المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 356 - بتاريخ: 29 - 04 - 1940 - مجلة الرسالة - جـ ٣٥٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 356

- بتاريخ: 29 - 04 - 1940

ص: -1

‌ساعة مع الأستاذ الأكبر

كان مما لابد منه لمن يكتب في الإصلاح الديني والأزهري أن يستضيء برأي الإمام الذي هيأه الله واختاره التوفيق لزعامة الثقافة الإسلامية في أشد العصور افتتاناً بالعلم وامتحاناً للعقيدة وهزأً للشعور واستعداداً للتطور

والأستاذ المراغي إذا قيلت كلمة الحق فيه إمام هذا العصر بإعداد من الله تجلى في فهمه الدقيق لرسالة دينه، وإدراكه الصحيح لحاجة عصره، وعلمه الراسخ بطبيعة قومه، وملكته السليمة في أدب لغته، وأفقه الرحيب لاقتران المشكلات الاجتماعية فيه تحت ضوء من الفكر الثاقب يبدد عنها ظلام الإشكال فترجع إلى طريقها الواضح من الدنيا أو الدين. وآية المصلح الديني في الإسلام علمه بأن رسالة الدين هي إصلاح الدنيا، وعمله لتوجيه الحكم والسياسة والاجتماع إلى الخطة التي رسمها الحق للحق في دستوره السماوي الخالد

دخلت على الإمام المراغي مكتبه العظيم الفخم في إدارة الأزهر منتصف الساعة الثانية، وكانت الأصوات والحركات قد خشعت في المكاتب والمسالك، فساعدتني الحال على الظفر بجلسة طويلة مع الإمام لم يقطعها عمل ولم يكدرها زائر

تلقاني شيخ الشيوخ بوجهه المنبسط وبشره الرزين، فسهّل علىُّ أن أجد نفسي وأتسرّح في حديثي وأراقب انعكاس الإشراق الروحي على ملامحه الناطقة فأفهمه من قرب. وللمراغي إشعاع على محادثه عجيب؛ وهذا الإشعاع دائم الانبثاق من عينيه وشفتيه فلا تنفك المشاعر منه في غَمر من الإعجاب والإجلال والحب مهما توثقت الألفة وزالت الكلفة وطال الحديث. وأشد تأثير المراغي على النفس القابلة ينبعث من سر نظرته وسحر بسمته ولهجة حديثه وحلاوة جرسه وفصاحة منطقه. أما توقد ذهنه ولطافة حسه ووزانة قوله ورصانة عقله وسراوة خلقه، فتلك خصائص شخصيته وفضائل نبوغه

لا أستطيع أن أنقل إليك نص حديث تدفق وتشقق في ساعة ونصف، ولا أريد أن أقطع سرده بما سألت أو أجبت، فإن همك وهمي أن نسمع إلى الأستاذ. فأنا أروي لك خلاصة الجانب العام من الحديث على اطراد وتساوق لتصل إلى وجه الرأي من أخصر طريق

قال الأستاذ الإمام وقد تزاور عن مكتبه واتجه بكرسيه الدوار إلَّى:

لقد سرني أن تتجه الرسالة إلى معالجة شؤون الأزهر، فإن في النقد الخالص من الهوى حثاً للهمم الوانية، وتذكيراً للنفوس الغافلة؛ ولكني أحب أن يكون النقد على خلوصه رفيقاَ

ص: 1

ليطمئن إليه المنقود ويستفيد منه

أنا لا أسلم بأن الأزهر جامد على حاله القديمة، وأرى أنه يتقدم مع الزمن تقدماَ يتفق مع طبيعة أهله في الأناة والروية.

ولو قارنت بين حاله اليوم وبينها منذ أربعين سنة تجلى لك الفرق واضحاً لا غبار للشك عليه. ففي أيام طلبك بالأزهر قلما كنت تجد عالماَ أو طالباً يكتب أو يخطب أو يؤلف أو يتصل بالحياة العامة؛ أما اليوم فأنت ترى أكثر العلماء والطلاب يفكرون ويحررون ويحاضرون ويناظرون ويؤلفون في فصاحة منطق وحسن صياغة وسلامة فكرة

أذكر وأنا مفتش بالأوقاف أنا اقترحنا على العلماء إنشاء طائفة من الخطب المنبرية في الأغراض الاجتماعية المختلفة، فجاءنا أربعمائة خطبة لم نجد من بينها واحدة تستحق النظر. ولكنك اليوم تجد الخطباء في المساجد والوعاظ في المجالس ينشئون الخطب البليغة، أو يرتجلون العظات البالغة فيما تقتضيه الحال من المعاني العامة

على أني أشعر بحاجة الأزهر الشديدة إلى الإصلاح. وأوافق الرسالة على أن الأمر يكاد ينحصر في طريقة المعلم ووسيلة التعليم. وقد أخذنا بالفعل نعالج الإصلاح في هذه الناحية، فضاعفنا العناية بطلاب التخصص لأنهم مناط أملي في المستقبل وموضع ثقتي في الإصلاح، فأنا أتعهد تعليمهم وأتفقد أحوالهم وأشدد امتحانهم، حتى لم ينجح من ثلاثة وعشرون غير ثمانية. ومن هؤلاء أرسلنا وسنرسل البعوث إلى بلاد الغرب ليتصلوا بتيار الفكر الحديث، ومكنا لمن لا يبعث منهم أن يتعلم لغة أوربية في الكلية ليتسنى له بواسطتها أن يزيد في ثقافته.

أما مسألة الكتاب فإني أوثر أخذ العلم من كتب الأئمة السابقين القادرين على صوغ العبارات العلمية في أسلوب ناصع البيان، ولكني أوثر كذلك الإبقاء على طائفة من الكتب المؤلفة على المنهاج التقليدي من تحليل ألفاظ الجملة وتقليب وجوه الفكرة، فإن ذلك سبيل التعمق والاستقصاء والمران لمن عرف كيف يسلكه ويخرج منه. وفي اعتقادي أن غموض النص في نفس التلميذ ناشئ من غموضه في ذهن المعلم. فإذا استطاع الأستاذ أن يحلل عبارة النص في الكتاب ويجلو غامضه من جهة، وأن يجمع أشتات الرأي في الموضوع ويمحص حقائقه من جهة أخرى، تيسر له بعد ذلك أن يلقيه على الطلاب في محاضرة

ص: 2

متناسقة الفكر متساوقة الأجزاء محكمة الصياغة، ومن مجموع هذه المحاضرات في العلم الواحد يتألف الكتاب الذي تريده

على أن الكتاب يتضاءل شأنه كلما سمت قدره المعلم، فإنك تذكر أن أستاذنا الإمام رضوان الله عليه كان لا يجعل في يده وهو يفسر كتاب الله غير (الجلالين)، ومع ذلك كان يستبطن بفكرة النفاذ أسرار الآي ثم يكشفها للناس في معرض من البيان المشرق

وفي الكليات طائفة من المعلمين القادرين يستطيعون أن ينهضوا بالتعليم الأزهري نهضة صادقة. ومِلاك ذلك أن يقفوا حياتهم على العلم، ويقصروا جهودهم على التعليم، وأن يتصلوا بأبنائهم اتصالاً روحياً ليغرسوا فيهم حب العلم فيطلبوه لذاته ولذته

كان أشياخنا يقولون: (أعط العلم كلك يعطك بعضه) وكان منهم من لا ينقطع عن التدريس حتى في المرض، ولا يذوق طعم الراحة حتى في العطلة، ولا يرى (أخذ الدرجة) صارفا عن التحصيل، ولا منصب القضاء عائقا عن الأزهر.

قال لي الإمام محمد عبده وقد زرته بعد نجاحي في (العالمية) بثلاثة أيام: أتستطيع أن تعرِّف العلم؟ فأجبته بلهجة الواثق المطمئن: نعم. وأخذت أسوق إليه ما أعرف من التعريفات المختلفة، ولكنه زيفها جميعاً وقال: العلم ما نفَعك ونفع الناس. فهل ما عندك منه ينطبق عليه هذا التعريف؟ فقلت له: لا. قال: إذن لا تملك من العلم الصحيح شيئاً. إنما هيأت لك دراستك وشهادتك السلم، وعليك وحدك بعد ذلك أن تصعد

إن الذي يظهر الأزهر في هذا المظهر الجامد يرجع بعضه إلى إخلاد القادرين إلى الراحة، وبعضه إلى مجافاة أسلوب العصر مع حسن الاستعداد وتوفر وسائل الاجتهاد ومواتاة أسباب النهضة. أليس من العجيب أن تكون عُدد الاجتهاد التشريعي عندنا أكثر منها عند مالك، وذرائع الابتكار الأدبي في عصرنا أوفر منها في عصر الجاحظ، ثم لا نجد فينا فقيهاً يجتهد بعض اجتهاد صاحب الموطأ، ولا أديباً يؤلف بعض ما ألف صاحب الحيوان؟ لقد كان مالك لا يملك من ثروة الحديث النبوي غير ما صحت له روايته منه، وكان الجاحظ لا يجد من مصادر الأدب العربي غير ما وقع من السماع فيه، ومع ذلك صار لمالك مذهب متبع في الفقه، وانتشر للجاحظ مذهب معروف في الأدب. أما نحن فبين أيدينا كل ما ورد عن الرسول من الأحاديث، وما روى عن الأئمة من الأحكام، وما أثر عن الفقهاء من

ص: 3

الكتب؛ وفي خزائننا كل ما خلف العرب وغير العرب من لباب الأدب وعصارة الفكر، ومع هذا اليسر في الوسائل وهذه القوة في الاستعداد لا ترى إلا فراغاً يثير الظنون ويغرى بالأزهر التهم

إن العلماء إذا استاروا بسيرة السلف في الإخلاص للعلم والانقطاع إلى التعليم يستطيعون أن يصلحوا فساد الطريقة ويكملوا نقص الكتاب ويصلوا بالأزهر إلى الغاية التي نرجوها من أداء الرسالة الإسلامية على الوجه الملائم لطبيعة العصر وعقلية الناس

وحينئذ كانت الساعة الثالثة، فلم أر من اللائق أن أعوق الإمام عن غدائه أكثر مما عقت، فاستأذنت وانصرفت وأنا موزع القلب بين الإعجاب بالمحدث والاغتباط بالحديث

احمد حسن الزيات

ص: 4

‌حديث الإسكندرية ذو شجون

للدكتور زكي مبارك

(في ليلة الاحتفال بالمولد النبوي أقامت جمعية الشبان

المسيحية في الإسكندرية احتفالاً سمته (عيد الورد)، ودعت

إليه جماعة من أدباء القاهرة، وفيما يلي خطبة الدكتور زكي

مبارك في ذلك الاحتفال)

في هذا المساء أيها السادة يحتفل المسلمون بعيد المولد النبوي، وتحتفلون بعيد الورد، فالمسلمون يحتفلون بعيد الحق، وأنتم تحتفلون بعيد الجمال، والصلة وثيقة جداً بين الحق والجمال

أما بعد، فقد اقترح صديق عزيز أن تكون خطبتي عن الإسكندرية حديثاً ذا شجون، فما الذي ينتظر ذلك الصديق من تلك الشجون؟

أيكون لاحظ أنني كثير الحديث عن الإسكندرية، وأن هواي بها وصل إلى حدَّ الافتضاح؟

هو ذلك، ولكن هل يعرف لأي سبب تزداد شراهتي في انتهاب مفاتن الإسكندرية كلما سنحت الفرص في الصيف أو في الشتاء؟

السبب يرجع إلى أني دخلت الإسكندرية أول مرة وأنا حزين: دخلتها في قفص، دخلتها في سيارة مقفلة من سيارات السلطة العسكرية في أيام الثورة المصرية. دخلتها في الظلام، فلم أر من جمالها غير أطياف، ثم نقلني ذلك (السجن المتحرك) إلى مقرِّ الاعتقال في ضاحية نائية، هي اليوم ملاعب صبابة ومدارج فتون. ومن يصدِّق أن ضاحية (سيدي بشر) كانت معتقَلاً يُسجن فيه من هتفوا باسم الحرية والاستقلال؟

قضيت في هذه المدينة شهوراً طوالاً بدون أن أشهد من جمالها غير ما يطوف بالأوهام والظنون. ولن أنسى أبداً كيف كان هدير البحر يقرع سمعي وقلبي في غفوات الليل. ولن أنسى كيف فرحت يوم خرجت من المعتقل لأرى الإسكندرية بعينيّ، ولأطوِّف في رحابها حيث أشاء بلا حارس ولا رقيب، ولأقول لنفسي: إن شهور الاعتقال قد ذهبت إلى غير مَعاد. . .

ص: 5

هذا هو السبب في هيامي بالإسكندرية، ولن أشبع منها أبداً. فجنوني بها هو انتقام من الزمن الجائر الذي قضى بأن أراها أول مرة في ظروف أفظع وأشنع من أعمار الأحزان

أحب أن أفرح في الإسكندرية. أحب أن أرى فيها أيام نعيم بعد أن رأيت فيها شهور بؤس. أحب أن أراها وتراني في بشاشة وأريحية وصفاء. فخذي بزمامي إلى حيث تشائين، يا مهد الشهامة والنضارة والجمال

لك قلبي، يا إسكندرية، فامنحيني من العطف ما أنسى به تلك الأيام السود، أيام الاعتقال. واصفحي عني، يا إسكندرية، إن افتضحت في هواك، فما يكون تلاقينا إلا بَلْسماً لجرح عميق تعتادني آلامه من حين إلى حين. . .

أيها السادة

لمدينتنا هذه تاريخ وتواريخ

فيها وقعت أعظم فاجعة غرامية، وهي فاجعة صيرت الحب شريعةً من الشرائع. ألم يكف أن يصل اسم كليوباترة إلى جميع البلاد وأن تؤلف فيه المئات من الأقاصيص؟

ومدينتنا هذه هي التي حفظت ذخائر الفلسفة اليونانية بعد غفوة العقل اليوناني

ومدينتنا هذه هي التي عرفت الاستشهاد في سبيل المسيحية أعوامَ اضطهاد المسيحية

ومدينتنا هذه هي التي استقبلت طلائع الجيش الإسلامي وجعلت للإسلام دولة على شاطئ المحيط، وقد كان بحرنا هذا أول بحر خفقت فوقه الراية الإسلامية، وسيظل إلى الأبد صلة الوصل بين حضارة الإسلام في الشرق وحضارة النصرانية في الغرب، ولن تكون شواطئه الشرقية إلا بأيدينا مهما بغى الاستعمار واستطال

ومدينتنا هذه هي التي خلدت اسم من نسبتْ إليه. وما بناها الاسكندر كما يتوهم الجاهلون، وإنما بنى حيَّا من أحيائها، وسيأتي يوم لا يُعرف فيه مَن الإسكندر إلا بوصل اسمه الفاني بهذه المدينة الباقية على الزمان

وقد سميت باسم الإسكندرية مدن كثيرة في المشرق والمغرب، ولكنها ذهبت جميعاً، ولم يبق غير مدينتنا هذه لأنها مصرية، ومصر عريقةٌ في الخلود

أيها السادة

كتب أحد أدبائكم يقول إن الإسكندرية تقتل الروح الأدبي، وهو أديب لا أسميه لئلا أعرِّض

ص: 6

سمعته للإيذاء، فهل ترونه على حق؟

اسمعوا ثم اسمعوا

في مدينتنا هذه خُلقت المعارضة السياسية بطريقة صريحة لأول مرة بعد الثورة المصرية. وفي مدينتنا هذه وجد الناس من الشجاعة ما يقاومون به سعد زغلول وكان اسمه قد ملأ جميع الأرجاء

وما يهمني أن أقول إن تلك المعارضة كانت بحق أو بغير حق، فلذلك حديث غير هذا الحديث، وإنما يهمني أن أقول إن أول معارضة ثارت في مصر بطريقة صريحة كانت المعارضة الموجَّهة إلى مشروع ملنر، وتلك المعارضة لم ترفع رأسها إلا في الإسكندرية بجريدتين سيذكرهما التاريخ وهما جريدة (الأمة) وجريدة (الأهالي)

فكيف جاز أن يسيطر سعد زغلول على سائر المدن المصرية ولا يجد مقاومة في غير هذه المدينة؟

لا تتهموني بالعصبية للحزب الوطني، فأنا في نفسي أعظم من كل عصبية وإن اعتمدت على الحق، وإنما يهمني أن أسجل محامد مدينتنا هذه فأقول إن سكانها الوطنيين يرجعون في الأغلب إلى عنصريين اثنين: العنصر الوافد عليها من الصعيد وهو عنصر معروف بالعناد، والعنصر الوافد عليها من المغرب بعد سقوط الأندلس في أيدي الأسبان وهو معروف بقوة المراس، ومن أجل هذا ترون الإسكندريين الوطنيين قوماً غلاظ الأكباد يغضبون بسرعة ويستوحشون من الدخلاء كأهل المغرب وأهل الصعيد، أما سكان الإسكندرية من أهل الوجه البحري فهم أقلية، وهم مصدر اللطف الذي نلمحه في الإسكندرية من وقت إلى وقت في غبية الغضب واللجاجة والعناد

وهنا يسمح المقام بتسجيل خاطر غريب

في هذه المدينة الثائرة بالفطرة وبوحي البحر نرى شواهد من النظام لا نجده في أية مدينة مصرية

في هذه المدينة وضعت قواعد النظام للمعاهد الدينية، فأول معهد ديني نظامي هو المعهد الإسكندري، وقد أشرف عليه رجل صعيدي حادّ الطبع،، ولكنه في روحه مفطور على نظام هو أستاذنا الجليل المرحوم الشيخ محمد شاكر الذي كان يرضي ويغضب في لحظات،

ص: 7

والذي كان يمثل قلق الإسكندرية، وحمية الصعيد، وسكينة القاهرة، ومن الإسكندرية نقل النظام إلى سائر المعاهد الدينية، وهو نظام ثار عليه الأزهر ثورة عنيفة لن أنساها ما حييت لأنها عطلتني من الدرس أسابيع وأسابيع قبل أن تولد عرائس هذا الحفل البديع

والمعهد الإسكندري ُمنسيٌَ في هذه الأيام، ولكن الذين عاشوا قبل الحرب الماضية يذكرون كيف استطاع أستاذنا الشيخ عبد المجيد اللبان أن يقيم به زعامة دينية يصل روحها إلى أكثر المدن المصرية

وإن كشف غطاء التاريخ فستعرفون أن الشيخ اللبان كانت له يد في تأريث الثورة المصرية، فهو الذي جمع بين أعضاء الحزب الوطني وبين حضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسون، ومن تلك الحركة تهيأ الجو لحركات شهدتها سنة 1918 ثم استفحلت في سنة 1919 ثم ما كان إلى أن شهدتم سقوط الحماية وإعلان الاستقلال

فما معنى هذا؟ معناه أن الإسكندرية التي ألقى فيها مصطفى كامل أعظم خطبة وطنية هي الإسكندرية التي سبقت إلى الثورة على الأحكام العرفية في أعقاب الحرب الماضية والتي سنت لأهل مصر شريعة النضال في سبيل الاستقلال

وهل سمعتم بحديث الدكتور محجوب ثابت؟

بفضل الإسكندرية جاز أن يكون في مصر نائب عن العمال، وهذا شيء غريب في بلادنا ولم يقع أول مرة إلا في الإسكندرية. وله مدلول يشهد بأن مدينتنا هذه مدينة أصيلة في قوة الشخصية. ألم يكف أنها تحتفل الليلة بالمولد النبوي احتفالاً أفخم وأعظم من جميع الاحتفالات بسائر المدن المصرية؟ ألم يكف أنها أول مدينة في الشرق بعد القاهرة مع أن القاهرة تملك من السحر ما تعجز عنه جميع المدائن في الشرق؟

أيها السادة:

إن الحديث ذو شجون، فهل سمعتم أن الإسكندرية تسيطر في هذه الأيام على وزارة المعارف؟

قيل إن النقراشي إسكندري المولد. وقيل إن السنهوري إسكندري المولد. وقيل إن شفيق غربال إسكندري المولد، فهل هذا صحيح؟ إن صح هذا فانتظروا متى ثورة تزلزل رواسي الجبال، فما يرضيني أن يكون لمدينتكم كل هذا السلطان؟

ص: 8

ولكن ما الموجب للثورة وأنا أعرف مقاتل هؤلاء الرجال؟ فالنقراشي العنيد اسكندراني تأسره قوة المنطق، والسنهوري أضعف الضعفاء أمام القانون، وشفيق غربال يعجز كل العجز عن مقاومة الحق

وأرجوكم باسم الذوق ألا تظنوا أنني أجامل رؤسائي، فما خُلقت للمجاملات، وإنما أدلكم على مقاتل هؤلاء الرجال، وهذا ينفعكم أجزل النفع، يوم يبدو لأحدكم أن يستفيد من قوة الحق والمنطق والقانون

ومدينتنا هذه التي وضعت قواعد النظام للتعليم الديني هي أول مدينة بعد القاهرة تقوم فيها جامعةٌ مَدَنيّة في العصر الحديث فكان لها فضل السبق على المنصورة وأسيوط، مع الاعتراف برشاقة المنصورة ورزانة أسيوط

ولأول مرة في تاريخ مصر يُحرَم الوزراء بَدَلَ السفر حين ينتقلون لشأن من الشؤون، وما حُرَّم ذلك إلا بالنسبة إلى الإسكندرية، فهل كان ذلك لأن الإسكندرية تستهوي الوزراء فتحملهم على تكلف أسباب الانتقال؟ لا، إنما كان ذلك التحريم لأن الإقامة في الإسكندرية غنيمة من الغنائم، ومن واجب الدولة أن تمنّ على الوزير بأن مصالحها هيأت له الفرصة للإقامة يوماً أو يومين بالبلد الذي يَفتن في الصيف وَيشُوق في الشتاء

ومع أن الإسكندرية سبقت القاهرة إلى البلاء بقسوة اشتباك المنافع مع الأجانب فقد صحّ للإسكندرية أن تسبق القاهرة إلى استخلاص بعض المنافع من الأجانب، فأول (تِرام) سيطرت عليه الحكومة هو ترام الإسكندرية، وفي ذلك ما فيه من قوة الشخصية

والإسكندرية تفوق القاهرة في أشياء

فالوافد على الإسكندرية من الجنوب تَلقاه المنازل البيض الخفيفة الروح، وتَلقاه نخلاتٌ بواسق تأنس برؤيتها العيون، أما الوافد على القاهرة من الشمال فتلقاه منازل مهدَّمة تقبض النفس، فمتى تفطن حكومتنا إلى هذه الظاهرة؟ ومتى تمدَّ يدها لرفع تلك الخرائب وتحويلها إلى حدائق ورياض ليشعر الوافد على القاهرة بأنهُ مقبلٌ على مدينة تفهم قيمة الجمال؟

آن للقاهرة أن تعرف أنها تسئ إلى سمعة مصر بالعفو عن تلك الخرائب التي تواجه من يَقْدَم عليها من الشمال. آن للقاهرة أن تعرف أنه لا يجوز أن تلقى القادمين بغير الابتسام، وتلك الخرائب الشبراوية تُدخل على أرواح القادمين أثقالاً من الانقباض البغيض

ص: 9

أتذكرون المحطة القديمة، محطة الإسكندرية؟

لقد كان الداخل إليها يشعر بأنه يفد على أطلال، وقد عزّ ذلك على الملك فؤاد رحمه الله فأشار بأن يكون للإسكندرية محطة تناسب ماضيها الجليل وحاضرها الجميل

ومحطة القاهرة هي رابع محطة في العالم من حيث الفخامة والرونق، فكيف يجوز أن ندخل إلى القاهرة في مضايق محفوفة بمنازل محرومة من نضرة النعيم؟

يجب أن تسارع الحكومة إلى تجميل مدخل القاهرة، فمن العيب أن تكون لها تلك الحواشي المطرَّزة بأكواخ البائسين

ويوم يتمّ ذلك أستطيع أن أتحدث في موضوع جديد هو تغيير الشاطئ الذي تدخل فيه البواخر إلى (عروس الماء)

فالشاطئ الذي يستقبل البواخر مطرَّزٌ بحواش يُقْذِى مرآها العيون. ويجب تغييره أو تجميله في أقرب فرصة، فما يجوز أن يكون أول ما يقع عليه البصر عند دخول الإسكندرية شوارع ضيقة ومنازل دميمة وحوانيت ترجع في تكوينها إلى ما قبل التاريخ

الجَمال، الجَمال، الجَمال!!!

