الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 357
- بتاريخ: 06 - 05 - 1940
إشعاع الإيمان
لكل إنسان إشعاع ينتشر عليك من روحه كلما جلست أليه أو دنوت
منه. وهذا الإشعاع يختلف في القوة والضعف وفي الكثافة واللطف
باختلاف الروح في أولئك كله. ولكن لرجل الدين ورجل الحكم إشعاعًا
عرضيَّا آخر ينبثق عن العالم مادام متصلا بالله، ويصدر عن الحاكم
مادام متصفاً بالسلطان. فإذا انقطع ما بين أحدهما وبين هذه القوة
السماوية أو الأرضية انقلب كسائر الناس يُشع على حسب اقتداره
واعتباره
تدخل على رجل السلطان أو تلقاه فتغشاك منه مهابة تطأطأ من نفسك وتكسر من نخوتك، فإذا خرجت من مدار هالته، أو خرج هو من ملكوت سلطانه، وجدته في رأيك الحر أشبه بالجذوة الواهجة إذا ما تحولت إلى رماد بارد
وتجلس إلى رجل الدين أو تراه فتغمرك منه جلالة تثلج صدَرك بالرضا وتنقع نفسك بالسكينة، فإذا قمت عن مجلسه بقى في بصرك نوره وظل في بصيرتك هداه. وذلك هو الفرق بين قوة تسيطر بمادة الإنسان وقوة تؤثر بروح الله
كان هذا الإشعاع الإلهي من رجل الدين يفعل فعله في القلوب والأبصار من إرشاد ولا وعظ. كان العالم أو شبه العالم إذا دخل قرية أشرقت أرضها بنوره واهتز أهلها لمقدمه، فيهرعون إليه ويعكفون عليه ويجدون فيه الدليل إلى الله، فمصافحته عهد لا ينقض، وإشارته حكم لا يرد، ودعوته بركة لا تنقطع. وكنا في ذلك العهد أحداثا ننظر إلى الشيخ وهو بُهرة المجلس كأنه برهان الله، وهو صامت، ويؤثر وهو ساكن، والقوم من حوله مطرقون مستغرقون فرغت قلوبهم من مطامع الدنيا، وخلت صدورهم من وساوس الشر. فإذا ترك القرية خلف بها عهد الله يتصل به ما انقطع من الأسباب، ويقوى عليه ما وهن من المودة
ذلك لأن الشيوخ كانوا يومئذ يسمتون سمت الأنبياء فيجعلون دينهم ودنياهم وحدة لا تتجزأ؛ فإذا قالوا وعظوا، وإذا فعلوا أرشدوا، وإذا صمتوا كانوا كأعلام البر تدل بالإشارة، أو
كمنائر البحر تهتدي بالشعاع. فلما تشوف العلماء إلى زهرة العيش، واستشرفوا لعزة المنصب، انطفأت من حولهم هالة الورع فأصبحوا كالناس يفعلون فيرمُون بالرياء، ويقولون فيُتهمون بالكذب.
تعال أقص عليك حديثاً من أحاديث لواقع لا يزال الناس يرونه كلما حلا لهم أن يوازنوا بين عالم يجري دينه على لسانه فيذهب في قوله، وعالم يجري دينه في قلبه فيشع من مسامه:
كان الشيخ. . . ففيهاً من النمط القديم، قد شغل فكره بالدين، وقصر جهده على العلم، وهب وجوده للأزهر، فهو يقضي النهار وطرفي الليل في التدريس والمطالعة والصلاة؛ لا يكاد يخرج من درس إلا إلى درس، ولا يترك ملزمة إلا إلى ملزمة. فإذا جاء يوم الجمعة خرج ماشيا إلى زيارة الأولياء في المقابر أو في المساجد، ثم يعود مع المساء قرير العين مطمئن النفس إلى حجرته الأزهرية ذات الفراش الخشن والضوء الشاحب ليعدّ درسه الذي سيلقيه في فجر السبت
وفي ذات يوم من أيام الجمع وقع في نفسه أن يصلي الجمعة في مسجد أبي العلاء ببولاق، فخرج من الأزهر في ضحوة النهار وأخذ يسأل عن الطريق إلى المسجد والناس يدلونه أو يضلونه حتى دفعه القدر إلى المكان الرسمي للمومسات
كان الشيخ يسير في هذا الشارع العاهر بعمته العظيمة وجبته الفضفاضة كما يسير الجمل في شارع من شوارع لندن!
كان موضعاً للنظر الساخر وموضوعاً للتنادر البذيء؛ ولكنه كان يمشي ناكس للطرف مشغول الخاطر فلم يفطن إلى شيء. نعم فطن إلى انتقاض وضوئه حين لمست يده بغي من البغايا تريد أن تعبث به. فاستغفر الله وحوقل، ثم سأل صبياً من صبيان ذلك الحي أن يدله على مسجد يجدد فيه وضوءه، فقد كان يكره أن يمشي على غير وضوء؛ وكان الصبي خبيث الفطرة فاحش الدعابة فدله على بيت مومس وقال له: هذه يا سيدي دورة المياه!
دخل الشيخ الدار فإذا فتاة كصورة (القارئة) في متحف اللُّفر قد اضطجعت على كنبتها الوثيرة وهي نصف عارية. فلما رآها أسبل عينه وغمغم بالاستغفار والدعاء ثم قال لها:
- استري نفسك يا بنيتي فقد قربت الصلاة وأوشك المصلون أن يجيئوا
فنهضت الفتاة وقد اعتراها نوع من الوجوم ينشأ بين الدهش والعجب فوضعت عليها بعض ثيابها وقالت:
- ماذا تريد يا سيدي الشيخ؟
- أريد أن أتوضأ. نادي أباك يقودني إلى الحنفية!
ألست ابنة خادم المسجد؟
فأجابت الفتاة وقد أدركت كل شيء:
- بلى يا سيدي أنا ابنته؛ وسأقودك بنفسي إلى الحنفية.
فافتح عينيك واتبعني فقد لبست
وأرشدت المومُس العالمَ إلى مكان الطهارة وهو مغْسلها الوردي الأنيق، فوقف أمامه ذاهلاً يرى أداة الزينة ويجد رائحة العطر، ولكنه لم يسترب. ولم يستريب؟ أما يجوز أن يكون في القاهرة طراز من المساجد لم يره؟
وفتح الشيخ الحنفية وتوضأ، وجاءته ببشكير أوبرَ فأمَّره على وجهه فسطعه أريجه. ثم أقسمت عليه المرأة ليجلسن على الكنبة ريثما تهيئ له فنجاناً من القهوة. فجلس الشيخ يذكر الله، وجلست هي بجانبه تغلي الكنكة وتديم النظر إلى وجهه. فلما تمزز الفنجان سألته: إلى أين يذهب؟ فقال لها: إلى مسجد السلطان أبي العلا. فخرجت أمام الدار ونادت عربة من عربات الركوب فأجلست الشيخ فيها، ثم أعطت الحوذي الأجرة وأمرته أن ينزله أمام الجامع. ورغبت الفتاة أن تقبل يد الشيخ، ولكنه أدخلها مسرعاً في ثوبه وقال: لقد ضاق الوقت يا بنيتي عن وضوء جديد. أسأل الله لك الهداية والمغفرة
قالوا: ورجعت المومس إلى دارها وعليها من الشيخ شعاع نفذ إلى ظلام نفسها فأشرقت بالصلاح والخير؛ ثم لم تُرَ بعد ذلك اليوم إلا في ثوبها الأسود قاعدةً تخيط أو قائمة تصلي!
احمد حسن الزيات
صوت فضولي!
للأستاذ عباس محمود العقاد
منذ أسابيع كانت محطة الإذاعة المصرية تنقل إلى الناس أحاديث شتى من مكان في أرباض القاهرة على ما يظهر
وكانت الأحاديث تجري على صيغة السؤال والجواب، أو الاستيضاح والتوضيح؛ وإن السائلين ليسألون، وإن المجيبين ليجيبون، وإن الأدوار لتتوالى دورا ًبعد دور، إذا بصوت لم يدعه أحد، ولم يأذن له أحد، ولم ينتظره أحد، ولم يسأله سائل أن يجيب، قد شق الفضاء وحيداً ثم ذهب بعيداً. . . حتى توارى في حجاب الصمت، وغاب عن الأسماع كما هو غائب عن الأبصار صوت فضولي!
لكنه أحق من أصحابْ الدار، ومن المدعوين الأصلاء، ومن سائر الأصوات أن يسمع في هذا الأوان
لأنه صوت الكروان
الكروان في المذياع، يقتحمه اقتحاماً بغير داع
أذكرني هذا الصوت الفضولي احتفال الأمريكيين بذكرى الشاعر الإنجليزي العظيم وليام وردزورث منذ أعوام
فإنهم أقاموا في صومعته التي عاش فيها أكثر أيام حياته مذياعاً ينقل إلى عشاق أدبه ما كان يسمعه بأذنيه، ويترجمه لحناً في قصيده. فلما كان الموعد المعروف أصغى المحتفلون في القارة الجديدة إلى أصداء الأثير المنطلقة من الصومعة، فإذا هم يسمعون زقاء العصافير ودقات الساعة القديمة وحفيف الأشجار وخفقات الهواء، وكل ما كان في سمع الشاعر وقلبه وخياله، وفي أوزان شعره وآيات وحيه، كأنهم نقلوا عالم الأطياف كله، فنقلوا أطياف العصافير ومناظر الربيع، كما نقلوا طيف الشاعر من العالم الأخير ومن حصن الخلود المنيع
لكن أطيار (وردزورث) كانت مدعوة منتظرة في موعدها المعروف.
أما كرواننا في مصر، فلم يسمع دعوة من الناس. بل كان كل ما سمع دعوة من الربيع ونداء من الأرض والسماء، فلبّي وأطاع، ولم يضره أنه فضولي في عرف المذياع.
ويح هذه الأطيار!
من أدراها بمواسم الأفلاك؟ ومن أدراها بعدد السنين والحساب؟ ومن أدراها بمواعد الأرض والسماء، ومواسم الصيف والشتاء؟
إنها لتدري!
إنها لتقرأ الخط وتفسر الأرقام وتدرس الأزياج وترقب الأرصاد
إنها لقارئة وحاسبة وفلكية وميقاتية، وكل ما شئت من أوصاف العلم والدراية
مالك لا تصدق؟ ما لك ترتاب؟ اسمع سؤالاً وجوابه، وأنت خليق أن تعلم بعد ذلك من منا على خطأ، ومن منا على صواب:
فقد سأل أناس: لماذا تغرد الطير في الربيع؟ لماذا تتغزل وتتغنى في هذا الأوان؟
فحار بعض العلماء في الجواب، وبحثوا ونقبوا، وفحصوا وقلبوا، ثم عادوا إلى السائل قائلين، وهم على أيقن يقين:
إن الطير تغنى في الربيع لأنها تجد طعامها موفوراً فيه، وإنها لتشبع من ذلك الطعام فتسري فيها حرارة الشبع، فتعرف الحب فيلهمها الحب الغناء!
جواب علماء. . .!
فقل لي بحق العلم عندك: أيهما أحق بالتصديق: أن يسألك السائل كيف تعرف الطير المواسم فتجيبه إنها تعرفها لأنها تدرس الفلك وتقرأ التقاويم وتحسن الحساب، أم يسألك السائل لماذا تغني في الربيع فتجيبه إنها تغني لأنها تجد الطعام؟
ماذا على هؤلاء العلماء لو فهموا أن الحياة التي تنبت الشجر وتكثر الحب وتملأ السنابل بالطعام لن تقف مغلولة اليدين مع الأحياء، ولن يتأتى أن تعطي الأرض ما تعطي وأن تعود إليهم وحدهم بغير عطاء؟
لماذا تثمر الأرض وتشرق الأزهار في الربيع؟
إن هذا لأعجب من تغريد الطير وحركة الحيوان. فإذا استطاع الربيع أن ينفخ الحياة في بذرة ورقة، وفي غصن وثمرة، فما باله يعجزعن ابتعاث الطير وتحريك الأحياء؟ وما بالنا نرجع إلى الطعام ولا نرجع إلى الذي نفخ الحياة في الشجر الأعجف فأصبح طعاماً يأكله من يشاء
لماذا لا يفهم العلماء هذا؟
لأنهم لو فهموه لأصبحوا شعراء. . . وقد يتفق العلم والجهل؛
أما العلم والشعر فمعاذ الله لا يتفقان!
ولا نحب أن نسأل العلماء عن الربيع، فإن الربيع لمن يحسونه لا لمن يدرسونه، والذين يحسونه لا يستكثرون عليه أن ينطق الجماد بالألحان، فضلا عن البلبل والكروان
فلنسأل الشعراء
والشعراء يقولون إن الربيع شباب الزمان. صدقوا، أي تعريف للربيع أبلغ من هذا التعريف؟
ثم ما الشباب؟
قالوا: والشباب ربيع العمر. . . وصدقوا أيضاً. فأي أوان في العمر هو أشبه بالربيع من أوان الشباب؟
لكن ما الربيع والعمر معاً معشر الشعراء؟
هنا يسكت أصحابنا الشعراء، لأنهم لا يحبون الاستقصاء، ولا يتعقبون الأشياء تعقب الأعداء والرقباء
فليكن الشباب ربيع العمر
وليكن الربيع شباب الزمان
وكفى بذلك تعريفاً لمن يحسون. أما الذين لا يحسون فما هم بعارفين، ولا هم معرفون
وكثير من الذين يحسون قد عرفوا للشباب علامات، وإن لم يحصروه بالكلمات، ولا بالأوقات
فقال الموسيقار موريز روزنتال: (إنك لشاب إذا استطاعت امرأة أن تسعدك واستطاعت أن تشقيك، وإنك لكهل إذا استطاعت إسعادك ولم تستطع أشقاءك، وإنك لشيخ فان إذا عجزت معك عن هذا وذاك)
وقالت ظريفة باريسية: إنك شاب إذا أكلت علبة من الحلوى كل يوم واستمرأت أكلها، وإنك لأكبر عمراً إذا قلت إن الحلوى لسم زعاف، ولكنك تأكلها مع ذاك. وإنك لشيخ يائس إذا انقطعت عن أكلها وعن ذمها وعن اشتهائها
وقالت: (إنك لشاب إذا أنت أحببت الكتب والروايات ومناظر السينما التي تبكيك، وإنك لأكبر عمراً إذا أنت آثرت عليها ما يضحكك ويسليك، وإنك لشيخ يائس إذا أعرضت عنها وهي مبكية ومسلية على السواء)
وقالت تخاطب النساء: (أنت شابة إذا نظرت أول ما تنظرين إلى عيني الرجل، وأنت أكبر عمراً إذا نظرت أول ما تنظرين إلى يديه)
وقالت: (أنت شابة إذا راقك الثناء على ذكائك، وأنت أكبر عمراً إذا آثرت الثناء على جمالك ومرآك)
وقالت: (أنت شابة إذا أسفت على وقت ضاع منك في النوم. وأنت أكبر عمراً إذا علمت أن وقتاً تنامينه ليس بالوقت الذي ضاع)
علامات صادقة، لأنها أصدق من توقيت الشباب بالسنة واليوم، ومن حصره بالمصطلحات والتعريفات
وهي صادقة أيضاً لأن المغالطة فيها تجوز حين لا تجوز في مواقيت السنين أو في سمات الشيب والغضون
كان كليمنصو يوم بلوغه الثمانين يتمشى مع صديق في الشانزليزيه، فعبرت بهما صبية فاتنة، والتقت أعين الصديقين، فإذا بعيني الوزير الجليل تلتمعان وإذا به يهتف كأنه يمزح:(ليتني أعود إلى السبعين كرة أخرى؟)
لم قال السبعين ولم يقل العشرين أو الثلاثين. . . أو الأربعين والخمسين؟
لو كان يعلم أن الأمنية تستجاب لتمنى العشرين والثلاثين، ولم يتمن السبعين
لكنها لا تستجاب، فخير له إذن ألا يشهد على نفسه بالفناء وألا يوسع الفارق بينه وبين أيام الغرام. فلأن يكون رجلاً بينه وبين متعة الحياة عشر سنوات، خير من أن يكون حطاماً بالياً بينه وبين المتعة خمسون سنة، ولو في لغة الأماني والأحلام!
سل الشعراء إذن عن علامات الشباب ودلالته، ولا تسألهم عن حدوده وأرقامه، فهم مجيبوك إن سألت هذا السؤال جواباً كجواب العرافين والعرافات يرضي كل سائل ويعجب كل سن ويفتح باب المغالطة على مصراعيه
ومن الذي يأبى أن يثبت شبابه إذا كان الدليل عليه بكاء من رواية أو صورة متحركة أو
كتاب؟
ومن الذي يعجز عن إثبات شبابه إذا كانت السبعون أمنية المتمنين؟
الشباب هو ربيع العمر، وربيع العمر له علامات وليست له حدود
والربيع هو شباب الزمان، والزمان في شبابه يستمع إلى غناء الطير وهتاف الكروان، ولا يحسبه من أهل التطفل والفضول
فليكن كرواننا فضولياً في المذياع بين حوار العلماء والأدباء، فما هو بالفضولي في الربيع بين أزاهر الأرض وزواهر السماء
هو مدعو بكل ورقة على كل شجرة
هو صاحب بيت
هو داع في ربيعه الخالد: ربيع الطير الذي ينفث الحياة، وليس بربيع الإنسان الذي ترقبوه لإزهاق الأرواح وتمزيق الأبدان.
إن صوت الكروان لصوت فضولي في هذا الربيع، لأنه نشوز بين صفير الرصاص ودوي القذيفة، وياله من نشوز جميل!
عباس محمود العقاد
فن الحياة
للدكتور إبراهيم ناجي
الحياة فن جميل. لا، بل عدة فنون متصلة مندمجة، تكون فناً واحداً، هو فن الحياة
وأكثر الناس لا يعرفون كيف يعيشون. أجل، أكثر الناس يتخبطون في ظلام دامس. ولذلك تكون حياتهم شقاء هم السبب فيه
قد تعترضون بأن من أسباب الشقاء ما لا قبل لنا به ولا يد ولا رأى؛ ولكني أرد بأن أكثر الشقاء - ولا أقول كله - هو من مخيلتنا ومن اعتيادنا ومن البيئة التي نوجد فيها
قلت أن الحياة فنون!
