المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 355 - بتاريخ: 22 - 04 - 1940 - مجلة الرسالة - جـ ٣٥٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 355

- بتاريخ: 22 - 04 - 1940

ص: -1

‌في سبيل الأزهر الجديد

من بشائر الأمل في النهوض ودلائل الثقة بالفوز أن النفوس الشابة مهيأة لدعوة التجديد ورسالة الإصلاح؛ فهي كالأرض الطيبة تشتمل على مذخور الحياة وموفور البذر ثم لا تنتظر غير الفلاح والغيث

منذ أخذنا على بعض العلماء اشتغالهم بالمراء الباطل والبحث العقيم، وقوفهم عند المماحكة في اللفظ والمعاياة بالاعتراض، وتركهم أصول الدين تشتجن عليها الأضاليل والبدع، والرسائل تنثال علينا من شباب المراغي في أقسام الأزهر وكلياته يشايعوننا على الرأي ويسألوننا أن نزيد.

و (شباب المراغي) تعبير لم نضعه، وإنما وجدناه في جميع الرسائل التي أُلقيت إلينا؛ فهو إما إلهام جاء من اتحاد النية، وإما اتفاق أُبرم على إدارة الإصلاح.

نعتقد مخلصين أن الأزهر إذا استكمل أداة التعليم وساير حاجة العصر نهض بالشرق نهضة أصيلة حرة، تنشأ من قواه وتقوم على مزاياه وتتغلغل في أصوله. ذلك لأن ثقافته المشتقة من مصدر الوحي وقانون الطبيعة متى اتصلت بتيار الفكر الحديث تفاعلت هي وهو فيكون من هذا التفاعل ما يريد به الله تجديد دينه وكفاية شرعه وإدامة ذكره.

كذلك نعتقد مخلصين أن رجعة الأزهر إلى ماضيه البعيد خير له وللناس من جموده على شأنه الحاضر. والرجعية لا يمكن أن تكون في منطق الطبع سبيلاً إلى التقدم، ولكنها في نظام التعليم الأزهري خرق لهذا القانون لا ينكره العقل. ذلك لأن رجعية الأزهر معناها العودة في استنباط الدين إلى منابعه الأولى من صريح الكتاب وصحيح السنة، وفي فقه الأحكام إلى مثل كتابي الأم والرسالة للشافعي، وفي تعليم النحو إلى كتاب سيبويه وخصائص ابن جني، وفي تدريس البلاغة إلى كتب عبد القاهر وأبي هلال. وفائدة هذه الرجعية الخلوص من أمثال الجمع والهمع، وما حشد الأعاجم في عصور الشروح والحواشي والتقارير مما أفسد الملكات وأفند العقول وصرف الأذهان عن جوهر الدين ولب العربية وسر البلاغة.

إن الدين الإسلامي ينفرد عن سائر الأديان باعتماد دعوته على الأدب وقيام معجزته على البلاغة. فإذا حثر ذوق العربية في رجاله بما قمش السكاكي والفنري وملا جلبي من الغثاء والهراء، تقطعت الأسباب بينهم وبين محمد فضلوا سبيله وجهلوا علمه. فالدين الإسلامي

ص: 1

والأدب العربي متلازمان تلازم المعنى واللفظ أو الفكر والأداء. ولا يتسنى لرجل الهداية والإصلاح أن يبلغ دعوة محمد إلا إذا تمكن منهما تمكن الجاحظ والزمخشري ومحمد عبده ورشيد رضا والمراغي. أما المضمضة بالألفاظ الاصطلاحية والجمجمة بالجمل المعقدة على أنها هي العلم والأدب، فتطور إلى العكس لا يجوز أن ينتج إلا ما نحن فيه

من الطبيعي أن ينشئ هذا الكلام في ذهنك هذا السؤال فتلقيه عليَّ: إذا كان المراغي أجدر الناس بإصلاح الأزهر كما نعتقد؛ وكان شباب الأزهر راغبين في هذا الإصلاح مؤمنين بقدرة شيخهم عليه كما نرى؛ فما الذي يعوق هذا الإصلاح ويعارض هذه الرغبة؟. . . والجواب المفصل عن هذا السؤال يقتضي شيئاً من الصراحة لا تحتمله بعض النفوس فيما أظن. فإذا وقفنا عند الأسباب الظاهرة المباشرة قلنا إن إصلاح الأزهر لا يمكن أم يتم في سنتين أو في أربع، لأن ملاك هذا الإصلاح منوط بأمرين اثنين: أحدهما إعداد المعلم، والآخر تأليف الكتاب

فأما إعداد المعلم فيقوم على أن يكون متمكناً في علوم الدين وصاحب ملكه في الفقه، وأن يكون متبحراً في فنون العربية وصاحب قريحة في الأدب، وأن يأخذ بعد هذا وهذا من ثقافة الغرب بأوفى نصيب. وهذا الإعداد على هذه الأساس لا يؤتي ثمرة قبل عشر سنين إذا أخذوا منذ اليوم يتنخلون ممن تخرجهم أقسام التخصص المختلفة في كل سنة نوابغ الفقهاء والأدباء، ثم يبعثون بهم إلى جامعات إنجلترا وفرنسا وألمانيا ليبلغ كل منهم أقصى الدرجات في العلم الذي أخصى فيه. ولك في الأساتذة البهي وماضي ومحمد يوسف موسى شاهد صادق على فضل هذا الإعداد وأثره

وأما تأليف الكتاب فلا يتيسر إلا بعد إعداد المعلم، لأنه هو وحده الذي يدري كيف يؤلفه ويدرسه. ومتى توفر للأزهر المعلم والكتاب في ظل هذه الإدارة البصيرة صح لك أن تقول:(إن مصر ظفرت بجامعتها الصحيحة التي تُدخل المدنية الغربية في الإسلام، وتجلو الحضارة الشرقية للغرب، وتصفي الدين والأدب من شوائب البدع والشبه والركاكة والعجمة)

ذلك فيما نعتقد ما كان يعنيه صاحب الجلالة المغفور له الملك (فؤاد) حين قال لأحد كبار العلماء: (إن أنجع الوسائل في إصلاح الأزهر أن يغلق عشر سنين ثم يفتح من جديد)

ص: 2

وذلك فيما نعتقد أول الإصلاح الأزهري وآخره. وما دام التعليم الديني قائماً على براعة المعلم في حل المعميات وخلق الاعتراضات، وإمعان الكتاب في الاستطراد والاستغلال والحشد، فهيهات أن يتجدد الأزهر وإن شيد بالمرمر وفرش بالطنافس وأنير بالكهرباء!

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌4 - في أرجاء سيناء

للدكتور عبد الوهاب عزام

وفي يوم الثلاثاء رابع عشر ذي الحجة خرجنا إلى حديقة الدير فدخلنا ساحة ذات أشجار اتخذت مباءة لغنم الدير، رأينا فيها عدة من الضأن والمعز معها سخالها، ورأينا في جانب الحديقة ناقة معها فصيلها، وهي لحمل ما يجلب إلى الدير. هناك بئر واسعة قريبة الماء

ثم دخلنا إلى ساحة صغيرة فيها قبور قليلة هي مزرعة الموتى؛ فأما حصاد هذه المزرعة ففي حجرة واسعة متصلة بهذه المقبرة. في هذه الحجرة أكداس من الجماجم والعظام قد رتبت وصنفت، فالجماجم على حدة، وعظام الأذرع على حدة، وعظام الأرجل على حدة، لم تختلط كما توجس أبو العلاء المعري في قوله:

لا يغيّركم الصعيد وكونوا

فيه مثل السيوف في الأغماد

فعزيز عليَّ خلط الليالي

رمّ أقدامكم برمّ الهوادي

ذلكم لأن موتى الدير يدفنون في المقبرة الصغيرة ثم تستخرج العظام بعد حين فتجمع في مكانها وتخلى الأرض لمن يفد إليها من وفود الموتى المتتابعة على مر العصور

ربِّ لحد قد صار لحداً مراراً

ضاحك من تزاحم الأضداد

ودفين علي بقايا دفين

في قديم الأزمان والآباد

ثم خرجنا من دار الفناء والعبر فدخلنا إلى حديقة واسعة فيها أنواع من البقول وضروب من السرو وأشجار الفاكهة، تسقى من آبار فيها، ومما يجلب إليها من آبار داخل الدير

وحديقة الدير مرأى جميل في حضيض الجبال الشاهقة المشرفة عليها

إلى جبل موسى

الجبل العظيم المطل على الدير من الجنوب يسمى جبل موسى ويقال: إنه الجبل الذي تلقى فيه موسى عليه السلام الألواح.

تواعدنا الخروج إلى الجبل بعد الظهر، فسار الرفاق يدلهم أحد الرهبان، فخرجوا من باب صغير في حديقة الدير إلى الجبل ليصعدوا زهاء ثلاثة آلاف درجة منحوتة في الحجر أو مرصوفة، وللجبل طريق أخرى على مقربة من الدير تصعد على السفح متعرجة إلى ثلثي الجبل، ويستطيع الجمل أن يصعد فيها. وقد آثرت أنا هذه الطريق، فركبت جملاً، وسار

ص: 4

صاحبه يقوده. فأما الجمل فاسمه درويش، وأما صاحبه فاسمه حميد من أولاد سعيد

صعدنا زهاء خمسين دقيقة، وأنا مشفق على هذا الحيوان السهلي يكلَّف هذا المرتقى الصعب، بل سفينة الصحراء التي تسام صعود الجبال.

وكان بيني وبين صاحب درويش حديث ممتع:

قلت: ما تسمي هذا الذي أركب عليه؟ قال: الغبيط، والذي تحته البدار، وقد وضعت الغبيط على بدار الحمل، لأني جئت بدرويش إلى الدير محملاً، وما حسبت أنه يركب. قلت: الغبيط بلغة أهل مصر ما يحمل فيه التراب ونحوه على الدابة، ولكنه في الشعر القديم كما تقول. قال: هذا الخشب المكسوّ الذي يركب عليه هو الغبيط، والبدار هذه الحشيّة التي توضع تحت الغبيط. قلت: فما تسمي هذا الحزام الذي على صدر الجمل؟ قال: هو البطان قلت: صدقت. ويقال في المثل التقت حلقتا البطان والحقب. فما الحقب؟ وهل تسمى الحزام الخلفي حقباً؟ قال: لا، هو الحبك. قلت في نفسي: ليس هذا بعيداً من قياس اللغة وسماعها. ثم قلت: فما الحبل الذي في يدك؟ قال: الرسن. قلت: ألا تسميه المقود؟ قال: المقود هذه - وأشار إلى طرف الحبل الذي في يده وقد جعله كالحلقة - قلت: يا حميد! فما الحبل الذي على خدّ الجمل. قال: العذار. قلت: صدقت. تذكرت قول أبي الطيب:

فقرّحت المقاود ذفربيها

وصعّر خدّها هذا العذار

قلت: فأين الغارب؟ فوضع يده على أمام الغبيط من ظهر الجمل، وقال: والكثَب هذا؛ ووضع يده على ما يلي العنق.

قلت في نفسي: الذي عرفناه في اللغة الكاثب وجمعه كواثب،

كما قال النابغة:

لهن عليهم عادة قد عرفتها

إذا عرض الخطّى فوق الكواثب

قلت: فأين الثفنة؟ قال لا أعرف. قلت: ألا تسمى الركبة ثفِنة؟ قال: لا، ولكن الذِّفنة هذه. وأشار إلى ما يقع على الأرض من رجل البعير الخلفية إذا برك. قلت في نفسي: قد قُلبت الثاء ذالاً في لغة حميد وقومه

ثم سألته عن نبات مرَرْنا به حتى قلت: أهنا ثمام؟ قال: لا، ولكن في وادي كذا ثمام كثير. قلت: نحن نقرأ في كلام القدماء: (هذا الشيء على أطراف الثمام). قال: نعم، كذلك نقول

ص: 5

إذا كان الشيء كثيراً قريباً، لأن الثمام قصير. قلت: أفادك الله يا حميد

قال حميد: لا يصعد الجمل بعد هذا الموضع. فنزلت وربط هو درويشاً؛ وسار معي يدلني الطريق إلى حيث يصعد المتوقل إلى القمَّة. فمشينا زهاء خمس دقائق، فنادى: هؤلاء أصحابك. فرأيت جماعة من الرفاق قعدوا من الإعياء، فعرّفوني أن جماعة خلفهم وآخرين سبقوهم إلى القمّة. شرعت أصعد في درج متمهلاً أقرأ بين الحين والحين على الصخر ما كتبة أحد الرفاق السابقين من كلمات تواسي الصاعد وتحرضه على المثابرة، وبعد نصف ساعة بلغت القمة

على القمة فجوة بين الصخور قال دليلنا الراهب: إنها حيث رأى موسى الملك. وهناك كنيسة صغيرة جميلة على جدرانها صور متقنة تمثل ما يدور حول هذا المكان من ذكريات منها صورة تمثل موسى يتلقى الشريعة من الله تعالى

وفي جانب من القمة مسجد ساذج جدرانه غير مطلية وسقفه غير محكم وأرضه غير مفروشة. قالت نفسي: هذه أمارة على إهمال المسلمين أمورهم، فخطر لي أنه مع هذا أمارة على يسر الإسلام وقربه إلى الفطرة. وبجانب المسجد عند حافة القمة غار صغير يُهبط إليه درجات قليلة فيه أثر نار. يقول العامة: إنه حيث أقام موسى أيام الموعد، وإن هذه النار من آثار ذلك الزمان

وتشرف هذه القمة العالية على جبال وأودية كثيرة، ومناظر بعيدة وقريبة، وتسمو بجسم الإنسان وروحه حتى يكاد يتوهم أنه من طير الجو أو سكان السماء

أقمنا قليلاً ثم شرعنا نهبط وأمامنا الراهب لم يعيَ بالصعود والهبوط على كبر سنة (وكل امرئ جار على ما تعوّدا)

مازلنا نهبط ثم نهبط؛ كلما رأينا وادياً في الجبل قلنا قاربنا الأرض، فإذا بلغناه وجدناه قمة عالية تشرف على مهاوٍ أخرى بعيدة. وتشرف المخارم فوقنا عالية عاتية مهيبة ملساء صمّاء، ونشرف نحن على هُوى سحيقة وأودية بعيدة، دواليك حتى غربت الشمس وطلع القمر متمهلاً فوق الجبل الشرقي كأنما أصابه من الإعياء ما أصابنا. ثم أشرفنا على الدير وقد بلغ منا التعب مبلغه فتحاملنا حتى هبطنا إلى مستوى الدير بعد ساعة ونصف من مفارقة القمة.

ص: 6

(للكلام صلة)

عبد الوهاب عزام

ص: 7

‌على هامش الأبحاث النفسية والفلسفية

أساليبنا في البحث وعلام تعتمد؟

للدكتور محمد البهي

كتبت مرة في مجلة أزهرية كلمة حول تطور فكرة (الشر) في القصص الميثلوجية والأبحاث الفلسفية، وكيف دخل كثير مما قيل فيها من آراء في شرح ما جاء في الديانات السماوية السامية من التعبير (بالشيطان) على لسان المفسرين العقليين

فكتب (باحث) آخر يلاحظ أن كلمتي اشتملت على (غموض وإبهام)، وأني قد (أطلت من غير داع)، وأن (كل اعتمادي على الفكر الخيالية) ولم تكن (لمقدمتي الطويلة كبير فائدة تذكر للمسلمين وغيرهم). وليتني (إذ تعرضت للفلسفة أتيت منها بما يستند إلى البرهان العقلي أو التجربة والمشاهدة كما هو أساس الفلسفة الحديثة التي انتهت إلى إثبات الأرواح المجردة علوية وسفلية. ولكني لم أفعل، بل أتيت بما هو منقوض بنفس الفلسفة الحديثة التي انتهى إليها تفكير الفلاسفة العصريين في أبحاثهم)

وهكذا كان (بحثه) مملوءاً بمثل هذه الأحكام والملاحظات. وقد ختمه بأن وعدني (بالمناقشة باعتبار أني مسلم)

مثل هذا الكاتب ليس بالقليل، وطريقته في البحث غير مجهولة. وهو فقط مثل جزئي لظاهرة تطبع تفكير الكثير من (باحثينا) وكتابنا

لهذا لا أقصد من كلمتي هذه سوى شرح تلك الظاهرة وتعليلها من ناحية البحث التاريخي الفلسفي، وإرجاعها لحالة معينة من الحالات العقلية التطورية للجماعة من وجهة البحث البسيكولوجي

كثيراً ما نقرأ (للباحثين) أمثال هذه العبارات: ما أقوله (أنا) حق، أو هو الحق الصراح، أو واضح وضوح الشمس في رائعة النهار. وما تقوله أنت (للخصم) باطل، أو غامض مبهم، أو لا يستند إلى الواقع ولا إلى العقل والمنطق؛ والحس ينكره والتجارب لا تؤيده. . . . . . الخ

هل وضع مثل هذا الكاتب مقياساً علمياً مجرداً عن التأثر الشخصي لمعرفة الحق والباطل؟ هل أتخذ فاصلاً من الأساليب اللغوية لتبين النص والصراحة والوضوح من اللبس

ص: 8

والاحتمال والإبهام؟ هل أراد من الواقع الواقعَ الذي له اعتبار عام، أم ذلك الذي يدركه هو من أفق ومحيط؟ هل أراد بالعقل العقلَ الإنساني، بغض النظر عما لكل فرد من ثقافة وعادات وعن الفروق الفردية والبيئية، أم أراد به الشائع المعروف كالذي يحكيه الفارابي عن المتكلمين في زمانه من أنهم كانوا يقولون: هذا يقبله العقل، هذا لا يسلم به العقل، ويقصدون بالعقل الشائع المتعارف بينهم، وبذا فهموا المنطق الصوري خطأ واستخدموه خطأ كذلك؟ ماذا قصد من الحس وأي شئ أراده بالتجارب؟ أأراد بها ما يتعلق به خاصة أم أراد تلك التي تكوِّن قواعد العلوم العامة؟

هذه أسئلة يعلق العلماء على جوابها الفصل بين بحث وبحث. فإذا كان الباحث متأثراً بشخصه في وضع (مقياس) الحقيقة سمي المقياس شخصياً. وعليه فالذي يجعل من ثقافته الخاصة، وواقعه الخاص، وعقله وعاداته الخاصة، ونظرته الخاصة في الحياة مقياساً للبحث كان مقياسه شخصياً

والباحث الذي يبعد كل هذه العوامل الشخصية في البحث عن الحقيقة يكون قد قصد إليها متجرداً، وتكون حقيقته التي وصل إليها حقيقة مجردة وعلى قدر تجرده في بحثه مما هو شخصي يكون ظهور حقيقته ناصعة، أي لم يسدل عليها أي غشاء شخصي لا دخل له في ماهيتها الذاتية

والمقياس الشخصي اعتباره بالنسبة إلى الشخص الذي وضعه فحسب؛ فلا تلزم نتائجه غيره ولا تبني عليه أحكام عامة. أما المقياس المجرد فاعتباره عام، لأن تجرده من الأثر الشخصي يبعد عنه نزاع الأفراد ويحمل كل فرد (تقريباُ) على الاعتراف به، ولهذا تكون لنتائجه وأحكامه قوة القوانين والمبادئ العامة

وقد كان الشخص نفسه في القديم معيار المعارف والعلوم، متخذاً ذاته أساساً لبحث الحقيقة والحكم على التصرفات والسلوك الإنساني بأحكام خلقية، فما تخليه حقيقة فهو حقيقة (في الواقع) وما وقع حسنه في نفسه فهو حسن (في الواقع). وأصبحت المعرفة لذلك عبارة عن حقائق شخصية، وأصبح الشيء الواحد له أكثر من حقيقة. ولم يلبث أن أصبحت هذه الطريقة مذهباً فلسفياً عرف بالمذهب الشخصي كما عرف أتباعه بالشخصيين (وهم السفسطائيون في العهد الأول)

ص: 9

ومع أن الفلاسفة الذين جاءوا بعد السفسطائيين، مثل أفلاطون وأرسطو حاولوا التدليل على أن (حقائق الأشياء ثابتة) أي غير متعددة تبعاً لتعدد الأفراد، وغير متغيرة لما بينها من مغايرة وفروق بحكم هذا التعدد، وضعوا لتعرفها قانوناً عاماً يسمى آلة العلوم ومعيار العلوم وهو المنطق الصوري؛ ومع أنهم وصوا بعدم إقحام العادات والعقائد الدينية في البحث لم تخلص معارفهم ولا أحكامهم التي كونوها عن الله، والعالم، والإنسان - وهي فلسفتهم - من التأثر بثقافتهم الخاصة، وبيئتهم الخاصة، ونظراتهم الخاصة إلى الحياة، وهي ما نلمسها في افرق بين فيلسوف وفيلسوف

اتجه التفكير بعد ذلك، وهو البحث الفلسفي، إلى الإمعان في الفصل بين المؤثرات الشخصية، والنظر إلى الأشياء على ما هي عليه في الأبحاث العلمية؛ أو بعبارة أخرى مال إلى تجريد المقياس الذي يتخذ أساساً للبحث من الخصائص الفردية. ولم يستطع العقل (الحر) أن يسير خطوة في تحقيق هذه الرغبة إلا منذ عصر النهضة؛ أي بعد أن أخذت شعوب أوربا تتحر من سلطان الكنيسة

وقد كان لموقف الإسلام تجاه الأبحاث الفلسفية منذ القرن التاسع الميلادي إلى القرن الثاني عشر أثر كبير في التشجيع على عملية الفصل هذه. فبينما كانت الكنيسة في الغرب تفرض أن تكون العقيدة الكنسية المبدأ الذي يأخذ منه البحث مجراه، كان المسلمون في الشرق، ثم في الغرب أيضاً يبحثون في فروع الفلسفة المختلفة؛ في الطبيعة والرياضة حتى في المسائل الإلهية، والأبحاث لنفسية الخلقية، في جو مملوء في عمومه بحرية البحث وأنتج من الفلاسفة المسلمين من استطاع أن ينتج. ووصلت فلسفتهم مميزة الفروع، أي لم يراع في بحثها مبدأ واحد كمبدأ العقيدة مثلاً، إلى أوربا عن طريق أسبانيا

فلما احتك العقل الأوربي الراغب في التخلص من الجولان حول نقطة واحدة، نقطة العقيدة، بالعقل الشرقي الإسلامي الذي لم يتحكم في تفكيره اتجاه خاص، ازدادت رغبته في بحث الكون من الكون نفسه، فترك العقيدة جانباً، أي ترك أهم عامل من العوامل التي تؤثر في بحث الشخص والتي تجعل مقياسه العلمي شخصياً، وعمل على تخلية نفسه من كل اعتبار آخر غير اعتبار (الحقيقة) لذاتها

وكان ديكارت أول فلاسفة عصر النهضة الذي نفذ هذه الرغبة في صورة منظمة كاملة. ثم

ص: 10

نحا كثير من الفلاسفة نحوه وهو العمل على وضع مقياس علمي مجرد عن الأثر الشخصي، مقياس ولم يكن اختلافهم الذي بدا في مذاهبهم المنسوبة إليهم اختلافاً في وجوب اعتماد المعارف الإنسانية وفي حاجة يقينيتها إلى مثل هذا المقياس، بل كان في كمية الشروط وفي كيفها التي تحقق مثل هذا المقياس المنشود

وإذن أصبحنا نرى في تاريخ الفكر البشري مقياسين للمعارف: المقياس الشخصي، والآخر غير الشخصي (المجرد)، ونرى كذلك لإنتاجه طابعين: الطابع الشخصي والطابع الذي يتعدى الفرد والشخص

والتفلسف لم يقم - منذ أن قام - إلا لإيجاد المقياس غير الشخصي، وإلا لأن يطبع أبحاث الإنسان وعلومه بطابع الاعتبار العام كي يتخذ منها أساساً واضحاً، بعيداً من النزاع الفردي، في إرشاد الإنسان نفسه وفي تمكينه من السيطرة على بيئته، وبالتالي في تقريب أفراد الجماعة الإنسانية بعضهم من بعضهم من بعض وفي تكوين ما يسمى (بالعقل الإنساني)

والفلسفة في بدئها ونهايتها، وفي قديمها وحديثها، لم تعمل لغير هذه الغاية. وما يبدو في معارف الإنسان الأولى من خيال أو وهم أساسه استخدام المقياس الشخصي في بحثها، وما يبدو في علومه لآن من عقل ومنطق أساسه التقرب بقدر ما يمكن من المقياس الثاني، والتخلي بقدر المستطاع عن العوامل الشخصية في البحث

وعلماء النفس حينما نظموا الأبحاث النفسية الحديثة، فرضوا (للجماعة) نفساً كنفس الفرد سواء بسواء، وطبقوا عليها لذلك مظاهر التطور النفسي من طفولة فمراهقة فرشد وبلوغ

وجعلوا من مميزات الطفولة (الأنانية) أو ما يسمى (بأنا) لأن الطفل في أحكامه يصدر عن (ذاته) وليس عن الواقع المجرد عن شخصه ونفسه. وجعلوا من مظاهر المراهقة الوقوف بين بين، إذ أحكامه وتصرفاته غير واضحة المصدر. ولذا نراه يعيش كثيراً في الخيال الذي لا يمت إلى الحقيقة الراهنة بصلة وثيقة. وأحياناً يساير الواقع؛ ولكنه في خياله ملك ممتع، وفي حقيقته إنسان ضعيف يكثر البكاء والملل من هذه الحياة؛ لأن القلم الذي يسطر به في صحف الخيال لا يقدر على متابعة الكتابة فوق صخرة الواقع. وجعلوا من مظاهر الرشد أو النضوج ربط التصرف بالواقع، وعدم إقحام المؤثرات الشخصية في الحكم عليه،

ص: 11

والنظر إليه (بعين الحقيقة) لا يعنيه هو

وكذلك حكموا على الجماعة فأطلقوا عليها جماعة ساذجة، أو لم تزل بعد في دور الطفولة، إذا كانت تجعل الفردية أو الشخصية أساس المعرفة؛ وحكموا عليها ببلوغ طور المراهقة إذا حاولت الفصل بين الشخصي والواقع، وببلوغ طور الرشد والنضوج إذا اتجهت في أبحاثها نحو الواقع أكثر من تأثرها بالعوامل الشخصية

وعلى هذا فالتفلسف، أو بحث الإنسان العقلي داخل الجماعة البشرية، يمثل دور الطفولة في الوقت الذي كان يسيطر فيه المذهب الشخصي ويحكى دور المراهقة في الزمن الذي بدت فيه الرغبة إلى الفصل والعمل على تنفيذ تلك الرغبة.