ليس الحديث عن الجمال هزلاً، وإنما هو جِدٌّ صُراح، والأمم التي لا تقدِر الجمال لا تستحق نعمة الوجود

فهل خطر في بال من يثورون على التبرج في شواطئ الاستحمام أن من واجبهم أن يثوروا على الدمامة في مراسي السفائن؟

وهل فيهم من حدثته النفس بأن ينظر في البقعة الموحشة التي تستقبل الوافدين من روما ولندن وباريس وبرلين؟

أين المحافظ وأين مدير البلدية وإليهما يتوجه من يتألمون من التبرج في الشواطئ؟!

هل عند هذين الرجلين علمٌ بما نعانيه حين ندخل مدينتنا هذه بعد قضاء شهور أو أعوام في ديار الغرب، الغرب الذي يرى الزينة مطلوبة في جميع المواطن وجميع الأشياء؟

قلتم في الدعوة إلى (عيد الورد) إن الإسكندرية لها حقٌّ على الجميع. فمن حقي عليكم وعليها أن تسمعوا وتسمع هذا القول وأنا أدعو إلى تغيير أو تجميل موقع الميناء، فأين من يسمع وأين من يجيب؟

ص: 10

الحديث ذو شجون، أليس كذلك؟ فما الذي يمنع من القول بأن مدينتكم أخلفت الظن بها كل الإخلاف؟

هل تصدقون أن مدينتكم هذه كان لها صوت صحفي مسموع في أيام مصطفى كامل وأيام سعد زغلول؟ فأين صوتها اليوم وهي صدى لأصوات القاهرة؟

أنا أعرف أن الساعة الثامنة صباحاً والساعة السابعة مساءً موعدان لقدوم الجرائد والمجلات وأُحسُّ لوعة الشوق إلى هاتين الساعتين لأنهما موعد اتصال الإسكندرية بالقاهرة، ولكني أتوجع كلما تذكرت أن الحكومة المصرية التي تُعسكِر بالإسكندرية في الصيف لا تسمع صدى أصواتها إلا بفضل جرائد القاهرة، فمتى يستيقظ النائمون من أهل هذا الثغر الجميل؟

أيها السادة

أترك حديث المؤاخذات إلى حين، والتفت إلى حديث القلب فأقول: سيأتي يوم قريب يجتمع فيه زعماء مصر حول شواطئ بحر العرب الذي سُمِّيَ خطأ بحر الروم، وسيقام في الإسكندرية مؤتمر يؤلف بين أهواء الرجال ويغسل الضغائن ويدفن الحقود

ويومئذ نقيم (عيد الورد) وفي ليلة الاحتفال بعيد (المولد النبويّ)

ويومئذ نطمئن إلى أن بحرنا يسمى (البحر الأبيض المتوسط) لأنه جمع بين بياض القلوب، وتوسِّط في جمع أهواء النفوس

ويومئذ ننسى أن الهيام بشواطئ الإسكندرية يجرح رجال الدين، لأننا سنكون يومئذ ملائكة رفع الله عنهم إصر التكليف المستقبل لنا، بإذن الله صاحب العزة والجبروت

وهذا البحر لنا، بإذن فاطر الصباحة والملاحة والجمال

ومصر لنا، بفضل سواعدنا وعزائمنا وقلوبنا

فمن أراد بنا السوء فلينتظر غضبات الأسود عند جياع الأشبال.

نحن حفظنا مصر للعروبة والإسلام ثلاثة عشر قرناً، وسنحفظ لأبنائنا وأحفادنا وأسباطنا هذا التراث الغالي. والله مع المجاهدين.

زكي مبارك

ص: 11

‌في سبيل الأزهر

اعتراف ورجاء

للأستاذ محمد محمد المدني

المدرس بكلية الشريعة

كتب الأستاذ الكبير صاحب الرسالة الغراء، سلسلة من مقالاته القوية الممتعة في الأزهر وما يتصل بالأزهر من فقه ودراسة وخلق

وقد أثارت هذه المقالات في نفسي باعتباري مسلماً، وعالماً، ومدرساً في الأزهر، عاملين مختلفين: أحدهما عامل الأسف والحزن والخجل من هذا السيل المتدفق الذي ينصب على رأس الأزهر في الحين بعد الحين، بل مع كل مطلع شمس ومغربها، حتى أصبحنا لا نقرأ مقالاً، ولا نستمع إلى حديث، ولا نتصفح كتاباً إلا رأينا فيه لوناً من ألوان النقد العنيف موجهاً إلى الأزهر في جموده وخموله، وركود الحياة العلمية فيه، وقصوره عن مجاراة الزمن، ومسايرة الحضارة العلمية التي رجت العالم، وتغلغلت في كل نواحي الحياة!

أما العالم الثاني فهو عامل الأمل والرجاء، في أن هذه العلل ما دامت غير مستحكمة ولا متأبية على الإصلاح، فهي قابلة للشفاء، وأن هذه الوخزات ما دام يحس بها أبناء الأزهر فهي دليل على الحياة فيه، وهي لا بد ستوقظه من سباته العميق، وستحمله على أن ينفض عن نفسه غبار هذا الكسل، وينخلع من هذا الثوب البالي الذي جلله بالعار، وديثه بالصغار، وسامه الذل والهوان!

لقد ساءلت نفسي: أحقاً أن في الأزهر كل هذه العيوب التي يرميه الناس بها، أم أنهم يتجنون عليه ويتندرون على حسابه؟

وسرعان ما أجبت عن هذا التساؤل، فاعترفت بكثير من هذه العيوب، وعذرت الذين يلومون:

في الأزهر من غير شك نواحي نقص عظيمة، ويجب أن نكون صرحاء إلى أبعد حدود الصراحة. وإذا جاز لكاتب مهذب كالأستاذ الزيات أن يجامل الأزهر، فلا يذكر كل ما يعرفه من عيوبه، حين يتناوله بالنقد، فإن ذلك لا يجوز لأزهري يصطلي ليله ونهاره هذه

ص: 12

النار المحرقة التي لا مناص له من اصطلائها بحكم عمله وطبيعة اتصاله ببيئته

لقد تدبرت هذه النواحي التي من أجلها يلام الأزهر ومن قبلها يؤتي، فوجدت أهمها عقيدة الأزهر في نفسه وأسلوب الدراسة فيه.

فالأزهر مازال - على الرغم من بزوغ شمس الإمام المراغي في أرجائه - يدير حركته الفكرية على نحو من التعصب الجامد لكل ما يعلم، والرفض الجامد لكل ما يجهل. وما يزال فيه من يقول: كفر فلان، وألحد فلان، وتزندق فلان، لأنه أخذ برأي غير مألوف، أو خالف شيئا قال به إمام من الأئمة السابقين!

وليس هذا التكفير والحكم بالفسق والزندقة شيئاً يرمى به غير الأزهريين فحسب، ولكن للأزهريين منه نصيباً غير قليل! وإنك لتري غباراً يتطاير وشرراً يلمع، وتسمع دوياً يملأ أذنيك وضجة تدور من حولك، فتقول لنفسك هذه معركة علمية قد احتدمت، ولا بد أن تنجلي عن حقيقة يحسن السكوت عليها كما يقولون، أو عن فكرة إصلاحية تفيد منها الأمة فائدة تحفظها لرجال الأزهر

ويصدق ظنك من بعض نواحيه، فإذا هو عراك ولكن في غير معترك، وشجار ولكن في غير مشتجر، ثم تنجلي هذه المعركة كما بدأت، فلا الحقيقة العلمية وصلت إليها، ولا الأمة أفادت ما كان ينبغي أن تفيد؛ بل قل إنها تنجلي عن حالة هي أسوأ مما بدأت. فإذا كانت المعارك الحقيقية تسفر في كثير من الأحيان عن كذا من القتلى، وكذا من الجرحى؛ فإن معاركنا الأزهرية تسفر كذلك عن كذا من الكفرة، وكذا من الفسقة، وكذا من الجهلة. . . الخ

لست مبالغاً، أيها القارئ، وإنها للحقيقة المرة

لقد قال بعض العلماء رأياً في (الشيطان) في حديث له أذاعه بالراديو، خلاصته: أن (الشيطان) قد ورد ذكره في القرآن على أساليب شتى، وأن المعنى المشترك في كل الآيات التي عرضت للشيطان، أنه قوة الشر وعنصر الفساد في هذا الوجود

وهذا الرأي الذي يدل على تفكير ناضج وعقل رشيد، ويلتئم مع أحدث الآراء العلمية الصحيحة، ولا يعارض في نفس الوقت شيئاً صريحاً من الدين - لا يمر كما يمر سائر الكلام، ولكن يوقف عنده، لا ليشكر صاحبه على توفيقه بين نصوص الدين وآراء العلم، ولكن ليُتهم بمخالفة النصوص، وإنكار ما في القرآن، والخروج على الأحاديث!

ص: 13

ولولا أن صاحب الرأي رجل قوي، محترم الرأي، مرموق المكانة، لا يؤكل لحمه، لترددتْ في هذا المجال كلمات الإلحاد، والفسوق، والزندقة، والمروق، ولكن الله سلم!

على رسلكم أيها السادة! لماذا تفرضون دائماً في كل من يخالفكم في الرأي أنه سيئ النية، متهم الغرض؟ ولماذا تفرضون دائماً في أنفسكم أنكم قد وصلتم في كل ما زعمتم إلى الحق، فتدخلون في كل بحث وكل نقاش على هذا الأساس ومع استحضار هذه الفكرة

وعمن أخذتم هذه الطريقة؟ أعن كتاب الله، وهو الذي يعظم شأن البرهان ويحكم العقل في كل شئ حتى في الإيمان بالله وينهى عن التنابز بالألقاب؟

أم عن الرسول صلى الله عليه وسلم وقد كان المثل الأعلى في حلمه وسعة صدره وصبره على الحوار والجدال؟ ألم يكن الأعرابي الجلف يأتيه فيناديه باسمه المجرد، ويغلظ له في القول، ويعنف عليه في السؤال، فلا يفسد ذلك من حلمه، ولا يوهن من صبره؟

فإذا لم تكونوا قد أخذتم هذه الطريقة عن الله ورسوله فعمن أخذتموها؟ أعن علماء السلف ورجال المذاهب الأولين الذين كانوا يتناقشون ويتحاورون ويرجع بعضهم إلى رأي بعض، ويخالف بعضهم بعضاً، فلا يدفعهم ذلك الخلاف إلى تجريح أو تكفير؟

أم أخذتموها من كتب البحث والمناظرة التي قتلتموها بحثاً وأفعمتموها شرحاً، ولست أذكر أن فيما رسمت من أساليب الحوار سوى التدليل ودفع البرهان بالبرهان ومنع المقدمات. . الخ وليس فيها الوصف بالخروج على الآيات وإنكار الأحاديث!

هذا معنى في الأزهر ما زال موجوداً، وهو موجود على أشده في بيئة أزهرية معنية يعرفها الأزهريون ولها صلة وثيقة بالجمهور!

فإذا رجعت إلى أسلوب الدراسة والكتب المقررة وجدت العجب العجاب. وكلمة (العجب العجاب) هذه كانت تقال في زمن عبد القاهر الجرجاني وأبي هلال والشاطبي وغيرهم. كانوا يقولونها في نقدهم لآراء مخالفيهم؛ أما في عصرنا الحاضر، حيث النظريات الصحيحة الثابتة في شتى نواحي العلوم، وحيث السرعة والحرص على الزمن، فإني أرى كلمة (العجب العجاب) غير كافية للتعبير عما أقصد. وأعترف بالعجز عن اختيار لفظ مناسب يوصف به هذا التسكع العلمي الذي نسميه دراسة، مع أن الدراسة دائماً تنتج الوضوح وحل المشكلات، وهذا التسكع يقوم دائماً على التعقيد وخلق المشكلات!

ص: 14

لو أردت أن أضرب أمثلة كثيرة لهذا النوع من الدراسة، لأتيت بالكثير ولوجد فيه قراء الرسالة طُرفاً لا تدور لهم بخلد، ولا تخطر لهم على بال، ولكني أكتفي الآن - والآن فقط - بأن أصف ما كان لذلك من أثر تحس به مناهج الدراسة!

مازال علماء بعض الكليات يقرءون في المنطق من أول العام إلى اليوم، (وأرجو أن يلاحظ القراء أنه لم يبق من العام الدراسي إلا أيام معدودات)، فلم يخرجوا بعد عن مقدمات هذا العلم، ولم يصلوا إلى بحث من صميم أبحاثه!

وما زال الذين يدرسون علم الأصول من أول العام يتحدثون عن أدلة التشريع. أستغفر الله، بل يسردون أدلة التشريع التي هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فأين هم اليوم؟ إنهم لم يتجاوزوا تعريف الكتاب تعريفاً فنياً إلا منذ عهد قريب، ومضى العام في معرفة ما هو علو الأصول، وما منزلته بين العلوم، وما ثمرته، الخ. بل ليس في هذه الموضوعات خالصة، فإن فيها على كل حال بحثاً علمياً مفيداً، ولكن في العبارات التي عبر بها المؤلف عن هذه المسائل، وفيما نقده من هذه العبارات شراح الكتاب وحواشي الكتاب! فأي ضياع هذا الضياع؟ وعلى حساب من؟

لماذا نحتفظ بأمثال هذه الكتب، ونحرص عليها، وفيها هذا الإرهاق وهذا البطء؟ ولماذا نأزم بها أنفسنا وأبناءنا؟ ألأنها أثرية؟ فأقيموا معهداً للدراسات الأثرية إن كنتم حريصين على الدراسات الأثرية إلى هذا الحد

هذه بعض العيوب التي يحس بها الأزهريون الناهضون أنفسهم قبل أن يحس بها الناس لهم. وفي الأزهر شباب ناهضون مستعدون للإنتاج والعمل، شباب أحسن الأستاذ الزيات في تسميتهم (شباب المراغي) لأن الأستاذ الإمام هو قائدهم الروحي، ليس في الإدارة فقط، ولكن في العلم والخلق والإصلاح

ولقد وجد فيه الأزهر الحديث ضالته المنشودة، فهو أول شيخ للأزهر لا يتعصب على الثقافة الحديثة. وهو أول شيخ للأزهر اشترك اشتراكاً عملياً في التشريع لخير البلاد. وهو واضع قانون الطلاق ومذكرته التي هي المثل الكامل للفقيه الذي تتطلع إليه آمالنا. وهو الذي اشترك اشتراكاً فعلياً في إلقاء الدروس على طلبة كلية الشريعة، لتكون مثالاً يحتذى، ويمضي على سننه المدرسون

ص: 15

وهو في كل هذا وبعد كل هذا القدوة الحسنة لعلماء الأزهر وشبابِ الأزهر في تفكيره، وخلقه، وعلو همته، وسمو أغراضه

فمادام الأستاذ الأكبر المراغي يقود الأزهر، وما دام (شباب المراغي) مؤمنين بروحه، مقتفين لآثاره، فإن في الأزهر حياة، وفي إصلاحه أملاً إن شاء لله

وليستبشر الأستاذ الزيات، فان صرخته قد وجدت صداها، ولن تضيع!

محمد محمد المدني

ص: 16

‌خواطر يثيرها سائل

للأستاذ عبد المنعم خلاف

- 2 -

عودة إلى قيمة الإنسان - نظرية النشوء والترقي - سعي

الإنسان للخلود - الانقلاب الإسلامي - انقلاب القرن السابع

عشر - لماذا التشاؤم؟ - دين الله بغير عنوان - بعض أسباب

الإلحاد - ثياب رجال الدين - وحدة التعليم الديني والمدني -

جنايات الجمود في عصر إسماعيل

لما كتبت كلمتي الأولى تحت هذا العنوان آثرت أن أبدأ الحديث فيها بدفاع سلبي عن فكرة الدينية، وطلبت من حضرة السائل (البيروتي) أن يوازن بين حياة الإيمان وحياة الجحود كفرضين عقليين، وهو مجرد من أي تأثر نحو أحدهما، ولم أتعرض للمبحث الإيجابي في الأصول الأولى للدين - وهي: الإلهية، والنبوة، ومصير الإنسان إلى حياة أخرى - إنما أعطت السائل - ويلوح لي من كتابته إلى أنه من الدارسين للدين والفلسفة والتصوف والعلوم - إلى فكره هو أولاً، وإلى المقالات الإيجابية التي سبقت لي عن الإيمان، ثم بسطت الحديث في قيمة الإنسان، لأنها في رأيي أساس الاعتراف بكل الحقائق الدين والعلم والفلسفة.

وكنت أرجو أن تكون قراءة أمثال هذه البحوث، قراءة غير سطحية، حتى يتفطن القارئ لجميع حلقاتها، ويخلص إليه منها نتائج واضحة محدودة، ولكن - مع الأسف - جاءتني رسالة أخرى من مجهول آخر هو (ح. م)، يلفت نظري فيها إلى حياة مجتمعات النحل والنمل، وكثير من الحيوان والحشرات التي تعيش في نظام محكم لا تحيد عنه، ويبدو منها فيه إدراك واختيار. . .

وأنا لم أجهل نظم الحيوان والحشرات التي أشار إليها، بل إني مغرم بقراءة المباحث التي فيها، ولم أنكر عليها الإدراك والاختيار في مرافق معيشتها. وقد قال القرآن قبل أن يقول

ص: 17

العلم: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم). . .

ولكني أنكرت أن يسوي بين حياتها وحياة الإنسان أبي العجائب. . . الإنسان الذي يفكر فيها ويدرسها ويصورها ويكتب عنها ويتصرف فيها ويتغلب عليها، وهي لا تفعل شيئاً من ذلك! الإنسان الذي يولد وهو أقل منها قدرة على التغذي والدفاع عن نفسه، ثم ينمو ويترقى إلى ما لانهاية له في الفكر والعلم بما يزيد عن ضرورات حياته، بينما هي تقف في نموها وإدراكها عند حدود حفظ حياتها. . . الإنسان الذي خلقت هي له بدليل تسخيره لها في خدمته، ولم يخلق هو لها بدليل أنها لم تتغلب عليه وتسخره وتتصرف فيه. . . الإنسان الذي خطأ في خمسة آلاف سنة - هي عمر التاريخ الذي نعرفه - خطوات واسعة ثابتة متلاحقة، فتغيرت حياته من العرى والبساطة في المسكن والملبس والمدرسة والحرفة والعبادة، تغيراً عجيباً يكاد يجن منه آباؤنا الأولون، لو بعثوا ورأوا ما وصلنا إليه. . . بينما الحيوانات والحشرات واقفة كما هي منذ عهد أجدادنا الأولين بها.

وهنا الدليل القاطع على وجود روح سام من الله في الإنسان يدفعه إلى الأمام دائماً في هذا العالم، حتى يكشف عن كل سر في الطبيعة ويتصرف فيه، يدفعه إلى إدراك الكمال التام الذي ينتظره في عالم آخر.

فإن لم نعترف بقيمة سامية الإنسان خارجة عن نطاق حياته الحيوانية، فسوف تختلط أمام الفكر المثل، وتلتوي السبل، ونضل ضلالاً بعيداً يؤثر في خدمتنا للعلوم والآداب الرفيعة والعمران تأثيراً رديئاً.

وإن سوء الفهم لنظرية النشوء والترقي من أكثر الذين درسوها دراسة سطحية هي التي لونت نظرة الكثيرين إلى قيمة الإنسان بهذه الألوان المزرية التي تبعث على تحقيره وإسقاطه عن العرش الذي أجلسه عليه الدين منذ أقدم العصور. فبناء على تلك النظرة المبنية على سوء فهم للنظرية ذهبت عن الإنسان قداسته، واختلت مقاييس الأخلاق وموازينها، وكان في هذا أكبر دافع إلى التحاكم إلى قوانين الأدغال التي لا مجد فيها إلا للقوة العمياء والشهوات، والسيطرة الوحشية التي لا تعترف بخدمة الفكر، والعلم، ولذة الحياة في مثل أعلى.

وعلى فرض ثبوت نظرية النشوء - وهي للآن لا تزال فرضاً نظرياً يحتاج إلى حلقات

ص: 18

مفقودة ليصير حقيقة علمية - لا يجوز لنا أن نخلط بين الحياة الآلية التي هي (مضروب مشترك) في أجسام جميع الأنواع، وبين الروح الإنساني الملموح في رقي الإنسان الدائم السريع، ونزوعه المستمر إلى العالم الأكمل، ونفاذ فكرة في عالم المعاني المجردة، التي تبدو عجيبة رائعة في الرياضيات العليا والخفقات الروحية العليا، والمثاليات العليا التي لا يمكن تفسيرها تفسيراً (بيولوجياً) أو (فسيولوجياً)

ولقد أحس الإنسان حتى في عصوره جهالته بتفرده وامتيازه على سائر ما يحيط به في الطبيعية إذ وجد نفسه أقوى قدرة، وأوسع حيلة في التغلب على المشقات، وفي الرقي بالحياة رقياً مطرداً، ولذلك لم يستطع أن ينظر إلى القبر كأنه نهاية أبدية لتلك الحياة؛ بل وجد في إلهامه أن لابد وراء موته من امتداد لحياته على أسلوب آخر أو على أسلوب الدنيا. . .

فما بال الإنسان يشك الآن في قيمته السامية بعد أن تضخم أمامه ميراث علومه وآدابه، وعمر الأرض عمراناً، وافتن فيها افتناناً وصار فطناً لما فيها من جمال وأسرار؟!

إنه ما فتى منذ وجوده وهو يسعى لخلوده ليظل مغموراً بهذا الإحساس العجيب بالحياة، ولم يكن يستطيع أن يتصور الخلود في أول الأمر بأكثر من أن يعطي شعلة حياته إلى ولده. وقد وجد في ولده أكبر عزاء له عن موته وفنائه؛ ولكنه لم يقنع بهذا بل ظل يبحث جاهداً عن وسائل خلود جسده هو بذاته، فحنطه ونقش صورته على الألواح والتماثيل، ثم خطأ خطوة أخرى فخلد فكره بالكتابة، ثم خطا خطوات متلاحقة في العصر الحديث نحو هذه الغاية فخلد صورته الحقيقية (بالفوتوغراف) وصوته (بالفوتوغراف) وأنغام نفسه (بنوتة) الموسيقى وحركات جسمه بالسينما، ثم تصرف في الصوت والصورة والحركة ونقلها على أمواج الأثير فاخترق الحدود والكثافات بالراديو والتلفزيون في أقل من لمحة، ثم هو الآن يتجه ببحوثه إلى عالم الروح لعله يستطيع أن يتصرف فيها. . . والله أعلم بمستقبل هذا النوع العجيب الذي ارتضاء خليفة له في أرضه. . .!

فأنت ترى أنه مشغول دائماً بخلود حياته إذ يحس إحساساً فطرياً وعقلياً أنها لا يليق بها الفناء الأبدي الذي يرجعها إلى العدم المطلق. . .

وأحب أن ألفت الفكر إلى أمر هام جداً وذي قيمة كبرى في النظر إلى قيمة الإنسان: وهو

ص: 19

أن الحياة هذا النوع منذ ابتداء تيقظه لها في العصر التاريخي، وتقييد خطواته فيها حياة مطردة الرقي سائرة بسرعة إلى الوضوح والانكشاف وتحقيق الغاية من خلق النوع

ولقد عاش أدهاراً طويلة وهو يجهل أجناسه وأنواعه، غائباً في أوطانه الضيقة يحسبها هي وحدها كل الدنيا، لا يعلم حدود اليابس والماء، منثوراً لا رابطة تجمعه، جاهلاً بما في الكون من عوالم وأسرار، وقد كانت أديانه أدياناً خاصة. كل قرية فيها نذير يسدد حياتها بحسب ظروفها هي وحدها

ولقد كان الانقلاب الإسلامي قمة النضوج في العقيدة الدينية إذ جعلها عقيدة دولية وضع فيها الأسس لوحدة البشر، وتلاقيهم على معان مشتركة حتى يتأتى من وراء ذلك السعي إلى وحدة العمل والخدمة المشتركة، ولذلك لم تقبل الأرض أن يأتيها هدى من السماء على يد رسول بعد رسول الإسلام، وقد علم الله ذلك فأغلق باب الوحي وجعل محمداً (خاتم النبيين)، وقد صدق الزمان ذلك فلا مجال للجدال. ولم تعد الإنسانية تقبل ظهور البطل في صورة نبي، وقد فطن إلى ذلك (كارليل) في كتاب الأبطال، وهذا هو معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع:(إن الزمن قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض) أي أن الإنسانية قد بدأت بعد الانقلاب الإسلامي دورة زمنية جديدة، وحقاً يجد كل من يتفرس ويستقرئ التاريخ أن عصراً عقلياً جديداً قد ابتدأ بظهور الإسلام وانفساح الإمبراطورية العربية التي احتضنت جميع علوم العالم القديم ومعارفه وأنمتها وحملتها إلى العالم الحديث. فالانقلاب الإسلامي ينبغي أن تجعله الإنسانية بدء تاريخ رشد للعقل ووحدة للدين، وستفعل ذلك في يوم لا ريب فيه

والآن صارت الأرض كقطر واحد بأدوات الاتصال السريع وكل أمة تعلمت لغات غيرها، وارتبطت مجموعات كبيرة من الأمم برباط واحد. واختلط الأبيض بالزنجي والشرقي بالغربي وسكان الجزر النائية الغائبة في المحيطات بسكان للقارات، وصار الإنسان العادي يطلع في كل صباح ومساء على أخبار العالم الأرضي كله، ويرى حياة جميع الأمم في السينما. . . وهذه كلها مقدمات لنتائج لا شك فيها عند من يقيس ويعتبر بالماضي

وإذا ثبت أن الانقلاب الإسلامي كان بدء عهد عقلي وقلبي للإنسان، فقد ثبت أن القرن السابع عشر الميلادي كان بدء عهد عملي وعلمي له. وبذلك طار الإنسان بجناحين قويين

ص: 20

من الحياة الفكرية والحياة العملية إلى الغاية من خلقه

فليس من الصواب ولا من الإنصاف أن ننظر نظرة تشاؤم إلى حاضره ومستقبله بعد أن رأيناه يبني حياته على العلم والفكر والنظام بناءً كان يعد في الماضي من أعمال السحر والإعجاز وخوارق العادات. . .