ولكن ما هي الحياة أولاً؟ وما هي الفن ثانياً؟
الحياة مطابقة لما بين الدنيا الخارجية والدنيا الداخلية. والفن هو المعرفة مضافة إلى الطبيعة؛ أي الملاءمة بين الداخل والخارج فالحياة والفن من عنصر واحد. فالحياة الفن والفن الحياة
قلت إن الحياة ملائمة بين ما في الخارج والداخل. ويسمى العالم الخارجي (الما كروكزم) أو العالم الكبير، والعالم الداخلي (الميكروكزم) أي العالم الصغير
فما معنى هذا؟
معناه أن انعكاس العالم الخارجي على مرآة أنفسنا هو الذي يشكل الحياة ويعطيها الصورة الخاصة بكل منا، وكلما كانت الصورة المنعكسة على مرآة أنفسنا مطابقة للأصل كانت الحياة أقرب إلى الفن والكمال
وكلما كانت الصورة مشوهة أو مقلوبة أو مبتورة كانت الحياة بعيدة عن الفن والكمال
كيف إذن نجعل هذه الصورة مجلوة على حقيقتها، كحقيقة السماء في أعمق بحيرة في صيف جميل؟
إننا في الحياة نقوم بأشياء كثيرة ملخصها ثلاثة أشياء:
التفكير والحب والعمل
والتفكير فن والحب فن والعمل فن. . .
وقد قسم العلماء التفكير إلى نوعين: التفكير بالجسد، والتفكير بالكلمة. . .
والتفكير بالجسد أقواها وأضبطها، ولكنه محدود ضيق الأفق. فمن ذلك التفكير تفكير القطة التي تثب، والملاكم الذي يضرب. فهذان يفكران بالعين واليد أو القدم، وهذا يسمى تفكير الغزيرة. ويقول أندريه موروا: إن أرقى أنوع التفكير هو الذي ينتقل من التعقل من الغزيرة. يعني بذلك الذي ينتقل من دور التحليل والمنطق إلى دور التنفيذ السليم بوساطة الغزيرة التي تملي على أعضاء الجسد فتقوم بالعمل وتؤديه على أحسن حال.
وهناك التفكير بالكلمة، وهو أشد أنواع التفكير خطراً وأبعدها مدى، وهو كذلك أكثرها تفككاً وإبهاماً. فإن كلمة واحدة تثل عروشاً، وتقلب دولاً، وتغير نظاماً. وإن كلمة واحدة في ميدان السياسة أو الاقتصاد لتفسر ألف تفسير وتؤول ألف تأويل
ما هي قواعد التفكير السليم؟
إن التفكير السليم لشيء نعتاده كما نعتاد أي شيء
فالإنسان (حزمة) من العوائد كما قال ويليم جيمس
والتفكير السليم يكون أساسه أمرين:
الأول: الإيمان بالقواعد التي أثبتت الأجيال صحتها، واتفقت التقاليد المتوارثة على التسليم بها. تلك أصول ثابتة في النفس الإنسانية لا سبيل إلى إنكارها ولا الخلاص منها، وعبث محاولة التفلت من جذور امتدت في أعمق أعماق السرائر الإنسانية وبقيت هناك، وإنما الشجرة التي تنمو من تلك الأعماق وتصل إلى النور والشمس هي التي يباح لها أن تحلق وتتساءل وتبحث. مثل ذلك مثل الطيار الذي يستكشف وهو بعد جزء من الجيش الذي ينتظر إشارته ليهتدي، ثم ينتصر
والأمر الثاني، الأساس الثاني للتفكير هو أمر ديكارتي محض. ديكارتي أي يوقن بعظمة العقل الإنساني وإمكانه التحليل والتعليل والوصول. وهو يبني قدرته على الشك المستند إلى قواعد ثابتة من القضايا المنطقية التي أسلمتها الإنسانية من جيل لجيل
ويتفرع من الأمرين أمر جدير بالتدبر
وهو أنه لكي تكون الصورة المجلوة في نفوسنا سليمة والمرآة غير مجرحة، يجب أن تستبعد الأوهام والخزعبلات والأباطيل، يجب أن تستبعد الفكر الزائفة والأقاويل السخيفة والترهات.
هذا أساس التفكير وهو الفن الأول
أما الفن الثاني فهو الحب؛ ويتفرع منه الصداقة أو هو أبوها وسيدها
إن رأي فرويد أن الدنيا قامت على الحب وعلى الحب وحده؛ وقد تختلف صوره وتتباين أشكاله. فهو حب للوالدين حيناً وللرفاق حينًا وللجنس المخالف ما تبقى منه. وهو عند فرويد خط مرسوم كالقطار يسير من محطة إلى أخرى ما بتر منه أو اقتصد فيه أو شوه، يغير وجه الحياة بحالها
ويقول علماء التناسل: إن الشاب والشابة في سن المراهقة ينشغلان بتصوير المثل الأعلى كل في ناحيته، والأصل في المثل الأعلى عند الشاب امرأة، وعند المرأة رجل، ولكنه لما كان في تلك السن يستحيل تحقيق ذلك المثل، فإن المراهق ينصرف إلى تخيل المثل الأعلى على هواه، فحيناً يكون ذلك شعراً، وحيناً يكون موسيقى، وحيناً تصويراً
وهنا منشأ الفنون الجميلة
فإذا أراد الله تحقيق حلم من أحلام الشباب وجب أن يعلم كل منهما كيف يحب وكيف يستبقي ذلك الحب
وإذا علم كيف يستبقي حبيبه علم كيف يستبقي صديقه
فيجب على الرجل أن يلم أولاً بطبيعة الحب، وثانياً بطبيعة المرأة. ويجب على المرأة أن تلم أولاً بطبيعة الحب، وثانياً بطبيعة الرجل، فأكثر الخلاف بينهما ناشئ من قلة الفهم. كل يتهم الآخر بما ليس فيه، أو يضيف إليه ما ليس عنده
فالحب ليس عنصراً واحداً بسيطاً، بل هو مزيج مركب من الإعجاب، والجنس، وحب الملك، والاعتياد
فلا بد من الإعجاب أولاً. لابد من تلك الصدمة التي تعتري الإنسان أولاً. وثانياً، لابد أن يكون طبيعياً كما أرادت الطبيعة. وثالثاً لابد من أن يحب الواحد منهما الآخر حباً يغرى بالانفراد، ثم بكشف النفس وفتح مغاليق القلب في غير تكلف ولا تصنع. ثم أخيراً لابد أن يعتاد الواحد الآخر، لابد أن يتآلفا باتفاق الميول وتشابه الأهواء. ويقول العلماء إن هذا الاعتياد هو الأسمنت الذي يربط العناصر الأخرى بعضها ببعض
وطبيعة الرجل في أساسها أنه مغامر مفروض فيه القوة والجبروت والقدرة على الحماية،
مفروض أنه الجندي المحارب
وطبيعة المرأة في أساسها الأمومة، وما يتفرع عن ذلك من حنان
وهي التي تهيئ الوسادة المريحة للجندي، وتبني له العش الهادئ الجميل. فمفروض إذن أنها تنال بالبساطة والوداعة والصبر، مادام أساس طبيعتها الحنان، حنان الأمومة. فمهما عصفت وثارت، يجب أن يعرف الرجل أنه في وسط العاصفة كالربان الماهر في البحر الثائر يصبر على العاصفة ولا يكرهها، ويتنكر له البحر ولا يزال يحبه.
وبهذا المقدار من الفهم عند كليهما تبقى المحبة بينهما ثابتة. ويبقى أن نؤكد أن أساس المحبة والصداقة معاً، أن يتجرد الإنسان من الأنانية. يجب أن يعطي لكي يأخذ، فأكثر الناس يأخذون ولا يعطون، وبذلك يفقدون أحبابهم ويفقدون أصحابهم.
ونؤكد أكثر من ذلك أن أساس المحبة والصداقة أمور صغيرة تقوم عليها الحياة، وتقوم عليها الدنيا، وتقوم عليها المحبة والصداقة
فالعظائم لا يقوم بها الرجل الذي لا يقوم بالأمور الصغيرة في شكل عظيم، وكيف نقوم بالأمور الصغيرة في شكل عظيم؟
إننا في الغالب ننسى المناسبات الصغيرة التي لو انتهزناها فتذكرنا أصدقاءنا أو أحبابنا لقيدت تلك السلسلة الرقيقة أحبابنا أو أصدقاءنا بقيود مدى الحياة، كلمة صغيرة، هدية تافهة، لحظة تنتهزها للسؤال عنهم، رنة التليفون في عيد الميلاد، تلك أشياء ينساها أكثرنا، وبذلك تفتر الصداقات وتموت المحبات ووقودها تلك الأمور التوافه. . .
هذا فن الحب، ويبقى فن العمل
العمل قوام الحياة والدعامة التي تقوم عليها. بل هو الدريئة التي نستتر وراءها لننسى متاعبنا وأشجاننا؛ فما دمنا نعمل فنحن في شاغل من عملنا، لا نبالي بسفالات الناس، ولا بأقاويلهم، ولا بسخافاتهم. ولكن هل مجرد العمل يكفي؟
كلا، لابد أن يكون العمل مثمراً، لابد من الجني الشهي، لابد من الراحة بعد التعب. والراحة ذلك الجني الشهي!
حقيقة أن المواهب تختلف، وأن الله ينعم على هذا بالعبقرية ويجعل ذلك في مستوى العامة
ولكن حتى العبقرية تموت إذا لم يتعهدها العمل المنظم.
ورحم الله شوقي حين قال: (السيف يزدهي بالصقال!)
فقد كان جيته لا يخجل من ترتيب عمله
وكانت ساعات عمله منظمة، وهو العبقري المشهور
وكان لا يخجل أن يطرد عنه الزائر البغيض
وكان يقول الذي يشغله في جرأة: أرجوك أن تنصرف، فإني مشغول
وفي الأمثال: أثقل الثقلاء من شغل مشغولاً!
ولكننا نتورط، ونجامل، وبذلك نضيع وقتنا
ومن أسرار السعادة أن نتبع الأفضل، ولا نتبع سبيل المجاملة. وقد قال المرحوم أحمد عبد الوهاب باشا: إن من أسرار النجاح أن تقول (لا) حين يجب أن تقولها
إن هذا التورط ضرب من الفوضى، ضرب من قلة الضوابط التي يتبعثر بوساطتها الزمن وتتمزق الجهود
وقد قال أحد عظمائنا: إن آفة الشباب عندنا أنهم يجاملون وسطاً فيه (فرامل) لا يستعملها أهلها!
قال إديسون: إن العبقرية 99 % عَرَق!
يعني أن العبقرية لا تعني الكسل، بل الجهد الدائم، والحيوية المتدفقة
ولقد يخيل للذي يرى أثر العبقرية في الفنون، أن القصيدة أو الرسم، الذي قد يقوم به العبقري في ساعة أو بعضها من نتاج العبقرية وحدها. وهو واهم فإن خطاً واحداً يرسمه مصور هو جهد سنين، وبيت شاعر قد يلوح بسيطاً، ولكن هاته البساطة خلاصة عهود وأزمان من النصب والتعب
ويشترط في العمل أن تتخلله الراحة، ولا يهزأنَّ أحد بذلك، ولا يتخيلن أحدٌ أن الإنسان في راحته تنقطع الصلة بينه وبين عمله. . . كلا. فالعقل الباطن يشتغل دائماً، والإنسان في الراحة يستجم
هذه أسرار الحياة وفنها الرفيع
فلعلي أكون قد أصبت الحقيقة، والسلام عليكم ورحمة الله
إبراهيم ناجي
في الاجتماع اللغوي
نشأة اللغة الإنسانية
للدكتور علي عبد الواحد وافي
استأثرت هذه المشكلة بقسط غير يسير من نشاط الباحثين في مختلف العصور، وذهب العلماء بصددها مذاهب شتى يرجع أهمها إلى أربع نظريات:
(النظرية الأولى) تقرر أن الفضل في نشأة اللغة الإنسانية يرجع إلى إلهام هبط على الإنسان فعلمه النطق وأسماء الأشياء. وقد ذهب إلى هذا الرأي في العصور القديمة الفيلسوف اليوناني هيراكليت وفي العصور الوسطى بعض الباحثين في اللغة العربية، كابن فارس في كتابه الصاحبي. وفي العصور الحديثة طائفة من العلماء على رأسها الأب لامي في كتابه فن الكلام ' والفيلسوف الفرنسي دو بونالد في كتابه التشريع القديم
ولا يكاد أصحاب هذه النظرية يقدمون بين يدي مذهبهم دليلاً بمطلب يعتد به. أما أدلتهم النقلية، فبعضها يحتمل التأويل، وبعضها يكاد يكون دليلاً عليهم لا لهم. فالمؤيدون لهذا الرأي من باحثي العرب يعتمدون على قوله تعالى (وعلم آدم الأسماء كلها) وهذا النص، كما ترى، ليس صريحاً فيما يدعون، إذ يحتمل أن يكون معناه - كما ذكر ذلك ابن جني في كتابه الخصائص وذهب إليه كثير من أئمة المفسرين - أن الله تعالى أقدر الإنسان على وضع الألفاظ. أما القائلون بهذه النظرية من الفرنجة، فيعتمدون على ما ورد بهذا الصدد في سفر التكوين إذ يقول:(والله خلق من الطين جميع حيوانات الحقول وجميع طيور السماء، ثم عرضها على آدم ليرى كيف يسميها، وليحمل كل منها الاسم الذي يضعه له الإنسان، فوضع آدم أسماء لجميع الحيوانات المستأنسة ولطيور السماء ودواب الحقول)
وهذا النص كما ترى لا يدل على شيء مما يقول به أصحاب هذه النظرية؛ بل يكاد يكون دليلاً عليهم. ومهما يكن من شيء، فلا صلة للدليل النقلي بمقام البحث العلمي
(النظرية الثانية) تقرر أن اللغة ابتدعت واستحدثت بالتواضع والاتفاق وارتجال ألفاظها ارتجالاً. وقد ذهب إلى هذا الرأي في العصور القديمة ديمو كربت (من فلاسفة اليونان في القرن الخامس ق م)، وفي العصور الوسطى كثير من الباحثين في فقه اللغة العربية، وفي العصور الحديثة الفلاسفة الإنجليز آدم سميث وريد ودجلد ستيوارت ، ،
وليس لهذه النظرية أي سند عقلي أو نقلي أو تاريخي. بل إن ما تقرره يتعارض مع النواميس العامة التي تسير عليها النظم الاجتماعية. فعهدنا بهذه النظم أنها لا ترتجل ولا تخلق خلقاً، بل تتكون بالتدريج من نفسها. هذا إلى أن التواضع على التسمية يتوقف في كثير من مظاهره على لغة صوتية يتفاهم بها المتواضعون. فما يجعله أصحاب هذه النظرية منشأ للغة يتوقف هو نفسه على وجودها من قبل
فلسنا هنا بصدد نظرية جديرة بالمناقشة، بل بصدد تخمين خيالي وفرض عقيم يحمل في طيه آية بطلانه. وقد ذهب المتعصبون له في تصوير منشأ اللغة مذاهب ساذجة غريبة تدل أبلغ دلالة على مبلغ انحرافه عن جادة الصواب ونطاق المعقول. وإليك نبذة مما يقوله بعضهم بهذا الصدد:(إن أصل اللغة لا بد فيه من المواضعة. وذلك كأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعداً فيحتاجوا إلى الإبانة عن الأشياء فيضعوا لكل منها سمة ولفظاً يدل عليه ويغنى عن إحضاره أمام البصر. وطريقة ذلك أن يقلبوا مثلاً على شخص ويومئوا إليه قائلين: إنسان، إنسان، إنسان! فتصبح هذه الكلمة اسماً له. وإن أرادوا سمة عينه أو يده أو رأسه أو قدمه، أشاروا إلى العضو وقالوا: يد، عين، رأس، قدم. . . ويسيرون على هذه الوتيرة في أسماء بقية الأشياء، وفي الأفعال والحروف وفي المعاني الكلية والأمور المعنوية نفسها. وبذلك تنشأ اللغة العربية مثلاً. ثم يخطر بعد ذلك لجماعة منهم أن يضعوا كلمة (مَرْد) بدل إنسان، وكلمة (سَرْ) بدل رأس. . .
وهكذا، فتنشأ اللغة الفارسية. . .)
(النظرية الثالثة) تقرر أن الفضل في نشأة اللغة يرجع إلى غريزة خاصة زود بها في الأصل جميع أفراد النوع الإنساني؛ وأن هذه الغريزة كانت تحمل كل فرد على التعبير عن كل مدرك حسي معنوي بكلمة خاصة به، كما أن غريزة (التعبير الطبيعي عن الانفعالات) تحمل الإنسان على القيام بحركات وأصوات خاصة (انقباض الأسارير وانبساطها، وقوف شعر الرأس، الضحك، البكاء. . . الخ) كلما قامت به حالة انفعالية معينة (الغضب، الخوف الحزن، السرور. . . الخ)؛ وأنها كانت متحدة عند جميع الأفراد في طبيعتها وظائفها وما يصدر عنها؛ وأنه بفضل ذلك اتحدت المفردات وتشابهت طرق التعبير عند الجماعات الإنسانية الأولى فاستطاع الأفراد التفاهم فيما بينهم؛ وأنه بعد نشأة اللغة الإنسانية الأولى لم
يستخدم الإنسان هذه الغريزة؛ فأخذت تنقرض شيئاً فشيئاً حتى تلاشت كما انقرض لهذا السبب كثير من الغرائز الإنسانية القديمة. ومن أشهر من ذهب هذا المذهب العلامة الألماني مكس مولر والعلامة الفرنسي رينان
وقد اعتمدت مكس مولر في تأييد هذه النظرية على أدلة مستمدة من البحث في أصول الكلمات في اللغات الهندية الأوربية. فقد ظهر أن مفردات هذه اللغات ترجع إلى خمسمائة أصل مشترك؛ وأن هذه الأصول تمثل اللغة الأولى التي انشعبت منها هذه الفصيلة، فهي لذلك تمثل اللغة الإنسانية في أقدم عهودها. وتبين له من تحليل هذه الأصول أنها تدل على معان كلية؛ وأنه لا تشابه مطلقاً بين أصواتها، وما تدل عليه من فعل أو حالة.