وفي عصرنا الحديث يدخل في دور الرشد والنضوج لأن السائد في أبحاثه مذهب الـ

هذا عرض تاريخي موجز لأساليب البحث في القديم والحديث بالنسبة للفلسفة والتفلسف، وفي أطوار نمو وتدرج الجماعة في التفكير من الوجهة البسيكلوجية.

وفي ضوء هذا نعود إلى هؤلاء الباحثين، أمثال ذلك الباحث (الأناني)، الذين تتصل أحكامهم صلة وثيقة بذواتهم، وتتكون مما لهم من ثقافة خاصة ونظرة في الحياة لنقول لهم: إن هذه الأبحاث مادام مصدرها (أنا) وغايتها (أنت) سوف يكون اعتبارها شخصياً لا تؤدي نصيباً في الإنتاج الفكري العام.

ثم إلى هؤلاء الأقلاء الذين يسلكون في أبحاثهم طريق (العقل الكلي)، عقل الإنسانية - لا ذلك العقل الجزئي - لنقول لهم أيضاً: عليكم وحدكم يتوقف توجيه أمتنا في حياتها العقلية وعليكم وحدكم يتوقف مستقبل التفكير في مصر والسير به إلى طور الرشد والنضوج!

محمد البهي

دكتوراه في الفلسفة وعلم النفس

من جامعتي برلين وهامبورغ

ص: 12

‌مزامير للنفس العربية!

للأستاذ عبد المنعم خلاف

1 -

خمائر المهد الأول

نحن الآن في قلب الجزيرة. . . في جاهليتها الأولى، الثرية بمعاني طفولة البشرية التي تملأ الحياة شعراً وتهاويل وأوهاماً. . .

نخوض في بحر من الرمال يغلي بالحرارة، ويبسط على الجلود لفحات من لظى تصيب الأجسام بقشعريرة من بَحَران الحمى التي تصهر الأجسام، وتجعلها جمرات مشبوبة المشاعر، ثائرة العناصر، حديدة المزاج، مكشوفة الرماد عن الطبع الخالص، والفطرة الصريحة. . .

ننقل الخطأ على تراب آبائنا الأولين، ونبحث فيه عن عظامهم التي غابت في التلال والرجام. . .

ونشم فيه دماءهم التي ابتلعتها الرمال المتعطشة أبدا مع ما ابتلعت من دموع الغمام. . .

ونحدق في الأضواء والظلمات إلى صورهم التي طبعت في ألواح الأثير مع ما صبته الشمس والكواكب من الأضواء والظلال. . . ونتسمع إلى أصواتهم التي فنيت في الصمت المطلق. . .

فتطالعنا من وراء الغيب أشباح لها وجوه سمراء، حادة النظرات، دقيقة الأنوف، عريضة الجباه، عليها سيما الكبرياء والاعتداد، وسهوم العزلة والتفرد. . .

يمتصون حرارة الصحراء، وينضحونها دماء حارة، وحرية حمراء. . .

ويصيدون النغم الذائب في الأجواء، ويصوغونه شعراً منثوراً ومنظوماً ببيان يقتحم الآذان، ويلقف العقول. . .

ينشدونه في هياكلهم المبنية بجدران من جبال، وأعمدة من نخيل فارعات كالمَردَة. . .

ويتغنون به في مواسم الحُب والحرب على حواف الآبار، وشواطئ بحار السراب والآل. . .

ويقيمون للبيان أسواقاً يعرضون فيها لعب الجن بأرواحهم وقلوبهم وألسنتهم، ويتركون أنفاسهم خالدة في ألفاظهم ميراثاً محفوظاً لمن يأتي بعدهم. . .

ص: 13

منثورون في صحرائهم محجوبون بها عن عيون الأمم الطامعة كأنهم جن متخفية في عالم بعيد. . .

سيوفهم شائلات كأذناب العقارب يضربون بها دفاعاً عن الحرمات، وعشقاً للحريات، وشراء للشرف والمكرمات. . .

إبلهم تهدر في صمت الصحراء بأصوات كالأمواج المحبوسة والزلازل المكتومة. . .

تسيل بها الأباطح راقصة برقابها البيض والسود ورؤوسها الصغيرة ذات العيون الساهمة. . .

يحدو لها إنسانها بأصوات صادرة من قلوب عميقة تيمها الحب والشوق الأبدي، وجرحها الفراق الدائم في سبيل الرعي والانتجاع وحب الأسفار والفرار من ثأر أو لإدراك ثأر. . .

يظعنون بها قوافل، عنق جمل في ذيل آخر، في خطوط طويلة ترتسم على الآفاق في الأماسي والأسحار والضحوات والأصائل. . . تحسبها أشباحاً ضالة تهيم في خيال شاعر. . .

حتى إذا وصلوا إلى شواطئ الحضارة في الشمال أو الشرق أخذوا حاجاتهم المحدودة من أسواقها، وتسقطوا أخبارها، ثم عادوا بجْر الحقائب بركب موسوق تعربد قلوبهم من الشوق إلى الحبائب اللواتي هن النعيم العزيز الوحيد للقلب العربي الذكي المحروم

والخيام تخفق فيها هبوات الريح على الرُّبا والتلاع، أمامها نيران موقدة تنادي بضوئها عيون الضالين الغرقى في أمواج البيد والظلمات. . .

والنيران راقصة عارية تغازلها عيون الرجال من بعيد. . .

والصبية والجواري يرقصن ويغنين بأصوات فيها أنغام محدودة مكررة. . .

وتحمل النسائم أصواتهن إلى آذان الخيل فترقص في حماسة وخيلاء. . .

ثم يفنى كل هذا في صمت الصحراء!

أمة اندمجت في الطبيعة، غابت فيها بأشخاصها، وعبدت مظاهر القوة فيها، وتسمى أفرادها بأسماء الجماد والنبات والوحش فقالوا: أسد وذئب وكلب وثعلب ونمر ويربوع وحجر وحنظل وجندب ومرة وزهرة وأنف الناقة. . .

ووضعوا قلوبهم على كل شئ فيها يتحسسون نبض الحياة، كما يعلق الفنان المستغرق

ص: 14

قيثارته على الأغصان يتسمع بها إيقاع الريح ووسوسة الحصى واصطفاق الأمواج. . .

ثم خلعوا من أوهامهم الشاردة على الحجارة صوراً وتماثيل لمسوها بأيديهم وعبدوها في غيبوبة فكر وثوران قلب وقلة علم

والكهنة والعرافون - وهم الأذكياء منهم - اختلطت في نفوسهم رُؤَى الكون المبهم، وهم محرومون من تعليل العلم وهدى النبوات؛ فصارت الحياة أمامهم رموزاً وألغازاً شردت نومهم وجعلتهم يهيمون في أرض عبقر مع الجن والخفاء والخوف وصرخات الإنسان الضائع الفريد. . .

هؤلاء هم خميرتنا التي انحدرت منها إلينا عناصر ورواسب في الدماء وخصائص في الأعصاب. . .

نزلت في موجات وأنسال وأجيال إلى الهلال الخصيب في العراق ووادي النيل وجنات الشام في أدوار يعرفها التاريخ القديم. . .

هؤلاء هم الذين دائماً تلدهم الجزيرة الولود، ثم تقذفهم على أحضان بناتها و (داياتها): العراق والشام ومصر. ليخففن عنها الحمل ويتعهدن ما تلد. . .

هؤلاء هم الذين كانوا يلقحون دائماً ضعف أوطاننا بالقوة، ومرضها بالصحة، وتعقيدها بالبساطة. . .

هؤلاء هم الذين ولدوا الفراعين من عهد (مينا) في مصر، والآشوريين والبابليين في العراق، والفينيقيين في الشام؛ وهم الذين عمروا العالم القديم. . .

هؤلاء هم الذين ولدوا إبراهيم أبا أنبياء العالم المتحضر، فأخضعوا أشرف ما في الحياة لسلطانهم الروحي المتجدد على أيدي موسى وعيسى ومحمد

هؤلاء هم الذين اكتسحوا في موجتهم الكبرى جميع فروق التي كانت أبناء ما يحيط بهم وطَوْوا الجميع في الدين الواحد واللغة الواحدة والعادات الواحدة

وهؤلاء لا يزالون يعمرون بوادي الجزيرة محتفظين بحياتهم مبعثاً لقوتنا وتخليداً لدمائنا واحتفاظاً بميراثنا وبياناً لعراقتنا في الحرية والمساواة والعزة والفطرة

فواجبنا أن نلقي ببذورنا وغراسنا الناشئة إليهم في دور من أدوار التربية والتكوين لتتصل الطبائع بينابيع القوة. . . فنجعل الحياة معهم فترة من الزمن فرضاً محتوماً على الشباب

ص: 15

من جميع أقطار الوطن العربي. . . فإن هذه الحياة الحرة القوية الصريحة الطبيعية سوف تترك خمائرها وآثارها في مقاومة الضعف والخناثة والبعد عن منطق الطبيعة وأسلوب الفطرة

وكما أن حياة البحر جزء من تكوين الإنجليزي فكذلك يجب أن تكون حياة البادية جزءاً من تكوين العربي حيثما كان. فالإنجليز يعتزون بحياة البحر وبالأخلاق المكتسبة منه كالصبر ومواجهة الصعاب والاعتداد بالنفس وحب الرحلة والكشف. . . فيجعلون الخدمة في الأسطول أمنية الأماني أمام الشباب

وكذلك يجب أن يعتز العربي بحياة البادية والخدمة في (أسطول الصحراء)؛ فإنها تترك نفس الآثار والنتائج التي تتركها خدمة البحر في النفس

إن العربي بقوامه الممشوق الذي ليس فيه ترهل وفضول، وبمجموعته العصبية القوية، وبملامحه الحادة ومنطقه السريع المحكم المبين، وبشهامته وكرمه وشجاعته وتقاليد فروسيته، وشاعريته - ثروةٌ عظيمة تغنى الناس بكثير من الأخلاق التي يفتقدونها الآن فلا يجدونها. وقد صارت له صورة رمزية شعرية في أذهان الأمم يحيد بها إطار من هذه الأخلاق

وهو إن كان في باديته معدوداً من الإنسان البُدائي فإن اختياره هذه الحياة وتجميلها بصفات ربما لا يحظى بشرفها غيره من سكان العالم المتحضر، قد جعل الأمم تنظر إليه نظرة خاصة غير النظرة التي تأخذون بها من هم في مستواه الاجتماعي والاقتصادي في البوادي والحواضر

في قلب الجزيرة الآن دولة هي معجزة من معجزات هذه الأمة التي طالما ملأت التاريخ بالمعجزات

دولة هي في سلامها وأمنها حديث صامت من أحاديث القدر يرسله في القرن العشرين درساً لمن ملأوا الدنيا قوة ودساتير وشرائع لكفالة النظام والسلام، ومع ذلك لا يزالون مطاردين من الهدم والفوضى والإجرام

دولة أقامها ووطدها رجل لا يعرف تزويق الكلام ولا مضغ الأحاديث، إنما عرف الطبيعة والفطرة واستمد من أحكام كتابهما وميراث رسولهما. . . فأقام دولة الأحلام التي زعموا أن

ص: 16

الذئب رعى فيها الأغنام. . .

دولة مجدت الطبيعة العربية وأبرزتها في إطار من فن البداوة في القرن العشرين، وجلت ميراثها القديم الذي صار من إيغاله في القدم جديداً طارفاً وبدعاً مستحدثاً. . .

وكان لابد من قيامها في نهضة العرب هذه لرد الإيمان إلى قلوبهم وبعث الحنين في نفوسهم إلى مهدهم الأول وعرشهم الأبدي. . . فهي عنوان عريض ودليل جديد على أن أصول حياتهم عريقة واشجة في مناجم الحياة ومنابت الناس. . .

فليحتفظ العرب دائماً بخمائر حياتهم ووراثات مهدهم الأول مجردة من الوثنيات والجهالات. . .

وليسبغوا على الحياة في قلب الجزيرة جواً من فن الفكر وشعر الروح. . .

وليفروا إليه فترة من الزمان ليخلعوا عن أنفسهم آثار الحياة في التعقيد والتكلف والضعف الذي يستلزمه الخوض في الطين والحرير والطرق المعبدة التي ليس فيها شوك وقتاد. . .

إنما الإسلام في الصحرا امتهد

ليجئ كل مسلم أسد!

(القاهرة)

عبد المنعم خلاف

ص: 17

‌في الاجتماع اللغوي

نشأة اللغة الإنسانية

للدكتور علي عبد الواحد وافي

اختصاص الإنسان باللغة ومراكزها

عرضنا في المقال السابق إلى أهم أنواع التعبير الإنساني، فذكرنا أنها ترجع إلى أربعة ضروب:

1 -

التعبير الطبيعي عن الانفعال بأمور مرئية، كتفتح

الأسارير وانقباضها، واحمرار الوجه واصفراره، ووقوف

شعر الرأس وارتعاد الجسم وما إلى ذلك من الظواهر المرئية

الفطرية التي تصحب مختلف الانفعالات

2 -

التعبير الطبيعي عن الانفعال بظواهر مسموعة،

كالضحك والبكاء والصراخ. وما إلى ذلك من الظواهر

الصوتية الفطرية التي تصحب حالات الفرح والألم والحزن

والسرور

3 -

التعبير الإرادي عن المعاني بأمور مرئية، كالإشارات

اليدوية والجسمية التي تستخدم مستقلة أو مع غيرها بقصد

الدلالة على المعاني والمدركات

4 -

التعبير الإرادي عن المعاني بظواهر مسموعة، وهي

الأصوات المركبة ذات المقاطع التي تتألف منها الكلمات.

ص: 18

وهذا النوع هو الذي تنصرف إليه كلمة اللغة إذا أطلقت

وسنشرح في مقال اليوم مدى مشاركة الحيوانات للإنسان في كل نوع من هذه الأنواع الأربعة

تشترك معظم فصائل الحيوان مع الإنسان في النوعين الأول والثاني من أنواع التعبيرات السابق ذكرها (التعبير الطبيعي عن الانفعالات بمظهريه المرئي والمسموع). فانفعالات الحيوان، جسميها ونفسيها: كالجوع والعطش والسرور والفرح والاطمئنان والحزن والاشمئزاز والغضب. . . وما إلى ذلك، يثير كل منها لدى المتلبس به طائفة خاصة من الحركات الفطرية غير المقصودة، وهذه الحركات بعضها بصري، أي يصل عن طريق حاسة النظر: كاتساع الحدقة وضيقها، وبسط الأذنين وخفضهما، والتكشير عن الناب، ووقوف الشعر، وانتفاخ الجسم والأوداج، والهرب والاختفاء. . . وما إلى ذلك؛ وبعضها سمعي، أي يتمثل في صوت يصل عن طريق الأذن: كرغاء الناقة وبغامها، وصهيل الفرس وقبعه عند نفوره من شئ وحمحمته عند الجوع أو الاستئناس، وشحيج البغل، ونهيق الحمار، وخوار البقر، وثغاء الغنم، وزئير الأسد، وعواء الذئب، وتضوره وتلعلعه عند الجوعه، ونباح الكلب، وضغاؤه إذا جاع، ووقوقته إذا خاف، وهريره إذا أنكر شيئاً أو كرهه، وضباح الثعلب، ومواء الهرة، وضحك القردة، وصرصرة البازي، وقعقعة الصقر، وهدير الحمام، وسجع القمري، وزقزقة العصفور، ونعيق الغراب، وفحيح الحيات وكشيشها وحفيفها عند تحرش بعضها ببعض إذا انسابت، ونقيق الضفدع. . . وهلم جراً. . .

وتشترك كذلك بعض فصائل الحيوان مع الإنسان في التعبير الإرادي البصري، وهو التعبير بالإشارة. ويبدو هذا على الأخص لدى الحيوانات التي تعيش جماعات كالنحل والنمل والقردة والبقر والغنم والوعول وما إليها - فقد ثبت أن كثيراً من هذه الفصائل وغيرها تستخدم أحياناً بعض إشارات جسمية للتعبير بشكل مقصود عن بعض شئونها. ففحل الأوعال (الأيل) يستخدم في أثناء قيادة قطيعه بعض إشارات برأسه وقرونه للوقوف فيقف جميع أفراد القطيع، وبعض إشارات للسير فيسير جميع أفراد القطيع؛ ويستحث المتخلفات بأن ينطح كلا منها نطحاً خفيفاً. ويستخدم الأذكياء من الكلاب مع أفراد فصيلتها

ص: 19

ومع الآدميين بعض إشارات بالرأس وغيره للتعبير بطريق إرادي عن أمور خاصة، كأن تمر بأظافرها على الباب ليفطن أصحابها إلى وجودها فيفتحوا لها، أو تدفع إناء طعامها برأسها للتعبير عن حاجتها إلى الغذاء. . . وهلم جرا

وتستخدم كذلك فصائل القردة، وبخاصة الفصائل العليا منها (الغوريلا والشمبانزيه والجيبون والأورانج - أوتانج)، وفصائل النحل والنمل بعض شارات من هذا القبيل. فقد كشف العلامة كوهلر عن ظواهر كثيرة من هذا النوع عند فصائل القردة العليا: منها ما يعمله الشمبنزيه حينما يريد أن يرافقه آخر في طريقه، أو يرغب أن يعطيه أحد زملائه شيئاً مما في يده، أو يطلب نداءه عن بعد: فإنه في الحالة الأولى يحتك به بخفة ويجذبه من ذراعه محدقاً فيه ومتقدماً بعض خطوات في الطريق التي يود أن يسلكاها معاً؛ وفي الحالة الثانية يمد يده إلى زميله مد الاستجداء؛ وفي الحالة الثالثة يمد يده ويقبض كفه ويبسطها كما نفعل نحن في مثل هذه المناسبة. وقرر الأساتذة فرانكلين وكيربي وسبنسر وبورميستر وهوبير ، ، ، ، أن كثيراً من طوائف النحل والنمل يستخدم أفرادها، بعضها مع البعض، إشارات مقصودة للتعبير بها عن بعض شئونها، وأن هذه الإشارات تتمثل في احتكاك بعض أعضاء المتكلم أو أطرافه أو ذؤاباته بجزء من جسم المخاطب بطريقة خاصة. قام العلامة لوبوك هذا الصدد بطائفة كبيرة من التجارب، فتبين له صدق ما ذهب إليه هؤلاء الأساتذة

وأما النوع الأخير من أنواع التعبير التي أشرنا إليها أول هذا المقال، وهو اللغة بالمعنى الكامل لهذه الكلمة، أي الأصوات المركبة ذات المقاطع التي تتألف منها الكلمات، فيظهر أن الإنسان قد اختص بها من بين سائر الفصائل الحيوانية

حقاً إن بعض طوائف الحيوان تصدر عنه أصوات شبيهة في ظاهرها بهذا النوع من التعبير، ولكن بالتأمل في هذه الأصوات، يتبين أنها عارية من خصائص اللغة في صورتها الصحيحة، وأنها ترجع إلى فصيلة أخرى من فصائل الأصوات. وسنعرض فيما يلي لأهم ما يبدو عند الحيوان من هذا القبيل، معقبين على كل مظهر منها بما يبين وجوه الفرق بينه وبين اللغة الصوتية بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة

يرجع أهم ما يلفظه الحيوان من هذه الأصوات إلى ثلاث طوائف:

ص: 20

(الطائفة الأولى) أصوات فطرية الأصل يستخدمها الحيوان قاصداً بها التعبير عن بعض شؤونه: كالحمحمة التي ترددها الفرس بشكل إرادي عند رؤية صاحبه للتعبير عن حاجته إلى العلف، والمواء الذي يلجأ إليه الهر لينبئ به عن جوعه، والنباح الذي يلفظه الكلب قاصداً به إيقاظ أهل المنزل أو إرشادهم إلى أن شخصاً أجنبياً يحوم حول البيت. . . هلم جراً

وهذه الطائفة ليست في الواقع من اللغة الصوتية في شئ وإن أشبهتها في ظاهرها ووظائفها. ذلك أنها أصوات مبهمة عارية عن المقاطع والكلمات وغير متميزة العناصر. ومن أهم خصائص الكلام، كما لايخفى، اشتماله على مقاطع وكلمات وتمييز عناصره بعضها من بعض. هذا إلى أنها في الأصل أصوات فطرية تصحب الانفعالات، وأن كل ما يعمله الحيوان حيالها في هذه الحالة أن يرددها هي نفسها بشكل إرادي للدلالة على نفس انفعالات التي تعبر عنها في شكلها الفطري أو للدلالة على أمور انفعالية قريبة منها (الجوع، العطش، الخوف. . . الخ). وأصوات هذا شأنها لا يصح عدها كلاماً؛ لأن أهم خصائص الكلام أنه أصوات موضوعة للدلالة، أنه يعبر عن معان لا عن انفعالات

(الطائفة الثانية): أصوات متنوعة تلفظها القردة في اجتماعاتها بطريقة يتبادر منها إلى الذهن أنها وسائل تعبير إرادي، وأن أفراد القردة تتجاذب بها الحديث بعضها مع البعض. وتبدو هذه الظاهرة بشكل واضح في الفضائل العليا من القردة وبخاصة (الجيبون)

وهذه الطائفة كذلك ليست في الواقع من اللغة الصوتية في شئ وإن أشبهتها في ظاهرها ومناسبات استخدامها. فقد ظهر بالبحث فيها أن بعضها تعبير طبيعي عن الانفعال، وبعضها مجرد ترديد إرادي لهذا التعبير، وبعضها من ظواهر التداعي الآلي أو العدوى الصوتية أو تقليد الحيوان بطريق فطري غير إرادي لأصوات نفسه أو أصوات غيره. - هذا إلى أنها على الرغم من تنوعها، وعلى الرغم من تشابه أعضاء النطق عند فصائل القردة بأعضاء النطق الإنسانية أصوات مبهمة بسيطة عارية عن المقاطع والكلمات وغير متميزة العناصر. ومن أهم خصائص الكلام، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، اشتماله على مقاطع وكلمات وتمييز عناصره بعضها من بعض

(الطائفة الثالثة) أصوات مركبة ذات مقاطعة تلفظها بعض الطيور كالببغاء، وما إليها من

ص: 21

الفصائل التي امتازت أعضاء صوتها بخصائص طبيعية تتيح لها إخراج هذا النوع من الأصوات.