ومن النظر العامي أن نزعم أن الإنسانية الآن أحط منها في الماضي. . . ولست أدري ما مبعث هذا الزعم؟ أهو ملاحظة فساد في العقيدة الدينية؟ إن العقيدة الدينية الآن أصح منها في الماضي؛ فهي في أكثر الأمم المتعلمة بعيدة عن الشرك والوثنيات والخضوع الأعمى للكهنة. . . وما أصدق أن عاقلاً يخلي الطبيعة من عقل يدبرها ولكنه ليس إله الكهنة؛ وعما قريب يذهب ما في بعض الأديان من بقايا الوثنية والإشراك ولن يبقى للإنسانية إلا دين الفطرة والعقل بغير عنوان من يهودية أو مسيحية أو بوذية أو غيرها. وهذا هو المعنى الحرفي اللغوي لكلمة (الإسلام)(فالإسلام) ترجمة ل - (دين بغير عنوان). فأي أمري، يؤمن بخالق واحد للطبيعة ويحسن العمل في الدنيا فهو (مسلم) والمعنى الحرفي لكلمة (إسلام) هو الانقياد لحكم الله في الطبيعة

وأقرأ إن شئت: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم. . . قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. بلى من أسلم وجهة لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون). . . والآيات كثيرة في هذا، ولا محل الآن للخوض في هذا الموضوع. . .

وقد صارت الأديان التي تحتضن بقايا الوثنيات تختفي وتفر من نور العلم والفكر الحر ويزعم سدنتها أن الدين لا مناقشة، ولا تحاكم للعقل فيه. . . وهذا أول الاعتراف منهم بأنهم على باطل عما قليل يذهب مذموماً مدحوراً إلى قبور الخرافات والأباطيل

وأؤكد أن كثرة حوادث انفلات المتعلمين من العقيدة الدينية ليست ناشئة من أن عقولهم لم تقتنع بالأفكار الأولية الرئيسية فيه. . . وإنما منشؤها أن هذه الأفكار الرئيسية قدمت لهم في هلاهل من الخرافات والمتناقضات والألغاز، ولأنهم وجدوا أن تاريخ رجال الدين مع الأسف الشديد تاريخ مملوء بالجمود ومواقف العداوة للعلماء الطبيعيين الأولين الذين كان لهم فضل الاهتداء إلى مفاتيح العلوم التي نالت الإنسانية منها كثيراً من الخير والبركات

ص: 21

وصار رجال الدين الحاليون أنفسهم يتمتعون بها ويأخذون بمنافعها كما يأخذ سائر الناس بعد أن كان أسلافهم يصبون عليها شآبيب السخط واللعنات ويحرقون وينكلون بمن يجرؤ على التحدث عنها في الفلتات بعد الفلتات. . .

ومنشؤها كذلك أن رجال الدين منعزلون عن حياة أكثرية الناس لهم لباس خاص ويكادون يكون لهم منطق خاص بهم وحدهم. والحياة الحالية حياة عظيمة السلطان على النفوس تغري جميع بنائها بالاندماج في موجاتها، وتعد من يعتزلها وينأى عنها رجلاً فيه مس ونقص وشذوذ. وكل مخلص للدين مقدر آثاره في الحياة وفقرها إليه وفسادها بدونه، يرى من الخطر أن يظل لرجال الدين ثيابهم الكهنوتية وطقوسهم التي ما أنزل الله بها من سلطان لأنها توهم الناس أن الدين في تلك الثياب والرسوم العجيبة، ويرى من الخطر أيضاً أن يفرق شباب الأمة فئتين: فئة لعلوم الدنيا منذ التعليم الابتدائي وفئة لعلوم الدين منذ التعليم الابتدائي. وليس بين الفئتين مرحلة يسيرون فيها جنباً إلى جنب حتى يتنفسوا في جو واحد ويقيسوا بمقياس واحد. وإذا كان هذا التفريق قبيحاً في أي أمة فهو في الأمة الإسلامية أقبح القبح! لأن الإسلام هو المعيشة بالجسد والروح عيشة متناسبة، وهو دين يجعل التمتع باللذات المحللة عبادة إذا ذكر اسم الله فيها. . . ويجعل خدمة العلوم الدنيوية المفيدة فرضاً يحاسب الله على إهماله، ويطلب من الإنسان أن يعيش عيشة رحبة عميقة بكل قوة في تكوينه. فلماذا التفريق في التعليم وفي اللباس تفريقاً يوحي إلى النفوس بمعان من التعصب والانحياز، ويلقى في روع الناس أن حياة الدين منفصلة عن حياة الدنيا؟!

إن اليوم الذي توحد فيه برامج التعليم في المرحلتين الابتدائية والثانوية في جميع المدارس المدنية والمعاهد الدينية بحيث تحتوي البرامج على التربية الروحية التهذيبية والعلوم المفيدة للجميع. ويوحد فيه الزي بين أبناء الأمة جميعاً سواء أكان عمامة للجميع أم أي لباس للجميع، هو اليوم الذي تصير فيه الحياة الفكرية والروحية مزيجاً مؤتلفة فيه جميع عناصر الحياة اللازمة لكل نفس بدون تكلف أو احتراف. وهذا هو ما كان عند الرعيل الأول من المسلمين في زمن الرسول وخلفائه. فقد كان الرسول جندياً مع جنوده، وعاملاً بيده مع عماله، وعابداً وحاكماً ورجلاً يعيش بجميع قوى جسده ونفسه، يلبس جميع ألوان ثياب قومه، ولم يكن يتميز على أصحابه في شئ من السمات الظاهرة. فمن تبعه صار

ص: 22

يلبس مثله. ولذلك كانوا كلهم في مظهرهم رجال الدين ودنيا يتفاضلون ويتمايزون بالعقل وكثرة العلم لا بالسمات والشارات. فمن كان عنده علم من الدنيا أفتى فيه وبذل منه وعرفه الناس به فقصدوه من أجله، ومن كان عنده علم من الدين أفتى فيه وبذل منه عرفه الناس به فقصدوه. وليس وراء ذلك فارق ما. فلا جرم بعد ذلك ألا تكون هناك شقة خلاف وهوة شقاق بين الدين والدنيا عند المسلمين الأولين بمثل ما هما عند المسلمين المتأخرين الذين ورثوا ميراث هذا الخلاف عن أمم الغرب، وزعم المبطلون أنه أصل عندنا كما هو عندهم

وقد كان من الواجب - لو فطنت الأمم الإسلامية - أن تظل الدراسات الكونية ضمن نطاق العلوم التي تدرس في المعاهد الدينية، كما كان الشأن عند المسلمين في الدولة العباسية والدول التي تلتها إلى أن جاءت نظم العصر الحديث في عهد محمد علي. إذاً لظل العلم بما في الدين وما في الدنيا وحدة غير مجزأة يخرج الإنسان المتحلي بها كامل القلب والعقل تلتقي عنده الثقافات ويمرن على التوفيق بينها، وبناء الحياة الاجتماعية عليها. فما كان عند المسلمين سبب يدعو إلى التفريق في المعاهد وإخراج علوم الدنيا عن نطاق الدراسات الدينية. وقد ظل الأزهر والنجف والزيتونة، وجامع القيروان، ومساجد بغداد، ومعاهد الشام يدرس فيها الفلك والحساب، والرياضيات والطب، والطبيعيات والموسيقى إلى أن أتى العصر الحديث.

وقد كان المتعلم لا يخرج إلا من هذه المعاهد وأمثالها. ولذلك أخذ محمد علي - منشئ دراسات العلم الحديث في البلاد العربية - أغلب أفراد بعثاته إلى أوربا من طلبة الأزهر، إذ كانوا هم الطبقة المثقفة من الشباب. وقد كان بعض العلوم الدينية يدرس في عهد محمد علي في المدارس التي أنشأها للهندسة والطب وغيرهما

ولكن جمود بعض المشايخ في عصر إسماعيل وامتناعهم عن إدخال العلوم الحديثة بنظمها الأوربية في الأزهر، هو الذي جني على الإسلام كما جني عليه امتناعهم عن إنشاء قانون مستمد من جميع مذاهب الشريعة الإسلامية يساير روح العصر الحاضر ويكون منطبقاً على ما جد في الحياة من مشاكل ومطالب. حتى اضطروا إسماعيل إلى فتح مدارس خاصة وإنشاء محاكم تحكم بغير الشريعة الإسلامية

إن الأوربيين اضطروا إلى انتزاع دراسة العلوم الكونية من أحضان الأديرة والكنائس،

ص: 23

لأنها لا تسمح بالاعتراف بالحقائق التي تناقض وتهدم تعاليمها، بل كانت تئدها في مهدها، حتى جاءت الثورات الإصلاحية التي ألزمت الكنيسة حدودها، وجعلت الناس يدخلون الكنيسة بعقل خاص، ومعاهد العلوم بعقل آخر. ونحن المسلمين ولله الحمد لم تحدث عندنا معارك وخصومات بين الفريقين تجعل العلاقات بينهما مستحيلة، وليس في ديننا ما نخاف عليه من حقيقة كونية، بل بالعكس ديننا يخدم بالعلم الطبيعي. فلا يصح أن نفرد هذا بمعاهد خاصة وذاك بمعاهد أخرى. بل الواجب أن يسير جميع التعليم في مجرى واحد إلا في مرحلة التخصص

وفي هذا تدارك سريع لحالة تخشى عواقبها على الدين والأخلاق، وفيه توحيد وتوجيه لقلوب الشباب وعقولهم إلى مثل أعلى واحد. وفيه توكيد لذلك المعنى السامي العظيم: وهو أن الدين عندنا عقل وعلم، والعلم عندنا دين وخلق.

(القاهرة)

عبد المنعم خلاف

ص: 24

‌زفرة مصدور!

للأستاذ علي الطنطاوي

إلى أخي شكري فيصل:

قرأت كلمتك التي أوحى إليك الحنين معناها، فوعيت وحيه وبلغته (الرسالة) وأهديته إلى صاحبها فأثارت قراءتها ألماً في نفسي دفيناً، وبعث فيها شكاة ميتة، فأخذت القلم أكتبها لتكون جواباً لكلمتك. وليغفر لي القراء النحو الذي نحوت إليه فيها، وليغفر الزيات فإنني متألم. . .

ولابد من شكوى إلى ذي مروءة

يواسيك أو يسليك أو يتوجع

وما عجب أن أدخل بينك وبين الأستاذ الكبير الزيات، فإنه أخي الأكبر، وأنت أخي الأصغر، وأنا أحمل له من الحب والإكبار، على أني لم ألقه أبداً، مثلما أحمل لك من المودة والحب على طول معرفتي بك ناشئاً وشاباً، وعلى أني سأعرفك أدبياً كبيراً إن شاء الله

أنا الآن في شرفتي التي تعرفها. . . أطلّ على دمشق من فوق خمس جواد علوها مائتا متر، فأراها كلها كصفحة الكف، وقد انتصف الليل، وانصرف السامرون آنفاً بعد ما أحيوا ليلة من الليالي التي تعرف مثيلاتها في دارنا، وسكن الكون وشمله الجلال، وأنا جالس وحدي أفكر، لا أفكر في دمشق التي حننت إليها، وشاقتك ذكراها، دمشق التي باكرها الربيع فضحك في غوطتها الزهر، وغمر جوّها العطر، وماست في جناتها الحور الفاتنات، من الحور والصفصاف ومن بنات أمنا حواء، لا أفكر فيها لأن قلبي لا يتفتح الآن لإدراك الجمال، وقريحتي لا تنشط لوصف الربيع، ومكان الشعر من نفسي مقفر خال. ومالي لا تخمل قريحتي، ويذوي غصن الشعر في نفسي، وقد عدت إلى دمشق، على طول شوقي إليها وازدياد حنيني، وتركت أهلاً في العراق كراماً، وبلداً طيباً، وأمة حية، تحمل اللواء، وتهز العلم، وتتقدم لتجمع الشمل الشتيت شمل العرب المتفرق، وتوحد الشعب وترجع المجد والجلال، وتؤلف بين أهل الضاد من حاضر وباد. . . تركت ذلك كله وعدت إلى بلدي الأول، ويا ليت بغداد كانت هي بلدي الأول. . . فلم أجد في دمشق إلا النكران والأذى ولم أجد إلا ما يسوء ويؤلم. . .

ولكن هل يشكو امرؤ بلده؟ هل يهدم بيده داره؟

ص: 25

إن تكلمت قال الحساد بغي وظلم وإن سكت قال الشامتون رضي أو عجز، والقلب بالسكوت يتفطر، والصدر من الصمت يتمزق، والكلام. . . هل يجوز الكلام؟

يا ليتني بقيت بعيداً أقنع من بلدي بهذه الصورة الحلوة التي تتراءى من خلال أحلام المشوق الولهان، ويوحي بها الحنين الطاغي، يا ليتني، وهل تنفع شيئاً ليتني؟

فاقنع أنت بهذه الصورة ودع دمشق. ولكن لا، إنك لست مثلي، إنك ستعود فتلقى مكانك في غرفة المدرسيّن معداًّ لك ينتظرك. وسيظلمونك فيسوّون بينك وبين هؤلاء المساكين الذين بعثوهم ليتعلموا العربية في ديار العجم فجعلوهم بذلك سخرية الساخرين. أما أنا فلم أبلغ مرتبة هؤلاء، ولا أنا ببالغها في يوم من الأيام، وقد عمي أولو الأمر والنهي عن أدبي وعلمي وعما نشرت في الكتب والمجلات والصحف وهو شئ يملأ ثلاثة آلاف صفحة على أقل تقدير. هبْ أن فيها كلاماً مرصوفاً لا معنى وراءه تجد أني حملت في كتابتها ورصفها عناء، فكيف وكلها ثمرة التأمل الطويل، ونتيجة كد الخاطر وعصر الدماغ، وما منها شئ سرقته عن أديب من أدباء فرنسا ولا إنكلترا!. . . عمي أولو الأمر عن هذا كله ولم يعدلوه بهذه الورقة السحرية التي جاء بها أولئك من ديار العجم يشهد لهم فيها من يسكن هناك، بأنهم صاروا يفهمون العربية، وغدوا أهلاً للتصدر لتدريسها. . . ولم يجدوني أهلاً لأكثر من (أستاذ معاون)!

أفيكون ظلماً مني وعدواناً، إذا أعلنت ما أصابني، وشكوته إلى القراء، وهم أصدقائي، لم يبق لي من صديق غيرهم؟ لم يبق لي صديق في هذه الحياة، إنك لتعلم ذلك، ولكني لا أشكو!

إنهم يقولون إني عنيد، وإني مشاغب، وإني أثير المشاكل؛ ولست أفهم لهذا كله إلا معنى واحداً، هو أني أوثر الصدق وأعلمه ولا أفعل ولا أقول إلا ما أطمئن إلى أنه الحق. . .

وهل كان ذنباً أنى حميت للفضيلة تمتهن، وللأخلاق تهان، فناضلت عنها وقاتلت، وقلت لتلاميذي ناضلوا عنها وقاتلوا؟. . .

وهل كان ذنباً أني غضبت لمحمد أن ينكر نبوّته ويجحد رسالته، جاهل غرير، في حفلة أقيمت لتكريم محمد وتمجيد ذكراه؟ وهل كان ذنباً أني لا أقول لسواد الليل أنت أبيض مشرق، ولا أقول للأعور ما أحلى عينيك؟. . .

ص: 26

هذه هي ذنوبي التي خسرت من أجلها صداقات الأصدقاء وكسبت عداوات الرؤساء، وربحت خصومة الجاهلين، وعُددت بها من كبار المشاغبين. . .

لقد قارب الفجر، وانطفأت أنوار المدينة. . . لقد مرّ عليّ ساعتان وأنا أفكر، وكل شئ من حولي ساكن ميت، وكذلك حياتي!. . . إنها خالية منذ سنوات، ليس فيها شئ متحرك. . . فأنا أعيش عيش الحالمين، أرقب أبداً الحادث الذي يهز حياتي الساكنة، ويحرك مواهبي الخاملة، ويدفعني إلى العمل، ولكن انتظاري قد طال حتى كدت أيأس من الانتظار. . .

إنك تعزيني بما حصلت من شهرة وما نلت من مكانة، ولعل في ذلك تسلية لي لو كنت أحس به أو ألمسه، إنني لا أحس والله بهذه الشهرة، إنني كالمغني الأصم الأعمى، يطرب الناس فيصفقون له ويهتفون، ولكنه لا يسمع ولا يري، فينصرف حزيناً يحسب أنه خاب وأساء. . .

إن أهل بلدي ينكرون عليّ كل شئ حتى الأدب

لقد قرأت أمس مقالة سقطت إليّ عرضاً، فرأيت فيها مقالاً يخبط فيه صاحبه خبط عمياء، فيعد أدباء دمشق أو الذين يراهم هو أدباء، فيذكر فيهم كل موظف في وزارة المعارف، وكل تلميذ يدرس في أوربة، وكل مدرسي التاريخ والجغرافيا، ولكنه لا يذكر علي الطنطاوي ولا سعيد الأفغاني؛ أفسمعت أبلغ من هذا الجهل وهذا النكران؟

هذه حالنا في دمشق التي تحن إليها، وتحيي الليالي تفكر فيها، وتتراءى لك صورتها حيال الأفق وأنت قائم عند قنطرة الزمالك أو مرتق ذروة الهرم، وتساهر النجم تفكر فيها وتعد الأيام للوصول إليها، دمشق صارت كالهرة تأكل من حبها بنيها

لقد حمل إلىَّ البريد رسائل جمة ممن أعرف ومن لا أعرف يسألني أصحابها لم لا أكتب في الرسالة في هذه الأيام؟ فوجدت في هذه الرسائل عزاء، وشكرت لأصحابها، وتوهمت حين قرأتها أن في الدنيا من يفكر في، ويقرأ ما أكتب، ولكني لم أجب واحداً منهم، وبماذا أجيبهم؟ وكيف أقول لهم إن دمشق قد قتلت في نفسي روح الأدب؟

كيف أشكو دمشق التي أحبها؟ وكيف أذمها بعملها؟

ثلاثون سنة ما خرجت منها إلا بشيء واحد، هو أني رأيت الحياة كمائدة القمار، فمن الناس من يخسر ماله ويخرج ينفض كفه، ومنهم من يخرج مثقلاً بأموال غيره التي ربحها، ومنهم

ص: 27

من يقوم على الطريق يمسح الأحذية، ومن يمد ' إليه حذاءه ليمسحه له، ومن ينام على السرير، ومن يسهر في الشارع يحرس النائم، ومن يأخذ التسعة من غير عمل، ومن يكد ويدأب فلا يبلغ الواحد، وعالم يخضع لجاهل، وجاهل يترأس العلماء، ورأيت المال والعلم والخلق والشهادات قسماً وهبات، فربَّ غني لا علم عنده، وعالم لا مال لديه، وصاحب شهادات ليس بصاحب علم، وذي علم ليس بذي شهادات ورَبّ أخلاق لا يملك معها شيئاً، ومالك لكل شئ ولكن لا أخلاق له، رأيت في مدرسي المدارس من هو أعلم من رئيس الجامعة، وبين موظفي الوزارة من هو أفضل من الوزير، ولكنه الحظ الأعمى، أو هي حكمة الله لا يعلم سرَّها إلا هو، ابتلانا بخفائها لننظر أنرضى أم نسخط

ولكن ما أضيع أيامي في مدرسة الحياة، إن كان هذا كل ما تعلمت منها في ثلاثين سنة!

لقد أذَّن الفجر وأنا ساهر، وأضيئت منارات دمشق التي لا يحصيها عدّ، ورنَّ صوت المؤذنين في أرجاء الوجود صافياً عذباً: الله أكبر. . . الله أكبر. . .

الله أكبر من كل شئ، اللهم إني أرفع إليك شكاتي. . .

اللهم إني قد نفضت يدي من الناس، وإني أسألك أمراً واحداً، ألاّ تقطعني عنك، وأن تدلني عليك، حتى أجد بمراقبتك أنس الدنيا، وسعادة الأخرى. . .