ففي دلالتها على معان كلية برهان قاطع على أن اللغة الإنسانية الأولى لم تكن نتيجة تواضع واتفاق، كما يذهب إلى ذلك أصحاب النظرية الثانية السابق ذكرها، لأن التواضع فضلاً عن تعارضه مع طبيعة النظم الاجتماعية كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، يتوقف هو نفسه على وسيلة يتفاهم بها المتواضعون. وهذه الوسيلة لا يعقل أن تكون اللغة الصوتية، لأن مفروض أن المتواضع عليه هو أول ما نطق به الإنسان من هذه اللغة؛ ولا يعقل كذلك أن تكون لغة الإشارة، لأننا بصدد ألفاظ تدل على معان كلية أي على أمور معنوية يتعذر استخدام الإشارة الحسية فيها
وفي عدم وجود تشابه بين أصواتها وما تدل عليه برهان قاطع على أن اللغة الإنسانية لم تنشأ من محاكاة الإنسان لأصواته الطبيعية (أصوات التعبير الطبيعي عن الانفعالات) وأصوات الحيوانات والأشياء كما يذهب إلى ذلك أصحاب النظرية الرابعة التي سنتكلم عنها قريباً
وإذا بطل أن اللغة الإنسانية كانت نتيجة تواضع واتفاق؛ وبطل كذلك أنها نشأت عن محاكاة الإنسان لأصواته الطبيعية وأصوات الحيوانات والأشياء، لم يبق إذن تفسير معقول لهذه الظاهرة غير التفسير السابق ذكره: وهو أن الفضل في نشأة اللغة يرجع إلى غريزة زود بها الإنسان في الأصل للتعبير عن مدركاته بأصوات مركبة ذات مقاطع، كما زود باستعداد فطري للتعبير عن انفعالاته بحركات جسمية وأصوات بسيطة
وهذه النظرية على ما فيها من دقة وطرافة وعمق في البحث، فاسدة من عدة وجوه:
1 -
فهي لا تحل شيئاً من المشكلة التي نحن بصددها، بل تكتفي بأن تضع مكانها مشكلة أخرى أكثر منها غموضاً، وهي مشكلة (الغريزة الكلامية)
2 -
هذا إلى أن ما تقرره يعتبر - من بعض الوجوه - من قبيل الشيء بنفسه. فكل ما تقوله يمكن تلخيصه في العبارة الآتية: (إن الإنسان قد لفظ أصواتاً مركبة ذات مقاطع ودلالات مقصودة لأنه كانت لديه قدرة على لفظ هذا النوع من الأصوات) وهذا، كما لا يخفى، مجرد تقرير للمشكلة نفسها في صيغة أخرى
3 -
على أن قدرة الإنسان الفطرية أو المكتسبة على لفظ هذا النوع من الأصوات ليست موضوع البحث، وإنما الذي يهمنا هو الوقوف على أول مظهر لاستغلال هذه القدرة والانتفاع بها في تكوين الكلام الإنساني؛ أي البحث عن الأسلوب الذي سار عليه الإنسان في مبدأ الأمر في وضع أصوات معينة لمسميات خاصة، والكشف عن العوامل التي وجهته إلى هذا الأسلوب دون غيره
4 -
وأكبر خطأ وقعت فيه هذه النظرية هو ذهابها إلى أن الأصول الخمسمائة السابق ذكرها تمثل اللغة الإنسانية الأولى. فهذه الأصول، كما تقدم، تدل على معان كلية. ومن الواضح أن إدراك المعاني الكلية يتوقف على درجة عقلية راقية لا يتصور وجود مثلها في فاتحة النشأة الإنسانية. وهاهي ذي الأمم الأولية التي تعد أصدق ممثل للإنسانية الأولى تؤيد ما نقول. فقد أجمع علماء الأتنوجرافيا الذين قاموا بدراسة هذه الأمم بأمريكا واستراليا وأفريقيا وغيرها على ضعف عقليتهم بهذا الصدد وعجزها عن إدراك المعاني الكلية في كثير من مظاهرها. وقد كان لهذه العقلية صدى كبير في لغاتهم؛ فلا نكاد نجد في كثير منها لفظاً يدل على معنى كلي. ففي لغة الهنود الحمر مثلاً يوجد لفظ للدلالة على شجرة البلوط الحمراء، وآخر للدلالة على شجرة البلوط السوداء، وهكذا؛ ولكن لا يوجد أي لفظ للدلالة على شجرة البلوط؛ ومن باب أولى لا يوجد أي لفظ للدلالة على الشجرة على العموم. وفي لغة الهورونيين (من السكان الأصليين لأمريكا الشمالية) يوجد لكل حالة من حالات الفعل المتعدي لفظ خاص بها؛ ولكن لا يوجد للفعل نفسه لفظ يدل عليه. فيوجد لفظ للتعبير عن الأكل في حالة تعلقه بالخبز، ولفظ آخر للتعبير عنه في حالة تعلقه باللحم، وثالث في حالة تعلقه بالزبد، ورابع في حالة تعلقه بالموز. . وهكذا؛ ولكن لا يوجد فعل ولا مصدر للدلالة
على الأكل على العموم أو الأكل في زمن ما. ولغة السكان الأصليين بجزيرة تسمانيا (بقرب استراليا) لا يوجد من بين مفرداتها لفظ يدل على الصفة؛ فإذا أرادوا وصف شئ لجئوا إلى تشبيهه بآخر مشتمل على الصفة المقصودة؛ فيقولون مثلاً فلان كشجرة كذا، إذا أرادوا وصفه بالطول
ولذلك يرى المحدثون من علماء اللغة، ومن علماء الاجتماع اللغوي أن الأصول الخمسمائة السابق ذكرها لا تمثل في شئ اللغة الإنسانية الأولى كما يذهب إلى مكس مولر؛ بل إنها بقايا لغة حديثة قطعت شوطاً كبيراً في سبيل الرقي والكمال، ولم تصل إليها الأمم الإنسانية إلا بعد أن ارتقت عقليتها ونهض تفكيرها. ويذهب بعضهم إلى أبعد من هذا فيقرر أنها مجرد أصول نظرية، وأنها لم تكن يوماً ما موضوع لغة إنسانية
(النظرية الرابعة) تقرر أن اللغة الإنسانية نشأت من الأصوات الطبيعية (أصوات التعبير الطبيعي عن الانفعالات، أصوات الحيوانات، أصوات مظاهر الطبيعة، الأصوات التي تحدثها الأفعال الإنسانية وغيرها. . . الخ) وسارت في سبيل الرقي شيئاً فشيئاً تبعاً لارتقاء العقلية الإنسانية وتقدم الحضارة واتساع نطاق الحياة الاجتماعية وتعدد حاجات الإنسان. . . وما إلى ذلك. وقد ذهب إلى هذا الرأي معظم المحدثين من علماء اللغة وعلى رأسهم العلامة وتني وذهب إلى مثله من قبل هؤلاء كثير من فلاسفة العصور القديمة ومن مؤلفي العرب بالعصور الوسطى. فقد تحدث عنه ابن جني (المتوفى سنة 392 أي من نحو ألف سنة) بكتابه الخصائص في أسلوب يدل على قدمه وكثرة القائلين به من قبله
فبحسب هذه النظرية يكون الإنسان قد افتتح هذه السبيل بمحاكاة أصواته الطبيعية التي تعبر عن الانفعالات كأصوات الفرح والحزن والرعب. . . وما إليها، ومحاكاة أصوات الحيوان ومظاهره الطبيعية والأشياء كدوي الريح وحنين الرعد وخرير الماء وحفيف الشجر وجعجعة الرحى وقعقعة الشنان وصرير الباب وصوت القطع والضرب. . . وهلم جرا. وكان يقصد من هذه المحاكاة التعبير عن الشيء الذي يصدر عنه الصوت المحاكي أو عما يلازمه أو يصاحبه من حالات وشئون، واستخدم في هذه المحاكاة ما زود به من قدرة على لفظ أصوات مركبة ذات مقاطع؛ فكان يحاكي هذه الأصوات المبهمة بوضعها في أصوات مقطعية قريبة منها (قه قه مثلاً للتعبير عن صوت الضحك). وكانت لغته في مبدأ
أمرها محدودة الألفاظ، قليلة التنوع، قريبة الشبه بالأصوات الطبيعية التي أخذت عنها، قاصرة عن الدلالة على المقصود. فكان لا بد لها من مساعد يصحبها فيوضح مدلولاتها ويعين على إدراك ما ترمي إليه. وقد وجد الإنسان خير مساعد لها في الإشارات اليدوية والحركات الجسمية، وهذا المساعد الإرادي قد نشأ هو نفسه عن الحركات الفطرية التي تصحب الانفعالات؛ فكان في مبدأ أمره مجرد محاكاة إرادية لهذه الحركات؛ ثم توسع الإنسان في استخدامه فحاكى به أشكال الأشياء وحجومها وصفاتها. . . وما إلى ذلك، فازدادت أهمية في الحديث، وسد فراغاً كبيراً في اللغة الصوتية. ثم أخذت هذه اللغة يتوسع نطاقها تبعاً لارتقاء التفكير، واتساع حاجات الإنسان ومظاهره حضارته. وتستغني شيئاً فشيئاً عن مساعدة الإشارات، وتبعد عن أصولها الأولى تحت تأثير عوامل كثيرة كالتطورات الطبيعية التي تعتور الصوت، وأعضاء النطق الإنساني وكعلاقات المجاورة والمشابهة التي تعتور الدلالات. . . وما إلى ذلك
وهذه النظرية هي أدنى نظريات هذا البحث إلى الصحة وأقربها إلى العقول، وأكثرها اتفاقاً مع طبيعة الأمور وسنن النشوء، والارتقاء الخاضعة لها الكائنات وظواهر الطبيعة والنظم الاجتماعية
ولم يقم أي دليل على خطأ هذه النظرية، ولكن لم يقم كذلك أي دليل قاطع على صحتها، وكل ما يذكر لتأييدها لا يقطع بصحتها وإنما يقرب تصورها ويرجح الأخذ بها
ومن أهم أدلتها أن المراحل التي تقررها بصدد اللغة الإنسانية تتفق في كثير من وجوهها مع مراحل الارتقاء اللغوي عند الطفل، فقد ثبت أن الطفل في المرحلة السابقة لمرحلة الكلام، يلجأ في تعبيره الإرادي إلى محاكاة الأصوات الطبيعية (أصوات التعبير الطبيعي عن الانفعالات، أصوات الحيوان، أصوات مظاهره الطبيعية، أصوات الأفعال. . . الخ) فيحاكي الصوت قاصداً التعبير عن مصدره أو عن أمر يتصل به؛ وثبت كذلك أنه في هذه في المرحلة وفي مبدأ مرحلة الكلام يعتمد اعتماداً كبيراً في توضيح تعبيره الصوتي على الإشارات اليدوية والجسمية. ومن المقرر أن المراحل التي يجتازها الطفل في مظهر ما من مظاهر حياته تمثل المراحل التي اجتازها النوع الإنساني في هذا المظهر
ومن أدلتها كذلك أن ما تقرره بصدد خصائص اللغة الإنسانية في مراحلها الأولى يتفق مع
ما نعرفه عن خصائص اللغات في الأمم الأولية. ففي هذه اللغات تكثر المفردات التي تشبه أصواتها أصوات ما تدل عليه، ولنقص هذه اللغات وسذاجتها وإبهامها وعدم كفايتها للتعبير لا يجد المتكلمون بها مناصاً من الاستعانة بالإشارات اليدوية والجسمية في أثناء حديثهم لتكملة ما يفتقر إليه من عناصر وما يعوزه من دلالة
ومن المقرر أن هذه الأمم، لبعدها عن تيارات الحضارة وبقائها بمعزل عن أسباب النهضات الاجتماعية تمثل إلى حد كبير حالة الإنسانية في عهودها الأولى.
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون
نفسية الطبقات
للدكتور جواد علي
لاحظت خلال إقامتي الطويلة في برلين وهامبرك والمدن الألمانية الأخرى اختلافاً كبيراً بين مقاطعة ومقاطعة، وبين طبقات مدينة واحدة أحياناً في اللغة والأخلاق والمعاملات والمثل العليا وشكل الوجه وتركيب الجسم. وقد زاد انتباهي هذا موضوع البحث العنصري الذي استولى على الجامعة والمدرسة والحانوت والحياة اليومية في ألمانيا الهتلرية. فقلت: ما دام الشعب الألماني شعباً جرمانيّاً واحداً من دم وعنصر واحد، فلم هذا الاختلاف بين المقاطعات؟ ولم هذا البون بين الطبقات في المدينة الواحدة؟ صرت أسجل ملاحظاتي هذه وميزات كل طبقة وأخلاقها في كل المدينة أنزل بها وفي كل بيت احل به. كذلك فعلت أثناء زياراتي للندن وبعض مدن انكلترة وباريس وليون وأشتراتسبرك ومارسيليا وروما، وأكثر مدن إيطاليا وجنيف وبرن ولوزان وبراغ ومارينباد ويسبادن وغيرها من مدن جيكوسلوفاكيا (المرحومة)؛ وكذلك بولندة والنمسا ودول البحر الأبيض المتوسط
توصلت إلى نتيجة، وهي أن قواعد التفكير العامة، وطراز المعاملات متقاربة ومتشابهة بين الطبقات الواحدة في الممالك المختلفة أولاً، وهي أيضاً مع تركيب الجسم وشكل الوجه والملامح ثانياً. فالطبقة الرابعة من سكان المدن مثلاً، وهي التي يطلق عليها في أوربا اسم تستعمل لها لغة خاصة عامية وتضع لها مصطلحات تصطلح عليها وتقضي معظم أوقاتها في المحلات المنخفضة في الأرض (كالسراديب والدهاليز)، وتأوي بكل سرور إلى المحلات المظلمة ذات النور القليل والمحلات المؤثثة بأثاث خشن ابتدائي، يميل الشاب منهم إلى تجميل شعر رأسه وتجعيده، مع أن ملابسه ممزقة رثة لا يهتم بها، يميل كذلك بصورة عامة إلى الألوان (الغامقة) كالأحمر أو الأسود أو الأصفر. وتميل بصورة عامة إلى المخاطر إذ لا تفزع منها، فإذا ركب أحدهم دراجة هوائية (بايسكل) أسرع بها كأنه في سباق. كذلك لا يبالون في جمل الأشياء الثقيلة من خطر صحي، وهم يميلون بصورة عامة إلى رسم الأشكال المختلفة بالزرقة والحمرة على بشرتهم، وإلى موسيقى غير موزونة مرتفعة مضطربة. ولا يبالون بإنفاق كل ما يحصلون عليه في مدة قليلة، ولو أنهم حصلوا عليه بشق الأنفس ومخاطرات عظيمة، فاللص ينفق المال الذي يسرقه بأقل من لمح البصر
كما هو معروف وكذلك النشالون وقطاعو الطرق.
كذلك للطبقة الثالثة وهي العمال آداب ومعاملات ومثل خاصة وفن وذوق تنفرد به مع ميل إلى التبذير والكرم. وأجسام هذه الطبقة بصورة عامة أقصر من أبناء الفلاحين أو سكان المدن من الطبقتين طبقة الأعمال العقلية وطبقة الأشغال العملية والتجار ولكنها أكثر إنتاجاً في النسل من طبقتي سكان المدن، وأقل من الفلاحين كما أن شكل رأسها أصغر من الطبقات الثلاث، ويميل إلى الاستدارة. وفي المدن الصناعية تميل إلى لحم الخنزير وإلى اللحوم الباردة لأن النساء لا تترك المعامل لذلك فليس لها الوقت الكافي للطبخ. أما الطبقة الثانية وخصوصاً أصحاب رؤوس الأموال والتجار، فهي تتكلم مثلاً بصورة أسرع من الفلاحين أو العمال، ولا يميلون إلى التفكير العميق المنطقي، وكذلك لها ذوق خاص تجاري في التأثيث وفي الفن والمعيشة بينما الطبقة ذات أجسام طويلة وشكل الرأس كبير بالنسبة إلى الجسم فيها، والعظام فيها دقيقة والعضلات غير مفتولة بالنسبة إلى الفلاحين أو العمال، والوزن أثقل من العمال، والطفل الفقير في المدرسة يرى أصغر بعام تقريباً من طفل الغني الذي في عمره العمر. وهذه الطبقة - وخصوصاً الغنية منها - غير مخصبة في إنتاج النسل، وقد علل ذلك تعليلاً كثيراً لا يدخل في هذا الموضوع. ونرى من إحصائية عن قابلية النسل في السويد أن كثيراً من العائلات العريقة تضمحل وتفنى لانقطاع نسلها
والفرق بارز كذلك جسمياً وعقلياً بين سكان المدن وأبناء الأرض من الفلاحين والزراع فقحف الرأس والملامح الجسمية وشكل العظم، وكذلك طراز التفكير واللغة، تختلف مظاهرها عن مظاهر سكان المدن، وقد دل الإحصاء على أن 41 في المائة من سكان مدينة برلين كانوا لائقين للخدمة العسكرية بينما كان 61 في المائة من سكان الأرض يصلحون في نفس الوقت. فهذه النقاط تجعل المرء يسبح في بحر من التعليل. وتدفع به إلى الاعتقاد بتأثير المهنة والمحيط على الإنسان عقلياً وجسمياً. وزاد في اعتقادي ذلك ما وجدته بصورة عملية من تقارب بين موسيقى الأكراد سكان المنطقة الكردية العراقية ورقصهم واختيار ألوان ملابسهم وبين سكان منطقة بايرن في ألمانيا مثلاً مع ما بين الشعبين من الاختلاف. وهذا ما يدفع الإنسان إلى دراسة عقليات الطبقات المختلفة، والبحث عن القواعد المشتركة التي تتميز كل طبقة بها عن الأخرى
عللت الماركسية ذلك بتأثير الإنتاج على الجماعات؛ فالعمل المادي الاقتصادي في نظرها هو العامل الأول في هذا الاختلاف وقد جاءت بأمثلة تحاول إثبات نظريتها هذه وجاءت بفلسفة مبنية على ذلك، وعلى هذا الأساس تحاول إشعال نيران ثورة ليتخلص العمال وهم الأكثرية من نفوذ الأقلية المسيطرة، ليبسطوا تفكيرهم وحضارتهم على الطبقة الصغيرة التي تعتبر رمز الحضارة العالمية في العصر الرأسمالي الحالي. وهي تأتي بأمثلة من حياة الفرنسيين في القرنين السابع والثامن عشر، وكيف كان البلاط ورجاله يعتبرون أثقف طبقة في المملكة يحتذي بهم وتقلد حركاتهم لنفوذ البلاط بينما كان الوضع بالعكس في إنكلترا لنفوذ (الكونتيه واللوردات) فيها. حيث كان كبار المزارعين هم ممثلو إنكلترا في عالم الثقافة والحضارة ويرون من جراء ذلك فكرة الوطنية فكرة ثانوية اصطناعية يمكن التعويض عنها بفكرة الوطنية المهنية والمصلحة المشتركة ويرون في الكاثوليكية العالمية مثلاً نوعاً من الوطنية والاستقلال فلم لا يتفق عمال العالم ويكونون لهم وحدة واحدة على أساس دكتاتورية العمال وتقارب المصلحة والفكر، يدعمون رأيهم ذلك بما يبديه الاشتراكيون على اختلاف حكوماتهم من تعاون تام واتفاق في الطريقة والعمل والفكر وتقاربهم كلهم في الفكر وهذه تعارض النازية تماماً، تلك النظرية التي تدعى بالعنصرية وتفوق الجنس الآري على الأجناس الأخرى وتعارض كذلك حوادث التاريخ أيضاً. وقد قلنا إن هذه الطبقات تكيف لها لهجة خاصة تتكلم بها، وهذا يعني أن عقلية تلك الطبقة قد تغيرت عن عقلية الطبقة الثانية، والذي يلاحظ بصورة عامة أن اللصوص والسراق لغة خاصة واصطلاحات تتكلم بها، وكذلك يفعل النشالون ولهم طريقة خاصة في إخراج الأصوات، وسكان نابولي في إيطاليا أو صيادو الأسماك في انكلترة وألمانيا وغيرها من البلاد يخرجون الكلمات بصورة تختلف عن المزارعين أو التجار فهي بصورة عامة طويلة عريضة بينما نجد لغة التجار سريعة وقصيرة. هذه أشياء لوحظت وشوهدت بالتجربة، ونطق الإنكليزي الذي ينزل فكه إلى تحت يختلف عن نطق الفرنسي الذي يمد فتحه فمه إلى الجانبين وذلك يعني أن اللغة تتغير أيضاً مما لا مجال لبيان سببه في هذا الموضوع. ولكن في ذلك رداً بصورة عامة على من يقول إن اللغة تساوي العنصرية تماماً. نعم هي تمثل جزءاً من روحية الشخص ولكن ليست روحيته تماماً إذ لو كان ذلك لكان زنوج
أمريكا الذين ينطقون اللغة الإنكليزية إنكليزاً بالعقل والتفكير ولأصبح مولدو أمريكا الجنوبية أسباناً بالنفس والخلق تماماً. وقد أجريت تجارب على أطفال أخذوا حين الولادة من أمهاتهم من زنوج ويابانيين لقنوا الألمانية فقط ونشئوا في محيط ألماني بحت فصاروا يتكلمون الألمانية وكأنهم ألمان أباً عن جد. وقد أول ذلك الذين يقولون بهذه الفكرة بأن في البشرية قابلية للنطق مطلقاً وفي كل طفل في نفس الوقت ميل إلى الشذوذ عن نطق الأجداد قليلاً لا يشعر به يتعاظم بمرور السنين فيصبح لهجة خاصة، وأن ذلك يطرأ ولو كان العنصر سليماً نقياً من كل امتزاج. وهم يدعون أن أوربا لو كانت مأهولة من جنس واحد، وكانت معزولة عن كل عامل خارجي من زمن الأهرام حتى الآن لظهر عليها اختلاف اللهجات رغماً من ذلك على أننا نلاحظ أن يهود ألمانيا يتكلمون مع ذلك بلهجة محسوسة، وكذلك في البلاد الأخرى، وتميزها عن كيفية إخراج الكلمات لدى المواطنين، ولكنهم يجيبون عن ذلك بأن اليهود يعيشون بصورة عامة في محيط واحد متكتلين
وحاول زعيم العنصرية في ألمانيا أن يبرهن على أن الجرمان لم يبتعدوا عن اللغة الجرمانية الأصلية، أنها هي هي لم تتغير. ولكن اختلاف اللهجات الألمانية، وكذلك أشكال لجسم والعداوة الموجودة بين المقاطعات، مثلاً بين سكان بروسيا بسكان بايرن، والاختلاف الكبير بين عادات سكان هامبرك وبرلين، يدل على أن بحث العنصرية لا يستطيع التغلب على المشاكل التي بحثنا عنها، ويجد حلاً معقولاً لذلك علمياً.
