولا تنم إن الدنيا هنا جميلة والأكل كثير. . .

تناثرت هذه الكلمات - في لهفة - من فم فاطمة الصغيرة وأطرق أبوها عند سماعها ما شاء الله أن يرق، ثم حاول أن يصرفها عن ذكر هذا الذي رأت بمختلف الأحاديث ووعدها أن يقوم بعد قليل ليحضر لها الطعام

أما هذا القصر فهو قصر (عظيم) من عظماء العاصمة بناه في ضاحيتنا النائية ليقضي به بعض أيام الشتاء. وقد ورث عن أبيه العظيم مالاً وعقاراً وضياعاً. وكان مما نزعت إليه نفسه أن ينتقي أكبر مجموعة من كلاب الصيد وكلاب الحراسة وكلاب الزينة فاجتمع لدينه منها ما يزيد على المائة. وقد عني ببناء أوْ جرة نظيفة مفروشة تأوي إليها هذه الكلاب، وجعل لها غذاء في اليوم خمسين أقة من اللحم!!!

ورأت فاطمة الصغيرة ما رأت - وكان الجوع والإعياء قد فعلا بها فعلهما - فعادت إلى أبيها - في براءة الطفولة الغريرة - تستحثه على النهوض ليطلب لها من خدام الكلاب لحماً وثريداً مما يحملون. . .

أما أبوها الضرير فقد ظل مكانه مطرقاً، وأما وحيدته الجائعة فلم يستقر لها من الجوع قرار. . .

- 6 -

تركت الطفلة أباها في إطراقته الحزينة، وتسللت من جانبه نحو سور الحديقة، وكان الحراس والخدم لا يزالون يحملون اللحم والثريد إلى الكلاب. . . وطغى الجوع على الإنسانة الصغيرة وسال لعابها، فاندفعت من بين القضبان دخل السور الحديد، وعدت إلى قصعة من القصاع، فمدَّت إليها يدها تأخذ قطعة من اللحم، ولم تكد الجائعة الضاوية تمد إلى الحم يدها، حتى أطبق عليها كاب ضار من كلاب الحراسة، فأعمل أنيابه الحادة في بطنها، فتفجر دمها الإنساني وخرجت أمعاؤها. . . ودّت في الفضاء صرخة واحدة وصلت إلى

ص: 66

أذن أبيها الضرير، فعرف صوت وحيدته وأيقن أن مكروهاً أصابها، فنهض يعدو متخبطاً يسأل الغادين والرائحين عن مصدر الصوت، فلا يجيبه أحد. . .

كانت الصرخة التي دوّت في الفضاء صرخة واحدة، وكان الوالد الضرير يرقب صرخة أخرى. . . علَّه يهتدي لها إلى مكان ابنته. . . لكن الأقدار العاتية أبت عليه، حتى هذا الرجاء، فظل يعود هنا وهناك بقلب مفجوع وكبد تتمزع. . .

وكان مصرع الطفلة بين أنياب كلب العظيم الضاري قد أثار ضجة بين الحراس والخدم، وتسمع الوالد المفجوع إلى هذه الضجة فقصد إلى مكانها. . .

لكن الأسوار شاهقة منيعة!!. . .

صاح الرجل صيحات مدويّة جمعت الناس حوله. . . ثم راح يستنجد بهم أن يدلوه على مكان ابنته. . . وتطلَّع الناس إلى داخل الحديقة، فرأوا الطفلة ملقاة على الحشائش ينزف دمها، والخدم من حولها يتصايحون. . .

قال أحدهم:

- يجب أن نلقي بها خارج الأسوار قبل خروج الباشا حتى لا نتعرض لغضبه وعقابه، إنه سيوقع بنا العقاب لأننا غفلنا عن العناية بالكلاب وحراسة طعامها من أيدي المتسللين!

وقال أخر:

- يجب أن تبقى علّ الباشا يرق لحالها فيواسي أهلها المساكين. ثم قر الرأي بعد هذا الخلاف على أن يلقي بالطفلة خارج الأسوار. . .