وهذه الطائفة كذلك ليست في الواقع من اللغة الصوتية في شئ، وإن أشبهتها في الظاهر. وذلك أن الطائر لا يقصد بهذه الأصوات التعبير، فهي تصدر عنه في ثلاث حالات كلها فطرية آلية عارية بتاتاً عن هذا القصد:

الحالة الأولى: حينما يكون الطائر متلبساً بانفعال جسمي أو نفسي. وهي في هذه الحالة من نوع التعبير الطبيعي عن الانفعالات: تصدر عن غير قصد، ويثيرها بشكل آلي الانفعال المتلبس به الطائر. وإثارتها مؤسسة على الروابط الطبيعية الفطرية التي تربط أعضاء الصوت بحالات الجسم والنفس بطريقة تجعل هذه الأعضاء تتحرك وحدها بشكل آلي أو منعكس، وتلفظ أصواتاً مركبة ذات مقاطع عند وجود حالة من الحالات الجسمية أو النفسية المرتبطة بها. فهي حينئذ من قبيل الضحك والبكاء وما إليهما من مظاهر (التعبير الطبيعي السمعي) وكل ما هنالك أن التعبير الطبيعي السمعي يبدو عند الحيوانات الأخرى في صورة أصوات بسيطة مبهمة، ويبدو عند هذه الطيور أحياناً في صورة أصوات مركبة ذات مقاطع

والحالة الثانية: حينما تكون محاكاة لصوت إنساني سمعه الطائر. وهي في هذه الحالة كذلك تصدر بشكل آلي عار عن قصد التعبير بل عن قصد المحاكاة نفسها. وذلك أن هذه الفصائل مزودة بروابط طبيعية تربط جهاز سمعها بجهاز صوتها بطريقة تجعل أعضاء الجهاز الثاني تتحرك وحدها وتلفظ بشكل آلي نفس الأصوات التي يحسها الجهاز الأول. فكلما وصل الصوت إلى سمعها، في ظروف خاصة، انبعث صداه من أفواهها

(والحالة الثالثة) قد تسمع الببغاء أحياناً كلمات أو أصواتاً في مناسبة ما فتكررها كلما حدثت هذه المناسبة أو المناسبة أخرى تشبهها يتبادر منها إلى الذهن أنها تقصد بها التعبير عن أمر معين: فقد تسمع مثلاً أصحابها ينادون طفلاً باسمه فتكرر هذا الاسم كلما رأت الطفل أو رأت دميته أو متاعاً من أمتعته

وهذه الأصوات كذلك ليست من اللغة في شئ وإن التبست بها في بادئ النظر، وذلك أن الطائر لا يقصد بها، في الواقع، التعبير عن أمر ما؛ وإنما تصدر منه بشكل غير إرادي

ص: 22

على صورة التي تصدر فيها ظواهر (التداعي الآلي). فمن كثرة تكرار الكلمة أمام الطائر، بحضرة الشخص أو الشخص أو الشيء الذي تدل عليه، يرتبط صوتها بصورة مدلولها، فينبعث الصوت من الطائر بشكل آلي كلما ظهر أمامه المدلول أو ما يتصل به

هذا، ولا يمتاز الإنسان بهذا الصدد عن بقية فصائل الحيوان باللغة الصوتية فحسب، بل يمتاز عنها كذلك بطائفة من المراكز المخية التي تشرف على مختلف مظاهر هذه اللغة:(مركز إصدار الألفاظ، مركز حفظ الكلمات المسموعة. . . هلم جراً). . .

فقد ثبت أن هذه المراكز ليس لها نظير في مخ أي فصيلة حيوانية أخرى، حتى الفصائل العليا من القردة نفسها.

فالبحث في نشأة اللغة يتطلب إذن دراسة موضوعين اثنين: أولهما نشأة الكلام في الفصيلة الإنسانية؛ وثانيهما نشأة مراكز اللغة في المخ الإنساني.

وسنعرض لهذين الموضوعين في المقالات التالية إن شاء الله.

علي عبد الواحد وافي

ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون

ص: 23

‌الأمومة عند العرب

للأستاذ رفعة الحنبلي

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

هناك نوع آخر من أنواع النكاح اشتهر به العرب، كما اشتهرت بالنكاح الوقتي، أعني به: نكاح الذواق الذي كان يعقد دون شريطة ما، ويحل من نفسه إذا أراد ذلك أحد الطرفين متى لم يجد فيه اللذاذة والتنعم، ومتى فقد منه الميل والعطف

على أن هنالك بعض أنواع من النكاح كان شائعاً بين العرب في أيام الجاهلية شيوع الناكحين السابقين. جاء عن عائشة زوج النبي العربي: أن (النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها، نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها؛ ونكاح آخر كان الرجل يقول لأمرته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضِعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبداً حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة منه في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع؛ ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة، كلهم يصيبها، فإذا حملت وضعت ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها؛ تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان: تسمي من أحبت باسمه، فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع منه الرجل؛ ونكاح رابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها، وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علماً، فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن، ووضعت حملها، جمعوا لها ودعوا القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك

لم تكن تلك الأنواع من الزواج إلا عادات تأصلت في أخلاق القوم، وتمكنت من نفوسهم، فبقيت ظاهرة مدة طويلة بين العرب حتى بعد الإسلام، وبعد أن هدم صاحب الشريعة الإسلامية نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم، ذلك أن العرب لم تثنهم الأوامر الإلهية، ولا الشرائع السماوية عن هذه العادات التي ورثوها عن آبائهم الأولين، جيلاً بعد جيل، ولم تحملهم دفعة واحدة على التمسك بالزواج الشرعي

ص: 24

تبين لنا مما تقدم شيوع تعدد الأزواج ونكاح المشاركة وغيرها بين العرب، إذ لا سبيل إلى معرفة الأب بل ولا حاجة إلى معرفته أبداً، إذ لم يكن الزواج معروفاً، وإذ كان الولد يتبع أمه ويتعلق بها في جميع أموره، على أن الرجل أخذ يشعر بالميل نحو طفله، وبالعطف على ولده الذي كان هو سبب وجوده في هذا العالم، واشتد ميله إلى الاعتناء به وضمه إليه، وإلحاقه به، فنشأ عن هذه الظاهرة الجديدة، عادة تعين أباً اختيارياً للولد، معتمدين في ذلك على الظواهر خارجية وعلامات خاصة، وقد يكون تعين هذا الأب أندر في زواج المشاركة منه في تعدد الأزواج الذي كان يملك فيه بعض الأقارب - أو بالأحرى بعض الأخوة - امرأة واحدة. ففي هذه الحالة كان الأخ الأكبر أو من تنتخبه المرأة، أو من تعينه القافة، يأخذ على عاتقه تربية وليدها ويتبناه، كما أنه يعد - غالباً - أباً له، وإن لم يكن في الحقيقة أباه. ولم يأخذ العرب بهذه الظاهرة الجديدة، إلا بعد شيوع تعدد الأزواج ونكاح المشاركة، وظهور أول مبادئ الزواج الفردي في المجتمع الإنساني، إذ أنه لو كان دائماً للولد أب حقيقي أو كان يعين له والد ولو بتلك الطريقة الاختيارية، لصعب على كل باحث أن يدرك الأسباب التي دعت إلى حصر القرابة في الأم. فكثيراً ما نجد أن الولد في الجاهلية، ليس له أب حقيقي بل لم يكن أحد يتبناه وهذا ما أدى إلى شيوع الأمومة في العرب أو التمسك بقرابة الأم.

ومن الأدلة الواضحة على شيوع الأمومة عند العرب، قبل قيام نظام الأبوة عندهم، لفظة (بطن) التي تستعملها العرب حتى اليوم بمعنى العائلة أو القبيلة، ولا ريب، أن هذه الكلمة بمعناها الحقيقي تدل - في زمن مضى - على أن المرأة كانت مصدر العائلة ومحورها.

ومن آثار الأمومة أيضاً، اعتقاد العرب بانتقال الصفات الطبيعية من الرجل إلى ابن أخته، وإن لم يكن بينهما في الحقيقة صلة رحم تجمعهما، وهم إلى ذلك يؤمنون أن الولد ينشأ على غرار خاله، في أخلاقه وميوله وعاداته، دون أبيه، لأنهم وثقوا بصلة داخلية جد قوية بين الخال وابن أخته، يوم كان الولد يتبع نسب أمه وينتسب إليها؛ فكم من أمير من أمراء الجاهلية خلفه ابن أخته في زعامته، وورث عنه ألقابه وأمواله، دون أولاده؛ لذا كان العرب يفخرون بالخؤولة فخرهم بالأمومة.

وكذلك الرق، فإنه أثر من آثار الأمومة، انتقل إلى الإسلام من الجاهلية، ومن صفاته أن

ص: 25

الولد يتبع أمه، وحالته تتوقف على حالتها، وهذا ما يعرف عند العلماء بأن (الولد يتبع الرحم)، بمعنى أنه إذا كانت الأم حرة، فولدها حر، وإن تزوجت عبداً؛ وإن كانت أَمة، فولدها عبد، وإن كان زوجها حراً. وفي كلتا الحالتين، يتبع الولد أمه في حالتي الحرية والرق.

ذكر مؤرخو الأدب، أن عنترة العبسي، الشاعر الجاهلي الكبير، كانت أمه حبشية، وأبوه من سادات بني عبس؛ أنف أبوه أن يلحقه بنسبه فجعله في عداد العبيد، وكان عنترة عند أبيه منبوذاً بين عبدانه يرعى له أبله وخيله، فربأ بنفسه عن خصال العبيد، ومارس الفروسية ومهر فيها، فشب فارساً شجاعاً هماماً، وكان يكره من أبيه استعباده له وعدم إلحاقه به، حتى أغار بعض العرب على عبس واستاقوا إبلهم، ولحقتهم بنو عبس وفيهم عنترة لاستنقاذ الإبل. قال له أبوه كر، يا عنترة؛ قال: العبد لا يحسن الكر، إنما يحسن الحلاب والصر؛ قال له: كر فأنت حر، فقاتل قتالاً شديداً حتى هزم القوم واستنقذ الإبل.

لا ريب إذن في أن الأب الحر، لا يقدر أن يجعل من أبنه ولداً حراً، إذا كانت زوجة أَمة، ولو كان زواجهما شرعياً؛ والأم الحرة تستطيع أن تجعل من أبنها ولداً حراً، ولو كان زوجها عبداً رقيقاً. إن هذا التفاوت بين حقوق الأرقاء، إن هو إلا بقية من بقايا الأمومة التي نشأت عنها طبقة الأعيان عند العرب يوم كانت تؤثر نسب المرأة على نسب الرجل، في حفظ شرف أسرتها.

يقول المستشرق سميث إن العرب كانت، في عصر الجاهلية، على الزواج الخارجي واستشهد على ذلك بما قاله الذي رد هذا الزواج إلى العادة التي كانت شائعة بين العرب عن وأد الفتاة أو قتلها مما أدى إلى قلة النساء وزيادة عدد الرجال زيادة بينة، فاضطر الرجال إلى طلبهن في غير قبائلهم.

لا نكران أن بعض القبائل العربية كانت تمارس هذه العادة، وكانت تئد بناتها بعيد ظهورهن؛ قيل (كان الرجل إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحيها ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له لإبل والغنم في البادية؛ وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية - أي لها من العمر ستة أعوام - فيقول لأمها طيبيها حتى أذهب بها إلى أعمامها، وقد حفر لها بئرا في الصحراء فيبلغ بها البئر فيقول لها انظري فيه ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها

ص: 26

التراب حتى تستوي البئر بالأرض) وقيل (كانت الحامل إذا أقربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة؛ فإذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة، وإن ولدت ابناً حبسته)

وورد في أمثال العرب ما يفهم منه أنهم كانوا يرتاحون إلى وأد البنات؛ من ذلك قولهم: (تقديم الحرم من النعم)، و (دفن البنات من المكرمات). أما السبب في وأد البنات، فهو إما خوفهم من لحوق العار بهم من أجلهن أو للتخلص من مؤونة تربيتهن أو مخافة السبي والفقر والإملاق؛ بل كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله فألحقوا البنات به فهو أحق بهن. ولما ظهر صاحب الشريعة الإسلامية، النبي العربي الكريم، نهى الله عن هذه العادة وحرمها فقال:(ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق، نحن نرزقهم وإياكم، إن قتلهم كان خطئاً كبيراً).

ويقال إن العرب، قبيل الإسلام، عدلت عن هذه العادة أو كادت؛ فقد عرف صعصعة بن ناجية أنه كان يقاوم وأد البنات، ويفدى كل موءودة بناقتين وجمل؛ فلقب بمحي الموءودات وبه افتخر الفرزدق إذ يقول:

ومنا الذي منع الوائدات

فأحيا الوئيد فلم توأد

لم تكن هذه العادة من الأسباب التي دعت الرجال إلى طلب النساء في غير قبائلهم، ولم تكن أيضاً سبباً من أسباب شيوع الزواج الخارجي عند العرب كما زعم ، إن ظاهرة طبيعية غفل عنها العالمان ولم يتنبها إليها، هذه الظاهرة حرية بالتفكير والتأمل، ذلك أن إحدى المفكرات ذهبت إلى أن الإناث في المخلوقات جميعها تفوق الذكور منها عدداً، وإذا تمشينا على هذه القاعدة نجد أن عدد البنات كان ولا يزال أكثر من عدد الصبيان، فضلاً عن أن الرجل يتعرض دائماً لأخطار الحروب والأمراض أكثر مما تتعرض لها المرأة، ومهمة الرجل كانت تقوم على محاربة العدو لحفظ كيان قبيلته من الفناء، وعلى قتال وحوش الغابات والأحراش للحصول على أهم ما يحتاجه من مأكل وملبس وإذا ما سلمنا جدلاً مع هذين العالمين، أن وأد البنات كان من أسباب شيوع الزواج الخارجي، فكيف سمحا لنفسيهما أن يتجاهلا نتيجة هذا الوأد في القبائل الأخرى؟ فإن قل عدد النساء في قبيلة واحدة، وجب أن تقل في قبيلة أخرى، وهذا ما يجعل الزواج الخارجي عسيراً إن لم يكن مستحيلاً. . .

ص: 27

فليس السبب الحقيقي إذن في شيوع الزواج الخارجي بين العرب وأد البنات، بل هو شدة كراهة العرب لزواج القرابة. قال المستشرق إن من جملة الأقوال الحكيمة التي أبقاها عمرو بن كلثوم صاحب المعلقة الشهيرة وصيته لأولاده:(لا تتزوجوا في حيكم فإنه يؤدي إلى قبيح البغض) ثم أتى بمثل يشتم منه كراهة العرب للزواج داخل الحي، أي الزواج وهو: الغرائب ولا القرائب

فالعرب إذن كانت في الأزمنة الغابرة على النكاح الخارجي وإن أخذت بالزواج الداخلي حيناً من الزمن، إذا أصبح رجال القبيلة الواحدة يتزوجون من نساء قبيلتهم، وليس في قبيلة أخرى؛ إلا أن هذا الزواج لم يكن شائعاً شيوع الزواج الخارجي.

ولقد رافقت الزواج الخارجي ظاهرة جديدة أخذ العرب بها، هذه الظاهرة هي التحاق الزوج بزوجه وبالتالي بأسرتها وبقبيلتها فبقاء المرأة، بعد زواجها، في قبيلتها، وحملها زوجها على الإقامة حيث تقيم بين أهلها، تعد هذه الظاهرة صفة من صفات الأمومة، وكان من أمر هذا أن تبع الولد أمه والتحق بنسبها

فطن العرب إلى أهمية الزواج الخارجي من الناحية الوراثية، إذ يكون النسل قوياً عقلاً وجسماً، فأخذوا به، بينما أهملوا الزواج الداخلي لاعتقادهم أن الزواج من القرابة يولد الفقر في العقول، والضعف في الأجسام فنأوا عنه؛ وهذه النظرية التي أخذوا بها تطابق - ولو إلى حد ما - النظريات الوراثية الحديثة

إلا أن هذا الاعتقاد يخالف ظاهراً ما أشتهر به العرب قديماً من أنهم كانوا يفضلون نكاح بنات العم على غيرهن، لكن في الواقع، لا نجد أي تناقض في هذه المسالة. ذلك لأن كل عربي يلقب محبوبته وخطيبته ببنت عمه، وحماه بعمه، وإن لم يكن بين الطرفين وشيجة رحم أو صلة قرابة، وليس بوسع الباحث أن يرد سبب إطلاق كلمة العم على الحم، وبنت العم على محبوبته، إلا لتمسك العرب، منذ القدم، بالأمومة والزواج الخارجي الذي نتج عنهما الزواج بين أولاد الأعمام، أي أنهم كانوا يسمحون لأولاد الاخوة الذين أمهاتهم من قبائل مختلفة أن يتزوج بعضهم من بعض، لفقدان صلة القرابة بينهم باعتبار أن الأمومة تتطلب من الولد أن ينتسب إلى أمه، وأن يتبع خاله بعدها دون أبيه

فالزوج لم يكن إذاً في ذلك العهد بين أولاد الأعمام وبنات العم زواجاً فيه قرابة، بل فيه

ص: 28

بعد، في حين أن الرجل كان يحجم عن التزوج بابنة خاله لاعتقاده أن الخؤولة أكثر قرابة من العمومة، ولربما كان هذا الاعتقاد من الأسباب التي دعت إلى إطلاق كلمة بنت العم على المرأة عامة

(بيروت)

رفعة الحنبلي

ص: 29

‌النقابات الإسلامية

للأستاذ برنارد لويس

ترجمة الأستاذ عبد العزيز الدوري

أكثر الكتاب والمؤرخون في سرد الوقائع، ووصف أبهة

القصور وعظمة السلطان، وجعلوا التاريخ سلسلة حوادث

متفرقة، متباينة، وأغفلوا التيارات الاجتماعية التي كان لها

أكبر الأثر في سير التاريخ، يظهر هذا خاصة في التاريخ

الإسلامي. ثم تنبه بعض المستشرقين لذلك، وحاول أن يسد

بعض هذا النقص. ولدينا في هذه الرسالة (النقابات الإسلامية)

عرض عام لنتيجة البحوث عن أهل الصناعات والحرف في

الإسلام

وقد ترجمت هذه الرسالة لأنها تعطي القارئ العربي فكرة عن نظر بعض المستشرقين إلى بعض مظاهر الحياة الاجتماعية والاقتصادية في التاريخ الإسلامي. وقد نشرت هذه الرسالة في مجلة

، ، 1973

ولكن النص العربي يحوي إضافات ومعلومات لم تنشر هناك، وهي النتائج الأخيرة لأبحاث المؤلف عن موضوع؛ إذ تفضل بإضافتها أخيراً

(ع. د)

إن طوائف أهل الصناعات والحرف هي من أهم ظواهر الحضارة الإسلامية في القرون الوسطى.

يندر أن يجد الإنسان أثراً لما نسميه روحا مدنية (نسبة إلى مدينة)، أو تنظيماً بلدياً (نسبة

ص: 30

إلى بلدية) في البلاد الإسلامية فقد كانت المدن الإسلامية في القرون الوسطى وقتية الظهور على الأغلب، تتمتع بازدهار تجاري أو ثقافي لمدة قرن أو نحو قرن، ثم تتضاءل أو تختفي. وبهذا ندر وجود طوائف بلدية معينة، أو حدات متحضرة دائمة. إذ أن روح التكتل والتنظيم المحلى التي كان لها أهمية كبرى في أوربا في القرون الوسطى، منعت من الظهور في الحقل السياسي بتأثير الأوضاع السياسية المضطربة في البلاد الإسلامية، وسيقت تلك الروح لأن تجد لها منفذاً في الحياة الاقتصادية. وهكذا نجد في أصناف الحرف في الإسلام ما يساوي تلك الحياة المحلية القومية التي هي من أبرز مظاهر تاريخ أوربا في القرون الوسطى.

كانت النقابة مهمة في الحياة الإسلامية لدرجة أنَّ تخطيط المدينة - التي كانت تبنى على أساس سوق تجارية - كان يقرر في كثير من الأحيان حسب حاجات أصحاب الحرف. فنرى أن المدن الإسلامية من مراكش إلى جاوة ظهرت بتماثل عجيب متمركزة حول ثلاث أو أربع نقاط أساسية

فأول نقطة ثابتة هي سوق الصرافين، وهو مركز هام دائماً في النظام الاقتصادي الثنائي الأساس في العملة، كما كانت الحال في البلاد الإسلامية في القرون الوسطى

ونجد حواليه جامعي المكوس، ثم دار الضرب (إن وجدت هنالك واحدة)، ثم سوق المزايدة، ثم المحتسب وهو ملاحظ الأسواق. وهنا نجد الحمالين أيضاً

والمركز الثاني هو القيصرية - وهي بناية محكمة تخزن فيها البضائع والنفائس الأجنبية ويحتمل أن يكون الاسم بيزنطي الأصل. والمركز الثالث هو سوق العزل - حيث يأتي النساء لبيع إنتاجهن اليدوي. وهنا نرى المتعاملين بالحاجات التي يشتريها النساء كالقصابين والخبازين وبائعي الخضر الخ. . .