والبشرية تتقدم، وبتقدمها تظهر أشكال وقحوف رؤوس جديدة وهي غير متشابهة، منها المنتج ومنها الخامل لعوامل مختلفة، وللملامح وتركيب الجسم والمحيط والأكل والمهنة أثر فعّال في تكييف الفرد، وكل أمة في الحقيقة عبارة عن بضع أمم مختلفة في المصالح، ولو أنها متحدة في الدين أو اللغة مثلاً، ولكل منها وجهة نظر خاصة، وهدف يصطدم مع هدف غيرها، وهذا مصدر الحزبية والنزاع، وسقوط الدول في نظري، والأمة التي تستطيع تقريب وجهات النظر بين هذه الطبقات تتمتع بوحدة، والتي تترك هذه الطبقات تزيد في قوة كيانها، تعرض نفسها إلى تمزق لا يلبث أن يظهر بصورة كتل مستقلة ذات تفكير مستقل ومظهر غريب خصوصاً في المحيط الشرقي الذي لا تربط بين أجزائه طرق مواصلات جيدة ولا صلات تفكيرية قوية. لازالت حاجة الأقاليم في المملكة الواحدة بعضها
إلى بعض غير شديدة. فكرة الحاجة إلى المجتمع والتعاون لم تتغلب على روح (أنا) فيه كما هو شأن كل أمة في ابتداء تكونها.
جواد علي
خريج جامعة هامبرك بألمانيا
5 - في أرجاء سيناء
للدكتور عبد الوهاب عزام
علي ظهر هديان
أزمع أكثر الرفاق أن يذهبوا يوم الخميس إلى جيل سنت كترين وهو أعلى جبال سيناء ترتفع قمته إلى 8536 قدم، وفي قصص الرهبان أن القديسة كترينا حينما ماتت في الإسكندرية سنة 307م حملت الملائكة جثتها إلى هذا الجبل، وقد بقي منها جمجمة وذرائع يحفظان في الدير إلى اليوم
وآثر بعضهم أن يعكف على مطالعة الكتب في مكتبة الدير، وأما أنا فأزمعت أن أركب جملاً فأسير به في وادي الشيخ إلى القبر الذي يسمى قبر النبي صالح. قيل لي كيف تطيب نفسك عن رؤية الجبل العظيم أعلى جبال سيناء؟ قلت إن برحلي عقابيل من جبل موسى فلست أقوى على الصعود اليوم؟ قيل ولكن قمة سنت كترين تشرف بك على جبال بلاد العرب. قلت قد رأيتها عن كثب قيل: وتريك الخليجين معاً: خليج السويس وخليج العقبة قلت: لا أحتاج في تصديقكم إلى أن أرى بنفسي. قيل: إنه مشهد يتمناه كثير من الناس. قلت: ما كل ما يتمنى المرء يدركه
سار الرفاق إلى الجبل وخرجت فإذا جملان مرحولان فركبت أحدهما وركب محمد أفندي حشيش الطالب بكلية الآداب الثاني، وسرنا مغتبطين بهذه الرحلة الممتعة القريبة. فلما أفضى بنا الشعب الذي فيه الدير إلى وادي الشيخ أبصرنا الحاج سيد محرم الطالب بالكلية راجعاً من حيث توجه إخواننا إلى الجبل. قلت: ما خطبك؟ قال: تلبثت لأصور بعض المرائي فانقطعت عن الرفقة. قلت: خار الله لك سر معنا نتعاقب على الجمل. رحم الله حاتماً:
وما أنا بالساعي بفضل زمامها
…
لتشرب ماء الحوض قبل الركائب
وما أنا بالطاوي حقيبة رحلها
…
لأبعثها خِفّا، وأترك صاحبي
إذا كنت ربّا للقلوص فلا تدع
…
رفيقك يمشي خلفها غير راكب
أنخها فأردفه فإن حملتكما
…
فذاك وإن كان العقاب فعاقب
سألت صاحب جملي: ما اسم الجمل؟ قال هِدَيّان. وما اسمك؟ قال: فرحان. وسألت الآخر
فقال: اسمي جبلي واسم الجمل صبيح وكان سادسنا صبيّاً فطناً لقناً يسمى سعداً، رآنا نتأهب للركوب عند الدير فتطوع لصحبتنا عسى أن يناله خير. مشى سعد وقد جعل يديه وراء ظهره تحت حزامه وأطبق أنامله بعضها على بعض، واستقام على الطريق يوحي إليك بمشيئته وحديثه اعتداده بنفسه. وهو صبي يكدح لرزقه ورزق أمه، فهو يحمل من أعباء الحياة ويشعر بكفايته لما يحمل. والرجولة بين العرب تبتدئ في العقد الثاني من سني العمر، لا تمتد الطفولة والصبي بينهم امتدادهما في المدن حيث ترى الرجل صبياً وقد جاوز العشرين وطالباً إلى أن يجاوز الثلاثين، وكهلاً متصابياً يعُدّ نفسه للزواج عند الأربعين. ومن أجل ذلك أمر رسول الله صلوات الله عليه أسامة بن زيد على جيش وهو في السابعة عشرة. وفتح محمد بن القاسم الثقفي الهند وهو في هذه السن. قال بعض الشعراء:
إن المروءة والسماحة والندى
…
لمحمد بن القاسم بن محمد
ساس الجيوش لخمس عشرة حجة
…
يا قرب ذلك سؤدداً من مولد!
وقال آخر:
ساس الرجال لسبع عشرة حجة
…
ولداته عن ذاك في أشغال
قلت لسعد: ماذا يسمى حزامك هذا؟ قال: مريرة. قلت من قولهم أمرّ الحبل إذا أحكم فتله
وكنا سألنا ونحن في الدير عن دجاج لطعامنا وكلفنا سعداً أن يفتش عن بعض الدجاج. وقابلنا طائفة من البدويات يقصدن الدير ابتغاء رزقهن من الخبز، ومال سعد إليهن فسلم عليهن وكلم إحداهن. وقال أحد الجمالين: هذه أم سعد. وسألت سعداً فجمجم ولم يجب ثم قال: عند امرأة دجاجة واحدة. قلت: ما عسى أن تغني دجاجتك الواحدة يا سعد؟ وحسبت أن سعداً استحى أن يقول إن التي حادثها أمه وإن الدجاجة دجاجته وأحس شيئاً من الخجل أن يبيع لنا دجاجة، وكذلك قال صاحب الجمل حينما سألته: لماذا لا يقول سعد إن المرأة أمه.
وعرف سعد من سؤالي عن ضروب النبات أني معني بها فوجد له عملاً يبرِّر مصاحبته إيانا، ويجعل له يداً عندنا. فكان لا يمر بنبات إلا سماه وقلعه أو قطع فرعاً منه، وناولني إياه فأضعه في الخرج
ناولني شجرة من الشيح فسألته عن القيصوم وكنت رأيته بالبادية على مقربة من البصرة، فأسرع بعد قليل إلى نبتة وقال: هذه قيصومة وناولني منها، وهي تشبه الشيح، وتمتاز عنه بلون زهرها، ولا يدرك الفرق بينما إلا النباتي أو البدوي المرن على تمييز ضروب النبات وإن تشابهت. ثم مررنا بنبات صغير لا طئ بالأرض له عصارة لزجة فقال: هذه لبّيدة. رأى شجرة من الشوك كبيرة فقال: هذه سلة وما أكثر السلة في سيناء، ثم سمي من ضروب النبات التي مررنا علينا الوراقة، وهي نبت قليل الشوك تأكله الإبل، والكَباث وهو يشبه السلة إلا أنه أضعف شوكاً، وكان هديّان إذا مرّ بكباثة أبى إلا أن يميل إليها لينال منها. والكباث في معاجم اللغة ثمر الأراك، وهو غير هذا: ومما رأينا النعمان والحزماع، وهو شجيرة تنبت كالعصا لها فروع قصيرة. وقد رأيت منها واحدة يابسة فأشرت إلى سعد فجرى إليها وحاول خلعها فاستعصت عليه فناديته أن اتركها، فأبى وما زال يقوم بها ويقعد بها حتى أتى بها. وأراني سعد النعمان وأصابع العجوز والمرُورة والبركان والدهميّ، وكلها نبت ضعيف صغير. وكنت أمتحن سعداً فأسأله عن النبات الواحد مرة بعد أخرى فأعرف أنه ينطق عن معرفة. ومما رأينا الزعتر وهو نبات طيب الرائحة معروف في مصر والعثيران، قال سعد: وهو نبات الحمير، وهو نبات صغير له فروع وورق دقيق ورائحة طيبة، والهنيدة والجعدة والشكاع الخ
وقصارى القول أنه ليس في البرية نبتة صغيرة أو كبيرة إلا يعرفها الأعراب باسمها وصفها وخصائصها
ولقينا في وادي الشيخ أعرابيتين معهما قربتان صغيرتان، فكلمهما جبلي وكان يعرفهما. وسألته أين الماء؟ فقال: هنا وأشار إلى سفح الجبل، فنزلنا وصعدنا بين صخور عظام، حتى بلغنا فجوة بين الصخور فيها ماء بارد، فجلست الأعرابيتان تملآن قربتيهما
والأعرابيات في سيناء يلبسن ملابس ضافية، حواشيها مطرزة ملونة، وهي من نسيج أيديهن، ويلبسن براقع محلاة بقطع كثيرة من المعدن، ويحلين صدورهن بخرز كثير، فلا يبدو من المرأة إلا عيناها. وقد استأذنا المرأتين أن نصورهما، فقالت إحداهما ضاحكة: بالفلوس، قلنا: أجل.
ثم بلغنا الشيخ صالح بعد ساعتين: حجرة صغيرة مضلعة، عليها قبة ساذجة، وفيها قبر
يقول الأعراب إنه النبي صالح، وأكبر الظن أنه رجل من الصالحين اسمه صالح وللشيخ صالح موسم يأتي البدو إليه فيبيتون وينحرون ويذبحون ويلهون
وقد أمر الملك فؤاد رحمه الله بصنع كسوة لضريح النبي صالح وهي مودعة في دير سنت كترينا كما ذكرت قبلاً
لم نلبث كثيراً عند الشيخ صالح فرجعنا أدراجنا، وقد عرَّج سعد إلى اليسار فغاب قليلاً، ثم رجع وفي يده دجاجة. قلت: يا سعد، أصررت على الإتيان بدجاجتك؟ قال: ليست دجاجتي قلت: ولكنها واحدة، ولا تغني شيئاً. قال: ما وجدت غيرها قلت: فلم جئت بها؟ ثم سار سعد والدجاجة، حتى وقفنا وقفة فأفلتت منه. فقلت: لا يظفر بها. فما لبث أن جاء بها فوضعها في كيس خلف ظهره، فلم نسمع لها حساّ، حتى بلغنا الدير. قلت: يا سعد، لم يجد الطباخ دجاجاً، ونحن أكثر من عشرين فماذا نفعل بهذه الدجاجة؟ فوجم. . . قلت: ارجع بدجاجتك وخذ هذه القروش، ففرح وزدناه بعض الخبز
خرجنا من الدير صباح يوم الجمعة فألفينا صبية بأيديهم أشياء يقدمونها إلينا؛ ناولني سعد نباتاً قائلاً: هذه هنيدة. قلت: لم تزدني على الأمس شيئاً. وقدم إلى صالح عصاً من الورد البري كثيرة الشوك فأخذتها ذكرى، ثم زرعتها في حديقتي بعد أيام فأورقت. وقدم الصبية الآخرون أفماماً للسجاير من هذا الورد لا يحسن الإنسان إمساكها لكثرة شوكها
ثم أزَّت السيارات فسارت والساعة ثمان ونصف فرجعنا أدراجنا في الأودية التي ذكرتها آنفاً
ونزلنا في دير فاران الذي وصفته من قبل ثم استأنفنا المسير في وادي فاران. وبعد ساعة من دير فاران توقفنا قليلاً فأبصرت صبياً يرعى غنماً فقصدت قصده وقلت: ما اسمك يا ولد؟ قال: اسمي ولد - وكأنه لم يعجبه هذا الخطاب - قلت: اسمك محمد؟ قال: ربيع. قلت أتبيعنا خروفاً من غنمك؟ قال: لا. ثم سألته عن ضروب العشب، قلت: ما هذا؟ وأشرت إلى نبات ضعيف يشبه البصل. قال: بَرْوق، أقول: البروق معروف في كتب اللغة والأدب والنبات. وتقول العرب هو أشكر من بروق لأن البروق يعيش بأدنى ندى يقع على الأرض. وقالوا: أضعف من بروقة. قال جرير:
كأن سيوف التيم عيدان بروق
…
إذا نضيت عنها لحرب جفونها
ثم سألت ربيعاً عن نبات آخر قال: هو الرمث. قلت: قد رأيت الرمث في العراق وهو أكبر من هذا، فهل يطول الرمث أكثر مما أرى؟ قال: لا. قلت: إن رمثك هذا عجيب. وتذكرت قول أبي الطيب في قصيدة ابن العميد يصف ناقته:
تركت دخان الرمث في أوطانها
…
طلباً لقوم يوقدون العنبرا
ثم سالت ربيعاً عن نبات تنبسط على الأرض فقال: سفيراً. فأعدت السؤال، فقال: سفيرا عزيزة. فعجبت أن تكون السفيرا عزيزة اسم نبت في الصحراء، ثم سألت أعرابياً من بعد فقال نعم يسمى بهذا الاسم - ولم أعرف كيف سمي به - وبعد مسيرة نصف ساعة توقفنا للغداء، عند جبل يسمى جبل الزمرد ولكنا لم نهتد إلى الزمرد فيه، ويقال إن به حجارة زرقاء وإن الزمرد يكون في حجارته
وقد حدثت أعرابياً هناك، وسألته عن نبات ضعيف له زهر بنفسجي فقال هو البَهَك ينبت بعد المطر
ثم سألته عن نبات له ثمر مستدير ذو شوك. فقال: السعدان قلت: أهذا هو السعدان الذي ملأ صيته كتب الأدب، والذي ضرب المثل بجودته فقيل: مرعى ولا كالسعدان، ويضرب المثل بشوكة: حسك السعدان، ولكن السعدانة التي رأيتها كانت خضراء لم يمتد شوكها وييبس
وابلغنا السير أبا زنيمة عشياً، وأصبحنا إلى السويس فالقاهرة
فألقت عصاها واستقرت بها النوى
…
كما قر عيناً بالإياب المسافر
عبد الوهاب عزام
الأغنياء.
. .
للأستاذ محمود محمد شاكر
كانت ليلة السبت السالفة من الأسبوع الماضي، فوقع في دنياي أمرٌ مُفظعٌ مُفزِعٌ كنتُ معه كمن عَمِي دهراً من عمره ثم أبصر. فأخذتني الحيرة أخذاً شديداً، وتضرَّبتْ نفسي كما يتضرَّبُ الماء في مرجله على معركة من النار تشتعلً من تحته وتتسع، وتقاذفَتْني الهموم كما يتقاذفُ تيَّارُ البحر الأعظم موجةً هائمة من موجِهِ، وتنزىَّ قلبي بين ضلوعي كما تتنزَّى الكرَةُ مقذوفة من علُ، وهاجَ هَيجي واضطربَ أمري وتغولتنْي الأفكار الخائفة الحزينة المجرَّحة التي تدْمَي أبداً، فلا تحسم الدَّم، وانقلبتُ بهمي أدورُ في نفسي دَورة المجنون في دنيا عقله المريض المشعِّث. وهكذا قًضَّيتُ ليلَ أيامي، وليس لمثل هذه الأيامِ نهارٌ
ودعوت ربي جاهداً، وكنت من قبل أدعوهُ، انه هو البرُّ الرحيم. . .، وكنتُ أرى الدنيا كلها وكأنما ارتدتْ لعينيٍّ غلالةً من سرابٍ تخفقُ عليها وتميدُ وتتريعُ، وإذا الأرض غيرُ الأرض والناس غيرُ الناسِ، وإذا كل شئ يجئُ ويذهبُ، ويبينُ ويَخفى. . .، وفقدتْ الأشياء معانيها في نفسي، فما أرى إلا بؤساً وخَصاصة وجوعاً وعُرْياً، وإذا كلُّ شئ بائسٌ فقيرٌ جائعٌ عارٍ لا يستره شئٌ. . . اللهم إني فوضت أمري إليك وألجأت ظَهري إليك. . . ومضيتُ أنسابُ في أياميَ البائسة، حتى إذا كان الليلُ في أولِه مُذ أمس، أويتُ إلى بيت كتبي آخذُ كتاباً لا ألبثُ أُلقيه كأنْ بيني وبينه عداوةٌ أو حقدٌ قديمٌ.
