المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 354 - بتاريخ: 15 - 04 - 1940 - مجلة الرسالة - جـ ٣٥٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 354

- بتاريخ: 15 - 04 - 1940

ص: -1

‌العقيدة الساذجة

تلك هي الكثرة الكاثرة من مسلمي اليوم! وربما كان الأشبه بالحق أن نصفها بشر من السذاجة؛ فإن أيلولة الدين في نفوس أهله إلى هذا القدر العامي من العبادة الشكلية، والزهد الكاذب، والتفويض الذليل، والورع المنافق، والتصرف المشرك، هي الفساد بعينه. وماذا بعد أن ترى كتاب الله وسنة رسوله يقرآن لالتماس البركة لا لاكتساب الفقه، ودستورَ الإسلام وفلسفة وحيه يدرسان لمجرد العلم لا لإرادة العمل؟

وماذا بعد أن ترى الأحكام والآداب والأنظمة التي أصلحت الأرض ومدنت الخليقة، تصبح في الجوامع والمجامع رهبنة وشعبذة لا يستقيم عليها فرد ولا تنتظم بها جماعة؟

لقد كان من أثر فساد العقيدة في النفس أن فسدت آثارها في الناس؛

فالفقه في الدين تفيهق وجدل، والصلاح في الدنيا تبطل وفشل، والعبادة

مظاهر آلية لا أثر فيها للروح ولا صلة لها بالقلب، والأخلاق مياسم

وراثية تنطق بالحق على ذلة الماضي وجهالة السلف، والمعاملة

ألاعيب اجتماعية تخادع الله وتزعم لنفسها الرضى والسكينة!

تذكر معنى الزكاة في دين الله ثم قل لي أين منها ما كان يصنع أحد شيوخ الأزهر وقد كان يملك في القاهرة شوارع بما عليها من البُنى عن شمال ويمين؟ لقد حدثوا أنه كان يجعل زكاة ماله كلما حال الحول في قفة؛ ثم يغطي الذهب والفضة بطبقة من الحنطة؛ ثم يأمر فيأتونه بأحد المساكين الذين يتكففون على حاشية الطريق، فإذا أدخل عليه قال له:

(هذه زكاتنا يا رجل آثرناك بها ابتغاء مرضاة الله)

فيدعوا المسكين ويهم بأخذ القفة؛ ولكن الشيخ قارون يريد أن يخفف عنه ويختار له، فيبادره بقوله:(وماذا تصنع بها يا رجل وليس عندك من تطحن وتعجن وتخبز؟ أتبيعني إياها بكذا قرشاًً؟) فيلهج المسكين بالدعاء، ويبالغ في الحمد والثناء، ثم ينصرف بالقروش وتعود مئات الدنانير المروّعة آمنة إلى صدر الخزانة الحنون!

تدبر فكرة الصدقة الجارية في سنة الرسول ثم أخبرني أمنها ذلك البناء المربّع الذي أقامه أحد القضاة المتقين قي وسط شارع حسن الأكبر، ثم أجرى في قلبه الماء، وأوقد على رأسه

ص: 1

النور، ووقف على نفقته المال، وجعله مورداً للسابلة فكان مزرعة للجراثيم ومصدمة للناس!

تصور حكمة الإنفاق في سبيل الله على قواعد الدين الذي شُرع ليضمن للفرد السعادة وللأمة السلامة وللبشرية الألفة، ثم تعال أنقل إليك ما روته (الدستور) في يوم الاثنين الماضي عن مراسلها ببغداد:

كان من ضيوف العراق لعامين مضيا الزعيم الشعبي الهندي السردار طاهر زين الدين، وهو من أنداد أغا خان في الزعامة المقدسة والثروة العريضة، فلما زار ضريح الإمام عليّ رضوان الله وسلامه عليه، نشأ في نفسه أن يقيم للخليفة الراشد ضريحاً يكون مضرب الأمثال على تعاقب الأجيال في نفاسة المادة وبراعة الصنعة وضخامة النفقة. ولم يكد يرجع إلى الهند حتى استحضر أمهر الصناع وأقدر الفنانين وتقدم إليهم بما أراد، ووصل أيديهم بكنوزه العجيبة، فصنعوا ضريحاً من الآبنوس سَمْكه إحدى عشرة قدماً وقطره عشرون، ثم زخرفوه بروائع النقش الهندي، وغشوه بخمسة عشر وطلاً من صفائح الذهب وبمثلها من سبائك الفضة حتى بلغت تكاليفه اثنين وأربعين مليون جنيه على ما روى المراسل، أو اثنين وأربعين مليون رُبيّة على ما أرجح!

هل قرأت؟ اثنان وأربعون مليون جنيه كميزانية مصر، أو اثنان وأربعون مليون ربية كميزانية العراق، تنفق في مقصورة تقام على ضريح الإمام الزاهد المجاهد الشهيد علي كرم الله وجهه! فهل تحسب أن هذا المؤمن الساذج قد بلغ بما أنفق مكانة الزلفى من الله وموضع الرضا من إمامه؟ لا والله! إن الله الذي يقترض من عباده القرض الحسن ليضاعفه لهم لا يقبل هذا القرض العقيم، وإن الإمام الذي كان يطوي الأيام ليطعم على حب الله المسكين واليتيم والأسير لا يرضى هذا الإحسان الميت. لو كان هذا الغني الأمي صحيح الفقه في الدين، واسع الأفق في الفكر، بعيد النظر في الإصلاح، لعلم أن عليا كان سيف الإسلام ولسان الدعوة وإمام القضاء، فكان خير ما يتقرب به إليه أن يعطي حكومة العراق هذه الملايين لتنشئ بها أسطولاً جويا في بغداد على حب فاتح خبير، ومعهداً علمياً في الكوفة على ذكر صاحب نهج البلاغة

لذلك وشبهه يكون القرض حسناً والإحسان جميلاً يا سيدي الزعيم. أما أن تصفّح الضريح

ص: 2

بالذهب والفضة، وترصعه باللؤلؤ والجوهر - وفي وطن الإمام الفقيرُ الذي لا يجد القوت، والمريض الذي لا ينال الدواء، والجاهل الذي لا يستطيع التعلم، والجندي الذي لا يملك السلاح - فذلك فن من العمل الباطل لا يليق أن يجترح باسم الدين في سبيل إمام أئمته وقطب أبطاله!

لقد قرأت في أنباء اليوم أنهم فضوا وصية المحامي الأمريكي اليهودي صموئيل أونترماير منذ أيام فإذا به يوصي بجزء عظيم من تركته الضخمة لبضع جامعات أمريكية؛ ثم كان نصيب الجامعة العبرية في القدس منها مائة ألف دولار!

فليت شعري متى يعلم هذا الذي ينفق دماء الشهداء على ملاهي القصور، وذلك الذي يبذر أموال الأحياء على شواهد القبور، أن الحياة من غير إحسان موت، وأن الإحسان في غير موضعه إساءة!

احمد حسَن الزيات

ص: 3

‌بابر

للدكتور عبد الوهاب عزام

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

- 1 -

لم تخضع الهند لبابر بعد موقعة بانيبات فقد بقي أخو السلطان إبراهيم مطالباً بالملك والبلاد كارهة غارة بابر، وكثير من المدن والقلاع متأهبة للدفاع، وكادت جيوش بابر تهلك جوعاً على كثرة ما بأيديها من الغنائم، وزاد حالتهم سوءاً شدة الحر. نقرأ في بابرنامة هذه السطور:(لما جئت إلى اكركان وقت الحر وكان الناس قد فروا من الخوف فلم نجد حبَّا لنا ولا علفاً لدوابنا، وكانت القرى قد نهبت إعناتاً لنا وكراهية فينا، وأفسدت الطرق. . . إلى أن يقول: (وكان الحر هذه السنة أشد من المعتاد، وكثير من الناس سقطوا كأنهم أصيبوا بالسموم وماتوا في مواضعهم) شرعت جيوش بابر تتذمر كما تذمرت جيوش الاسكندر حينما فتح الهند من قبل، وهموا بالرجوع إلى كابل وقد ذكرهم هذا الحر هواءها البارد؛ فجمعهم بابر وذكرهم أنهم تحملوا ما تحملوا وقاسوا ما قاسوا من أجل هذه الغاية التي بلغوها اليوم:(إن عدواً قوياً قد هزم وإن تحت أقدامكم مملكة عظيمة، فهل نترك كل ما كسبنا بعد أن بلغنا الغاية التي سعينا إليها ونفر إلى كابل كأننا جيش مهزوم مطارد؟ من كان يزعم أنه صديقي فليقلع عن هذه الوساوس. ومن لم يستطع أن يقسر نفسه على البقاء فليذهب). وخجل الجيش فلم يحر أحد منهم جواباً

وجاهد بابر لتهدئة البلاد بالرغبة والرهبة، ولم يكن له بد من لقاء عدو هو أكبر الأعداء في الهند. ذلكم رأنا سانجا زعيم الأمراء في رجبوت، قد جمع مائة وعشرين قائداً وثمانين ألف حصان وخمسمائة فيل، وأيده أمراء آخرون وجاءته الجيوش من أرجاء مختلفة

وخرج إليه بابر سنة 934هـ (11 فبراير سنة 1527) بعد سنتين من موقعة بانيبات وهي أول مرة يتقدم فيها لحرب عدو من غير المسلمين. وعسكر بابر عند سكري التي سميت فيما بعد فتح بور، وبنى فيها جلال الدين الأكبر قصوراً عظيمة وظل خمسة وعشرين يوماً يحصن معسكره وينشر السكينة في قلوب قومه وقد ملكهم الرعب مما سمعوا

ص: 4

ورأوا من شجاعة الرجبوتيين. في هذه الشدة هجر بابر الخمر وكسر أقداحها وأراق دنانها ثم جمع جنده فخطب فيهم: (أيها الأمراء والجند، لا بد لمن يجيء لهذا العالم أن يفارقه؛ وإنما البقاء لله الذي لا يتغير. وكل من جلس على مائدة الحياة شارب كأس الموت لا محالة، وكل من طرق نزل الفناء هذا فهو لا بد راحل يوماً عن دار الحزن. أولى بنا أن نموت أحراراً من أن نعيش أذلاء

(إن من فضل الله علينا أن ضمن لنا إحدى الحسنيين، فإن متنا متنا شهداء، وإذا ظفرنا ظفرنا في سبيله. هلموا نقسم جميعاً بالله العظيم ألا نفر من هذا الموت وألا نرهب مآزق الحرب حتى تفارق أرواحنا أجسادنا)

فأقسموا جميعاً على القرآن. وتقدم بابر في جموعه وعبأ جيشه كما فعل في بانيبات من قبل، ثم ركض جواده بين الصفوف يحض الناس على القتال والصبر ويعلمهم ما يجب عليهم حين تنشب المعركة

والتقى الجمعان في كنوها (16 مارس سنة 1527) واحتدم القتال واشتدت حملات الرجبوتيين واستمر الجلاد وجهاً لوجه ساعات كثيرة. ثم أرسل بابر سرايا المغول لمفاجأة العدو من الخلف وانتهى الأمر بهزيمة عدوه بعد أن استمات في القتال تاركاً آلاف القتلى في المعترك. وفر سنجا مثخنا بالجراح ومات بعد قليل، ثم لم يتعرض أحد من ذريته من بعد لحرب أحد من سلالة بابر بهاتين الموقعتين في بانيبات وكنوها حطم بابر أعظم القوى المخالفة في الهند. ثم استطاع أن يقضي على مخالفيه واحداً بعد الآخر في مواقع كثيرة آخرها موقعة هزم فيها المقاومين من سد مملكة دهلي وحلفاءهم من جيوش بنغاله بعد سنين من موقعة كنوها

عاش بابر بعد هذه الموقعة الأخيرة سنة ونصف سنة أمضى معظمها في أكرا مجتهداً في تنظيم مملكته الجديدة

- 2 -

كان محمد ظهير الدين بابر سويَّ الخلق محكم البنية قوياً فارساً ماهراً رامياً حاذقاً حمل رجلين تحت ذراعه وجرى بهما على سور إحدى القلاع. ويقول في بابر نامه: (اجتزت نهر الكنك سباحة وعددت ضربات ذراعي فوجدتني قد اجتزت النهر بثلاث وثلاثين

ص: 5

ضربة، ثم أخذت نفسي وسبحت إلى العدوة الأخرى)

وكان جلداً على ركوب الخيل. وكثيراً ما قطع ثمانين ميلاً في اليوم. وقد أمضى معظم حياته في الأسفار والحروب

ولكن نوبات الحمى وكثرة تطوافه وتقلب الغير بها دهراً، والشدائد التي قاساها، والخمر التي لم يسلم منها أحد من بني تيمور، ثم الأفيون - كل هذا أنقض ظهره وناء بجسمه القوي. فها هو ذا على فراش الموت في قصره الجميل وحديقته في مدينة أكرا

مات بابر سنة 937هـ في سن التاسعة والأربعين (26 ديسمبر سنة 1530م) بعد سبع وثلاثين سنة من تملكه في فرغانة

- 3 -

وكان بابر كسائر بني تيمور مولعاً بالآداب والفنون، يقرأ الشعر وينظمه، ويعجب بالأبنية الجميلة، ويهتم بتنسيق الحدائق وغرس الأزهار، ويكلف بالغناء والموسيقى.

ونحن نراه في (بابر نامه) يفزع إلى نظم الشعر في أشد أوقات محنه، كما نراه يتحدث عن الأدباء الذين اجتمعوا في هراة حول السلطان حسين ووزيره العظيم مير علي شير مواني حديث عارف ناقد. وله ديوان صغير بالتركية تتخلله قطع فارسية.

وفي هذا الديوان منظومة في نحو 250 بيتاً وهي نظم الرسالة الوالدية بعين الله المعروف باسم خواجه احراء من كبار الصوفية، وتعرّفنا بابر نامه الأحوال التي نظمت فيها هذه الرسالة. وأنا أثبت هنا ترجمة هذه النبذة من الكتاب لتكون مثالاً من أسلوبه في تسجيل الحوادث وتفصيلها:

(يوم الجمعة 23 من هذا الشهر (صفر)، أحسست الحمى في جسدي، حتى لم أستطع أن أؤدي الصلاة في المسجد إلا بمشقة؛ ولم أستطع أن أصلي الظهر في خزانة كتبي إلا بعد تأخير، ومع جهد كبير. وفي اليوم الثالث، يوم الأحد، خفت الرعشة قليلاً. ويوم الثلاثاء 27 صفر، خطر لي أن أترجم نظمي الرسالة الوالدية مولانا عبيد الله. التجأت إلى روح الشيخ وقلت لنفسي: إن قبلت هذه القربة عند الشيخ كان إبلالي من هذا المرض آية القبول كما خلص صاحب البردة من مرضه.

(نظمت هذه الليلة 13 بيتاً، وشرطت على نفسي ألا أنظم أقل من عشرة أبيات كل يوم،

ص: 6

وقد وفيت بهذا الشرط إلا يوماً واحداً

(كانت الحمى في السنة الماضية كلما انتابتني دامت ثلاثين أو أربعين يوماً، ولكن بفضل الله وبركة الشيخ أبللت من هذه النوبة يوم الثلاثاء 29 من الشهر.

(وفي يوم السبت 8 ربيع الأول أكملت نظم الرسالة. وقد نظمت يوماً اثنين وخمسين بيتاً)

كتب في نهاية الديوان هذه العبارة (حرره بابر دوشنبه 15 ربيع الآخر سنة 935). وفي ذيل الصفحة الأخيرة رباعية وفي حاشيتها هذه الجملة (هذه الرباعية التركية، والاسم المبارك بالتحقيق خط أعليحضرت ساكن الجنان بابر بادشاه الغازي أنار الله برهانه. حرره شاه جهان بن جها نكير بادشاه بن أكبر بادشاه بن همايون بادشاه بن بابر بادشاه)

وأما كتابه بابر نامه فهو في موضوعه نادرة من نوادر التاريخ؛ فما عرفنا قبل بابر ملكا أمضى حياته في عراك الحوادث ثم استطاع أن يصف مشاعره، ويسجل وقائع سيرته، وسيرة أقاربه وأعوانه في بيان واضح مفصل بعيد من التكلف يتجلى فيه اهتمام الكاتب بما يرى ويسمع ودقته في الإدراك والوصف

وهو في لغته وأسلوبه ذخيرة أدبية تسجل لنا لغة جفتاي في القرن العاشر الهجري وتبين محاولة ملك عظيم أن يذلل هذه اللغة للنثر الأدبي كما ذللها للشعر منذ سنين قليلة الوزير الكبير مير علي شير. والكتاب بعد هذا وذاك فصول ممتعة بل ساحرة يكلف بقراءتها كل من حاولها، فعرف ما تبعث في نفس القارئ من سرور وإعجاب وما تتضمن من فوائد للعلم والأدب والتاريخ

وقد ترجمت هذه السيرة إلى لغات كثيرة. ترجمت إلى الفارسية بأمر حفيدة جلال الدين الأكبر (963 - 1104) ثم ترجمت في العصور الأخيرة إلى لغات أوربية وطبعت أول ترجمة إنجليزية لها قبل مائة سنة، ولا تزال موضع عناية الباحثين في تاريخ الشرق الإسلامي وآدابه.

ولعل معهد الدراسات الشرقية في كلية الآداب من جامعة فؤاد الأول الذي افتتح هذا العام يجعل ترجمتها إلى العربية باكورة أعماله إن شاء الله.

عبد الوهاب عزام

ص: 7

‌أعرابي في سينما.

. .

للأستاذ على الطنطاوي

وطالت غيبة (صْلَبي)، حتى لقد استيأست منه، فنسيته وطرحت همه عن عاتقي، وعدت أدور مع الحياة كما تدور الساقية، مغمض العينين، أطوف في مفحص قطاة، فلا غاية أبلغ ولا راحة أجد، أغدو إلى كدّ للعقل وعذاب النفْس، وجفاف الريق وانقطاع النفَس، وأروح، وما بقي فيَّ بقية لعمل، ولا طاقة على كتابة، فألقي بنفسي على كرسي أو سرير، أنتظر عذاب اليوم الجديد. . .

وإني لغادٍ إلى المدرسة ذات يوم، وإذا أنا بأعرابي في شملته يشير إليّ. . . وهو يسير بين تلك المواخير: تريانون وليدو ولوازيس - حائراً يتلفَّت. . . فقلت: لعلّه ضالٌّ أَحب أن يستهديني ووقفت له، فلما دنا وتبينته، لم أملك من الفرح فمي. . . فصحت في السوق وسط الناس. ومالي لا أصيح وقد وجدت (صلبي) بعد طول الغياب. . . وحييته وحياني تحية ذاكر للصحبة، حافظ للود، وطفق يحدثني حديثه. . .

قال:

أتذكر يا شيخ ما ابتلاني به الله من أمر الحمام؟ لقد وقعت في داهية أدهى. . . ولقد والله كرهت الحضر، وعفت المدن، وأصبحت أخشى فيها على نفسي، فما أدري ماذا سيكون من أمري بعد الذي كان؟. . .

. . . قدمت الشام قدمة أخرى، فكان أول ما صنعت أن قصدت صاحبي، وكنت قد عرفت داره في (الميدان). . . فأكرمني وأحسن استقبالي، أحسن الله إليه، وذبح لي خروفاً، ولم يكتف بذلك من إكرامي بل أزمع يأخذني إلى سنمة. . . قلت: ولكني لا أعرف سنمة هذا، ولا أدري من هو، فكيف تأخذني إليه؟ قال: لا بد من ذلك. فاستحييت منه وكرهت أن أخالفه بعد الذي قد صنع في إكرامي. . . وقلت في نفسي: لولا أن سنمة هذا صديق له، عزيز عليه، ما سار بي إليه. ولقد قال المشايخ من قبيلتنا: صديق صديقك صديقك. . . فرضيت وقلت له: على اسم الله!

ولكن الرجل لم يسر بل أدركه لؤم الحضر فصاح بابنه أن هات الجرائد حتى نرى الرواية، فتوجست خيفة الشر، وقلت: إن الرجل قد جنَّ، وإلا فما بال الجرائد؟ وهل تراه

ص: 8

يضربني بها؟ إذن والله لأريته عز الرجال ولضربته ضرباً يبلغ مستقر اللؤم في نفسه. . . وخشيت أن أترّيث أو أتلوّم فأخيب وأفشل، وذكرت حكمة حَمَدْ بن عْلوي:(الغلبة لمن بدأ) فشد ذلك من عزمي وصرخت: (يا هُو. . .) ووثبت وثبة أطبقت بها على عنقه، وقلت: سترى لمن الجرائد والسياط، الابن المدينة الخوار الفرار، أم لابن البر الحر؟

فارتاع وأبيك وجعل يصيح من جبنه: ادركوني، انقذوني! النجدة، العون، يا فلان (لابنه) أقبل. . . ويلك يا صْلَبيَ، يا مجنون، كف عني، ويلك ماذا اعتراك؟

فأخذتني به رأفة فكففت عنه، وقعدت محاذراً أرقب أهل المنزل، وقد اجتمعوا ينظرون إلي بعيون من يهم بفري جلدي. فقال لي: ما أردت بهذا ويلك؟ وبم أسأت إليك حتى استحققت منك هذا الصنيع؟ قلت: بالجرائد. . . امثلي يضرب بالجرائد، لا أم لك؟

فضحك والله وجعل يكركر حتى لقد شبهت بطنه بقربة جوفاء أدخلتها الماء. وضحك كل من كان حاضراً من أهله وبنيه ضحكا ما شككت معه أن القوم قد أصابهم طائف من الجن، فقلت: قبحكم الله من قوم، وقبحني إذ أنزل بمثلكم وهممت بالانصراف. فصاح بي وعزم عليّ إلا ما رجعت، فبررت بيمينه وقفلت راجعاً فقال لي:

وأنت حسبت الجرائد مما يضرب به؟ ألم تبصر جريدة قط؟ قلت: ويحك فكيف إذن؟ أنا من بلاد النخيل، تبوك حاضرتي

قال: وتحسبها جرائد نخيل؟ قلت: إذن فجرائد ماذا؟ قال: خذ؛ هذه هي الجرائد

وألقى إلي صحفاً سوداً بها من دقيق الكلم مثل دبيب النمل، فعجبت منها وسألته أن يقرأ عليّ مما فيها فأستفيد علماً ينفعني في آخرتي، فإن الرجل لا يزال عالماً ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل. ولقد سمعت أنه جاء في الأثر (كن عالماً أو متعلماً أو مستمعاً ولا تكن الرابعة فتهلك)

فضحك وقال: وهل تظنها كتب علم؟ قلت: فماذا فيها مما ينفع الناس؟ قال فيها أخبار البشر - من سافر منهم أو حضر - أو تزوج أو ولد له، فما يصنع أحد من شيء إلا دوِّن فيها، ولا ينبغ من عالم أو أديب أو يقدم مغنّ أو تجيء قينة أو تأمر الحكومة أو تنهى إلا ذكر ذلك فيها، حتى أن فيها صفة الخمر والإعلان عن الميسر، وأخبار دور الدعارة، والدعوة إلى الروايات الخليعة. . .

ص: 9

فلما سمعت ذلك طار عقلي وأخذت هذه الجرائد فمزقتها شرّ ممزقّ، وعلمت أن الله مهلك هذه القرية، وعزمت على مفارقتها ونويت ألا أعود إليها بعد الذي سمعت من خبر جرائدها. . . وما ظننت أن مثل ذلك يكون، ولم يجتزئ صاحبي بما أعلمني من علمها بل عمد إلى صحف أخرى كانت في أيدي صبيانه وبناته فيها صور قوم عراة تبدو عوراتهم، ونساء ما يسترهن من شيء إلا شيئاً ليس بساتر، فأرانيها، فسقط والله من عيني وقلت، هذا القرنان الذي لا تأخذه على أهله غيرة، وما كنت أحسب أن رجلاً يؤمن بالله واليوم الآخر يفعل ذلك. . .