وعرف الوالد الضرير مصرع وحيدته وراح يتشمم جثتها، ويذرف فوقها الدمع فيختلط بدمائها القانية

واجتمع أهل الضاحية فأعانوا الغريب المرتحل على مصابه. لكن الغريب المرتحل كان قد ذهب عقله. . فلم يدرك لصنيعهم معنى، ولم يعرف بعد ذلك شأن الدنيا إلا أن يتبع جثة فاطمة إلى المقبرة وأن يرتمي في تلك الحفرة العميقة بجوارها إلى آخر أيامه

وهو كما رأيت الليلة لم يبق على لسانه غير هذه الكلمة الواحدة يكررها ثم يكررها: كلاب!!! كلاب!. . . .

- 7 -

ص: 67

كان البدر - أول الليل - يتألق في صفحة السماء، وكان إشراق الطبيعة في تلك الليلة يغري بالحركة والنشاط

ولم يكد صاحبي يحدثني ذلك الحديث الدامي خلال عودتنا إلى ضاحيتنا حتى تجاوبت أصداء الرياح في الأرجاء، وغام على البدر المتألق سحاب متكائف فزمجرت السماء، وانهمرت الأمطار، وصارت الطرقات مظلمة خرساء

وآويت إلى مضجعي مطرقاً حزيناً ثائر النفس مضطرم الجوانح أرقب طلائع الصباح!. . .

عبد الله حبيب

ص: 68

‌من هنا وهناك

لماذا تحارب ألمانيا

(عن حديث (لمستر هوربليشيا))

أمام ألمانيا النازية الآن ثلاثة أبواب: فإما أن تحاول قهرنا في البر والبحر والهواء، أو تقف أمامنا موقف المسالمة والهدوء أملاً في انصرافنا عن مهاجمتها وكبح جماحها قبل حلول الوقت الملائم، أو خداعنا بعرض بعض شروط السلام

وقد دلت التجارب الحربية الحديثة على أن مهاجمة المواقع الحربية الكاملة التحصين الوافية العدد أمر من المستحيلات. فبولندا لم يكن لها خط كخط ماجينو لتدفع عن نفسها شر البلاء الذي منيت به. ولكن الجبهة الغربية تتمتع يحصون قوية متينة تزداد كل يوم ثباتاً ورسوخاً، وكل محاولة يقوم بها العدو لمهاجمة تلك الحصون تكلفه غالياً. ولم ير قوادنا أن يستبقوا الوقت ليخاطروا بأبناء الأمة الذين يتكون منهم جيشها، بغير ضرورة ملجئة

وقد أخلفت هذه الحرب كثيراً من الظنون التي كانت تخطر بالبال، فقد كان الكثيرون توقعون المواقع العنيفة في البر والبحر والهواء ، وكنا نظن أن الخطر السريع قريب من جبهة الوطن، فواصلنا الليل بالنهار في سبيل الاستعداد والتأهب للعمل وإن كنا قد رأينا الأسابيع تمر تلو الأسابيع دون أن نواجهه شيئاً من الأخطار التي نستعد لها

وعلى الرغم من الهدوء الظاهر فقد أمكننا أن نكسف عن نيات خصومنا. فمنذ رفعت ألمانيا عقيرتها بالمطالبة بإطلاق يدها في الشرق، أخذنا نتبين مطالبها العديدة التي كانت بولندا أحدها فألمانيا ترى ن دول بحر البلطيق يجب أن تكون تحت سيادتها. ولكنا رأيناها ترد عن هذه الغاية بمطامع روسيا في تلك المنطقة. وترى أن رومانيا يجب أن تحتلها ألمانيا النازية عن طريق بولندا ولكن روسيا قد وضعت سداً منيعاً بينها وبين ورمانيا من هذه الناحية. أما خط برلين - بغداد فقد وقفت تركيا عقبة في سبيله.