فضِقتُ ثم ضقتُ وخَنقني خانقُ الضْجر واليأسِ، وغاظني ما غلبني على عقلي وإرادتي، فأهوبتُ بيدي إلى كتاب عزمتُ ألا أدعه، وإذا هو:(إغاثة الأمة، بكشف الغُمَّة، للمقريزي). وفتحتهُ وانطلقتُ أقرأ، فما أجوز منه حرفاً أولَ إلا وجدتُ الألفاظ تتهاوى في نفسي وفي عقلي، وكأنها تُقذفُ فيهما من حالقٍِ، حتى لَوجدتُني أسمع لها فيهما صلصلةُ ودوياً وهداً شديداً شديداً، كأن في نفسي وعقلي أبنية تنقضُّ وتتهدمُ في كفِّ زلزلة
وإذا بحر يموجُ لعيني أسمعُ هديرَه وزئيرهُ وزمجرة أمواجهِ في الريح العاتية، وإذا هو أحمرُ كالدم يَفُورُ ويتوثب، وإذا صرخة تخفت زمجرة الأمواج، وإذا هو هاتف يهتف بي:(قم إلى صلاتك، فقد أظلتك الفجر!!). فانتبهت فزعاً وإذا أنا أقلب الصفحة التاسعة
والعشرين من هذا الكتاب، وإذا خطوط حمر قد ضربتها فوق هذه الأسطر:(ودخل فصل الربيع فهب هواء أعقبه وباء وفناء، وعدم القوت حتى أكل الناس صغار بني آدم من الجوع، فكان الأب يأكل ولده مشوباً ومطبوخاً، والمرأة تأكل ولدها. . . فكان يوجد بين ثياب الرجل والمرأة كتف صغير أو فخده أو شئ من لحمه. ويدخل بعضهم إلى جاره فيجد القدر على النار فينتظرها حتى تتهيأ، فإذا هي لحم طفل. وأكثر ما يوجد ذلك في أكابر البيوت) أين يعيش أحدنا وهو يقرأ؟ هذه تسع ساعات يخيَّل إلى أني قضيت ثمان ساعات منها وأنا أقرأ هذه الأسطر القليلة أُقلبها لعيني فتتقلب معانيها في نفسي، إذ كانت تنزع في معناها إلى الآلام المتفجرة بدمي في قلبي، فلا يكون الحرفُ منها إلا أفكاراً تتسع وتتراحب وتتداعى وتتوالد ويَنسَخ بعضها بعضاً. ولو ذهبتُ أكتب ما قرأته في نفسي من هذه الأسطر، وما تحدثت به النفس من حديث أكل ثماني ساعات من أول الليل إلى مطلع الفجر لملأ ذلك ما يقع في كتاب مفرد، ولكن. . .
لماذا لا تكون هذه القسوة المتوحشة إلا من أعمال القلوب المتحجرة في بيوت الأغنياء والأكابر؟ ولماذا يكون أقسى القسوة في قلب المرأة الغنية، فتكون هي أعظم استهانة بجريمة أكل ولدها الذي ولدته؟ ولماذا يكون الفقير والفقيرة دائماً هما مثالُ الرحمة والحب والعطف والحنان؟ أليس الناس جميعاً - غنيُّهم وفقيرهم - سواء في هذه الحياة؟ بَلَى، ولكن. . .
ألا إن هذا المال نعمة من نعم الله التي استخلف الإنسان عليها في الأرض، وفي هذه الحياة الدنيا؛ ألا وإن المال عصام هذا الكون الممتلئ بأسراره العجيبة التي لا يقضى من أعاجيبها عجب، ألا وإنه للنظام الطبيعي الذي يجعل من قانونه سر الحياة الإنسانية التي لا تسمو إلا بالمنافسة والرغبة فيها والإصرار عليها، ألا وإنه لأعجب شيء في الحياة، إذ يكون هو كل شيء، ثم هو ليس بشي على الحقيقة، وإذ يكون في وَهْم للفقير سر السعادة؛ ثم يكون عند الغني المسترخي فلا يعرف به ظاهر السعادة. ألا إنه العجب والفتنة إذ يكون سر الحياة الإنسانية المدنية على الأرض، ومع ذلك فهو إذا ملأ الغنيّ أفرغه من إنسانيته، وإذا فرغ الفقير منه امتلأ إنسانية ورحمة وحناناً، ثم يكون بينهما أشياء في هذا وفي ذاك تختلط وتضطرب ويرمي بعضها في بعض حتى يصبح كل شيء فساداً لا صلاح له
(أكثر ما يوجد ذلك في أكابر البيوت!) و (أكثر يفعل ذلك النساء) إنه ليس عجيباً ولكنه مؤلم، إنه ليس بعيداً ولكنه مفزع، إنه هو الحقيقة الدائرة مع معاني الثراء الغنى والترف والرفاهية، ولكنها الحقيقة الضارية المتوحشة التي انطلقت من قيودها حين أزَمتها الحاجة والقحط والجوع داء المعدة التي تتلوى أمعاؤها كما تتلوى الحية الجائعة على & المتجسدة في فريستها. ليس هذا هو كل شئ، وليس القحط وحده هو الذي يُضَرى عبيد المال فيأكلون بنيهم وبناتهم أكل الوحش الطاغي بطغيان حيوانيته التي تريد البقاء لنفسها، ثم لا تعرف غير نفسها، ولا تعبد إلا نفسها. إن كل أزمة تطلق في أعصاب الأغنياء - إلا رحم بك - وحشاً آكلا طاغياً مستأثراً لا يرى إلا نفسه ولا يريد البقاء إلا لنفسه. فإذا وقع القحط بين صديقين أحدهما غني كان صديقه طعاماً تفترسه الصداقة الغنية! وإذا وقع القحط بين حبيبين أحدهما ثري مترف تثاءب عنه يريد النوم لأنه شبع من حبه حتى تملأ! وإذا وقع القحط بين أخوين أحدهما غني، كان حق الرحم عليه أن يشرب ما بقي من دم أخيه يستولغ فيه حتى يَروي!
إن الترف والنعمة والكفاية، وأحلام الغنى وكنوز الثراء، إن هي إلا الماحقات الآكلات التي تمحق العواطف الإنسانية النبيلة حين لا ملجأ إلا إلى الخشونة والشدة والصبر وحقيقة الفقر. إن الفقراء هم أكثر الناس رغبة في النسل على ضيق رزقهم، والأغنياء أقل الناس إقبالاً عليه على ما يجدون من السعة. الفقراء اشد حزناً على من فقدوا من أبنائهم وأحبائهم، ولكن أولئك لا يحزنون إلا ريث يشعرون الناس أنهم حزنوا، ولئلا يقول الناس إنهم لم يحزنوا على أحبائهم. . . الأغنياء، الأغنياء. . . نعم هم زينة الحياة الدنيا، ولكن مع الزينة الخداع، ومع الخداع الضعف، ومع الضعف القسوة حين تجد ما يتلين لها أو يتساهل أو يستكين. . . أو يثق.
فمن صادق غنياً فليحذر، ومن آخى ثرياً فليتحصن، ومن عامله فليرهب، فإذا بلغ المرأة الغنية فأحبها فخيلت له أنها أحبته فوثق بها فقد هلك، وإنما هو ملهاة من ملاهي الترف إذا فقدت لذة اللهو به نبذته لما به
محمود محمد شاكر
يا ابنة الشارع.
. .!
للأستاذ كامل محمود حبيب
على رسلك، يا ابنة الشارع، وادفني حزازات صدرك إن أنا انطويت عنك، فلقد لمستُ خواطرك أشياء جذبتني عنك
إن التاريخ قلبينا ابتدأ في الشارع، وشب واشتد في الشارع، وتوثقت بيننا أواصر الحب تحت شجرة وارفة في روضة أنف
ولج بنا الهوى فتساقينا أكؤسه على حيد الطريق تحت ستر الظلام في (الجزيرة) و (الزمالك) و. . . حيث لا حس ولا حركة
وصحوت - يا من أحب - من غفوتي، فإذا أنا إنسان تريدين أن تنفثي فيه روح الذئب. وأحسست مرارة تلك الخلس تتفجر في قلبي، فعزفت عنها
ثم أردتُ وأردتِ، فانطلقت إلى أبيك أحدثه حديث زواجي منك فما تمهل، وإلى أمك فشاعت النشوة في مفاصلها، وأنتِ تمهدين الطريق؛ فسميت على. . .
غير أني انطويت عنك حين لمست في خواطرك أشياء جذبتني عنك، فلا تحقدي علي، يا ابنة الشارع
ولما خرجت إلى الشارع - أول ما خرجت - أخذ زخرفه وازين وتلقاك في ابتسامة حلوة رقيقة؛ لأنك كنت زهرته اليانعة النضيرة، ونوره المتلألئ الوضاح
ورآك الشاب - أول ما رآك - فانبسطت أساريره، وأفسح لك من رقته مكاناً سامياً
وتيارى الشارع والشاب، كل منهما يحتفل بك فنوناً، وفي رأيه أنها ساعة من زمان، ثم ينقلب الطائر الغريد إلى وكره
ولكن شيطانيتك الثائرة أبت أن تلم من نفسها، فاندفعت إلى شر غاية حين سَركِ أن تغترقي الطرف وتسيطري على القلب
واستشعر الشارع فيك عاره فراح يقذف بك من جانب إلى جانب في بغض وكراهية، وعبث بك الشاب حين رأى فيك لهو نفسه وشغل فراغه، على حين قد أغضيتِ أنتِ
وحاولت أن أدرك عن غوايتك فأغلقت من دون حديثي مسمعيك، فانطويت عنك، فلا تحقدي عليّ، يا ابنة الشارع
وأوضعت في عمايتك، وأنا أريد صلاح أمرك، وجئت تناقشين وتفاطنين وفي حديثك الزور، كأنه بعض هاتيك الأصباغ التي تموهين بها على الناس، وأنطلق لسانك يطمع في أن يدلل على أن المرأة هي نور الحياة وبهجتها وجمالها الساطع
وتبدت لي فلسفة المرأة الفجة في كلماتك الخاوية، وفي عيني أن المرأة عذاب القلب والنفس والعقل والدار جميعاً، لا يخلص الرجل من واحدة إلا ليرتدغ في واحدة
وسخرت من الدار، فسخرت هي من انصداع شملك وتشعب غايتك؛ وانفلتِّ من حدود المرأة، فانفجرت لك الحياة عن مأساة لا تنتهي، وأصبحت أضحوكة الشارع، لأنك تمثلين على مسرحه كل يوم مهزلة؛ وتصنعت للرجل فألفيت فيه الصاحب، وافتقدت فيه الزوج
ولمزت فتاة الدار فرقاً من أن تسمو عليك، فذهبتُ أثير فيك نوازع مكفوفة على أستل جماع رأيك، فقلت:(لا ريب ففتاة الدار هي في رأينا مطية الدار، وهي بنت الحجن، وهي عَيْر الحي و. . . ثم كيف تجد الزوج، وهي في غياهب البيت وظلام الحياة؟)
فقلت: وإذن ففتاة الشارع قد حطمت هذا القيد الذهبي لتبحث. . . لتبحث عن الزوج؛ وهي في بحثها تقارن وتختار اختياراً فاجراً، وتعرض على عيني الرجل الغريب، في سوق الزواج، محاسنها القبيحة وقبحها الفتان. ولا عجب إن هي ضلت الطريق ففقدت الدار والزوج معاً!
وقلت: إن اختلاط المرأة بالرجل يعلمها حكمة لا ينطلي عليها خداع الشاب ولا مكره ولا حيلته، وللشاب أساليب ملتوية يغتر بها الشيطانة. فقلت: يا سيدتي، إن الجدار سد يحول بينك وبين خير الشاب وشره
وقلت: إن المرأة تجد - خارج الدار - حياتها وعملها وكسبها. فقلت: لقد خلقت المرأة لتكون أماً، وليس في الشارع أطفال سوى اللقطاء
وقلتِ وقلتُ. . .
ثم أعيتني الحيلة فانطويت عنك لأنك ترفعت عن أن تكوني سيدة الدار، وفي رأيي أنك هويت لتكوني ابنة الشارع
أتذكرين يوم أن جئت لك بقناع يدرأ عنك العين المتطفلة النهمة؟ لقد كان صفيقاً هوناً ما، يا عزيزتي، فطرحته جانباً وأنت تقولين (لو كان رقيقاً!) فاستبدلت به غيره، غير أني رأيت
الكراهية في ناظريك، فحبوتك غيره. . . ثم اشتريت أنت نقاباً يروق لك، فجاء يسخر منك لأنه لا يواري إلا ما يواري الأبيض والأحمر من مقابحك
وهذا الجورب الذي أرغمتك على لبسه كان موضوع جدال يحتدم مرة ثم يخبو، لأنك تعلمت في مدرستك التعنت في الرأي
لقد تلقنت في المدرسة علماً ألقى بك بين أحضان الشارع لأنه فتح أمامك باب الحرية، وهو أيضاً قد قذف بالشاب ليتسكع في تيهاء من أمره لأنه سد أمامه باب العمل
وهذا اللباس القصير، إنه يكشف عن شئ، ليتألق فيجذب إليك البصر
أفرأيت - يا صاحبتي - الزهرة تزهو بلونها لتجذب إليها الحشرة فتمتص رحيقها ثم تطير وقد قضت منها وطراً؟
لا ضير، فلقد صُم على الأمر وضلت فيك فلسفتي؛ فانطلقت التمس راحة نفسي وهدوء خاطري
وخلفتك من ورائي، في هذا الشارع، تضطرين بين آذى الحياة المتلاطم
ويا عزيزتي، هذه السيارة الجميلة التي أتأنق فيها، إنها من وحي غطرستك، فهل تجدين لذع فراقها؟
وهذه الدار الصغيرة قد رتبتها يدك على نسق ونظام لتكون لك عشاً آمناً فهل وجدت فقدها؟
وتلك الأيام الناعمة البهجة، أيام الهوى الغض، حين كنا نتلاقى عند الأصيل على شاطئ النيل، نتجاذب أحاديث الغرام ونفتن في أساليب الحب، وهذا الأمل الذي سطع في قلبك وقلبي. . . ثم خبا، أفتذكرين سطراً من هذا التاريخ؟
كلا، كلا! فأنا قد رأيتك بالأمس تسيرين إلى جانب شاب يخدعك وتمكرين به فعرفت أنك أنت ابنة الشارع، لا عهد لك ولا ذمة، ولا غرو فلقد خرجت إلى الشارع تفتشين عن الزوج
فهذا عذري إليك حين انطويت عنك وفي رأيي أن حرية المرأة هي فجورها، وأن خروجها من دارها هو فسقها فيا ابنة الشارع، كوني من تشائين إلا أن تكوني زوجة لي
(مشتهر)
كامل محمود حبيب
من شجو الربيع
عطرٌ من الله. . .!
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
. . . ولَمَّا وصَلْتُ (القَصْرَ) كَبَّر خافِقٌ
…
بِجَنْبَيَّ أوهَي حِكْمَةَ الجِنِّ جُرْحُهُ!
ورُوعَ لَيْلٌ لِلْهَوى ماتَ فَجْرُهُ
…
وفي واحَةِ النِّسيانِ وريَ صُبْحُهُ!
وجُنَّ بِصَدْرِي بُلْبُلٌ ذَابَ شَجْوهُ
…
عَلى فَمِهِ، وارْتَدَّ لِلرُّوحِ نَوحُهُ!
وشَقَتْ ضَبَابي هَالَةٌ لَيْتَ نُورَها
…
= يُخَلَّدُ في آفاقِ عُمْرِيَ لَمْحَهُ
وكادَ يُزَاحُ السِّتر لَولَا قَدَاسَةٌ
…
تَعالَى بها عَنْ عَالمَ النَّاسِ جُنْحُهُ!. . .
فيا طائِراً هَدَّتْ يَدُ الرَّيحِ عُشَّهُ
…
ونفَّضَ أحْلَامَ الاليفَيْنِ دَوحُهُ
عَذَابُ الهَوى عِطرٌ مِنَ الله نافِجٌ
…
يُطَهَّرُ آثاَء الشقِيِّينَ نَفخُهُ. . .
(ديوان المعارف)
محمود حسن إسماعيل
صفحة من كتاب
مع الغروب
للأستاذ شكري فيصل
- 1 -
هذا منصرفي الآن من (المكتبة). لقد قرأت الفصل الطويل الذي كتبه (الطبري) عن (صفين). وخرجت منه دامع الطرف، حزين القلب، تعلو وجهي كآبة مرة. . . ولكن الدنيا المشرقة تريدني أن أضحك؛ فكل ما حولي جميل ناعم. . . إن صفحة السماء لتوحي إلى بكثير من المعاني؛ وأنها لتبعث في نفسي ألواناً من الحنان؛ وإني لأشعر بيد ناعمة طرية تدغدغ قلبي فيستكين لها وينبسط معها؛ وتشيع فيه بوارق الأمل. . . كأنها كلمات السماء تُلقي إليه في يأسه وخموله، فيصحو وينتفض ويثب ويهفو مع النسمات البليلة، ويتحسس هذا الجمال المبعثر هنا في أفق السماء وجنبات الأرض
. . . لقد طرق سمعي صوت الساعة الضخمة القائمة في حرم الجامعة، كجرس الكنسية!. . . كأنها كانت تنعى هذا النهار المدبر إلى الناس الغافلين. . . فأنوار الشمس الساطعة تستحيل شيئاً فشيئاً إلى أنوار باهتة ليس لها ذاك الجبروت ولا تلك القوة، والنسمات اللطاف تترنح في هذا الجو، والشجيرات القائمة على حفافي الشارع تبدأ رقصتها الفاتنة، وتثنِّيها الرائع، والعشب النامي يتماوج بكل فتوته الناشئة كأنه يشارك الكون نغمته المتسقة البارعة
- 2 -
. . . لشد ما ازدهتني هذه الأمسية الحلوة. . . فانطلقت معها أطوف في هذه (الضاحية الجامعية) وأنعم بالهدوء الذي يلفها بردائه الرفيق الرقيق في مثل هذه الساعة المتأخرة من النهار حين يفارقها ضجيج المحاضرات وجلبة الطلبة ورنين الأجراس، فلا تحس فيها تلك الحركة، ولا تجد لها ذاك الاضطراب. . . وإنما يغمرك إحساس رفيع من قدسية العلم، وسمو المعرفة، وجلال الطلب
. . . لقد أخذت أذرع هذا الشارع الجميل الذي تنسحب على جانبيه الحدائق، وتنبت في
أطرافه الزهور؛ وتتغنى على شجيراته جماعات الطير. . . ولقد كان هذا الشارع إلى ساعات قريبة يمور بالحياة، ويفيض بالنشاط، ويتقد فيه العزم، ويودع طوائف من الطلبة، ليستقبل طوائف أخرى. . . ولكنه الآن ساكن هادئ. . . إني لأخطو فيه وحيداً ليس معي إلا هذه التأملات العميقة التي يثيرها في ذهني السكون الشامل. . . وإني لأهيم بعد. . . فأمضي حيث تقودني قدماي؛ لا آخذ جهة، ولا أحدد قصداً. . .