ولست مطيلاً عليك الحديث. . .

. . . وذهبنا نزور سنمة فسرنا حتى بلغنا قصراً عظيما على بابه خلق كثير، وله دهليز تسطع فيه الأضواء، فقلت، هذا قصر أمير البلد، هذا الذي يدعونه رئيس الجماهير. . . وألهاني ما رأيت وشغلني ففقدت صاحبي وسط الزحمة. . . ولكني لم أُبال، وأقبلت أصعد الدرج فمنعني أغلمة بثياب ضيقة حمر ما رأيت مثلها، وعلى رؤوسهم كُممٌ لها رواق من فوق عيونهم كالذي يوضع على عيني بغل العجلة. . . وأفخاذهم مكشوفة فعل أهل الفسوق والتهتك، فهممت أن آخذ اثنين منهم فأكركبهم على الدرج فأزحلق بِعَدهم عن مواضعها، ثم قلت، ترفق يا صلبي لا تجنّ فما أنت في البادية، أنت في قصر الأمير وهؤلاء مماليكه وإنك إن مسستهم لم تجد أمامك إلا ضرب العنق. . . ووضعت يدي على عنقي أتحسسها فعلمت أني لا أزال أحتاج إليها

ولو أنني في السوق أبتاع مثلها

وجدك ما باليت أن أتقدما

وسألت الغلمان الكاشفي الأفخاذ ماذا يريدون مني أن أصنع، فأشاروا إلى كوّة ازدحم عليها الناس، فعلمت أن الدخول من هناك، وأقبلت أزاحم وأدافع وهم يردونني حتى بلغت الكوة. فإذا هي غرفة ضيقة كأنها القفص وإذا فيها رجل محبوس والناس يتصدقون عليه، فقلت في نفسي: هذا رجل ضرب مماليك الأمير فحبسه هنا لتضرب عنقه في غداة الغد، وحمدت الله على السلامة، وتوجهت بوجهي إلى رجل توسمته أسأله: متى تضرب عنق السجين؟ فنظر إلي ولم يجب، ثم ولاّني قفاه وانصرف، فعلمت أن الأمير يمنع الناس من الكلام في هذا، ولولا ذلك لأجابني. ودنوت من كوّة السجين فأعطيته قروشاً كانت معي وقلت له: هذا

ص: 10

لأولادك من بعدك، لهم الله فلا تحزن، فلم يقبضها حتى عّدها فرآها كثيرة فرد إلي بعضها وقبل بعضاً، فلم ألحف عليه وأخذتها منه وأخذت معها ورقة صفراء أعطانيها لم أدر ما هي، ولكني لم أشأ كسر قلبه بردّها، ووضعت ذلك كله في كميّ وعمدت إلى الكوة لأدخل منها فوجدتها عالية، فوثبت فأصبت بقدمي وجه رجل ممن كان هناك، فما باليته وقلت سأعتذر إليه، وقد رأيت أهل المدن يؤذون إيذاء العدو، ثم يعتذرون اعتذار الصديق. وأدخلت رأسي في الكوة، فصاح السجين صياحاً أرعبني والله، وشبهته بصراخ كلب ديس على ذنبه، وأجلب الناس، وطفقوا يشدون برجلي وثيابي، وأنا أرفس بقدمي رفساً لا أبالي موقعه من أجساد الناس، والسجين اللئيم الذي أحسنت إليه يدفع برأسي ويشد بشعري، ولم يكن عضو من أعضائي إلا وهو مشغول، فيداي أتمسك بهما، ورجلاي أذود بهما عن نفسي، ولم أجد ما أدفع به أذاه عني إلا بصقت في وجهه، فأقبل يضربني فعضضت يده، ثم دنوت من وجهه فعضضت أنفه. . . وكان أنف ذليل لا يزال خبث طعمه على لساني. . .

. . . ثم أخرجوني قسراً جبراً - وجاء مماليك السلطان فحجزوا بيني وبينهم - وأخذوا الورقة الصفراء، وأدخلوني من باب كان هناك إلى بهو واسع صح معه ما كنت قدرت من أن سنمة هذا سلطان البلد، ورأيت الناس قد صفوا كراسيَّهم كصفِّ الصلاة، وإذا بعضهم يولي بعضاً دبره، فقلت: ما ألأم أهل المدن، والله ما كنت مولياً مسلماً ظهري إلا في الصلاة. وعمدت إلى الكراسي لأديره فإذا هو مثبت بمسامير من حديد، فتركته واستدرت أنا، فجلست على قفاه، وجعلوا يضحكون مني، فما ألقي لهم بالاً، حتى جاءت امرأة، فجلست قبالتي، فقلت: يا أمة الله استتري. فأقبلوا يزبرونني، وإذا هي فيما قالوا (شاب) وليس امرأة، فجعلت أعجب. . .

ولبثت أنتظر خروج السلطان فإذا بالمماليك يديرونني فيجلسونني من حيث يجلس الناس، فلم أملك إلا الطاعة، وقعدت أنتظر فلم أنشب أن جاء مملوك آخر، فقدم إلي صفحة من خشب قد صف عليها فراني وشطائر وقال: تريد؟ قلت: أريد والله. . . وهل يأبى الكرامة إلا اللئيم؟ وأقبلت آكل فأجد طعاماً هشَّا تحت الأسنان، حلواً في الحلق، خفيفاً على البطن، فقلت: هذه هي البقلاوة التي وصفوها لنا، وجعلت آكل فلا أشبع، وهو يقدم إلي متعجباً

ص: 11

حتى استنفدت ما كان معه. فمسحت شفتي بيدي وقلت: الحمد الله، جزاك الله خيراً

فظل واقفاً ولم يمض، فقلت: الحمد الله، لقد شبعت. قال: يدك على الفلوس؟ قلت: ويحك ماذا تريد؟ قال: أكلت ثلاثين قطعة كل قطعة منها بسبعة قروش فهذه مائتان وعشرة. . . قلت: قبحك الله من عبد لئيم! تأخذ من ضيوف السلطان ثمن القرى؟

وكان ما أكلت قد شدَّ صُلْبي فوثبت إليه ووثب إليّ، وقام الناس، وزلزل البهو بأهله، وكادوا والله يطردونني لولا أن ظهر صاحبي فانفرد بالمملوك فأرضاه عني، وجاء فقعد معي

وإنا لكذلك يا شيخ، وإذا بالأنوار تنطفئ، وإذا بالخيل تهجم علينا مسرعة حتى كادت والله تخالطنا. فقلت: لك الويل يا صْلَبي، ثكلتك أمك، إنه الغزو فما قعودك؟ وقفزت قفزاتي في البادية، وصرخت وهجمت أدوس على أجساد الناس وهم يضجّون ويصخبون، فلما كدت أبلغ الخيل اشتعلت الأنوار وفر العدوّ من خوف بطشي هارباً، وجاء عبيد السلطان ليخرجوني فردَّهم عني صاحبي وكلمهم. . .

فقلت: هذا والله العجز والذل، فقبح الله من يقيم عليهما ترون العدو قد خالطكم وتلبثون قعوداً؟ ما أكرهكم إلي يا أهل المدن، ما ظننت والله إلا أنكم ستحملون إلي صلة السلطان على أن رددت عدوّكم وهزمته. . .

فضحك اللئام، وجعل صاحبي يحذرني العودة إلى مثلها؛ ولم ألبث حتى أطفأت الأنوار كرّة أخرى؛ ففزعت ونظرت فما أحسست إلا امرأة قد قبض عليها رجل خبيث وأنا أسمع صياحها ولا من مغيث؛ فثارت الحمية في رأسي وسللت الخنجر وأقبلت أريده، فاختفى والله حتى كأن لم يكن هنالك من أحد. وعادت: الأضواء، ورجع الصخب؛ فقلت: والله ما أقيم، وجعلت أصيح أخرجوني ويلكم. . . حتى أخرجوني. . .

قال صْلبي: فخرجت وقد علمت أن جرائدكم يا أهل المدن تنشر الفجور وتهتك ستر الله عن الناس وتفضحهم، وأن شبابكم بنات، وأن أمراءكم سحرة يسحرون أعين الناس حتى يروهم ما لا يُرى. . . ثم إنكم لا تغارون على أعراضكم، ولا تبالون كشف عورات أبنائكم وبناتكم. لا والله ما أحبكم. . .

وذهب مولياً عني مسرعاً يمشي بين تلك المواخير القذرة: ترياتون وليدو وأوليمبيا. . . .

ص: 12

تلقاء سوق الحميدية والأموي حيث المدينة الطاهرة الفاضلة. . . حيث دمشق التي سمَّاها شوقي (ظئر الإسلام)!

(ثانوية - دمشق)

علي الطنطاوي

ص: 13

‌الأمومة عند العرب

للأستاذ رفعة الحنبلي

تمهيد

ذهب أكثر علماء الاجتماع، حتى أواسط القرن الثامن عشر إلى أن الأبوة هي أقدم عهداً من الأمومة في تاريخ الأسرة، وأنها قد تتشابه والأسرة الحديثة تشابهاً كلياً من حيث المنشأ والتكوين، إلى أن ظهر كتاب (الأمومة) للعالم الألماني الكبير فأحدث انقلاباً تاماً في تاريخ الأسرة وفي آراء علماء الاجتماع فيه. إذ ذهب إلى أن الأمومة هي أقدم عهداً من الأبوة، وأبعدها أثراً منها في الهيئة الاجتماعية

ليست الأمومة أقدم نوع في تاريخ الأسرة بل هي - كالأبوة - أحد الأنواع التي مرت على هذا التاريخ منذ ما أخذت الجماعات الإنسانية تفكر في تكوين الأسرة وخلقها

أراد علماء الاجتماع بالأمومة بأنها القرابة من ناحية الأم، كما أرادوا بالأبوة بأنها القرابة من ناحية الأب، ذلك أن الولد في الحالة الأولى ينتسب إلى أمه كما أنه ينتسب إلى أبيه في الحالة الثانية

وقد اختلف العلماء في أمر نشأة الأمومة وتباينت آراؤهم في أمر ظهورها، فذهب إلى أنها نشأت من نكاح المشاركة أو بعبارة ثانية من نكاح الاختلاط فتولد من هذا النوع من النكاح الفوضوي الأمومة؛ إذ ليس من السهولة أن يعرف الولد أباء فينتسب إليه ويلتحق به، ولذا كان النسب محصوراً في الأم وقرابتها وحسب، وأصبحت لها مكانتها العالية، ومقامها الرفيع عند القوم، لأنها - في الحقيقة - الوالدة الوحيدة المعروفة من أبوي الولد مما أدى بها إلى تزعمها الهيئة الاجتماعية ردحاً من الزمن

إلا أن العالم الإنكليزي يخالف فيما ذهب إليه في أمر نشأة الأمومة، ويردها إلى التباين الموجود بين نوعين من أنواع الزواج: الزواج الخارجي والزواج الداخلي ذلك أن عندما أراد البحث عن تاريخ الأسرة، وجد أن هنالك عادة لا تزال شائعة عند بعض الشعوب المتوحشة حتى في بعض الأمم المتمدينة أيضاً، هذه العادة هي خطف الخطيب لفتاته، أو اغتصابها، فأيقن أن هذه الظاهرة ليست إلا بقية من عادة قديمة أخرى تشير إلى تزوج رجل قبيلة في قبيلة ثانية. وقد توصل في بحثه هذا إلى معرفة تلك العادة وسبب تأصلها

ص: 14

في الأمم الغابرة، فاعتقد أنها ناتجة عن وأد الفتاة وقتلها، مما أدى إلى قلة عدد النساء، وزيادة عدد الرجال زيادة بينة، فأقدم هؤلاء على مخالطة امرأة واحدة مما نشأ عنه تعدد الأزواج وبالتالي الأمومة، التي يعنى بها معرفة أم الولد دون أبيه

وخالف العالم الألماني زميله في اجتهاده مخالفة تامة فذهب إلى أن الأمومة ظهرت بظهور (عصر الزراعة) وعهدها؛ ذلك أن الأم - في ذلك الوقت - كانت تتعهَّد الأرض بالغرس والزرع تعهداً كليَّا، وكانت تشرف على البيت إشرافاً تاماً لا ينازعها السلطة عليه أحد، متحملة التبعات العظيمة التي ألقيت على عاتقها مما جعلها تهتم بالناحيتين الداخلية والاقتصادية، بينما كان الرجل بعيداً عن البيت وعن هذه المظاهر المختلفة، إما للقيام بواجب الدفاع أيام الغزوات والحروب، وإما لإشباع رغبته في القنص والصيد، وهو إلى هذا قد لا يفكر في الاجتماع بأسرته وزيارة امرأته - أم أولاده - إلا عندما يرغب في الاتصال بها

حدث من هذا الابتعاد أن التف حول المرأة أولادها - وهي التي غذتهم بلبنها وقامت على تربيتهم - فأنشأت لنفسها مركزاً سامياً بين أعضاء أسرتها، أي لدى أولادها واخوتها وأعمامها، وأخذت الأسرة تتركز فيها، فاحترم القوم هذه الأم، وأنزلوها منزلة رفيعة، وأمست محور الأسرة ومحور البيت معاً. . . وهكذا اتجهت الأمومة نحوها

إلا أن لم ينتبه إلى أهمية (التوتمية) في نشأة الأمومة؛ هذه الكلمة تشير إلى رمز ديني اتخذته الأسرة أو القبيلة القديمة إلهاً لها، وهي إلى ذلك من الرموز الدينية التي لها الفضل الأكبر في تكوين الأسرة الأولى. يقول: (إن الأسرة الأولى لم تقم إلى على التوتمية، وحسب المرء لكي يعد عضواً في الهيئة الاجتماعية أن يكون تابعاً أو منتسباً لتوتم واحد ومن صفات التوتم أن يكون محصوراً في نسل المرأة، أي أن يتبع الولد توتم أمه. وليس الولد هو الذي يتبع أو ينتسب إلى هذا التوتم فحسب، بل تشترك الأسرة والقبيلة في هذا الانتساب أيضاً. فالتوتمية لها إذن الأثر الأكبر في تكوين الأمومة وظهورها

وإذا كان الولد لازم أمه في عصر الزراعة كما نوه بذلك وما إليها وانتسب إلى أسرتها، وتوثقت علاقته الاجتماعية بها، فإن كل هذه الظواهر لم تكن نتيجة هذا العصر، بل كان الباعث لها التوتمية

ص: 15

الأمومة عند العرب

مما لا ريب فيه أن الأمومة كانت فاشية عند أكثر شعوب العالم إن لم يكن كلها، ونكاد نلمس آثارها جلية واضحة عند بعض الجماعات: كقبائل الأراواك في غينيا، وقبائل الدياك في بورنو؛ كما أننا نشعر باضمحلالها عند البعض الآخر حيث خلفتها الأبوة. وإذا ما رجعنا إلى تراث كل أمة من الأمم الغابرة نجد أنها عرفت هذا النوع من أنواع الأسرة. والأمة العربية لم تخل في سالف عهدها، قبل الإسلام، من شيوع الأمومة فيها ومعرفة العرب بالتوتمية فالتوتمية كلمة أشار بها هنود أمريكا الشمالية إلى الحيوان المقدس الذي تعبده القبيلة وتسمى باسمه وتنتسب إليه. فالقبيلة التي تأخذ الحمامة توتماً لها، فإنها تعتبرها ملاكاً كريماً، وروحاً طاهرة وحارساً أميناً لها، فتتلقب بها، ويعتقد رجالها جميعهم أنهم أقرباء لها ولسائر أنواع الحمام أيضاً

ولو رجعنا إلى تاريخ الأمة العربية، في جاهليتها، لوجدنا أن كثيراً من قبائلها كانت تعرف بأسماء بعض الحيوان أو بأسماء بعض الآلهة، ودليلنا على ذلك أنْ بعض القبائل العربية كانت معروفة بقبائل أسد، وثور، وكلب، وعقاب، وغيرها، حتى أن المستشرق سمث يعتقد أن لهذه الأسماء معاني دينية، وأن لها علاقة بعبادة الحيوان كما هو مشاهد في التوتمية؛ كما أن البعض الآخر من القبائل العربية تتلقب بأسماء الآلهة التي عبدها كقبائل بني هلال وبني شمس وبني بدر وغيرها الذين كانوا ينتسبون إلى تلك الآلهة التي كانوا يعبدونها أيضاً؛ فالقبائل العربية كانت، عهدئذ، توتمية أي أنها كانت تقدس الحيوان وتعبده، وعنه اتخذت ألقابها. على أن من صفات التوتم، كما قدمنا، أن يكون محصوراً في نسل المرأة أي أن يتبع الولد أمه دون أبيه، كما هو مشهور عن هنود أمريكا الشمالية إذ لا يزالون حتى اليوم على الأمومة

والأمومة عند العرب نشأت عن عدم معرفة أبي الولد، ذلك أن الهيئة الاجتماعية العربية القديمة لم تهتم بالزواج الشرعي بل كان الزواج فوضوياً أو زواجاً مشتركاً أي أن المرأة لم تكن ترتبط مع الرجل برباط شرعي متين بل كانت تتصل بأكثر رجال قبيلتها

إلا أن العالم يذهب إلى أن الأمومة نشأت عند العرب عن تعدد الأزواج الذي كان في بادئ الأمر غير مقيد، بمعنى أنه لم تكن صلة قرابة بين الأشخاص المالكة لامرأة واحدة،

ص: 16

لكنه أصبح فيما بعد مقيداً ومحصوراً أي أن المرأة أصبحت تخص جملة أشخاص معينة من أسرة واحدة أو من أم واحدة. غير أن الفيلسوف الإنكليزي (يعد تعدد الأزواج من الأمور الشاذة التي نتجت عن قلة النساء) فالأمومة كانت إذن سائدة في الوقت الذي كان فيه زواج الاشتراك شائعاً عند الأمة العربية، قبل أن تعرف الزواج الشرعي أو الزواج الفردي الذي تعرفه الهيئة الاجتماعية الحاضرة وتعمل به

ولابد لنا من أن نتساءل: هل كانت الأمة العربية في جاهليتها، تعرف هذا النوع من الزواج - زواج الاشتراك - أم أخذت بنوع آخر أي بتعدد الأزواج؟

لقد اخبرنا أحد المؤرخين اليونانيين القدماء - سترابون - عن أمر الزواج عند عرب الجاهلية بأن (الأملاك عندهم مشتركة أي أنها تخص جميع أعضاء الأسرة التي يرأسها شيخ، وهو أكبرهم سناً، ولهم جميعاً امرأة مشتركة يختلفون إليها، فمن جاء منهم قبلاً دخل عليها، وترك على الباب عصاه، ليشير بذلك إلى اختلائه بها. . .

لكنها، في الليل، لا تكون إلا مع أكبرهم سناً) نفهم من هذه العبارة التي أوردها هذا المؤرخ اليوناني أن تعدد الأزواج كان فاشياً بين العرب ومعروفاً عندهم، وهذا ما اعتقده المستشرق سمث.

وأعقب هذا المؤرخ عبارته تلك بعبارة ثانية خالف بها ما ذهب إليه في الأولى إذ قال: (وهم يتصلون بأمهاتهم ويعاقبون الزاني بالموت، ويريدون بالزاني من اتصل بامرأة من غير قبيلته). يعني بذلك أن رجال القبيلة الواحدة أباحوا لأنفسهم الاتصال بنسائها بحرية تامة، فلم تكن المرأة يستأثر بها رجل معين، أو جماعة معينة، وهذا ما يجعلنا نؤمن بشيوع زواج المشاركة عندهم لا تعدد الأزواج

يقول أحد علماء الاجتماع: (إن العرب في الجاهلية لم تكن تعرف زواجاً مستمراً ترتبط به المرأة مع رجل إلى وقت محدود؟ ذلك أن العرب كانوا يفضلون النكاح الوقتي على غيره). وقال أيضاً: (والعرب يقضون عمرهم في التجول والتنقل ونساؤهم يتصلن بمن أردن من الرجال لأجل معين، بعد أن يأخذن منهم أجورهن فريضة. هذا النكاح الوقتي يشبه نكاح المتعة الذي أباحه النبي العربي الكريم لأصحابه في أول عهد الإسلام، وقد عرفه بعض علماء الشرع بأنه نكاح يعقد إلى أجل معين، ثم يحل بعد انقضاء هذه المدة. وفسره البعض

ص: 17

الآخر: بأنه - أي نكاح المتعة - يعقد إلى أجل، لا ميراث فيه، وفراقه يحصل بانقضاء الأجل من غير طلاق)

ولنبحث قليلاً عن نكاح المتعة، فإن لنا فيه بعض الفائدة لهذا البحث، لنقف منه على مدى تلك العلاقات الزوجية القائمة بين الرجل والمرأة.

أشار القرآن الكريم إلى هذا النكاح، نكاح المتعة، في عدة آيات. فقد جاء في سورة النساء (. . . وأحل لكم وما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين، فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة، ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة. . .) أختلف المفسرون في تفسير هذه الآية، فبعضهم يفهم من مدلولها أنها إشارة إلى الزواج الشرعي أو الزواج الفردي، وأن كلمة أجورهن يراد بها مهورهن لأن المهر ثواب على البضع وبعضهم يرى فيها أنها إشارة إلى زواج المتعة أو الزواج الوقتي حتى قيل أن هذه الآية نزلت في المتعة التي كانت ثلاثة أيام حين فتح الله مكة على يد رسوله الكريم ثم نسخت.

كان الرجل ينكح المرأة وقتاً معلوماً ليلة أو ليلتين أو أسبوعاً بثوب أو غير ذلك ويقضي منها وطره ثم يسرحها؛ وسميت متعة لاستمتاعه بها أو لتمتيعه لها بما يعطيها

وهاك بعض الأحاديث التي تدل على أن النبي العربي الكريم أباح المتعة يوم فتح مكة، ونهى عنها بعد ذلك. جاء في صحيح البخاري: أن النبي، صلوات الله عليه، نهي عن نكاح المتعة آخراً. وعن أبن عباس حينما سأل عن متعة النساء فرخص؛ فقال له مولى له: إنما ذلك في الحال الشديد وفي النساء قلة أو نحوه فقال أبن عباس: نعم

يتبين لنا مما تقدم، أن النبي العربي الكريم أباح نكاح المتعة في الظروف المتقدمة، وحرمها تحريماً أبدياً. قال مستشرق في كتابه (تاريخ تمدن الشرق) عن زواج المتعة ما معناه:(وكان شائعاً بين العرب قبل محمد نوع من النكاح يكاد لا يستحق هذا الاسم، وهو المعروف بنكاح المتعة؛ كان يعقد لأجل بقيمة معلومة تدفع للمرأة سلفاً؛ لكن محمداً أبطل هذه العادة الرديئة)

فالمتعة إذن ليست إلا النكاح الوقتي، وكانت من عادات العربي في الجاهلية، ولو لم تكن من عاداتهم قبل الإسلام لما نزلت الآية القرآنية، ولما أحلها وحرمها النبي العربي الكريم؛

ص: 18

لقد تأصلت هذه العادة في نفوس القوم، وتمكنت من أخلاقهم، وتأصلت في طباعهم حتى أننا نلمس أثارها بعد الإسلام وبعد هذا التحريم. روى الرحالة الإنكليزي أنه (رأى في أكثر شوارع مدينة (سنان) - وهي من أعظم المدن في اليمن - سماسرة للنساء، فكل غريب لا مأوى له في المدينة يمكنه أن يتزوج ويتبلد فيها بقيم زهيدة وبطريقة بسيطة، وهو أن يتفق مع المرأة، بعد أن يراها وتعجبه على الثمن، فيحدد لها المدة التي يمكنه أن يقيمها معها أسبوعاً كان أم شهراً أم سنة كاملة ثم يحضر معها أمام القاضي أو حاكم المدينة فيسجلان أسميهما في كتاب عنده ويكتبان الشروط التي اتفقا عليها، وكل ذلك لا يكلفه إلا بضع دريهمات، ثم يضع الرجل يده في يد المرأة أمام القاضي فيتم الزواج ويعد ذلك شرعياً حتى انقضاء المدة المعينة؛ هذا وكل منهما حر أن يفترق عن صاحبه متى أراد أو أن يرتبط معه ثانية بعد انقضاء المدة المعينة، أما إذا افترق أحدهما عن الآخر قبل انقضاء هذه المدة فعليه أن يدفع لصاحبه القيمة التي تسلمها منه أو اتفق معه عليها طبقاً للشروط التي عقدت بينهما، وبعد ذلك يمكنه أن يتزوج على الصورة عينها متى شاء)

لو لم يكن النكاح الوقتي فاشياً بين العرب لاستحال وجود نساء يهبن أنفسهن ببضعة دريهمات ولأجل معين، ذلك أن الأمة العربية في جاهليتها لم تكن تعرف الزواج الشرعي الدائم.