وتركيا أمة قوية شريفة وكذلك العراق وهي حليفة راسخة متينة

فإذا اتجهنا إلى الناحية الغربة، نجد أن الحملة البريطانية قد وصلت فرنسا سالمة آمنة بحراسة الأسطول التجاري، وستزود برجال الماليشيا والمتطوعين من كل سن تليق بالخدمة الحربية، وسوف يكون عمادنا القويم ما تخرجه مصانعنا من الأسلة والمؤن

ص: 69

لقد أصبحت الممتلكات الحرة على استعداد للقيام بنصيبها إلى جانبنا في هذه الحرب. وقد تبوأت الكتائب الهندية مراكزها في كثير من المواقع وأبدت الهند وغيرها من أنحاء الإمبراطورية استعدادها لزيادة نصيبها في هذه الحرب. فإذا تقدمت الأيام وجد الجد فسوف ترى ألمانيا هذه الجموع الزاخرة محتشدة أمامها. ومما لا شك فيه أن الزمن سيكون إلى جانب فرنسا وبريطانيا والإمبراطورية

فإذا أراد الخصم لياذاً من هذه النكبة التي كان هو أول من أرث نارها، فهذا هو الموقف الذي يجب أن نقابله بحذر. إذ أن كل سلم يعتمد على الكلمة المرضوضة لا تقوم له قائمة على الإطلاق. ولا ضمان للسلم إلا بقيام نظام جديد بعيد عن ظلم النازيين

إن لهذه الحرب أهدافاً أسمى وأعظم من مصادمة الجيوش ومكافحة الطائرات ومغالبة الغواصات، ذلك هو الصراع بين قوة الخير وقوة الشر. فأي القوتين ستكون لها السيادة على العالم؟ أي القوتين يكون لها الغلب على عنصر الإنسان

نحن لا نحارب لإعادة الحكومة التشكوسلافية، أو رد الحكم إلى بولاندا كما قد يظن الكثيرون، فنحن لا نحارب من أجل الجبهة الجغرافية، ولكنا نحارب لإنقاذ الجبهة الإنسانية

الحرب فلسفة الألمان

(عن كتاب (الروح البروسية في ألمانيا))

ثلاثة عوامل كان لها أبغ الأثر في توجيه الفكر البروسي في القرنين الأخيرين: حب الحرب في ذات نفسها، وسوء الظن بالسياسة السليمة والصدوف عن فكرة الاتحاد الدولي بكافة أنواعه والتأثر بنظرية (كلوزويتز) القائلة بأن الحرب وسيلة من وسائل السياسة والسياسة وسيلة من وسائل الحرب؛ وثالثاً عقيدتهم بأن الحكومة - وعلى الأخص الحكومة البروسية - يجب ألا تهتم بشأن غير شئونها الخاصة، ويرجع حب الألمان للحرب إلى فجر التاريخ الألماني. فقد ذكر عن خطيب إغريقي عظيم أن الإمبراطور الروماني (جوليان) احتج ذات مرة على قبيلة (توتونية) لأعمال السلب التي تقع منها، وعاداتها الشبيهة بالعادات الحربية. فجاءه منها هذا الجواب، (إننا نجد في حياة الحروب سعادة لا تعدلها سعادة) وما زالت هذه الأمثلة تتكرر في تاريخ بروسيا منذ عهد فردريك الأكبر الذي

ص: 70

جعل الحرب (صناعة بروسيا القومية) إلى العهود الحديثة، حتى نصل إلى هتلر، فنظرية الحرب السريعة المبهجة - وقول (مولتاك) -:

(وجدت الحرب لتنفيذ إرادة الله في العالم. ولولا الحرب لغرق الكل في بحور المادية العميقة) كلها آراء بروسية عريقة. وقد كان (تريتشك) يقول إن عظمة التاريخ تبدو في التنازع الدائم بين الأمم)

وقد كتب (فردريك) في أخريات أيامه إلى (فولتير) يقول إنه في كل عشر سنوات من حياته يرى حرباً جديدة، وسيدوم ذلك على ما يظهر بغير انقطاع. والضابط الحربي له مركز ممتاز في الدولة يرفعه على من عداه من المدنيين، ما عدا كبالر رجال الحكومة ويقول (فردريك):(إنني استقبل كل ضابط صغير في بلاطي قبل أي لورد من المنتظرين)

وقد جرت العادة في بروسي منذ زمن بعيد على أن يتقدم للدخول في سلك الجندية جميع أبناء الأرستقراطية. وتختلف نسبة عدد ضباط الجيش من أبناء الطبقة العليا والطبقة الوسطى باختلاف العهود. على أن الضابط الألماني يرتقي إلى درجة (الجنتلمان) بمجرد التحاقه بالجيش وانتسابه إليه، وإن كان من أصل وضيع، فتصير له حقوق الأرستقراطية من حملة السيف. وقد بلغ مجموع ما ألف من الكتب في ألمانيا عن الحرب في اثني عشر شهراً عام 1913 سبعمائة كتاب. وإذا كان المسيح يقول: من يحمل السيف يقتل بالسيف، فإن شباب ألمانيا اليوم يقولون: من يمت بالسيف يمت ميتة شريفة. ويقولون: إن الحرب ضرورة لتطهر حياة الأمم