- 3 -
هاأنذا في منبسط من الأرض، ممتد واسع. . . تنطلق فيه صفحة السماء واسعة عريضة، كجنة الأمل؛ وتتراقص فيه الأرواح مرحة عابثة بسنابل القمح القريبة؛. . . لقد بعدت عن العمران القائم، والأبنية الضخمة. . . لكأني أخطو الخطوات الأولى في الريف. . . فأنا لا أسمع حركة (الترام)، ولا جلبة السيارات. . . وأنا لا أرى من برج الساعة، وقبة الجامعة، إلا القمة العالية التي تشبه رأس الصخرة الطافي على سطح البحر وليس من حوالي إلا مزارع وحقول، وتتبعثر فيها الأكواخ، وتمتد من حولها أبسطة العشب الندى
. . . يا لروعة المساء!. . . كانت الشمس تجمع خيوطها المتناثرة لتنحدر نحو الأفق البعيد. . . وقطع السحاب الرقيق تسربل أجزاء من السماء كأنها ثوب ممزق على جسم إنسانة فقيرة. . . والأكواخ المتواضعة تودع النور الحبيب لتغوص في لجج الليل. . . والأفق الزاهي يصطبغ بهذه الألوان العجيبة الماتعة. . . والدنيا كلها ترقب هذا الخط البعيد الذي تتصل فيه السماء بالأرض
. . . لقد كنت إلى حين أجفو أضواء الشمس، وأنأي عنها وأحتمي منها بالظلال. . . ولكنني الآن أتقرب منها وأتحسسها وألحق بها من مكان إلى مكان، كأني أرثي لها هذا المصير، وأخشى عليها سطوة الليل، وأتمنى لها ألا تزول؛ وأحاول أن أمسك بهذه الشعاعات. . . ولكنها تفر مني حتى لا تبقي منها إلا خيوط واهية على قمم الأشجار السامقة
وتقبل هذه الأشجار الأنوار الآفلة؛ وترتعش أغصانها من حمى الوداع. . . وتنطوي الشمس على نفسها قرصاً رائعاً في الأفق البعيد تلقى آخر نظراتها التي بللتها الدموع القانية على الأرض
لطالما أعشت هذه الشمس عيوناً ونواظر؛ كانت تتجه نحوها تحاول أن تنظر إليها، ثم ارتدت عنها خاسئة حسيرة. . . ولكنها الآن في لحظتها الأخيرة تبيح للناس أن يحدقوا فيها فقد ركبها العجز. وما عليها من ذلك! وهي سجينة أسيرة في يد الليل يحاول أن يقذف بها في أحشائها العميقة!. . .
. . . ورقبت هذا الصراع الهادئ بين أضواء النهار وظلمة الليل. . . لقد جمعت له الشمس كل ما تستطيع. . . حتى هذه الأنوار البعيدة التي كانت تغطي رأس (أبي الهول) وقمة (الهرم). . . ولكنها لم تجد سبيلاً إلى النجاة؛ ولا يزال الليل يغير عليها. . . ولا يزال هذا القرص الذهبي يتضاءل ويتضاءل. . . والدماء الوردية تنسكب منه فتتناثر في أطراف السماء. . . لقد أضحى دائرة صغيرة آخذة في انحدار سريع. . . وإن الدائرة لتمس خط الأفق، ثم تغطس في خصمه الهائل. . . وتستسلم. . . وترسل نظراتها الأخيرة في ضراعة وداعة وحب. . . حتى إذا غامت فيه؛ كان جناحاها الهشيمان الممتدان على طرفيه، يضطربان ويهتزان كما يهتز المصباح الضئيل قبل أن ينطفئ
. . . وانطلقت في الدنيا نسمات سريعة كأنها كانت تحمل نبأ الصراع، ونهاية المعركة. . .
. . . وسكنت الطيور إلى أعشاشها تخاف على نفسها شر الليالي السود
. . . وأويت أنا إلى غرفتي مكدوداً. . . بعد الطواف الطويل
- 5 -
سينجاب الليل. . . وستشرق الشمس غداً على العالم. . .
وستتجدد الحياة في أضوائها الساطعة. . . ترى هل تنزاح الظلمات التي تملأ نفسي. . . وهل أخرج من هذا الليل الطويل الذي أخبط فيه. . . وهل يقدر لهذا القلب أن ينعم بالضوء والدفء والحياة المرحة؟!!
. . . ترى هل يقدر؟!. . نورك اللهم!. . .
(القاهرة)
شكري فيصل
شبلي
قصة حب. . .
(يا شاعري: إنك تحكي ما في نفسي. . . فتعال في خطى
بطيئة وبيدك هذه الباقة الصغيرة تقدمها في صفاء. . .)
تختلط الينابيع بالنهر
وتنساب الأنهار من المحيط
وتنزل الرياح القادمة من السماء
إلى النسمات الوادعة.
ليس في الحياة من يحيا وحده
كل ما فيها يمتزج
بقانون أزلي ثابت
فلم لا نكون: أنا وأنت
أنظري الجبال تقبّل السحب
والأمواج يعانق بعضها بعضاً
والزهرة الصغيرة لن يغتفر لها أحد
أن تتناسى أخاها الشقيق
نظري. . .
ضياء الشمس يلامس الأرض
ولأشعة القمر تقبل المحيط
هذه القبلات كلها ما نفعها
إذا لم تقبليني أنت.
م. وهبة
دعوة الرسالة إلى تجديد الدين والأزهر
للأستاذ محمود أبو رية
لما قرأت مقالكم الممتع (فقهاء بيزنطة) في العدد 352 من الرسالة، أعجبني أيما إعجاب ما وصف قلمكم البليغ من الأمور التي يجادل فيها مشايخنا فشغلوا الناس بها، وأوقعوا الفرقة بينهم من أجلها؛ ذلك بأن من يطلع من أهل البصر على أكثر أبحاث شيوخ الدين عندنا ومجادلاتهم، سواء أكان ذلك في مجتمعاتهم أم على صفحات مجلاتهم لا يصدق أنهم يعيشون في هذا العصر، أو أن الدين الذي ينتسبون له ويناقشون في مسائله هو الدين الإسلامي الذي جاء به محمد (ص). ولكني - ولا أكتمك الحق - قد وقفت عند جعلكم البحث في أمر تسوية القبور أو إقامتها من هذه المباحث البيزنطية، لأن هذا الأمر إنما يتصل بأصل الدين الإسلامي وهو (التوحيد) الذي هو أصل رسالة محمد (ص) وقاعدة دينه، بل هو أول ما يدعو إليه كل رسول بقوله:(اعبدوا الله مالكم من إله غيره) وذلك بأن يعبد الله وحده ولا يعبد غيره بدعاء ولا بغيره، وروح التوحيد كما لا يخفى على كل مسلم صحيح الإيمان، هو إخلاص العبادة لله تعالى والاستعانة به والتوكل عليه والنذر له، وما نكب المسلمون بشيء نكبتهم بالقبور المشرفة والأضرحة العالية فقد أصابتهم من نواح كثيرة في دينهم ودنياهم. أفسدت عقائدهم فأصبحوا كما قال الله تعالى:(وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون)، وأذهبت أموالهم فيما لا خير فيه ولا نفع منه وذلك بما يبذلونه في إقامة القباب ورفع الأضرحة؛ وشلت قواهم، وكبلت هممهم، وهذه الناحية هي أشد ضرر اجتماعي ضرب في مفاصل الأمة، ذلك بأنهم قد تركوا الأسباب التي من كسبهم ودابروا سنن الله في عملهم، تلك السنن والأسباب التي أخذت بها الأمم، فكانت سبب نهوضها ومرقاة سعادتها. أرتكنوا على أصحاب هذه الأضرحة ليقوموا بشؤونهم ويقضوا من حاجهم حتى صرنا في ساقة الأمم لا حول لنا ولا قوة، ورحم الله حافظ إبراهيم في قوله يخاطب الأستاذ الإمام محمد عبده:
إمام الهدى إني أرى القوم أبدعوا
…
لهم بدعاً عنها الشريعة تعزف
رأوا في قبور الميتين حياتهم
…
فقاموا إلى تلك القبور وطوفوا
وباتوا عليها جاثمين كأنهم
…
على صنم الجاهلية عكف
ويرحمه الله إذ قال:
أحياؤنا لا يرزقون بدرهم
…
وبألف ألف ترزق الأموات
للسيد البدوي ملكٌ دخله
…
خمسون ألفاً والحظوظ هبات
وأنا أعذب في الوجود وليس لي
…
يا أم دَفْر ما به أقتات
من لي بحظ النائمين بحفرة
…
قامت على أرجائها الصلوات
يسعى الأنام لها ويجري حولها
…
بحر النذور وتقرأ الآيات
ويقال هذا القطب باب المصطفى
…
وسيلة تقضي بها الحاجات
وقفت عند هذا القول في مقال صاحب الرسالة وعجبت أن يصدر منه وهو جد خبير به وبضرره حتى قرأت مقاله البليغ (العقيدة الساذجة)، ورأيت في القول المحكم عن الضريح الذي أنشأه بالعراق السردار طاهر زين الدين الزعيم الهندي لعلىّ رضي الله عنه؛ فوجدت قلمه قد ضرب في الصميم ومسَّ أصل الداء الذي أصاب بلاد الإسلام جميعاً وقلت: لقد اقترب صاحب الرسالة من العمل الحق للدين - لما لم يجد أهله يعملون له - بعد أن كان أكثر عمله للأدب، ولا غرو فإن الدين الإسلامي لكما قال هو:(ينفرد عن سائر الأديان باعتماد دعوته على الأدب وقيام معجزته على البلاغة) ثم وددت لو أني قرأت في هذا المقال أدلة النهي عن إقامة القبور وزخرفتها من لسان صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم ومن عمل رضي الله عنه في مثل هذا الأمر نفسه لا ليشد مقاله بها فإنه شديد متين ولكن ليعرف المتعصبون والقبوريون أن ما تدعو إليه الرسالة إنما هو دعوة محمد (ص) فلا يفتروا الكذب بأنه رأى مفتجر لا يؤيده دليل ولا يظاهره نص. كنت أود أن يقرأ الناس في هذا المقال الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي عليّ: ألا أبعثك على ما بعثني على رسول الله (ص)؟ ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبر مشرفاً إلا سويته - وفي رواية ألا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)
وقد ذكر الإمام الشافعي في الأم ونقله عنه النووي في شرح مسلم أنه رأى الأئمة بمكة يهدمون ما شيِّد من القبور ويسوونها بالأرض عملاً بهذا الحديث، والحديث الآخر الذي رواه مسلم عن جندب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول:
(ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)
وما أخرج ما لك في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
نعم. وددت ذلك وتمنيت لو أن صاحب (الرسالة) قد نهض كذلك، وهو ذو القول البليغ المسموع والرأي الموفق المقبول فواصل الكتابة في هذا الأمر، حتى جاء العدد 355، ورأيت صدره قد تحلى بمقاله (في سبيل الأزهر الجديد)، حينئذ طابت نفسي وانشرح صدري وقلت: لقد وضعنا أيدينا على المفتاح الإصلاح، لأن هذا المقال، إنما هو الصيحة المباركة لا في سبيل تجديد الأزهر فحسب، ولكن في سبيل تجديد الدين.
لقد ضرب قلمكم البليغ في صميم الإصلاح الديني فقال: إن إصلاح الأزهر من ناحية الدين إنما هو في العودة إلى استنباط الدين من منابعة الأولى (من صريح الكتاب وصحيح السنة)
إن الدعوة التي تقوم بها الرسالة اليوم هي التي اتبعها خبر القرون واستمسك بها من بعدهم العلماء المحققون أمثال ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما. وهي التي وضع بذرتها في العصر الحديث جمال الدين وأنبتها الإمام محمد عبده، وقام على تربتها السيد رشيد رضا حوالي أربعين سنة والتي أفصح عنها بكلمة حكيمة يجب أن تكون أساس كل إصلاح ديني في هذا العصر وهي:
(أقول في الدين بقاعدة الإمام مالك وهي الوقوف في العقائد والعبادات عند نصوص القرآن، وبيان السنة النبوية له، وسيرة السلف الصالح فيه قبل حدوث الآراء والبدع ومراعاة مصالح الأمة العامة في الأحكام الدنيوية من مدنية وسياسية وغيرها؛ وأما ما فوضه الشارع إلى الناس من أمور دنياهم ووكله إلى علمهم وتجاربهم في قوله صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) وقوله (ص): (إنما أنا بشر مثلكم إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر) رواهما مسلم في صحيحه
أما هذا فأنا أدعو فيه إلى أحدث ما انتهت إليه علوم البشر وفنونها وإلى ما لا يعرف له حد من الزيادة عليها بقصد إعزاز الأمة وإعلاء شأن الملة بها، ولا بد فيه من المحافظة على مقومات الأمة ومشخصاتها التي كانت بها أمة في وسائلها ومقاصدها)
هذا هو منهج الإصلاح الديني الذي بينه أفصح بيان السيد رشيد رضوان الله عليه
فسر يا صاحب الرسالة بتوفيق الله في هذا الطريق حتى يتجدد الدين ويبلغ مكانته اللائقة في هذا العصر وفي غيره، وبذلك تكون الرسالة قد نهضت بخير عمل ثوابه عند الله أكبر ونفعه للناس عظيم
(المنصورة)
محمود أبو ريه
من وراء المنظار
في عيد الفسيخ
أرجو ألا يحمل القارئ تسميتي هذه على المزاح، فلست لعمر الحق مازحاً، وما أستطيع أن أسمي الأشياء بغير أسمائها حتى في هذا الزمن الذي يسمى كل شئ فيه بغير اسمه
وإنما تسمى الأعياد بأبرز خصائصها. على هذا النحو كان عيد الأضحى، وعيد الفطر، وعيد الميلاد. وليس في القراء من يستطيع أن يجادلني في أن الفسيخ قد أصبح ابرز خصائص ذلك اليوم الذي نسميه شم النسيم؛ فليت شعري وهذا هو شأن الفسيخ فيه لم لا نسميه عيد الفسيخ، وقد تلاشى في جمال الفسيخ كل جمال؟
الأصل في هذا اليوم أنه عيد الربيع، عيد الورد، عيد النسيم الذي ينفح بالعطر ويزخر بالحمال، ولست أشك في أصله؛ ولكني لست أدري ماذا جعل الفسيخ فيه يطغى على الزهر؟
ولعمري ما أرى أي رابطة بين هذا وذاك، وليس من ينازعني حتى المولعين بالفسيخ أنفسهم أن هذا شئ وذاك شئ آخر أبعد ما يكون عنه عنصراً ومعنى؛ وإن كان في الناس من يقول:(يخلق من الفسيخ شربات)
درت بمنظاري فحار المنظار أو حارت عيني من وراء المنظار، ماذا تسجل وماذا تدع؟ أأستطيع أن أمر، دون أن أضحك، بهؤلاء الذين جلسوا للطعام على بُسُط الربيع، فما كان أمام الكثرة المطلقة منهم إلا هذا الصنف من الطعام الذي يجب أن يكون آخر ما يؤكل خارج المنازل، إن جاز أن يؤكل في أي مكان قط؟ وكان يبعث ضحكي من هؤلاء أنهم يعانون رهقاً شديداً في تناوله، ومع ذلك فهم يقبلون عليه في شراهة جعلتني أعتقد أن أسم الجمال عندهم في هذا اليوم هو في ذلك (السلخ) وذلك (النتش) وما يصحبهما من تلويث الأيدي والملابس فضلاً عن تلويث الجو كله برائحة احتبست منها أنفاس الزهر! دع عنك مخلفاته الثمينة التي تزيد بتناثرها هنا وهناك هاتيك البساتين جمالاً على جمال!
وما كان هذا المنظر وحده هو الذي انقبضت له نفسي، فلقد كان ما رأيت في النهار كله دليلاً لا يكذب على أن الناس ما خرجوا من دورهم لاجتلاء جمال الربيع والاستمتاع بصفاء الربيع، وإنما جاءوا ليشوهوا جمال الربيع عامدين بكل ما في وسعهم من أسباب
التشويه
على أي وضع من أوضاع الذوق والجمال يعتبر منظر هؤلاء (الأفندية) الذين تحلقوا على الحشائش فما خفت لهم صوت منذ جلسوا، وما جرت ألسنتهم إلا بكل عوراء مخزية من النكات والحكايات؛ حتى لعبت برؤوسهم بنت زجاجاتهم فازدادوا نكراً وقحة وعلى جوانبهم أسر فيها أوانس وسيدات؟
وعلى أي وضع من أوضاع الذوق والجمال يعتبر منظر هؤلاء الشباب المتعلمين الذين يأخذون السبيل على كل غادية ورائحة، ولا يتنادون إلا بأشنع السباب وأوقح الأسماء والذين لا يطربهم أكثر من عبارات السب توجه إليهم ممن يغزلن (ويعاكسن)؟
ثم ما هذه (الشلل البلدي) الذين اصطحبوا من اصطحبوا ممن كن وإياهم على موعد في هذا اليوم الجميل فجاءوا وجئن يضيفون إلى معاني جماله هذا المنظر المخزي البغيض؟
بل ما هذا الأفندي الوجيه الذي خلع سترته وألقى بطربوشه ووقف يرقص في حركات بهلوانية وحوله من يصفق له ممن يعرفونه ومن لا يعرفونه، وهو لا يزداد على التصفيق إلا جنوناً وانتشاء، ثم هو لا يفتأ يعاود حركاته كلما استخفه التصفيق ممن أولعوا باستخفافه؟ وما هؤلاء الشحاذون الذين انتشروا هنا وهناك، فكانوا أثقل على الهادئين من المهرجين ومن الذباب ومن رائحة الفسيخ؟ وما هذا الضجيج، وما هذه الفوضى التي تلاشى فيها جمال الربيع وصفو الربيع واستخذى لها وجه الربيع، حتى لو استطاع ربيعنا لبحث له عن أرض غير هذه الأرض، وناس غير هؤلاء الناس!