والمركز الرابع هو الجامعة أو المدرسة. وهي ملحقة عادة بمسجد، وفيها يكوِّن الطلبة والأساتذة نظام نقابة حقيقة.

ويشتغل أهل الحرف حول هذه المراكز الأربعة، كل صنف في سوقه الخاص. يلاحظ من هذا أن توزيع النقابات يتبع هذا النظام في المدن المختلفة حيث توجد هذه المراكز الأربعة.

دعنا الآن ننظر في منشأ هذه النقابات، وهو بحث يلاحظ فيه أنه لم يتقدم بالقدر الكافي

ص: 31

هناك رأي يقول بأن هذه النقابات هي متممة للنقابات البيزنطية التي سبقتها، إذ كانت توجد نقابات متعددة في المقاطعات البيزنطية كسوريا ومصر حتى القرن السابع الميلادي. وليس من المحتمل أنه قضى عليها من قبل الفاتحين العرب الذين كانت سياستهم كما نعلم ترك الهيئات الإدارية والاقتصادية التي خلقها البيزنطيون كما كانت عليه تقريباً. ومع ذلك لا نرى أية إشارة إلى وجود نقابات إسلامية قبل القرن العاشر الميلادي؛ أي بعد ثلاثة قرون (مع بدء الفتح)، كما أن هذه النقابات كانت من نوع يختلف تماماً عن النقابات الموجودة قبل الفتح الإسلامي. وليس لدينا إلا ملاحظات قصيرة متقطعة (عن النقابات) خلال هذه الفترة وأولها جملة في تاريخ ابن عذارى المراكشي إذ يقول عن والي أفريقية والغرب سنة 770م (155هـ):(وكان يزيد (بن حاتم) هذا حسن السيرة فقدم أفريقية وأصلحها ورتب أسواق القيروان وجعل كل صناعة في مكانها)

ومع أن الكتاب الذي يحتوي هذا النص قد كتب في القرن العاشر فلا مانع من قبول صحة هذا الخبر وهو خبر طريف في ذاته، إذ أنه يظهر أن الأمير العربي وضع العمال والأسواق في القيروان، وهي مدينة جديدة بناها العرب الفاتحون، تحت نفس الإدارة والمراقبة كما كان يفعل الحاكم البيزنطي في المدن المجاورة. ولكن يظهر لي أن استنتاج وجود نقابات عربية في القيروان من هذه العبارة، كما فعل (فون كريمر و (آتجر غير مؤيد بالبيانات الموجودة

وفي نهاية القرن التاسع الميلادي نجد عدداً لا بأس به من المصادر يشير إلى وجود شئ من نظام التكتل بين التجار وأصحاب الحرف. ولكن هذه الأصناف لم تصل بعد إلى درجة يصح اعتبارها كنموذج للأصناف الإسلامية. وإنما هي مجرد تنظيم عام وضبط للأسواق والحرف من النوع الموصوف في المصادر البيزنطية المعاصرة يمكن أن نستنتج من هذه الإشارات أن الأمراء المسلمين احتفظوا بأشكال السيطرة العامة التي كانت للإدارة البيزنطية على الحرف - على الأقل في معاملاتهم مع الصناع من غير العرب وغير المسلمين - وربما امتد ذلك حتى إلى المسلمين أنفسهم. وعلى كل حال فإننا نجد في القرن التالي تطوراً ظاهراً فيما يسمي بالأصناف الإسلامية، وحينئذ نجدها من نوع لا يصح تعليله بالتأثير أو التراث البيزنطي. وتوجد نظرية أخرى بجانب هذه النظرية يتطلب

ص: 32

فحصها الانتقال إلى موضوع قد يجهله غير المستشرقين

بدأ المستشرقون في السنوات الأخيرة يتأكدون أكثر فأكثر أن المذهب السني في العصر الأول للخلافة لم يكن أبداً مذهب الطبقات العامة، وكلما ازدادت دراسة الباحث في الأدب الإسلامي في القرون الوسطى ازداد الاتضاح من المذهب السني كان ينظر إليه في كل محل كدين طبقة مسيطرة، دين الدولة وميزة الأرستقراطية العربية الحاكمة وقد كانت هذه نظرية الفاتحين أنفسهم في الأدوار الإسلامية الأولى، ولقد كانت الأكثرية الساحقة بين رعايا الخليفة - لقرون عديدة بعد الفتح الإسلامي - غير سنية تكره المذهب السني كرمز لسطوة طبقة أجنبية حاكمة تتمتع بامتيازات خاصة

ومع ذلك كان الشعور الديني قوياً بين الطبقات العامة، وقد تجلى هذا الشعور بظهور سلسلة فرق متزندقة منشقة منذ القرن الثامن الميلادي حتى الفتح المغولي، وتتصف جميع هذه الفرق تقريباً بفلسفة خاصة تحتوي عناصر مقتبسة من فرق سبقت العصر الإسلامي كالأفلاطونية الحديثة والمانوية والمزدكية وبفلسفة اجتماعية ثورية فيها عامل المساواة بين الأفراد وبتنظيم سري يشبه النظام الماسوني، وهي عادة من أفراد من مختلف الطوائف مع درجات من التنشيئ والتهذيب، ونجد مثلاً عصرياً لنجاح هذه الفرق وفشل المذهب السني في حالة الهولنديين في الهند الصينية (إندونيسيا) والفرنسيين في أفريقيا الغربية، حيث على الرغم من قواها المتفوقة نجد البعثات المسيحية تتقدم بين السكان الوطنيين بنجاح اقل من نجاح الدعوة الإسلامية. فهنا أيضاً يرى الزنجي أو الإندنوسي أن المسيحية متصلة بحكم أجنبي، فيفضل أن يكون مسلماً من الدرجة الأولى على أن يكون مسيحياً من الدرجة الثانية

بلغت هذه الحركات الدينية أوجهها في القرنين العاشر والحادي عشر. فقد كانا مرحلتي تطور صناعي وتكتل حضري. فظهور نظام راق للبنوك مركزها بغداد، تغطي فروعها الإمبراطورية، ساعد على تجهيز الدولة بالنقود وعلى حفظ النقود بصورة عامة أساساً للاقتصاد. وقد أثر هذا على النمو الصناعي، فأنتج تمركزاً في رأس المال والعمل كما ولد النمو السريع في رأس المال حسب المنتظر مشاكل اجتماعية خطيرة. إذ نقرأ عن سلسلة اضطرابات خطيرة في بغداد، وعن ثورة الزنج في أسفل العراق في القرن التاسع، ثم عن

ص: 33

ظهور فرق دينية باستمرار. وفي هذا العصر زلزل العالم الإسلامي بحركة ثورية سياسية اقتصادية ثقافية في نفس الوقت أنتجت الخلافة الفاطمية في القاهرة. فالحركة الإسماعيلية (أو القرمطية) - ما تسمى هذه الحركة تبعاً لأسم أهم شعبها وأكثرها أهمية - تميزت بآراء حرة عجيبة. إذ وجهت دعوتها إلى مختلف الفرق الإسلامية - من سنة وشيعة - ومختلف الأديان من يهود ونصارى،، وزرادشتية على السواء باسم الحركة الثقافية والعدالة الاجتماعية، ويصعب البت في فلسفتها الحقيقة لأن مصادرنا إما سنية فتكون شديدة العداء متحيزة، أو إسماعيلية تنتمي إلى عصر متأخر عند ما طرأ على المبادئ الأولى تعديل واسع. فمثلاً نرى أن فخر الدين الرازي وصم الغزالي والشهرستاني والبغدادي بالتعصب وقلة فهمهم لأراء خصومهم. إذ روى عن حديث له عن المسعودي عن الكتب قال:(فقد ذكر المسعودي كثيراً منها إلى أن ذكر كتاب الملل والنحل للشهرستاني. فقلت: نعم، إنه كتاب حكى فيه مذاهب أهل العلم بزعمه إلا أنه غير معتمد عليه، لأنه نقل المذاهب الإسلامية من الكتاب المسمى بالفرق بين الفرق، من تصانيف الأستاذ أبي منصور البغدادي، وهذا الأستاذ كان شديد التعصب على المخالفين، فلا يكاد ينقل مذهبهم على وجه الصحيح، وقد أدرك الغزالي الخاصة الاجتماعية للمذاهب المنشقة، وقال في الكلام عن الباطنية: (فاستبان أن ما ذكروه تلبيس بعيد عن التحقيق وأن العامي المنخدع به في غاية العمى، لأنهم يلبسون على العوام) ثم قال أيضاً عنهم: (فما هولوا من خطر الخطأ مستحقر في نفسه عند المحصلين من أهل الدين، وإنما يعظم به الأمر على العوام الغافلين عن أسرار الشرع). وعند الكلام على الدعاة الباطنيين قال: (وهؤلاء الدعاة تواطئوا على هذا الاختراع ليتوصلوا به إلى استتباع العوام واستباحة أموالهم فيتوصلون به إلى آمالهم)

ومن الواضح على كل حال أن الحركة الإسماعيلية كانت مبنية على نوع من التفكير الحر تعترف بقرابة الأديان جميعاً وتنبذ الشريعة الإسلامية، وتستند إلى مبدأ من العدل والتسامح والمساواة التامة؛ وبطريقة حاذقة من التفسير تعرف بالتأويل أسندت هذه المبادئ بنصوص من القرآن والكتب الدينية الإسلامية وكذا عوملت كتب اليهود والنصارى المقدسة بنفس الطريقة. . .

وقد ذكر عبد الله الإسماعيلي في عرضه للأسس الاجتماعية للإسلام أنه (ما وجه ذلك إلا

ص: 34

أن صاحبهم حرم عليهم الطيبات وخوفهم بغائب لا ينقل وهو الإله الذي يزعمونه وأخبرهم بكون ما لا يرونه أبدأ من العبث من القبور والحساب والجنة والنار حتى استعبدهم بذلك عاجلاً، وجعلهم له في حياته ولذريته بعد وفاته خولا، واستباح بذلك أموالهم بقوله: لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى (الشورى 23) فكان أمره معهم نقداً وأمرهم معه نسيئة، وقد استعجل منهم بذل أرواحهم وأموالهم على انتظار موعود لا يكون. وهل الجنة إلا هذه الدنيا ونعيمها؟ وهل النار وعذابها إلا ما فيه أصحاب الشرائع من التعب والنصب في الصلاة والصيام والجهاد والحج).

روى هذا النص مؤلف سني توفي سنة 1037، كمثل من زيغ القرامطة وشك بعض الباحثين في صحته. لكن النص وإن كان ركيك التعبير، فأنه لا يوجد فيه غير الحط من شخصية الرسول، لا يمكن تأييده بنصوص من الكتب الإسماعيلية القديمة القليلة أو المتأخرة التي لدينا.

(يتبع)

عبد العزيز الدوري

ص: 35

‌رسالة الشعر

بين الجد والفكاهة

بيوت الشعراء

للأستاذ محمود غنيم

كسوت الناسَ خزاًّ من ثنائى

وبتُّ من البِلى أرفو كسائي

فوا لهفي على أبياتِ شعرٍ

أُشيِّدها ولكن في الهواءِ

أَأُنشئُ كلَّ يوم ألف بيتٍ

وأسكُنُ بعد ذلك بالكراء؟

فلو طاب المُقام ببيت شعر

إذن لأقمتُ في أعلى بُناء

إذن لملأت شطَّ النيل دوراً

فلم تَرَ فيه شبراً من فضاء

وآويتُ الأراملَ واليتامىَ

ولم أترك شريداً بالعَراء

ولم أُوقِعْ على السكاّن حجزاً

ولو عجز الجميع عن الأداء

إذن لملكتُ أحياَء بمصرٍ

تناطح دورُها هامَ السماء

أطوف بهنَّ داراً بعد دارٍ

فصيفي هاهنا وهنا شتائي

ولكن لا مُقامَ ببيتِ شعرٍ

يطيب، ولو بناه أبو العلاء

ألا من يشتري أبياتَ شعري

بكوخٍ شيدَ من طينٍ وماءِ؟

فليس الطينُ أكرمَ من فؤادي

وليس الماءُ أغلى من دمائي

ص: 36

‌المنبوذ

للأديب فؤاد بليبل

جَائِعٌ لفَّهُ الضَنَى بِرِدَائِهْ

أَيْنَ نَارُ الجَحِيمِ مِنْ أَحْشَائِهِْ

لَفَظَتْهُ الحَيَاةُ فَهْوَ شَرِيدٌ

يَصِلُ البُؤسَ صُبْحَهُ بِمسائِهْ

شَاحِبُ الوَجْهِ نَاحِلُ الجِسْمِ طَاوٍ

تَتَمَشَّى الأوصابُ في أعْضائِهِ

وَعَلى جِسْمِهِ بَقَايَا رِدَاء

تتبدَّى العظامُ منْ أجزائه

باهتِ اللونِ مثل بشرِتهِ شَكْ

لاً، يضُمُّ الشقاَء في أنْضائه

خِرَقٌ رَثَّهٌ عَلى جَسَدٍ با

لٍ وَقَدْ زادَ الضنى في ألتِوائه

شَبَحٌ منطوٍ على كبد حرٍّ

ى ونفسٍ قد رُوِّعَتْ بشقائه

غائرُ المقلتينِ أنهَكَهُ الجو

عُ وأذكى الاوارَ في أمعائه

فكأنَّ السقامَ ما يرتديه

وكأنَّ الشقاَء من أسمائه

وكأنَّ الجحيمَ ما هو فيه

وكأنَّ الزمانَ من أعدائه

كلّما شامَ بارقاً من رَجاء

فجعَ اليأسُ قلبَهُ برجائه

ضائِعٌ في الوُجودِ جدُّ شقّيٍ

يجمعُ البؤسَ كلَّه في كسائه

ضاربٌ في النجادِ لا جادَهُ الغي

ثُ ولا شوكها أرتوي من دمائه

ركبَ العُمْرَ لَّجْةً وَهْوَ فيها

زَوْرَقٌ نازحُ الشواطئ تائه

هشَّم الموجُ جانبيهِ وألقَى

بِشِرَاعَيْهِ في غياهبِ مائه

وَرَمَاهُ الإعصارُ في كلِّ قاعٍ

واحتَواهُ الخِضَمُّ في أنوائه

نَالَ منهُ القنوط كلَّ منالٍ

وتنحى أهلُ الوَرَى عن عزائه

هائمٌ في القفارِ لم يؤوِهِ ع

شٌ ولا ابتلَّ رملها من بكائه

يتلقى على الهجير شقياً

أينَ لفحُ الهجيرِ من بُرَحَائه

لائذٌ بالفرارِ من دهره الطا

غي وأينَ المفرُ من أرزائه

آبقٌ والشقاءُ جيشٌ لُهامٌ

زاحفٌ من أمامِهِ وورائه

كلّما هَزَّ للزمانِ قناةً

حَطْمَتْهَا الأيامُ في أحشائه

أنْكَرَ الناسُ ما يقاسي وقالوا

مجرمٌ يخدع الوري بريائه

ص: 37

وأشَاحوا عنه الوُجوهَ احتقاراً

وتواصَوا بنَبْذِهِ وازدرائه

زَعَمُوهُ عبثاً عليهم ثقيلاً

وَهُمُ المُثقلون من أعْبائه

حَمَّلوُهُ آثامَهم وأحَلُّوا

دَمَهُ لا بتئاسِهِ واجتدائه

عَذَبوهُ بالجوع ظُلْما وراحوا

يشبعونَ الذئابَ من أشلائه

طَرَدُوهُ عن أن يشاركَ حتى الك

لب في ما يَعَافُهُ من غذائه

شَرَّدُوهُ في الأرضِ من خوفهمِ مِنْ

هـ وَجَدَّتْ جُنُودُهم في اقتفائه

أيَّ شرٍ يخشونَهُ من شريدٍ

يتبارى الجميعُ في إيذائه؟!

ألهَذا الطريدِ أَنْشَأْتُمُ السج

نَ وأَعْدَدْتُمُ القنا للقائه؟!

ألهذا الضعيفِ أشرعتم الرم

حَ وَخِفْتُمْ من بطشهِ واعتدائه؟

ألهذا الفقير هَيْأتُمُ السو

طَ وحَذَّرتُمُ الورى من عطائه؟

أيُّها المفترونَ مِمّ تخافو

نَ أَمِنْ ذُله وفرط عيائه؟!

وتردِّيه في التعاسةِ والبُؤ

سِ وطولِ اكتآبه وبلائه؟!

أم هُوَ الدهر أعزَّ أولى اليُسْ

رِ وأخنى ظلماً على فقرائه!

سفَّهوا رأَيهُ وربَّ فقيرِ

تُسْتمدُّ الآراءُ من آرائه

وأَبى الأغنياء أَنْ ينصفوه

ويحَ هذا الزمان من أغنيائه!

لا تَلَومُوه إن تمرَّد أو ثا

رَ وهزَّ الوُجُودَ مِن أَرْجَائه

أَنُتُم سقتموه للإثْمِ سَوْقاً

فعذروهُ إن لجًّ في غُلَوَائه

هاجَهُ ظلْمُكْم فثارَ عليكم=وأَثَارَ الكمينَ من شحنائه

ص: 38

‌نشيد العمل

للمدارس التجارية والطبقات العاملة

للأستاذ علي الجندي

نَحْنُ أبْنَاءُ العمل في مَيادِينِ الحَيَاهْ

كلُّنا حُرٌّ بَطَلْ تُحْرِزُ التِّبْرَ يَدَاهُ يَحْمَدُ النِّيلُ خُطَاهْ

نحنُ أبناءُ العملْ

نَحْنُ للشَّعبِ عِمادْ نحنُ للنيلِ دِعامْ

نحنُ للناسِ رشادْ نحنُ لِلمالِ قِوامْ نحنُ للعَيْشِ نِظامْ

نحنُ أبناءُ العملْ

نحنُ للسعي خُلقنا كالطيورْ والذي يَسعى ينالْ

لا نُبالي ما لقينا كالصُّخور حَيَّ أحرارَ الرِّجالُ حَيَّ أبطالَ النِّضالْ

حَي أبناءَ العملْ

نحنُ رمزٌ للدَّأبْ ومِثالٌ للشَّبابْ

عصرُنا عصرُ الغلَبْ من تواني فيهِ خابْ

لا ترَى فينا الكَسِلْ لا تَرمي فينا الوَكِل

نحنُ أبناءُ العملْ

نحنُ لا نرضى الغِنَى في ظِلالِ المنْصِبِ

فالتمسنا رزقَنا منْ طريق المكسَب

وَسَعْينا جُهْدَنا واقتديْنا بالنَّبي

فَبَلَغْنَا سُؤْلَنَا وَقَهرْنا الأجْنَبي

نحنُ أبناءُ العملْ

مِصْرُ هبَّتْ من كَرَاها سَدَّدَ الله خُطاها وَرَعى عَرْشَ البِلَادْ

نَحْنُ الخطْبِ فِدَاها نحنُ نَرْمي مَنْ رَماها نحنُ فُرْسَانُ الجِهَادْ

نحنُ أبناءُ العملْ

ص: 39

‌إيَّاك أَعْني.

. .

للأستاذ محمد كامل حتة

يَا مَنْ جَهِلْتَ حَقِيقَتِي

فأَفَدْتَنِي بالجهلِ عِلْماً!

جُوزِيتَ عَنِّي مِنْ جَهُو

لٍ زَادَنِي عِلْماً وحلما!

أَنْكَرْتَنِي فَعَرَفْتُ

نَفسِي، يا لمَعْرِفَةِ النفوسْ. . .

هِيَ جَنَّةُ الرُّوح الشَّرِ

يد وَبَسْمَةُ القلب العَبُوسْ!

لَا بَلْ هي النارُ التي

يَشْقَي بها العقلُ السعيدُ!

وَيظلُّ يهفو كالفَرَا

شَةِ نَحْوَها يرجُو المزيدُ. . .

هامتْ مع الآمالِ في

وَادِي الهَوَى المسحُورِ نَفْسي

فَضَلَلْتُ عنها، وانثَنَيْ

تُ أخُبُّ في أذيالِ يَأسِي!

كم رُحْتُ أنشُدُها ب

كلِّ مِظَنَّةٍ وبكل وادِ. . .

حيرانَ أضرِبُ في فِجَا

جِ الأرضِ مُضطَّرِبَ القِيَادِ!

كم إذا شَقِيتُ بِغُرْبَتِي

في هذه الدُّنْيا الكَنُودْ. . .

فَطَفِقَتُ أندُبُ وحْدَتِي

وَزًهِدْتُ في هذا الوجودْ!

ماذا لَقِيتُ مِنَ الحيا

ةِ وَصَفْوُهَا كَدَرٌ مَرِيرْ؟

هِيَ مِحْنَةُ العقلِ البص

يرِ ونعمةُ القلبِ الغَرِيرْ!

لَوْلَاكِ - نفسي - ما شَقِ

يتُ بما أُعَانِي مِنْ قَلَقْ!

وَلَقَرَّ بين جَوَاِنحِي

قلب يَوَدُّ لَوِ أنْطَلَقْ. . .

نفسي! عَرَفْتُكَ مُنْذُ أن

كرني الجَهُولُ المُدَّعِي. . .

وَبهِ اهتديْتُ إليكِ في

هذا المُقامِ الأرفَعِ!

كَفَى مَلَامَتَهُ فمَا

هو بالمَلَامَةِ يَجْدُرُ

ما ضَرَّهَا شَمْسُ الضُّحَى

ألا يَرَاها الأجْهَرُ؟

ص: 40

‌الأدب في الأسبوع

مولده

سكن الكون وأصغى، وتعبَّأت كل القوى الأبدية لحشدها، وعبَّ التيار الإلهي الذي يموج به الكون، وسعت الملائكة بالبشرى بين خوافق السماء والأرض، وتهللتْ أجيال النبوّة بأفراح خاتمها الذي أتم الله به نعمته على الناس، وسَرَتْ في الكائنات أسرار الحياة الجديدة فاهتزت وربت واستشرفت إلى النور الخالد الذي ينبع من أفق الإنسانية العالي البعيد، ووسوست رمال الصحراء بتسبيحة المجد لله، تستقبل الأقدام التي تطؤها بالنور الذي سيمشي أولَ ما يمشي على حصبائها، ثم يمشي بأصحابه في أرجاء الأرض يحييها بعد موت، ويطهرها بعد دنَس

سكن السكون وأصغى، وسكنت نأمةُ الشياطين في مخارمها ومهاويها وآفاقها، وخشعت وساوس إبليس بالرعب والفزع، وثبتت في مساربها جائلات الجِبتِ والطاغوت، وتحيَّرت في مستقرها أباطيل الأوثان وهام الالوهة المزيفة على الناس ثم اهتز الكون كله بالفرح، فتداعت أبنية الأجيال الوثنية الباطلة، ثم أخذت تتداعى تحت الأشعة النبوية التي نشرت على الدنيا نورها بالحق والعدل والتوحيد والسلام. . .