الغواصة الطائرة

(عن (لاجورنال دي روبيه)

تعمل مصانع اليابان منذ عام في بناء نوع من الغواصات، سيكون له أثر كبير في الحروب، نظراً لما يمتاز به من السرعة. هذا النوع هو غواصة الجيب. فهذه الغواصة وإن كانت لا تزيد في طولها على ست أو سبع ياردات، فقد نجحت نجاحاً عظيماً في قذف الطربيد، وسرعة السير، وقوة المحاورة، لما تمتاز به عن الغواصات الكبيرة من الخفة وحسن النظام

ص: 71

ولدى اليابان الآن عشر غواصات من هذا النوع الصغير، وهذه الغواصات العشر تستطيع أن تقضي قضاء تاماً على فرقة كاملة من أسطول كبير. ونستطيع أن نؤكد أن هذا السلاح الجديد الذي صنعته اليابان لا يتيسر للألمان بحال من الأحوال. وذلك أن عشرين في المائة من القطع الضرورية لصناعة هذه الغواصة تصنع من معدن الألمونيوم، وليس لدى ألمانيا مصدر لهذا المعدن. وقد دعي منذ بضعة أسابيع خمسة عشر من الرجال الأخصائيين وثلاثة من المراسلين لمشاهدة بعض التجارب في مرفأ صناعة السفن بياسو، فشاهدوا هذه الغواصة الصغيرة ترتفع إلى سطح الماء فتسير مسافة قصيرة، ثم ترتفع إلى السماء حيث تحلق في الجو كالطائرة المائية

وقام بإدارة هذه الغواصة المهندس الذي اخترعها وأسمه (تسنوما) فدفع بها إلى اليم فرأينا جسماً على صورة السمكة، يغطس ويختفي تحت المياه في سرعة وخفة عجيبتين. وبعد عشر دقائق ظهرت على سطح الماء، ومن ثم برزت أجنحتها واحدة فواحدة، ويبلغ طول هذه الأجنحة من 18 إلى 20 ياردة ولم تلبث أن ارتفعت إلى أجواء السماء

هذه السمكة الطائرة كما يقول دكتور (جود) مساعد (تسنوما) مخترع هذه الآلة - تستطيع أن تقطع تحت الماء من 15 إلى 20 ميلاً ولا يمسها خطر. فإذا كانت غير محملة بشيء تستطيع أن تقطع 600 ميل، فإذا كانت حمولتها خفيفة قطعت 300 ميل، ومن السهل عليها أن تجعل أربعة طوربيدات لاستخدامها تحت الماء أو في عرض السماء ، ولهذه السمكة الطائرة ثلاث آلات محركة قوة كل منها 60 حصاناً وقد صنعت أجنحتها من نوع خاص من الحرير. ولا زالت هذه الغواصة في دور التجربة، ولكن مما لا شك فيه أنه سيكون لها شأن كبير في عالم الحروب فتكون في الموقعة الحربية كالبعوضة تقتل الأسد

ولما كانت صناعة هذه الآلة تحتاج إلى مقادير عظيمة من الألمونيوم فسوف لا تستطيع ألمانيا أن تستخدمها على الإطلاق في حين أن لدى بريطانيا وفرنسا ما يكفيها لاستخدام هذا السلاح

ص: 72

‌البريد الأدبي

إلى عميد كلية الآداب

إليك - وقد أمسيت عميداً لكّليتنا الغالية - أوجَّه السؤال الأتي بأدب ورفقك

سمعتك عن طريق المذياع وسمعك معي ألف وملايين، سمعتك تقول:

(نحن لا نعرف كيف نقضي أوقاتِ فراغنا)

بنصب كلمة (أوقات) بالكسرة، كأنك تظنها جمع مؤنث سالماً، وكان المفهوم عندي منذ أعوام طوال أن (أوقات) جمع تكسير لا جمع تصحيح

وقد نظرتُ في أصل كلمة (وقت) مرة ومرتين ومرات بعد إذ رأيتك تنصب (أوقات) بالكسرة نيابةً عن الفتحة فلم يصح عندي أن على حق، مع الاعتراف بأن الخطأ لا يجوز على مثلك في مثل هذه الشئون!