علي الطنطاوي

ص: 28

‌النقابات الإسلامية

للأستاذ برنارد لويس

ترجمة الأستاذ عبد العزيز الدروي

- 2 -

كانت الحركة الإسماعيلية قوة تهذيبية عظيمة، اختصت بإنشاء مدارس وجامعات أشهرها جامعة الأزهر في القاهرة وبتصنيف دائرة معارف واسعة تذكرنا بحركة التأليف الأنسكلوبيدية في فرنسا في القرن الثامن عشر. وفي هذه الموسوعة المسماة (رسائل إخوان الصفا) نجد تقريباً كل الآراء التقدمية في ذلك العصر وإشارات قليلة ثمينة إلى نظم تشكيل الجمعيات، ومنها نعلم بوجود جمعيات لإخوان الصفا في جميع أنحاء الإمبراطورية تعمل لبث آرائها بين كل طبقات الشعب وخاصة بين الصناع وأصحاب الحرف

يرى الأستاذ ماسنيون أن الحركة الإسماعيلية هي التي أوجدت الطوائف الإسلامية وأعطتها ميزتها الخاصة التي حافظت عليها حتى الآن، إذ يقول: إن الطوائف الإسلامية كانت قبل كل شئ سلاحاً شهره الدعاة الإسماعيليون في كفاحهم لضم الطبقات العاملة في العالم الإسلامي لتكوين قوة منهم تستطيع قلب الخلافة وكل ما تمثله؛ وللتوصل إلى استغلال أصحاب الحرف أوجدوا الطوائف وسيطروا عليها. وهكذا أصبحت لها خاصيتان: (أولاً) كونها أصنافاً للحرف و (ثانياً) كونها مؤسسات أخوية إسماعيلية

دعنا نفحص الدلائل التي تؤيد هذه النظرية. يجب قبل كل شئ ملاحظة اهتمام الإسماعيلية العظيم بطبقات أصحاب الحرف فقد خصص فصل كامل في رسائل إخوان الصفا للنظر في الحرف اليدوية وتبويبها وتصنيفها ونبلها. وتهمنا بصورة خاصة الفقرة التي قسم فيها الذين لا يمتهنون الحرف كما يلي: قسم لا يمتهن الحرف كبرياء وأنفة، وقسم لزهده كالأنبياء، وقسم يقلدهما لكسله وقلة نشاطه كالشحاذين وغير الماهرين من الصناع أو لتراخ في الطبيعة وضعف في العقل كالنساء وما يشبههن من الرجال. فالإشادة المقصودة بأصحاب الحرف بينه، والأمثلة الأخرى على اهتمام الإسماعيلية بالحرف كثيرة. وهناك عامل ثان وهو الفرق بين وضعية الطوائف في عهد الفاطميين وبينها في عهود الدول

ص: 29

السنية. إذ كانت الطوائف تحت الحكم السني مضطهدة وخاضعة لقيود لا تعد، ومحرومة من حقوق قانونية. وكان هناك موظف حكومي يدعى المحتسب مهمته الأساسية مراقبة الطوائف وقتل أية محاولة للعمل المستقل فيها منذ المبدأ، ولدينا أدب ممتع ضد هذه الطوائف يظهر قلة ثقة الدول السنية بها، ويظهر ذلك خاصة في كتب الحسبة أي الكتب التي كتبت لفائدة المحتسب عن أخطر أهل الصنائع وعن احسن الطرق للسيطرة عليهم، وقد وصلتنا هذه الكتب من محلات متباينة كالقاهرة وحلب ومالقة

نلاحظ الفرق في وضعية الأصناف تحت حكم الفاطميين، إذ كانت تتمتع برخاء عظيم. فقد كانت معترفاً بها من قبل الدولة، ويظهر أنها كانت تتمتع بامتيازات كثيرة، وأنها لعبت دوراً هاماً في النشاط التجاري الذي حصل في العهد الفاطمي، ففي هذا العصر نشأت نقابة الأساتذة والطلاب التي تؤلف الجامعة العظيمة أي الأزهر الذي مر ذكره. ثم قضى صلاح الدين على الخلافة الفاطمية 1171م، وأعيدت مصر إلى حكم السني وفي الحال جردت الطوائف من أكثر حقوقها وامتيازاتها وأخضعت لنظارة دقيقة

وهنالك عامل ثالث يؤيد هذه النظرية، وهو الأثر القوي الذي تركه النفوذ الإسماعيلي في الطوائف بعد اختفاء الدعوة الإسماعيلية بزمن طويل. إذ يقول الأستاذ كوبريلي إن الطوائف في أناضوليا في القرن الثالث عشر كانت لا تزال تحتفظ بنظام متدرج في التنشيء يشبه بدقة النظام الإسماعيلي، كما أن دراسة أصناف مختلفة في أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي أظهرت آثاراً مماثلة. وتظهر رسالة لأحد الأصناف المصرية كتبت في القرن السادس عشر - كتاب الذخائر والتحف في بير الصنائع والحرف - كرهاً شديداً للحكم العثماني الذي يعتبر سبب تعاسة رجال الأصناف، ونجد في الرسالة فكرة انتظار المهدي لينقذ البؤساء

وهكذا نجد الآثار الإسماعيلية التي هي ضد التعاليم السنية تستمر بين الأصناف، ونلاحظ العبارة التالية في هذه الرسالة (إن العلم يعطلونه وبعد أن تذهب دولة العثمان يطلبونه ويقوم سيدي محمد المهدي لكل حرفة لها صدر في الصحابة ويأمرهم بإتباع الطريق فيدخلون السياج ويسألون كل نقيب عارف يصير الأمر له محتاج حتى يقوم الدين ويصلح اليقين ويبطل العقد والثلاث ويضرب أعناق النقباء الجاهلين والمشايخ المتلبسين)

ص: 30

وأهم من ذلك وجود أفراد من طوائف مختلفة بين أفراد الأصناف، وهي خاصة تميز هذه الأصناف بدقة عن النقابات الأوربية، إذ يقبل المسلم والمسيحي واليهودي تحت نفس الشروط فيها، حتى إن بعضها يغلب فيها غير المسلمين كأصناف الأطباء والمتعاملين بالمعادن الثمينة. . . الخ. وهذا يظهر الرابطة الدقيقة بين الأصناف والدعوة الإسماعيلية

يتضح من كل هذا أن الحركة الإسماعيلية لعبت دوراً هاماً في تطور الأصناف الإسلامية، وأنها تركت أثراً عميقاً خالداً في حياتها الداخلية، وإن لم يوجد برهان واضح يبين أن الحركة الإسماعيلية أوجدت الأصناف، ولكن الأكثر احتمالاً هو أن الإسماعيلية أعطت مصدراً جديداً ومعنى جديداً لتشكيلات كانت موجودة من قبل. فهل كانت هذه التشكيلات من أصل بيزنطي، أو كانت تقليداً لمؤسسات بيزنطية معاصرة خارج حدود الإمبراطورية الإسلامية؟ هذا ما يستحيل البت فيه. فأثار تشكيلات الحرف في الفترة التي سبقت الحركة الإسماعيلية والعامل الإغريقي العظيم في الأفكار يؤيد تفسيراً من هذا القبيل

وهكذا تكون النقابات الإسلامية عبارة عن نظام يتركب من هيكل موروث من العالم اليوناني الروماني وسلسلة من الآراء جاءت على الأخص من الحضارة الفارسية الآرامية وأنتجت حركة إسلامية إغريقية تهذيبية فلسفية تكتلية (على هيئة جمعيات) في نفس الوقت

وفي أوسط القرن الثالث عشر حدثت فاجعة الفتح المغولي الذي حطم الخلافة وأخضع المسلمين من سنيين وغيرهم على السواء إلى سيطرة شعب أجنبي كافر، وأفضى إلى طمس التمييز الاجتماعي بين الاثنين (السنة وغير السنة) وسهل نوعاً ما اعتناق الجماهير للمذهب السني. وباختفاء الحركة الإسماعيلية تحرج مركز الأصناف في المجتمع السني، إذ بقيت بعض الصعوبات، فأصحاب الحرف بقوا غير آمنين في نير الطبقات الحاكمة في الدولة. وربطوا أنفسهم بميول دينية هي وإن لم تكن خارجة عن الدين لم تكن دائماً فوق الشك، وهذا هو التصوف، فإلى زمن قريب كانت تصدر بعض التهم من علماء السنة ضد الأصناف كالأحكام التي أصدرها الفقيه السوري العظيم ابن التيمية، أو التي أصدرها الشيخ العثماني (منيري بلغرادي) في القرن السابع عشر. وعلى كل فبالرغم من كل هذا العداء كانت حالة الأصناف في الفترة التي تلت الفتح المغولي متوطدة، واستمرت كذلك حتى حركة الإصلاح التركي في القرن التاسع عشر التي انتهجت خطة أدت إلى انحطاط

ص: 31

الأصناف بصورة عامة. وترجع أكثر الوثائق وكل الأخبار التي لدينا عن النظام الداخلي للأصناف إلى فترة التي تلت العهد المغولي

وقبل النظر في النظام الداخلي يجدر بنا أن نفحص مشكلة هامة في تاريخ الأصناف الإسلامية. فحوالي نفس الوقت الذي نجد فيه الأصناف تختلط بطرائق الدراويش والصوفية نجدها على اتصال أشد بنظام جديد وهو الفتوة. أما أصل حركة الفتوة فغامض جداً، وليس هذا بمحل البحث عن ذلك. ويكفي القول بأن تشكيلات الفتوة انتشرت في القرنين الثاني عشر والثالث عشر في جميع البلاد الإسلامية. وجمعية الفتوة هي مجموعة شبان (فتيان) يربطهم قانون أو دستور ديني وأخلاقي يحتوي على واجبات وشعائر منظمة. فهم مسئولون عن ممارسة بعض الفضائل والقيام بخدمة عسكرية لخير الإسلام. ويظهر من هذا أن الفتوة تشكل نظاماً إسلامياً يوازي الفروسية عند الأوربيين حتى أن فون همر ذهب إلى أن أصل الفروسية الأوروبية إسلامي

وفي الفترة التي تلت الفتح المغولي مباشرة نجد الفتوة تميل أكثر فأكثر إلى الاتصال بالطرائق الصوفية وبأصناف الحرف بواسطة رابطة العضوية (أي الانتماء إليها في نفس الوقت). بدأ هذا التطور في الأناضول، وأنتشر بسرعة في أنحاء العالم الإسلامي، ولم يمضي زمن طويل حتى أصبحت كلمتا صنف وفتوة ذاتي مدلول واحد. أما كيف بدأ هذا الامتزاج، وعلاقة هذه التشكيلات المختلفة، فأمر غامض لم يوضح بصورة كافية حتى الآن

يلاحظ تشنر ثلاثة أدوار في تاريخ الفتوة، وهي ثلاث خطوات لانحلال اجتماعي مطرد: فيقول إن حركة الفتوة بدأت كحركة فروسية أرستقراطية، ثم تحولت فصارت حركة الطبقة المتوسطة في القرن الثالث عشر، وأخيراً انحطت في القرن الخامس عشر إلى أكثر من ذلك وأصبحت حركة للعوام. وهكذا اندمج الفتيان في أصناف الحرف. ومن جهة أخرى يقول ثورننج أن الصوفيين وأصحاب الحرف قلدوا جمعيات الفتوة مقتبسين شعائرهم ومثلها العليا وأخيراً اسمها. وأكثر هذه التعليلات إقناعاً هو تعليل (كوردلفسكي) الذي يتفق مع كوبرولو على أن زمن اندماج مجموعات الفتوة بالأصناف هو في القرن الثالث عشر في الأناضول، ويربط ذلك بنظام هام هو نظام (أخيان روم) أو (أخوة الأناضول). فقد ظهرت أخوة في أناضوليا لأول مرة في السنوات التي تلت الفتح المغولي مباشرة، إذ كانت

ص: 32

الفترة فترة فوضى واضطراب عام؛ فالمغول الذين دحروا الدولة السلجوقية عجزوا عن التعويض عنها، وبذا اضطربت الإدارة. وفي هذا الدور الحرج تظهر الأخوة كمؤسسة قومية واسعة لها الرغبة والقدرة على التنظيم.

(يتبع)

عبد العزيز الدروي

ص: 33

‌من شجو الربيع

عيناك. . .!

للأستاذ محمود حسن إسماعيل

عَيْنَاكِ لِي قَبَسَانِ فِي

زَمَنِي المُحَيِّرِ هَادِيَانْ

وَشُعَاعَتَانِ مِنْ الطَّهَا

رَةِ وَالقَدَاسَةِ وَالحَنَانْ

وَسَكِينَتَانِ بِوَاحَةٍ سَجْ

وَاَء عَذْرَاَء الجِنَانْ

سِرُّ الإلهِ بهاَ خَفِيُّ

الغَيْبِ مَعْصُومُ اللِّسَانْ

أَشْجَتْ خَياليَ مِنْهُمَا

في وَحْدَتَي أُنُشُودَتَانْ

تَتَهادلَانِ عَلَى رَبَابٍ

لَمْ تُلَامْسَهُ بَنَانْ

عَيْنَاكِ لَوْ تَدْرينَ

فِي صَحَرَاءِ عُمْرِيَ وَاحَتانْ

وَبُحَيْرتان بِعَالمٍ فَوْ

قَ الغُيُوبِ رَهِيَبتَانْ

بالحُبِّ والأنْغَامِِ وَال

خَمْرِ المُقَدَسِ تَخْفُقَانْ

الله أكبر! بَلْ هُمَا

مِنْ نأي رَبِّكِ هَمْسَتَانْ

وَهُمَا لِرُوحِي فِي السَّنَا الْ

جَاثِي لَدَيْكِ عِبَادَتَانْ

بَلْ نَشْوَتَانِ، وَسَجْدَتَا

نِ وفِتْتاَنِ، وَتَوْبَتَانْ

وَهما لِحُبِّيَ لَوْ عَلِمْ

تِ مِنَ الضِّيَاءِ تَمِيمَتَانْ

تَقيَانَ قَلبيَ مِنْ

أَذى الدُّنْيا وَشَعْوَذَةِ الزَّمَانْ

. . . . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . .

عَيْناكِ عَبْدُ سَنَاهُما

يَفْنَى وَلَا. . . .

. . . . لَا تَدْريانْ!

(ديوان المعارف)

محمود حسن إسماعيل

ص: 34

‌من وراء المنظار

صاحب الديوان الظريف

أما أنه ظريف حقاً فذلك ما تبين من هذا الحديث الذي أسوقه عنه، ولكم تمنيت لو كان أصحاب الديوان جميعاً على شاكلة هذا الشاب الذي ساقتني الظروف السعيدة إليه. . .

ولن يتسع المجال إذا أردت أن ألم بنواحي ظرفه جميعها ولذلك فحسبي أن أقصر الحديث على آخر لقاء كان بيني وبينه

دخلت حجرة عمله فما رآني مقبلاً عليه حتى خف للقائي ضاحكاً مرحباً يمد لمصافحتي يمناه ويقدم إليّ كرسياً بيسراه على صورة لفتت أنظار الكثيرين ممن حوله من أصحاب الديوان، وأمثال هؤلاء لن يلفت أنظارهم الرصينة المنكبة على حل المعضلات إلا أمر غير مألوف

وجلست ترمقني العيون برهة وحرت أول الأمر كيف أبدأ الكلام وما جئت زائراً، ولا أنا بصديق لهذا الذي أسرني ظرفه، وما كانت معرفتي به إلا من كثرة ترددي عليه في أمر لي عنده.

وبدا هو الكلام فقال: (قهوة وإلا قرفة وإلا شاي يا سعادة البيه؟)؛ واعتذرت شاكراً فما زاده اعتذاري إلا إلحاحاً بل وتوسلاً أن تنازل فآخذ شيئاً مما ذكر، ولست أدري ماذا كان يبلغ من قوة إلحاحه لو تبين على وجهي أمارة القبول، على أني والحق يقال لم أر في وجهة إلا أنه جاد، وإلا فبماذا يفسرهذا التوسل الذي ما فتر والذي لم ينته في الوقت نفسه آخر الأمر إلى شيء؟

وابتسمت وتواضعت وتصنعت الحياء وقلت في رفق يتناسب مع ما لقيت من ظرف: (لعلك انتهيت من مسألتي) فقال: (أيوه يافندم قربنا. . . حالاً إن شاء الله، الحكاية كثرة عمل والمدير كل ساعة يطلبنا، وكل عام وأنت بخير إجازة المولد. . . على كل حال كن مطمئن احنا محاسيب يافندم. . .)

وجاء أحد السعاة فاستدعاه لمقابلة المدير فنظر إلى كأنما يقول هكذا لا يني المدير عن طلبه، وأخذ في يده مجموعة من الأوراق كان ينظر إليها في اهتمام واستأذنني وهو يرجو أن يعود فلا يجدني.

ص: 35

وجلست أنا متعجباً حائراً كيف يكون هذا الذي أرجو منه حل مسألتي محسوباً لي، وهو لا يعرفني كما ذكرت إلا من ترددي عليه!؟ وتنازعني الضحك والغضب، فأما الضحك فمن هذه الحركات (البهلوانية) المحكمة، وأما الغضب فلأنه يظن أني لست أفهم أنه يسخر مني، دع عنك إهمال أمري الذي استمهلني آخر مرة جئته فيها من أجله ثلاثة أيام، فما عدت إليه منذ ذلك اليوم إلا بعد ثلاثة أسابيع، ومع ذلك فهو يقول (قربنا) والمسألة في غير مبالغة لا تستغرق منه أكثر من ربع الساعة!

وعاد فوجدني لا أزال في موضعي، فتلاقي في وجهه التجهم والابتسام في وقت واحد، وهو من كثرة مرانه يعرف كيف يبتسم بناحية من وجهه، وبتجهم بالناحية الأخرى. . . ثم غلبت ابتسامته تجهمه في أسرع من ارتداد الطرف، ونظر إلى من ابتسم إليه من أصحاب الديوان ابتسامة فهمت منها أنهم يضحكون منه لأنه لم يستطع أن يصرفني أو يضحكون من أني على الرغم من ألاعيبه بقيت ثابتاً لا أتحول

وجاء شخص غيري رقيق الحال يلبس جلباباً عليه معطف يسأله هو أيضاً عن مسألته فقال في نفس ظرفه وأدبه: (حاضر يا عم إن شاء الله تجينا بعد يومين تكون مبسوط) ولما شكا الرجل وغضب قال له باسماً: (حلمك يا بويا إن الله مع الصابرين قلت لك إن شاء الله تكون مسرور) ولما أدار الرجل ظهره لينصرف نظرت إلى صاحب الديوان فإذا به يخرج له لسانه، وابتسم ابتسامة عريضة وضحك من رآه من أصحاب الديوان، وكثيراً ما أضحكهم بمثل هذه الأمور كما قرأت ذلك على وجوههم

واتجه إليَ قائلاً: (شرفت يا بيه) وفهمت معناها فليست إلا مطالبة بالانصراف؛ وهممت أن أنصرف، وقد تأكد لي ما سبق أن عرفته من أن الأوراق عند أصحاب الدواوين قسمان، قسم يعلم به المدير أو الرئيس، وهذا هو الذي ينجز ويعد، وقسم لا علم للرئيس به، هذا لا يتناوله أصحاب الديوان ولو بمجرد القراءة، وعلى مصالح الناس ألف سلام!

وسلمت فنهض يصافحني في ظرفه ولباقته، وهو يقول:(ما تأخذناش يابيه، والله الواحد خجلان. . . حالاً إن شاء الله) ومضيت ولكني التفت عند الباب أنظر إليه فلست أدري لم ألقى في روعي أنه ظل يخرج لي لسانه منذ ودعته. . .

(عين)

ص: 36

‌رسالة الشعر

صخرة المكس

للدكتور إبراهيم ناجي

تعال نزف للثغر السلاما

ألست ترى على الثغر ابتساما

ألم تشعر كأن يديْ عزيز

مسحن لك المواجع والسَّقاما

كأن خطي الُعبابِ خطى حبيب

كأن الموج أفئدة ترامى!

سلاماً يا عروس الماء إني

أحبك لا أملَّ بك المقاما

أسير إلى لقائك نضو شوق

وأرجع عن ربوعك مستهاما

أراك فتنتشي روحي وقلبي

كأني قد سقيت بك المَداما

وإن طوى البساط فنصب عيني

عليك خيال أحبابي القدامى

وإن طاح الزمان بكأس حبي

فلا الساقي نسيت ولا الندامى!

فؤادي قم بنا نذكر شجانا

لصخر في جوار المكس قاما!

تعال ولا تقل هذا جماد

وكيف تروم بالصخر اعتصاما؟

فكم في الحيّ من قلب أصم

تنكر أو تجاهل أو تعامى

وكم صخر أحس بما عنانا

وما عرف الحديث ولا الكلاما

وكم في الناس من رجل قويٍ

شديد البأس يقتحم اقتحاما

تعرض للحوادث لا يبالي

تلقاها نصالاً أم سهاما!

فإن عرضت له الذكر الخوالي

رأيت الكون في عينيه غاما

عرته الرجفة الكبرى وراحت

جيوش الصبر تنهزم انهزاما!

بربك أيها الأنوار ماذا

صنعت بساهر ألِف الظلاما

بربك أيها الأمواج ظلت

على الشطآن ترتطم ارتطاما!

أتيتك أبتغي منك التأسي

وانشد في نواحيك السلاما!

أراك فتحت لي شجناً جديداً

وكنت أروم للماضي التآما!

وهيتُ، وخانني جلدي، وإلا

فهذى الدمعة الحرَّي علاما!

أيا بلد التأسي كيف أنسى

زماني فيك كهلاً أو غلاما!

ص: 38

ويوم أتيت مكتئباً عليلاً

أحس البين يدنو والحماما!

أجرجر فيك أقدامًا ثقالاً

واجمع من عزيمتي الحطاما!

وعلاتي وأدوائي كبار

شربن دمي وأبلين العظاما!

أراك فلا أبالي بالمنايا

واحمد عند شاطئك الختاما

وكم طاف الرفاق وغادروني

كعّواد ومرّوا بي كراما!

تمر بي الحياة ولست أدري

أيوم مَرَّ أم قضيت عاما!

عرفتك والشتاء يمد ظلاً

وينشر في جوانبك الغماما

عرفتك والمصيف عليك زاه

وقرن الشمس يضطرم اضطراما

عرفتك والعواصف فيك غضبي

نشرن على محياك القتاما!

عرفتك و (الفلائك فيك بيض)

مجنحة يحاكين الحَماما

عرفتك هادئاً والفجر غاف

كأن البحر وسده فناما!

عرفتك كالصديق بكل حال

وكنت شراب روحي والطعاما

وملحك في دمي، وشذاك باق

وهذا الصوت أسمعه دواما!

تعاليْ صخرة الماضي أجيبي

وقوفك وانتظارك ذا إلاما

لقيت من العباب كما لقينا

من الأيام قرعاً واصطداما!

كأنك للورى هَدفٌ وهذي

جموع تبتغي أمراً جساما!

إذا ما أخفقوا رجعوا فرادى

وإن همّوا وجدتهم زحاما!

فؤادي إن تغيرت الليالي

فمثلك من رعى فيها الذماما!

بلغنا كعبة الآمال فاخشع

ودعنا في مناسكها قياما

خذ السلوان من حجر صموت

فما أحْرَاك بالحجر استلاما!

بربكِ أين أحلامٌ غوال

وعمرٌ قد قطعناه نياما

نسقاه أمانيَ أو خيالاً

ونطعمه قصيداً أو غراما!

وعهد كان فيكِ ربيع وَرْد

كهذا اليوم حسناً وانسجاما!

ناجي

ص: 39

‌العمر الضائع

(مهداة إلى الشاعر الملهم الأخ أحمد فتحي)

للأستاذ خليل شيبوب

ضَيَّعْتُ عمريَ في هواكِ فضاعا

وأعاضني الأسقامَ والأوجاعا

وغدوتُ لا أملٌ أعيشُ به ولا

قصدٌ أُطالعُ وجهًهُ استطلاعا

إني لأَعجبُ منكِ كيف طَلَبتِنِي

ومددتِ تُغْويني يَداً وذراعا

ونبذتِ داعي الكبرياءِ مهانةً

حتى تَرُدَّني إليك خداعا

ونَسيت في الماضي القريب مواقفاً

لك صكَّت الأبصارَ والأسماعا

لكنْ إبائي ردَّني فكأنه

حولي أقامَ معاقلاً وقلاعا

مِنْ بعدِ ما عَثَرَ الفؤادُ بنفسه

والأمرُ أَفْلَتَ من يديه وضاعا

فأفادني نْبلي بحبكِ شِقوةً

رضى الفؤادُ بحكمها وأطاعا

متجانفاً عما أردتِ من المنى

متكافئاً خلُقاً به وطباعا

قد أَرْهَقَتْنيِ عزلتي فكأنني

من قبل دفنْي قد دُفنْتُ تباعا

أصبحتُ مثلَ المومياءِ محدّثاً

عن غابرٍ لي لم يكن ليُذاعا

عهد به جَرَّبتُ فيكِ حوادثاً

صَدَعَتْ حشاىَ صروفُها فتداعى

غيرى تمرُّ به تجاريبُ الهوى

مرَّ الكرامِ فلا يُحِسُّ صراعا

لكنني غَلَبَتْ حجايَ مشاعري

فبقيتُ محترقاً بها ملتاعا

خِزْياً لحبكِ إنه البحرُ الذي

غالَ الغريقَ وما أراهُ القاعا

بُعْداً لحسنِكِ إِنه الليلُ الذي

ضَلَّ الحليمُ به ورابَ وراعا

بعضُ المحاسنِ لو علمتِ مَسَبَّةٌ

لمليحةٍ لا تفهمُ الأوضاعا

نُشِرَتْ شِباكاً فاَعْتَلقت بها وما

أَحْسَنتُ عن قلبي الضعيفِ دفاعا

إني رأيتكِ منية علويةً

ورآكِ غيري في الزمان متاعا

ولقد أبيتُ سوى التفَرُّد في الهوى

وأَبيتِ إلا أن أراكِ مشاعا

فإذا الأبيُّ مُدَفَّعٌ عن نفسه

وإِذا الغبيُّ مُمَتَّعٌ إِمتاعا

وإذا ثمارُ الحسنِ قد أَطْعَمْتها

نفَراً يجيئون الطعامَ شباعا

ص: 40

من كل مكظوظٍ يراكِ علالةً

يلهو بها ساعاً ويسأَمُ ساعا

وَحَرَمْتِ قلباً قد طوى يأساً على

يأسٍ وعاش مُفَجَّعَا مرتاعا

يا بُؤْسَ قلبٍ في هواكِ مُضَلَّل

لم يَعْرِفِ التمويهَ والإيقاعا

قد كانَ يملكُ في الحياةِ إرادةً

لكن هواكِ قد اشتراهُ وباعا

أُعْطِيته ملكَ الهوى فتصرَّفي

فيه ولا تَرْعَىْ له ما راعى

وخُذِيهِ لا بوركتِ فيه لأنني

آبى لِما أَعْطَيْتُهُ استرجاعا

الصدرُ يطفح بالمرارة ثائراً

والنفسُ واجفةٌ تطير شعاعا

وتُمِضُّني ذكرى هواكِ كأنني

في كل يومٍ أَسْتَجِدُّ وداعا

وأُظلُّ مذهوبَ الفؤادِ لأنني

ضَيَّعتُ عمري في هواكِ فضاعا

خليل شيبوب

ص: 41

‌الأدب في الأسبوع

الأزهر

الأزهر - كما يجب أن نعرفه - إن هو إلا تاريخ مصريٌّ عربي إسلامي كاملٌ متتابعٌ قد أمتدَّ على مَدْرَجةِ التاريخ ألف سنة يجدِّد فيه ويتجدَّد به، ويعيشُ عيشه هذا في التاريخ كالمدد المتلاحق الذي يستفيضُ بمادَّته لينشئ القوةَ في رُوح الجيش المرابط وأعصابه وأفكاره وأعماله المجيدة. وهذا التاريخ العجيب الذي لا يزال حياً في هذه الأرض، وهو كالتاريخ الإسلامي والعربي كله مجهولٌ متروك لم تَنفُضْ عنه الحياةُ العربية الجديدة غبار السنين المتقادمة والأجيال المتطاولة التي تعاقبت عليه بالنسيان والإهمال والهجر. وإذا نظرنا إلى الأزهر على مقتضى هذه النظرة وبسبب من هذا الرأي - علمنا أنه كهذا التاريخ الإسلامي قد تعاورته القوَّة والضعف، وحزَّت فيه سيما العلم وميسم الجهل، وتغلغل فيه النبوغ الفذُّ السامي والنبوغ الشاذُّ النازلُ: النبوغ السامي الذي أرتفع بروحانية الشعوب الإسلامية وأخرجها من سُلطان الشهوات والجهالاتِ، فمدَّت بذلك سلطانها على جزء عظيم من العالم والنُّبوغُ النازل الذي هَوىَ بروحانيةِ هذه الشعوب إلى الجَدَل والفُرقةِ والمذاهب والآراء الخاضعة لسلطان الشهوات العقلية المريضة، فقلَّصتُ ظِلَّ هذا السلطان عن هذا الجزء العظيم من العالم