سكن الكون وأصغى، ثم اهتز بنوره وتطهر، صلى الله عليه وسلم. والسلام عليك يا رسول الله، سلاما من كل قلب، وفي كل زمن، والحمد لله الذي أرسلك بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون

أعيادنا

أعياد الأمم هي الأيام التي تستعلن فيها خصائص الشعوب وذخائرها وخلائقها الأدبية والعقلية والنفسية والسياسية. هي الأيام المبتهجة التي تنبض بالحياة وأسبابها في الأمة، لتدل على السر الحيوي الساري في أعصاب الحياة العملية اليومية المتتابعة على نظام من الجد لا يكاد يختلف

واحتفال الشعب بأعياده أمر ضروري لإعطائه المثل الأعلى وإمداده بالروح التي تدفعه إلى مجده، أو إلى المحافظة عليه. فهو من ناحيتيه يظهر ما في الشعب من خصائصه ومحامده وعيوبه؛ ويبقى على المثل الأعلى بالتجديد والبهجة والزينة

ص: 41

فأعياد الأجانب الأوربيين مثلاً تكتشف عن قوتهم واعتدادهم بأنفسهم، وتعشقهم لجمال الحياة الدنيا إدماناً وإغراقاً، وعن جعلهم المجاملة أصلاً أخلاقياً في أنفسهم وأهليهم، وعن غرورهم واستهتارهم واستهانتهم بأكثر الفضائل الإنسانية حين تجري في دمائهم عربدة الطغيان الإنساني المتوحش الذي يرتد إلى الغرائز الحيوانية المستأثرة باللذة، المجردة من الورع والتقوى

وأعيادنا نحن تهتك الحجاب عن ضعفنا وذلتنا، واستكانتنا لما نشعر به من الضعف والذلة، وتبين عن ذهول الشعب عن نفسه وعن تاريخه، وعن مجده، وتعلقه بترهات الحياة، وقلة مبالاته بجمالها، وانصرافه عن معرفة الأحزان الخالدة في طبقاته بخلود الفقر والجهل والبلادة

فهل يزدلف إلينا ذلك اليوم الذي تتمثل فيه أعياد الشعب الإسلامي صورة السيطرة والسيادة والقوة، وتتبدى عليه أفراح الحياة الراضية المؤمنة المطمئنة، وتعود إليه الأخوة الإسلامية التي ساوت بين الناس غنيهم وفقيرهم وعالمهم وجاهلهم، وجعلتهم سواء لا فضل لأحد على أحد إلا بالخلق والتقوى؟ هل يأتي ذلك اليوم السعيد الذي يجعل أعيادنا صورة من مدنية دين الله التي تبدأ بالرحمة والحنان والتعاطف، وتنتهي بالعمل والجد والصبر والتعاون؟ يومئذ تكون السيادة العليا للمدنية المستقبلة، مدنية الحرية التي لا تشتهي أن تفجر، والعلم الذي لا ينبغي ن يكفر

التعليم

فاز الأسبوع الماضي في مجلس النواب بإثارة انتباه الناس إلى شأن التعليم وسياسته التي درجت عليها وزارة المعارف من سنين تطاولت، وقد قدمت اللجنة المالية تقريرها عن ميزانية المعارف، وتناولت في هذا التقرير سياسة التعليم وأغراضه، وعيوبه وما ترجو به له الإصلاح، وناقش المجلس بعض هذه الآراء، وعرض حضرات النواب بعض آرائهم وملاحظاتهم. ونحن - على أننا لم نحضر هذه الجلسة بل قرأنا ما اختصر مما جرى فيها - نظن أن حديث النواب كان يدل دلالة قاطعة على أن وزارة المعارف التي انقضى على قيامها بهذه المهمة ما يربو على قرن من الدهر لم تقرر فيها أصولٌ صحيحةٌ للتعليم، ولم تجر سياستها على منهج يستمر بها إلى غاية تريدها على تدبير وحياطة

ص: 42

أفلا ترى أن الوزارة لا تزال تسمع من الناس ومن النواب ومن أصحاب الرأي ما يجب عليها للتعليم الديني في مدارسها، وما ينبغي في مناهج تعليم البنات، وما تتطلَّبه أنظمة التعليم الإلزامي، وهل أدى الغرض منه إلى يوم أو لم يؤده؟ وما تفرضه الوطنية من النظر الصادق في ترقية التعليم الحر حتى يصل إلى الدرجة التي تليق به وبالأمة التي تتولى هو بعض الرعاية على بعض أبنائها، وغير ذلك من الشؤون الابتدائية في سياسة التعليم

فهذا عجيب أن تبقى وزارة المعارف إلى هذا اليوم، ولم تتقرر لها سياسة كاملة تتناول حياة الأمة العلمية والأدبية والخلقية والبدنية بأدق النظر وأحسن الرأي، فلا ينبغُ لها نابغ يسددها إلى هذه الآراء الأولية التي يفرض كل أحد أن الوزارة قد انتهت من إقرارها والسير عليها والتدبير لها بكل الوسائل التي تكفل للشعب تربية أبنائه تربية تامة كاملة مهيَّأة لتحمُّل الأعباء المثقلة التي سيحملها جيلهم من بعد هذا الجيل

وقد سارت وزارة المعارف في السنين الأخيرة على سنة لا يمكن إلا أن تفضي إلى توهين الروابط الثقافية التي تربط الشعب كله بعضه إلى بعض؛ وذلك كثرة تبديل المناهج وتغييرها عاماً بعد عام غير ضرورة ملجئة في أكثر هذا التبديل والتغيير. ولا بد أن تحزم وزارة المعارف أمرها على خطة واسعة متراحبة ترمي إلى أبعد مدى على أنم حذر، ليتسنى لها أن تمحو كل أخطاء الماضي التي لعبت فيها الأيدي الاستعمارية والسياسية بكل ما من شأنه أن يسلب الشعب قدرته على التحفز والتوثب والتجمع، وما ينشئه على الحرية العقلية والنفسية، التي ترفعه إلى درجات السامية التي يجب أن يرقى إليها كل شعب يريد أن يتحرر ويسود ويفرض مدنيته على الأرض التي يعيش عليها

وإذا أرادت وزارة المعارف ذلك الآن، فإن في همة وزيرها لذي لا يَمَلَ ولا يتأخر عن دواعي الوطن، إنفاذاً لهذه الإرادة. فوزير المعارف رجل معروف بالجد والإخلاص والمثابرة وقوة العزيمة، فلو اجتمع له كل أصحاب الرأي ممن يحب أن يساهم في شأن التعليم مساهمة الدرس والكفاح للمستقبل، لأمكنهم أن تنقذوا وزارة المعارف من البلبلة التي لا زالت تتساقط بها من ذلك العهد القديم المعروف بأغراضه في تحطيم قوى الشعب استعبادياًّ مستبداً. فنرجو أن يضمَّ وزير المعارف إلى رأيه جماعة من أصحاب التدبير السياسي للتعليم غير متقيِّد بشيء من الرسوم القديمة - وهو الرجل الحر - فإن القيود هي

ص: 43

التي جعلتنا إلى هذا اليوم نسري في ظلام دامس من الأهواء التي غلبت على شأن التعليم فيما مضى

تعليم العربية

وبهذه المناسبة أذكر أني قرأتُ في الأسبوع الماضي أيضاً كلمة عن أسباب ضعف الناشئة في اللغة العربية، وأن الكاتب ردَّ هذا إلى أسباب من المعلم والكتب وغير ذلك، وزعم أن أكثر كتُبنا لا يصلح لتعليم الناشئة لسان أمتهم. وإن يكن في هذا بعضُ الحقِّ فليس هو كلُّ الحقِّ، فان أسبابَ ضعفِ النشء في العربية ليس يُردُّ إلى المعلم والكتاب، بل مردُّه إلى المنهجِ الذي يُقيد المعلم بقيود كثيرة ترفع عنه التبعة في نتيجة التعليم، ويقيد الكتاب بمثلها، ويُعطى النشء ما لا يَصْلُح عليه لسانٌ ولا يستقيم به تعليم لغة

فلو أنت نظرت لما رأيت شعباً من شعوب الأرض المتعلمة، يفعَل بلغته ما نفعل نحنُ، من التجاهل للآثار الأدبيةِ وقلة الاحتفال بتزويد الناشئ بمادتها التي تحفظها لتكون أبداً على مدِّ الذاكرة وفي طلب اللسان. ولو أنت سألت أي مُتعلِّم من أهل الأمم الأخرى أن يُسمعك من روائع شعر أُمته ونثرها وحديث بلغائها لاحتفَلَ لك بالكثير الذي تظن مَعَه أنه إنما أعدَّ لك الجواب لعِلمه أنك قد أعددتَ له السؤال. فلو أنتَ جئت بعدَ ذلك إلى أحد المثَّقفين المكثرين المتنفخين من المتعلمين عندنا وسألته مثل ذلك لَنحا إليك بَصرَه فأتأرَ النَّظَر فابتسمَ فضَحك فستهزأ بك فولاّك ظهره فمضى يعجب من غفْلتك وحماقتك وقلّة عقلك

وإن بعضهم ليقول: ليس لنا ما لهم، أين للطالب المصري أو العربي ما يغريه بالقراءة كما يغري شكسبير وملتون وبيرون وشيللي وفلانٌ وفلانٌ من الشعراء والكتاب؟ بَلى أين؟ وإن يكن هذا كله حقاً فافترضناه كذلك، فليس يكون لنا مثل شكسبير وأصحابه إلا باستيعاب قديم كتابنا وشعرائنا، والحرص على آثار محدثيهم، فإذا كان ذلك أخرج الشّعْبُ يوماً أمثالَ هؤلاء لمن يلينا من أهل أمتنا. وإلا فإننا سائرون إلى ضعف أبداً ما دُمنا نرىَ الطالب لا يطيقُ أن يستوعبَ من شعر البحتري إلا قصيدة واحدة ومن المتنبي مثلها، ثم يكون ذلك آخر عهده وأوله بدراسة الآثار الأدبية العربية

إن الحفظ الأول للآثار الأدبية الرائعة قديمها وحديثها هو الذي يخرج الأديب والكاتب والشاعر. أنظر إلى المنفلوطي والرافعي وشوقي وحافظ والبارودي والزيات وطه حسين،

ص: 44

كل هؤلاء لم يكونوا كذلك إلاّ لأنهم نشأوا وقد حفظوا القرآن أطفالاً فحملهم ذلك على متابعة حفظ الآثار الأدبية الجليلة، ثم حفز هذا المحفوظ ما انطووا عليه من الطبيعة الأدبية التي استقرَّت في أنفسهم وأعصابهم، فلما استحكموا استحكمت لهم طريقتهم في الأدب والشعر والإنشاء، ولولا ذلك لما استطاعوا أن يكونوا اليوم إلا كما نرى من سائر من تخرجهم دور التعليم بالآلاف في كل عام ينقضي من أعوام الدراسة

مشروع

كتب الأستاذ (محمد خلف الله) كلمة جليلة الغرض تحت عنوان (مشروع) في المجلة الثقافة العد (68) الماضي، وخلاصة هذا المشروع: أن تؤلف جماعة من الباحثين يمثلون اللغة والأدب وعلم النفس والاجتماع يكون من أغراضها أن تدرس النواحي المختلفة للاجتماع المصري الحاضر وما يكون فيه من الظواهر المختلفة التي يخشى أن تدرج وتبيد ولم نستفد من الحرص عليها إن كانت نافعة، أو الاستعانة بها في درء الأمراض الاجتماعية عن الشعب فيما يستقبل إن كانت من السوء بحيث تكون كذلك

وقد عَدّ الأستاذ خلف الله بعض الأمثلة فيما يجب أن تتوجه إلى دراسته هذه الجماعة كمخارج الحروف وأصواتها في كل الأقاليم المصرية، ورد ذلك إلى أصوله الأولى التي انحدر عنها من تاريخ القبائل، وكذلك اللهجات الكثيرة في الوجه البحري والقبلي مما هو - ولاشك - نتيجة لإقامة بعض العرب في هذه الجهات، ثم دراسة الأدب الشعبي من قصيد وموال ومثل وفكاهة وسمر، ودراسة الخلق المصري؛ وعيوبه وفضائله، وما يتعاوره من الغلو والضعف ، ويكون ذلك كله إعداداً لمعرفة حقيقة هذا الشعب معرفة صحيحة، ثم نشر كل ذلك على التتابع في رسائل قد استوفت شروط المنهج العلمي للدراسة الاجتماعية واللسانية والفنية

وكلما يرحب بهذا المشروع الذي نستطيع معه أن نخدم الشعب خدمة عظيمة باستظهار ما يستسر من قوته، وما يستعلن من ضعفه، فيكون ذلك أحرى بأن يهدينا إلى إصابة الدواء الذي يحسم مادة الداء التي تلتهم أسباب رقيه سبباً بعد سبب. وهذه الدراسات المفصلة للشعوب على طبيعتها التي تتعامل بها في السوق والحقل والمصنع والمدرسة والبيت، وهي النجاة لنا من شر كبير قد أوقعنا فيه الاضطراب وقلة الخبرة. ولو علمت أن أكثر

ص: 45

الأمم المستعمرة تلجأ إلى هذا الطريق نفسه في دراسة الشعب الذي تريد أن تستبد به، ليتسنى لها أن تعمل على إضعافه وقتله بتقوية ضعفه وإضعاف قوته دون أن يشعر أو يتألم بل يحسب أنه يسير إلى غايته على تدريج طبيعي - لو علمت ذلك علمت ما نستطيع أن نستفيده من نتائج هذا المشروع الجيد إذا أُحكم تنفيذه، ولم تَغْلبْ على اختيار رجاله محاباة، ولم تتحكم في هؤلاء لرجال شهوةٌ أو هوىً

محمود محمد شاكر

ص: 46

‌رسالة الفن

تأملات في الفن

العشرة الطبية

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

منذ زمن طويل والكتاب يدعون أستوديو مصر إلى إخراج العشرة الطيبة للسينما، وقد كان رجال الأستوديو يترددون دائماً حيال هذه الأوبريت الرائعة ويشفقون من إخراجها بسبب واحد وهو أن قصة العشرة الطيبة تصور الحياة المصرية في حقبة من الزمن لا تشرف المصريين، وهي تلك الحقبة التي حكمها فيها الأتراك والمماليك معاً، والتي كان هؤلاء الحكام يعبثون فيها بحقوق الناس عبثاً شديداً سخيفاً ضعف إزاءه المصريون، واستلانوا له وجعلوا شعارهم معه قولهم:(من تزوج أمي قلت له يا عمي) وقولهم: (إن كانت لك عند الكلب حاجة فقل له يا سيدي). . .

ولقد حاولت أكثر من مرة وفي أكثر من صحيفة أن أنزع من أذهان رجال أستوديو مصر هذه الكراهية الخاطئة التي يصبونها على العشرة الطيبة لهذا السبب وحده، ولعلي ضربت لهم يوماً مثلاً برواية هنري الثامن التي مثلها شارلس لاوتون لإحدى الشركات الإنجليزية، والتي لم يتورع ذلك الممثل الإنجليزي الكبير حين مثلها أن يصور هنري الثامن الملك الإنجليزي بصورة هي أقرب الصور لما كانت عليه حقيقة هذا الملك، ولم تكن حقيقة هذا الملك مفخرة من مفاخر بريطانيا العظمى، ولا مثلاً طيباً لحكمها وملوكها، وإنما كانت حياته كما روى التاريخ وكما أظهرتها السينما حياة كلها صيد وزواج، وأكل، وطلاق، وفتك بالنساء وبالحيوان وبالتقاليد، واستخفاف بشريعة النصارى التي لا تبيح انفصال الزوج عن زوجه إلا للسبب الشنيع الواحد الذي لم يحاول هنري الثامن مطلقاً أن يجعله وسيلة إلى التخلص من نسائه لأنه كان يرى نفسه فوق التحقيق والتدقيق واستقصاء الأسباب وإبداء الأعذار. . .

ومع هذه البشاعة كلها، ومع هذه العتمة والظلمة والسواد فإن الإنجليز لم يكرهوا شارلس لاوتون، لأنه أخرج هنري الثامن على حقيقته، بل إنهم على العكس من ذلك أحبوه

ص: 47

وقدروه، وبدءوا منذ أخرج هذا الفلم يعتبرونه فنانهم الأول في هذا العصر، وهنري الثامن ذات حقيقية فعل بها شارلس لاوتون هذا كله تحت أعين الإنجليز وأسماعهم، بل إنه استعان على فعله هذا بأموالهم وبكفايات الذين ساعدوه من رجالهم. أما (العشرة الطيبة)، فليس فيها ذات حقيقية واحدة ممن يعتز بهم التاريخ المصري، أو ممن ينتسبون إليه ويخشى إن هو أظهرهم للناس أن يلصقوا به نقائصهم وعيوبهم. . . وإنما هي قصة خيالية تصور كاتبها المرحوم محمد تيمور أن حوادثها جرت في مصر، وقد كان يستطيع أن يتصورها جرت في الهند، كما كان يستطيع أن يتصورها جرت في كوكب آخر غير هذه الأرض، لولا أنه آثر أن تكون حين تنسب إلى مصر أقرب إلى نفوس المصريين، واشد إغراء لهم بالإقبال عليها والاستمتاع بها. وقد كانت (العشرة الطيبة) فعلاً من أحجار الأساس الأولى التي وضعت في بناء المسرح المصري

وقد ترامى إلينا أن أستوديو مصر بدأ يفكر في هذه الأيام في إخراج العشرة الطيبة، وأن رجاله بدءوا يتخلون عن تلك الفكرة العجيبة التي ظلوا يتشبثون بها زمناً طويلاً والتي حالت بينهم وبين إخراج (العشرة الطيبة) هذا الزمن الطويل، ولا ريب أن أستوديو مصر إذا نفذ هذه الفكرة فإنه سيفتح بها فتحاً جديداً في تاريخ أوبريت السينما في مصر، ففي هذه الرواية مجموعة من الألحان يشهد الموسيقيون المصريون جميعاً قبل النقاد وقبل الجمهور بأنها خلاصة الموسيقى التمثيلية المصرية، وأول من شهد بهذا هو المرحوم الشيخ سيد درويش الذي وضع موسيقى هذه الأوبريت. فقد سئل رحمه الله يوماً بعد أن أنشأ لنفسه فرقة خاصة أخرج فيها روايتي (البروكة) و (شهرزاد) عن أحب آثاره الفنية إليه فقال إنها العشرة الطيبة، وكان السائل يحسبه سيقول عن إحدى هاتين الروايتين اللتين أعدهما لنفسه ولفرقته واللتين لن تأخذهما منه فرقة من الفرق

وإنني لا أشك في أن سيد درويش رحمه الله كان على حق في تفضيله للعشرة الطيبة على غيرها مما لحن، فهي أصفى وأنقى من كل رواياته، ونفسه منطلقة في ألحانها كل الانطلاق لا يقيدها قيد ولا يكتفها شرط

ولعل القراء يعرفون أن موسيقى سيد درويش كانت تصيبها أحياناً آفات لم يجد سيد درويش نفسه بداً من أن يسمح لها بأن تصيب فنه، بل إنه هو الذي كان يبلو فنه بهذه

ص: 48

الآفات، لأن احترافه التلحين للفرق المختلفة هو الذي كان يجبره عليه. هذه الآفات تظهر بموازنة ألحان سيد درويش للفرق المختلفة بعضها ببعض. فألحان سيد درويش لمنيرة المهدية، غير ألحانه للريحاني، غير ألحانه (للعكاكشة. . .) وذلك يرجع إلى أن سيد دروش كان يتقمص أبطال الغناء والتمثيل حين يلحن لهم، وكان يتدفق في تلحينه لهم بروح هي أقرب إلى أرواحهم منها إلى روحه هو، وبأسلوب هو أقرب إلى أساليبهم منه إلى أسلوبه هو، وليس معنى هذا أن سيد درويش كان يفقد نفسه في هذه الألحان التي كان يعطيها غيره، وإنما معناه أنه كان يتنكر بصور مختلفة في أثناء تلحينه. . . ومن هذه الصور - صور المغنين والممثلين - ما هو خفيف جميل رائع، ومنها ما هو ثقيل سمج أقتم الظل. . . ومع الثقيل السمج الأقتم الظل لم يكن سيد درويش يستطيع أن يسبل عليه من الحسن إلا بمقدار ما تستطيع شركة السكر أن تبعث الحلاوة في ملاحة رشيد. . .

وكان سيد درويش رحمه الله يعارك الثقلاء من أبطاله، ويسبهم ويلعنهم، وكان يثور على بعضهم ويضربهم لكي يطاوعوه ويسايروه، ويحملوا أرواحهم على التأثر بروحه، وأذواقهم على التبسط في الغناء والتمثيل، وترك الشعوذة والتطريب، ولكنه لم يكن يجني من هذا كله إلا أن يحترق دمه وأن تتهدم أعصابه، ويظل الثقلاء من أصحاب الفرق وكبار المغنين. . . على ما هم عليه من فساد الذوق و (العصلجة)، فكان المسكين لا يرى بداً في بعض الأحيان من أن يعطيهم موسيقى لهم هم، وتروق الناس أيضاً، ولكنه هو كان أول من يعرف أن عنده خير منها وأروع. . .

أما حين وضع سيد درويش ألحان (العشرة الطيبة) فقد كان حراً متحرراً من كل قيد، ومن كل اعتبار خارج على إرادته

ذلك أن نجيب الريحاني كان له في ذلك الوقت فرقتان، فرقة كان يلعب بها (كشكشياته) الرشيقة وفرقة أخرى أسلمها العزيز عيد يخرج بها فناً دسماً. وكانت رواية تيمور هذه أول ما وقع عليه اختيار هذه الفرقة، وكان بديع خيري إذ ذاك لا يزال يشق طريقه إلى مجده الغني الزاهر فلما عهد إليه بوضع أزجال هذه الرواية بثها روحه كلها لم يقتصد ولم يدخر وسعاً في إجادتها والتأنق فيها، فلما تسلم سيد درويش هذه الأزجال ليلحنها حراً أعطاها هو أيضاً كل نفسه، لم يقتصد كذلك ولم يدخر وسعاً في إجادتها والتأنق فيها. ولم يزل الريحاني

ص: 49

ينفق على (بورفات) هذه الرواية الأشهر الطويلة حتى اكتمل ما أنفقه ألف جنيه، فضج وراح يزور هذه البروفات ليرى أي شئ فيها يستدعي هذا التريث كله، وهذه النفقات كلها. . . ولم تشعر به الفرقة وهو يتجسس عليها متسمعاً لأحد ألحانها، ولكنها شعرت به عندما فرغت من ذلك اللحن وهو يقول موجهاً الحديث إلى عزيز عيد:(لقد كان في عزمي أن أضع اليوم حداً لهذا الإسراف، ولكني بعد ما سمعت هذا اللحن أراني مضطراً إلى أن أترككم وشأنكم فليس هذا الذي تصنعونه بالشيء العادي)

وقد كان نجيب محقا، فالعشرة الطيبة من غير شك معجزة

وهنا قد يسألني سائل: لماذا كانت العشرة الطيبة (درويشية) أصفى من شهرزاد والمبروكة، مع أن هاتين الروايتين الأخيرتين قد وضعهما سيد درويش لنفسه ولفرقته لم يتقيد فيهما هما أيضاً بقيد، ولم يراع فيهما ذوق أحد غير ذوقه الخاص؟

وإجابة عن هذا السؤال نقول: إن سيد درويش لحن العشرة الطيبة أوائل حياته الفنية أو في أواسطها، بينما لم يلحن شهرزاد والبروكة إلا قبيل وفاته. وقد حدث أن تأثر سيد درويش بعد العشرة الطيبة بالأساليب الغربية في الإلقاء المسرحي، وقد ظهر هذا التأثر واضحاً جلياً في ألحان رواية البروكة الغربية الحوادث والأبطال، كما ظهر هذا التأثر باهتاً غير جلي في ألحان شهرزاد. وليس هذا التأثر بالروح الغربية مما يعيب هاتين الروايتين فلا يزال تقليد الغربيين في الفن الشرقي هو مقياس الفلاح، ولكنني أنا الذي أكره هذا التأثر، كما أحب أن أجد عند كل فنان مصري روحاً مصرية خالصة، هي من غير شك مهما هانت وتواضعت، لن تكون إلا أصدق من روحه إذا قلد بها الغربيين وأساليبهم.