فهل لك أن تتفضل فترشدني إلى الصواب، ولك من الله الأجر والثواب؟

أما إذا اعترفت بأن الحق معي لا معك في إعراب كلمة (أوقات) فسيكون ذلك فرصة للتوبة مما أسرفتُ في محاسبتك بالمقالات التي جاوزت العشرين، إن كان الجهر بقول الحق يستوجب المتاب

وتفضل - يا حضرة العميد - بقبول التحية من الصديق القديم

زكي مبارك

السفاح أم المهدي ولقب أبي جعفر وابنه محمد

قرأت في الرسالة المحبوبة ما دبجته براعة الأساتذة الكرام حول لقب السفاح في عددها 346 و349 وكان لكل من حضراتهم رأى قد استصوبه فيما ارتآه. إلا أنهم ومن كتب حول لقب السفاح والمنصور حتى المستشرقين ومن أخذ عنهم ما اهتدوا إلى المصادر التي فيها ما يبتغون. وأما أنا وأعوذ باله من قول (أنا) ما زلت أستقصي منذ أكثر من عشر سنوات ولا زلت بقصد تأليف كتيب قد أسميه (الثورة العباسية) وقد توصلت في مبحثي إلى ما جعلني أطمئن بصحته، وبه أرجو أن أكون قد اهتديت إلى معرفة اللقب الذي طالت المناقشة حوله. كما أنني لا ادعي أنني قد أصبت الهدف المقصود، وإنما كلي أمل في أن

ص: 73

أرشد إلى ما فاتني وخفيّ عليَّ، فأعرض ما يأتي:

1 -

إن المسعودي لقب أبا العباس بالسفاح في مروج الذهب ثم يعود فيذكر في كتاب التنبيه والإشراف الذي ألفه بعد كتاب المروج وهو مختصره وبه استدرك ما فاته ذكره في كتاب المروج. ومما رواه في التنبيه والإشراف عن لقب أبي العباس أنه (قد كان لقب أولاً بالمهدي ص290) فنفهم من هذه الرواية أن أبا العباس لقب بالسفاح أخيراً وقد غلب على لقبه الأول وهو (المهدي) ومما يؤيد هذه الرواية التي لا مرية فيها بيت من قصيدة لسديف إذ يقولك

ظهر الحق واستبان مضيا

إذ رأينا الخليفة المهديا

2 -

وأما سبب تلقيب محمد بن أبي جعفر بالمهدي فهو أن أبا جعفر أرسل أحد من يعتمد عليهم وقال له أجلس عند منبر محمد بن عبد الله النفس الزكية فاسمع ما يقول. فقال الرسول: سمعته يقول: إنكم لا تشكون أني أنا المهدي وأنا هو. فأخبرتَ بذلك أبا جعفر فقال: كذب عدو الله بل هو (ابني)(مقاتل الطالبين لأبي فرج الأصفهاني ص166) وجاء في (المقاتل) أيضاً ص171 ما نص (قال مسلم بن قتيبة: أرسل إليَّ أبو جعفر فدخلت عليه فقال قد خرج محمد بن عبد الله وتسمى بالمهدي ووالله ما هو به، وأخرى أقولها لك لم أقلها لأحد قبلك ولا أقولها لأحد بعدك وابني والله ما هو بالمهدي الذي جاءت به الرواية، ولكنني تيمنت به وتفاءلت به)

ومما يؤيد هذا هو ما جاء في كتاب الجهشياري ص127 إذ يقول الراوي: قال محمد المهدي لأبيه يا أمير المؤمنين أنت ترشحني لهذا الأمر، وتروي أني المهدي الذي بعدك في الناس.