والأزهر - كان - مجتَمَع القُوى المختلفة التي عملتْ في إنشاء الحضارة الإسلامية والعربيِّة التي عاشَتْ في التاريخ الماضي وملأنه بالألوان المختلفة من مميزات هذه الشعوب الإسلامية المتبانية، المتباعدة في مطارح الأرض ما بين الصين إلى الغرب الأقصى. واستمرَّ على ذلك مئات من السنين تتلوها مئات، وكذلك مهدت هذه السنين للشعب العربي المصري في هذا العصرِ - عصر النهضة الجديدة في الشرق - أن يكونَ هو قِبلةَ الأمم العربية والإسلامية. وذلك لأن روح الشعب المصري، وثقافته الموروثة في تفكيره وأخلاقه وطباعه، وحضارته القديمة التي تبرجتْ على ضفاف النيل - هذه كلُّها ليست إلا خلاصة هائلة مُصفَّاة من أرواح الشعوب الإسلامية كلها وثقافاتها وحضاراتها. وكان الأزهر هو المصدر الذي استمدَّتْ منه مصر هذا الفيض العظيم الجاري في أودية التاريخ المتقدم، لأنه هو كان الجامعة الوحيدة في هذه الديار، وكان أكبر جامعة وأعظمها

ص: 42

في سائر الديار العربية الإسلامية. وبهذه الخلاصة التي اجتمعت في الأزهر، ثم انتشرت منه في أرجاء مصر قديماً وحديثاً استعد الشعب المصري بطبيعته لأمر مقدور، هو أن يكون زعيماً للشرق في عصر النهضة الجديدة، لأن كل شعب من الشعوب العربية والإسلامية يرى في هذا الشعب صورة من نفسه مكملة بألوان أخرى من صور سائر الشعوب التي تمت إليه بسبب من الدين واللغة والحضارة والثقافة والفكر والدم

ونحن نأسف إذ نرى الناس إنما ينظرون إلى الأزهر نظرة محدودة ضيقة لا تتراحب ولا تنفذ إلى حقيقة هذا التاريخ القائم في أرض مصر. فهم يعدونه معهداً دينياً، ويكون تفسير كلمة الدين هنا - على غير الأصل الذي يعرف به معنى الدين في حقيقة الفكرة الإسلامية التي ختم الله بها النبوات والأديان على هذه الأرض. وهذا المعنى الجديد المعروف في زماننا لهذه الكلمة كلمة (الدين) ليس إسلامياً، لأنه لا يلائم روح الإسلام في شيء. . . كلا، بل هو يهدم أعظم حقيقة حية أتى بها هذا الإسلام ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وليجعل الذين آمنوا فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، ويجعلهم الوارثين. وهذه الحقيقة الحية الجميلة هي جعل كل عمل من أعمال الإنسان المسلم في الحياة عبادة تقربه إلى الله. . . فليس البيع والشراء، أو تدبير أمور الناس في الملك، أو العلم والتعليم، أو تربية الولد، أو الخدمة التي يؤديها الرجل لمن يخدمه. . . ليست كل هذه الأشياء الاجتماعية في منزلتها من الدين الإسلامي: إلا كالصلاة والصيام والزكاة وسائر الأعمال التي يفهم بعض الناس الآن أنها هي الدين حسب. فالأزهر الإسلامي هو الذي تتمثل فيه حقيقة الإسلام - أو يجب أن تتمثل فيه هذه الحقيقة -، وتاريخه الماضي كان صورة صحيحة للحياة الاجتماعية الإسلامية بكل ألوانها وأنواعها، مع ما كان قد عرض فيها من العيوب التي أدركت الشعوب الإسلامية وجعلتها تنزل عن المرتبة الأولى التي كانت لها في تاريخ الحضارات السالفة التي سبقت الحضارة الأوربية لهذا العصر. فلما هجمت علينا الحضارة الحديثة من أوربا بعواملها المختلفة، وسياستها القوية التي تغلبت على كل سلطان في الشرق، ثم اندست العوامل الغريبة في الأمم الإسلامية، وعملت الأيدي العدوَّ عملها في تمزيق الروابط بين طبقات الشعب. . . رجع الأزهر إلى غيله يستتر فيه، وقبع أهله عن صراع الحياة الجديدة صرعاً يراد منه الظفر، وكذلك سار الناس ناحية، وسار الأزهر ناحية أخرى،

ص: 43

وكان ذلك أول البلاء على الأزهر وعلى الشعب نفسه!

إصلاح الأزهر

وقد أحس كثير من المصلحين من أهل الأزهر وغير أهله - ممن يعرفونه أصلاً كبيراً في الحياة المصرية والعربية والإسلامية - بما تقتضيه طبيعة الموقف الذي صار إليه في هذا العصر، وبما توجبه حقيقة الدين الإسلامي، فهبوا إلى إصلاحه والنظر في شأنه مرة بعد مرة. وكان العمل لذلك شاقاً كثير المتاعب غير قريب المنافذ، فاضطربت الأيدي واختلفت الأغراض، وسار هذا الزمن السريع بقوة واندفاع، لا يملك معه المصلح الانطلاق في آثاره على مثل سرعته واندفاعه وكذلك لم يزل الأزهر الآن في منزلة غير المنزلة التي يوجبها له قيامة ألف سنة على التاريخ الفكري والثقافي والعملي في الحضارة الإسلامية

وقد كتب الأستاذ (الزيات) - في فاتحة العدد الماضي من الرسالة - كلمته الجليلة (في سبيل الأزهر الجديد) يطالب الأزهر بالرجوع إلى المنابع الأولى للدين واللغة والأدب والعلم. وحب (الزيات) للأزهر، ورغبته في المبادرة إلى علاج الأدواء التي تلبست به من أمراض الأجيال السابقة، هي التي حملته على أن يكتب كلمته لتظفر مصر (بجامعتها الصحيحة التي تدخل المدنية الغربية في الإسلام، وتجلوا الحضارة الشرقية للغرب، وتصفي الدين والأدب من شوائب البدع والشبه والركاكة والعجمة)

نعم إن الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر لم يقصر في اجتهاده أن يجعل الأزهر مثابة للعلم الإسلامي الصحيح، ولم يتخلف عن النصيحة له بما توحي به الرغبة الصادقة في تحريره من آصار قديمة عاقته عن بلوغ غايته التي يحق له أن يبلغها. فقد وضع الأستاذ الأكبر من عشر سنين نظامه الجديد للكليات في الأزهر وجعل أحد قسمي التخصص في هذه الكليات موقوفاً على مادة من مواد الشريعة أو اللغة أو الأدب أو التفسير والحديث أو المنطق والفلسفة أو الأخلاق والتاريخ وعلم النفس وما إلى ذلك. وأمد هذه الكليَّات العالية - في دراستها لما خصصت له - بالكتب الأصول المعتمدة في بابيها ككتاب سيبويه، وخصائص ابن جني، وسر صناعة الإعراب لابن جني، وتصريف المازني، وكتاب فيلسوف النحو رضي الدين الإستراباذي صاحب شرح الشافية، وشرح الكافية، وهما عمدة أصحاب النحو والتصريف. وكذلك جُعلت كتب عبد القاهر - دلائل الإعجاز وأسرار

ص: 44

البلاغة -، وكتاب الصناعتين لأبي هلال، وأدب الكاتب والكامل والأمالي وغير هذه من أصول الأدب واللغة هي مادة الدراسة في هذه الكليات

وقد قام على التدريس في هذه الكليات جماعة من خيرة من أنجبهم الأزهر فاستقلوا بتدريس هذه الكتب الجليلة خير استقلال، فنرجو أن يظهر الأزهر الجديد بعلمه الجديد الذي استمده من الكتب الأصولِ، وأن يعتمد فيما يستقبل من أيام نهضته كل الأصول الأولى في تدريس الفنون المختلفة التي تقوم ببثها بين أبنائه ومريديه وطلبته. هذا ونرجو أن نحقق روح الأزهر - التي تتصل بالشعب المصري وسائر الشعوب الإسلامية - معنى الإسلام الصحيح الذي يطالب المسلمين بالسيادة والقوة والغلبة، ولا يكون ذلك إلا يوم يتصل الأزهر اتصالاً تاماً بجميع ألوان الثقافات العالمية، ليوجد للشعب المصري والعربي والإسلامي ثقافة تضارع كل هذه الثقافات، مبرأَة من عيوبها التي فرضتها عليها البيئة غير الإسلامية التي نشأت تحت ظلالها وفي رعايتها.

وأنا أكتفي بهذا القدر من القول، وسأعود قريباً لأبدي بعض الرأي في أنواع من الإصلاح تراد للأزهر وغير الأزهر أرجو أن تنال بعض الرعاية ممن يتولون شأن هذا الإصلاح

المجمع المصري للثقافة العلمية

بدأت في الأسبوع الماضي جلسات المؤتمر السنوي للمجمع المصري للثقافة العلمية برياسة حضرة صاحب السعادة حافظ عفيفي باشا، وهذا هو المؤتمر الحادي عشر لهذا المجمع العلمي الصامت الذي يجاهد في إنشاء الثقافة العلمية العربية في الشرق بما يسعه جهده وماله: والمجمع العلمي هو أهم ما يحتاج إليه الشعب العربي الذي ابتعد به الزمن عن متابعة النهضات العلمية المختلفة التي تجددت بالحضارة الأوربية الحديثة. وقيام هذا المجمع بنشر الثقافة العلمية - في حدود طاقته - قد أوجد للأمة العربية ذخيرة عظيمة تقع في عشرة مجلدات، كلها مباحث علمية عظيمة مكتوبة باللغة العربية مع قلة الاصطلاحات العربية العلمية التي تؤدي المعاني العلمية الجديدة التي لم تقرر لها بعد مصطلحات ثابتة في مادة هذه العلوم

وهذا المجمع العلمي العظيم لا يلقى - مع الأسف - ما هو حقيق به من الحفاوة والاحتفال في الأوساط الأدبية والعلمية التي توجب عليها مهمتها الشاقة إمحاض النصيحة للأمم

ص: 45

العربية، بتشجيع القائمين بأعمالهم المجيدة في صمت وسكون ورفق. ومن أعجب العجب أن تعقد المحاضرات والمناظرات الكثيرة التي تعتمد أكثر ما تعتمد على الثرثرة ومضغ الأحاديث والتمطق بمبذول الكلام، وتجتمع لهذه المحاضرات والمناظرات فئات كثيرة من طبقات الناس. وفي صدرهم كثير من أصحاب الأمر وعظماء الأمة ثم يعقد هذا المجمع مؤتمره مرة في كل عام - فلا يلقى من هذه الفئات ولا من هؤلاء العظماء ما هو أهل له من المتابعة والاهتمام أو المجاملة إن شئت

وكان الظن أن تعمل وزارة المعارف والجامعة وسائر المعاهد والوزارات التي يتناول المجمع - بعض ما يخصها أو يقع في حدود أعمالها - بالبحث والدرس والتحقيق والكشف: كان للظن أن تمهد هذه له سبيل إبلاغ صوته إلى أكبر عدد ممكن من المثقفين، تشجيعاً له للقائمين عليه، طلباً للمنفعة التي تأتي من إثارة اهتمام هذه الجماهير بنتائج الأبحاث العلمية وأنواعها، وضروبها المختلفة التي يقوم المجمع وأعضاؤه على إعدادها ومتابعتها والعمل على نشرها، لتكون سبباً من أسباب اليقظة العلمية التي تقتضيها النهضة الحديثة في الشعوب العربية

وقد جمعني مرة مجلس فيه فئة من كبار الأساتذة في بعض المعاهد العلمية العالية، فلم أجد عند أحد منه خبراً يعلمه عن هذا المجمع، فما ظنك بعمله أو إنتاجه أو غايته التي أريد لها إنشاؤه وتأسيسه؟ وهذا أمر يؤسف له، ويوجب على المجمع وعلى كل ذي رأي أن يعمل على تنبيه الوزارات والمعاهد إلى قيمة هذا العمل الذي يقوم عليه المجمع، وإلى توجيه أنظار الناس إليه بكل سبيل، حتى يستطيع أن يؤدي إلى الناس ما يرغب فيه من نشر الثقافة العلمية التي يحتاج إليها هذا الشعب في كل أغراضه وأعماله، وفي بعث الروح العلمية التي تكفل له القيام بالعبء المثقل الذي يريد أن ينهض به في بناء الحضارة الجيدة التي يتهيأ الشرق لوراثتها عن الحضارات التي هي في سبيل إلى الهلكة والتدمير والبوار

هذا وقد بدأ المجمع مؤتمره لهذه السنة بالمحاضرة التي ألقاها الدكتور حافظ عفيفي باشا عن (الأصول العلمية الحديثة وتطبيقها على الزراعة)، وقد عرض فيها لأهم ما يشغل الأسواق المصرية في هذا الوقت، وهو نظام الحاصلات والأسواق الداخلية، فأبان كل البيان عن وجه المصلحة التي يجب أن يقصدها القائمون على أمر الشئون الزراعية في

ص: 46

هذه الأوقات العصيبة المنذرة بأشد الأزمات على الأسواق التجارية. ثم تبع ذلك بحث في أهم ما يخاف منه وما تخشى عواقبه في أزمان الحربِ، وهو تفشي الأمراض والأوبئة، وما يجبُ على الشعب المصري وحكومته أن تعمل على تفاديه بكل سبيل. فألقى الدكتور عبد الواحد الوكيل:(حاجة البلاد إلى تعديل خططها الطبية والصحية)، وقد أبانت هذه المحاضرة عن هول الحالة الحية التي تختفي في كل ناحية من نواحي هذا الشعب المهمل المسكين

آلهة الكعبة

كنت قرأت في البريد الأدبي من عدد الرسالة 350 كلمة للأخ محمد صبري في قصيدة الأخ الشاعر محمود حسن إسماعيل ينكر فيها أن (اللات، والعزى، ومناة) من آلهة الكعبة، قال:(وليس واحد من هذه الثلاثة من أصنام الكعبة، بل لم يكن واحد منها داخل الكعبة ولا حولها). ثم استشهد قول ابن الكلبي في كتاب الأصنام، حين ذكر مواضع هذه الأوثان الثلاثة وقد كان اعترض بعض أصحابه قبل ذلك - في مجلس لأستاذ الزيات - بمثل ما اعترض به الأخ صبري، فرُمتُ أن أقول: إن وجود هذه الثلاثة في الكعبة أو حولها ليس يمتنع. وذلك لأن أبن سعد ذكر في طبقاته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت - بعد فتح مكة - وهو على راحلته، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، فجعل كلما مر بصنم منها يشير إليه بقضيب في يده ويقول:(جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً). فيقع الصنم لوجهه. وابن الكلبي لم يعد لنا في كتابه الأصنام غير أسماء ثلاثين صنماً، وزاد زكي باشا عليها خمسة وأربعين صنماً، فهذه خمسة وسبعون، فأين هي من ثلاثمائة وستين؟. . . وما كانت كل هذه الأمة من الأصنام إذن - إن لم يكن منها اللات والعزى ومناة، وهي أشهر أصنام الجاهلية، وهي المذكورة في القرآن في سورة النجم، وقد كان نزولها بمكة؛ وما أظنها تذكر بأسمائها إلا وكفار قريش يعظمونها فإذا عظموها اتخذوها في الكعبة وهي بيتهم المعظم، كما كانوا يتخذون الأصنام في بيوتهم ودورهم. ثم رأيت أخيراً أن ابن سعد يذكر في فتح مكة أن رسول الله بث السرايا إلى الأصنام التي حول الكعبة فكسرها، منها:(العزى، ومناة، وسواع، وبوانة، وذو الكفين. فنادى مناديه بمكة: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدعْ في بيته صنما إلا كسره)

ص: 47

ثم جاء كلام أبي جعفر الطبري في تفسير سورة النجم ج 27 ص36 يقطع الشك باليقين إذ يقول. (وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة: يقول (اللات والعزّى ومناة الثالثة - أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها)، وهذا هو المعقول، وليس من المعقول أن تخلو كل هذه الأمة من الأصنام التي كانت حول الكعبة من تماثيل منصوبة للات والعزى ومناة الثالثة، وهذا ليس يمنع أن تكون القبائل غير قريش مكة قد اتخذت لها أنصاباً نصبتها في الأماكن التي ذكرها ابن الكلبي وغيره.

محمود محمد شاكر

ص: 48

‌رسالة الفن

تأملات في الفن

العب يا ميمون العب!

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

- من هذا الذي معك؟ يا أمَّه! قرد؟

- نعم. واحد من أبناء عمك ميمون. أبوك آدم رقاه الله، وأبوه هو أستحسن أن يظل يلعب، فظل يلعب

- لعبت عليه نفسه! وأين لقيت أبن عمك أنت هذا؟ وإياك أن تكون قد دعوته إلى مكث طويل هنا؟

- ليته يقبل. . . إنما هو مرتبط بخمسة أصدقاء أستأذنهم وجاء يحييك ثم يعود إليهم عند الباب

- أبالباب خمسة قرود غير هذا؟ لم لم تقل لي إن أسرتك الكريمة هاجرت إليك فكنا نوسع لهم بيننا نزلاً؟

- ربما لم يكن هؤلاء الزوار جميعاً من الأهل وربما كانوا! أولهم على أي حال أخ من بني آدم، وثانيهم حمار، وثالثهم جدي، ورابعهم كلب، وخامسهم أوزة

- أعز الأهل، أنعم بهم وأكرم. تعال نستقبلهم وهات ابن عمك، فمنذ سنين وانا لم أر أسرة كهذه، وكنت أراها وأنا طفلة وأسر وأضحك؛ ولكن لم أكن أتوقع يوماً أن تنسب إليَّ أو أن أنسب إليها. . . لا أنا ولا أنت

- تعالى! هاهي ذي الأسرة. انظري إلى كل فرد من أفرادها وقولي لي: ما هو؟ لا تقولي هذا قرد وهذا حمار، فإني أعرفك تعلمين أسماءها، وإنما أريد أن أراك هل تعرفينها هي أو أنك تجهلينها كما كنت أجهلها أنا حتى عرفني بها صاحبها هذا الغجري الذي يقودها؟

- وماذا قال لك أكثر من أن الحمار حيوان من ذوات الأربع له أذنان طوبلتان وصوته منكر وهو يستخدم في حمل الأثقال. . .

- هذا كلام يصفون به قشر الحمار للتلامذة، ولكن هذا الغجري يعرف عن الحمار مثلما

ص: 49

يعرف عنه حمار مثله

- وأنت يا هنيئاً لك أخذت عنه هذا العلم. . . انهق لي به انهق. . .

- لا بأس. ولكن ألا ترينه واجباً أن نرى الغجري قبل أن نرى القرد والحمار؟

- وهل في الغجري شئ يرى وهو ليس في غيره من الناس؟ رجل مسكين يحتال على الرزق بتلعيب الحيوان

- وكم في الناس القادر على تلعيب الحيوان؟ إن الإنسان ليستعصي عليه أن يلقب نفسه. ومن استطاع ذلك فهو الفنان

- فكل حيوان من هؤلاء فنان، وهذا الغجري بينهم مثل سيسيل دي ميل أستاذ على الممثلين والممثلات. . .

- هذا التشبيه صحيح لولا أنه معكوس. فسيسيل دي ميل هو الذي يحاول أن يكون في عمله كهذا الغجري ولكن أنى له ذلك إلا إذا عاش عيشة الغجري، وكم قلد الغجرَ أفراد من أهل الفن فكان كل منهم كالمسخ ما لم تكن فيه طبيعة الغجر يسترسل بها في الحياة استرسالهم. ولا بد أن تكون قد رأيت واحداً من هؤلاء الذين ينفشون شعرهم ويطلقون لحاهم، ويهدّلون ثيابهم ويعربدون في الأرض سكارى مستذئبين على أنفسهم وعلى الناس قائلين إنَا نحن بوهيميون. هؤلاء هم الذين يقلدون الغجر كما أن من أهل الفن من تضطره الحياة إلى أن (يغجر) نفسه فإما أن يكون غجرياً في فنه وإما أن ينزلق فيكون غجرياً في سلوكه مع الناس فيحتال على رزقه كما يحتال هذا الغجري بتلعيب نفسه، وتلعيب عشرائه، فهو محتال بارع ممن يعرفون كيف ينطبقون على الفريسة ومن أي مدخل سهل ضعيف يتسللون إلى نفسها، وأي لسان من الألسنة المعسولة يعجبها، وأي شكل من الأشكال المنمقة المزوقة يرضيها، وأي مطلب من المطالب تنزع إليه وأي شئ يسرها وأي شيء يغضبها، وأي كلمة تثيرها وأي كلمة تردها إلى هدوئها، وأي إشارة تحفزها، وأي إيماءة تثبط همتها إلى غير ذلك مما تمكن الغجر منه وأتقنه معهم الكهان من الناس، والمتكاهنون.

- فالغجر كهان؟

- هم أبرع الكهان إذا أرادوا، ولكنهم كعمنا ميمون استحسنوا الأمر ما أن يلعبوا وما زالوا يلعبون، ولو أنهم أرادوا أن يفتكوا بهذه الإنسانية لفتكوا بها وسلاحهم ما يعلمون من شئون

ص: 50

النفوس وأمورها، ولكنهم يؤثرون على هذا أن يفروا من البشرية إلى مرحهم وغنائهم ورقصهم، فهم لا يلمون بالناس إلا حين تعوزهم حاجة، فعندئذ ينزلون على الناس ليأخذوها، وهم آخذوها إن أباحها الناس لهم أو منعوها، وهم آخذوها إن حللتها الشرائع أو حرمتها، لا يستطيع إنسان أن يردهم، ولا أن يمسكهم بها، ولا أن يستردها منهم. . . غجر أولاد شيطان. .

- وهذا الشيطان عمنا هو أيضاً كعمنا ميمون؟

- لا، بل إنه خالنا أخو أمنا حواء الذي قال لها: رَجُلك خواف، رجلك ضعيف، شحيح إن أطعمك ما أطعمك، فإنه بضن عليك بالتفاحة. . . يا حلاوة التفاحة!

- صحيح، إن في عينيه بريقاً كما تلمع عيون الشياطين. . . أعطهم شيئاً وتعال. . .

- انظري إليهم وهم ذاهبون يحيطون به. . . الحق أنه ما في الأرض من يمثل سيادة الإنسان على بقية الخلق كهذا الغجري والغجر جميعاً، فهم البقية الباقية من الناس الذين كانوا يعاشرون الأرواح ويأتلفون بها قبل أن تهيم البشرية حباً بالحديد والحجر، هؤلاء الغجر لهم أحاديث في كيمياء النفوس أعجب من العجب، ليت علماءنا يستمعون إليهم ويحاولون تحقيق أحاديثهم. . .