ولكن سيد درويش كان معذوراً في التفاتاته للموسيقى الغربية وآلاتها وأدواتها وطرائقها وأساليبها، وتوزيع الأصوات فيها، فقد شاءت الظروف أن يكون هو الموسيقى المصري الذي ألقت عليه النهضة المصرية أعباء الفن ليثب به من حالة الركود والإنشاد التي سبقته إلى حالة الحياة والصخب والتدفق والتفرع والشمول التي كانت على أيام سيد، والتي يريد من جاءوا بعد سيد أن تكون على أيامهم.

فلو أن سيد درويش عاش أكثر مما عاش لكان قد استتب له تقرير ما يصلح أخذه من الأساليب الغربية في الموسيقى واصطناعه في موسيقانا، ولكان قد أدرك أنه لا يقل شيئاً

ص: 50

عن وجنر وفردي وغير هذين من أعلام الموسيقى الذين كان يتوق دائماً إلى أن يكون في صفهم، ولم يكن إلا في صفهم بمواهبه وصفاء روحه، وإن كان قد أعوزه ما لم يعوزهم من التثقيف الفني الذي لا يعدو أن يكون حساب الموسيقى وتطريزها لا الموسيقى نفسها. . .

ولنعد الآن إلى أستوديو مصر لنسأله: هل صحيح ما نشرته بعض المجلات من خبر اعتزامه إخراج العشرة الطيبة. . .

أما إذا كان هذا الخبر صحيحاً فإنه خبر يغتبط له الشرق كله لا مصر وحدها. وإن لنا صحة هذا الخبر رجاء نتجه به إلى أستوديو مصر ورجاله وهي أن يشترك عزيز عيد ونجيب الريحاني معاً في الفلم على أي نحو وعلى أي وجه، فلهما من خبرتهما وذكرياتهما - على الأقل - ما نطمئن به على أن تعود الحياة إلى العشرة الطيبة على النحو الذي أراداه لها مع صاحبها. . .

والله الموفق.

عزيز أحمد فهمي

-

ص: 51

‌القصص

الكتابة على الأرض

(مقتبسة عن أسطورة قديمة)

للكاتبة الأسوجبة سلمى لاجيرلوف

بقلم الأستاذ صديق شيبوب

كان قد صدر الحكم على المرأة الزانية، وكانت تعرف أنها سوف تعدم. . . إن الذين ألقوا القبض عليها، متلبسة بجريمتها، قادوها إلى الهيكل أمام الكهنة ورجال الشريعة، فأصدروا حكمهم عليها وفاقاً لشريعة موسى التي تقضي بإعدام الزانية رجماً بالحجارة. . .

كانت هذه الزانية هزيلة الجسم، وكانت ثيابها ممزقة وجهها دامياً من أثر الضرب الذي انهال عليها. . . وكانت لفرط ذعرها شبه ميتة، وقد ظلت ساكنة صامتة أمام قضائها. . . فلم تحاول أن تدافع عن نفسها، ولم تقاوم قبل ذلك الرجال الذين ألقوا القبض عليها وقادوها إلى الهيكل، أولئك الذين يدفعون بها الآن إلى المكان المعد لتنفيذ الحكم الصادر عليها. . .

على أنها بالرغم من مظاهر الضنك البادية عليها، كانت روحها مليئة بغضاً، ودمها يفور في عروقها غضباً. . . وكان واضحاً جلياً أنها لا تشعر بوخز ضميرها الهزيمة. . . فقد كان زوجها شديد القسوة في معاملتها، وكان يضربها ضرباً مبرحاً، ويحتم عليها أن تشتغل وتكد من غير أن يوجه إليها كلمة مؤاساة طيبة. . . لذلك لم تكن تعتقد أنها مدينة له بالأمانة والوفاء. . . وكانت نساء الحي يعرفن ما تقاسيه ويعجبن لصبرها على تحمل المضض، وطاعتها لأوامر زوجها، وأنها لا تقابل الشر بالشر. . .

وشعرت فجأة بالمصير الذي ينتظرها. . . فصرخت صرخة مدوية، وتراجعت إلى الوراء. . .

سمعت منذ نعومة أظفارها أحاديث كان الناس يتناقلونها همسا فيقولون: إنه يوجد في هيكل أورشليم مكان مخيف لا يقصده الناس إلا مرغمين؛ وكان هذا الموضع ساحة ضيقة في شكل مربع ذات أرض سوداء تحيط بها جدران عالية مشيدة بحجارة ضخمة. . . لم يكن في تلك الساحة مذبح، أو أقفاص حمام، أو مكاتب صيارف. . . لم يكن فيها غير كومة

ص: 52

كبيرة من أحجار عادية كالتي توجد في الحقول، حجارة رمادية اللون بحجم رأس الإنسان. . . ولم تكن المرأة قد رأت هذا المكان قبل ذلك، ولكها عندما نظرت من فجوة باب مرتفع، ورأت الحجارة الرمادية اللون، فهمت لساعتها أي مكان يحتويها. . .

كانت تشعر برعدة وخوف كلما سمعت الناس تحدثون عن الساحة الخالية إلا من كومة من الحجارة حيث تكفر النساء الزانيات عن جرمهن وفقاً لشريعة موسى، وقد ظهر لها هذا المكان أشد شؤماً من جهنم، وهاهي ذي تقاد اليوم إليه

ماذا ينفعها الصراخ والمقاومة؟ لقد دفعها الرجال بعنف فدخلت الباب وبعد ذلك لم يهتموا بأن تظل واقفة، فتركوها ترتمي على الأرض فجرت نفسها جرا إلى أحد أركان الساحة حيث قبعت في مكانها مذعورة مشدوهة، وعيناها لا تفارقان كومة الحجارة لأنها مصدر روعها وخوفها

على أنه بالرغم من وجلها ظل البغض والغضب يضطرمان في نفسها ويحولان دون شعورها بحقيقة جرمها. ولو أنها استطاعت الكلام لما حاولت ان تنكر فعلتها أو تستدر عطف أحد عليها. كلا، بل لصاحت في وجه متهميها بأنهم أخطئوا نحوها أكثر منها نحوهم، وأن إله إسرائيل سوف يعاقبهم إذا انتزعوا منها الحياة التي تنبض فيها

ولكنها في تلك الساعة لم تكن تستطيع التفكير إلا في كومة الحجارة القائمة أمامها، لذلك لم تدر من أين جاء الرجل الذي وقف فجأة بينها وبين تلك الكومة المشؤومة، أكان في موضعه قبل وصولها أم هو من أولئك الفضوليين الذين تبعوها إلى فناء الهيكل؟

لماذا يقف بينها وبين كومة الحجارة؟ ماذا يريد؟ أتراه الذي يبدأ بتنفيذ الحكم؟

كان الرجل مديد القامة يرتدي ثوباً أسود، ويتدثر بدثار أسود. وكان شعره ينحدر على كتفيه مضفراً غدائر متساوية، وكان وجهه جميلاً، ولكنه كان يشيع حول عينيه وفمه تجاعيد خدّدها الألم، وكانت تفكر في نفسها:(إني أعرف حق المعرفة أني لم أسيء إليك من قبل يا هذا، فلماذا تحكم على وتنالني بقضائك؟)

لم يخطر ببالها لحظة واحدة أن حضوره لهذا المكان قد يكون لإعانتها والأخذ بيدها. على أنها أحست بتغير فجائي عند ما رأته. إن وجود هذا الرجل الغريب قد خفف الضيق الذي كان يلازم صدرها وحسن تنفسها الهواء، فلم يعد هذا التنفس يشبه حشرجة الموت

ص: 53

أما الرجال الآخرون، أما أبوها وزوجها وأخوها وجيرانها الذين قادوها إلى هذا المكان والذين كانوا يتأهبون لقتلها فقد تمهلوا إلى حين دون هجومهم الوحشي عليها، وإذا ببعض الرجال من الذين قضوا النهار في الهيكل يصلون ويجادلون في كتب الدين قد دخلوا فناء الهيكل المظلم وأمر أحدهم بوقف تنفيذ الحكم.

فسمعت الزانية همساً من ورائها، وخيل لها أنها تسمع من يقول: (سوف يمتحنون هذا الرجل، إنه النبي الناصري، لنغنم هذه الفرصة السانحة ونرَهل يجرؤ على معارضة شريعة موسى!

وعندئذ تقدم من الغريب ذي الثياب السوداء اثنان من رجال الشريعة، وكانا شيخين ذوى لحية فضية، يتدثر كل واحد منهم بدثار صنعت حواشيه من الفرو، فانحنيا أمامه، وقال له أحدهما:(يا معلم، لقد قبض على هذه المرأة متلبسة بجريمة الزنا، وقد قضت شريعة موسى على أمثالها بالرجم بالحجارة، أما أنت فماذا تقول؟)

رفع الغريب الذي لقبوه بالمعلم أجفانه الثقيلة ونظر إلى محدثيه ثم أجال نظره في أب المحكوم عليها وزوجها وأخيها، والرجال الذين رافقوهم إلى الهيكل، ورجال الشريعة والفريسيين وكل خدمة الهيكل

وبعد أن طاف بنظره محدقاً في وجه كل واحد منهم انحنى على الأرض وأخذ يكتب بإصبعه عليها، كأنه لم يجد من المناسب أن يرد عليهم. على أنه عند إلحاح الشيخين اللذين تقدما إليه نهض وقال لهم:

(من لم يرتكب منكم خطيئة فليرمها بأول حجر)

فرد عليه الرجال بضحكة ساخرة، ماذا يريد من قوله هذا؟ إذا كان الأمر كذلك فلن يلقى مجرم عقابه الحق

تصاعدت من صدر المرأة أنه ضعيفة، وكانت قبل ذلك قد أحست بالرغم منها بالأمل في أن هذا الغريب سيقول كلمة تنقذها من الموت. أما الآن فقد فهمت أن كل أمل ضائع مفقود، فأحنت رأسها وقبعت في مكانها مطوية الجسم في انتظار سيل الحجارة الذي سيهوي علينا، بينما كان الرجال الذين سينفذون الحكم فيها قد أخذوا ينزعون عنهم ما يتدثرون به ويشمرون عن سواعدهم. أما الغريب فظل في مكانه وانحنى من جديد ليكتب شيئاً على

ص: 54

الأرض السوداء

كان أول من تقدم من كومة الحجارة أبو المرأة الزانية، لأنه رب الأسرة وأول من أصيب بعار جريمتها فمن حقه أن يبدأ. فانحنى ليلتقط حجراً، وفي هذه اللحظة وقع نظره على الكتابة المخطوطة على الأرض وقرأ فيها مكتوباً، لا بالحروف بل بطريقة واضحة مفهومة، قصة إثم هائل ارتكبه منذ سنوات خلت، وهو لا يزال إلى اليوم يحرص على إخفائه فتراجع الأب مذعوراً مرتاعاً عند رؤيته ذلك وجرى نحو الباب هارباً من غير أن يعني بأخذ دثاره الذي كان قد انتزعه من قبل

فأسرع ابنه ليقوم مقام والده ويغفر سلوكه الشائن، وقد ظن أن سبب هذا الهرب ضعف الشيخ وتخاذله أمام ابنته، ولكنه عندما انحنى بدوره ليلتقط حجراً ويرمي به أخته التي جلبت عليه العار وقع نظره على ما كتب على الأرض فرأى مخطوطاً، لا بحروف بل بطريقة واضحة مفهومة، قصة سرقة دنسة ارتكبها في نزق شبابه، وهي لو عرفت كان من جرائها فقدانه حقوقه كمواطن إسرائيلي

فذعر وحاول أن يمحو برجليه ما رآه مكتوباً على الأرض، ولكن الكتابة ظلت جلية تشع بلمعان لا سبيل إلى إطفائه. وعندئذ فر ممعناً في هربه مقصياً في عنف كل من حاول أن يسد عليه طريقه

تحركت المرأة الزانية من الركن الذي قبعت فيه، وكان شعرها ينحدر على جبينها فأزاحته عنه وأخذت عنه وأخذت تسوي ثيابها المهلهلة

وعندئذ تقدم زوجها، وكان قد غاظه ما رآه من سلوك أبيها وأخيها الشائن، فتأهب ليلتقط حجراً بينما كان كل جسمه يصرخ بالثأر للشرف المهان: لتقتل هذه المرأة التي ألبسته العار. يا لها من لذة يشعر بها في ثأره هذا، ولكنه بينما كان ينحني نحو الأرض خيل إليه أن بعض كلمات أو إشارات سطرت عليها أخذت تلتهب فجأة، وكانت هذه الكلمات تزيح الستار عن مؤامرة دبرت ضد الحاكم الروماني، وكان الرجل مشتركاً فيها، وهي لو فضح أمرها لكان الشنق العقاب الذي ينتظره

فانتصب واقفاً، وأوحت له خبرته بالحياة أن يتظاهر بالشفقة فغمغم كلمات معناها أنه لا يريد أن يقيم نفسه حكماً. ثم غادر المكان

ص: 55

ورأى رجلا الشريعة هذا التخاذل فاندهشا وخافا. ثم تقدما من الكومة لا ليلتقطا حجراً بل لينظرا ما خطه المعلم على الأرض بعد أن رأيا ما كان لهذه الكتابة من أثر عظيم

فرأى أحدهما سطراً أنه في أحد الأيام اغتصب جزءاً من حقل جاره إذ نقل الحد الفاصل بينهما، ورأى الثاني أنه استولى على جزء كبير من أموال قاصر كان وصياً عليها

فانحنى الرجلان عندئذ أمام المعلم متظاهرين بالشفقة والحنان وانصرفا بوقار

وبعد أن خرج الرجلان اللذان كانا بين قضائها، انتصبت الزانية على ركبتها لأن الشجاعة أخذت تعاودها. إنها لن تفهم جليّاً ما جرى، ولكنها أحست بأنها ستنجو، أو أنها قد نجت بالفعل. فشعرت بلذة الحياة تفيض على نفسها غبطة وسعادة، وتمشت في جسمها رعشة عجيبة فأحست بميل إلى الرقص

ولكن الخطر لم يكن قد زال تما لأن بعض الحاضرين تهافتوا لينفذوا فيها الحكم. على أنهم لم يلبثوا أن تراجعوا الواحد تلو الآخر بعد أن ألقوا نظرة الأرض، وكانوا، بدلاً من أن يلتقطوا الحجارة، يولون الأدبار وقد علت وجوههم صفرة الوجل وسرت في أجسامهم رعدته، ثم يمعنون في الهرب، وقد حولوا أنظارهم وخفضوا رؤوسهم

وعندما ما لم يبق في فناء الهيكل أحد انتصبت الزانية واقفة قد استعادت عيناها لمعانهما كما استردت وجنتاها الشاحبتان لونهما الوردي. . . وظلت حيناً جامدة لا تحرك ساكناً. وكان فرحها بالحياة يختلط بلذة رؤيتها أعداءها ينصرفون مذعورين ذليلين. فانتشت بحلاوة الانتقام وأحست برغبة ملحه في الرقص في هذا المكان المرذول وأمام الحجارة التي كانت ستنقض عليها فتسحقها. فاستقامت في وقفة المستعدة للرقص، وكأنما فتنها الموقف فطفقت تضحك

ونظر إليها المعلم المجهول سائلاً: (أين قضاتك؟ ألم يحكم عليك أحد؟)

فأجابته: (لم يحكم أحد يا سيد)

وبينما كانت ترد عليه كانت تقول في نفسها إنها لا تستطيع كبح جماح سرورها الذي كان يدفع بها إلى الرقص

ولكن المعلم ظل ينظر إليها

كان يرى تلك الغبطة الحيوانية الجامحة التي استولت عليها، ويلاحظ أنها لا تشعر بأي

ص: 56

ندم، وأن نفسها مليئة بالبغض عطشى إلى الانتقام وإلى إشباع الشهوات الجسدية

على أنها فهمت نه كان يرى ما بنفسها ففارقتها رغبتها في الرقص وأخذت تحس بالخوف من الرجل الذي أنقذ حياتها. كانت تراه يشع بنور سماوي فشعرت برهبة شديدة تستولي عليها. هل جاء دور هذا الرجل لمحاكمتها. سوف يكون حكمة أشد قسوة من الحكم الأول لأن من حقه أن يستنكف الخطيئة التي ارتكبها

وبينما كانت تتنازع نفسها عوامل الخوف والرهبة سمعته يقول لها:

(وأنا أيضاً لا أدينك. اذهبي بسلام ولا تأثمي بعد اليوم)

عندما انتهت إلى نفس المرأة الخاطئة هذه الكلمات الحاملة لمعاني الغفران والمحبة تمت المعجزة في قلبها. ذلك أن شرارة صغيرة هي قبس من الضياء السرمدي اشتعلت فأوقدت شعلة مضطرمة أثارت ظلام القلق والنضال اللذين كابدتهما أياماً وليالي عديدة. وكانت تود في بعض الأحيان لو تنطفئ هذه الشعلة لأنها كانت تجد أن روحها ليست جديرة بزانية مثلها. ولكن الشعلة لم تنطفئ بل خطت في قلبها كتابة لا تمحى عن بشاعة الخطيئة وجمال العدل. وقد ظلت متقدة حتى امتلأت بقدسيتها نفس تلك المرأة الضالة.

صديق شيبوب

ص: 57

‌الدَّين.

. .

عن (موباسان)

بقلم الأستاذ مراد الكرداني

خرجت لتبحث عن القوت فرجعت ومعها جائع!

زحف الظلام فلفَّ باريس كلها. وغشيتها موجة من البرد القارس. وجثمت على صدر المدينة اللاهية الضاحكة غاشية من همٍ ثقيل حبست الناس إلى دورهم، وحلَّقتهم حول مدافئهم. وقد خَلت من رُوادها المسالك والطرقات. وهجعت مدينة النور - على كُرْهها - تحت أطواء ليل بارد مظلم طويل

ولكن (فأنى) التي طوت نهارها طاوية لم تكن لتأبه لذلك البرد القاسي، فإن الجوع قد لوى أمعاءها وخمصَ بطنها، وأَشاع في نفسها الخوف من أن تتضور في غدها كما تضورت في يومها؛ فخرجت - ككل أُمسية - لترابط على رأس طريق تنتظر فيه من يمنحها الخبز الرخيص لقاءَ أن تهبه جسدها ساعة أو بعض ساعة

وفي تلك الليلة القرة كان الرجال يمرون بها مراً لا يحفلون بها، لأنها لم تكن تحسن دعوتهم، ولأن لذع البرد لن يدع في نفوسهم سوى أن يصلوا إلى مكان دفئ كنين، فلم تُلفتهم تلك الهسهسة المرتجفة التي كانت تقع من أذهانهم موقع الظِّنّة والعجب من هذه الفتاة التي تهزأ بهم وتسخر منهم في هذا الليل المثلوج!

كانت شابة جميلة تقف على قمة العشرين، تفور أنوثتها في كيانها فتنضح حسناً في وجهها وامتلاء في جسدها، وشهوة تتألق في عينها الشرهة ونظرتها الآثمة. . .

تلك (فاني) التي سطع نجمها فبهر باريس من أقصاها، إلى أقصاها، وشغلها عن كل غانية سواها، تدور الليلة يهرأها البرد ويلويها الجوع فلا تجد من يشبعها أو يأويها. حتى إذا خَدرِت قدماها من طول ما وقفت، وسرت في قديمها وفخذيها رطوبة الأرض المصقوعة همت راجعة وهي تغمغم قائلة:

- لم يعد ثمت أمل فلأرجع إلى بيتي

وكأنما شق عليها أن تنتهي غمرتها هذه النهاية المحزنة المؤلمة، لأنها حين دارت بجسمها لتأخذ طريقها دارت عينها تفحص الظلام حولها عله يتفتق عن رجل. . . فلمحت شبحاً

ص: 58

يسيراً مضطرباً متثاقلاً يتلفف في معطف بال مهلهل. . . كان بين الخطوة والخطوة يتأنى ويتمهل كأنه يستوضح الطريق أو يدبر المصير

وحين تبينته ظنته طلبتها التي إليها تهفو فرصدت سبيله، وطفقت تهمس له في صوت داعر مرتعش لفته حين ملأ سمعه. . . فاستدار لها وقصدها متوجساً منها مسرعة إليه!!

. . . لم يكن مخموراً كما حسبت، ولا كانت خاطئة كما ظن. . . إنما كان جائعاً شريداً. . . مهزولاً، ذرع المدينة الغارقة في الثلج يومين كاملين حتى عصبه الجوع وأزحفه السير والسرى

قالت له في حنو وإشفاق، وهي تسنده في لفة ذراعها وتقبله في نهزة الظلمة والسبيل خالية:

- مسكين. . . مسكين! لا تحزن. . . تعال معي فهي حجرة على أي حال وفيها دفء وقرار. . .

. . . ووصلاً معاً. . . وحين دلفا إلى الحجرة، واستشعر دفئها صاح في جذل وسرور وهو يلقي بنفسه إلى الأرض إلقاءً:

- ما أهنأني بهذا المكان. . . إنه ولا شك أفضل من الشوارع. نعم إنه أفضل من الشوارع لقد أمضيت دهراً في الشوارع وفتحت (فاني) خزانتها وَعَيْثت فيها، وكانت تحوي كل ما تملك من ملابس وطعام وشراب! إن كانت الكسر التوافه التي ضربت فيها العفونة تسمى طعاماً. . . أو إن كان القليل من النبيذ الرخيص يصلح أن يكون شراباً. . .

قدمت له كل ما عندها، بعد أن عجفت نفسها عنه، فشبع وروى جهد ما وسعها أن تشبعه وترويه. . . وحين أهجأه الطعام شرع يقص عليها قصصه وقد طامنت جوعها واطمأنا معاً. . . قال: (قضى جدي منذ زمن قصير ولم يكن لي سواء وكان مصوراً مغموراً. . . وقبيل موته أوصى بي أحد معارفه هنا، وحملني إليه رسالة مكتوبة ناشده فيها أن يعني بأمري، ويعلمني حرفة التصوير وكنت احمل - حين قدمت باريس - نيِّفاً وثلاثين فرنكاً كانت كل ما أملك من متاع الدنيا. . .