(البقية في العدد القادم)

رفعة الحنبلي

ص: 19

‌أفانين

أبو النجم الرجاز وهشام بن عبد الملك

للأستاذ علي الجندي

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

تركنا في المقال الأول أبا النجم في رصافة هشام أو رصافة الشام، على حال تسرّ العدو وتسوء الحبيب! منبوذاً من البلاط خائفاً يترقب! لا طعام إلا ما يصيبه من مائدة الكلبي والتغلبي، ولا مأوى إلا بيت الله يبيت فيه بلا وطاء ولا غطاء مع طُرّاق الليل وأبناء السبيل!

وقبل أن نقتصَّ بقية أخباره نريد أن نعرف: كيف رانت الغفلة على عقله، وكيف غاب عنه شيطانه الناصح! فزلّ زلة ما كان أيسر أن يشيط بها دمُه لولا أن حفّه لطف الله الخفي! وأي زلة أكبر من أن يعيب شاعر الخليفة في وجهه بين غاشيته وخاصته؟

الحق أن لأبي النجم بعض العذر؛ فإنه لم يكن في مقام المادح للخليفة المخاطب له بالشعر حتى يُعدَّ مجبّها له، وإنما هي أرجوزة أنشئت من قبل في غرض خاص وسمعها الخليفة عرضاً، وليس من المعقول أن نعطل التشبيهات، ونُبطل الوصف ونئد الفن إكراماً لحَوَل عينٍ ولو كانت عين هشام! فالكلام في ذاته بريء من العيب، وإنما العيب من المصادفة السوداء!

والحق أيضاً في أشرَّ مما وقع أن جمهرة من الشعراء قبل أبي النجم وبعده وقعوا في أشرَّ مما وقع فيه، وبعضهم لم يكن بادياً جافياً مثله، بل كان حضري الشمائل، رقيق الحواشي، مصقول الخاطر، أنيق الطبع كأبي نواس! ولا يتسع المقام لإيراد الشواهد؛ فقد نجرد لها مقالاً خاصاً، ونكتفي منها بمثال واحد:

يذكر الرواة أن ذا الرمة الشاعر ورد على عبد الملك بن مروان فاستنشده شيئاً من شعره، فأنشده أول قصيدته البائية:

ما بال عينك منها الماء ينسكب؟

كأنه من كلى مفرية سرب

وكان بعين عبد الملك شعرة فهي تدمع منها أبداً، فتوهم أنه عرّض به! فقال: وما سؤالك

ص: 20

عن هذا يا أحمق؟ وأمر به فأخرج

وقد علل ابن رشيق انزلاق الشعراء إلى هذه المآزق، فقال: إنما يُؤتي الشاعر في هذه الأشياء من غفلة في الطبع وغلظ، أو من استغراق في الصنعة، وشغل هاجس بالعمل يذهب مع حسن القول أين ذهب

ثم قال - ينصح لهم -: والفطن الحاذق يختار للأوقات ما يشاكلها، وينظر في أحوال المخاطبين، فيقصد محابهم ويميل إلى شهواتهم، وإن خالفت شهوته؛ ويتفقد ما يكرهون سماعه فيتجنب ذكره

ورأيي أنه كان واجباً على هشام في أبهة الخلافة وجلال الملك وبهاء المنصب، أن يتغاضى عن هنة غير مقصودة من شاعر نقي الفطرة، سليم دواعي الصدر مثل أبي النجم، وأحسب أن هذه السقطة لو وقعت في بلاط معاوية أو المأمون أو الواثق، ما زادوا على أن أسروها في أنفسهم، أو ضحكوا لها ضحكة مدوية! ولو أن هشاماً جعلها دْبَر أذنه ما كان لها هذا الشأن التاريخي ولأكبر الناس رحابة ذرعه، ورجاحة حلمه، ورموا أبا النجم بالفدامة وفساد الذوق!

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر نقول: إن حولة هشام لها نوادر مذكورة في الكتب!

يحدث المسعودى في مروج الذهب: أن هشاماً عرض الجند يوماً بحمص الشام، فمر به رجل من أهلها على فرس نفور فقال له: ما حملك على أن ترتبط فرساً نفوراً؟ فقال الحمصي: لا، والرحمن الرحيم، يا أمير المؤمنين ما هو بنفور، ولكنه أبصر حولتك فظن أنها عين غزوان البيطار! فصاح هشام: تنح! فعليك وعلى فرسك لعنة الله!

وكان غزوان هذا بيطاراً نصرانياً بناحية حمص يشبه هشاماً كل الشبه

ويحكي المبرد: أن سالم بن عبد الله بن عمر، دخل إلى هشام في ثياب وعليه عمامة تخالفها، فقال له هشام: كأن العمامة ليست من الثياب، قال: إنها مستعارة. قال: كم سنك؟ قال: ستون. قال: ما رأيت ابن الستين أبقى كدنة منك! ما طعامك؟ قال: الخبز والزيت. قال: أما تأجمهما؟ قال: إذا أجمتهما تركتهما حتى أشتهيهما.

ثم خرج من عنده وقد صُدِع! فقال: أترون الأحول قد لقعني بعينه؟ فمات من تلك العلة!

ونحب أن نقول بهذه المناسبة: إن الحول قد يعده بعض الناس - وأنا في طليعتهم - من

ص: 21

سمات العيون المستملحة كالحور والانكسار والدعج، وبخاصة إذا كان الحول خفيفاً وهو ما يسمى بالقَبَل.

ففي ترجمة ابن سريح: أنه كان في عينه قبل حلو لا يبلغ أن يكون حولاً

وفي أخبار أبي الأسود: أنه اشترى جارية حولاء فغارت منها زوجه وابنة عمه: أم عوف. فكانت تشارُّه في كل يوم وتقول: من يشتري حولاء؟ فلما أكثرت عليه قال:

يَعيبونها عندي، ولا عيبَ عندها

سوى أن في العينين بعض التأخر

فإن يك في العينين سوءٌ، فإنها

مهفهفة الأعلى، رداح المؤخر

وقد عد بعض العشاق حول عينيه نعمة من الله تستوجب الشكر والحمد! وساق ذلك في شعر طريف علق عليه أبو هلال العسكري بقوله: إنه لا أظن له شبيهاً!

قال العاشق الشاعر الأحول:

حمدت إلهي إذ بليت بحبها

على حول يغني عن النظر الشزْر

نظرت إليها، والرقيب يظنني

نظرت إليه، فاسترحت من العذر

ونعود إلى سياقة قصة أبي النجم فنقول: إن محنته لم تطل، فقد تأذّن الله بكشف الغمة عنه وهيأ لذلك أسبابه!

فأمسى هشام ذات ليلة لَقِس النفس منفّر المنام! وهو عارضٌ كثيراً ما يعتري الخلفاء لما يكابدونه من جهد في تصريف أمور الملك وتدبير شئون الرعية، وإعمال العكر في سدّ الثغور ورتق الفتوق. وكانوا في مثل ذلك يفزعون إلى السُّمار الظراف يتفكهون بأحاديثهم ومُلحَهم. فتقدم هشام إلى خادم له أن يبغيه محدثاً، وأن يكون أعرابياً أهوج شاعراً راوية! ومن يكون ذلك المحدث الأعرابي الأهوج الشاعر الراوية غير أبي النجم؟

وذهب الخادم يبحث عن طلبة الخليفة فقاده حسّه اللطيف إلى أحد المساجد، وإذا برجل نائم فضربه برجله وقال: قم، أجب أمير المؤمنين. فقال الرجل: أنا أعرابي غريب. قال: إياك أبغي، فهل تروي الشعر؟ قال: نعم، وأقوله. فأقبل به من المسجد حتى أدخله قصر الخليفة وأغلق الباب وراءه؛ فذكر الرجل حادثته مع هشام فرجف قلبه وأيقن بالشر المستطير! ولكنه أسلم الله أمره واستقاد للخادم؛ فأدخله إلى أمير المؤمنين في بيت صغير من بيوت القصر، بينه وبين أهله ستر رقيق والشموع تزهَر بين يديه. فلما بصر به هشام قال: أبو

ص: 22

النجم؟ قال: نعم، طريدك يا أمير المؤمنين. فإذن له بالجلوس وسأله عمن كان يُضيفه؛ فأخبره خبر الكلبي والتغلبي. قال: وكيف اجتمعا لك؟ قال: كنت أتغدى عند أحدهما وأتعشى عند الآخر. قال: وأين كنت تأوي؟ قال: في المسجد حيث وجدني رسولك

وأطرق هشام برهة لعله راجع فيها نفسه فندم على ما كان منه مع أبي النجم! ثم رفع رأسه وقال له: مَا لَكَ من الولد والمال؟ قال: أما المال فلا مال لي، وأما الولد فلي ثلاث بنات وبُني يّقال له: شيّان. قال: هل أخرجت من بناتك؟ قال: نعم، زوجت اثنتين وبقيت واحدة تجمِز في أبياتنا كأنها نعامة. قال وما وصيت به الأولى؟ - وكانت تسمى برَّة - قال:

أوصيتُ من بَرةَّ قلباً حُرا

بالكلب خيراً والحماةِ شرَّا

لا تسأمي ضرباً لها، وجَرا

حتى ترَى حلو الحياة مُرَّا

وإن كستك ذهباً ودرُا

والحيّ عُمَّيهم بشرٍّ طُرَّا

فضحك هشام، وقال: فما قلت للأخرى؟ قال: قلت:

سُبَّي الحماة واْبهتي عليها

وإن دنتْ فازدلفي إليها

وأوجعي بالفِهْر ركبتيْها

ومرفقيها، واضربي جنبيها

وقعَّدى كفيْكِ في صُدْغيها

لا تخبري الدهَر بذاك ابنيْها

فضحك هشام حتى بدت نواجذه، وسقط على قفاه! وقال: ويحك! ما هذه وصية يعقوب لولده! قال: ما أنا كيعقوب يا أمير المؤمنين ولا ولدي كولده

قال: فما قلت للثالثة؟ قال: قلت:

أوصيك يا بنتي فإني ذاهب

أوصيك أن يحمدك الأقارب

والجار والضيف الكريم الساغب

لا يرجع المسكين وهو خائب

ولا تني أظفارك السلاهب

لهن في وجه الحماة كاتب

والزوج، إن الزوج بئس الصاحب

قال: فأي شيء قلت في تأخير زواجها؟ - وكان اسمها: ظَلاَّمة - قال: قلت:

كأن ظلامة أخت شَيَّان

يتيمة ووالداها حيَّان

الرأسُ قملٌ كله وصِئبان

وليس في الرجلين إلا خيطان

وقُصَّة قد شيَّطتها النيران

تلك التي يفزع منها الشيطان

ص: 23

فضحك هشام حتى ضحكت النساء لضحكه! وقال للخِصيّ: ما فعلت الدنانير المختومة التي أمرتك بقبضها؟ قال: هاهي عندي ووزنها خمسمائة. قال: ادفعها إلى أبي النجم ليجعلها في رجلي ظلامة مكان الخيطين!

علي الجندي

ص: 24

‌من وراء المنظار

صراع. . .!

سألتُ صديقي الأستاذ (عين) أن يعيرني منظاره ساعة من زمان، علَّي أرى من خلاله ما توسوس به نفوس قوم قضيت بينهم عمراً من عمري، أحسن الظن بهم، وأقربهم إلى نفسي خشية أن يستشعروا الوحدة، وأنزل لهم عن بعض مالي خيفة أن يجدوا لذع العوز، وأواسيهم في البأساء ضناً بقلوبهم أن يأكلها الأسى و. . .؛ فلما أعرضت الأيام عني، انطلقتُ أفتش عبثاً، وإذا أنا على حَيْد الطريق، وحيداً تكاد تعصف بي أعاصير الحياة لولا بقية من أمل. . .

وأراد صديقي الأستاذ (عين) أن تكون له عندي يد أخرى، فقدَّم إلي منظاره في رضى، فوضعته على أنفي في خيلاء، ودلفت إلى الشارع في أناة وتؤدة، وهو من ورائي يشيعني بنظراته الباسمة

وخشيت أن ينزلق المنظار من على أنفي وأنا أتخطر في مشيتي، ومالي عهد بالمناظير، فيتحطم وأنا به ضنين؛ فانتحيت ناحية أصلح من شأني وشأنه، وأزوَّر في نفسي أمراً، فما راعني إلا صوت يناديني باسمي

والتفت فإذا صديقي (م) وزوجته يسيران الهوينى جنباً إلى جنب وذراعاً في ذراع، وقد عرته حمى الضحك حين رآني أقلب المنظار بين يدي، أضعه على عيني مرة، وأخلعه مرة، في حيرة وتردد؛ غير أني تغاضيت عن مجونه وأنا أدنو منه

لقد نشأ صاحبي (م) - كما نشأت أنا - بين ربوع الريف في ظل القرية الوارف الجميل، لم تلوث المدينة دمه الطاهر، ولا دنست الحضارة قلبه الزكي. عرفته وعرفني أول عهدي بالمدرسة، فهو أول من جلست إلى جانبه في فصل، وأول من تحدثت إليه في مدرسة، وأول من سكنت إليه في درس، وأول من لاعبته. . . ودرجنا ودرجت معنا الصداقة الجميلة الرفّافة، والأيام تجمع بيننا وتفرق، ونحن على عهد من الود لا نقطعه، وميثاق في الهوى لا نخيس به، وفي القلبين أواصر لا تستطيع نوازع الحياة أن تعبث بها، ولا تطمع حاجات العيش في أن تطغى عليها

وبهرت المدينة صاحبي أول ما هبط القاهرة، وهو قد هبطها طالباً في الجامعة، فاستلبه

ص: 25

بهرجها من وقار القرية وحيائها ليقذف به في هذر الحياة ومجونها، وجرفه التيار وهو عنيف، فما استطاع أن يخطو الخطوة الأخيرة من تعليمه الجامعي إلاّ وهو يلهث من أثر الإعياء والبهر، ثم أرخى لنفسه العنان

وتعرف إلى ابنة (فلان) بك، وهو عين من أعيان القاهرة استطاع أن يخلق من جاهه وظيفة مرموقة يقدمها مهر الزواج إلى زوج ابنته الوحيدة. . . إلى صاحبي

وشاء (البك) ألا يحرم النظر إلى وحيدته، وهي قرة عينه وفرحة قلبه، وما في القصر سواها بعد أن ماتت عنها أمها، وسوى زوجته الجديدة، وهي فتاة في فجر العمر وثورة الشباب تزوجت من (البك) وفاء دين كان على أهلها، فلمست فيه برد شبابها المضطرم، وأحست بعد ما بين شيخوخته الذاوية وبين نضارتها المتألقة، فانطوت على نفسها تبكي حظها العاثر، ثم. . . ثم أشرق صاحبي الشاب في الدار فابتسمت له حين وجدت في غدوه ورواحه حياة تتوثب

وعاش الفتى في هذه الدار يتغنى بالسعادة ويترنم بالهناءة، وهو يحدثني حديثه - بين الفينة والفينة - فأستبشر لكلماته ويطمئن قلبي

لا جرم، فالآن قد نفذ بصري من خلال المنظار إلى الحقيقة التي لا يعرفها صاحبي، الحقيقة التي إن جاشت بها نفس الزوج طّمت عليها ابتسامات الزوجة الرقيقة. . .

هذه هي الزوجة الطيعة الوفية تتراءى لي وهي تنظر إلى زوجها الريفي الساذج في احتقار وسخرية، وفي نفسها أنه صنيعة أبيها ويد من أياديه، أقامه وهو يتكفأ في مضطرب الحياة، ولمّ شعثه من شتات، وخلق منه رجلاً ذا مال وأنق وهو على خطوة من التصعلك، ثم هي لا تحس باحترامه ولا تشعر بكرامته، وكيف؟ وهو قريب عهد بآداب الجماعات والحفلات، لا يعرف الرقص، ولا يتقن (البوكر)، ولا يصبو إلى الأصفر والأحمر من شرابهم وإن حمرة الخجل لتربط على لسانه إن هو جلس إلى فتاة غريبة، وإن فورة الغيظ لتسيطر عليه إن جلست هي إلى شاب غريب، وهي فتاة من بنات الشارع ترى في طباعه تزمت الأغبياء، ورجعية الفقراء، واضطراب الجهلاء، فتعبث به، وهي في مأمن من ثورته، لأنه عبد أبيها. . .

ورحت أحدق في الزوجة لأتغلغل إلى خلجات ضميرها. . . وهي تتصاغر في عيني،

ص: 26

وهو يتضاءل تحت منظاري، حتى بلغنا سيارة (البك)، وفيها زوجته الشابة تنتظر. . . لقد أرادت أن تخلو إلى نفسها ساعة تدبر أمراً. . .

وعجبت أن رأيتها تلتصق بصاحبي تريد أن تستشعر الدفء من شبابه، وهي تحاول أن تصرفه عن زوجته رويداً رويداً لتستمتع به، وفي قصر زوجها، غير أنها كانت تخشى صولة (البك) ونظرت إلى زوجة صاحبي فألفيتها لا تستطيع أن تلمس خواطر تتنزى في قلب زوجة أبيها، لأن حياتها المائجة كانت قد أسدلت على عينيها ستاراً لا ترى من فروجه إلا الحفلات والسهرات، وإلا الزينة والسمر، وإلا. . . فأوشك البيت أن يتداعى عليها

وعجبت لهذا الصراع النفساني يحوم حول صاحبي وهو عنه في غفلة؛ فرفعت بصري إلى السماء أحوله عن بعض ما رأيت؛ غير أني ذهلت أن رأيت صفحة من صفحات القدر منشورة أمامي أقرأ فيها: أن (البك) قد مات، وأن النزوات المكبوتة قد ثارت. فيا ترى من ذي التي تفوز

وأنت يا صاحبي لا تلحني فلقد كتبت لك سطراً من حياتك علك تجد لنفسك مخرجاً قبل أن تتردى

(مشتهر)

كامل محمود حبيب

ص: 27

‌من تاريخ الأدب الإنجليزي

في عهد الملكة اليزابث

1558 -

1603

للأديب مصطفى مشعل

مقدمة

تعتبر القصة منذ أقدم العصور فناً قائماً على قوة التخيل، واستخلاص أفضل النتائج التي يحسن توجيه الشعب إليها، وبث العقائد أو المثل العليا التي يدين بها الكاتب

ومن المعروف أن أدب القصة هو الأدب الذي يتأثر به القارئ أكثر من تأثره بسواه، وأنه الأدب المحبوب الذي يتذوقه المطالع تذوقاً شهياً دون ملل، أو إرهاق فكر. فهو إذن أشد الآداب اتصالاً بالروح، وتصويراً للشعور، ووصفاً للبيئة، ومعالجة للحياة في جميع أوضاعها. . . فالقصة هي أحسن أدب يمثل الحياة.

ولا شك في أن الكاتب الروائي يستطيع - إن ملك القدرة على نسج الخيال بالحقيقة، واستطاع سرد قصته دون أن يمل قارئه النجاح - بسهولة في جعل هذا القارئ يعيش ويحيا مع أبطال قصته، فيفرح لفرحهم ويتألم لألمهم كأنهم أشخاص يعيشون على مسرح الحياة لا مسرح الخيال

ومن الحقائق المعروفة أيضاً عن الأدب القصصي أنه أداة فعالة في النفوس، فنحن مثلاً إذا سمعنا قصة حياة شبيهة بحياتنا نشعر بفرح هائل يملك علينا إحساسنا، إذ نرى في احساسات غيرنا وشعوره صورة ناطقة لشعورنا وأحاسيسنا، حتى ولو كان ذلك الشعور وهذا الإحساس ألماً لشيء أو أسفاً عليه، فالطبيعة البشرية تجد في هذه المشاركة في الشعور والوحدة في الألم أملاً جديداً، وشجاعة تواجه بها الأحداث والمتاعب

أما إذا كان الوصف والتصوير الذي نطالعه هو وصفاً وتصويراً لحياة جديدة لا نعرفها ولا نحياها فسرعان ما نلمس في نفوسنا حناناً لهذه الحياة متأثرين بما نقرأ عنها من وصف. . . مشغوفين بما نتخيله عنها سواء كان هذا التخيل الذي يدفعنا إليه الكاتب يتجه نحو النور أو الظلام. . . نحو الفرح أو الحزن؛ وهكذا ينمو ذلك التأثر وهذا التخيل حتى ندخل في

ص: 28

حمأة الحياة الجديدة ونعيش فيها شاعرين بلذة لا توصف، لأننا شاركنا أبطال القصة في حياتهم، وفي فرحهم وترحهم

ونحن نستنتج من هذا أن القصة الواقعية التي تصف حياة رجل أو امرأة وصفاً حقيقياً تفوز بعطفنا وإعجابنا، ولكننا سرعان ما نشعر بفتور يستولي علينا، لأن أبغض شيء إلى المرء هو أن يرى الآم حياته تمثل أمامه أو تسرد عليه مرة أخرى. . إنه يكتسب من ذلك أملاً ولكنه لا يكتسب لذة. . . وذلك لأن القصة الواقعية قد عدمت في سطورها ذلك الشيء المجهول الذي نشعر به ولا نعرفه، واللذة غير الأمل. . . فاللذة التي يحسها القارئ لقصة مزجت فيها الحقيقة بالخيال البلوري هي تلك اللذة التي يحسها كل بشري عقب استطلاع شيء مجهول. . . عقب الخوض في عالم جديد لا يعرفه ولم يحيى في

ومن ذلك نرى أنه كان لزاماً على القصاص أن يخترع المواقف والمفاجآت التي يوحيها خياله ليضمن تتبع القارئ له تتبعاً مستمراً غير منقطع. . . وكان عليه أن يشوق القارئ إلى النهاية المحبوكة، وأن يجعله يعجل القراءة محاولاً أن يصل إلى آخر مرحلة من مراحل هذا الخيال المسترسل وإلى خاتمة هذه المفاجآت المتصلة، لأنه - أي القارئ - لا يستطيع أدارك نهاية القصة ولا يستطيع أن يحزرها حزراً يقرب من الصواب، لأنه لم يشعر ولم يتذوق مثل الحياة التي تصفها القصة وتصورها

ماجن ورولاند

كان هذان الرجلان هما أول من بذرا بذور هذا النوع الذي تحدثت عنه، فأستقبله الكتاب الواقعيون بشيء غير قليل من اللهفة والشغف والرغبة القوية في التقليد، فما زالوا يفكرون بين مترددين ومقدمين حتى جرفهم التيار فإذا بهم مقلدون. وهكذا شاع وذاع هذا النوع السائغ السهل الهضم في المعدة الأدبية، وابتدأ الخيال يلعب دوره في القصة ويشتط شططاً كبيراً ويجمح جموحاً غريباً حتى اعتاده الناس وتقبلوه تقبلاً حسناً ولكن الكتاب أمعنوا فيه إمعاناً شائعاً مبتذلاً، فكان ذلك وبالاً على هذا النوع من القصة إذ تحول القراء عنه. وهكذا راح يخبوا ويندثر ليظهر على أعقابه نوع جديد من الأدب الذي كتب واصفاً بعض حوادث التاريخ القديم وسمي بالقصة