- وما كيمياء النفوس هذه أيضاً؟. . .

- هذا بحر فيه ماء وملح يلقى الشمس فيتبخر منه الماء ويبقى الملح، ويصعد الماء إلى السماء بخاراً. فيلقى البرد فيرتد إلى الأرض ماء حلواً ليس فيه ملح، ويجري على الأرض في هضاب ووديان ويسري في النبات والحيوان والإنسان، وفي الأحجار أيضاً يسري، ويتبخر منه عندئذ بعضه ويبقى بعضه، ويعود منه إلى البحر بعضه ويضيع منه في الخلائق بعضه. . . هذا البحر. . .

- معقول. . فكيف يقيس الغجر النفوس بهذا المثل؟

- هم يقولون هذا إنسان. فيه نفس وجد. يلقى الحياة وما يزال يتلقاها حتى تتبخر نفسه ويظل جسده في الأرض، وتصعد روحه إلى السماء فتجد حجاباً فترتد إلى الأرض تبحث عن قوة تمكنها من خرق الحجاب إذا عادت مرة أخرى إلى السماء وهذه القوة في قولهم تواتي النفس بالتطهر والتلطف، والتطهر والتلطف يجيئان في قولهم بالتدريب. فإذا كانت

ص: 51

نفس إنسان قضت حياتها الأولى ثائرة ساخطة وتبخرت وهي ثائرة ساخطة فثقل بها السخط وثقلت بها الثورة عن خرق الحجاب عادت إلى الأرض تتعلم الصبر والرضى فإذا أسعدها الحظ صادفت غلافاً حماراً ينحدر إلى الدنيا فحلت فيه، ونزلت به إلى الدنيا تقضي حياة كلها صبر وكلها احتمال وهوان. . . ورضا، وبهذا إذا تبخرت هذه النفس مرة أخرى خفت أكثر من ذي قبل، وربما استطاعت أن تخرق الحجاب وأن تمضي إلى عالم غير هذا العالم، وربما عادت إنساناً أو حيواناً أو شيئاً مما يخلق الله ويعلمه ونحن لا نعلمه. . .

- ولكن هذا القياس فيه فارق. فهم قد حولوا الإنسان إلى غير الإنسان بينما مثلهم الذي يقيسون عليه بحفظ الماء ماء مهما تعددت أشكاله

- فلنصلح لهم نحن هذا المثل فهم لم يتوفروا على كيمياء المادة مثلما توفروا على كيمياء النفس، ولست أخالك تنكرين أن الذي يقولونه عن تحولات النفس يشبه الذي يقوله علماء المادة عن تحولاتها، ولست أخالك تتركين هذا التشابه يمر بك من غير أن تسجليه على الأقل، أما أنا فإني لا اكتفي بتسجيله في ذهني وإنما أربط بعضه إلى بعضه وإن كنت إلى الآن لا أدري مثلما قد يدرون هم أي شئ سأربطه بعد ذلك في هذين السببين وإلى أين سأصل بهد هذا الربط. . .

- إلى. . . (العباسية) من غير شك

- حتى إذا وقفتك معي على أوجه الشبه بين الذي يقوله الغجر وبين الذي يقوله علماء المادة

- إن وقفت معك فأنا أيضاً في حاجة إلى علاج للرأس.

- العلاج على أي حال خير من إهمال المرض. اسمعي.

ألا يقول علماء المادة إن هذه الأرض كلها تتشعع وتريد أن تتلاشى في الفضاء؟ ألا يقولون إن لهذه الأرض غلافاً من الأثير وهو مادة ولكنه أخف من المادة وألطف منها وأشد شوقاً إلى التشعع والذهاب؟ ألم يكتشفوا أخيراً عناصر من المادة لا تزال نادرة جداً وهي أقدر المواد على التشعع والتطاير؟ إن هذه المواد هي أرقى ما في الأرض مادة، وهي أخف العناصر وألطفها، وهي لا تزال نادرة لأنها طلائع الدور الجديد الذي بدأت مادة الأرض تدخل فيه، والأرجح أن الأرض جميعاً ستتحول على مرور الدهور إلى هذه العناصر

ص: 52

الخفيفة اللطيفة المتطهرة حتى تصل عندئذ إلى ما تتوق إليه من الخلاص من هذا الوضع وهذا الشكل إلى سياحتها الجديدة في الكون. وإذا كان الماء هو أكثر ما في الأرض اليوم، والراديوم (مثلاً) هو أقل ما فيها، فالماء إذن هو الحلقة الأولى من حلقات الحياة المادية في الأرض والراديوم هو الحلقة الأخيرة بحسب ما نرى. . . أو قولي إن الأثير هو هذه الحلقة الأخيرة. . . ثم قولي إن ما بين الماء والأثير من الخلائق المادية إن هو إلا تشكلات وتطورات وتحولات تنزع بها المادة إلى الانطلاق. وقيسي على ذلك النفوس كما يقيسها الغجر، ولست أطلب منك ولا من نفسي أن نعرف ما يعرفون هم إذا نظروا إلى إنسان ماذا كان قبل أن يكون إنساناً، وماذا سيكون. فهم يدعون أنهم يعلمون هذا بالنظرة، ولست أستطيع أن أنكر عليهم قولهم ما دمت أرى في علماء المادة من ينظر إلى الحجرة فيقول كانت شجرة وستصبح بعد قرون فحمة. فلماذا نقبل كلام علماء المادة هؤلاء ولا نقبل كلام الغجر؟ ألأنهم غجر؟ نحن الذين دعوناهم غجراً، أما هم فيعتبرون أنفسهم أصحاب هذه الدنيا يذرعونها من الشرق إلى الغرب، ومن الجنوب إلى الشمال لا يخضعون إلا لقوانين الطبيعة الخالدة، ولا تفسد أنفسهم غيرها من القوانين المصنوعة التي وضعتها العقول بحساب بعد أن نسيت أول قوانين الحساب وهو أنه لا بدء ولا نهاية، وبعد أن نسيت كذلك أن لكل حساب حساباً يعطله حتى بطل عمل الحساب وصار هذا البطلان هو أساس بغير حساب. . .

- على هذا الأساس أستطيع أن أستمع منك إلى كلام الغجر، فلا تحسب أني سأقتنع به، فدون ذلك تشمع عقلي وطيران منطقي وتفكيري، ودعني الآن أسألك على سبيل العبث والفكاهة لا أقل ولا أكثر: أي نفس كانت نفسي قبل هذه الحياة. . . وأي نفس ستكون؟

- أنت؟ لا أدري، ولكني أعرف واحداً كان إوزة وسيكون حماراً

- من هو؟

- مالك أنت وماله؟ وإنما قولي: كيف هو، فأقول لك إنه كلما اطمأن إلى الحياة تمكن منه البله، فهو يلعب في الأرض ويلعب في الماء ويحب كل شئ، ولكنه لا يكاد يعطى من نفسه شيئاً لأحد إلا أن يجد عنده لذة، وهو غر يصدق كل ما يحيط به، ومن سقاه شربة ماء استطاع أن يذبحه؛ وهو إلى جانب هذا رعديد خواف، لأنه يعرف أنه عاجز عن رد الأذى

ص: 53

بأذى. . . كالإوزة. . . له هذه لأخلاق والطبائع من نشأته فلعلها كانت طبعه الأول، ومن عرف فيه هذا تمكن منه ولعب عليه ما شاء أن يلعب وقد لعب عليه ناس كثيرون حتى كاد أن يذبح مرة؛ وإني أقول لك إنه سيكون حماراً، لأني أراه إذا أفاق إلى نفسه أخذها بالصبر وبالرضا والاحتمال، فلعله إذا تمكن هذا منه كان أصلح البشر (للحمارية) في حياته المقبلة، ومن يدري فربما اكتفى القدر منه بصبره في هذه الحياة، وطهره في حياته المقبلة من نقائص أخرى غير بادية لي فيه الآن، فكان عندئذ أخف، وألطف، وأظهر مما عرفناه الآن، وكان عندئذ أصلح للبقاء في أثير الأرواح انتظاراً لموكب من نوعه يلحقه فيدفعه في فضاء الله إماماً لمن يتبعه ومأموماً لمن سبقه. . . من يدري؟

- لا أحد، ولا أنت، ولا الغجري. ولكن هذا الكلام يشبه ما يقوله الهنود عن تناسخ الأرواح فهل أصل الغجر هؤلاء من الهند؟

- الموجة البشرية المشرفة على غرب أوربا كلها أصلها من الهند

- ولكنك لم تقل لي ماذا كنت أنت؟

- يقول داروين إن الناس كانوا قردة، ويقول القرآن إن من الناس من ردهم الله قردة. . . وإني أقبل القولين في حق نفسي وإن كنت لا أصدق فيك أنت قول داروين. . .

عزيز احمد فهمي

ص: 54

‌رسالة العلم

أفق جديد

الكهرباء والضوء يلتقيان

للدكتور محمد محمود غالي

أزمة الأثير - فراداي والكهرباء - نبوءة ماكسويل - أعمال

هرتز - (برانسلي) يخترع اللاسلكي ويموت محتمياً من

اختراعه

لو أننا أعدنا اليوم مطالعة الصفحات المجيدة التي خطها وويجانز ووقفنا عند هذا القدر دون متابعة التطورات العلمية، لأيقنا أن البناء الذي شيَّداه لا يمكن أن يعتوره خلل، ولو أننا جلنا في الوقت ذاته في الهيكل الرياضي الذي شيده (نيوتن) العظيم، واشترك في إقامته (أيلر) ولاجرانج لأدركنا في غير عناء لماذا طبق فُرنِل الميكانيكا النيوتونية في تفسير الظواهر الضوئية الدقيقة، التي اعتبر أنها ذبذبات حادثة في وسط مرن افترضه افتراضاً، ولكن تجربة (ميكلسون) تقف عقبة في طريق التقدم في هذا السبيل، وتتطلب من الباحثين تفسيراً يختلف والميكانيكا النيوتونية.

إن أرضاً تجري حول الشمس بسرعة كبيرة تحمل مصباحاً والمصباح يرسل في طريق سير الأرض شعاعاً ضوئياً كما يرسل في طريق عمودي على الطريق الذي تسير فيه الأرض شعاعاً له طبيعة الأول وسرعته، وهذان الشعاعان يعودان في اللحظة ذاتها إلى النقطة التي خرجا منها، في وقت لم تكف الأرض فيه عن الجري في مستقرها الأبدي حول الشمس، لأمر لا يسيغه عقل ولا يقبله منطق، إذ كيف لا يحدث رغم رحلة الأرض المستمرة وسرعتها الملحوظة، أي فارق في الوقت لمسافرين لهما في الواقع ظروف مختلفة؟ كان لابد من طرق أبواب جديدة في التفكير للإجابة على ذلك. ولقد كان للنظريات الكهربائية شأن في هذا الميدان الأثيري ولندع الآن هذه الأزمة جانباً، لننعم النظر في أمر جديد. ذلك أن الضوء الذي يتموَّج على النحو الذي ذكرناه هو جزء من الكهرباء، وإدماج

ص: 55

الجزء في الكل يحتم علينا أن نعرف شيئاً عن خواص الكهرباء، وسيري القارئ أنه بمعرفتنا هذه الخواص، ينتفي السبب في افتراض وجود هذا الوسط الأثيري، ولعل هذا التفكير الجديد يكون خطوة لازمة قبل أن نعرض عن الميكانيكا النيوتونية، ونستعين بميكانيكة جديدة لا نيوتونية، تفهم بواسطتها الكون على شكل أكثر وضوحاً من الشكل الذي نعرفه له.

عند ما يَهم عامل لإصلاح خلل في الشبكة الكهربائية في منازلنا قد لا يفوتنا أن ننبِّهه ليتخذ الحيطة لنفسه، ذلك أننا نعلم أنه يكفي أن يلمس العامل خطأ طرف أحد الأسلاك المكهربة لكي يفقد حياته، ويصبح بين طرفة عين وانتباهتها في عداد الأموات، ولو أن العامل الذي يلمس السلك الكهربائي كان ممسكاً بيده الأخرى واحداً أو أكثر من زملائه؛ فإن جميع المتصلين به يفقدون حياتهم في اللحظة ذاتها، وقد حدث أن قُضيَّ على ثلاثة أشخاص العام الماضي في حي بولاق بالقاهرة بلمس أحدهم سلكاً كهربائياً. بيد أننا نشعر بالطمأنينة لو اقترب العامل من السلك دون أن يمسه، إذ أننا واثقون بأنه في هذه الحالة لن يُصاب بأذى، كما أننا واثقون بأنه لا يشعر عندئذ ولا يشعر من بجواره بوجود الكهرباء بمجرد الاقتراب من الأسلاك الحاملة لها، ولهذا بالطبع أثره في اعتقادنا أن الكهرباء سارية في الأسلاك لا تتعداها إلى خارجها

ومع ذلك وبالرغم من مقدرة الجسم الإنساني على الإحساس بالكهرباء بلُمسها فإنه لم تكن أجسامنا يوماً ما أجهزة لائقة للتعرف على المحيط المتأثر بها، وكما أن العين ليست الوسيلة الوحيدة لمعرفة الظواهر الضوئية، كذلك اللمس ليس الوسيلة الأولى والأخيرة لمعرفة الظواهر الكهربائية، فلقد كانت هاتان الحاستان في حاجة لوسائل أخرى يتسنى لنا بها استجلاء هذه الظواهر في صورة أدق من تلك التي نعرفها لها، ولقد تقدمت الوسائط الطبيعية في معرفة الظواهر المختلفة حتى باتت حواسنا الخمس وحدها في المرتبة الأخيرة لمعرفة حقائق الكون إنما نروم من هذه الأسطر أن نلفت نظر القارئ إلى عبقرية (فراداي) الذي أدرك أن الكهرباء غير مستكنة في الأسلاك فحسب، وإنما في الفضاء المحيط بها أيضاً، فقد لاحظ أنه يمكن لكرة متصلة بمنبع كهربائي ذي ضغط عال أن تجذب كرة صغيرة معزولة موضوعة بالقرب منها، واستخلص من هذا أن الكهرباء كائنة في الفراغ

ص: 56

المحيط بالكرة. ولقد لاحظ (فراداي) أنه بتقريبه إبرة ممغطسة من دائرة كهربائية تدور الإبرة حول محور دورانها

ما أسعد العالم بهذه المشاهدة الأخيرة لفراداي، وإذا كانت مركبات الكهرباء تجوب المدن الآن بسرعتها المعهودة، وإذا كان المصعد يعمل في عماراتنا بلا ملل طول اليوم صعوداً وهبوطاً؛ فما هذا أو ذاك إلا تطبيق مباشر لمشاهدات فراداي التي قصها لقرينته في يوم من أعياد الميلاد، ومات فراداي ولم يستمتع بركوب الترام ولم يشاهد المصعد، وهكذا نظر الباحثون من عهده إلى الكهرباء لا كمادة في الأسلاك فحسب، بل كمجال حولها أيضاً

أما اليوم فشدَّ ما تتابعت الطفرات العلمية، ولم يعد القارئ بحاجة ليستحضر إبرة ممغطسة ليرى آثار الكهرباء عن بعد، بل إنه يشاهد ذلك في تجاربه اليومية. ومن منا لم يشعر وهو يجوب بسيارة عرض المدينة بالتأثيرات المختلفة التي تحدثها أسلاك الترام على (الراديو) الذي أصبح في السيارات الخاصة في مصر والعامة في أوربا من دواعي الرفاهية؟

وقد يتساءل القارئ مالنا واللجوء إلى هذا الموضوع الذي يُعد من أبدع ما وصل أليه الإنسان في التقدم ولم ننته بعد من حل الأزمة العلمية الكبيرة التي ذكرناها له وشغلنا ذهنه بها في مقالات متواصلة؟ وهو بهذا التساؤل لا يرى صلة بين الظواهر الكهربائية وما ذكرناه من عدم استساغة الفكرة الأثيرية بعد تجربة (مبكلسون)، ولكننا لم نذكر مشاهدة (فراداي) عبثاً، فلم يكن انتباهه التجريبي ليمر دون أن يفيد منه البشر فقد تناول (مكسويل) الإنجليزي مشاهداته، ووضع نظريات هامة أصبحت بعده أساس الدراسة لأهم الظواهر الكهربائية، ولم يكتف (مكسويل) بتفسير الظواهر التي شاهدها الإنسان حتى عهده بل كان واثقاً من طريقه الرياضي وثوقاً جعله يتنبأ بظواهر أخرى لم تكن قد اكتشفت بعد ولم يكن قد دل عليها في زمانه العلم التجريبي، ذلك أنه استنتج من معادلاته الأساسية مجموعة أخرى من المعادلات أثبت بها أن الكهرباء تنتشر في الفراغ بحالة موجبة، وبهذا تنبأ بوجود الموجات الكهربائية، ولم يكن في عهده سبيل لإحداث هذه الأمواج والتثبت من صفاتها على هذا الشكل الموجي، ولكن (مكسويل) اعتبر أنها موجودة، واعتبر أن الموجات الضوئية ليست إلا أمواجاً كهربائية

من هذا يدرك القارئ لماذا نذكر الكهرباء مع الضوء الموجي وقبل أن نفسر كيف ساعدت

ص: 57

هذه الخطوة الجريئة من (مكسويل) العلماء على التخلص من الأثير الذي افترضوه افتراضاً نذكر أولاً النتائج التجريبية العظمى التي خلص بها العالم من تفكير مكسويل الرائع ومن أداته الرياضية البديعة.

ولقد كان لهرتز الألماني الفضل الأول في الحصول على موجات كهربائية غير متصلة بموصل كهربائي، وتخترق الفضاء، واستطاع أن يعاملها كما نعامل الأشعة الضوئية فيعكسها مثلاً كما نعكس هذه الأشعة، واتجه كثير من الباحثين إلى دراسة هذه الناحية للأمواج الهرتزية، أو لم تتجه (ماري سكلودوفسكا) ذاتها المعروفة باسم مدام (كيري) شطر الأمواج الهرتزية قبل انشغالها بالنشاط الإشعاعي، وكشفها للراديوم؟. إننا نعرف أنها حاولت أن تتخذ لها مكاناً في معامل الأبحاث الطبيعية في السربون التي كان يديرها في ذلك العهد (ليمان المعروف بكشفه لفوتوغرافية الألوان، ولم يكن المكان ليتسع للأجهزة التي أرادت أن تستخدمها في بحثها، فاتجهت الطالبة البولونية شطر العالم (بكارل) في الوقت الذي كشف فيه أشعة الأيرانيوم، ولا نسرد الوقائع التي يعملها كل من تابع مقالاتنا، وما كان من أمر هذه الفتاة بعد ذلك فيما أوتيت من حظ في بحثها الموفق، فقد خرجت على العالم بالراديوم سنة 1897، وقبل ذلك العهد اتجه (برانلي) الفرنسي سنة 1891 عن غير قصد نحو الأمواج الكهربائية بدراسة طبيعة الكهرباء، ففاز بالكشف عن اللاسلكي؛ وكرت السنون وتقدم (برانلي) و (كيري) لعضوية المجمع العلمي الفرنسي، وفاز (برانلي) وخُذِلت (كيري). أو كان فيما قدمه (برانلي) للعالم ما جعل نصف هؤلاء الذين يسمونهم الخالدين يعرضون عن أعظم امرأة عرفها التاريخ؟ هذا ما سيدركه القارئ في هذه السطور

ليس المجال هنا لنشرح للقارئ جهاز (الراديو)، وسنعمد إلى ذلك عندما تنتهي من قصة العلم الشائقة ومن سرد التطورات التي حدثت في معارفنا عن الكون؛ ولكنا نوجز هنا من الخطوات التجريبية ما له علاقة بحديثنا، وهي خطوات كانت إلى حد كبير أساساً للانتشار الموجي الكهربائي

درس (برانلي) الضوء البنفسجي المنبعث من الشرارات الحادثة من (زجاجات ليد) وتوصل من هذه الدراسة إلى ما يسمونه اليوم التفريغ الموجي للمكثف الكهربائي فتوصل في الواقع إلى عمل مرسل للاسلكي، ولقد وضع (برانلي) في حجرة مجاورة للحجرة التي

ص: 58

كانت بها زجاجات (ليد)(جالفانوميترا) ذا مرآة، وكان يستخدمه في دراسة المقاومة الكهربائية للوحة زجاجية مغطاة براسب من البلاتين وهي دراسة لا ترتبط في شئ ما بدراسة الشرارات الحادثة في الحجرة المجاورة وقد حدث في ساعة كان (برانلي) قريباً من (الجلفانومتر) بينما كان أحد مساعديه يشتغل على زجاجة (ليد) في الحجرة المجاورة. أن رأى (برانلي) رأي العين حركة فجائية سريعة في (الجلفانومتر) لفتت نظره ليدرس السبب في تغير التيار في هذه اللحظة التي لم يعمد فيها إلى تغييره، وبالأحرى أراد أن يعرف لماذا تغيرت المقاومة الكهربائية لهذه القطعة من الزجاج المغطاة بالبلاتين دون أن يسبب هو هذا التغيير. هذا البلاتين توزع بشكل معين وتجمعت جسيماته بشكل خاص كما تتجمع أو تنتظم البرادة الحديدية عند هزها، وقد فهم (برانلي) أن ثمة علاقة بين هذا الحادث وحادث التفريغ الكهربائي في الحجرة المجاورة. وبهذا توصل إلى اختراع أول نوع من المستقبل اللاسلكي يسمونه جهاز التماسك وبذلك يكون قد اخترع هذا العالم المرسلَ والمستقبِل، واستطاع بهما أن يرسل ويستقبل لمسافة تزيد عن 20 متراً وخلال الجدران الإشارات المنبعثة من دائرة كهربائية باعثة، وقد نشر (برانلي) كشفه فعُرف في أنحاء أوربا، وتطلب الباحثون الحصول على نتائج أهم من التي وصل إليها

ولقد كان الفضل في سنة 1899 - وبعد عشرة أعوام من تجارب برانلي الأولى - لماركوني الإيطالي في أن يبعث بإشارات تلغرافية لاسلكية تعبُر بحر المانش، فبعث بأول رسالة إلى (برانلي) نفسه، مشيراً بذلك إلى فضله الأول في الكشف عن اللاسلكي

وشاء الزمن للرجل الذي كشف جهاز التماسك أن يظل حياً حتى اليوم الذي رأى فيه رأي العين (التلفزيون))؛ وهذا يجعلنا نلمس السرعة الخارقة التي تقدمت فيها الكهرباء الموجية في الأربعين سنة الأخيرة

من كان يدري - عند ما عرف (أراجو) و (أمبير) و (أيرستد) آثار التيار الكهربائي لمسافة قريبة، وعندما تنبأ (ماكسويل) عن آثاره لمسافات بعيدة - أن سيصل الإنسان في فن الراديو للحد الذي وصل إليه اليوم؟

من كان يدري أن سيصل (ماركوني) و (فربيه و (فلمنج) إلى اختراع الصمام (اللمبة الإلكترونية) العجيبة فأتموا بها الأعمال الأولى والعظيمة للاسلكي

ص: 59

أما (برانلي) فقد عاش فقيراً يلقي دروساً لطلبة (البكالوريا) وفي الأيام الأخيرة أنشأ المعهد الكاثوليكي معملاً له، وهو معمل مُغطى في أجزائه بطبقة من النحاس، فهو بذلك معزول تماماً عن الذبذبات الكهربائية الموجودة في أنحاء المدينة، تلك الذبذبات التي كانت تؤثر على أجهزته الدقيقة، فقد كان يمقت في سنيه الأخيرة الإذاعات اللاسلكية المستمرة التي تمنعه عن مواصلة أبحاثه، وحبس نفسه في ذلك القفص النحاسي لينجو من آثار كشفه الأول إلى أن وافتنا الأنباء بوفاته في الشهر الحالي عن 96 عاماً.