(طفقت أبحث عن الرجل فما وقعت له على أثر. إذ كان نقل مسكنه إلى حيث لا يدري أحد من جيرته فلبثت ستة أشهر أنفق مما معي إنفاق الحريص الشحيح حتى نفذت ثروتي عن

ص: 59

آخرها منذ سبع ليال! فهمت على وجهي متسولاً في الطرقات، وفي تلك الأيام التي يجمد فيها الدم وتجنُّ فيها الريح. . . آه يا سيدتي. . . عندما لقيتك لم أكن قد طمعت شيئاً منذ ثمان وأربعين ساعة!)

وكان التعب والدفء قد فعلا فيه فعلهما فلم يقوَ أن ينهض ليخلع عنه أخلاقه. فنهضت تساعده وتنضوها عنه في رقة وحرص. . . ثم احتوته في صدرها في عطف وحنو، وأخذت تقبله وتدلِّله وقد شاعت فيها الرحمة وأنساها بؤسه بؤسها. ثم تم تركه لتخلع ملابسها هي أيضاً. . . ثم صعدا إلى فراشها وكنَّتْه في حضنها كطفل عليل، وناما - ملء عيونهما - إلى ضحوة النهار

. . . . . . واستدانت ثمن غذاء رخيص في مطعم حقير، وحين جاء الليل تأذَّنَتْهُ أن تغيب عنه بعض الوقت. . . وحين عادت أفرغت بين يديه أثني عشر فرنكاً قائلة إنها كسبتها وإنها أحسن حظاً من الليالي السالفات، وإنها تدين له بهذا الحظ الوفير، ثم قبلته وتركته كَرَّة أخرى إذ كانا - لا يزالان - أول الليل. . . . . . وأوغل الليل. . . ثم انتصف. . . ثم تهوَّر ولم تعد (فاني) فقلق عليها. ولكن لم تداخلْه في خِفْيتها ريبة. . . وأسفر الصبح ولم تعد أيضاً. . . ولما علا النهار غادر الحجرة. إذ كان عليه أن يعول نفسه ويعودَ ثانياً فيطرق شوارع باريس العديمة القلب، وإن كانت ستغنيه تلك الفرنكات القليلة التي تركتها له - تلك التي لم يعرف اسمها - عن التشرد بضعة أيام!

أما هي فكان من تَعَسِها أن احتجزها رجل الشرطة، لأنها كانت تسير عبْر شارع محظور على مثلها أن تسلكه أو تظهر فيه. . . ومن ثَمَّ أعدوا لها - جزاءَ ما اجترأت - مكاناً في سجن البغايا في (سانت لازار)

ودارت عجلة الزمان خمس عشرة دورة، تحولت الحال فيها غير الحال، وتبدَّل فيها كل شئ. . . ذاقت خلالها (فاني) من صابِ الحياة وحلوها ويسرها وعسرها ما تذوقه كل طريدة مثلها. . . وهبت نفسها للائم والخطيئة. . . فعلا التيار بها وهبط ومد جزر. حتى استقر المطاف بها أخيراً فإذا هي - بعد جهد السنين - غانية باريس الأولى وزهرة مجتمعاتها وحفلاتها وكوكبها الذي إذا ظهر أخذ وبهر، وإذا غاب شغل وأسر. . .!

كذلك، وفي وثبة واحدة بلغتِ (فاني) الأوج وارتفعت إلى ذروة مالاً وجمالاً وشهرة وبُعدَ

ص: 60

صيت. وأثرتُ تلك الفتاة المعدمة الشريدة التي آوتها الطرق ليالي وأياماً وربَّتها الحادثات، والتي عانت الجوع والعرى ألواناً وأعواماً؛ وتدفق في يديها الذهب، وأقبلت عليها الدنيا، حتى سار المثل بغناها وبذخها واندفعت في نزق وجنون تنتقم من يومها لأمسها، فأسرفت في اقتناء الجياد والمركبات واستعمال الخدم والنُّدُلِ، وجُنَّت بالترف البالغ والسرف الطائش حتى طاولت بقصورها قصور السادة والأمراء، وطار ذكرها فعبر فرنسا كلها وجاوزها، فتهاوت تحت قديمها أفئدة الرجال، واحتولها السادة، وتحلَّقها الخاصة، واحترق في وَهَجِهَا الشباب النُّضرُ من كل صَوْب وفج، وذابت في لَذْعةِ السحر من عينيها الأخاذين الأموال الكريمة. والضياع الوَساعِ، واختفت في أبهاء قصورها وبُهْرَات ملاعبها ومغانيها ثروات السفهاء البُله من سادة الحكم ووزراء الحاكم وأمراء المال من كل بلد وقطر!

وظَلَّت (فاني) فترة من الزمن ملكة الجمال الفاتن والبذخ العريض، ليس في باريس وحدها ولكن في دائرة مركزها باريس ومحيطها عَبْر المحيط. . . تمسكُ أفئدة الخاصة - بل خاصة الخاصة - بخيوط جُمْعُها في يدها. فتؤوِي من تشاء وترْجي من تشاء، وتَتَحظى من تريد وقت ما تريد. وبلغ بها هَوسها أن تألهتْ فقسمت الحظوظ بين عُبَّادها وفَرَقَتْهُمْ، فمنهم شقي وسعيد!

. . . وأَوفت الفتنة في هذه (المخلوقة) وبها على الغاية حتى ذل فيها الأعِزة الشمُّ من الحافين حَولها، وحتى هلك في سبيلها من حقَّت عليه كلمتها. فقضى من أجلها من قضى، وجُنَّ فيها من جُن. . .

. . . وكأنما بَرِمتْ باريس بهذه الداهية الوافدة التي شغلتها برهة من الزمن فعالجها القدر وهي في عقدة عِزَّها، إذ توالت عليها المصائب ودهمتها الحوادث بغتة ومن غير تمهل، فأخذت تنحدر سريعاً كما ارتفعت سريعاً. . . وفعلت تلك الحياة العابثة الصاخبة فِعلها في أعصابها وكيانها. . . فأصابتها لَوثةٌ جعلت تخبط فيها على غير هدى. . . ثم ركبتها الديون. . . فاضطربت رأساً لقدم، وأخذتها العزة فلم تَقْوَ أن ترى الدائنين يجترئون عليها فيقتحمون مقاصيرها. ومخادعيها - على عينيها - ليستوفوا أموالهم بعدل ما تحوى من كنوز ثمينة وطرائف عجيبة ونفائس غالية!!. . .

وأسلمها الخبل إلى الجنون، وتضاءلت شهرتها وانفضت من حولها حاشيتها. وتقلص ظلها

ص: 61

الممدود وهو النجم الذي تضوَّأ فأفل - من وهج نوره - كل نجم سواه. . . واختِصرت الدنيا العريضة التي وسعتها، وصارت حجرة. . . حجرة بسيطة في مستشفى المجانين لا تليق أبداً بـ (فاني) العظيمة!. . .

وقرأ الفنان العظيم (فرنسيس جويرلاند) خَبَرَ ما أصاب (فاني) غانية فرنسا، فلم يلفته النبأ بَدْءَ الأمر، ولكن الصورة المنشورة أرجعت عقله - حين توضَّحها - إلى الوراء بعيداً بعيداً. . . حتى عثر في طواياه على ذكرى سحيقة. . . وذكرى تلك الليلة. . . . . . وحين عرف أن (فاني) الحسناء لم تكن سوى تلك الفتاة التي أطعمته وأدفأته وحنت عليه حنو الأم على وليدها والتي ذهبت عنه فلم يرها ولم يسمع بها، والتي جَدَّ في البحث عنها فلم يجدها حتى أيس منها، والتي كانت تصحو ذكراها في زوايا قلبه فيردِّد شكرها في أعماقه ويتمنى لو يراها. . . حين عرف كل ذلك آسفتْه هذه النهاية المفجعة لهذه الغانية الطيبة القلب. . . ثم عجب لنفسه كيف جهل أن (فاني) التي لهجت بسيرتها كل شفة وشغلت بجمالها كل إنسان لم تكن سوى فتاته التي تركت له أثني عشر فرنكاً ومضت. . .

قال يحدث نفسه بعد أن رجع من غياهب الماضي الذي غَرِق فيه:

- إنه لا يحسن أن تنهي حياة (فاني) هكذا، وفاض فؤاده نحوها بحنان غزير. واعتزم أن يعمل من أجلها عملاً ما، ومع أنه حَمِدَ للقدر أن هيأ له أن يراها ليبثها شكره وامتنانه، وليرد لها جميلها الذي لا يستطيع أن ينساه، إلا أنه حزن وأسى وود لو كانت لقياهما في ظروف أحسن من هذه

ولم يكن الفنان النابه ثرياً إنما كان يحيا حياة وسطاً قوامها ما كان يربحه من فنه كمصور، فباع كل ما يملك ليستطيع أن يجد لها مكاناً خيراً من الذي هي فيه وجواً أرجى وأنقى. وعناية أتم وأكمل حيث تراعى وتعالج ويعني بحالتها النفسية، وحيث تقوم على أمرها ممرضة تحنو عليها وترعاها. . . وهناك تحسنت صحتها تسناً ظاهراً شجعه أن يحملها إلى بيته ليخدمها بنفسه. وليدخل على قلبها لوناً من المسرة والبهجة، سيكون له - بإذن الله - أثر في تقدم صحتها، ولكن الطبيب عارضه وأنكر عليه ونصحه قائلاً:

- ستعود بها إلينا ثانياً. . . أن لهذا المرض نوبات تعاودها حيناً بعد حين. وقد قضي عليها إحدى هذه النوبات

ص: 62

فلم يرضخ لنصح الطبيب، وقال له:

- إنه لابد أن تعيش معي، إنها أشبه بأمي. . .

وفي منزله اعتنى بها وخدمها بإخلاص، وسهر عليها في حنو وصبر. وكانت الصدمة قد كهلتها فتخاذلت وابيض شعرها، ولم تستطع أن تعي حقيقة أمرها، ولا أن تعرف شيئاً عن الرجل الذي يأويها ويقوم على شأنها، ولم يشأ هو أن يذكرها بنفسه، بيل ذهب إلى أبعد مدى في نيل وإنكار الذات، إذ تركها تعتقد أنها في رعاية شاب ثري فُتن بها وأحبها لنفسها حباً حقاً خالصاً موقناً أن هذا الحلم السعيد الذي تعيش فيه مطمئنة وادعة، والذي قدَّمَ لها خيوطه الحريرية فنسجته هذا النسج البديع اللائم سيسرع بها نحو العافية. . .

. . . ولكنها عُقبى نوبة قاسية من نوبات دائها أسندت رأسها إلى صدره هانئة سعيدة وأسلمت نفسها تحت عينه وبين ذراعيه وحين أراح على فراشها جثمانها الساخن ذكر ليلة أن طعم ودفئ وبات هانئاً سعيداً ملء حضنها وبين ذراعيها وغمغم يقول:

- هل دفعت الدين يا فاني؟!. . .

مراد الكرداني

ص: 63

‌من هنا ومن هناك

أطفال ولا طفولة

(ملخصة عن (نيوز بورخ زوتنج))

لا يختلف الطفل في أمريكا الجنوبية عن الشاب البالغ إلا بأنه أقل سناً

وأقصر قامة. ولكنه لا يختلف عنه من الناحية النفسية على الإطلاق.

والطفل في كل مدينة وكل إقليم يشترك في مظاهر الحياة العامة على

اختلافها. ومن المظاهر المألوفة في (كويتو) أن يرى الطفل البالغ من

العمر ست سنوات يطوف الشوارع في ثيابه الرسمية وعلى قبعته الرقم

الذي يشير إلى وظيفته في الخدمة العامة

فإذا بلغ الطفل الثالثة من عمره أخذ أهله في تدريبه وإعداده للمزاحمة في الحياة. ويشاهد الأطفال في تلك البلاد وهم في الخامسة من أعمارهم في الأسواق العامة يبيعون السجائر والفاكهة والمجلات وأنواع الحلوى. ويرى المكاريون والسعاة من بين الأطفال الذين في الثامنة أو التاسعة من أعمارهم

والطفل في أمريكا الجنوبية في السنتين الأوليين من حياته، بعد لعبة طريفة عند والديه، يلبسانه ثياب الخز والديباج ويعرضانه في زهو وعطف على أصدقائهم. فإذا بلغ الثالثة أو الرابعة من سنه بدأ يتبع نسق الحياة الذي اتخذه والداه. فإذا كان من الطبقة الفقيرة كان عليه أن يكسب بعض النقود عند ما يبلغ الخامسة من عمره.

وقد تشاهد في منتصف الليل كثيراً من البنات اللاتي لم يتجاوزن السابعة من أعمارهن على عرض الطريق يبعن الحلوى والأزهار. وكذلك الغلمان في هذه السن وهم يحملون أوراق النصيب أو علب (الورنيش). ولا ينقطع هؤلاء الأطفال عن لشارع في الليل أو النهار، فلا تعرف في أي وقت يخرجون وفي أي وقت ينصرفون؟!

والطفل في جنوب أمريكا يعد عضواً في أسرته، يرتدي زي الكبار وله ما لهم من الحقوق. البنت الصغيرة مثلاً تتحلى بالخواتم وتلبس لأقراط وترتدي ثياب الحرير وتضع الطلاء

ص: 64

وتتعطر بالروائح الزكية. وتصفف شعرها كما تفعل أمها على حد سواء. وكذلك يتزيا الصبي بزي أبيه فيلبس القبعة الفاخرة ويرتد الملابس الطويلة ويقتني الحلي والجواهري

إن جهاد هؤلاء الأطفال في الحياة العملية ليدعو حقاً إلى الإعجاب. فقد رأيت طفلاً في العاشرة من عمره يقوم بعمل حارس الليل في سفينة على نهر (كانالمبا) في فنزويلا. حيث الملاريا والحمى الصفراء والدسنطاريا والتماسيح، لا يساعده في هذه العزلة الموحشة إلا امرأة واحدة، وهو بعد مسؤول عن صحة الركاب الذين لا يقلون عن مائة شخص، مسئول لذلك عن راحتهم؛ ويقوم بأعمال النُّدُل في بعض القطارات أطفال في العاشرة والحادية عشرة من أعمارم، ويدير مصلحة تنظيف الشوارع في مدينة (كويتو) أطفال في السابعة ويقومون بعملهم على أحسن وجه

نابليون في منزله

(عن (ذس ويك))

كان نابليون من ذوي العبقريات الحربية النادرة التي عرفها العالم، وكان من أعظم رجال السياسة والإدارة الذين عرفهم التاريخ. وقد أشرفت شخصيته الجبارة على أوربا ولما يبلغ الخامسة والثلاثين فماذا عسى أن تكون حياته المنزلية؟

كان نابليون يستيقظ من رقاده في أي ساعة من ساعات الليل، فيستحم بالماء الساخن، وكان يجلس في حوض الماء وعلى رأسه لفافة كالعمامة يتدلى طرفاها على عنقه. وكان يأمر بتدليك صدره بفرجون من الحرير في كثير من الأحيان

ويقوم خدمه بإلباسه في الوقت المعتاد. فإذا أراد أن يحفى لحيته، غمر كل شئ في وجهه بالصابون إلا منابت الشعر، ويتناول (الموسى) في تعسف، فلا يكاد يمر بها على وجهه، حتى يملأ خده الناصع بالجروح. وكثيراً ما كن يشرد لبه وهو يقوم بهذا العمل، فيترك جانباً من وجهه كما هو، وبحفي الجانب الآخر

ولم تكن أحذيته أنيقة المنظر، أو جيدة الصنع، ولكنها كانت دائماً مبطنة بالحرير. أما قبعاته، فكانت مهدمة الأركان ممزقة من بعض النواحي. إذ أن القبعات الجديدة كانت تحز في جبهته وتجلب إلى رأسه الصداع. ولم يكن نابليون يلبس الحلي أياً كان نوعها، ولم يكن

ص: 65

يحمل كيساً للنقود ويضع في جيوبه شيئاً منها.

وكان يحب من الذين يقومون بخدمته أن يجيبوه أجوبة سريعة حازمة، وإن كان قل أن يصغي إلى ما يقولون. فإذا كان معتدل المزاج فلا بأس من أن يفرك لأحدهم أذناً أو يصفعه مداعباً على خده. وكان نابليون سريع الغضب في أكثر الأحيان، وكثيراً ما كانت تعتريه نوبات نفسية عنيفة تطغى على أخلاقه، ولكنه كان سريعاً إلى الهدوء سريعاً إلى الصفح

وكانت تصيبه نوبات عنيفة من سوء الهضم لعدم عنايته بمضغ الطعام، فيستلقي على الأرض وتأخذ زوجته برأسه فتضعه على صدرها وتدلك بيديها على جبهته وصدره، وكان يكره تناول العقاقير على اختلاف أنواعها

ومن عادته أن يلعب الورق مع زوجه وأصدقائه عقب الغداء، إذا لم يكن مصاباً بعسر الهضم

وكان يقرأ الكتاب؛ فإذا لم يعجبه ما فيه ألقى به إلى النار. فإذا رأي أحداً من أصدقائه يقرأ في كتاب لا يوافقه أخذه من يده ودفع به إلى النار

وكان نابليون سريع التأثر بالبرد حتى إنه ليأمر بتدفئة فراشه بالطرق الصناعية في جميع فصول السنة. وكان مصاباً بعادة قرض الأظافر. ومن المعروف عنه كان يغار على زوجه إلى درجة تشبه الجنون إلا أنه كثيراً ما كان يخضع لها ويسألها العفو وإن كان الخطأ في جانبها. هذه صورة مصغرة لحياة الرجل الذي هزم إيطاليا وهو في السادسة والعشرين، وفتح مصر في الثامنة والعشرين وكان دكتاتوراً لفرنسا في الثلاثين وسيداً الأوربا في الثانية والثلاثين من عمره: نابليون بونابرت

ص: 66

‌البَريدُ الأدَبي

هذا أديب

كان عندنا في مصر أديب فلسطيني راجح العقل، وافر الذوق، أسمه، سمه خليل سكاكيني؛ وكانت بيني وبينه مطارحات تصل أحياناً إلى الصيال، ولكنه لم يكن يعرف الحقد ولا الضغن

فكان يتلقى هجومي عليه بالصفح الجميل، ثم يحمله الكرم على المبالغة في الرعاية لما كان بيننا من صداقة وإخاء

ولا أذكر بالضبط متى انتقل من القاهرة إلى القُدس، فقد شغلتني عنه أيامي، ولم يبق لي منه إلا هدايا أدبية من كتبه النفيسة يرسلها إليّ من إلى حين بدون أن يتلقى مني كلمة ثناء، إلا أكون وُفقت إلى الكلام عن بعض مؤلفاته أعوام كنت أحرر الصفحة الأدبية بجريدة البلاغ، وأنا رجلٌ يعاوده الوفاء في بعض الأحايين!

تلقيت يوماً رسالة مطبوعة من الأستاذ خليل السكاكيني، فنظرت فيها فرأيتها مجموعة من خطابات الأشواق كتبها إلى ابنه سرِيّ وكان اغترب لطلب العلم في أمريكا

فماذا رأيت؟

لم أجدها رسائل أب إلى ابنه، وإنما وجدتها رسائل عشق إلى معشوق!

رأيت رجلاً يقول لابنه إنه تذكر وجهه الأصبح وهو في مثل ضوء الشَّفَق وقد صِيغَ مثالاً للجمال الشائق الفنان. رأيت رجلاً يقول لأبنه إنه يتذكر طُرْفة الجميلة المصفوفة على أروع ما تكون الغدائر التي تفتن العيون فيهتاجه التذكر والاشتياق

رأيت رجلاً يتغزل في ابنه بعبارات صريحة فقلت: هذا أديب يطبع الحب الأبويّ بطابع الوجدان

وفي هذا المساء - وقد رجعت من سفر لا يخلو من عناء - وجدت رسالة مطبوعة من الأستاذ خليل السكاكيني وعليها صورة امرأة جميلة فقلت: لعلها معشوقة يتحدث عنها هذا الأديب، وهل عرفت الدنيا أديباً خلا قلبه من العشق؟

ومن هذه المعشوقة الغالية؟

هي حليلة السكاكيني، هي أُمُّ سَرِي التي خُلِّدت في أشعار الأستاذ معروف الرصافي وأقبلت

ص: 67

على الرسالة فقرأتها في دقائق مع أنها تبلغ الثمانين من الصفحات

فماذا رأيت؟

رأيت رجلاً يكرم زوجته فيصف جمالها الفتان بعبارات صريحة فقلت: هذا أديب يضيف ثروة جديدة إلى اللغة العربية، لأن الحلائل في لغتنا لم يُبكين إلا قليلاً، وهنَّ أجدر مِن المعشوقات بالبكاء

ورأيت رجلاً يعتز بنفسه فيصرح بأن جمال امرأته كان يحتاج إلى فتى في مثل رجولته، فقلت: هذا أديب فيه سمة من فتيان قريش

ورأيت رجلاً يبلغ به الحزن على زوجته الغالية إلى التفوه بعبارات هي أفظع ما يكون من الكفر الموبِق، فقلت: هذا أديب يغلبه الحزن فيخلع قناع التأدب مع الشرائع

والأديب الحق يستبيح في عتاب الأقدار ما لا يباح

والأدباء كأهل بدر تغفر لهم جميع الذنوب، وستعرفون صدق ما أقول يوم نلتقي في حضرة الواحد الديان، إن كان من الممكن أن يكون لأعداء الأدب مَعاد، وإن جاز أن يُنصب لأعداء الأدب موازين يوم يقوم الحساب، وهم في شِرعة العقل من المهملات وسوف تعلمون مصايركم يا أعداء الأدب الرفيع!

السكاكيني مبتكر في بكاء حليلته لأنه أديب حق، وقد كفر من أجلها كفراً هو صورة من الإيمان الصحيح. وبعض الكفر إيمان، ولكن أكثر الناس لا يفقهون!

والسكاكيني يعجب من أن ينكر الناس البكاء، ويقول إن مقاومة البكاء إفساد للفطرة، ويدعو المحزونين إلى تنفيس كروبهم بالنوح والأنين كما كان يصنع القدماء

قال السكاكيني في بكاء زوجته كل شئٍ، والمفارق يقول ما يشاء وما أصيب الفراق!

يلطف الله بك ياخليل، ويلطف بأبنائك المفجوعين بفراق أمهم الغالية!!

وكيف خطرتُ في بالك، ياصديقي، بعد فراق الأعوام الطوال؟ أتريد أن آسى لأساك، وأشجى لشجاك؟

إن كان ذلك ما أردتَ فقد حزنتُ لحزنك حتى خفتُ أن أصبح عاشقاً لذلك الحسن المكنون الذي أمسى في وديعة التراب أتريد أن أعرف أنك كنت زوجاً لامرأة جميلة كان يقتتل في سبيلها الخاطبون؟

ص: 68

هو ذلك، وإلا فكيف قدمتَ لنا صورها الجذابة في عهودها المختلفات؟!