قصة (يوفيسن) لجون ليلي

ص: 29

إذا أراد الكاتب أن يتحدث عن العصر الإليزابثي ومخلفاته وأن يتكلم عن القصص الموفق الذي ظهر وأحدث ضجة كبيرة لما وجد أمامه إلا قصة رائعة بل هو أروع آثار هذا العهد إطلاقاً من حيث قوة الفكرة وحسن الأسلوب ولما اشتملت عليه من مغزى

كتب هذه القصة شاب نابه يدعى جون ليلي وكان اسمها (يوفيس)، ونحن إن أردنا تحليل الأسباب والدوافع التي كانت سبباً في ظهور هذه القصة وتفوقها على كل ما عداها استطعنا ذلك بقليل من الاستنتاج. فالقصة لم تكتب جزافاً ولم يضعها صاحبها لمجرد الرغبة في الكتابة أو الشهرة، بل إنه أراد بها مغزى عظيماً، إذ حاول أن يظهر ويصف التأثير السيئ والانحطاط الخلقي الذي كانت الحياة الاجتماعية في إيطاليا تؤثره في صغار الشبان الإنجليز النازحين إليها لتلقي العلم والمعرفة

لقد كانت إيطاليا في ذلك الوقت بلاد النور الخلاب يتهافت عليها طلاب العلم، وتفيض هي على العالم علماً وعرفاناً، حتى لقد كان يحج إليها كل متعلم أراد أن يتم حظه من الثقافة أو يزيد نصيبه من العلم. واقتبست إنجلترا هذه العادة عن غيرها من الأمم منذ رحل إلى إيطاليا بعض المجدين من طلبة العلم الذين أظهروا نبوغاً في الأدب من أمثال: كوليت وليناكر وجركن لدراسة اللغة اللاتينية وآداب الإغريق الكلاسيكية التي كانت دراستها باعثاً قوياً في نهضة أدب المسرح والقصة. . . واستمرت هذه العادة عند الطبقة الراقية كتقليد لابد منه لكل من أتم دراسته حتى بعد أن شرعت الجامعات الإنجليزية في تدريس هاتين المادتين

ولم يكن جون ليلي هو أول من فطن إلى ذلك، بل إن أول من أراد منع هذا التقليد هو مؤدب الملكة روجر آشام فلقد أدرك روجر أن هؤلاء الذين يحجون كل عام إلى إيطاليا بحجة الدراسة إنما يرحلون دون نية أو مقصد حقيقي لذلك. فلقد كانوا يجتمعون هناك في مدرسة واسعة حيث كانت الآداب الإغريقية الرائعة تعتبر فيها مادة للهو والتسلية، إذ كانت تترجم إلى اللغة الإيطالية الدارجة بأسلوب وضيع ولغة فجة، فتحولت عن مغزاها العالي الذي كتبت من أجله إلى أداة للاستهتار والتسلية ليس إلا. فأشار روجر إلى كل ذلك في كتاب ثقافي وضعه وحمل فيه على العقائد والمثل العليا في إيطاليا حملة شعواء، وبيّن الأخطار الهائلة التي تعود على الأمة من جراء إرسال أبنائها وصفوة شبابها إلى بلاد لا

ص: 30

يدين قومها بشيء، بل هم ساخرون هازلون بالعقائد الإلهية والقوانين المرسلة. . . ولكن الكتاب رغم ذلك كله لم ينل النجاح الذي قدره روجر له ولم يف بالغرض الذي أراده، لأنه كتب بأسلوب علمي لا يشجع على القراءة، وإن كان قد مهد به لبحث مسألة حيوية لجيل من الشباب.

كان روجر صادق النية في محاولة تخليص أمته من تأثير إيطاليا، ولذا لم يرض هو نفسه عن كتابه هذا. . . كان يريد كتاباً من نوع آخر. . . كتاباً يقرأه الخاص والعام، فيخرج منه متأثراً منضما لروجر في فكرته، مؤيداً له في وجوب القضاء على هذه العادة. . . ولكنه لا يستطيع كتابة هذا الكتاب لقلة فراغه وكثرة مشاغله. . . فماذا يفعل؟. . .

تذكر الشاب المغمور جون ليلي وعرف فيه القدرة على وضع الكتاب المنشود والبراعة في الوصف والتأثير على القارئ، فأوحى إليه أن يضع قصة يبين فيها آفات المجتمع الإيطالي وخطره العظيم على شبيبة ناشئة والنتيجة السيئة لهؤلاء الذين يعيشون في وسطه وما زال دم الشباب يجري في عروقهم حاراً عنيفاً. . . وما زال بهم ظمأ شديد للعب والوثب. . . وظمأ أشد للحب والمرأة. . . وشغف لا يقاوم بحياة الليل المسممة بين رنين الكؤوس وأصوات القبل.

وكان ليلي عند حسن ظنه به فدرس المؤثرات التي يستهدف لها الفتى الإنجليزي في إيطاليا وبلادها وجعلها موضوعاً لقصته العظيمة (يوفيس)

كان اسم (يوفيس) اسماً مقتبساً عن الإغريقية، ولعل هذا هو ما حدا به لأن يجعل بطل قصته شاباً من شباب أثينا المفتونين أنهى دراسته ثم رحل إلى إيطاليا للدراسة، وفي طريقه عرج على (نابلي) وهناك التقى بآخر يدعى إيبوليس. . . ولكن هذا الأخير عاقل في بلدة أجدبت من العقلاء؛ فهو ينصح يوفيس، ولكن يوفيس لا ينتصح. . . وهو يلومه ولكنه لا يرعوي. . . وهو يحاول أن يفيده والآخر لا يريد؛ فإذا ما مل نصحه ويئس من إصلاحه صمت على مضض. . . ولكن رغبته في إصلاح صديقه لا تلبث أن تعود فيضرب على الناحية الحساسة في نفس يوفيس قائلاً:

- أي يوفيس البائس. . . اعمل لأجل الله ولا تعمل لأجل نفسك، واجعل حبه لا حب البشر هو المسيطر عليك، وأحذر أن تغضبه منك، فإنك لو عملت له، وأخلصت لذاته

ص: 31

العظيمة، باركك ورعاك، فإنه عادل يحب المخلصين

ولكن أنى للجاهل العربيد أن يثوب إلى رشده ويعود إلى حظيرة الله ما دام الشيطان يطوف حوله ليسكب في أذنيه أغاني الشر وأهازيج الدمار

لقد أنخرط الأثيني الشاب في زمرة الكسالى، وراح معهم يعيشون في أنحاء نابلي فساداً يبحثون عن اللذة أينما وجدت، ويتذوقون كل محرم ويفخرون بما يأتونه كل يوم من ضروب المجون والعبث

وتصل القصة إلى أكثر أجزائها شدة وقوة فيعمد ليلي إلى ختم قصته ختاماً موفقاً حقاً إذ أرجع (يوفيس) إلى أثينا. . . (رجلاً حزيناً عاقلاً). . . بل لقد جعل منه رجلاً آخر مخالفاً لشخصيته الأولى. . . لقد أدرك آثام الماضي وشروره فراح يكتب الرسائل الطويلة إلى أصدقائه باسطاً فيها الآراء الناضجة الكاملة الشيء الكثير، شأن العارف الدارس بأسرار الحياة

ولعلك تستطيع أن تلمح من بين سطور القصة قوة المؤلف الذي استطاع أن يصف ما أراد من نزق وجنون، وعبث ولهو، ثم ندم واستغفار. . . ووقار وحكمة

لقد أراد ليلي أن يجعل الناشئة تتمسك بأهداب الفضيلة بأن أخذ يسرد عليهم سرداً قويا التقاليد السيئة المتبعة ليجتنبوها ودعا فيما دعا إليه إلى دراسة الكتاب المقدس ليستوحوا منه العظات ولكي يستطيعوا التغلب على نزعة الإلحاد التي كانت تنتشر في إيطاليا بلد العلم والعرفان!

وهكذا لم تلبث القصة أن ذاعت ذيوعاً عظيما حتى لقد صارت أحب الكتب الأدبية إلى الناس

كانت حديث الطبقات الراقية. . . بل لقد تناقل الإعجاب بها موظفو البلاط الملكي نفسه

على أنه مما ليس فيه شك أن هذه القصة لو لم يعرف مؤلفها أدواء الجيل لما لقيت من هذا النجاح الفذ قليلاً أو كثيراً، بل لما سمع عنها في هذا الوقت، فإنما قامت شهرتها على قوة أسلوبها وقوة بصيرة مؤلفها وقدرته على معالجة الحوادث الخارجية التي كانت تحيط بالناشئة، والتي كان الشعب يجهلها رغم أنها كانت سائدة بينه. . . فعلى هذا الأساس المتين نالت القصة هذا المركز الفذ الذي لا يداني في العهد الإليزابثي كله

ص: 32

الأساليب القصصية

كانت الدراسة الطويلة للآداب الإيطالية وأساليبها من أقوى المؤثرات في الأسلوب الذي ساد في هذا العصر. . . لقد عنى الكتاب بالمظاهر في أسلوبهم أكثر مما عنوا بالفكرة في كتاباتهم. ونحن إذا تعمقنا قليلاً في الأساليب التي استعملت في هذا العهد وجدنا فيها شيئاً غير قليل من محاولة التلاعب بألفاظ وحروف اللغة ومحاولة جعل أوائل أو أواخر الكلمات متشابهة في جرسها أو رنتها الموسيقية كالسجع في اللغة العربية مثلاً

وقبل أن أنتقل بالقارئ إلى نوع آخر استعمل في الأسلوب الإنجليزي لهذا العهد أحب أن أنقل هنا جملة من الأسلوب الذي تحدثت عنه وهي من قصة (يوفيس):

أما النوع الآخر فقد سموه أسلوب التباين أو الموازنة المضادة وأنا أنقل منه هنا بضع جمل لسهولة الفهم:

، وإليك جملة أخرى:

،

وتفيض كتابات هذا العصر بمثل هذا الأسلوب الأخير، كما تفيض بالأسلوب الأول. وبقدر ما كان لهذه الأساليب من ميزة إن صح أن كان لها ميزة، كان الشعور العميق والاختلاجات الحقيقية صعبة الإظهار. . . صعبة البيان. . . تحتاج إلى كثير جداً من المهارة والحنكة والتصرف والإلمام بكلمات اللغة. . . وخلق المرادفات التي لا يستثقلها السمع ولا ينبو عنها الذوق، وفي كل هذا من الإرهاق والجهد ما يفوت المقصد الحقيقي على الكاتب، بل ويمعن به في البعد عن الموضوع إمعاناً معيباً جرياً وراء هذا السجع، أو ذاك التباين، فإنه مما لا شك فيه أن محاولة تصيد الحروف الأولى للكلمات أو الحروف الأخيرة تقف - في غير الشعر - حجر عثرة في سبيل الأسلوب المستقيم.

هذه هي أهم الأحداث في تاريخ الأدب القصصي في هذا العهد الذي ابتدأ عام 1558م إلى 1603م

ولا شك أن القارئ لاحظ معي أنني قصدت الكلام عن قصة يوفيس، ولكني لم أفعل ذلك إلا لأن هذه القصة هي أعظم أثر أدبي لهذا العصر فضلاً عن أنها تمثل في أكثر أسلوبها

ص: 33

الأسلوب الذي ساد. . . الأسلوب الذي كان أشبه ما يكون بالطلاء اللامع الذي يخفي وراءه عيوباً كثيرة، حتى لقد سخر عميد اللغة الإنجليزية وليم شكسبير منه إذ كان يجريه على لسان بعض أبطال قصصه البلداء الفكر

قصة جديدة لجون ليلي

كتب ليلي هذه القصة عام 1579 بعد قصته الأولى بعام واحد وهي عبارة عن رواية لزيارة (يوفيس) لإنجلترا وانخراطه في الحياة الاجتماعية الإنجليزية

وكانت القصة محتفظة بروح المؤلف. . . ونقد فيها العادات الإنجليزية والجامعات الإنجليزية، لا بقصد التشهير والهدم، وإنما للإصلاح ووضع القواعد الثابتة الناجحة لمساعدة الشبان الناشئين وكان يوجد بجانب ليلي بعض الكتاب الذين ساهموا بنصيب وافر في خدمة أدب القصة في هذا العصر، ومن هؤلاء كاتبا المأساة لودج وجرين، والأخير كتب عدداً كبيراً من القصص القصيرة اقتبسه عن الإيطالية. . . واشتهّرت كتابته بميسم الحزن والألم؛ ولعل ذلك يرجع إلى المرض الذي عاناه والذي جعله ينظر إلى العالم بمنظار أسود، حتى لقد كتب عن هذا اليأس والحزن قصة طويلة جعل اسم بطلها (روبرت) وهو اسمه الأول

أما الكتاب الآخرون، فلم يظهروا إلى جانب من ذكرت إما لضعف أسلوبهم أو لقلة ثقافتهم

الإسكندرية

مصطفى مشعل

ص: 34

‌رسالة الشعر

رحلة عابسة

للأستاذ أحمد محرم

من دمنهور عاصمة البحيرة التي هي مقر الشاعر إلى

القاهرة، ومن القاهرة إلى الإسكندرية عن طريق الصحراء،

انطلقت به السيارة هو وصديق له، فمر في طريقه بدنشواي

والقناطر الخيرية والأهرام، فتنكرت شاعريته لكل هذه

المشاهد، أو هي قد تنكرت لهذه الشاعرية الساخطة، وحسبه

أن يكون في جوف الصحراء فيحسب أنه في نفق من الأنفاق،

وأن يكره الشمس فيراها تخلع رداء الحسن والإشراق، ويشهد

الروض يكره نفسه، فيلقي بما فيه من زهر وأوراق. وهذا ما

يقول في هذه الرحلة العابسة:

عَصَف الْهَوَى بَجَوانِح المُشْتَاقِ

وَهَفاَ الَحْنيِنُ بقَلْبِهِ الَخْفَّاقِ

مَا يَصْنَع الْقِلْبُ الطَّرُوبُ إذ الْهَوى

بَلَغَ القَرارَ، وجَالَ في الأعْمَاق؟

يا صَاحِبي: فِيمَ المُقَامُ عَلَى الأذَى؟

سِرْ فالْبِلَادُ فَسِيحَةُ الآفاق

اركَبْ جَنَاحَ الرَّيح وَاسْتَبِقِ المَدَى

بَعْدَ المَدىَ (بالشَّاعِرِ السَّبَّاق)

ماذَا تَظُنُّ بِناَ المَدَائَنُ والْقُرَى؟

الرَّكْبُ رَكْبِي، والرِّفاقُ رفاقِي

وَأَنَا الَّذِي أَحْبَبْتُهاَ، وَجَعَلْتُهاَ

دَارَ الهوَى، وَمَحَلَّةَ الأشْوَاق

وَلَكَمْ سَقَيْتُ رُبُوعَها مِنْ أَدمْعُي

وَالبَاكِياتُ جَوَامدُ الآمَاق

لاذَتْ بأَرْوقَةِ الْبَيَانِ فَلَمْ تَجِدْ

في الَحْادِثَاتِ النُّكْرِ مِثْلَ رِوَاقي

أدب تَحَصَّنَ بالْمرُوُءةِ فارْعَوَى

عَنْهُ المُسَاوِمُ، وَاتّقَاهُ الرَّاقي

ص: 35

ما كُنْتُ أَحْسَبُ وَالُخْطُوب كثِيرةٌ

أَنّ الْقَرِيضَ يبُاَعُ في الأسْوَاق

قُلْ للْجَدَاوِلِ وَالزُّرُوعِ: تَحَدَّثي

في غَيْرِ مَا وَجَلٍ، وَلَا إشْفاَق

ماذَا يُمَارِسُ مِنْ شَدَائَدِ دَهْرِهِ

مَنْ أَنْتِ كلُّ رَجائِهِ، وَيُلَاقي؟

وَلِمَنْ جَنَاكِ؟ أَللِّذِي هُوَ زَارِعٌ؟

أَمْ أَنْتِ للِجَاني بِلَا اسْتِحْقاَق؟

وْيلِي عَلَى (فَلاّحِ مصْرَ) أَمَا كَفَى

ما ذَاقَ مِنْ عَنَتٍ وَمِنْ إِرْهَاق؟

يُغنِي أُلُوفَ المُتْرَفينَ بماَلِهِ

وَيَعِيشُ في فَقْرٍ وَفي إِمْلَاق

سُبْحَانَ مَنْ شَرَعَ السَّبِيلَ لِخَلْقِهِ

أَكَذَا يَكُونُ تَفَاوُتُ الأرْزَاق؟

وَلَقَد مَرَرْتُ (بدِنْشِوَايَ) فَهَاجَنيِ

وَجْدٌ عَلَى مَرَّ الحوَادِثِ باق

تِلْكَ السَّياطُ عَلَى الجُلْوُدِ وَهذِهِ

سُودُ الْحِباَلِ تُشَدُّ في الأعْناَق

وَأَرَى دُمًوعَ الثَّاكِلاتِ هَوَاميِا

تَجْرِي فَتَغْرِق فيِ الدَّمِ المُهْرَاق

تُرِْمَي النُّفُوسُ وَمَا بِهاَ مِنْ قُوَّةٍ

تَزَعُ الرُّماة وَمَا لَهَا مِنْ وَاق

عرَفَ (الحَمامُ) مُصَابَهاَ فَكَأَنّماَ

لَبِسَ الأسى في هذِهِ الأطْوَاق

لوْلَا الأُلَي حَمَلُوا السَّلَاحَ لِصَيْدِهِ

لمْ يَسْقِهاَ المَوْتَ المُسَمَّسمَ سَاق

سِرْ يا رَفيِقيِ، لَيْتَنيِ فيِ مَحْبَسِي

وَلَسَوْفَ أَمْنَعُ أَنْ يُحَلّ وَثَاقيِ

أَهِيَ (القنَاطِرُ) في بَدِيعِ جَمَالِهَا؟

أَمْ تِلْكَ بَعْض مُقَاَبِرِ الأخْلَاق؟

لَا تَظْلِمُوا الْعُشَّاقَ يَا قَوْميِ، فما

أَبْصَرتُ غَيْرَ مَسَارِحِ الْفُسَّاق

وَدَعُوا العُهُودَ، فما وَجَدْتُ لِمُدَّعٍ

في الحُبَّ مِنْ عَهْدٍ، وَلَا ميِثَاق

الحُبُّ مَا صَرَف القُلُوبَ إلى الهدَى

وَسَمَا إلى الجَوْزَاءِ بالأَحْدَاق

دِينُ الْمُرُوَءةِ وَالوَفَاءِ، وَإِنْ هُمُو

زَعَمُوهُ دِينَ تَصَنُّعٍ وَنِفاَق

القبْرُ أَطيَبُ مِنْ فُؤَادِ مُنَافِقٍ

خَدَعَ النفُّوسَ بِظَاهِرٍ بَرَّاق

مَا هذِهِ (الأهرامُ)؟ مَا لِبُناَتِهَا

سَاقُوا أُمُورَ المُلْك شَرَّ مَسَاقِ

هَدَمُوا الْقُوَي فِيها يُشَدُّ بِنَاؤُها

وَيُقَامُ أَطْبَاقاً عَلَى أَطْبَاق

هيَ إِنْ أَرَدْتَ الْحقَّ شَاهِدُ قَسْوَةٍ

يُخْزِي الوُجُوهَ وَآيةُ اسْتِرْقاَق

أَفَمَا تَرَاها، كُلَّمَا اسْتَنْطَقَتهَا

زَادَتْكَ مِنْ صَمْتٍ وَمِنْ إِطرَاق؟

خُرْسٌ يُجَّللُهَا الَحْيَاءُ، وَمَا بها

إِلاّ ضَلَالُ (السَّاسَةِ الحُذَّاقِ)

ص: 36

قالَ الأُلي فُتنِوُا بها: مُسْتَوْدَعٌ

لِلسّرَّ، غَودِرَ مُحْكَمَ الإغْلَاق

دَعْ مَا يُريبُكَ مِنْ وَسَاوِسِ مَعْشَرٍ

عَكَفُوا عَلَى التهَّوِْيلِ وَالإغرَاق

دَارٌ تُجيِرُ مِنَ الزمَانِ وَصَرْفِهِ

وَتَصُونُ مَا أَبقَى مِنَ الأرْمَاق

خَيْرٌ مِنَ الصَّرْحِ المُقَامِ لِظاَلمٍ

جَافيِ الطَّبَاعِ إِلي الأذَى تَوَّاق

سِرْ في الْقِفَارِ البِيدِ، مَا لِرِكاَبِناَ

مِنْ حَابِسٍ فيها، وَلَا مُعْتَاق

رَحُبَتْ جَوَانبُهَا، فَنَحْنُ نَظنُّهَا

أَخْلَاقَ حُرّ مَاجِدِ الأَعْرَاق

أَتَظُنُّ أَنَّا في فَسيِحِ فَضَائِهَا

أَمْ نَحْنُ فيِ نَفَق مِنَ الأَنفَاق؟

اِصبِرْ، وَلَا تَعْجَبْ لِمَا أَناَ قائِلٌ

فالْهَمُّ وَيحَكَ آخِذٌ بِخِناَقِي

وَكَأَنَّمَا أَنَا والأحِبَّةِ حُضَّرٌ

حَوْليِ صَرِيعُ نُوًى وَنِضْوُ فِرَاق

إِنّا اجْتَمَعْنَا للِرَّحِيلِ، يَضُمُنَا

فَكأنَّناَ لمْ نَجْتَمِعْ لَتلَاق

ذُقْتُ الخُطُوبَ فما وَجَدْتُ مَرَارَةً

كَمرَارَةِ الحِرْمَانِ وَالإِخْفَاق

مَا كُنْتُ أُوثِر أَنْ أُفارِقَ مَوْضعِي

لَوْلَا الْقَضَاءُ وَحِكُمَةُ الَخَّلاق

مَالِي رَأَيْتُ الشَّمْسَ حين كَرِهْتُها

خَلَعَتْ رِدَاَء الْحُسْنِ وَالإِشْراق؟

وَلَقَدْ شَهِدْتُ الرَّوْضَ يَكرَهُ نَفسْهُ

لَمَّا رَمَى بالزّهْرِ وَالأَوْرَاق

لِلعَبْقَرِيةِ مِنْ هَوَى أَرْبابها

عِلْمٌ تُجَوَّدُهُ، وَفَنٌّ رَاق

أُمُّ الْبَدَائعِ، مَا يُحَدُ نِطَاقُهَا

إِنْ حَدَّدَ الأَقوَامُ كلًَّ نِطاَق

هِيَ لِلرَّجَالِ عَلَى الَخْصَاصَةِ وَالْغِنَى

أغْلَى الْكُنُوزِ، وَأَنْفَسُ الأَعْلَاق

أحمد محرم

ص: 37

‌آمال كاذبة

للدكتور إبراهيم ناجي

لا البرء زار ولا خيالك عادا

ما أكذب الآمال والميعادا

عجباً لحبك يا بخيلة! كيف يخ

لق من جوارح عابد حسادا؟

إني لأهتف حين أفترش المدى

وأرى الجحيم لجانبَّي مهادا:

آهاً على الرأس الجميل سلَا وأغ

فى مطمئناً لا يحس سهادا

فَرشَتْ له الأحلام واحتفل الهدو

ء به ومدَّ لهُ الجمال وسادا

يا حبها ما أنت ما هذا الذي

جمع الغريب وألّف والأضداد

كمْ أشرئب إلى سماك بناظري

مستلهماً بك قوةً وعمادا

ولَكَمْ أَبيتُ على السآمة طاويا

في خاطري شبحاً لها عوَّادا

فأراك تعبث بي كطفل في السما

ء يصرَّف الأقدار كيف أرادا!