وأستميح القارئ عذراً في سرد جزء أصبح في الواقع بعد وفاة (برانلي) من أبواب التاريخ، فقد ذهب (برانلي) للتاريخ يحكم على أعماله، ولكن العمل الذي قدمه يستحق منا أكثر من هذه السطور

وسأحدث القارئ في المقال القادم عن سبر العلماء لمراحل الإشعاع المختلفة من الراديو إلى الأشعة النافذة مشيراً إلى عمل (لويه) وسيرى القارئ من كل ذلك أن الضوء والكهرباء أمواج كونية واحدة، بحيث لو أننا فقدنا البصر لأمكننا أن نعرف الموجودات، وسنطلعه على شيء يدور بخلدنا، ولمناسبة ما نخوض فيه الآن، عن احتمال قد يكون لصفات الأحياء التي لا زالت فرضية والتي قد تكون موجودة في الكواكب الأخرى. هذه تأملات تبدأ تأملات، ولكنها تصبح برنامجاً للقارئ نحدثه عنه قبل أن نحدثه عن الضوء كمادة في الوجود، وقبل أن نشرح له نوع التفكير الجديد للعالمين الكبيرين لورانتز وأينشتاين.

محمد محمود غالي

دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون

ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم

المهندسخانة

ص: 60

‌القصص

عيد الربيع

للأستاذ محمد سعيد العريان

منذ عام لم تكن (نُضار) في مثل حالها اليوم. . . شتان بين ما كانت وما صارت!

هاهي ذي تخرج اليوم من محبسها الذي اعتزلت فيه الناس أشهراً لا تراهم ولا يرونها إلا كما ينظر العابر العجلان إلى تمثال قائم في عرض الطريق!

لم يكن ثمة ما يربطها بالناس بعد ما مات أبوها وهجرها خطيبها؛ فما شأنها وشأن الناس وما ترجو منهم وما يرجون؟

لقد عرفت من طباع الناس وهي معتزلة بعيدة أكثر مما كانت تعرف وهي تخالطهم وتعيش بينهم؛ وكذلك لا تتكشف حقائق الأشياء لمن يراها إلا على مبعدة!

منذ عام مات أبوها، وما كان لها في الحياة غير أبيها وغير خطيبها (رشيد)، وكانت تعيش من بيت أبيها في نعمة سابغة وظل وارف؛ ولم يكن لأبيها - منذ ماتت زوجهُ - غاية يسعى لها غير إسعاد ابنته؛ فَقَصر عليها عواطف قلبه ونوازع وجدانه وعاش لها، لا يرى لنفسه حقاً في متاع من متاع الرجال ما دامت ابنته سعيدة!

وكان لأبيها وظيفة ذات أبهة ومظهر، وكان لها جمال يفتن ويسحر؛ فتهافت الشبان على التماس رضاها والحظوة عندها، ولكن فتى واحداً هو الذي استطاع أن يحملها على الإذعان والرضا؛ وعرفها رشيد وعرفته، وعرفه أبوها، وتواعدا على ميعاد تنتقل فيه (نضار) من بيت أبيها إلى بيت رشيد!

. . . وعاشت حيناً سعيدة بأحلامها، لا يشغلها همٌّ من هم الحياة واستيقظت فجأة من أحلامها حين وجدت أباها مُسَجَّى في فراشه والطبيب بجانب سريره ناكس الرأس أسوان؛ ورأت في عيون الرجال من عُوَّاد أبيها دموعاً تترقرق فصرخت في لهفة: أبي. . .! وتلاشى الصدى ولم تسمع جواب أبيها. . . ودنا منها خطيبها يواسيها وفي صوته نبرة حزن، ولمعت دمعة بين أهدابه فأطبق جفنيه ولوى وجهه. . .

وخرج أبوها من الدار إلى غير مَعاد، وخرج خطيبها يشيع الجنازة فلم يعد، ولبثت الفتاة وحدها تنتظر. . .

ص: 61

وخرس جرس الباب فما عاد يستأذن عليها أحد. . . وما عادت تسمع خفق أقدام أبيها عائداً من الديوان بعد الظهر، ولا صوت نداء خطيبها قادماً لزيارتها في المساء؛ أما أبوها فإنها تعلم أين ذهب، وأما خطيبها. . .

بلى لقد عرف رشيد من شئون صاحبته ما لم يكن يعرف. . فاتخذ طريقاً غير الطريق التي كان يسلكها كل يوم، وماذا يحمله على الزواج من فتاة ليس لها جاه من أهل ولا غنى من مال، وهو لو شاء لوجد عند غيرها الجاه والمال والسعادة. . . هكذا قالت له نفسه، فمضى وخلّفها. . .!

لقد كان أبوها هو كل ما تملك من غنى وجاه، وقد مات أبوها، فماذا بقي؟

ومضى شهر، وراحت نضار تقبض (المعاش) الشهري الذي فرضته لها الحكومة بعد موت أبيها. . . وعادت وفي يدها ثلاثة جنيهات. . . ذلك كل ثروتها، وكل العوض من أبيها الذي مات!

وفي اليوم التالي كانت عربة نقل كبيرة تحمل متاعها من البيت الذي عاشت فيه هي وأبوها ما عاشت. . . إلى غرفة مفردة على سطح بيت كبير من بيوت الحي؛ وكانت الخادمة تحمل صرة ثيابها ذاهبة. . .

وتغيرت منذ اليوم عيشة نضار، وانقادت صاغرة لما فرضت عليها الحياة!

ولزمت غرفتها على السطح، لا تفارقها إلا لحاجة، واعتزلت الناس لا تراهم ولا يرونها إلا كما ينظر العابر العجلان إلى تمثال قائم في عرض الطريق!

ومضى عام. . . وهاهي ذي اليوم تفارق محبسها لغير حاجة، تلتمس جديداً في حياتها المملولة الجافة التي تحياها منذ مات أبوها. . . اليوم عيد الربيع. . . وقد خرج الناس من بيوتهم جماعات مبكرين إلى شاطئ النيل، وإلى حدائق الجزيرة ورياض الجيزة والقناطر الخيرية، يتملون جمال الحياة ويتمتعون بما أحل الله وما حرم من طيبات وخبائث. . .

وذكرت نضار ما كان من ماضيها. . . مَن ذا يراها في مجلسها ذاك على المقعد الخشبي في شارع (مسبيرو) وعليها ذلك الثوب الأسود الحائل، وفي عينها تلك النظرة الساهمة، وفي وجنتيها هذا الشحوب. . . مَن ذا يراها في مجلسها ذلك فيعرفها ويذكر ما كانت. . .؟

لقد آثرت ذلك المكان القصي الذي لا يطرقه أحد ممن تعرف من سكان الحي، لتكون بنجوة

ص: 62

من عيون الفضوليين؛ أفكانت تحسب أن أحداً من أهل الحي يعرفها حين يراها، أو يذكرها؟. . . ولكن فيها بقية من حسن الظن بالناس!

ومرت بها مواكب الأطفال في ثيابهم وزينتهم، يحملون في أيديهم طاقات الزهر، وينفح من أعطافهم عطر الربيع وريحانه؛ وتتابعت أسراب الفتيات في غلائلهن الموشاة وأزيائهن الفاتنة يتمايلن ضاحكات عابثات عبث الصبى والدلال؛ ومضت طائفة من الفتيان في آثارهن يغنون ويتطارحون أناشيد الهوى والشباب والأمل المنشود؛ وكان على الشاطئ فتيان يقرعان كأساً بكأس؛ وعلى المقعد القريب فتى وفتاة يتناجيان في همس؛ ومرت سيارة تتهادى وفيها اثنان ينشئان قصة حب. . .

ونضار جالسة على مقعدها وحدها، تسمع وترى وتذكر صوراً من ماضيها، وذكرت فتاها الذي كان، وذكرت أباها. . .

في مثل هذا اليوم. . . منذ عام. . . كانت وكان. . . وعادت إلى ماضيها، واستغرقت في حلم طويل. . .

ومر بها فتى، وتبادلا نظرتين، وأطرقت نضار من حياء وعادت إلى ذكريات ماضيها، وخطا الفتى إليها خطوة، وكانت على شفتيه ابتسامة. . . وفي عينيه نظرة تعبر عن معنى. . . وقال لها: أنت وحدك وأنا وحدي!. . .

وتضرمت وجنتاها حياءً وغضباً وسكتت؛ وعاد الفتى يتم حديثه. . . ونظرت إليه ثانية وهمت أن تتكلم، ثم أمسكت. . . فليقل ما يقول ثم يمضي لشأنه؛ ليس ينبغي لمثلها أن ترد على مثله. . . وخطا الفتى خطوة أخرى جلس على طرف المقعد؛ فجفلت الفتاة ونهضت وفي عينيها غضب وسخرية!. . .

واستيأس الفتى فمضى لشأنه، وعادت الفتاة لشأنها. . . وتعاقبت على عينيها صور. . . وترادفت مواكب الفتيان والفتيات، وتجاوبت أناشيد الهوى والشباب، ورن الصدى في أذنيها؛ وذكرت فتاها. . . وحنت إليه، واصطرعت في نفسها عاطفتان، فرضيت ثم سخطت، وترقرقت في عينيها عبرة. . .

. . . واتخذت نضار طريقها إلى مأواها وفي نفسها ألم، وإن ضحكات المرح والمسرة تتجاوب حواليها؛ ومضت تحدث نفسها وتستمع إليها، وفجأة برز لعينيها منظر. . . هذا

ص: 63

رشيد وفتاة معه، يا ويلتا! إنه لهو، وتلك صديقتها (سعدية) وما لرشيد وسعدية؟. . . وأين وأيان اجتمعا؟. . . أتراه حين هجرها أبدل بها صديقتها؟. . . ولكن سعدية مسماة منذ سنوات على ابن عمها. . . أتراها هجرته بعد أن مات أبوه. . .؟

وخنقتها عبرة، ودار رأسها وكادت تسقط، فاستندت إلى الحائط؛ وتوارى الفتى وفتاته في زحمة الناس؛ وثابت نضار إلى نفسها، فاستأنفت السير؛ وكان فتيان وفتيات يزحمون الطريق مثنى مثنى، وكأن كل اثنين من نجواهما في خلوة. . ومضت تشق طريقها وفي نفسها عواطف تصطرع وتثور؛ وهتف هاتف في أعماقها: أكل أولئك. . . وأنت وحدك. . .؟

وهمت أن تعود من حيث أتت، فتجلس ساعة على المقعد الذي كانت تجلس عليه في شارع مسبيرو، على الشاطئ النيل. . . حيث قال لها فتى منذ قليل: أنت وحدك. . . وأنا وحدي. . .! فمالها طاقة على مثل هذه الوحدة الذليلة. . . واليوم عيد الربيع. . .!

وصرت أسنان الفتاة، وقمعت خواطرها، واستأنفت السير، وراحت تسائل نفسها: أكذلك الحياة؟ ليتني لم أكن أعلم. . .!

وراحت تصعد السلم درجة درجة وهي تعد، وكان البواب جالساً يهمس في أذن ضيفه؛ ورنت ضحكة البواب وصاحبه في أذنيها، فوقفت وأحمر وجهها من الغضب؛ أتراه يحدّث صاحبه عنها؟ فماذا يقول؟. . . أم تراه يحسبها فتاة كبعض مَن رأت اليوم؟ ومِن أين له أن يعرف حقيقتها؟. . .

وما ظنُّ الناسِ بفتاة عزباء، تعيش وحدها في غرفة على السطح، ليس لِباب السطح بواب، تخرج حين تخرج وحدها وتعود حين تعود، لا يعرف أحد أين ذهبتْ ومن أين جاءتْ؟

. . . وتماسكتْ من ضعف، واستأنفت الصعود. . . وبلغتْ غرفتها فارتمت على سريرها باكية!

وأخذتها غفوة واستيقظت أحلامها؛ ولما صحْت من غفوتها بعد ساعة؛ كانت نظرتها إلى الحياة غير ما كانت. . . وماذا يجديها أن تحرص على التزام الجادة والناس هو الناس، وكل فتاة عندهم ككل فتاة؟

. . . وجلستْ نضار إلى المرآة تتزين - المرآة التي لم تجلس إليها منذ عام مجلسَ فتاةٍ

ص: 64

إلى مرآتها، ونفضت الغبار عن حقيبتها، وراحت تبحث فيها عن شئ من تراث الماضي. . . وخلعت ثوب الحداد الذي لم تغيره منذ لبسته. . .!

وسمعتْ طرقاً على الباب. . . وفتحت. . . فابتدرها البواب يُؤذنها أن فتى بالباب يسأل عنها، وابتسم. . . وشحب لونها، وقالت في صوت يرتعش: ما اسمه؟ وماذا يريد؟. . .

ولكن البواب لم يكن يعرف أسمه ولا ماذا يريد؛ فما كان يعنيه إلا أن يؤذنها أن زائراً يسأل عنها، ثم هبط مسرعاً. . .

وأطلَّتْ الفتاة وراءه لترى، ولكنها لم تر. . .!

. . . لقد غشيتها الدموع وحضرتها الذكرى فما تستطيع أن تسمع أو ترى أو. . . تفكر!

منذ عام لم يهتف هاتف باسمها ولم يزرها زائر. . . فمن يكون هذا الطارق؟. . .

وعاد إليها البواب برسالة في يده قبل أن تجد نضار جواب سؤالها؛ وتناولت منه الرسالة بيد ترتجف، وراحت تقرؤها وهي في طريقها إلى غرفتها. . . وسقطت دمعتان على القرطاس في يدها وكانت تبتسم. . . ولم تفطن إلا بعد حين أن البواب لا يزال منها على مقربة؛ ولأول مرة منذ سكنت هذه الغرفة المفردة، شعرت أن من الواجب عليها أن تمنح البواب شيئاً. . . فعادت حقيبتها الصغيرة ومدت يدها إليه بقروش. . .!

وأغلقت بابها وراحت تعيد قراءة الرسالة؛ ثم رفعتها إلى شفتيها فقبلتها قبلة، وهمست: نعم، أحبك لأنك أنت. . .

وحتى في خلوتها لم تنس أنها امرأة. . فعادت تقول: نعم. . .

لأنك أنت تحبني حين لم يذكرني أحد!

ثم طوت الرسالة وأخفتها في صدرها. . .

كان (سامي) يعرفها من زمان، وكانت تعرفه؛ ورآها ذات ليلة تحدثه في منامه ويحدثها فطمع. . . وكان مجمعاً أمره على خطبتها حين جاءه النبأ بأنها سمَّيت علي رشيد، فطوى جوانحه على آلامه وسكت. . .

وضربت بينهما الأيام فصعدتْ بها إلى غرفة في السطح، ورمت به النوى من بلد إلى بلد إلى بلاد، ثم عاد ليعرف من أمرها ما عرف. . . فكتب إليها. . .

. . . وتم أمرهما على ما أرادا وأظلهما سقف واحد، وابتسمت لها الأيام بعد عبوس!

ص: 65

ومضى عام وجاء عيد الربيع، وقال لها: أين تريدين يا عزيزتي أن نمضي يوم العيد؟

وتغشَّتها الذكرى فأطرقتْ وفي قلبها عواطف تصطرع، ثم رفعت رأسها وقالت وهي تبتسم: أتريد يا سامي؟. . . إنني أفضل أن نجلس على مقعد خشبي على شاطئ النيل، في شارع مسبيرو، ثم نعود. . . . . .

وضحك سامي دَهِشاً وهو يقول: على مقعد خشبي؟ في شارع مسبيرو؟ يالها فكرة! بربك لماذا؟ وأي خاطر ألهمك؟

قالت وفي عينيها بريق وفي صوتها حنان وفي أعطافها نشوة: تسألني لماذا. . .؟ لأنكَ أنت هناك. .! حيث التقينا أول مرة في خطرة فِكر وخفقة قلب، وكنتُ وحدي هناك ولكني كنتُ معك. . .!

محمد سعيد العريان

ص: 66

‌البريد الأدبي

الفرقة القومية تحتفل بمولد الأميرة فوزية

كانت ليلة الثلاثاء الماضي صفحة مجيدة في تاريخ الفرقة القومية، فقد احتفلت فيها بمولد صاحبة السمو الملكي الأميرة فوزية احتفالاً جديراً بمكانتها وكفايتها افتتحه مديرها الأستاذ خليل مطران بك بقصيدة عصماء أنشدها بين يدي المليك، ثم مثلت الفرقة رواية (عبيد الذهب) التي نقلها إلى العربية الأستاذ أحمد الصاوي محمد، فكانت الرواية ببراعة ترجمتها، وطرافة موضعها، ورشاقة أسلوبها، وقوة إخراجها، وحسن تمثيلها نظاماً متسقاً من الفن والجمال واللذة قلما شهدناه في ماضي الفرقة. والحقيقة التي أثبتها هذه الحفلة أن الفرقة إذا ساعدها الكتاب بالاختيار الموفق للموضوع، والترجمة الملائمة للرواية، ظهرت براعتها في الإخراج والتمثيل ظهوراً يجذب إليها هوى الجمهور، ويعقل عنها لسان النقد.

فقهاء ببزنطة

قرأت افتتاحية العدد ال 352 للسنة الثامنة من مجلة الرسالة الغراء بعنوان (فقهاء بيزنطة) لحضرة رئيس التحرير الأستاذ الكبير السيد أحمد حسن الزيات. وقد أعجبني نقده رجال الدين لتشاغلهم بصغار الأمور عن معاليها التي جاء الإسلام بها؛ ووصفه الأستاذ بأنه (هو الذي وضع الدساتير الخالدة لسعادة الفرد والأسرة والأمة والإنسانية في كل زمان وفي كل مكان)؛ ولانصراف أهله عن حقيقته ومقصده، وقد لبسوه كما يلبس الفرو مقلوباً. ونقل العلامة أحمد فتحي باشا زغلول في مقدمة كتاب:(الإسلام خواطر وسوانح): أن السيد رشيد منشئ المنار قال في أمثال من ينتقدهم الأستاذ الزيات: (إن الجبر صار عندهم توحيداً، وإنكار الأسباب إيماناً، وترك الأعمال المفيدة توكلا، ومعرفة الحقائق كفراً أو إلحاداً، وإيذاء المخالف في المذهب ديناً، والجهل بالفنون والتسليم بالخرافات صلاحاً، واختبال العقل وسفاهة الرأي ولاية وعرفاناً، والذلة والمهانة تواضعاً، والخضوع للذل والاستسلام للضيم رضى وتسليما، والتقليد الأعمى لكل متقدم علماً وإيقاناً)

أعجبني نقد الأستاذ كما أعجبتني شكواه من الضعف النشء في معرفتهم الدينية التي يتلقفونها عمن هم حجب على محاسن الدين ومزاياه الحميدة، وقد شعر السيد الإمام كما شعر حضرة الأستاذ الجليل، حينما اختبر أمثال هؤلاء، وألقيت عليه أسئلة كالتي ألقيت

ص: 67

على الأستاذ صاحب (الرسالة) الغراء، وحل السيد رشيد المعضلة التي رجا الأستاذ حلها، وتمنى أن تشرح للناس عبقرية هذا الدين وفلسفة تشريعه ووجوه إصلاحه وأسباب خلوده على ضوء العلم الكاشف ونظام التأليف الحديث (بالوحي المحمدي) وقد طبع في سنتين ثلاث مرات، واتفق على الشهادة له كبار العلماء والأدباء على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم ومختلف أقطارهم. ولو شئت أن أذكر أسماءهم وأنقل جملاً من رسائلهم، لاحتجت إلى صحائف من مجلة الرسالة. على أني أكتفي بأن أورد كلمة من خطاب الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر الشيخ محمد مصطفى المراغي إلى السيد رشيد في وصف كتاب الوحي:

(إنكم وفقتم لفتح جديد في الدعوة إلى الدين الإسلامي القويم، فقد عرضتم خلاصته من ينابيعه الصافية، عرضاً قل أن يتيسر إلا لفرع من فروع الشجرة النبوية المباركة. وقد استطعتم أن توفقوا بين الدين والعلم توفيقاً لا يقوى عليه إلا العلماء المؤمنون. فجزاكم الله عن الإسلام أحسن ما يجازى به المجاهدون)

وكلمة للأستاذ محمد لطفي جمعة في كتاب الوحي المحمدي:

(وفي الحق أنه كتاب جليل يلفت النظر بما أورده الأستاذ مؤلفه من الأدلة العقلية والحجج النقلية، بوضوح وجلاء، على طريقة حديثة لم تسبق للمؤلفين في المسائل الدينية)

وكلمة للأمير شكيب أرسلان: (. . . وقد كتب السيد رشيد هذا الكتاب أيضاً لكل من نشأ نشأة أوربية أي خالية من التربية الإسلامية التي يكون الناشئ قد ارتضع فيها مبادئ الإسلام مع لبن أمه فيقال إنها رسخت فيه من الصغر، ولما كان جميع من يقرءون العلوم العصرية اليوم ويتعلمون بحسب برامج الحكومات الإسلامية الحاضرة هم في الحقيقة أشبه بناشئة الأوربيين ولو كانوا مسلمين نسباً. كان هذا الكتاب موجهاً أيضاً إليهم لأنهم في حكم الأوربيين من جهة فقد التربية الإسلامية أو على ما يقرب من ذلك)

وفي هذا القدر كفاية من شهادة هؤلاء العلماء الإجلاء بأن كتاب الوحي المحمدي هو الحل للمعضلة التي تسألون عن حلها وهو الضالة المنشودة التي تبحثون عنها لتجيبوا سائليكم عن وجود كتاب يبين أن (الإسلام بتوحيده بين الدين والدنيا علاج لأدواء المجتمع ونظام لفوضى الطبيعة وأنه يساير التطور ويطاول الزمن فلا يمكن أن تكون فيه مناقضة للمدينة الصحيحة ولا معارضة للتقدم الحق) وبالله التوفيق.