رأيت هذا، فذكرت يوم شم النسيم في القرية، وطاف برأسي عذارى الريف يسبقن الفجر زرافات إلى الترع فيستحممن ويملأن جرارهن ويغطينها بالريحان والنوار، وبعدن مغنيات ضاحكات تنفحهن أنفاس الفجر الندية الرخية، وترمقهن باحتشام عيون الشبان في طريقهم إلى شجر التوت وفي أيديهم الريحان والسعد والنعناع والورد، فلا يكون بين هؤلاء وأوليائكن إلا الابتسامة الحلوة أو التحية العفة، ويكون نهارهم ونهارهن فيضاً من الجمال والهدوء والانبساط، ومما شاءوا وشئن من هوى عذري تبقى ذكراه وذكرى المسرة في نهاره سحر العام كله.
(عين)
النقابات الإسلامية
للأستاذ برنارد لويس
ترجمة الأستاذ عبد العزيز الدوري
- 3 -
انتشرت حركة الأخوة بسرعة كبيرة في المدن والأرياف - بالتكتل والكرم - كدستورهم، وطبقة أصحاب الحرف كأساس اجتماعي لهم، وقتل الطغاة وصنائعهم كواجب من واجباتهم؛ فكانت حركة اجتماعية سياسية دينية عسكرية في نفس الوقت. وقد لاحظ أحد الزائرين في عهد متقدم أن أعضاء كل جمعية من جمعيات الأخوة كانوا أصحاب حرفة واحدة. ولابد من أن الاتحاد التام لجمعيات الأخوة مع الطوائف قد حصل في زمن متقدم، وربما كان ذلك في بدء حركة الأخوة. كما أن حركة الأخوة لم تكن مجرد تنظيم لأصحاب حرفة واحدة، وإنما جعلوا واجبهم حفظ العدل ووقف الظالم عند حده، واتباع قانون أخلاقي وديني، وتنفيذ واجباتهم العسكرية إن دعت الحاجة للدفاع عن حقوقهم، ولم تكن العضوية مقصورة على المسلمين فقط إذ نجد عدد المسيحيين عظيماً جداً في طور متأخر
وهكذا تحقق في حركة الاخوة لأول مرة اتحاد الطوائف والفتوة والطرائق الدينية. وقد أتى كورد لفسكي ببينة ممتعة تؤيد تأثر الطوائف بالنفوذ الإسماعيلي إذ يلاحظ الأستاذ أثراً قوياً لآراء ابتداعية (لا توافق قواعد الإسلام) عند الأخوة، ويرجع أصل ذلك إلى إخوان الصفا. ويذهب (كوبرولو) إلى أبعد من ذلك ويؤكد أن الأخوة كانوا في الحقيقة متطرفين ملحدين في بدعتهم وخروجهم وأنهم من طراز القرامطة أنفسهم
ولدينا وصف هام للأخوة في الأناضول ورد إلينا في رحلة ابن بطوطة من أهالي طنجة زار الأناضول في القرن الخامس عشر الميلادي
وبظهور السلطنة العثمانية وتوحيدها فقدت الأخوة كثيراً من سلطتهم ونفوذهم، وبعد مقاومة عنيفة غير ناجحة اضطروا إلى التخلي عن مهمتهم السياسية والعسكرية، ولكنهم لم ينحطوا أبداً إلى درجة أصحاب حرف عادية فقد استمرت بينهم روح العصر الأول. وحافظت الطوائف حتى القرن العشرين على حياة روحية داخلية وقانون أخلاقي
وامتزجت نظم الطوائف والفتوة والأخوة في الأناضول بسرعة وتم ذلك في كل البلاد الإسلامية المتوسطة (مركزاً) في القرن الخامس عشر. وقد جاءت معظم وثائقنا عن النظام الداخلي لهذه الطوائف بوساطة طوائف الفتوة. فكان لكل طائفة قانون يحتوي على قواعد وعادات وشعائر يتلى شفهياً عادة. وكان هذا القانون يعرف بالدستور (كلمة فارسية معناه: إذن. مؤخراً. نظام) وكانت تكتب هذه القوانين في بعض الأحيان وقد وصلنا عدد كبير من هذه الكراريس ترجع إلى القرن الرابع عشر وما بعده. ويعتبر كتاب الفتوة أو (فتوت نامه) كما تسمى هذه الكراريس بالعربية والتركية على التوالي مع عدد من كتب الرحلات والجغرافيا المصدر الأساسي لمعلوماتنا وتتألف جميع هذه الكتب تقريباً حسب خطة واحدة من ثلاثة أقسام. القسم الأول يحوي أساطير تتعلق بأصل الحرفة ومغامرات مؤسسها الذي تنتمي إليه، وهي تعطى عادة حلقة من التنشيئ مثلاً: الله علم جبريل، جبريل علم محمد، محمد علم علياً، عليّ علم سلمان الفارسي، وسلمان علم الأبيار (وهم حماة أصحاب الحرف حسب تقاليدهم) والأبيار علموا الفروع (وهم الحماة الثانويون للشعب المختلفة لأصحاب الحرفة الواحدة). وهؤلاء الفروع علموا بدورهم رؤساء الأصناف العاديين. وهذه الأساطير تظهر عادة تأثيراً قوياً للإسماعيلية والصوفية. القسم الثاني: يحوي عادة قائمة بأسماء الأبيار والفروع لمختلف الحرف، وهؤلاء عادة أشخاص اقتبسوا من التوراة والقرآن ومن التاريخ الإسلامي، وهكذا نجد آدم حامي الفلاحين والخبازين، وشيت حامي الحياكة والخياطين، ونوح حامي النجارين، وداوود حامي الحدادين والصياغ وإبراهيم حامي الطباخين وإسماعيل حامي صناع الأسلحة. والقسم الثالث يحوي التعاليم لتثقيف المبتدئين، والأسئلة فيه تظهر اتصالاً قوياً بآراء الدراويش. ويمكننا من هذه الكراريس (كتب الفتوة) أن نصور نظام الطوائف لحد ما. ويحسن بنا أن نتذكر في عملنا هذا أن وثائقنا جاءت من حقل تاريخي يمتد منذ القرن الرابع عشر حتى القرن العشرين ويشمل كل البلاد الإسلامية. ومهما كان التغيير قليلاً خلال القرون، فإنه يوجد تباين محلي عظيم. لذا سنحاول أن نعطي صورة شاملة مع ملاحظة الفروق الأساسية تبعاً للمحل والزمن
يرأس الطائفة الشيخ ينتخبه الأساتذة من بين رجال الحرفة، وبعد انتخابه يكون حاكم الطائفة الأوحد ويجمع وظائف رئيس وأمين صندوق وكاتب، وهو (أي الشيخ) موجود في
جميع الطوائف الإسلامية وفي بعض الطوائف مصر في القرن السادس عشر الموصوفة في (مخطوط كوثا) ونجد له مساعداً، وهو النقيب، ومنزلته بالنسبة إلى الشيخ (كمنزلة الوزير من السلطان) ويظهر أنه كان رئيس التنفيذ لأوامر الشيخ ومنظم الحفلات أيضاً. ويليه الاختيارية أو المسنون بين الأساتذة الطائفة يتعاونون معه على إدارة الطائفة؛ ثم يأتي الأساتذة ويدعى الواحد عادة أسطى أو أحياناً (معلم)، وهم يشكلون القسم الرئيسي من الطائفة. أما الصانع فلا يلعب دوراً هاماً في الطوائف الإسلامية ولا وجود له عادة إذ يكون الانتقال من مبتدئ إلى أسطى رأساً؛ ويوجد في بعض النقابات دور وسط يدعى العامل في خلاله خلفه أو خليفة، وهذا الدور وقتي فقط
وتتم الحلقة بالمبتدئ وفي أغلب الحالات لا يحدد وقت الدور الذي يقضيه المبتدئ ولا يطلب منه صنع شئ مثالي متقن جداً بالمعنى المفهوم عند الأوربيين. فزمن الدراسة والإجازة يعين من قبل الأستاذ الذي يشتغل معه المبتدئ. وتختلف النصوص في مسالة تطبيق النظام فيقول البعض إن الشيخ يطبقه أو ينفذه منفرداً. ويقول آخرون إنه يفعل ذلك بمساعدة الاختيارية
هناك نوع آخر من التنظيم في الطوائف الأناضولية المتأخرة وصفه كورد لفسكي إذ يطلب هنا من المبتدئ قضاء ألف يوم ويوم في هذا الدور. كما أنه لا يأخذ في هذا الدور أي أجر ولكن له الحق أن يحصل على بعض المكافأة (البقشيش) ووليمة عند انتمائه إلى الطائفة، ويدربه أستاذ في شئون حرفته كما يحصل على دراسة أخلاقية في الزاوية في نفس الوقت. وإذا تتلمذ الجراق لأستاذ معين، فعليه أن يبقى مع أستاذه ولن يقبله أستاذ آخر كتلميذ له. وفي نهاية هذا الدور يطلب منه عمل شئ مثالي متقن في صناعته ثم يجاز في حفلة عامة من قبل - الأصناف باشى - أي شيخ الحرفة، وال - يكيت باشلرى - أي الاختيارية، وبعد هذا يصبح خلفه ويجب عليه أن يبقى ستة أشهر على الأقل وبعد انتهائها يستطيع أن يمارس حرفته كأستاذ - وفي هذا يساعده أستاذه وغيره من الأساتذة من الوجهة المالية عادة.
وترأس الطائفة هيئة تدعى لونجة هيئتي تتشكل من شيوخها أي الرجال المسنين ويكون القرار النهائي للرئيس الذي ينتخب عادة لتقواه. وتجتمع الهيئة مرة كل أسبوعين، وينفذ
الأوامر والعقوبات الجاويش أوال - أوش باشي - وتحرص الطوائف كثيراُ على كيفية نوع المنتج ويعاقب صاحب الإنتاج الرديء بطرده مؤقتاً من الطائفة تشتري المواد الأولية تحت رقابة الشيخ، ولأصحاب الحرفة الفقراء حق الأقدمية في هذا على الأغنياء، ويعقد اجتماع عام سنوياً.
يمكننا أن نلاحظ الدور الهام الذي يلعبه اللباس الخاص لرجال الطوائف في حياتها. فميزة الفتوة الظاهرة في أوائل عهدها كانت السروال، ويتكلم الكاتب العرب عن لبس السروال كعلامة للانتماء إلى الفتوة، ثم أصبحت هذه العادة متبعة في الطوائف، وصارت حفلة الانتماء إلى عهد قريب تتصف بارتداء بعض الملابس: والسروال والشد والحزام والبشتمال أو الصدرية. هي من الأهم بين الملابس.
لدينا وصفان مفصلان للطوائف الإسلامية يستحقان الفحص كل على انفراد أولهما وصف في رحلة سائح تركي يدعى - أوليا جلبي - الذي صنف قائمة مفصلة بأسماء الطوائف وهيئات أصحاب الحرف في أوائل القرن السابع عشر بناء على طلب السلطان، وفي هذا المؤلف نجد لأول مرة وصفاً كاملاً لنظام الطوائف في مدينة إسلامية. ويبدأ أوليا جلي وصفه للطوائف بفتوت نامة - كتاب الفتوة - الذي يظهر أنه نص منقول يحتوي على الأساطير والتعاليم الاعتيادية وكذا وصفه حفلة الانتماء إلى الطائفة. أما تركيب الطائفة الذي يحويه الوصف فهو الشيخ الرئيس) والنقيب (نائب الرئيس) والجاويش والأوسطة (الأستاذ) ثم الشاكرد (المبتدئ). أما الصانع أو العامل البسيط فيلاحظ أنه لا ذكر له.
ثم يعدد (أوليا جلبي) جميع الطوائف الموجودة تحت سلطة لملالي (جمع مُلاّ) الأربعة في القسطنطينية مع عدد حوانيتهم برجالهم وشيوخهم إذ ينقسمون إلى سبع وخمسين شعبة تحتوي بمجموعها على ألف طائفة وطائفة تحوي الشعبة الأولى طوائف لجواويش (ج جاويش) وموظفي البوليس والغلمان والانكشارية لجدد (أكم أو غلان) والزبالين والقندلفتية (حفار القبور - الحانوتية -) وعمال المناجم، والبلطجية والأحداث والنقاش. وفي المعارض العامة يتقدم هؤلاء في السير لأن من واجبهم تنظيم أو تسوية الطرق التي يسير الآخرون بعدهم. أما الشعبة الثانية فهي تحت إدارة رئيس الطوائف - الذي عين لهذا المنصب من قبل السلطان محمد الفاتح (1451م - 1481م) وهي تحتوي على أصناف
العسس والشرطة والجلادين، واللصوص، وقطاع الطرق، وزمرة المسخرين في العسكرية أو البحرية) وسواس الخيل، وممرني الخيل، الحرس. ويبين أوليا أن أصناف اللصوص، وقطاع الطرق، كذلك المفلسون وغيرهم من وضيعي الأخلاق لا يظهرون في المعارض العامة، ولا يعرفون شخصياً، ولكنهم يدفعون خوة (ضريبة) لرئيسي الشرطة المدعوين (أسس باشي)(وصوباشي)
لا يتسع المجال هنا للنظر في وصفه للسبع والخمسين شعبة، ولنلاحظ كمبدأ عام أن كل شعبة يرأسها شخص واحد، وهو عادة رأس الطائفة المهم في الشعبة ووظيفته أرفع وظيفة. أما الشعب القليلة التي يترأسها موظفون كـ (صوباشي)، فهي مستثنيات، والسبب هو كون الحرف نفسها رسمية أو شبه رسمية، وتعمل الطوائف عرضاً تاماً على هيئة استعراض مرة واحدة سنوياً، ووصفه أوليا كما يأتي:(يبدأ الموكب الملكي بالسير وقت الفجر ويستمر الموكب في السير طول النهار، حتى الغروب، يفتتح الاستعراض من قبل الجاووش لر المسمى الآي جاويش ويناهز الموكب ألفي رجل والكل مدجج بالسلاح كأنه بحر زاخر، ومن العادة المتبعة أن كل طائفة عند الرسول قرب الحديقة الجديدة أمام تذكار خسرو باشا تعرض نفسها أمام قاضي استانبول لأنه صاحب السلطة لتفتيش جميع الأوزان والمقاييس، وجميع الطوائف. وهناك قاعدة أخرى وهي أن كلا من هذه الطوائف يهدي إلى قاضي القسطنطينية البضائع التي عرضوها في معرض عام. ولكن بعض هذه البضائع كان يخفى بهذه المناسبة، وبعد تقديم الاحترام لأول حاكم في العاصمة تصحب الطوائف رؤساؤها إلى محلاتها المختلفة وينصرف كل إلى بيته. وتتوقف كل تجارة وحرفة في القسطنطينية بمناسبة هذا الاستعراض لمدة ثلاثة أيام يملأها ضجيج وفوضى الاستعراض). ويظهر أن أهمية عظمى كانت تعلق على نظام الأقدمية (في السير). ويعطي أوليا جلبي وصفاً ممتعاً لنزاع من هذا القبيل (أي حول حق الأقدمية) بين. القصابين وبين تجار مصر، ثم صدر الحكم النهائي من قبل السلطان في جانب التجار.
(يتبع)
عبد العزيز الدوري
رسالة الشعر
هل بعد الشباب شباب؟
للأستاذ حسين شفيق المصري
أبعد اكتهال في الضلال صواب
…
وهل صادقٌ بعد المشيب متاب
أرى الشيخ من بعد الغواية زاهدا
…
كما خاف حراس الكروم غرابُ
تشوب له الغادات بالسُّخر ودَّها
…
ويسخو على جُلاّسه ويُعاب
فيهلك ما يقني ويمضغ حسرة
…
لها في اللهى بعد السُّلافة صابُ
ويعتزل اللذاتِ في ثوب راهب
…
ومن تحته للمخزيات ثياب
فينهض في المحراب يسأل ربه
…
ثواباً، وما للمفسدين ثواب
وفي نفسه عند السجود لو أنه
…
يتاح له في الموبقات وثاب
وقد يتمنى لو يُنيبُ، وبينه
…
وبين فنون المغريات جِذاب
فلا هو للدنيا، ولا هو ديِّن
…
وقد مات، لولا جيئةٌ وذهاب
ويا رُب حي يخفض الذلُّ رأسَهُ
…
وميت يُعلَّى قبرُه ويهابُ
ألا لو درى الأشياخ في زمن الصبا
…
بعقبى الهوى لاستدبروه وآبوا
وشقوا إلى العلياء كل مخوفة
…
تشق رؤوسٌ عندها ورقاب
وكائن ترى من مُترف ورِثَ القُرى
…
وركن الحجي فيما لديه خراب
تطير به الأهواء حتى ينوشَهُ
…
من الفقر في جو الرفاء عُقاب
وآخر ضاو مسَّهُ اليُتم بالطوى
…
ودارت به الأيام وهي غضاب
فسار على درب الشباب إلى المنى
…
وئيداً، فما استعصى عليه طِلاب
وخالس عيشَ الكدِّ ساعاتِ لذةٍ
…
تعيد صفاَء النفسِ حين تُشاب
فلما دنا من شيبه بشبابه
…
تربع في دست عليه حجاب
فتى العصر هل بعد الشباب شباب
…
إذا غزلٌ ولى به وشراب
أكل الصِّبا حب ولهو ونشوة
…
وهجر وشكوى لوعةٍ وعتاب
أفي كل ناد ملعب ومجانة
…
وفي كل ليل صبوة ودعاب
أتذهب أيام الشباب على الهوى
…
أليس لأيام المشيب حساب
شبابك هذا فرصة إن تركتها
…
فليس لها بعد المضي مآب
وليس لمجد في الفتون شريعة
…
وليس لجاه في المجون كتاب
فخذ في سبيل السابقين إلى العُلا
…
وليس لها غير الجهادِ ركاب
ولا تنسَ والأيام خُضْرٌ وريقة
…
نصيبَك منها والغصُونُ رِطاب
فإن كان حب فلتصنه نزاهة
…
وإن كان لهو فليزنه صواب
ألم ترني أبصرت بعد عمايتي
…
وما زال مغشًّياً عليّ حجاب
كما إنجاب ليل في فلاة فسيحة
…
فأخفى ضياء الشمس عنك ضباب
كشأنِ صحاب عاصروني مع الصبا
…
فشبت على دين المجون وشابوا
قضوا في حوانيت الشراب شبابهم
…
فلما علا الشيبُ الرؤوس تصابوا
كأن بهم وهناً يصد عن العلا
…
وأعوادهم رغم المشيب صِلاب
وداعي الهدى لا يسمع الشيخ صوته
…
ولكنه يدعو الفتى فيجاب
حسين شفيق المصري
-
لقاء.