ولكم أقول هوًي كما بدأ انتهى

فإذا الهوى وافى النهاية عادا

مات الرجاء مع المساء وإنما

كان الممات لحبنا ميلادا

ماذا صنعت بناظرٍ لا ينثني

متطلعاً متلفتاً مرتادا

وأنا غريب في الزحام كأنني

آمال أجفان حُرِمْن رقادا

ولقد ترى عيني الجموع فما ترى

دنيا تموج ولا تحس عبادا

فإذا رأيتك كنت أنتِ الناس وال

أعمار والآماد والآبادا

وأراك كل الزهر، كل الروض أن

تِ لدىَّ كلُّ خميلة تتهادى

ناجي

ص: 38

‌سأغني

(مهداة إلى (لولو) الصغير. . .)

للأديب عبد العليم عيسى

ظمِئتْ روحي وضاقت رَحَباتي

واحْتَوت قلبي المدمَّي كرُباتي

فاتركوني أتغنَّى في حياتي

ذاهلاً عن كل موجودٍ وآت

سأغني! سأغني!! فدعوني

إن روحي ترتوي من نغماتي

لستُ منكم. . . فاذْهَبوا عني بعيدا

ثم ضِجوا واقصِفوا قصفاً شديدا

واملئوا الكونَ صُراخاً لن يبيدا

إن أحلاميَ لا تهوى الرعودا

دْربكم خالف درْبي وطريقي

فاتركوني هائماً في سَبَحاتي

قد كذبتم. . . وأنا كنتُ صدوقا!

وغلِظتم. . . وأنا كنت رقيقا!

وقسَوْتم. . . وأنا كنت رفيقا!

ورسِفتم. . . وأنا كنت طليقا!

فلِماذا. . . تحْسبوني مثلكم

من بني الطين وعبد الظلمات

اسْألُوا عني السَّواقي والزهورَا

وضفافَ النهرِ والحقلَ النضيرا

أنا أهواهاَ. . . ولا أهوى القصورا

فجَّرتْ قلبي فغنَّيتُ كثيرا

وهْيَ تدري هجسَاتي ومُيولي

وطِباعي ونزُوعي وصفاَتي

ص: 39

‌الأدب في أسبوع

نقد

كتب الأخ الفاضل الأستاذ سلامه موسى في مجلة اللطائف (8 إبريل سنة 1940) كلمة يتعقب بها كلامنا في (الفن الفرعوني، وتمثال نهضة مصر) المنشور في عدد الرسالة 345 في 12 فبراير سنة 1940 وجعل عنوان نقده (تعارض التيارات الفكرية، وضررها على التطور الاجتماعي والثقافي) وسنلخص لك نقده ثم نتبعه ببعض ما يجب علينا من تحرير رأينا، وتقدير رأي الأستاذ الفاضل، يقول: إن الأفكار تتعارض في كل أمة حرة ولكنه لا يخرج بها عن أسلوب الحياة العامة من التوافق إلى التناقض والتنافر، فيفضي ذلك إلى اختلال التوازن الاجتماعي، فيعتاقُ الأمة عن الرقيّ والإصلاح. ويقول: إن بعض الآراء في مصر ليتناقض كما يكون التناقض بين أمتين متخالفتين، وإن (العقلية المصرية) التي تفكر بها مصر في أنظمتها الاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية، والتعليمية، والحربية: هي ضرورة الوضع الجغرافي والاحتكاك السياسي بأوربا، وإننا لا نعيش فقط في القرن العشرين، بل في سنة 1940 من هذا القرن. ويقول ما نصه:

(ونستطيع أن نضرب الأمثال على هذا الاختلاف الذي يقارب التنافر. فقد ألَّفَ الدكتور طه حسين بك كتاباً يدعو فيه إلى أن نجعل من الفن الفرعوني أحد العناصر في (الغذاء الروحي والعقلي للشباب) فتناول هذه الدعوة الأستاذ محمود محمد شاكر بالاستنكار حتى قال في مقاله بالرسالة: وعلى ذلك، فيحب أن نقرر أن الفن المصري الفرعوني - على دقته، وروعته، وجبروته - إن هو إلا فنٌّ وثنيٌّ جاهلي قائم على التهاويل، والأساطير، والخرافات التي تمحق العقل الإنساني، فهو إذن لا يمكن أن يكون مرَّة أخرى في أرض تدين بدين غير الوثنية الفرعونية الطاغية - سواء أكان هذا الدين يهودياً أم نصرانياً أم إسلامياً أم غير ذلك من أشباه الأديان). . . ثم استمر فنقل بعض رأينا في الذي قلناه عن تمثال نهضة مصر

وهذا تعارض عجيب، كما يرى الأستاذ سلامه موسى، واختلاف في التيارات الفكرية يحمله على أن يدعو الاجتماعيين أن يحاولوا التوفيق بين هذه الآراء حتى لا يصير اختلاف الرأي الحر تناقضاً في العقائد المجزومة، وحتى نُصْبح أمة متمدنة تستطيع أن

ص: 40

تنصت إلى الرأي المخالف في تسامح وأن تعبر عنه في اعتدال ينأى عن الحدة والتهور

ثم يقول الأستاذ الفاضل إنه يتوهم مما كتبته أن الدكتور طه أو المثال مختار يريدان منا أن نحنط الموتى ونعبد (رعْ) مع أن حقيقة ما طلبه كل منهما أن نستوحِيَ هذا الفن المصري القديم. ثم يقول عني وعن الدكتور طه: (إن الاختلاف بين الكاتبين هنا يرجع إلى أكثر من ذلك، وهو أشبه بالتنافر بين القائلين بعقيدتين متناقضتين، ومصلحة الأمة تقتضي إزالة هذا التنافر بين الذين يكلفون هذه المهمة، وكل رجل مثقف يهتم بالانسجام الاجتماعي في الأمة)

وهذا نهاية الرأي في كلام الأستاذ سلامة موسى نقلنا أكثره بنصه أو ما يقربُ منه. ونحن نشكر الأستاذ سلامة موسى على حُسن مقصده ورغبته في تحقيق الإصلاح الاجتماعي بإزالة كل العوامل المفرَّقة بين الناس

التيارات الفكرية

ومن الغريب أن اليوم الذي صدرت فيه هذه المقالة في اللطائف، هو نفسه اليوم الذي كتبنا فيه عن (الرأي العام وسياسته) في العدد الماضي من الرسالة، وقلنا إن تعدد الثقافات في الشعب الواحد قد أفضى إلى شر آثاره، حيث تنابذت العقول على المعنى الصحيح، واختلفت المناهج المؤدية إلى الغايات، وكذلك يبقى الشعب إلى النهاية وهو في بدءِ لا ينتهي، وفي اختلاف لا ينفضُّ. وكما يرى الأستاذ سلامة موسى أن هذا التعارض البغيض بين الآراء مما يعتاقُ رقيَّ الشَّعب، ويمنعه من الاجتماع على رأي، ويحرمه فضيلةَ القوة التي تنفُذُ به إلى غاياته. . . كما يرى نحن نرى، ونرى وراءَ ذلك كله ما هو أسوأ وأقبحُ - مما يستعاذ منه وتخشى مغبَّتُه. فهذا إذن أمرٌ مفروغٌ من تقريره بيننا وبينه، وهي رغبة نتوافى جميعاً على العمل لها، ونَشْريِ أنفسنا في سبيل إنفاذها

وكان جديراً بالأستاذ سلامة موسى أن يرى مثل هذا الرأي في الذي كتبناهُ ويعلم عِلمْ ما طوبناه في نقدنا لرأي الدكتور طه، ولعلّه لم يقرأ كل ما كتبناهُ في العدد 344، 345 من الرسالة، ولعلّه لم يتتبَّع ما نقولُ به من الرأي في باب (الأدب في أسبوع)، ولو قد فَعَل لعرف أن الرأي بيننا وبينه في ذلك غير مختلف إن شاء الله

القرن العشرون

ص: 41

وما دمنا في حديث تعارضُ هذه التيارات الفكرية، فقد كنت أحبُّ أن ينزّهَ الأستاذ سلامة موسى كلامه عن بعض التعريض. . . وذلك تنبيه لنا أننا نعيش في القرن العشرين، وفي سنة 1940 منه. فهل يَظُنّ الأستاذ أننا نعيش في غيره أو أننا نرى أنفسنا رِمَماً تاريخية عتيقةً قد انبعثتْ في أجلادِ إنسان (القرن العشرين)!

. . . الزمن لا يكون هو العلة في إنشاء الحضارة، وإنما تُستجدُّ الحضارة بالروح الإنسانية وبالإنسانية الروحية، وإنما الزمن وحدوده تبع للإنسان الحي، ولا يكون الإنسان تبعاً للزمن إلا حين تفقد الروح إنسانيتها العالية، وتفقد الإنسانية روحانيتها السامية. . . وترتد الحكمة والحضارة والتهذيب وجميع الفضائل إلى منزلة الغرائز الدنيا التي تصرَّف العجماوات من الأحياء في سبيلها، وعلى سنتّها، وبقانونها، ومن مدارجها النازلة إلى أغوار الحيوانية الفطرية

إن من أخطر التيارات الفكرية التي تهاوى فيها أكثر كتاب القرن الماضي، والمخضرمون من كتاب القرن العشرين اعترافهم بالقرن العشرين وما فيه اعترافاً (تعبُّدياً) يكاد يكون إيماناً وعقيدة، فما أقنع منه بالبرهان والحجة فهو ببرهانه وحجته، وما لم يقنع فهو مردود إلى الأسرار الأزلية للحضارة، وأنه هكذا كان. . . وأنه هكذا خلق، وأنه ما دام موجوداً في حضارة القرن العشرين، فوجوده هذا هو برهانه وحجته. . .!!

وأنا - مع الأسف - لا أعتقد في هذا القرن العشرين اعتقاداً قلبياً مطمئناً بالإيمان، لا لأني أريد أن أرتدَّ إلى الماضي لأعيش في ظلماته وكهوفه وتهاويل خرافاته، بل لأني أرى أن حضارة الإنسانية يجب أن تتجدد بمادتها النبيلة السامية التي كل أجزائها فضائل. أما هذه الحضارة الأدبية العصرية للقرن العشرين، فهي حضارة حيوانية الفضائل، ليس في أعمالها إلا فتنة بعد فتنة. ولا نقول هذا في العلم - معاذ الله - فإن العلم الحاضر قد استطاع أن ينفذ في بعض أسرار الكون بأسباب كأسباب المعجزات، ومع ذلك، فقد كان هذا العلم نفسه، هو ما اتخذوه تدليساً في تمجيد حضارة القرن العشرين، ليفتنوا الناس بها عن حقيقة الإنسانية الروحية المتجردة من أغلال الحيوانية النازلة المستقلة

الحرب

ص: 42

ويكفي أن تكون هذه الحرب التي أحدَّث أنيابَها ونشرت مخالبها، وزأرت زئيرها، ثم أسبابها التي نشأت عنها من المطامع الاستعمارية المستكلبة الضارية، ثم ما سيكون من آثارها في الأرواح الإنسانية والمدنية الروحية. . . يكفي أن تكون هذه الحرب - من جميع نواحيها وأطرافها، وبجميع خلائقها وزمن هذه الخلائق - توصيما كتوصيم الفجور الأسود في الأعراض النقية البيضاء

هذه الحرب الفاجرة المتعرَّية من جميع الفضائل برذيلة الكذب والخداع مما يسمونه الدعاية والسياسة - هي البرهان الحي في أذهاننا جميعاً - أهلَ القرن العشرين، على أن مدنية هذا القرن، مدنية حيوانية الأصول والفروع، هي مدنية مفترسة متوحشة، لا تعترف بالحق ولا تعرف الحق، وليس إلا. . . الغذاءَ الغذاءَ. . . الصيدَ الصيدَ. . .: هذا نداؤها وهذا دينها وهذا إيمانها. ثم لا تكون مغبّة أعمالها إلا تمزيقاً وقضقضة وقضما، وتدميراً لبنيان الله الذي يسمى (الإنسان)

الحرية!!

إن هذا القرن العشرين أُسطورة مهَولة قد انحدَرت من القدم إلى هذا الزمن، في دمها كل الأساطير الحيوانية المرِجفة في تاريخ الإنسانية. إنه أسطورة عظيمة كاذبة مكذََّبة على الناس، وإن في مدنيته من الباطِل مِلئ علوِمها حقا. إنَّ الأجيالَ الإنسانية النبيلة لتصرخ من وراءِ أسوار التاريخ تريدُنا أن ننقذ أنفسنا من أوهام (القرن العشرين)، ومن خرافاته الجميلة المزينة بالعلم، المثيرة باللذة، المندلعة بألسنة من نيران الشهوات والأهواء، الصاخبة بعبادةِ الأوثان التي تجُولُ في أدمغةِ البشر حاملة ندها وبخورها ومجامرها وطيبها، وكل ما ينفذ عطره إلى أعمق الاحساسات يثيرها لتقديس البشرية المتجسدة بلذاتها وشهواتها

يجب - في هذا الزمن - أن نتحرر من أباطيل القرن العشرين وأباطيل القِدَم معاً، يجبُ ألا نعرف الحاضر بأنه هو الحاضرُ وكفى، ولا الماضي بأنه هو الماضي وحسْبُ، يجبُ إلا نَتعبَّد بشيءِ من كليْهما، يجبُ أن نأخذَ الحاضر والماضي بالعقل والعلم والفضيلة، وما لم يكن كذلك مما مضى ومما حضر فهو نَبذٌ يجب أن ننبُذَه ونتجافى عنه، يجب أن نتحرر،

ص: 43

يجب أن نتحررَّ. . .

إننا الآن أمم تريدُ أن تسيرَ إلى غايتها في إبداعِ حِضارتها التي سترث جميع الحضارات التي سبقتها، والحضارة التي تأتي من التقليد ليستً حضارة، وإنما هي تزييفٌ وكذبٌ ووثنية جاهلية تنحدر إلى هذا الزمن عن السلالات التي قال الله فيها:(وإذا قيلَ لهم: اتّبعوا ما أنزلَ اللهُ، قالوا بل نتَّبعُ ما ألفيْنا عليه آباءِنا، أو لوْ كان آباؤهم لا يعقلونَ شيئاً ولا يهتدون؟!)

لن نبلغ شيئاً حتى تكون (الحرية والحب) نقيين طاهرين مَبَّرأين كاملين متواضعين، فهما القوة التي تسير بهما الحضارة إلى مجدها وروائعها. إذا عرفنا الحرية وجرتْ في دمائنا فيومئذ تتهدّم كل هذه الأباطيل التي تعوقنا وتقف بين أيدينا من قمامات الرذائل الإنسانية التي قُذفِتْ في طريقنا من أباطيلِ الماضي وترهات القرن العشرين!!

الفن الفرعوني

والأستاذ سلامه موسى قد بنى نقده على ما يسميه (العقائد المجزومة)، وعلى عقيدته في (القرن العشرين)!! ونحن - مع الأسف - لا نبني أبداً كلامنا على (العقائد المجزومة)، ولا على التعصب (للقرن العشرين)، ولو رجع الأستاذ إلى المقالين اللذين نشرناهما في الرسالة عدد 344 و345 عن محاضرة الدكتور طه، ولو رجع خاصة إلى حديثنا عن (الفن) ما هو، وكيف هو؟ وعن الفنان وعمله في فنَّه - لعرفَ أن دعوتنا كلها مبنيةٌ على تحرير أعمالنا من قيود الماضي والحاضر معاً على أساس من العقل والعلم والفضيلة، فلا يُزرِي عندنا بالقديم قِدمَه، ولا يُرغَّبنا في الجديد جدّته. وإن القول في (القديم والجديد) على إطلاق اللفظ، وجعله لفظاً تاريخيَّا زمنيَّا محصوراً باليوم والسنة، إنْ هو إلا تلذذ بالكلام كما يتمطق آكل العسل بعد أكله من تحلب الريق وشَهْوة الُحلْو، ولو كان في هذا العسل السم الناقع

إن حديثنا عن الفن الفرعوني، وأنه لا يصلح أن يكون شيئاً يستمد منه الفنان في زماننا، لا يمت بصلة إلى الرأي الذي ذهب إليه الأستاذ سلامة موسى في فهم كلامنا، لأننا نظرنا إلى شيء واحد، وهو تحرير الفن من التقليد، ثم معرفتنا أن الفنان لا يستوحي كما يقول الأستاذ سلامة من فنون غيره. بل إن الفنان عندنا هو القلب النابض الذي يفضي إليه الدم الحي الذي تعيش به حضارة أمته في عصره، والفن إن هو إلا نتيجة من نتائج الاجتماع

ص: 44

الإنساني والطبيعة التي تحتضنه، والعقائد التي تسيطر على الشعب وتملأ قلبه بالإيمان بها والفكر فيها، فإذا لم يكن الفن ناشئاً من ثَمّ، فاعلم أنه ليس بفن وإنما هو كذب مضرَّج بتحاسين قوس قزح، وما أسقط الفن الرفيع في زماننا وفي بلادنا إلا أنه نتاج العقول المزيفة بالتقليد، والخيال المدلس بالسرقة، وهذا الهمج الهامج من الفنانين والأدباء والشعراء والعلماء أيضاً ممن يعيشون بأدواتهم تحت جناح الليل الأسود وفي ستره، ثم يقبلون على الناس إذا أصبحوا فيقولون: أين كنتم؟ يقولون: كنا نستوحي، ثم يخدعون الناس بزيفهم وبهرجهم. لأنهم لا يعلمون من أين يأتي هؤلاء هذا الوحي. . . ولو علموا إنما وحيهم وحي اللص الذي يبدع له المال، وإنما هو دبيب واستخفاء وحرص، و (طفاشة) تهشم بها أقفال خزائن بعض الناس، يستخرجون كنوز غيرهم ليتنبّلوا بزينتها وجمالها

الحرية هي أصل الفن كما بينا، وكما هو ظاهر كلامنا، وأما الاستيحاء من فنون القدماء لإنتاج فن لا يتصل بمدنيتنا بسبب إلا القدم والوراثة وتاريخ هذه الأرض، فهو إبطال للفن ومعنى الفن وقيمة الفن، وإلا فما الذي فعله الأستاذ المثال القدير (مختار) إلا أن نقل صورة لا معنى لها في عقائد الشعب المصري الحاضر، هي صورة أبي الهول، وليس فيها معناه القديم الباسط ذراعيه في جوف رمال الصحراء هناك، ثم ماذا؟ ثم جعله مقعياً بعد أن كان باسطاً متطامناً، ثم ماذا؟ ثم ألصق إلى جانبه فتاة تضع يدها على رأسه. . . سبحان الله هذه نهضة مصر، وهذا هو فن القرن العشرين!!

إذا كان الأستاذ سلامه موسى أو غيره يريد أن يناقشنا في هذه الآراء، فليناقش على أساس واحد، هو أساس الفن، وما هو، ومن هو الفنان. أما (القرن العشرين)، وأنظمة مكافحة الأوبئة، والنظام الاقتصادي، والعلوم، وما إلى ذلك، فليس له مدخل أو سبب في الطبيعة الفنية، وتقدير الآثار الفنية، وهل يمكن أن تكون فناً إذا كانت تقليداً واستيحاء وتشاكلا ذكياً بارعاً؟

كل فن يأتي من التقليد واستيحاء فنون الناس، وكل فن يتولد من شهوة التقليد وبلادة العزيمة وعبودية الروح، فهو فن كالمولود السَّقط في آخر تسعة أشهر من حمله. . . فيه صورة الحي ولكن ليست فيه الحياة، فيه قوة المشابهة للحي ولكن ليست فيه قوة استمرار الحي على الحياة

ص: 45

محمود محمد شاكر

ص: 46

‌رسالة الفن

فوزية الجديدة:

أميرة الربيع

لها تاج الجمال والفرح والفن

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

بإذن الله. . .

لما زغرد البارود سلاماً لمقدمها كانت ساعة أصيل احمرت الشمس فيها خجلاً منها فبدأت تتوارى إذ أشرقت فوزية

ولكنها قبل أن تمضي انتفضت عن مفاتنها، فهي إذ تتباعد كانت تلوّح للعيون بمنديلها الذهبي توديعاً وتمويجاً لنسمات أصيل من أصائل الربيع كان أسعد أصائله لما حمله الغيب إلى الوجود فوزية

وغمزت الشمس بعينها للأطيار غمزة فإذا هي كلها تشدو أغنيات السعادة والفرح بفوزية

وغمزت الشمس لأزهار غمزة فزهت، وانتعشت ونفثت في الجو من عطرها طيباً، وبعثت من ألوانها حلية وزينة لعيون فوزية. . .

كانت ساعة مباركة على الكون، وعليّ. ومن كان له أن يفرح مثلما كان لي أنا أن أفرح، فها هو ذا شهر مولدي يعود وقد عفا الله عني، أجرى قلم الفاروق عفوه، فوهب له على الربيع فوزية بوركت وبورك مقدمها

كان الشعب يدعو الله - كما كنت أدعوه - أن تكون صبياً تقر به عينا الملك، ولكن حكمة الله شاءت أن توائم بين الوليد وزمن المولد. فهذا الربيع أجدر به أن ينفتح عن زهرة، وهذا الأصيل الجميل كان أجدر به أن ينثر عند مطلعها كل ما أدخره له اليوم من جمال وحسن وروعة

وهذا أقرب إلى طبيعة الصبية

عشت للجمال والفرح والفن يا أميرتي فوزية. . .

إذا تقدمت بك الأيام، وشببت عن الطوق، ورأيت. . . فإنه لن ينطبع في ذهنك إلا كل

ص: 47

صورة من الجمال والحسن، ولن تستقر عيناك إلا على كل بهجة وزينة، فهذا هو أول ما عرضت عليك الحياة من ألوانها. . .

إذا مرت بك السنون وسمعت. . . فإنه لن يطرق أذنيك إلا نغم حلو لين سلس كهذا الغناء الذي أنشدته الأطيار يوم مقدمك

إذا جازت بك الأعوام. . . وامتلأت نفسك حسناً فأغدقي على الدنيا من حسن نفسك كما يغدق على الدنيا من حسن النفس الفنان. . .

هذه الأفراح التي تشيع في نفسك أشيعيها في الكون شعراً، وليكن شعرك إحساناً فأسمى الشعر الإحسان. وكم شاعر يتلهف إلى الإحسان، وكم تستطيعين يا أميرتي أنت من ضروب الإحسان. . .

كلمة التقدير الحق من الأميرة فيها الغناء، ومن أقدر على التقدير الحق من أميرة الربيع التي لما طلعت رأت الجمال الحق أول ما رأت، وسمعت الغناء الصدق أول ما سمعت، واستنشقت العطر الأصيل أول ما استنشقت، فهي تعرف الجمال الحق من الجمال الزائف، وهي تعرف الغناء الصدق من الغناء الملفق، وهي تعرف روائح الله من روائح المعمل وما تؤلفه اليدان

أميرة الربيع! يا أميرة العفو والرحمة يا أميرتي. . . هلا شببت اليوم، فأنت عروس ومصر في مهرجان، ودولة الفن غير الدولة القاعدة فيه الآن. . .

قرب اللهم هذه الأيام. . . إذ يرفعون إليك أسماء الذين اختاروهم ليحيو المهرجان. . . فتقولين لهم: لا. . . لا تمنعوا عني خاملاً لأنه خامل، ولا تجيئوني بالمعروف لأنه قد تحدث بذكره الركبان، وإنما أريد أن أستمع إلى فلان وفلان. . . فأنت يا أميرتي قد فتشت قبل ذلك في المكتبة، وقرأت ما يكتبه هذا وما يكتبه ذاك. . . فعرفت بما منحك الله من طبع الحسن موطن الحق عند هذا، ومخبأ الزور عند ذاك. . . وأنت يا أميرتي قد أصغيت قبل ذلك إلى كل ما يذاع من اللحن والغناء، فعرفت أي هذا الغناء صدر من القلب، وأيه كان ضرباً على خشب العود، فهو ليس إلا غناء الأخشاب. . .