أسمع، يا خليل، أسمع ثم أسمع

أنت رفعت المرأة درجات، حين جعلتها أهلاً للتفجع والتوجع والأنين

وفي النساء أمهاتنا وأخواتنا وبناتنا وزوجاتنا، وهنّ جميعاً أهلٌ للعطف والحب. والحمد لله الذي أعزها بوقوفك على قبرها ولم يذلها بوقوفها على قبرك، على حدّ التعبير الجميل الذي قرأته منذ أعوام بمجلة المرحوم سليم سركيس. . . وسلامٌ عليك من الصديق الحافظ للعهد:

زكي مبارك

حول الأمومة عند العرب

اطلعت على الجزء الأول من مقالة الأستاذ رفعة الحنبلي (الأمومة عند العرب) المنشور في العدد (354) فاستوقف نظري قول الكاتب نقلاً عن أحد المؤرخين اليونانيين القدماء وهو (سترابون) إن العرب في الجاهلية لم يكونوا يعرفون الزواج الشرعي الدائم، وإنه يفشو بينهم تعدد الأزواج، وإنهم كانوا يتصلون بأمهاتهم

وجواباً على المسألة الأولى أقول: إن الزعم بأن العرب في الجاهلية لم يكونوا يعرفون الزواج الشرعي الدائم هو زعم غير صحيح

فقد روى البخاري في صحيحه وأبو داود في السنن عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: كان النكاح في الجاهلية على أربعة أنحاء (أنواع) نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها، ثم ينكحها: ثم ذكرت الأنواع الثلاثة تتمة الأربعة وفيها تعدد من يتصلون بالمرأة؛ إلى أن قالت: فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح لجاهلية كله إلا نكاح اليوم. التاج ج 2ص 368

ويعلم المطلعون في التاريخ الأمة العربية أن الشعوبية - من أعداء الغرب وشانئيهم - هم أول من عمد إلى الطعن في أنساب العرب ووضعوا أخباراً ولفقوا كتباً في مثالبهم وتحقير شأنهم، ومن أشهر هؤلاء الشعوبية الهيثم بن عدي، وكان دعياً، فألف كتاباً في مثالب العرب أراد به أن يعرّ أهل الشرف تشفياً منهم. قال الألوسي: (ثم نشأ غيلان الشعوبي الوراق - كان زنديقاً ثنوياً - فعمل لطاهر بن الحسين كتاباً خارجاً عن الإسلام بدأ فيه

ص: 69

بمثالب بني هاشم، وذكر مناكحهم وأمهاتهم، ثم بطون قريش، ثم سائر العرب؛ ونسب إليهم كل زور ووضع عليهم كل إفك وبهتان) ص 160 ج 1

وقال في ص 173ج 1: (إن جميع ما ذكره الشعوبية في شأن مناكح العرب وما أوردوه من باب الطعن في أنسابهم بما كانوا يتعاطونه في الغارات من سبي للنساء واسترقاقهم ووطئهم من غير استبراء من طمث ونحو ذلك لا أصل له. وكتب التواريخ صارخة بتبرئتهم مما رماهم به خصومهم وأعداؤهم، وقد نطق الشعر الجاهلي بما كانوا عليه من الحمية والغيرة ومزيد الاعتناء بأنسابهم وحفظ حريمهم والذب عن أحسابهم وعشائرهم)

وجواباً على المسألة الثانية أقول: ليس صحيحاً أن العرب في الجاهلية كانوا يتصلون بأمهاتهم، لأن هذه عادة مجوسية، ولأن الله تعالى نهاهم في القرآن عن محرمات النكاح ولم يذكر أنهم فيما سلف كانوا ينكحون أمهاتهم، بل خص ذلك بزوجة الأب والجمع بين الأختين. فقال سبحانه:(ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلا) وقال عز وجل: (وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف) ويدل على هذا ما روى هشام بن عبد الله عن الإمام محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة أنه قال: (كان أهل الجاهلية يعرفون هذه المحرمات كلها التي ذكرت في هذه الآية وهي: (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم) الخ إلا اثنتين إحداهما نكاح امرأة الأب والثانية الجمع بين الأختين. ألا ترى أنه قال: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف، (وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف) ولم يذكر سائر المحرمات (إلا ما قد سلف) قرطبي ص 119 ج 5

وبعد أقول ليس بعيداً أن يكون ذلك المؤرخ الأجنبي الذي نقل عنه الكاتب أن العرب في الجاهلية كانوا يتصلون بأمهاتهم قد ألتبس عليه الحال فتوهم أن امرأة الأب - التي كان بعض العرب في الجاهلية يتزوجونها - هي الأم مع أنها غيرها قطعاً ولو فرض أن هناك رجلاً أو نفراً من الجهلاء العرب كانوا قد اقترفوا هذا الإثم واتصلوا بأمهاتهم فليس من الصواب جعل هذه النقيصة عامة لكل رجال الأمة العربية (ولا تزر وازرة وزر أخرى) وأختم كلمتي هذه بتوجيه نظر حضرة الكاتب وغيره ممن يخوض في مثل هذا البحث الدقيق ألا يهملوا الاستدلال بما في المراجع العربية فهي المصدر الذي اقتبس منه المستشرقون كما أنها هي التي عنيت بتفنيد ورد ما افتراه وضعه الشعوبيون

ص: 70

محمد صبري عامر

العقيدة الساذجة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فقد راعني مقالكم (العقيدة الساذجة) وسرني - شهد الله - هذا الاتجاه منكم لعلاج أمراض المسلمين، ونواحي النقص فيهم بقلمكم الصناع، وأسلوبكم الساحر، لاسيما نواحي العقيدة التي أساء الناس فهمها، واتجهوا فيها اتجاهاً لا يرضاه الدين إن لم ينافه في أصله وقواعده

وغير خاف أن ذلك الزعيم الهندي الكبير ليس هو الوحيد في هذا الشأن (زخرفة القبور) بل إن من بين أيدينا، وعن أيماننا، وعن شمائلنا لمثلاً كثيرة للخروج على عقيدة الإسلام وتعاليمه.

وإني لعلى يقين من أنكم ستستعذبون هذا اللون من الجهاد حتى تنبهوا الأمة من سباتها العميق

سدد الله خطاكم، وأمدكم بروح من عنده.

وقد لفت نظري في هذا المقال قولكم: (وإن الإمام الذي كان يطوي الأيام ليطعم - على حب الله - المسكين، واليتيم، والأسير لا يرضى هذا الإحسان الميت) تشيرون بذلك إلى معنى قوله تعالى: (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً) التي رووا فيها قصة صوم علي كرم الله وجهه، وبنيه، وزوجته وجاريته وهذه القصة موضوعة لا أصل لها ولا ينبغي أن يحمل كلام الله تعالى على قصة هذا شأنها، وإن أقل تأمل في هذه القصة يدل على أنها مصطنعة.

محمود محمد سويلم

واعظ سمالوط

مجمع فؤاد الأول للغة العربية في رأي لجنة المالية. بمجلس

النواب

ترى اللجنة أن الدرجة الثقافية التي وصلت إليها مصر الآن تجعلنا نشعر بالفراغ الكبير

ص: 71

وبالحاجة الكبرى لوجود قاموس عربي جامع منسق على أحدث الطرق وأسهلها. وكما أن مصر والشرق العربي كله يطمعان في تحقيق أملهما في وجود دائرة للمعارف عربية، تستجمع ثمرة إنتاج العقل الإنساني في مختلف العلوم والفنون والمعارف، أسوة بدوائر المعارف الكبرى الموجودة الآن بكل أمة وبكل لغة إلا اللغة العربية، وهي الوحيدة بين اللغات الحية المحرومة من دائرة معارف للآن

لذا تأمل اللجنة أن تتوجه وزارة المعارف بخطوات جدية حاسمة في سبيل تحقيق هذا الأمل العزيز

وترى اللجنة أن مجمع اللغة العربية، على ما أفاد به في حدوده الضيقة ومباحثه المحدودة، لم يشبع في كثير ولا قليل هذه الأطماع الثقافية الكبيرة. ولعل الوزارة على ضوء رغبة اللجنة السابق ذكرها، تسرع بالعمل على إعادة النظر في تكوين هذا المجمع، من حيث تنوع معارف أعضائه والزيادة في اختصاصه، حتى يكون الأداة الحية المرجوة لتحقيق وجود دائرة المعارف والقاموس، وغيره من البحوث الأدبية واللغوية والعلمية التي يفتقر لها جماعات مثقفون في العالم كله

الفؤاديات

مجموعة من الشعر الوجداني الرقيق، نظمها المرحوم (فؤاد بك محمد)؛ ثم نشرها بعد موته ابن عمه الأديب عبد القادر يوسف تمجيداً لذكراه وتخليداً لفنه؛ ثم تفضل فأهدى إلى (الرسالة) مائة نسخة منها لتوزعها هدية على من شاء من قراءها تحقيقاً للغرض الذي طبعت من أجله، وهو الإشادة بفضل الفقيد الشاب والإفادة من نشر أدبه الرفيع

الشيخ عبد الرحمن قراعة كأديب

رأي الأستاذ (محمود علي قراعة) من الوفاء للأدب، والإخلاص لعمه المغفور له الشيخ (عبد الرحمن قراعة) مفتي الديار المصرية سابقاً أن يتحدث عنه كشاعر وناثر ليهيئ أذهان تلاميذه وأصدقائه إلى إدراك منزلته العالية في الأدب والعلم فينشروا ديوانه ويظهروا فضله. فتكلم عنه كصديق ومحسن ومتدين وفقيه ومعاشر وحكيم، كلام العارف البصير؛ ثم نشر ذلك في مجموعة وأهدى إلى (الرسالة) منها مائة نسخة لتوزعها على من شاء من

ص: 72

قرائها، فله الحمد على ما هدى، والشكر على ما أهدى.

ص: 73

‌رسالة النقد

ليالي الملاح التائه

ديوان الأستاذ علي محمود طه

للأديب عبد العليم عيسى

الشعر كالحياة من حيث مظهره ومصدره؛ فهو من حيث المظهر متفاوت التقدير عديد الألوان، ومن حيث المصدر واحد لا يتجزأ ولا يقاس ولا يتنوع. . .

فالحياة في الثعلب هي بعينها الحياة في الأسد؛ ونحن لا نعظم الحياة في الأسد لأنها أشرف وأجمل من الحياة التي تسير الثعلب، ولكن لأنها قد اتخذت لها في الأسد مظهراً واسعاً مكتملاً عريضاً أوسع وأكمل وأعرض من المظهر الذي اتخذته في الثعلب. . .

على هذا القياس الحق، ترانا نفضل هذا الشاعر على ذاك الشاعر، وترانا نستحسن هذا الشعر ولا نستحسن ذاك، ونحن في هذا التفضيل والاستحسان لم نرد إلا أن المظهر الذي ظهر فيه شعر الأول أحسن وأتم وأوسع من المظهر الذي ظهر فيه شعر الثاني؛ أما شعرها من حيث القيمة فهو واحد لا تفاوت فيه. . .

من بين شعرائنا الذين نقدرهم ونستحسن شعرهم، شاعر رقيق رشيق هو الأستاذ علي محمود طه فهو شاعر يسقي قلمه من ينابيع قلبه الجياش بالعواطف، وروحه الهائجة السبوح. وهو شاعر عانقت روحه الكون الجميل، فجاءت أشعاره واسعة متفتحة ناعمة، تسمع فيها دقات أنباض الحياة، وتتنسم منها نسمات الجمال والخلود. . .

قرأت (لياليه) فشعرت بلذة روحية عجيبة، وأحسست بانفعالات تهزني وتنعشني، وتوقظ نفسي وترهف حسي، وتفتح أمامي آفاقاً من النور والجمال والبهاء. . .

وهل أنا أطلب من الشاعر غير هذا؟. . . كفى بالشاعر أن ينقلني من عالمي المادي الحقير، إلى عالم سماوي نضير، تحير فيه أطياف الحسن والسحر والفتون، فأنسى فيه - ولو قليلاً من الزمن - رغبات الأرض وشهوات ابن التراب!! وأنت لو ذهبت تعد شعراءنا جميعاً علك تجد فيهم من يسمو بك إلى عالمه، ويشعرك بالحياة المتدفقة الفائزة مثل هذا الشاعر، ما وجدت - للأسف - غير شاعرين أو ثلاثة على الرغم من وفرتهم وتبجحهم

ص: 74

وجعجعتهم!

إن من بين شعرائنا من هم إذا كلفوا بشيء آخر كلفهم بالشعر، لجاءوا بالعجب العجاب ولب اللباب؛ ولكنك إذا ذهبت تصارحهم بهذا رأيتهم هاجوا وماجوا، كأنك تريد أن تسلبهم أرواحهم! ومن العجيب أنك لا تلبث أن تسمع منهم من يقول في غطرسة وكبرياء:(أنا المجلي وغيري نابع تال). . .

وآخر يقول:

قد صرت وحدك في الملو

ك وصرت في الشعراء وحدي

وثالث يقول:

لولا غنائي وشعري

لمات روح الوجود

وهكذا وهكذا تسمع ما يؤلم قلبك. . . ويشجي روحك!

إذن يجب علينا أن نفرح بظهور الشاعر الحق فرحنا بظهور الوليد الجديد، ويجب علينا أن نحبه ونقدره ونجله؛ وما حبنا وتقديرنا وإجلالنا، إلا حب وتقدير وإجلال للحق والخير والجمال وهي القيم المنشودة التي تسعى إليها البشرية وتبحث عنها في جميع أطوارها ومراحلها. وشاعرنا المحظوظ (علي طه) هبة سماوية أطلعتنا على آفاق جديدة فيها جمال وخير وفيها أحلام وآمال. . .

قلت إن شاعرنا محظوظ، وأنا أقصد بهذا أنه يحيا حياة شعرية مليئة بالأفراح واللذات، مترعة بالأحلام والمغامرات. فليس فيها آلام ولا أحزان، وليس فيها أهوال ولا شكوك، ولا تردد ولا حيرة. . . وأنت لو فتشت في ديوانه كله ما عثرت على بيت واحد يشعرك أن هذا الشاعر مرت عليه أوقات فيها تنغيص وفيها ألم، ولكنك تعثر على أبيات كثيرة فيها اللذة السامية، وفيها النشوة السارية، وفيها الفرح الشامل. . .

هو اليوم في مدينة (فينيسيا) عروس الأدرياتيك حيث الجمال والحسن المشاع، وحيث الجنادل المزدانة بالمصابيح الملونة والضفائر الوردية. فلا يلبث أن يوحي إليه هذا الجو الفاتن أنشودة (الجندول) الموسيقية الرائعة الرقيقة الخالدة. . .

وهو اليوم في (بحيرة كومو) التي جذبت إليها كثيراً من الشعراء فألهمتهم أرق أشعارهم وأعذب أغانيهم؛ فلا يلبث أن تلهمه أنشودة بارعة، ويهديها إلى صديقة أمريكية كانت

ص: 75

ترافقه

وهو اليوم في مدينة (زيوريخ) على شاطئ بحيرتها، حيث الاحتفال بعيد سويسرا الوطني الأكبر، بين المواكب الصاخبة المرحة، وأنوار المشاعل، والأسهم النارية، وأضواء معرضها العظيم؛ فتوحي إيه المفاتن الساحرة. . . أنشودته الساحرة (تابيس الجديدة)

وهو اليوم على ضفاف (نهر الرين) ذلك النهر الذي يتفرد بجنبات أعنابه، وأشجاره الباسقة، وقصوره التاريخية؛ فيوحي إليه هذا الجو الرائع الجميل قصيدة (خمرة نهر الرين) ثم يهديها إلى صديقة سويسرية التقى بها هناك. . .

وهكذا وهكذا ترى شاعرنا سارحاً متنقلاً في أمكنة الفتون والجمال، وهو في كل مكان سعيد محظوظ مغامر. له فيه محبوبة سعيدة محظوظة مغامرة؛ فجاءت أشعاره لها طابع خاص تمتاز به من بين سائر الأشعار. . .

أكبر الظن أن شاعرنا ليس عاشقاً متيماً ولا غزِلاً متهالكاً فهو يوافق (دانزيو) الشاعر الإيطالي العظيم في قوله: (ما معنى أن يخلص الشاعر لامرأة واحدة، وهل في وسع الشاعر أن يجمع الجمال كله في وجه واحد أو في منظر واحد؟ لابد لخيال الشاعر من أفق لا نهائي دائم التجدد دائم التحول دائم الحركة) ولقد أجهدت نفسي في أن عرف لشاعرنا من شعره محبوبة واحدة تشقيه وتسعده وتهجره وتصله حتى يشعر في حبه بالحرمان والسعادة فما وصلت إلى ما أردت أن أعرفه. . . وقد يكون هذا (في عقيدتي) هو السر في أن شعر شاعرنا غنائي فطري، له جرس ورنين في مفرداته وتراكيبه، تشيع فيه المسرة والبهجة وتغمره البشاشة والطلاقة. . .

يعجبني من شاعرنا أنه صريح صادق، يعبر عن إحساسه وشعوره وحياته بلا تدجيل أو مداواة؛ فأنت لا تكاد ترى شاعراً من شعرائنا المعاصرين من يصرح فيقول:

ملأت بتفاحتها راحتي

وبت لكرمتها عاصرا

أو يقول في التي (علمته كيف يحب وكيف يكره):

إذا فتح الباب تحت الظلام

فكيف ارتماؤك في صدرها؟

وكيف طوى خصرها ساعداك

ومرت يداك على شعرها

وما هذه؟ رعشة في يديك

أم الكأس ترجف من ذكرها

ص: 76

لقد دنس الجسد الآدمي

حياة حرصت على طهرها

بكى الفن فيك على شاعر

تسائله الروح عن ثأرها

نزلت بها وهدة كم خبا

شعاع وغيب في قبرها

كذلك لا ترى معاصراً يقول مثل قوله يحث صديقته في (بحيرة كومو) على أن تنفي الحذر عنها وأن تعذره إن طغت روحه، أو ثأر جسمه:

ما تسرين؟ أفصحي

إن في عينك الخبر

الغريبان ههنا

ليس بجديهما الحذر

نحن روحان عاصفان

وجسمان من سقر

فاعذري الروح إن طغى

واعذري الجسم إن ثأر

أو مثل قوله في تاييس الجديدة):

أأنا الغريب هنا وملء يدي

أعطاف هذا الأعيد المرح

خفقت على وجهي غدائرها

فجذبتها بذراع مجترح

عرضت بفاكهة محرمة

وعرضت لم أنطق ولم أبح

يا رب صنعك كله فتن

كيف الفرار، وكيف مطَّرحي

هذا شعر رائع جميل، له وقع في النفس، ونشوة في القلب وما روعته وجماله إلا من صدق تعبيره، وصراحة أدائه، ثم من حيويته واتساعه وغليانه. . .

كذلك يعجبني من شاعرنا الرقيق أنه شاعر مصري صميم - على الرغم مما يعيبونه به من أنه شاعر الطبيعة الغربية - فهو لا ينسى بلاده حتى في تلك الأوقات الجميلة التي يقضيها في هذه الأجواء السحرية الناضرة. بل إنه ليكون غارقاً في لذته وبهجته وسكرته، ثم يهزه الحنين لنيله الجميل، فيمسك قيثارته ويغني في فخر ومباهاة:

قلت: والنشوة تسري في لساني

هاجت الذكرى فأين الهرمان

أين وادي السحر صداح المغاني

أين ماء النيل أين الضفتان

آه لو كنت معي نختال عبره

بشراع تسبح الأنجم إثره

حيث يروي الموج في أرخم نبره

حلم ليل من ليالي كيلوبتره

وهناك في (بحيرة كومو) - حيث الجمال والسحر - يهز الشاعر حبه لوطنه، فينطلق

ص: 77

قائلاً، وهو جالس بين كؤوسه وغادته، غارق في نعيمه وحظه وصفائه:

أين وادي النخيل أم

قاهرياته الغرر؟

إن مما يزيدني إعجاباً بهذا الشاعر أنه صاد في شعره. وفيّ لفنه، وأنه ذو شخصية مستقلة لا تندغم في شخصية أخرى، وأن لشاعريته وجهاً يميزها عن كل شاعرية، ولألحانه رنة تعرف بها من بين سائر الألحان، وفي كل ما ينظمه نكهة تختلف عن كل نكهة. . .

لكم وددت لو كان بإمكاني أن أتخطى بالقارئ خطوة خطوة مع شاعرية صاحب (ليالي الملاح التائه) فهي في تجوالها قد سلكت شعباً كثيرة، وطرقت أبواباً عديدة، ومن كل سياحة ساحتها قد عادت بآثار طريفة وتذكارات ثمينة. والديوان حافل بمثل هذه الآثار والتذكارات التي تفسح مداه وتفرج صدر قارئه. . .

وأخيراً. . . لقد انتهيت بدون أن أنقد شاعرنا الملهم، ويعلم الله أنني كنت أود أن عثر على أغلوطة أو سقطة؛ ولكني عبثاً حاولت. غير أنه يسرني أن أطلع شاعرنا على هنات طفيفة ما أخالها شيئاً، فمثلاً قول الشاعر في أغنية الجندول):

قلت والنشوة تسري في لساني

هاجت الذكرى فأين الهرمان

كان الأحسن من ذلك أن قول (في كياني) لأني لا أتصور ولا يتصور أحد معي تلك النشوة التي تسري في اللسان. وفي الأغنية نفسها اضطراب في صورها، فليس فيها وحدة ولا اتساق. ولقد رزقني الله حلاوة الصوت. فكنت إذا غنيتها على عودي وأنا منتقل على خيالي في الجو الذي نظمت فيه شعرت باصطدام وحواجز تقفني عن متابعة طربي خصوصاً في مقطعها الأول. وفي الأغنية مقطع رائع وهو:

آه لو كنت معي نختال عبره

بشراع تسبح الأنجم إثره

حيث يروي الموج في أرخم نبره

حلم ليل من ليالي كيلوبتره

وأنا أذكر أني قرأت هذا المعنى الجميل البارع الذي يعد أحسن ما في الأغنية مترجماً عن الإنجليزية. فهم يذكرون أن الشعراء الثلاثة كيتس وشلي وليهند اتفقوا على أن ينظم كل واحد منهم قصيدة في النيل فكان مما قاله ليهند هذا المعنى الجميل. وما كنت لأشير إلى هذا لولا أن الأدباء يرفعون هذا المعنى إلى السماء. فأردت أن أبين أصله. . . ويقول الشاعر (في بحيرة كومو):

ص: 78

ثمر ناضج الجني

كيف لا نقطف الثمر

وأنا أفهم أن الثمر هو الجني

ويقول الشاعر في (مصرع الربان):

وغاب كل مشيدٍ غير قبعة

ذكرى من الشرف العلي وتذكار

والذكرى والتذكار معناهما واحد

ويقول الشاعر في (مهرجان الزفاف) يريد السيوف:

أو ما لها الماضي فجن حديدها

حتى تكاد بغير كف تمشق

والمتنبي يقول: (حتى تكاد بغير كف تضرب) وهو طبعاً أحسن من الأول. فكان حقه أن يأتي بالمعنى كاملاً

وهذه طبعاً هنات طفيفة لا تغض من قيمة شاعرنا العزيز. وكفاه رفعة وسمواً أن تكون هذه مآخذنا في وقت أصبحت فيه الدواوين الشعرية مهزلة وسخفاً!. . .

عبد العليم عيسى

ص: 79