3 -

وأما أبو جعفر فقد لقب بالمنصور عقب قتل محمد وإبراهيم (التنبيه والإشراف ص295)

وأما الخلفاء الذين تلقبوا بالألقاب المعلومة، فقد كانت تختار لهم أو هم أنفسهم كانوا يختارونها، وهكذا جرت العادة عند كل الخلفاء

(بغداد)

عبد المجيد الساكني

ص: 74

تقي الدين بن تيمية ومذهبه السياسي والاجتماعي

يشغل المسيو هنري لاوست منصب السكرتير العام في المعهد الفرنسي في دمشق. وقد انخرط في سلك الجندية على أثر إعلان التعبئة العامة في فرنسا. ولكنه حصل أخيراً على إجازة قصيرة ليتقدم إلى السوربون لمناقشة الرسالة التي وضعها لإحراز الدكتوراه

أما رسالته فموضوعها (تقي الدين أحمد بن تيمية ومذهبه السياسي والاجتماعي) وهي تقع في اكثر من 700 صفحة ودق طبعت بمطبعة المعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة

وقد تناول المؤلف بالبحث ترجمة حياة ابن تيمية والبيئة التي عاش فيها، وتكوينه الفكري، ومذهبه السياسي والاجتماعي، وما كان له من الأثر في المذهب الوهابي وفي آراء المغفور له السيد رشيد رضا منشئ المنار

وكان طريفاً أن يرى المسيو لاوست - ذلك الجندي - وقد ترك السيف والمدفع وجاء إلى الجامعة ليناقش في رسالته

كاتب فرنسي يزور بلاد الشرق الأدنى

وصل إلى بيروت المسيو بيير بنوا عضو الأكاديمية الفرنسية، بعد أن زار الشرق أيضاً المسيو جيروم نادو والمسيو أندريه سيجفريد. والمسيو بنوا هو الرسول الثالث للفكر الفرنسي الذي يزور الشرق بضعة أسابيع

اختراع مصري

نشرت (المصري) أن الأستاذ عباس محمد شلبي أفندي المهندس بالإسكندرية قد أخترع طائرة تسع 50 شخصاً وترتفع رأساً وتهبط كذلك، وتسير بسرعة من 600 إلى 800 كيلو في الساعة. وقد صنع المخترع لها نموذجاً مصغراً وكتب إلى أولي الأمر وحضر إلى القاهرة لعرض النماذج على ولاة الأمور بناء على دعوة أرسلت إليه من رياسة الطيران

وقد قابل سعادة حسن عبد الوهاب باشا في هذا الصدد فحدد له موعداً لعرض النماذج أمام هيئة من كبار رجال الطيران

مجلة المستمع العربي لمحطة الإذاعة البريطانية

ص: 75

أعلنت جريدة (التيمس) أن العدد الأول من مجلة شركة الإذاعة البريطانية التي أطلق عليها أسم (المستمع العربي) سيظهر في هذا الأسبوع، والمأمول أن تساعد هذه المجلة على تعزيز روابط الصداقة القائمة بين لعالمين العربي والإنجليزي

وستكون هذه المجلة أول صحيفة مصورة تطبع في لندن باللغة العربية. وهي على مثال أختها الإنجليزية (لسنر) والغرض منها تسجيل الأحاديث العربية التي تذاع من محطة لندن ليطلع عليها الذين فاتهم الاستماع إليها وتعزيرها بما يهم القارئ العربي

وتقع المجلة الجديدة في 16 صفحة وتظهر مرتين في الشهر

أكثر أهل الجنة البله

قرأت في العدد (349) من مجلة الرسالة الغراء كلمة الكاتب العبقري أستاذي الدكتور زكي مبارك في موضوع (إنما يزدهر الأدب في عصور الفوضى الاجتماعية). ولقد لفت نظري بنوع خاص ما جاء فيها من تفسير الأستاذ المفضال للحديث الشريف (أكثر أهل الجنة البله)، فقد ذهب الأستاذ إلى أن المراد من هذا الحديث هو أن أهل الجنة سيكونون بلهاً لأن الله سيرحمهم من التعرض لآفات الشطط والجموح في ميادين الفكر والعقل والوجدان، لا ما ذُهب إليه في تفسير الحديث من أن البله يقل تعرضهم للموبقات فيخرجون من الدنيا بسلام، وقد أهلتهم البلاهة لاحتلال الجنة