رعاياك من أهل الفن يا أميرة الربيع مشوقون إلى يوم من أيام الإنصاف. . . الحياة ثقلت عليهم، والناس انشغلوا عنهم، ومالوا إلى حيث يخلبهم سحرة مهرة لا الصدق عندهم، ولا

ص: 48

الحق ولا الجمال. . . وإن هي إلا (الشطارة) والإعلان. . .

سترين ذلك عندما تتقدم بك الأيام. . . وستكرهينه. . . وسيكون على يديك تحطيم الأوثان. . .

سيعلمك أبوك. . . فكم جدد هو أيضاً في ملكه، وكن وحد الله لم يعبأ بالنصب ولا الأصنام. . . فهو الملك الذي عصف بالجمود، والذي جرف ما أعقبته لنا الأيام من وجل وخوف فأمننا من الخوف، وأبقى علينا ثلث حقه عندنا مثلاً ضربه لأولى الألباب منا لو أنهم تبعوه لأطعمنا جميعاً من الجوع، كما آمننا جميعاً من الخوف. . .

والأيام مقبلة. . . وستفرغ مصر من الحرب حين تفرغ منها الأمم، وسيرى عندئذ أولو الألباب وغيرهم أنه لا مفر من انتهاج الطريق الذي شقه أبوك المبارك وليد الشتاء. . . ومن للملك كوليد الشتاء له السيطرة على تدفقه ونشاطه كما أن لك السيطرة على الحسن والجمال. . .

يا أميرة الربيع. . .

كم يسعد عروبتنا أن يكون لك فن، ولماذا لا يكون لك فن وقد كان نبينا يستمع إلى الخنساء. . . فليكن في النبي شعرك، أو فاكتبي فيه نثرك، وخذي من أبيك حب الإسلام انظميه درراً، فقليلاً ما يفكر أهل الفن عندنا في الإسلام، وكثيراً ما يحسبه بعضهم تنظيما لعلاقة من في الأرض بمن في السماء فإذا نظروا إلى السماء تساءلوا. . . ما الذي في السماء؟

فدليهم أنت على الذي في السماء. . . قولي لهم: هو الذي سماه المسيح المحبة، والذي سماه القرآن السلام. ثم انشري بإيمانك وسلطانك بين الناس آيات المحبة وألوية السلام، وما أشد حاجتنا في مصر إلى أن ترفرف علينا وتظلنا، فليس ينقص وطننا إلا المحبة والسلام يشيعان فيه فإذا هو جنة الأرض، وموطن الرغد والأمان. . .

أعيدي على مسامع هؤلاء الخلق في مصر وفي غيرها تلك الأناشيد التي استقبلتك بها الدنيا يوم مولدك؛ وقولي للناس هؤلاء الذين يتخبطون خبلاً في هذه الأيام بماذا كانت تسبح العصافير للَّه: أطعمها، وسقاها، وأجرى لها الدفء ورعاها، وطيب لها الصبح وضحاها، وليلها إذ غشاها، فما حقد منها عصفور على عصفور، وما طغى منها واحد على أخيه. . .

ص: 49

وإنما كن يخفن النسر والصقر والعقاب، فلما سترهن الله بليله بتن وهن يقلن: حمداً لله الذي في الأرض وفي السماء. . . ألف حمد وألف شكر لله. . .

والنسر والصقر والعقاب، كلها أيضاً سبح لله. . . إن انقض واحدها على فريسة فهو أصدق الطلب، طلب القوة الجائعة، يأخذ من أصدق العطاء عطاء الضعف والفناء.

فعلمينا يا أميرة الربيع كيف نكون مع الحب والرحمة أقوياء. تسمعي إلى السماء، وقصي علينا ما سمعت من السماء. . .

هاتي الذي سمعت يا رحمة الله. . .

اللهم قرب هذه الأيام. . .

لست أطمع أن تقرئي اليوم هذا الذي أكتبه، فدونك ودون القراءة لم تزل أعوام، ولكني أسأل الله أن يقع هذا الذي أكتبه بين يديك في يوم قريب من الأيام، فلست أدري لماذا أشعر بأن تنبؤي لك فيه شيء من الإلهام. . .

لعلها الفرحة التي زفها الله إليّ على مقدمك، ولعله خيال صورته لنفسي عن زهرات الربيع ونسماته وملائكته الذين يبعثهم الله إلى الأرض هدى ورحمة، ولعله الرجاء في أن الله قد رضي عن الفن وأهله فهيأ لهم راعية وقديسة. . .

لعله هذا، ولعله حق لمسته عن غير قصد ولا تدبير. . . فإذا كان هذا أو كان ذاك فلست أطلب من الله أكثر من أن يحقق هذا الخيال. . . أو هذا الرجاء. . .

عشت. . . وعاش أبوك برَّا بك ورؤوفاً بالناس. . .

عزيز أحمد فهمي

ص: 50

‌رسالة العلم

الحرب والرياضيات

للأستاذ قدري حافظ طوقان

تتقدم فروع المعرفة ويتناولها التغيير والتبديل، وكلما اقتربت من الأرقام زادت دقة ونحَتْ نحو الكمال. قال أحد الفلاسفة:(يكون العلم دقيقاً إذا استعمل العلوم الرياضية في بحوثه. . .) ولم يستطع العلماء أن يستفيدوا من فروع الطبيعة أو الهندسة ولا أن يتفننوا في صنع السابحات في السماء، والعائمات على الماء، ولا أن يغوصوا إلى أعماق البحار، ولا أن يطوّقوا القارات بالأسلاك الكهربائية، وأن يملئوا الجو بعجيج الأمواج اللاسلكية، وقد حملت على أجنحتها الأنباء والأخبار والصور - أقول لم يستطع العلماء أن يسيطروا على الطبيعة هذه السيطرة القوية إلا بفضل الرياضيات.

قد يكشف العالم بعض النواميس الطبيعية، ولكن لا يستطيع أن يتوسع فيها، ولا أن يخضعها لتقوم بأعمال المدنية الحديثة المعقدة إلا إذا استعان بالرياضيات.

فلقد أحدث اكتشاف (فراداي لإحداث التيار في لفة السلك حين أمرارها في حقل ممغطس أثراً بعيداً عظيم الخطر في الصناعة. . . هذا الاكتشاف قد يبدو بسيطاً ولكن أليس من العجيب المدهش أن كل الصناعات الكهربائية بنيت عليه؟ والأعجب أنه لم يكن في الإمكان جعل هذه الصناعة بمحركاتها ومولداتها في حيز الإمكان إلا حينما دخلت الأرقام والمعادلات قوانين (فراداي) بعد توسيع نطاقها.

ولقد تنبأ (فراداي) أيضاً بأنه لا بد أن يأتي يوم يثبت فيه أن هناك صلة بين الضوء والاهتزازات الكهربائية المغناطيسية في الأثير، ثم جاء كلارك ماكسويل العالم الرياضي الشهير، وبعد درس وتحليل خرج بمعادلات رياضية أثبت منها أن في الفضاء اضطرابات كهربائية مغناطيسية تتصف بصفات الضوء، أي أن الاضطرابات الناشئة من شرارة كهربائية تبدو في مظهر أمواج في الأثير لا نراها، ولكنها كالأمواج التي تُحدث الضوء والحرارة والطاقة الكيميائية تسير جميعها بسرعة الضوء التي هي (186000) ميل في الثانية. وجاء بعد (ماكسويل) غيره من العلماء وجروا على القواعد التي وضعها فأحدثوا هذه الأمواج وأرسلوها في الفضاء مسافة ثم التقطوها، وبذلك صار تحقيق التلغراف

ص: 51

اللاسلكي محتملاً، وقد تنبأ به السير وليم كروكس ثم حققه لودج على مسافات قصيرة، ثم تلاه علماء آخرون فأتقنوه وتوسعوا في صنعه؛ فإذا المخاطبات اللاسلكية على أنواعها منتشرة ومتغلغلة في العمران

لم يكن في الإمكان أن يسخر العلماء بحوث الضوء لخير الإنسان إلا بعد أن أفرغوا قوانين الانكسار في قالب رياضي، وبذلك استطاعوا أن يستعينوا بالمعادلات والأرقام في العدسات لإصلاح عيوب العين وتكبير الصور وعمل التلسكوب والسبكترسكوب والميكرسكوب على اختلافها

إن الصناعة الحربية قائمة على الرياضيات، فالأسلحة على تعددها وتنوعها تعتمد في صنعها على الكهرباء والمولدات والمحركات وآلات ميكانيكية أخرى معقدة وعلى دقة لا تأنى إلا عن طريق المعادلة. فصناعة الغواصات والطائرات قائمة على مبادئ ميكانيكية وكهربائية وطبيعية تدعمها قوانين رياضية لولاها لما كان في إمكان الأولى أن تغوص إلى الأعماق ولا الثانية أن تجوب رحاب الفضاء

لقد برع المهندسون في صنع الآلات المقاومة لبعض أدوات القتال، فلقد (تفننوا) مثلاً في صناعة كاشفات الأصوات (الهيدروفين) الذي جعل الغواصات بواسطته أقل خطراً وخفاء من ذي قبل. ويمكن القول إنهم استطاعوا أن يتخلصوا من خطرها إلى حد كبير، ولا سيما بعد أن أدخل بعض علماء الإنكليز تحسينات على هذا الجهاز تمكنوا بها من تحديد مكان الغواصة بالضبط. وفوق ذلك فقد جهزوا الطائرات المائية بآلات دقيقة تستطيع أن تكشف مسافات من أعماق البحار. وتقوم جميع هذه الآلات وغيرها على حسابات دقيقة أساسها الجداول والمعادلات الرياضية

وكذلك هناك أجهزة دقيقة قائمة على مسائل عويصة معقدة من شأنها إصابة الطائرة بإحكام. وتقوم هذه الأجهزة بعمليات حساب مدى ارتفاع الطائرة عن الأرض وحساب سرعتها التي تسير بها، كما أنها تحدد النقطة التي تصل إليها الطائرة في اللحظة التي تصل فيها قذيفة المدفع. ومن الغريب أن هذه العمليات لا تستغرق أكثر من نصف دقيقة، وفي هذه المدة لا تستطيع الطائرة تغيير اتجاهها، ويمكن عندئذ وعلى ضوء هذه الحسابات إطلاق القنابل إلى المكان الذي تلتقي فيه بالطائرة أو مكان قريب جداً من الطائرة تنفجر فيه وبذلك

ص: 52

تصاب الطائرة بالقنبلة أو برشاشها لقد تقدمت صناعة الطائرات على اختلافها من مطاردات وقاذفات ومهاجمة تقدماً سريعاً، وتفنن مهندسو الدول في صنعها وثبت أن المصانع البريطانية امتازت على غيرها في إنتاج طائرات من نوع المطاردات، وتحقق لدى خبراء الطيران العسكري أن خير المطاردات، هي المطاردات المعروفة باسم (قاذفات اللهب). وسرعة هذه المطاردات تزيد على 362 ميلاً في الساعة وتستطيع أن ترتفع من أرض المطار إلى علو (11) إلف قدم في أقل من خمس دقائق، ومداها (600) ميل، وهي مجهزة بثمانية مدافع رشاشة، بينما المطاردات الألمانية لا تزيد سرعتها على (350) ميلاً في الساعة، ومداها (600) ميل، ومجهزة بأربعة مدافع رشاشة. أما المطاردات الفرنسية، فسرعتها (305) أميال في الساعة، ومداها (600) ميل، ومجهزة بمدفعين رشاشين ومدفعين آخرين قطر كل منهما (120) مليمتراً

أما طائرات الهجوم أو قاذفات القنابل، فعلى نوعين: المتوسطة والضخمة: فقاذفات القنابل المتوسطة البريطانية لها سرعة (315) ميلاً في الساعة، ومداها (1900) ميل، وحملها من القنابل (2000) رطل إنكليزي يقابلها في السلاح الجوي الألماني (280) ميلاً للسرعة و (1400) ميل للمدى و (1900) رطل للعمل، وفي الفرنسي (300) ميل للسرعة و (1290) ميلاً للمدى و (3300) للحمل

وأما القاذفات الضخمة، فأقصى سرعتها (220) ميلاً للإنكليزية، ومداها (1315) ميلاً، وحملها (400) رطل يقابلها في الألمانية (205) أميال للسرعة و (995) ميلاً للمدى و (8100) رطل للحمل، وفي الفرنسية (200) ميل للسرعة و (750) ميلاً للمدى و (9300) رطل للحمل

وعلى ذكر القاذفات الضخمة نقول: إن أحدث ما أخرجته المصانع الأميركية طائرات تعرف باسم القلعة الطائرة تفوق مثيلاتها في البلاد الأخرى في السرعة والمدى، فسرعتها (260) ميلاً (يقابلها 220 ميلاً في الإنكليزية و (200) ميل في الفرنسية و (205) أميال في الألمانية) ومداها (2000) ميل. ولقد أخرجت المصانع البريطانية طائرة ضخمة جديدة تفوق (القلعة الطائرة) بلغت سرعتها (267) ميلاً في الساعة وحملها (4600) رطل ومداها (3600) ميل، وهذه الناحية - ناحية المدى - محل دهشة مهندسي الأمم وإعجابهم

ص: 53

وهناك اختراعات واكتشافات لم يتوسع نطاق استعمالها واستغلالها لمنافع الإنسان إلا على أساس التجربة والمعادلة الرياضية

ويمكن القول إن علمي الفيزياء والفلك بفروعهما المتنوعة قد وصلا إلى درجة كبيرة من الدقة والكمال بفضل الأرقام والمعادلات. جرّدْ هذين العلمين من رياضياتهما بل جرد الكيمياء الحديثة من معادلاتها وقوانينها فلا يبقى إلا تعاريف ومبادئ أولية لا يمكنك ولا بحال الاستفادة منها أو تطبيقها فيما يعود على البشرية بالنفع والخير. ولن يستطيع العالم مهما كان قوي العقل خصب الفكر أن يقف على أسرار الطبيعة والكون، بل لن يستطيع الغوص ليقف على كنوزهما وعجائبهما إلا إذا ألمّ بالرياضيات وكانت عنده خبرة بها. وإن الكيمياء الحديثة لفي حاجة إلى الرياضيات حاجتها إلى التجربة والاختبار، وناهيك بالكيمياء فهي الأساس الذي شيد عليه صرح الصناعة في هذا العصر، وقد ازدهرت ازدهارها العجيب. إن هذا العصر لهو عصر الهندسة والآلة. وكل هذه في حاجة إلى الرياضيات، ولا يمكن الاستفادة منهما أو تطبيقهما على مقتضيات العمران إلا بذلك، ويمكن القول:(إن مدنيتنا التي ترتكز على الاستفادة من الطبيعة والسيطرة على عناصرها مبنية على أسس العلوم الرياضية) وقد أثبت العالم الأمريكي الشهير (ملكن أنه (إذا أزلنا من العمران الحالي أحد القوانين الرياضية التي ابتدعها وحققها نيوتن لوجب أن نزيل كل آلة تجارية وكل محرك ومولد كهربائي بل كل آلة تستعمل لتحويل القوة إلى حركة لأنها كلها بنيت على هذا القانون الرياضي الشامل. ولسنا بحاجة إلى القول إن نيوتن لم يقصد من قانونه استنباط آلة تجارية أو سيارة أو طائرة. ولكن أليس من المدهش حقاً أن هذه المخترعات وغيرها بنيت على قانونه وأننا إذا أزلناه تهدم عمراننا كأنه بيت من ورق). فالهندسة بأنواعها والملاحة والصناعات المختلفة أكل هذه تحتاج إلى الرياضيات، ولا يمكنها أن تزدهر وتثمر بدونها، بل إن أسس إنشائها وتقدمها قامت على الأرقام والمعادلات. وما يقال عن هذه يقال عن علوم أخرى إلى حد ما، فإن هذه كلما تقدمت وكلما استطاعت أن تدخل الأرقام والمعادلات في بحوثها أصبحت دقيقة واقتربت من الكمال. فالعلوم على اختلافها وتعددها إذا اقتربت من الكمال فإنها لا بد محلقة في سماء الرياضيات وفي جواء من المعادلات والأرقام

ص: 54

(نابلس)

قدري حافظ طوقان

ص: 55

‌القصص

الدرس الأول

للأستاذ محمد سعيد العريان

(هل كانات (قدرية) في أوّليَّتها تتوقع هذه الغايةِ التي انتهى إليها أمرُها)

هكذا سألني صديقي وهو يحدثني حديثها:

كانت تجلس في الصف الأخير من حجرة الدراسة، فقد كانت أطول قامة وأبعد نظراً؛ فما يشق عليها ولا يعنيها أن تجلس في الصف الأول أو في الصف الأخير؛ على أنها كانت أسبقَ التلميذات جواباً عند الاختبار، وأكثرهن عناية بالعمل المدرسي؛ فلا جَرمَ كانت بذلك أدنى منزلة إلى قلوب معلميها ومعلماتها. وكانت على إرثٍ من الأدب والفضيلة، يبدو في طرْف غضيض، وصوت خفيض، ولسان عَذْب التحية عف الخصام؛ وكانت إلى كل ذلك مليحة رشيقة، مقبلة ومُدْبرة!. . . وإني لأعجب لنفسي كيف لم أتبيَّن ما فيها من رشاقة وخفة إلا في تلك الليلة التي كانت. . . حين بدأت حوادث هذه القصة؟. . . على أن المعلم في مدارس البنات، قلّما يُعنى بالنظر إلى وجوه تلميذاته، ولعله لو سئُل الرأيَ في تفضيل واحدة على واحدة من بناته في هذا الباب، لأخطأ الرأي والنظر، ولكانت أَدَمَّ الدميمات هي عنده الجميلة التي لا تباريها واحدة ولا تقاربها؛ فإن طول العشرة ودوام المخالطة خليقٌ بأن يلوِّن رأيه بلون غير اللون الذي ينظر به كل رجل إلى كل امرأة؛ ومن ذلك لم يهجس في نفسي يوماً أن فلانة من تلميذاتي أجملُ أو أَدَمُّ من فلانة؛ وكذلك لم أكتشف ما كان في (قدرية) من جمال وفتنة إلا في تلك الليلة وإنها لتلميذتي منذ ثلاث سنين!

كان ذلك في يوم من أيام الربيع، وقد تبرَّجتْ الدنيا بزينتها وأخذتْ زخرفَها ونَضَت الكائناتُ عن سرَّ الإبداع العبقري الذي أودعه فيها الصانع الأعظمّ!

وكان العام الدراسي في أخرياته، وقد فرغ المعلَّمون أو كادوا مما عليهم من فرائض العلم، وتأهب التلميذات لواجبهن استعداداً ليوم قريب. . .

ورأت المدرسةُ أن تجري على تقاليدها احتفالاً بانتهاء عام؛ على أنها رأتْ أن يكون في حفلتها هذه السنةَ شيءٌ جديد، محاكاة لمدارس أخرى، ومساهمة في بعض أعمال البر؛ فاعتزمت أن يكون احتفالها في مسرح كبير مشهور، يُدعْى إليه طائفةٌ من أهل البذْل

ص: 56

والمعروف، لتستعين المدرسة بما تجمع منهم على البر بطائفة من الفقراء. . .

هي سنَّة جديدة سنها بعض القائمين على شئون التعليم فَجَرَت قاعدة؛ فِلَم نتخلَّف نحن وقد سبقتْ إلى هذه السنة الجديدة مدارس؟

وأعدّت المدرسة برنامجاً حافلاً، فيه تمثيل، ورقص، وموسيقى؛ وما بّدٌ أن تجتمع هذه الألوانُ الثلاثة في كل حفلٍ مدرسي يراد منه أن يغل إيراداً يعين على بعض أعمال البر. . . وإلا فماذا تقدَّم المدرسة من وسائل التسلية ثمناً لما تطلب من أهل البذل والمعروف!

وقالت معلَّمةٌ لأخرى: ينبغي أن تكون حفلتنا. . .

فقاطعتها الثانية: نعم، وستكون أفخمَ ما أُقيم من حفلات المدارس في هذا الموسم. . .!

واختيرت الرواية، واستؤجِر المسرح الكبير، ودُعي فنانٌ كبير من أهل الكفاية. . . ليدرَّب التلميذات على اصطناع شخصيات الرواية، كل واحدة بدورها، راقصة أو ممثلة!

وطاف المدَّرب بالتلميذات في صفوفهن يختار منهن ذواتِ الوجوه والأجسام. . . الفنية!

واختار (قدرية) لدور ذي خطر. . .

وتأبَّت الفتاةُ بما في طبيعتها من الحياء وما في دمها من إرث أجدادها؛ وعجب البناتُ أن تأبى قدريةُ وإن كل واحدة منهن لتتمنى؛ واستمعت قدرية إلى أحاديث البنات صامتة، ثم. . . ثم قبلت فخوراً مزهوة، وغلبتها غريزة الأنثى الغيور على ما في دمها من إرث الآباء والأجداد!

ووقف المَدرَّب يلقَّنها ويستمع إليها، ووقفت هي مصغية تستمع إليه وتحاكيه، تجهر بصوتها حيناً وحيناً تخافت به؛ وعرفت من مخارج الصوت ما لم تكن تعرف، ولانت أعطافها بعد خشونة ويبس، وأحسنتْ أن تدورَ على عقبها، ثم تنثني وتنهض، وأجادت تمثيل اللفتة المتكبرة، والنظرة ألعابرة، والرَّنوة الآسرة ثم تبكي وتضحك في وقت معاً. . . . . .

وقال المدرب الفنان: يا لها من فتاة! إنها لفنانة موهوبة!

وأطبقت الفتاة جفنيها في حياء وهي تشكر له، فبدت في كلمتها وحركتها أبرع فناً مما ظن مدربهُا. . .!

ولم يُمانع أبوها وأمها أن تكون ابنتهما راقصة ممثلة ساعة في ليلة من ليالي البر؛ وأين

ص: 57

يبدو لهما وجه الاعتراض والمدرسة هي التي اختارتها لذاك؛ وإن المدرسة لأعرف منهما بما ينبغي وما لا ينبغي؛ وإن عليها وحدها أن تختار لتلميذاتها من وسائل الرياضة والتثقيف ما يؤهلهن للحياة. . .!

وجاءت الليلة الموعودة بعد تدريب طويل وإعداد شاق. . . وكان على أبواب المسرح الكبير معلمون ومعلمات لاستقبال المدعوَّين، وغص البهو والشرفات بالآباء والأمهات، والأصدقاء والصديقات، و. . . والمربين والمربيات. . .

وراحت طائفة من التلميذات تجوس خلال الصفوف في ثياب بديعة ومظهر فاته، يبعن الزهر والحلوى مما صنعت أيديهن من قبلُ استعداداً لهذا اليوم ومساهمة في أعمال البر. . .

. . . وكانت (قدرية) خلف الستارة بين أيدي المواشط يهيئنها للظهور، وأمامها مرآة كبيرة تريها من نفسها ما لم تكن ترى أو تعرف، وابتسمتْ ابتسامة الإعجاب والرضا حين رأتْ وعرفت. . .!

وخرجتْ إلى المسرح مجلوة ملونة كما لم تبد في يوم من أيامها، وانسكبت عليها الأشعة من أربع جوانب المسرح تشبُّ لونها وتزيدها ملاحة وفتنة، ووقفت متأهبَّة. . .

ورن الجرس، ثم ارتفعت الستارة، وضج المسرح بالتصفيق فانحنت في رشاقة وخفة وهي تكشف عن ساق ممتلئة مصقولة كأنما يجري فيها شعاع الشمس، ونثرت ابتساماتها يمنة ويسرة ترد تحية بتحية. . .

ولم يكفّ التصفيق حتى ارتفع صوتها يغني. . . واستدار بها البنات يرقصن ويغنين. . .

وغنّتْ ورقصت، وضحكت وبكت، وتأمَّرتْ ثم زلّت، واستعطفتْ ثم دلَّتْ، ووعدتْ ثم تأبَّتْ، ومنعتْ ثم نوَّلت، وقالت عيناها. . . وقالت عيونُ الناس. . .