ص: 68

عبد الرحمن عاصم

معرفة طمي النيل باللاسلكي

يعرض الأستاذ الدكتور محمد محمود غالي أمام الجمعية المصرية للعلوم الرياضية والطبيعية التي هو عضو في مجلس إداراتها بحثاً جديداً يناقش فيه الأهمية العلمية في القطر المصري لتقدير كميات المواد المعلقة في مياه النيل أو الترع مدة الفيضان، ومعرفة الحالة التي تتغير بها في الحيز وفي الزمن. وتتصل هذه المعرفة بموضوع رسوب الطمي في ترع الري أو رسوبه أمام خزان أسوان

وسيتكلم عن طريقته الخاصة لمعرفة كمية الطمي وتحليلها من الناحيتين النوعية والكمية بتعيين سرعة ووزن جسيمات الطمي في الماء بطريقة ضوئية، كما سيتكلم عن طريقة أخرى استخدم فيها ظاهرة التبادل الضوئي الكهربائي لمعرفة سرعة جسيمات كروية في سائل أو غيوم كطمي النيل في الماء، وهي طريقة يتعين بها كمية الطمي المحمولة بالنيل ودراسة الحالة التي يتوزع بها

وسيبين بعد ذلك امتداداً للبحث الأخير توصل بواسطته إلى طريقة لمعرفة كمية الطمي المحمولة بالماء عن بعد دون الالتجاء إلى استخدام الأسلاك الكهربائية، بمعنى أنه يتسنى من القاهرة مثلاً تسجيل كمية الطمي المحمول بالنيل في أي وقت من اليوم وفي أي جزء من النيل مثل العطبرة أو النيل الأزرق أو أمام أسوان

وسيلقى هذا البحث في يوم الثلاثاء 30 أبريل الساعة 6 مساء أمام الجمعية في كلية العلوم بسراي الزعفران بالعباسية

إلى الأستاذ صديق شيبوب

تحية وإعجاباً. . . وبعد:

قرأت قصتكم الممتعة البارعة التي ترجمتموها عن الكاتبة القديرة (سلمى لاجيرلوف). فأخذتني روعتها فكرة وأسلوباً؛ ومن ثَمَّ جئت أتمنى عليك، مشكوراً مني ومن جمهرة القارئين، أن تدأب على ترجمة آثار هذه القصصية العالمية القادرة

ولكن حبي لآثارك الروائع، وحرصي عليها أن تبدو رائعة كاملة، دفعني أن أشير لك في

ص: 69

رفق وهون إلى لفظة جاءت في آخر القصة أعتقد (أنا) أن الأوفق أن تبدل بأنسب منها. رعاية لسياق الكلام، وانسجام المعاني، وأمانة لفن القصة

فقد حكيت في ختام القصة عن شعور الزانية، وتطهر روحها من دنس رجسها (. . . لا تمحي عن بشاعة الخطيئة، وجمال العدل. . .) وكان الأنسب أن تقول: (وجمال الرحمة) لأن العدل لا يجعل في نفوس البشر. إذ كانوا أبداً خاطئين

ولست أدعي أنني رأيت الأصل الفرنسي، ولكني أرجح وفقاً لذوقي أن تكون الكلمة في هذا الأصل هي (الرحمة) بدلاً من (العدل)

على أني أسارع فأقرر أن الرأي لك، وللأصل الفرنسي، ولأصله السويدي. . . وإنما الأمر خلاف ذوقي فقط. . . لا يمس روعة القصة في قليل أو كثير

وتحياتي لك - أيها الأستاذ - مقرونة بتقديري وإعجابي

مراد الكرداني

عدد التلاميذ بالمدارس المصرية في السنة الماضية

يؤخذ من آخر إحصاء رسمي أصدرته وزارة المعارف أن عدد التلاميذ الذين كانوا يتلقون العلم في السنة الدراسية الماضية (1938 - 1939) بالمدارس الأميرية غير الأولية بلغ 77. 029 طالباً

من هذا العدد 64. 682 مسلماً و12219 قبطياً، ومنه أيضاً 76. 729 مصرياً و128 سودانياً، وواحد حبشي، و9 يمنيون، واثنان أردنيان، و18 سورياً، وواحد أرمني، واثنان من الإنجليز، وستة من العراقيين، و31 فلسطينياً، و35 من العرب، و4 من الهنود، وواحد من أهل سيام وخمسة من الأفغان. وستة من أهل جاوا، وواحد ألباني، واثنان أسبانيان، واثنان تركيان و3 من اليونان، و3 من طرابلس، وواحد إيطالي و7 من حضر موت، و16 مراكشياً، و3 من زنجبار، وواحد صيني، وواحد من الجزائر، وخمسة من إيران، و6 من الفرنسيين

ويؤخذ من الإحصاء المتقدم ذكره، أن عدد التلاميذ الذين يتلقون العلم بالمدارس الخاضعة لتفتيش وزارة المعارف 76. 736 طالباً وأن عدد التلاميذ المقيدين بالمدارس الأولية

ص: 70

والمكاتب العامة مليون و119. 47 تلميذاً منهم 640. 790 بنين، 478. 681 بنات

الجندي المجهول

سيدي الأستاذ الزيات:

شغلتني شواغر جمة عن الاطلاع على مجلة الرسالة (العدد 354) الموعد المعتاد فلم أطلع عليها إلا اليوم، ولما وصلت إلى ما نقلتموه من مجلة العصبة البرازيلية وجدت به خطأ أردت أن أنبه إليه إذ قالت في حديثها عن الجندي المجهول إن فكرته نشأت في فرنسا. الحقيقة أنها نشأت في مخ قس إنجليزي سنة 1916. وفي أغسطس سنة 1920 تحدث بها إلى رئيسه الذي نقلها بدوره إلى رئيس الأساقفة، ونفذت الفكرة وأحضر الجندي واحتفل به في نوفمبر سنة 1920. أما طريقة إحضاره فلها قصة طريفة قد تقرأها يوماً في الرسالة إن شاء الله

هذا ما عن لي، وإني لشاكر لكم فضلكم لإفساح صدركم لكلمات القراء المتواضعة

محمد فخري مهنا

كياني أو لساني؟

سيدي الأستاذ الكبير مدير الرسالة

قرأت ما كتبه الأديب الفاضل عبد العليم عيسى عن (ليالي الملاح التائه) للأستاذ الشاعر علي محمود طه فأعجبني منه أنه كان بعيداً عن الغرض والهوى، صريحاً بارعاً في حكمه على شعر الشاعر ومنزلته بين شعرائنا المعاصرين. غير أني أخالفه في أن لفظة (كياني) أرق من لفظة (لساني) في البيت:

قلت والنشوة تسري في لساني

هاجت الذكرى فأين الهرمان

فهي في موضعها أدق وأبرع بكثير من الأولى، فضلاً عن أنها لفظة شعرية خفيفة موسيقية. أما قوله: إنه لا يتصور تلك النشوة التي تسري في اللسان. فهو دليل على أنه ليس من أرباب الكاس والطاس. وقديماً قال الشاعر العربي حسان بن ثابت:

كلتاهما حلب العصير فعاطني

بزجاجة أرخاهما للمفصل

وفسر المعري المفصل باللسان، وهكذا ذكر اللسان والقاموس

ص: 71

حامد القوصي

مدرس بالقاهرة

ص: 72

‌رسالة النقد

في سبيل العربية

تصحيح نهاية الأرب

جزؤه الثالث عشر

للأستاذ عبد القادر المغربي

ص3 س3 قوله: (وتفوهت بأخبار من نبغ من أهلها) أي أهل كل دولة من دول التاريخ، ومعنى (تفوهت) نطقت. ولا يقال في مثل هذا المقام (نطقت) وإنما يقال (نوّهت) ففي كتب اللغة: نوّه فلان بفلان إذا رفع ذكره ومدحه وعظّمه. وهذا هو المراد هنا. فإن المؤلف يمدح النابغين من كل دولة ويشيد بذكرهم.

ص3 س9 قوله: (ولم أعرج في الآخر إلا بالإشارة إليها) فعل التعريج يتعدى بعلى لا بالباء. ففي التاج (التعريج على شئ الإقامة عليه، وفي الحديث: فلم أعرج أي لم أقم ولم أحتبس) فالمعنى في عبارة المؤلف إنني لم أحبس قلمي على شئ إلا على الإشارة إليها، ولم نجدهم ذكروا أن فعل التعريج يتعدى بالباء، ولعل تعديتها بها هنا من ذهول المؤلف لا من خطأ الناسخ

ص11 س21 قوله: (ففتحها) صوابه (ففتحهما) إذ أن الضمير يرجع إلى العينين، وهو خطأ مطبعي

ص25 س14 لما أخذ الله الميثاق على ذرية آدم وهم في ظهره كان أول من أجاب وخرج سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قال المؤلف: (ونادى إلى ذات اليمين وهو يقول. أنا أول من يشهد لك بالتوحيد. الخ) فقوله (ونادى إلى ذات اليمين) صوابه: (وأوى إلى ذات اليمين. أي مال ولجأ إلى الجهة اليمنى فتبوأها صلى الله عليه وسلم ونزل بها، منه قوله تعالى: (إذ أوى الفتية إلى الكهف)(أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة) وفي انحيازه صلى الله عليه وسلم إلى جهة اليمين إشارة إلى أنه من أهل الميمنة السعداء لا من أهل المشأمة الأشقياء

ص29 س14 لما أخرج آدم وحواء من الجنة اضطرا إلى قضاء الحاجة فبكيا (ثم أمرهما

ص: 73

الملك أن يمسحا بالمدر، ثم يغتسلا بالماء) يعني أنه علمهما آداب الاستنجاء في الإسلام، كما علمهما الوضوء فتوضآ وضوء الإسلام. وآداب الاستنجاء كما قال الفقهاء هي الجمع بين المسح والغسل بالماء. فقوله (ثم يغتسلا بالماء) صوابه (ثم يغسلا) أي محل النجو بالماء بعد أن يكونا مسحاه بالمدر أي التراب

ص61 س1 قوله: (وإن شئت بقاء سبع نوايات من تمر) يسأل الملك لقمان إذا كان يريد أن يبقى في الحياة الدنيا بقاء سبع نويات تمر. والنويات جمع نواة فقوله (نوايات) بألف بعد الواو خطأ والصواب حذف الألف

ص67 س11 قوله: (فقال فتىً منهم حَدَث السن) خطأ صوابه (حديث السن) وعبارة المصباح (يقال للفتى حديث السن فإن حذفت السن قلت حدث بفتحتين) أي من دون إضافة حدث إلى السن

ص91 س6: وأمرَ الله الرياح الأربع (فضمَّت ما كان لأهل الرسّ من متاع الخ) هذا حين أراد الله إهلاكهم بسبب عصيانهم. وفعل الربح في كسح ما كان على وجه الأرض من متاع وفتات يسمى كنساً وقمًّا لاضمّاً، فصواب (فضمّت):(فقمت)، يقال: قم البيت قمًّا كنسه. والقُمامة: الكناسة ص93 س2: كان أهل الرسّ يعبدون شجرة صنوبر يقال لها (ساب درحب)، وقوله (درحب) كتبت بحاء مهملة وباء موحدة. وصوابه:(درخت) بخاء معجمة وتاء مثناة في الآخر، وهي كلمة فارسية معناها الشجر، ومنه الشجر المسمى (أزدرخت)، وأصله بالفارسية (آزاد درخت) ويحرفه عوام الشام إلى (زنزلخت) و (زلزلخت) واسمه بالعربية (قيقب) و (قيقبان) ومما يحسن ذكره أن شجرة الصنوبر التي يعبدها أهل الرسّ ويسمونها (ساب درخت) كلمة (ساب) فيها تذكرنا بكلمة الفرنسية التي معناها شجرة الصنوبر. فهل هذه من تلك يا تُرى؟

ص93 س2: (كان يافث غرس شجرة الصنوبر المذكورة على شفير عين يقال لها (دوسات). وكلمة (دوسات) كتبت بسين مهملة وتاء مثناة في الآخر. وصوابها (دوشاب) بشين معجمة وباء موحدة. قال الخفاجي في كتابه (شفاء الغليل): (الدوشاب نبيذ التمر معرب. وذكرت كلمة الدوشاب في شعر لابن المعتز، وكذا في شعر لابن الرومي، وفسرها شارح ديوانه بالنبيذ الأسود. وقال السمعاني الدوشاب هو الدبس بالعربية. أه - قول

ص: 74

الخفاجي. وسألت إيرانياً من سكان دمشق عن (دوشاب) في لغتهم، فقال هو الشيرا. لا يخفى أن (الشيرا) لفظة تركية معناها عصير العنب الذي اعتصر حديثاً فأصبح حامضاً ولم يصل إلى درجة الإسكار، وهو المسمى بالعربية (مسطار) بضم الميم أو كسرها. وقد اختلفوا في أصل مسطار حتى قال بعضهم إنها رومية تلقفها أهل الشام من سكان سوريا الأصليين. والحاصل أن (الدوشاب) شراب يتخذ من عصير العنب سميت به عين الماء التي غرس يافث عليها شجرة الصنوبر المسماة (ساب درخت)

ص96 س19: (وهو الذي أنشأ كوثاربا من أرض العراق). قوله (كوثا) كذا بالألف، وصوابه (كوثي) بالياء المقصورة لأن (كوثي ربا) ليس كلمة واحدة بل كلمتان:(كوثي) مضافة إلى (ربا) قال صاحب كتاب (مراصد الاطلاع في أسماء الأمكنة والبقاع: (وكوثي بالعراق في موضعين (كوثي الطريق) و (كوثي ربا) وبها مشهد إبراهيم الخليل عليه السلام، وهما قريتان الخ. وقد كتبت (كوثي) بالياء المقصورة في آخرها. وفي القاموس وشرحه (وكوثي بلدة بالعراق وتسمى (كوثي الطريق) و (كوثي ربا) من ناحية بابل بأرض العراق أيضاً وفيها ولد الخليل وطرح في النار) اهـ. وقد كتبت (كوثي) بالياء المقصورة كلما ذكرت. فالواجب تصحيحها في هذه الصفحة وص98 وص111 وكل صفحة سواها

ص 105 س18: (وبينما إبراهيم قاعداً) كذا بالنصب وصوابه (قاعد) بالرفع على الخبرية كما ورد مرفوعاً في أول ص 169 إذ قال ثم: (فبينما هو مشتغلٌ بالذكر)

ص 108 س 10: (وأُدخل - أي إبراهيم الخليل - المضيق تحت الأرض) وصوابه: (المطبق). قال في مستدرك التاج: (المطبق كمحسن سجن تحت الأرض) ويؤيد هذا ما جاء في الصفحة نفسها س15: (وكان إبراهيم يسلّي أهل السجن)

ص112 س1: (فأمر بالتنور فأُسجر فطُرح إبراهيم فيه) قوله: (فأسجر) مصدره الأسجار. ولم أعثر عليه في كتب اللغة وإنما هو ثلاثي سجره سجراً، ومن التفعيل سجَّره تسجيراً ولا دخل للناسخ في هذا الخطأ بل السهو فيه من المؤلف في غالب الظن

ص115 في السطر الرابع وسطور أخرى تلته ورد أسم (سارة) زوجة إبراهيم الخليل مشدّد الراء، ولعل الصواب تخفيفها، لأنها كلمة عبرانية معناها (أميرة) كما في قاموس الكتاب المقدس. وقد نبهت دائرة المعارف البستانية إلى تخفيف راء (سارة) مذ كتبتها

ص: 75

بالحروف اللاتينية هكذا وتخفيفها هو الشائع على الألسنة في بلاد المشرق حتى أن معاجم اللغة العربية لم تشر في مادة (سرور) إلى أن (سارة زوجة الخليل مشددة الراء حتى يكون عربياً بل سكتت عن ذلك. ولعل في سكوتها ما يشعر بأن اسم (سارة) ليس من مادة السرور العربية. وعندي أن هذا هو الصواب إذ لا يعقل أن (ماحور) العبراني والد سارة يسميها باسم عربي في معناه عربي في اشتقاقه، اللهم إلا إذا ادعى مدع بأن اسم (سارة) المخفف نقله العرب إلى لغتهم ثم عربوه وأفرغوه في قوالبها فشددوا راءه. وروي صاحب القاموس عن اللحياني (امرأة سرّة وسارّة تسرّك) وسمعت فتى يذكر أختاً له فسماها (سارَّة) وشدد الراء فقلت: ولماذا شددت الراء والناس يلفظونها مخففة قال: إن جدي هو الذي سماها وأوصى ألا يلفظ أسمها إلا مشدداً قلت: لا كلام إذن وكأن جدك يعتقد أن أسم (سارة) عربي مادة واشتقاقاً. وأما إذا كنا نتحدث عن السيدة (سارة) العبرانية فيحسن أن نلفظ أسمها مخففاً كما سماها أبوها (ما حور).

ص125 س20 (ثم خرجت امرأة لوط وبيدها سراج كأنها تُشْعل) ضبط فعل (تشعل) بلعين المهملة المفتوحة على البناء للمجهول من فعل شَعَل النار وأشعلها إذا ألهبها. ولا معنى لذلك هنا، ولعل صوابه (تشغل) بالغين المعجمة من الشغل والاشتغال، والمعنى أن امرأة لوط لما علمت بضيوف زوجها من الملائكة وهم على شكل غلمان حسان، خرجت في الليل وبيدها السراج توهم زوجها الذي استكتمها الخبر أنها مشغولة بأمور المنزل كتفقد خادم أو علف دابة وبذلك تسنى لها أن تخلص إلى فساق قومها فتخبرهم بخبر الضيوف. على أنه يصح أن تكون (تشعل) من إشعال النار لكن يكون صوابه (تشعله) بضمير النصب والبناء وللمعلوم أي توهم زوجها أنها تريد أن تشعل السراج وتوقده لتستضئ في خدمة بيتها ثم انسلت إلى فساق قومها

ص127 س7 قوله: (حتى بلغ بها إلى البحر) صوابه (بلغ بها البحر) من دون حرف الجر لأن فعل البلوغ يتعدى بنفسه، والقول بأنه مضمن معنى الوصول تكلف لعدم ما يدعو إليه من نكت البلاغة التي تزيد في إيضاح المعنى أو تأكيده أو تورث الكلام حسناً أو غير ذلك من الاعتبارات التي يراعيها البلغاء عادة في التضمين وإلا كان خطلاً

ص132 ص10 (غيابت الجب) كذا بتاء طويلة أو مجرورة وصوابه (غيابه بتاء مربوطة

ص: 76

كما هي قاعدتها. نعم إنها تكتب في المصحف الشريف (غيابت) إتباعاً للرسم المأثور

ص139 س7 (وقيل إن النساء خلون به ليعدِّلنه لها) يعني أن نسوة المدينة لما بلغن خبر جفوة يوسف لزليخا امرأة العزيز خلون به ليعدلنه، وقد ضبط فعل (يعدلنه) بالدال المهملة المشددة من فعل عدَّله إذ أقامه وسواه. فالنسوة بذلن جهدن في تعديل يوسف وتقويمه لأجل امرأة العزيز ولأجل أن يواتيها على ما تريد منه، ولكن ليس المقام مقام تربية ولا تقويم غلام اعوجت أخلاقه والتوت طباعه، وإنما المقام مقام حب وجفاء، ونسوة أقمن أنفسهن وسطاء أو شفعاء. فالأصوب والأليق بالمقام أن تكون (يعذلنه) بالذال المعجمة من العذل الثلاثي (أو التعذيل المزيد على الثلاثة للمبالغة) على معنى أن النسوة خلون بيوسف وأخذن في عذله ولومه على ما كان من جفوته لسيدته وإعراضه عنها وقد فعلن ذلك خدمة لها وفي سبيل مصلحتها

ص 154 س14 قوله: (تيناك) صوابه (أتيناك) وهو خطأ مطبعي

ص181 س15 أم موسى دخلت على آسية امرأة فرعون فلم تعرفها آسية (لأن أم موسى دخلت عليها في حلبة المراضع)(حلبة) كذا بالباء الموحدة، والحلبة خيل السباق ولا معنى لها هنا وصوابه (حلية المراضع) بالياء المثناة قال في المصباح الحلية الصفة وقال في الأساس: عرفته بحليته أي بهيأته. فآسية لم تعرف أم موسى لأنها دخلت عليها بصفة مرضعة وعلى هيئة المراضع وهو أيضاً خطأ مطبعي

213ص 8س: أفواج الملائكة كانت تمر على موسى فكان منهم فوج (لهم نحيب بالتسبيح والتقديس) النحيب البكاء أو أشده أي أنهم كانوا يبكون بسبب تسبيحهم لله. وهو ظاهر، ولكن الأظهر منع بل الأشبه في هذا المقام أن تكون (نحيب) مصحفة عن (نحيت) بتاء مثناه في آخرها وهو اللهث وشدة تتابع النفس أي أن هذا الفريق من الملائكة من شدة ما لّجوا في التسبيح وألُّحوا جعلوا يلهثون حتى كاد يلحقهم البُهر وهو انقطاع النفس

220ص 8س: في صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنهم (يُصَفُّون في صلاتهم صفوفاً كصفوف الملائكة) وقد ضُبط فعل (يُصفون) بضم ياء المضارعة مجهولاً أي أنهم قد صفّهم صافّ. والأفصح أن يضبط معلوماً يقال في الفصيح صفَّهم فصَفّوا أي اصطفوا. فهو لازم متعد. ومن اللازم قوله تعالى في وصف الملائكة أيضاً (والصافات صفاً) أي أقسم

ص: 77

بجماعات الملائكة المصطفة في مراتبها لعبادة ربها. وفعل الصف إذا أُسند إلى من يصطف بنفسه استعمل معلوماً يقال: صف الجند وصفّت الملائكة وإلا استعمل مجهولاً: صُفَّت النمارق (ونمارق مصفوفة) صُفّت السُرر (على سُررُ مصفوفة)

ص220 س 9 في صفة أمة محمد أيضاً: (لا يدخل النار منهم أحد إلا من الحساب مثلما يرمي الحجر من وراء الشجر) قوله (إلا من الحساب) محرّف، وصوابه (إلا مَرّ الحُسْبان) والحسبان جمع حسبانة ضرب من السهام صغار قصار كالمسال. يعني أن أمة محمد لا يدخلون النار إلا مروراً كمرور السهام. ومرور السهم ومروقه يضرب مثلاً لسرعة النفاذ. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في صفة الخوارج:(يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) وزاد هذا المعنى وضوحاً قوله بعده: (مثلما يرمي الحجر من وراء الشجر) فلا جرم إن الحجر إذ ذاك يمر خلال غصون الشجر بسرعة ثم يخلص إلى الجهة المقابلة من دون أن يمكث في الشجرة أو يعلق عليه شئ منها. وهكذا أمة محمد تمر في النار على هذا النحو. وكتبت (مثل ما) هكذا مفصولة. ولعل الصواب أن تكتب متصلة كما كتبناها آنفاً

ص242 س2: (فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول) قوله (فحملوه لعل صوابه (فحملوهما) أي حملوا كلاً من الخضر وموسى وإن كانوا لم يعرفوا إلا الخضر. ويشهد لما قلنا قوله بعد: (فلما ركبا في السفينة) بألف التثنية أي الخضر وموسى

ص258 س12 (لولا بنو إسرائيل لم يخثر الطعام ولم يخبث اللحم) قوله: (يخثر) بالثاء المثلثة أي يغلظ بعد أن كان مائعاً. ولا يستقيم المعنى عليه هنا وإنما صوابه (يخْنز) بنون وزاي: خنز اللحم والجوز والتمر فسد وأنتن، أي أن الطعام أصبح معرضاً للفساد والنتن بسبب عصيان اليهود لأوامر الله تعالى. ويدل على صحة ما قلنا قوله بعده:(ولم يخبث اللحم) فإن خبثه يمنع من أكله. وأصبح المقام يتطلب أن يلحق الطعام آفة تمنع من أكله أيضاً وتلك الآفة هي خنوزة، ونتنه أما خثوره أي غلظه واشتداده فلا يمنع أكله. على أن الطعام لا ينسب إليه الخثور وإنما الخثور للبن: يقال خثر اللبن خثراً وخثوراً وخثراناً غلظ واشتد بعد أن كان رقيقاً مائعاً

ص 259 س20 (تقول العرب فوموا لنا أي اختبزوا) ضبطّ فعل (فوموا) بالتخفيف أي بضم الفاء والميم ثلاثياً على وزن قوموا. وصوابه (فَوِّموا) بتشديد الواو من التفعيل كما

ص: 78

ضبط كذلك في اللسان والتاج قالا: (يقولون فَوِّموا لنا بالتشديد يريدون اختبزوا)

ص270 س10 وس15 وس16 زمزي بن شلوم تزوج كستي بنت صعور مرغماً الشريعة التوراة، فغضب موسى وأصيب بنو إسرائل من جراء ذلك بالطاعون. فدخل فنحاص العيزار القبة على العروسين وطعنهما بحربته الحديد الثقيلة فانتظمهما وخرج بهما إلى القوم رافعاً حربته، قد أخذها بذراعه واعتمد بمرفقه على خاصرته وأسند الحربة إلى لحيته فرفع الطاعون، قال: ومن أجل ذلك يعطي اليهود ذرية فنحاص من كل ذبيحة الخاصرة والذراع واللحية. أقول: لا يخفى أن اللحية هي الشعر النابت على الذقن أي عظم الحنك. والشعر المذكور لا يمكن أن يكون نقطة ارتكاز لحربة من حديد تحمل جثتين بشريتين، بل إن عظم الحنك نفسه لا يصلح لذلك، وإنما صوابه: وأسند الحربة إلى (لبته)، وكذا في السطرين الآخرين (اللبة) مكان (اللحية) ولبته مكان لحيته واللبة على الصدر حيث تقع القلادة أو نقول هي الزوْر وهو ما ارتفع من الصدر إلى الكتفين. وما زلنا في المواسم ومواكب المحمل نرى حملة الأعلام والرايات الكبرى لا يستطيعون حملها ما لم يسندوها إلى لباتهم أي أعلا صدورهم لا إلى لحاهم ولا إلى ذقونهم، على أن الذبائح التي يُعطى منها أولاد فنحاص لا يُقل أن يعطوا منها مع الخاصرة والذراع شعر اللحية، ولا لحي للذبائح ينتفع بشعرها وإنما يعطون لبّاتها وأزوارها

ص270: في آخر هذه الصفحة يحكي خبر (بلعام) وقد قدِم على بن إسرائيل راكباً أتانه قال (فلما عاين عسكرهم قامت به الأتان وقد وقفت فضربها بلعام الخ) معنى (قامت به) وقفت به قال صاحب القاموس (قامت الدابة وقفت عن السير) فقوله: (وقد وقفت) بعد قوله: (قامت به) مستغنى عنه إذ يصبح المعنى به (وقفت به الأتان وقد وقفت) وهو تكرار. فلعل قوله: (وقد وقفت) مما كتب على الهامش تفسيراً لقوله: (قامت به) فألحقها الناسخ بها في المتن أو هي مما جاء في صلب المتن تفسيراً لقامت، ويكون أصل الجملة هكذا (قامت به الأتان أي وقفت) فحرف الناسخ كلمة (أي) التفسيرية إلى كلمة (وقد) التحقيقية فأصبح تركيباً ظاهر البطلان

ص271 س5: (قال موسى يا رب بما سمعت دعاء بلعام عليّ فاسمع دعائي عليه) قوله (بما سمعت) لعل صوابه (كما سمعت) أي اسمع دعائي كما سمعت دعاءه، وإلا فإن (بما)

ص: 79

لا يصح معها معنى الكلام إلا على تخريج بعيد ظاهر التكلف.

(دمشق)

عبد الله المغربي

ص: 80