وعندي أن تفسير الأستاذ للحديث المذكور على الوجه الذي ارتضاه لا يأتلف وما ورد فيه من كلمة (أكثر) لأنه لو كان المقصود منه أن أهل الجنة سيكونون بلهاً لما كان هناك من حاجة إلى ذكر كلمة (أكثر) فورود هذه الكلمة فيه يجعلني لا أتردد في القول بما قيل في تفسير من أن البله يقل تعرضهم للموبقات فيرحلون عن الدنيا وقد أعدهم ما فيهم من بلاهة لدخول الجنة. وهذا التفسير للحديث المذكور هو الذي يحتمله بالنظر إلى ما اشتمل عليه من لفظه (أكثر)

وختاماً أرجو أن أكون موفقاً في تنبيه أستاذي المفضال إلى ما وقع فيه

سدد الله خطاه، ونصره في نضاله، واكثر لخدمة الأدب العربي أمثاله، إنه سميع مجيب

(بغداد)

ص: 76

عبد الكريم جواد

أخطاؤنا في الصحف والدواوين

اعتادت الكثرة من الناس أن تنظر إلى ما جاء به الشيوخ في اللغة أو الأدب، المتقدمون أو المحدثون، نظرة يقطر منها التقديس والتقدير. فدفعهم ذك إلى الاعتقاد بأن ما جاؤا به لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا من فوقه أو تحته، وفي هذا من الاعتراف بالعجز، وضعف الحكم، وهزال العقل الشيء الكثير

على أن صديقنا الأستاذ صلا الدين معدي الزعبلاوي، لم ينظر تلك النظرة الخاطئة، بل نبذ ذلك الرأي وراء ظهره، وحمل بيده معولاً وراح يستقرئ ما كتبه أئمة اللغة، أو ما وهمه بعض من أدعى العلم باللغة والاختصاص بها، فهدم الفاسد وأظهر ضعفه وسخفه، وجلىّ عن الصحيح وأبان عن جماله ونفاسته، فجاء كتابه (أخطاؤنا في الصحف والدواوين) مرآة تعكس علم صديقنا الأستاذ وتظهر مبلغ تحقيقه وتدقيقه

ولقد أخذ على شيوخ اللغة المتقدمين مآخذ شتى ثم أنفصل إلى الشيوخ المحدثين، فأخذ على اليازجي مجازفته في القول في اغلب الأحايين، دون أن يتدبر الأمور أو يتروى في إطلاق الأحكام، وأخذ على (المنذر) خلو كتابه من التقصي والتدقيق وبين أخطاء الأستاذ داغر، وبعض ما وهمه الأستاذ العوامري

وقد جعل الأستاذ كتابه بابين: الباب الأول وقد أفرده الموضوعات. أما الثاني فقد خصه بالمفردات. أما الموضوعات التي ذكرها فهي: فساد السنن التي تتبع في كتابه القرار أو المرسوم في دواوين الحكومة، خصائص بعض حروف الاستفهام ودفع الأخطاء والأوهام التي يقع فيها كثير من الأدباء والمتأدبين، قياس النسبة، العدد في تمييزه وتعريفه، قياسه الصفات المشتبهة، المصادر اليائية، تصحيح بعض من جموع التكسير، صوغ أسم المكان من معتل العين الثلاثي ومكسورها السالم، تأنيث أي، ضوضاء، وغيرهما، ثم تطرق إلى البيان عن هزال بعض الأساليب الشائعة، وهو في ذلك كله لا يدع مسألة حتى يستقصيها، ولا يصدر حكماً حتى يحقق فيبالغ في التحقيق، ويدقق فيغالي في التدقيق، هذا مع استقراء صائب وحكم صحيح

ص: 77

أما باب المفردات، فقد سرد كثيراً من الكلمات الشائعة التي تدور على الأسنة فصححها، وفي هذا الباب أخذ على المحدثين من علماء اللغة مآخذ فاضحة، وخصوصاً على داغر والمنذر. ثم رد هذه الكلمات إلى أصلهاـ فذكر صحيحها ونبذ فاسدها

والكتاب في جملته موفق جيد، والحق أنه جدير بالقراءة والمطالعة، لأنه إن لم يجعل قارئه لغوياً كبيراً، استطاع أن يفقهه في لغته وأن يقوِّم به لسانه وقلمه.

صلاح الدين المنجد

ص: 78