وكأني لم أر قدرية قبل تلك الليلة؛. . . لقد بدا لي من جمالها وخفتها ما لم يكن لي به عهد من قبل؛ أهذه هي. . .؟

ولما أسدِلت الستارة في الخاتمة، كان تحت قدميها أكداس من الزهر؛ وفي أذنيها أنغام من هتاف الإعجاب؛ ولكن قلبها كان أحفلَ بمعانيه. . .!

وحين لقيها أبوها بعد، كانت في عينيه دموع، وطبع على جبينها قبلة. . . وأقّلتهْا السيارة

ص: 58

بين أمها وأبيها إلى البيت وهي صامتة، لأن معاني ذات خطرِ كانت تُطيف برأسها. . .

ونامت تلك الليلة بين هتاف وتصفيق وأكداس من الزهر: لقد كانت عيناها مغمضتين ولكن قلبها يقظان؛ وتمثل لها في أحلامها كلُّ ما رأت وسمعَت وشعرتْ، وراحت أحلامها تنسج لها أمانيها. . . وتلقَّت الدرسَ الأول في تلك الليلة، فنسيت به كل ما تعلمت من دروس!

لقد ذاقتْ قدريةُ من اللذة الفنية ليلتئذِ ما لم تذق طوال سنيها التي عاشت، فشاقها أن تستزيد. . .

ولما عادت إلى المدرسة بعد يومين، وسمعتْ ثناءَ معلَّميها ومعلماتها، أجدَّ لها ما سمعتْ معاني أحست في أعماقها صداها ووجدت فيها غذاءَ لأمانيها. . .

. . . وتناولت (المجلةَ) التي تعودتْ أن تقرأها في كل أسبوع، فراحت تعبر صفحاتها معُجلة حتى انتهت إلى صفحة (الفن) فتلبثتْ، وأخذت تنظر إلى صور الراقصات ونجوم المسرح معجبة متمنية. . . وفي أذنها صدًى بعيد من هتاف النظَّارة وتصفيق المتفرجين. . .!

ولما حان عيد مولدها وأرادت أن تتصوَّر - على عادتها في كل سنة - لم يحلُ لها إلا وضعٌ واحد تبدو فيه صورتهُا، فلبستْ ثوبها الذي كانت ترتديه ليلتئذ ووقفت بعضَ مواقفها واستحضرتْ صورةَ ما كان. . . فانطبعت في الورقة صورةٌ من مشاهد ذلك الماضي، وتمثلتْ في نظرة عينيها تمامُ صورته!

ووقفتْ ذات مساء على باب مسرح كبير من مسارح اللهو تجيل عينيها في إطار كبير يضم شتيتاً من صور الراقصات وربات الفن، وطالت وقفتها؛ ثم انصرفت؛ وفي الليلة التالية كانت جالسة في الصف الأول من بهو المسرح تشهد التمثيل وحدها، ليس معها أحد من ذويها؛ واستطاعت في ختام الليلة أن يكون لها رأي فيما شهدت من ألوان الفن وفي عيوب الممثلين وغلط الراقصات. . .!

وفي الصباح كانت جالسة إلى بعض زميلاتها في حوش المدرسة تحدثهن حديثاً طويلاً عن عيوب الفن المصري في الرقص والتمثيل والغناء، وتشخّص العلة وتصف الدواء؛ وأمَّن صديقاتها على ما قالت؛ فما تشك واحدة منهن في أن من حق قدرية أن يكون لها رأي في الرقص والتمثيل والغناء؛ وإنهن ليسمعن من حديثها كل يوم ما يشهد بكفايتها وسعة معارفها

ص: 59

في تلك الفنون. . .!

وتلقت قدرية بعد الدرس الأول دروساً كثيرة، في المسرح والسيما، والصحف، والكتب؛ وما نسيت مع كل أولئك شيئاً مما رأت في تلك الليلة التي كانت. . . لقد استقرت في أعماقها أصداء الهتاف والتصفيق الذي سمعت ليلتئذ. . . ورنين كلمات الإعجاب والرضا التي وعتْها أذناها، وصورتها بين الأشعة الملونة تنسكب عليها من جوانب المسرح وتحت قدميها أكداس الزهر. . . وبقي كل أولئك في نفسها مشهداً حياً كأنها ما تزال بين أشعته وألوانه، فإنها لتجد لتذكُّره لذة فنية تحبب إليها حياتها وتجدد لها في كل يوم أمانيها. . .

وانتهى عهدي بقدرية وانتهى عهدها بي؛ فقد أتمت دروسها بالمدرسة ومضت لشأنها؛ وتصرمت سنون. . . ونسيت أمرها وما كان. . .

. . . وفي ليلة من ليالي الصيف الماضي، دعوت أهلي إلى سهرة في بعض ملاهي الإسكندرية؛ قصدَ التسلية والرياضة. ووقفتُ بباب الملهى العائم بين الأمواج المصطخبة، أقرأ البرنامج المنشور على الباب وأشاهد الصور؛ ورأيت صورة، فهجس في نفسي هاجس لم يلبث أن تلاشى. . .

ودخلنا، واتخذنا مقاعدنا على مقربة من المسرح. . . ومضت لحظات، ثم رن الجرس ورفعت الستارة؛ وتتابعت المشاهد فنوناً توقظ الفكر وتجلو صدأ النفس وتُسري عن الهموم؛ وفجأة برز أمامي مشهد رائع. . . يا لله. . .! من كان يظن. . .؟ هذه تلميذتي قدرية!

وبدت لي في مثل هيئتها التي رأيتُ أول مرة على المسرح الكبير في القاهرة منذ سنوات. . .

ثوب منفوش، كأنما اجتمعت أجزاؤه من أوراق الزهر، يكشف عن ساق ممتلئة مصقولة، كأنما يجري فيها شعاع الشمس، وانحنت في رشاقة وخفة، وهي تنثر ابتساماتها يمنة ويسرة، ترد تحية بتحية، والمسرح يضج بالتصفيق والهتاف باسمها الجديد الذي سمعتُه لأول مرة في تلك الليلة. . .

وغنت ورقصت، وضحكت وبكت، وتأمرت ثم ذلت، واستعطفت ثم دلت، ووعدت ثم تأبت، ومنعت ثم نولت. . .

وقالت عيناها. . . وقالت عيون الناس. . . وقالت لي نفسي. . .

ص: 60

وانتثرت أكداس الزهر على قدميها، وأسدلت الستارة. . .!

ليت شعري، هل كانت قدرية في أوّليتها تتوقع هذه الغاية التي انتهى إليها أمرُها؟

وهل كانت خواطرها تخيَّل لها هذا المصير الذي بلغته، يوم كانت تجلس مجلسها من الصف الأخير في حجرة الدراسة؟

وهل. . . وهل عَرف من عَرفَ: كم بين الدرس الأول والدرس الأخير. . . وأين ما بدأ مما انتهى. . .؟

وانفض السامر، وتهيأ أهلي للانصراف وما زلت في مجلسي أفكر، ثم نهضت؛ فإني لألتمس طريقي في الزحام على الباب إذ حانت مني التفاتة فرأيت؛ فتنحيت عن طريقي، وقلت للتي بجانبي: تفضلي! وكانت سيدة ورجلها وبينهما طفل؛ أما السيدة فأعرفها؛ فما تخفى علىَّ ملامح تلميذة من تلميذاتي مهما باعد بيِننا الزمان؛ وأما الرجل فزوجها؛ هكذا يعرف كل من يراه ويراها؛ وأما الطفل. . .

. . . هذه فتاة أخرى من تلميذاتي تبرز لعينيَّ فجأة بعد غياب سنين. . . هذه واحدة و (تلك) واحدة. . .

ليت (تلك) التي توارت خلف الستارة منذ قريب قد رأت ما رأيتُ لعلها تعلم ماذا باعت وما اشترتْ!

وشيعتُ (الأسرة السعيدة) بعينيّ ثم ارتد نظري إلى الوراء لأشيَّع الأخرى. . .

وكأنما اجتمعت لي هاتان الصورتان في زمان ومكان ليشغلني أمرهما من بعدُ ما يشغلني، فلا أزال أسأل نفسي كلما حضرتْني الذكرى: أيهما خير. . .؟

محمد سعيد العريان

ص: 61

‌من هنا ومن وهناك

الجندي المجهول

(عن مجلة العصبة البرازيلية)

كم بين ملايين الجنود الذين التهمتهم الحرب العالمية الماضية من اختفت آثارهم فلا صليب يدل على رفاتهم ولا دمعة تذرف على تربتهم. أولئك هم الجنود المجهولون الذين تركوا أهلهم وأحباءهم وبذلوا دماءَهم من أجل أوطانهم فإذا هم بعد حين شيءٌ ضائع فلا ذووهم يعرفون مثواهم ولا وطنهم يعلم مصيرهم

على أن ذلك الجندي المجهول الذي فرض عليه الواجب الوطني التضحية فقضى غير مذكور قد لقي بعد موته تكريماً لتضحيته لم ينله الأبطال واحتراماً لذكراه لم يظفر به الشهداء. رفعت له الأنصاب التذكارية الضخمة، وأقيمت له الأضرحة الرمزية البديعة فأصبحت مزاراً رسمياً يتوارد إليه الناس ليذكروا البطل المنسي ويؤمهُ الملوك وأصحاب الشأن ليمجدوا التضحية

ومن هو الجندي المجهول؟

(هو ابن كل الأمهات اللواتي فقدنَ أبناءهن ولا يعرفنَ مثواهم)

هذا هو تعريف (الجندي المجهول) الذي اصطلحوا عليه بعد الحرب. أما الفكرة فمبعثها فرنسا، وهي اليوم أنصابٌ وأضرحة ترمز إلى التضحية الصامتة وتمثل الشرف الوطني

في سنة 1920 أصدرت حكومة الوزير جورج ليغ القرار التالي:

مادة أولى - يتناول شرف (البانثيون) رفات أحد الجنود المجهولي الهوية الذين ماتوا في ساحة الشرف في خلال 1914 - 1918

مادة ثانية - يُدفن رفات (الجندي المجهول) تحت قوس النصر

وتم تنفيذ ذلك القرار باحتفال رائع حضرته هيأة الحكومة وقواد الحرب وقد كتب على الضريح العبارة التالية:

(هنا يرقد جندي فرنسي مات من أجل الوطن 1914 - 1918)

واقتفت الدول الأخرى التي اشتركت في تلك الحرب أثر فرنسا، ففي بلجيكا ضريحان أحدهما للجندي المجهول الفرنسي والآخر للجندي المجهول البلجيكي وكتب على الأول:

ص: 62

(هذا الضريح يضم رفات جندي فرنسي صرع في بلجيكا (ناحية إِيبر) في غضون 1914 - 1918 على عهد الملك ألبر. إكرام بلجيكا للجندي الفرنسي المجيد)

وكتب على الآخر:

(هنا يرقد جندي مجهول بذل حياته في سبيل الوطن 1914 - 1918)

وفي قصر وستنمستر بلندن الذي يضم رفات ملوك إنكلترا وعظماء رجالها تقرأ على قبر الجندي المجهول الكتابة التالية:

(تحت هذا الحجر يرقد رفات جندي إنكليزي مجهول الاسم والرتبةُ جلب من فرنسا ودفن هنا بين رفات أعاظم رجال الوطن يوم تذكار الهدنة في 11 نوفمبر 1920 باحتفال وطني كبير حضره جلالة الملك جورج الخامس ووزراء الدولة وقائد حربيها. بهذا يُذكر الرجال الذين بذلوا في خلال الحرب الكبرى 1914 - 1918 كل ما يستطيع امرؤ أن يبذله: الحياة نفسها من أجل الله والملك والوطن والأهل والمنزل والإمبراطورية، وأخيراً من أجل قضية العدل المقدَّسة، وحرية العالم).

وفي مقبرة كرنستون بالولايات المتحدة كُتب على ضريح الجندي المجهول ما يلي:

(هنا يرقد بشرف ومجد جنديٌ اميركاني لا يعرفه غير الله)

وفي إيطاليا بُني ضريح الجندي المجهول إلى جانب نصب رومه، وهذا ما كتب عليه:

(جندي مجهول) - سليل شعب باسل ومدنية ألفيّة، ثبت بلا وجل في الخنادق، وبرهن على بطولة في أدمى المعارك، ووهب حياته ولا أمل له إلا النصر من أجل عظمة وطنه - 24 أيار 1915 - 3 نوفمبر 1918)

وفي فارسوفيا عاصمة بولونيا يحمل قبر الجندي المجهول العبارة التالية:

(هنا يرقد الجندي البولوني الذي مات من أجل الوطن)

وفي البرتغال كتب الكلام التالي:

(من البورتغال الخالدة بحراً وبراً إلى جنديها المجهول الذي مات من أجل الوطن في الحرب الكبرى 1914 - 1918)

وفي جنينة كارول برومانيا أُقيم قبر الجندي المجهول، وكتب عليه:

(هنا يرقد الجندي المجهول، الذي ضحى بنفسه في سبيل الوحدة الرومانية. إن رفاته

ص: 63

مدفون في أرض رومانيا الكبيرة 1916 - 1919)

وفي يوغوسلافيا على جبل أولفالا الذي يبعد نحو ستة عشر كيلومتر عن العاصمة بلغراد، أقيم القبر الذي يضم رماد الجندي المجهول وكتب عليه:

(إلى الجندي المجهول الذي لم يعرف رسمياً)

وفي مستشفى براغا مصلّى تاريخي قديم أقام فيه التشاك قبر جنديهم المجهول الذي مات في معركة زبوروف، حيث انتصرت شرذمة تشاكية على الروس وأسرت منهم ألف جندي

بماذا تستهوي المرأة الرجل؟

للشعب الأمريكاني ولعٌ بالإحصاءات الغريبة، والإحصاء التالي قامت به لجنة من محبي الاستطلاع بعد ملاحظات واختبارات استغرقت شهرين في مختلف المدن الأميركانية

إن الرجال، بناء على الإحصاء المذكور، يستهويهم في المرأة الأعضاء والأشياء التالية،

من ألف رجل 550 رجلاً يستهويهم في المرأة سيقانها، و200 عيناها، 100 عنقها، و40 ملابسها، و30 يداها، و30 زينتها، و20 محفظتها، و10 شعرها 5 حذاؤها أما الخمسة عشرة الباقون من الألف فهم الذي يتغلب عليهم الذهول فيمرون بالمرأة فيرونها دون أن يلفت أنظارهم شيء فيها

صناعة الجمال

(إن الصناعة الوحيدة التي لم تصبها الأزمة المالية بسوء هي صناعة الجمال التي يدعمها الجنس اللطيف ويحييها بنفقاته الهائلة، ففي الولايات المتحدة تنفق النساء على من يجملهن 450 مليون دولار أو 800، 21 مليون فرنك سنويا.

وهذا إحصاء رسمي لا مبالغة فيه، فكم تنفق النساء إذاً في العالم كله؟ في أوربا ما أنفقت النساء قط على أدوات الزينة من ينفقنه في أيامنا.

أما هذا الإسراف فسببه الرئيسي الحرية الواسعة النطاق التي تتمتع بها المرأة في عصرنا والتي تجعلها أقل تصوناً من ابنة جنسها الماضية.

ولكن هل نساء اليوم أجمل من نساء الأمس وهل في وسع النساء أن يصرن جميلات؟

فجوابي على السؤال الأول: أن الجمال يختلف باختلاف النظر والذوق؛ ففي الناس من

ص: 64

يفضلون الورد على كل أنواع الرياحين، وفيهم من يفضلون أحقر الأزهار على الورد. وإنما لا ينكر أن المرأة العصرية قد استطاعت أن تحافظ على رونق جمالها حتى في كهولتها بأساليب التجمل الحالية

أما جوابي على السؤال الأخير فينحصر في (لا) لأن جمال المرأة لا يتوقف على مظهرها الخارجي بل على جمال نفسها أيضاً، فليست هي كالإناء الذي ينحصر جماله في شكله الخارجي وقد يكون في داخله عشًّا للحشرات)

شيء عن المكروبات

ليس للمكروبات على الإجمال ألوان خاصة وإنما يمكن صبغها لأجل درسها وفحصها، وتعتمد على الأكثر المواد الأنيلية. والمكروبات في ذلك تماثل الخيوط والأنسجة، فمنها ما لا يقبل بعض الألوان أو يقتضي عناء كبيراً وزماناً معيناً لقبولها، ومنها ما يأخذ اللون بسهولة وسرعة، ومنها ما يصطبغ بلون دون غيره وطرق تلوين المكروبات لتمييزها ومعرفتها بدقة أصبحت علماً قائماً بذاته وعليها قامت مهارة كوخ العالم الألماني بإظهار كيفية صبغ باشلس السل

لا بد للمكروبات لكي تتوالد وتنمو من بيئة موافقة وغذاء ملائم. وهي تُبذر وتزرع كما يبذر وُيزر النبات في مستنبت سائل أو جامد. والحرارة ضرورية لحياتها ونموّها؛ وأصلح درجة للجراثيم المَرضية حرارة قريبة من حرارة الحيوان الذي يصاب بها وهي نحو الدرجة 37 فوق الصفر، ومنها ما يعيش في جليد القطب الشمالي.

والبحَّاثون قد يعوّدون الميكروب درجة لم يكن ألفها من قبل. وربّ ميكروب لا ينمو إلا بدرجة 39 لكنه لا يموت إلا بدرجة 54 وبزره بدرجة 110

أما البرد فهو أقل فتكا بالمكروبات، فخمير الجعة يتحمل درجة 90 تحت الصفر دون أن يفقد خواصه التخميرية وبزر الجمرة أي مرض الطحال والبثرة الخبيثة يبقى حياً عشرين ساعة بدرجة 130 تحت الصفر غير أن ميكروبه نفسه لا يقوى عليها فإن لم يمت يفقد قوته

للنور تأثير كبير في المكروبات فهو أكبر عدو للجراثيم وقد تحقق الجراثيميون فتك النور بميكروب الجمرة وببزوره أيضاً الذي يموت بعد ثلاثين ساعة على تعريضه لنور الشمس،

ص: 65

وبنور الشمس أضعف الميكروبات إلى درجة جعلتها لقاحاً واقياً. أما ميكروب السل فإذا سلط نور الشمس عليه فيموت في منبته بعد ساعتين، وفي البصاق بعد 48 ساعة، ولكنه في الظلمة أو الأماكن الرطبة لا يموت إلا بعد أشهر أو سنين

ومتى حلت الميكروبات في مادة غذائية جزأتها وحللتها وحولتها ولولاها لما كنا نتصور ولا نفهم كيف يتحول عصير العنب إلى نبيذ ويصير مسكراً، أو كيف يصير الشعير جعة: أو كيف تتلاشى الجثث ولا يبقى منها أثر بعد أيام، فإن المايكروبات قد فعلت فيها ما لم تفعله الكواسر، فحللتها إلى غازات وتراب

ومن الميكروبات ما تفوح من مستنبته روائح عطرية تميز بها فقضيبات السل مثلاً تولدّ في مستنبتها رائحة ذكية أشبه برائحة السوسن. ومنها ما يفرز مواد ذات لون كميكروب الصديد الأزرق فإنه يولّد مادة براقة ميالة إلى الزرقة

أما نمو الميكروبات وسرعة توالدها فأمر مدهش وقد ترى في بصقة المسلول الواحدة ملايين من ميكروب السل فالميكروب الواحد إذا وافقته البيئة قد يصبح في يوم واحد عشرات الملايين

(العصبة)

ص: 66

‌البريد الأدبي

مصر ولغة الضاد

كتب الأمير الجليل (مصطفى الشهابي) وزير معارف سوريا سابقاً مقالاً قيما في عدد أبريل من (المقتطف) الأغر عنوانه (مصر ولغة الضاد). والمقال في مجموعه محاولة طيبة كريمة لإعزاز اللغة العربية. واقتراحات عملية للنهوض بها حتى لا تتخلف عن عصر بلغ التقدم العلمي فيه مبلغاً يقتضي بذل جهد كبير لجعل اللغة العربية مسايرة للنهضة العالمية الحديثة وما يجدُّ من النهضات

وفي المقال عتب على المصريين (لأن الوسائل المادية والمعنوية التي تيسرت لهم تمكنهم من النهوض بأضعاف الأعمال التي نهضوا بها حتى الآن في موضوع اللغة العربية) و (لهذا فالعالم العربي مهما يشكر لهم خدمة لسان الآباء والأجداد، فهو يراهم مقصرين في الخدمة)

وهذا العتاب الكريم هو عتاب الأخ الودود، لا عتاب الخصم اللدود، وعتاب التمني لا عتاب التجني. لهذا استحق هذا المقال المخلص من أمير عربي كريم أن نقف منه وقفة قصيرة على صفحات (الرسالة) الغراء. واختيار (الرسالة) لسببين: أما الأول فلأن سموّ الأمير أشار إليها في مقاله لما قرأه في العدد (346) منها من أن في نية الحكومة المصرية تعزيز المجمع بنحو عشرة أعضاء مصريين ينتخبون من كبار المشتغلين بالبحوث العلمية. وأما الثاني فلأنني رغبت أن أهيئ لمن لم يطلع على مقال الأمير في المقتطف فرصة في (الرسالة) حتى يعرف رأي أمير عربي في نصيب مصر من خدمة اللسان العربي، وما ينتظر منهم لإتمام الصنيعة، لو كان في حفظ تراث الآباء والجدود ما يصح أن يسمى صنيعة

والأمير لا ينكر على بعض الأدباء المصريين اعتدادهم بما أتاهم الله من فضل في الأدب. ولا ينكر على بعضهم أنه غلا في التمادح وأفرط في التباهي، (فمصر جديرة بأن تكون مباءة الأدب، وخليقة بأن تكون قلب بلاد العرب). وإذا كان هذا رأي الأمير في مصر، فنحن يسرنا - لا على سبيل تبادل المدائح - أن نقرر أن البلاد العربية كلها تحمل قسطها من النهضة بقدر. ولا ننسى هؤلاء المجاهدين في الأميركيتين،

ص: 67

فآثارهم في الشعر والنقد والأدب، ستضيف ثروة عربية خالدة إلى التراث العربي بعد حين. . . ويكفي أن نعد منهم على سبيل المثال: أمين الريحاني وميخائيل نعيمة وأيليا أبو ماضي والياس قنصل والمرحوم جبران خليل جبران - على ضعفه اللغوي -

وللأمير اقتراح طيب، وهو اتخاذ قرار حكومي يقضي بأن تكون جميع إعلانات المتاجر مكتوبة بالعربية. وليس في تنفيذ هذا الاقتراح صعوبة عملية

وينتقد الأمير التعليم في بعض كليات الجامعة المصرية بغير العربية. وهو انتقاد له وجاهته وخطره، فإن العربية لم تثبت بعد عجزها عن أن تكون لغة العلم. وليس الكلام هنا ملقى على عواهنه، فقد أثبت المعهد الطبي في دمشق صلاح اللسان العربي لتعلم الطب مع التكميل فقط بالفرنسية. ولم يكن قول المرحوم حافظ إبراهيم على لسان اللغة العربية:

وسعت كتاب الله لفظاً وغاية

وما ضقت عن آيٍ به وعظات

فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة

وتنسيق أسماء لمخترعات؟

أنا البحر في أحشائه الدر كامن

فهل سألوا الغواص عن صدفاتي؟

لم يكن هذا القول خيال شاعر. وإنما هو حقيقة أدركها حافظ المتبحر في اللغة والأدب

ويشير الأمير إلى (الرسالة الغراء) لما نشرته خاصاً بنية الحكومة تعزيز المجمع بعشرة أعضاء مصريين، ويشك في قدرة هؤلاء العشرة على وضع معجم عربي تعرّف فيه الألفاظ تعريفاً علمياً جامعاً مانعاً كما في معجم لاروس الفرنسي. وليأذن لنا سموه أن نقول إنه يسيء الظن بهمم العلماء من العرب. وإذا كان هؤلاء العشرة - غير مسمَّيْن - عاجزين عن وضع معجم عربي أفرنكي حديث؛ فليس معنى هذا أنهم يعجزون عن وضع معجم عربي دقيق. فالأول عمل عظيم يحتاج إلى زمن طويل وصبر طويل وجهاد طويل، أما الثاني فهو عمل يحتاج إلى قليل من الصبر وكثير من التنظيم. . . فإن واضعي المعجمات العربية رحمهم الله وأحسن إليهم - كان ينقصهم كثير من (الفن النظامي) لوضع المعاجم.

إني مع سمو الأمير الجليل في أن معجماتنا القديمة لا تشتمل على كل اللغة. ولا تعرف الألفاظ العلمية تعريفاً جامعاً. وهذا واضح لمن يبتلي منها كل يوم بهذا التعريف (نبات معروف) أو (حيوان معروف). والله يعلم أنه مجهول إلى الأبد. . . وأزيد عليه أن

ص: 68

معجماتنا رجراجة كالزئبق مطاطة كالكاوتشوك. فبعضها ينكر الفعل (سدل) الثلاثي إنكاراً صريحاً، وبعضها ينكر الفعل (أسدل) الرباعي إنكاراً صريحاً ويجيز (سدل) الثلاثي إجازة مطلقة والقارئ يقف متحيراً بين الاثنين. . . ثم لا يسعه إلا أن يستعملهما معاً، لأنهما صحيحان على التخريجين. . . ومن هنا جاءت ظاهرة أسميها (الميوعة اللغوية) أو عدم التماسك. وهذا مشاهد لمن يعاني دراسة العربية أو تدريسها. ولعلي أوفق إلى الكتابة عن هذه الظاهرة في الآتي من أعداد الرسالة الغراء.

محمد عبد الغني حسن

أستاذ الأدب بالخديو إسماعيل

في جمعية هواة الفنون الجميلة بالإسكندرية

ألقى الأستاذ الشاعر عثمان حلمي مساء الجمعة 5 إبريل الجاري بصالة المحاضرات بجمعية هواة الفنون الجميلة محاضرة تناول فيها الحياة الأدبية في الإسكندرية خلال ربع القرن الماضي وعرض لكل شاعر وأديب أنتج في هذه الفترة نتاجاً أدبياً

وقد أعقب الأستاذ المحاضر نخبة من كبار الأدباء في الثغر فأعلنوا رأيهم في موضوع المحاضرة وملاحظاتهم على الأستاذ المحاضر فتكلم الأستاذ عبد اللطيف النشار عن الأدباء السكندريين الذين نزحوا إلى القاهرة معتبراً إياهم سكندريين برغم انتقالهم منها، ومعتبراً أدبهم أدباً سكندريا أيضاً

وتبعه الأستاذ محمود عوض البحراوي فعرض لناحية أخرى من الموضوع إذ تكلم عن مدى تقدير عظماء الثغر وأغنيائه للأدب والأدباء محملاً إياهم تبعة ذلك الخمود الذي يلمس في الحياة الأدبية السكندرية الآن. ثم تكلم الدكتور إسماعيل أدهم فعرض الموضوع من ناحية أخرى حاول أن يقرر بها أن العوامل التي ساعدت على ازدهار الأدب في الثغر ليست عوامل محلية، ولكنها عوامل خارجية أتت إليه من سوريا وغيرها من البلدان عن طريق النازحين إلى الإسكندرية من بلاد الشام

وقد حدثت بينه وبين الأستاذ البحراوي مناقشة شديدة في هذا الصدد أعقبها الأستاذ النشار بكلمة أخرى دعا في ختامها الدكتور أحمد زكي أبو شادي إلى الإدلاء برأيه في الموضوع،

ص: 69

فتقدم الدكتور أبو شادي وعرض للمسألة في أناة وهدوء، ونوه بما لجو الإسكندرية من تأثير في وجدان الشاعر ونفسه، وذكر أشياء من خصائص الأستاذ عثمان حلمي كشاعر سكندري، ثم تكلم الأستاذ حسن كامل كلمة ختامية انتهت بها هذه المناقشات الحادة في هذا الموضوع

وأعقب ذلك حفلة سمر اشترك فيها قسم الموسيقى بالجمعية، وألقى بعض أدباء الثغر قصائد في الربيع، واختتمت الحفلة بالسلام الملكي.

تصويب

جاء في مقال الأستاذ على الطنطاوي في عدد الرسالة الممتاز هذا التعبير (يستقري رمال الدأماء). فعجبت عجباً يستنفد كل العجب! ذلك أن يخطئ الأستاذ في معنى (الدأماء) وهو (البحر) فيضعها موضع بيداء أو دهناء. . .

. . . وسبحان من تفرد بالعصمة والجلال. . .

البصرة

محي الدين إسماعيل

بين أما ومهما

إلى الأستاذ الكبير مؤلف (النحو والنحاة)

أجمع النحويون في إعراب (إمّا زيد فمنطلق) على تأويل (أمّا) بمهما يكن من شيء، وإنما دعاهم إلى هذا وجود فاء الشرط في الكلام. . . وبحثوا عن فعل الشرط وأداته فلم يجدوهما فأولوا (أمّا)، بمهما يكن من شيء، وجعلوا جملة (فزيد منطلق) جواب الشرط، وهذا تأويل لا غبار عليه من حيث تأدية المعنى

ولكن الذي لا يستساغ هو أن تكون (أما) الحرفية التي لا تركيب فيها كما يدعون دالة على هذا المحذوف كله

ورأيي أنّ أمّا ليست بسيطة وليست دالة على (مهما يكن من شيء كما زعم النحاة) وإنما هي أن الشرطة وما التي بمعنى شيء، وأصلها (أَنْ ما) وأن بفتح الهمزة شرطية وهي (إن) المكسورة نفسها كما يرى الكوفيون، ورجحه صاحب المغنى بأدلة هي في غاية

ص: 70

الوجاهة والقوة، و (ما) نكرة تامة بمعنى شيء. . . إلا أنه قد بقي أنَّ (أنْ) حرف شرط فلا يليها إلا فعل فأين هذا الفعل وكيف تقديره؟

الجواب أن الفعل محذوف تقديره (كان) كما قَدرَّه النحاة في (إن خيرٌ فخير) فقالوا التقدير (إن كان خير)

فتقدير (أمّا) - إن كان شيء - فكان تامّة فعل الشرط وشيء فاعلها، والجواب هو الجملة المقترنة بالفاء، فتقدير (أمّا زيد فمنطلق) إن كان شيء فزيد منطلق، أي إن وُجِد شيء فزيد منطلق

لقد وقف الأستاذ الكبير محمد عرفه من النحاة الأقدمين موقف الذّائد الحامي الذمار

فهل يظفرون بدفاعه البارع في موقفي هذا الذي أنقدهم جميعاً فيه. وإني لمنتظر رأيه الفصل

محمود فرج العقدة

ص: 71

‌الكتب

المطبوعات العربية القديمة في سنة 1939

للأستاذ كوركيس عواد

ظفرت المؤلفات العربية القديمة في سنة 1938 بفوز كبير. فقد نِشرَ منها خلالها طائفة حسنة، لبعضها خطر وأهمية لا يقدران. لا غرو أن تكون جهود العلماء والباحثين المبذولة في سبيلها أثناء تلك السنة قد جاءت بفتح جديد في مناحي الثقافة العربية، فكشَفت بعض مخبآتها وكنوزها، تلك الكنوز التي ظلت طوال قرون عديدة بعيدة عن المطابع والانتشار، منزوية في بعض خزائن الكتب، طامسة في ظلام الإهمال والنسيان. . . أجل! كُتِبَ لتلك الكنوز أن تحيا حياة ثانية، وقدَّر لها أن تلقى من إقبال العلماء والباحثين وعنايتهم ما يستحقون عليهما أوفر الشكر وأعطر الثناء ثم تَلَتْها سنة 1939، فأصابت المطبوعات العربية القديمة في أثنائها حظاً حسناً ونالت حركة لا بأس بها؛ غير أنها لم تكن لتجاري حركة السنة التي تقدمتها. ولعل أوضح الأسباب لهذا التناقص ما كان ناجماً عن الأحوال السياسية المضطربة التي أحاطت بكل المرافق، وأحدقت بجميع المشاريع والأعمال، وبضمنها حركة النشر كما لا يخفى. . .

وقد خطر لنا أن نتتبع ما نشرته المطابع من هذه الكتب العربية القديمة خلال السنة المنصرمة، أعني بها سنة 1939، فإذا نحن أمام جملة نفيسة منها، تبلغ في عَدَّها نحو خمسة وثلاثين كتاباً، بينها ما يتكون من مجلد واحد، وبينها ما يتكون من بضعة مجلدات، كما أن بينها عدداً آخر يكمل مجموعات أو ينتظم في سلسلة نشرت بعض حلقاتها في سنين ماضية والعمل على إصدار بقيتها لا يزال مستمراً

ونحن على يقين أنه فاتنا من هذه الكتب طائفة، قد تكون غير قليلة، منها ما نشر في المغرب أو في إيران أو في الهند أو في غيرها من الأقطار. ولعل لنا في ذلك بعض العذر: فإن كثيراً من المطابع أو المكتبات أو شركات النشر في البلدان الشرقية تفرَّط أشد التفريط في إصدار الفهارس المفصِحة عن الكتب، ونشر القوائم التي تفي بالمرام وترشد القارئ، من حين إلى حين، إلى ما يصدر من تلك المطبوعات فَتُيسَّر له طريق الحصول عليها فالانتفاع منها

ص: 72

وعلى ذكر هذا أقول: إن شركات الكتب في البلدان الغربية قد قطعت شوطاً بعيداً في هذا المضمار وأمعنت في تحسين عملها وتنظيمه، فلا يكاد يصدر كتاب من الكتب حتى ترى الإعلانات عنه توزع بجد واهتمام على كل الجهات والأوساط التي يُنتظَر منها أن تهتم له، وترى قوائم الكتب قد أتت على ذكره مُبيّنة أهم أوصافه، فيقف متصفحها على شيء من أمر هذا الكتاب. وقد يتكرر الإعلان عن الكتاب الواحد، فيأخذ أشكالاً وأساليب مختلفة، فإن لم يصب أحدها المرمى من نشره، فقد يكون من رفيقه ما يؤدي المطلوب. . .!

هذا من الوجهة التجارية. وهناك في هذا السبيل ناحية علمية محترمة تسمو على هذه الناحية: فقد يعمد بعض العلماء إلى حصر ما نشر في منحى من مناحي البحث والتفكير في أوقات معينة أو غير معينة، فيقفون القراء، بأيسر الطرق وأوضحها، على ما ظهر في العلم الفلاني أو الفن الفلاني من المطبوعات التي لا تقتصر على الكتب فحسب، بل تتعداها إلى الرسائل والمقالات أيضاً. وعلى هذا الوجه ينيرون السبيل أمام هؤلاء القراء

وما لنا نذهب بعيداً، وأمامنا الآن ثلاثة أجزاء من نشرة سنوية جزيلة الفائدة يصدرها المستشرق ماير بمؤازرة جمهرة من أرباب البحث، بعنوان (حولية منشورات الفن والأثريات الإسلامية) وهاهو ذا قد أصدر مؤخراً نشرة شبيه بتلك، غير أنها تتعلق بالكتب أو المقالات التي ظهرت في فرع (المسكوكات الإسلامية)، وهي لعمري خدمةٌ تذكر فتشكر. ومثل هذا شيء كثير يصدر في بلاد الغرب، ونحن عن مثله منصرفون!

فمتى يا ترى نجد بيننا من ذوي الاختصاص من يتقدم إلى زملائه، من وقت لآخر، لتصنيف مثل هذه النشرات التي من شأنها أن تفتح أمامهم مسالك البحث، وتذلِّل لهم بعض العقبات، وتجعلهم على علم بما ينشر في الفرع الذي يشتغلون به

وفيما يلي ثبت موجز بالكتب العربية القديمة التي ظهرت في سنة 1939، وهو كل ما استطعنا الوقوف عليه. وقد كان بودِّنا أن نصنفها بحسب موضوعاتها، كما هو الأصلح في مثل هذه الشؤون، غير أنها لما كانت قليلة العدد آثرنا أن نرتبها بحسب تسلسل عنواناتها، مع الإشارة إلى سنة وفاة مؤلفها ما أمكن

1 -

الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة: لبدر الدين الزركشي (794هـ). نشره الأستاذ سعيد الأفغاني (المطبعة الهاشمية - دمشق، 228ص)

ص: 73

2 -

الأحكام السلطانية: لأبي يعلي الحنبلي (458هـ). نشره الأستاذ محمد حامد الفقي (مطبعة مصطفى الحلبي - القاهرة، 292ص)

3 -

أزهار الرياض في أخبار عياض: للمقري (1040هـ). نشره الأساتذة مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي

(مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر - القاهرة، ح + 371 ص)

4 -

أسرار البلاغة والبيان: لعبد القاهر الجرجاني (471هـ). نشرته ثانية مطبعة دار المنار - القاهرة بتصحيح الشيخ محمد رشيد رضا والشيخ الشنقيطي (368 ص)

5 -

الأغاني: لأبي الفرج الأصفهاني (سنة 356هـ). المجلد العاشر، نشرته دار الكتب المصرية في القاهرة، وهو كسابق أجزائه من حيث العناية بالتعاليق والفهارس (المجلدات 1 - 9 ظهرت خلال 1927 - 1936، والكتاب لما ينته)

6 -

الإمتاع والمؤانسة: لأبي حيان التوحيدي (سنة 400هـ) الجزء الأول. نشره الأستاذان أحمد أمين وأحمد الزين (مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر - القاهرة)

7 -

أنساب القبائل العراقية: للسيد مهدي القزويني الحسيني (1300). نشرته المكتبة المرتضوية بالنجف (العراق)(90 ص)

8 -

البداية والنهاية في التاريخ: لابن كثير (774هـ) المجلد العاشر، مطبعة السعادة - القاهرة (المجلدات 1 - 9 ظهرت قبل هذا، والكتاب لم ينته)

9 -

البلدان لابن واضح اليعقوبي (المتوفى بعد سنة 292هـ) نشرته المكتبة المرتضوية بالنجف، 132 ص

10 -

بلوغ المرام في شرح مسك الختام فيمن تولى ملك اليمن من ملك وإمام: للقاضي حسين بن أحمد العرشي (المتوفى بعد سنة 1330هـ). نشره العلامة الأب أنستاس ماري الكرملي، مع حواش، وملاحق، وفهارس، ومقدمة بالفرنسية (مطبعة البرتيري - القاهرة، د + 442 ص)

11 -

بيان مذهب الباطنية وبطلانه (منقول من كتاب عقائد آل محمد) لمحمد بن الحسن الديلمي (ألف كتابه سنة 707هـ) نشره المستشرق شتروطمان مطبعة الدولة - أستانبول، يه + 137 ص (النشريات الإسلامية لجمعية المستشرقين الألمانية، رقم 11)

ص: 74

12 -

تاريخ ابن الفرات: لناصر الدين محمد بن عبد الرحيم ابن الفرات (807هـ). المجلد الثامن، نشره الدكتور قصطنطين زريق والدكتورة نجلا عز الدين (المطبعة الأميركية - بيروت، 284 ص. في هذا المجلد حوادث السنين 683 - 696هـ. المجلد التاسع منه نشر في قسمين سنة 1936 - 1938، فيهما حوادث السنين 789 - 799هـ)

13 -

تاريخ الطبري: لابن جرير الطبري (310هـ) نشره محي الدين عبد الحميد (8 مجلدات، مطبعة مصطفى محمد - القاهرة)

14 -

تاريخ اليعقوبي: لليعقوبي (المذكور في رقم 9). نشرته المكتبة المرتضوية بالنجف (3 أجزاء، 717 ص)

15 -

التبصير في الدين: لأبي المظفر طاهر بن محمد الاسفرائيني. نشره الأستاذ محمد سليم النعيمي (مطبعة النهضة بنهج باب السعدون - تونس، 184 ص)

16 -

الحيوان: للجاحض (255هـ). المجلد الثالث، نشره الأستاذ عبد السلام محمد هارون، بتعاليق وشروح وفهارس (مطبعة مصطفى الحلبي - القاهرة، 584 ص. المجلد الأول والثاني صَدرَا سنة 1938، والكتاب لما ينته)

17 -

ديوان ابن الساعاتي: لبهاء الدين أبي الحسن علي أبن الساعاتي (604هـ). الجزء الثاني، نشره الأستاذ أنيس الخوري المقدسي (المطبعة الأميركية - بيروت، 437 ص. المجلد الأول صدر سنة 1938)

18 -

رحلة ابن الفقيه إلى نهر الفلجا: لأبن الفقيه الهمذاني (المتوفى في أواخر القرن الثالث للهجرة) نشرها على الأصل المستشرق في ليدن مع ترجمة ومقدمة وشروح وتعاليق بالروسية. كما أن فهارس الشروح موضوعة بالروسية والعربية

19 -

رسالة موسيقية: لمؤلف مجهول (قدمها إلى السلطان العثماني محمد الثاني، الذي حكم أثناء 855 - 886هـ). ترجمها ديرلانجه إلى الفرنسية ونشر هذه الترجمة (دون النص العربي) في الصفحة 1 - 255 من المجلد الرابع من مجموعة في الموسيقى العربي المطبوع في باريس لدى الكتبي بول غوتنر

20 -

السلوك لمعرفة دول الملوك: للمقريزي (845هـ). القسم الثالث من الجزء الأول، نشره الدكتور محمد مصطفى زيادة مع تعاليق ملاحق وفهارس كلها في غاية الدقة والفائدة

ص: 75

(مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر - القاهرة، 532 ص. في هذا القسم أخبار السنين 678 - 703هـ. أما القسمان الأول والثاني من الجزء الأول فقد صدرا في سنة 1934 - 1936 والكتاب لما ينته).

21 -

سيرة أحمد بن طولون: لأبي محمد عبد الله بن محمد المديني البلوي (ألّف كتابه بعد سنة 312هـ) نشره الأستاذ محمد كرد علي مع تعاليق وفهارس (المكتبة العربية - دمشق، 400ص)

22 -

صورة الأرض: لأبن حوقل (ألّفه سنة 367هـ) القسم الثاني نشره المستشرق كريمرز (مطبعة بريل - ليدن، 280 ص. القسم الأول ظهر سنة 1938، وسيتلوهما الثالث وبه يتم الكتاب. وكان المستشرق دي غويه قد نشر هذا الكتاب في ليدن سنة 1873 بعنوان (المسالك والممالك) وهو المجلد الثاني من (المكتبة الجغرافية العربية). إن طبعة كريمرز هي (الثانية) باعتبار طبعة دي غويه كانت الأولى)

23 -

طبقات الشعراء في مدح الخلفاء والوزراء: لعبد الله ابن المعتز (296هـ). نشره الأستاذ عباس إقبال، على الأصل، مع مقدمة بالفرنسية (كمبردج، 226 + 55 + ص، مجموعة تذكار جب، السلسلة الجديدة، رقم 13)

24 -

عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب: لابن عمبة (وقيل: ابن عمبسة) الحسني (828هـ). نشرته المكتبة المرتضوية في النجف. 12 + 370 ص)

25 -

الفتحية في علم الموسيقى: لمحمد بن عبد الحميد اللاذقي (قدًّمها إلى السلطان العثماني بايزيد الثاني الذي حكم أثناء 886 - 918 هـ). ترجمها ديرلانجه إلى الفرنسية، ونَشَرَ الترجمة هذه (دون النص العربي) في الصفحة 257 - 498 من المجلد الرابع من مجموعه في الموسيقى العربي (المذكور في رقم 20)

26 -

كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة: لأبن أبي الفضائل الحمادي اليماني (من أهل القرن الخامس للهجرة). نشره الأستاذ عزة العطار مع مقدمة للشيخ محمد زاهد الكوثري (مطبعة الأنوار - القاهرة، 44 ص)

27 -

اللباب في تهذيب الأنساب: لعز الدين بن الأثير (630هـ) الجزء الأول، نشرته مكتبة القدس بالقاهرة، 591 ص

ص: 76

28 -

لسان العرب: لأبن منظور (711هـ). الجزء الخامس. نشره الأستاذ عبد الله إسماعيل الصاوي (مطبعة الصاوي - القاهرة، 180 ص. المجلدات 1 - 4 صدرت قبل هذا، والكتاب لما ينته)

29 -

المجازات النبوية للشريف الرضي (406هـ). نشره الأستاذ محمود مصطفى (مطبعة مصطفى الحلبي - القاهرة 34 ص)

30 -

المستجاد من فعلات الأجواد: للمحسن التنوخي (384هـ. نشره المستشرق بولي بنر الشرقية، رقم 23 (26 + 213 ص)

31 -

النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: لابن تغري بردى (874 هـ). المجلد السابع، نشرته دار الكتب المصرية بالقاهرة، 466 ص (المجلدات 1 - 6 صدرت خلال 1929 - 1931، والكتاب لما ينته)

32 -

نخب الذخائر في أحوال الجواهر: لابن الأكفاني السنجاري (749 هـ). نشره العلامة الأب أنستاس ماري الكرملي، مع تعاليق وملاحق وفهارس ومقدمة بالفرنسية (المطبعة العصرية القاهرة، 188 ص)

33 -

نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب: للمقَّري (أنظر رقم 3). المجلد العاشر، نشره الدكتور أحمد فريد رفاعي، بتعاليق الأستاذ يوسف نجاتي، مع الفهارس. القاهرة (المجلدات 1 - 9 ظهرت قبل هذا، والكتاب لمّا ينته)

34 -

النقود العربية وعلم النُمِيَّات: هي مجموعة رسائل عربية في هذا الموضوع، نشرها العلامة الأب أنستاس ماري الكرملي، مع تعاليق وملاحق وفهارس ومقدمة بالفرنسية. (لمطبعة العصرية - القاهرة، 529 هـ) تتألف هذه المجموعة من:

(1)

كتاب النقود: للبلاذري (279 هـ). وهو فصل من كتابه (فتوح البلدان)

(2)

كتاب النقود القديمة الإسلامية: للمقريزي (أنظر رقم 21) وهي الرسالة التي طبعت سابقاً غير مرة بعنوان (شذور العقود في ذكر النقود)

(3)

تحرير الدرهم والمثقال والرطل والمكيال، وبيان مقادير النقود المتداولة بمصر على مقتضى ما حدد بدار الضرب سنة 1256 هـ لمصطفى الذهبي الشافعي (من أهل القرن الثالث عشر للهجرة)

ص: 77

(4)

أقوال ابن خلدون (808 هـ) في النقود الإسلامية (نقلاً عن (مقدمة ابن خلدون))

(5)

أقوال القلقشندي (821 هـ) في النقود الإسلامية (نقلاً عن كتابه (صبح الأعشى))

35 -

نهاية الأرب في فنون الأدب: للنويري (732هـ) المجلد الثالث عشر، نشرته دار الكتب المصرية بالقاهر، 277 ص (المجلدات 1 - 12 صدرت خلال 1923 - 1937 والكتاب لما ينتهي)

هذا ما تيسر الوقوف عليه وكان بودنا أن نذكر في هذا المقام بضعة كتب أخرى أطلعنا على أسمائها في بعض القوائم أو المجلدات، غير أنه لم يشر لدى الكلام عليها هنالك إلى سنة صدورها، مما جعلنا في ريبة من صحة نسبتها إلى سنة 1939؛ ولما لم تصل إليها يدنا في الوقت الحاضر، فقد اضطررنا إلى تركها على غير رغبة منا. ولعل بين القراء الأفاضل من يقوم بإكمال ما فاتنا منها أو ما لم يتأتّ لنا الوقوف عليه، وله منَّا أبلغ الشكر

(بغداد)

كوركيس عواد

ص: 78