. .
للأستاذ حسن حبش
يا لَحْظَةً أَفْدِيكِ بالخُلْدِ
…
جِئْتِ العشيَّة دُونَ ما أقَصْدِ
أبْصَرْتُ فيكِ أَشِعَّةَ المجْدِ
…
وشَذَى الرَّبِيع، ونفْحَة الورْدِ
هِيَ لَحْظَةٌ جَمَعَتْ فؤاَدَيْنِ
…
رَبَطَ الهَوى بَعْضاً إلىَ بَعْضِ
بَعْدَ الفِرَاقِ ولَوعَةِ البيْنِ
…
كانَتْ شُعَاعَ اللهِ في الأرضِ
خفق الفُؤَادُ لِطَلْعَةٍ عَكَسَتْ
…
نُورَ الخُلودِ وبَدَّدَتْ ضَعْفي
مَدَّتْ يَداً فِيهاَ المُنَى جُمِعَتْ
…
يا لَيْتَ ثَغْرِي كانَ في كَفِّي
أنْتِ الحَيَاة لِشَاعِرٍ عَاشِق
…
جَعَلَ الجَمَال إلههُ السَّامِي
يَهْفُو إلىَ النهْرِ الدَّافِقْ
…
هَيْهَاتَ يَرْوي قَلْبَه الظَّامِي
أَقْسَمْتُ أَنَّكِ مَشْرِقُ الحُسْنِ
…
ورَبيعُهُ النَّضَّاح بالأمَلِ
ورَأيْتُ أنَّكِ دُمْيَّةُ الفَنِ
…
سُكِبَتْ مِنَ الألْحانِ والْقُبلِ
أَأَظَلُّ في دنيايَ ظَمْآناً
…
والخَمرُ في كأسِي بيُمْنَاياَ؟
وأَظلُ أَقْضي العُمْرَ حَيْرانَاً
…
والنُّورُ أَنتِ، وأنتِ دنْيَايَا؟
أًمسي ومَا أمْسِي سِوىَ لَحْنِ
…
قد وَقَّعتْهُ أَناملُ الْحُبِّ
فشربْتُهُ لَهْفَان بالأذْنِ
…
وجَمْعُتُه سَكْرَانَ في لُبِّي
يا ذَلِكَ الأمْسِ ولَّى
…
مَا كنْتَ مِنْ ذَيَّالِكَ الزِّمَنِ
ودَّعْتُ فيكِ أَمانياً هَلاَّ
…
أبقيتَ لِي ذِكرى سِوىَ الشَّجَن
يا خافقاً في الصَّدْر ما بَرِحاَ
…
يَهفو إليَ المجْهولِ من دَهرهِ
ما أنتَ أولُ طاَئرٍ جُرِحَا
…
أو ضلَّ مَسلَكهُ إلى وكرِهْ
أيُرِيش زُغبَ جَنَاحك الدَّمْعُ
…
هَيْئَاتَ مَا لِلْدَمْعِ مِنْ جَدْوى
فَخُذْ اليقينَ فِيهِ دِرْعُ
…
ودَعِ البُكَاَء ودَائمً الشَّكْوى
إن تًبْكِ تُذْهبْ رَوعَةَ الأمسِ
…
وجَلَالَهُ الباقي إلى الأبَدِ
فاَلْقَ الدُّجى لُقْيَاكَ للشَّمْسِ
…
واسْخَرْ بِمَا يَأتِيكَ مِنْ نَكَدِ
يا لحظةً سَتَظَلُّ فِي خَلَدي
…
رَفَّافَةَ الأَضواءِ والسَّحرِ
نغَّمْتِ أَمْسَ الشاعِرِ الغَرِدِ
…
وغَمَرْتِهِ بِالنورِ والعطرِ
(بني سويف)
حسن حبشي
-
أغنية الربيع
(مهدأة إلى صديق الأستاذ محمود تيمور)
للأديب مصطفى علي عبد الرحمن
أشرقتْ مثلَ ابتساماتِ المنى
…
ضحكات الزهرِ في الصبح الوديعْ
وسرت عطراً وحُسناً وسنا
…
لمحات البشرِ في وجه الربيعْ
وجرى الجدولُ ما بين النخيلْ
…
حالماً يخطُر في رفقٍ ولينْ
والطيورْ
تتغنى فوق عذبٍ سلسبيلْ
في سرورْ
ضمَّها ظلٌّ من الغصنِ ظليلْ
…
مسبلُ الأهدابِ يستهوي العيونْ
مرت الأنامُ سكرى فتهادتْ
وسقاها الطلُّ خمراً فتناجتْ
وترى السوسنَ فيَّاح العبيرْ
…
سافرَ الحسنِ تراءى للعيانِ
وعذارى الأيك أرخين الشعورْ
…
فتنت بالسحر سكانَ الجِنانِ
وصحا النرجسُ من ليلِ الشتاءْ وتثنَّى
باسماً يختال في ثوبِ الضياءُ مطمئِنَّا
وغديرٌ حمت الطير أليهِ
راقها رشفُ اللمى من شفتيهِ
والفراشاتُ طليقاتُ عليهِ
حيثما تهوى تهيمْ
في صفاء ونعيمْ
يا ربيعاً لاح موفورَ الجنى
…
فاتن الطلعةِ لماح السنا
فرشفنا منه أكواب المنى
…
ليت هذا السحرَ تبقيه لنا
ليت هذا الحسن للدنيا يدوم
(الإسكندرية)
مصطفى علي عبد الرحمن
رسالة الفن
بواطن وظواهر
عندنا فنانون. . . ولكن!
(إلى أستاذي الدكتور زكي مبارك بعد مقاله: (عندنا أدباء
ولكن. . .))
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
1 -
من الكتاب
الدكتور هيكل باشا
شارلي شابلن هو أعظم فنان في الدنيا الآن، فلا يجوز لأحد أن يغضب إذا قيل له إن فيه من روح شارلي شابلن وظله وتكوينه، إلا إذا كان ممن يكرهون الفطرة الصافية، وسهولة النفس الصادقة. ولا يمكن أن يكون الدكتور هيكل باشا من هؤلاء، ولذلك أبيح لنفسي على الرغم من أنه باشا في الشرق الذي يقدس كبراءه ويتحرج في التحدث إليهم والتحدث عنهم. . . أن أقول له: إني ما رأيته حتى تفتحت له نفسي كما تتفتح لشارلي شابلن، فما أذكر أنه باشا حتى أعود فأتكتم نفسي أمامه ترهيباً وتوقيراً. . .
قد كنت أحب ألا يكون الدكتور هيكل. . . باشا. بل قد كنت أحب ألا يكون دكتوراً، فالدكتوراه قد ألزمته فيما يكتب الواقع الثابت المؤكد يتحراه فيما ينشئْ، وفيما يبحث ويدرس، وفيما ينقد ويوجِّه. . . والتزام الواقع الثابت المؤكد في هذا كله حرمنا أن نقرأ وحي عاطفته وأن نطالع نسيج خياله، والعاطفة والخيال أغلى ما في الفنان. . . فهّلا أعطانا منهما الدكتور هيكل باشا ما ننعم به مثلما ننعم بما يعطينا من فكره؟
الأستاذ الزيات
اسمع صوته تعرف أنه لا يزال إلى يوم طفلاً لا تعقيد في طبعه ولا مكر ولا تخابث. وإنه لمسالم ولكنه يعرف ندرة المسالمة في الناس، فهو يخشاهم ويتوقاهم ويسأل الله النجاة من
إساءتهم ومن إحسانهم أيضاً. وقد أورثه هذا الشعور (التأنق) الذي عرف عنه في كتابته، فهو إذا أراد أن يلقى جبلاً على رأس قارئة لوماً وعتاباً وتعنيفاً كلف نفسه في البدء أن ينسف الجبل، ثم أن يدق حجارته وصخوره فإذا هي حصى، ثم أن يطحن الحصى فإذا هو دقيق ناعم، ثم أن يحرق هذا الدقيق فإذا هو دخان، ثم أن ينفخ في هذا الدخان فإذا هو. . ماذا؟. . سراب أو أثير يرجم به الأستاذ الزيات ما يكره من الصور والفِكَر والحوادث. وهو إلى جانب ذلك التلطف كله يقول: اللهم غفرانك فما أردت إلا الإصلاح! مسالم جداً!
وإذا جاء يوم كان اللطف فيه عيباً، فإنه يجئ يوم يرى الناس الإسفاف فيه فضيلة. وقد وقى الله الأستاذ الزيات الإسفاف بما وهب له من الرقة وأناقة النفسِ، فهو حريص كل الحرص على قلمه أن ينزلق إلى فكرة نابية أو كلمة فاجرة. وهو على الرغم من احترافه الكتابة السنين الطويلة لا يزال يتأنق فيها. وهذا دليل على حبه إياها وشغفه بها. وثمة دليل آخر على ذلك هو أنه أكرمها فلم ينزل بها إلى أسواق يروج فيها الرخيص الغث منها، وإنما ظل بها في سموات أدناها (الرسالة)
إني أحبه لأنه كان شجاعاً في عطفه علىّ في أشد ما عرفت من محن الحياة، فقد فتح لي أبواب الرسالة بعد ما كنت في نظر الناس مكروباً
الأستاذ أحمد أمين
قُدَّمت إليه سنة 1928 وكانت معي كراسة أكتب فيها أشياء شغلتني إذ ذاك وأنا في الرابعة الثانوية. فقرأ منها شيئاً ثم سألني: ماذا تريد أن تدرس بعد البكالوريا؟ فقلت له: اللغة العربية في كلية الأدب عندكم. فسألني: لماذا؟ فقلت له: لكي أكون أديباً. فقال لي: لسنا نخرج الأدباء المنشئين وإنما نحن نخرج الأدباء الواصفين. . . قالها وابتسم زعماً منه أني سأسأله وأنا التلميذ الجاهل في المدرسة الثانوية عن الفرق بين الأدباء المنشئين والأدباء الواصفين هؤلاء، فإن هذا الفرق موضوعاً لدرس من دروس السنة الثانية من قسم اللغة العربية في كلية الآداب، ولكني كنت قد قرأت كتاب (في الأب الجاهلي) كما كان الأستاذ أحمد أمين قد قرأه، فعرفت منه ما عرفه، فلما سمعته يقول ما قال لم أسأله شيئاً وإنما بادرتني الحسرة على نفسي لأن الأستاذ أحمد أمين أنذرها بأنه لا معين في كلية الآداب على بلوغ ما تنشد. . . فقلت من ساعتها: الاعتماد على الله
وجئت من الإسكندرية ودخلت كلية الآداب، واضطررت إلى احتراف الكتابة، فما كان ينهاني عنها أحد أكثر من الأستاذ أحمد أمين، فكم قال لي إن العلم لا يمكن أن يتفق مع الكتابة في المجلات والصحف! وكم خيرني بين الاستمرار في طلب العلم عندهم في كلية الآداب أو طلب الرزق بالكتابة، حتى سألته يوماً أن يربط لي من مرتبه خمسة جنيهات في الشهر تكفيني وأتعهد له بها أن أتوفر على الدرس حتى لا يلحقني فيه طالب، فانتهت المشكلة بيننا عند هذا، ولكنها بدأت بين الأستاذ أحمد أمين ونفسه عند هذا أيضاً. فقد بدأت تظهر أعراض الكتابة على الأستاذ أحمد أمين، فإذا له في الرسالة قطعة مترجمة تحت عنوان (نفسية قطة) وإذا له بعد ذلك مقالات أخرى، وإذا له آخر الأمر مجلة أسبوعية تربح ولا تخسر!
فهل لي أن أسأل الآن الأستاذ أحمد أمين: أتستطيع كلية الآداب اليوم أن تخرج الكتاب المنشئين ولو في مدة عمادته، أم هي لا تزال قانعة بإخراج الأدباء الواصفين الذين ملئوا البلد بأنفسهم وبوصفهم وإن كان لا يراهم أحد ولا يسمعهم. . .؟
ثم هل لي أن أسأله أيضاً: أتتفق حياة العلم اليوم مع الكتابة في المجلات والصحف، أم أن هذا أمر يجوز للعمداء والأساتذة الذين استوعبوا العلم كله، وانتهوا منه كله، ولم يعودوا يجهلون شيئاً مطلقاً، ولم تعد ضمائرهم تسألهم عن إصلاح الفاسد مما وظفتهم الدولة لإصلاح والإشراف عليه. . . بينما هو لا يجوز للأولاد الجهلاء الذين عليهم أن يموتوا ضيقاً أو يجدوا الفسحة في كتابي فجر الإسلام وضحاه وثمن النسخة عشرون قرشاً؟
في القرآن ظاهرة عجيبة، وهي أنه عند ما يقول عن الله إنه الغني يرفها بقوله إنه الحميد. لماذا يلتزم القرآن هذا الإقران أو لماذا يكثر منه على الأقل؟ لعل ذلك لأن الله وحده هو الذي يستطيع أن يكون غنياً وحميداً. والله أعلم
2 -
من الممثلين
الأستاذ الريحاني
تزوره فتقول له: إذا أغلقت عليك حجرتك امتنع عنك الهواء فسلمت حنجرتك من العطب فيغلق عليه حجرته فتمضي عنه. ويزوره زائر آخر يقول له: إنك أغلقت عليك فامتنع
عنك الهواء فارتفعت درجة حرارتك فأنت إذا خرجت أصابك البرد ونال حنجرتك العطب، فيفتح الباب والنافذة. ويمضي هذا الزائر ويجئ زائر ثالث فيقول له: إنك وقد فتحت الباب والنافذة قد عرضت نفسك للتيار، والبرد إذا أصابك نال حنجرتك العطب فاكتف إما بالباب وإما بالنافذة، فيغلق النافذة ويبقى الباب مفتوحاً. ويمضي عنه هذا الزائر ويجيئه زائر رابع فيقول رابع له: إنك وقد فتحت الباب عرضت نفسك لإلمام الثقلاء من الزائرين بك وأنت رجل عمدتك في عملك على أعصابك إذا هدأت، ونفسك إذا اطمأنت ولم يقلقها ضيق أو ضجر، فيقوم ويغلق الباب ويفتح النافذة. ويمضي هذا الزائر ويجيئه زائر خامس يقول له: إنك وقد فتحت النافذة ردمك الغبار، ودخل إلى (خياشيمك) وتراكم على سقف حلقك فعطل صوتك وربما آذى عينيك أيضاً، فيغلق النافذة. فإذا مضى عنه هذا الزائر ألفى نفسه وقد أغلق على نفسه الحجرة نافذتها وبابها وذكر أن زائراً قال له كلاماً معقولاً منعه به من إغلاق النافذة والباب، فيقوم ويفتحهما؛ ولكنه عندئذ يذكر أيضاً أن كلاماً معقولاً قيل له لما فتحهما أول مرة وأنه أقتنع به وأنه قام على أثره فأغلق الباب وأبقى النافذة مفتوحة. فيقوم ويغلق الباب ويستبقي النافذة مفتوحة، ولكنه عندئذ أيضاً يذكر مرة أخرى أنه اقتنع في ساعة ما بوجوب إغلاقها فيقوم ويغلقها هي أيضاً، ثم يعود فيرى أنه عاد إلى ما كان فيه، فلا يرى مخرجاً من هذا الدوران إلا أن يغادر حجرته وأن يجلس في القهوة يلعب الورق، فإذا ما سأله أفراد فرقته لماذا ترك (الشغل) بسط لهم المسألة وسألهم حلاً للمعضلة فإذا هم كل واحد وله رأى وإذا هو ساخر منهم لعجزهم عن الاهتداء إلى الحل القريب الذي اهتدى إليه هو، وهو الإضراب عن الحجرة، ويدخل في ذلك الإضراب عن العمل.
الأستاذ يوسف وهبي
لا شك في أنه ضحى للفن بثروة طائلة؟ ولا شك أيضاً في أنه منذ ظهر لا يزال يضرب الرقم القياسي في إقبال الجمهور على فنه. فكيف يتفق لفنان أن يكون أروج الفنانين ومع ذلك يكون أخسرهم؟
المظهر: هو يتفق على مظهره ربحه كله وأكثر، ويرجع السبب في هذا أنه يشعر في قرارة نفسه بأنه وإن كان ممثلا فهو غير الممثلين، وأول فرق بينه وبينهم أنه دخل إلى التمثيل وفي جيبه مال
اتهمه خصومه بكثير من التهم، ولكن الواقع يشهد بأنه برئ من تهمة واحدة - على الأقل - وهي تكلف الهواية التي وهب نفسه لها، فهو يمثل لأنه يحب التمثيل، وهو يمثل ولو خرب في سبيل التمثيل، وهو يمثل لأنه إذا لم يجد مسرحاً يؤويه انطلق في الحياة يمثل صوراً تتراءى له. وأكثر هذه الصور ترقصاً أمام عينه هي صور الزعامة والقيادة والحكم، ورواياته الأخيرة التي ألفها تشهد كلها بذلك، فهو فيها جميعاً إما زعيم حزب، وإما رئيس شركة أو إدارة، وإما مستشار أو قاض في محكمة، وإما ضابط كبير في الجيش
وإني لا أرتاب في أنه إذا أراد أن يكون زعيم حزب في مصر لا ستطاع أن يكونه في نجاح كبير
الشيخان
جورج أبيض وعزيز عيد:
اشتركا يوماً وألفا فرقة، وطافا بها في الوجه البحري والوجه القبلي، وعادا إلى القاهرة ومعهما ألفان من الجنيهات كانت في جيب الأستاذ جورج أبيض، وبعد يوم من العودة ارتاحا فيه من مشقة السفر ذهب الأستاذ عزيز عيد إلى الأستاذ جورج أبيض يطالبه بنصف الأرباح حسبما اتفقا. . .
عزيز عيد - يا أخي يا جورج. أين الألف الذي لي؟
جورج أبيض - معي يا أخي يا عزيز. في جيبي
عزيز عيد - طيب. هاتها
جورج أبيض - ليتني أستطيع. ثق أنني أرثى لك، ولكن ثق أيضاً أنني عاجز عن مواساتك
عزيز عيد - ولم المواساة ونحن لم نفقد شيئاً. . . أما قلت إن الألف معك؟
جورج أبيض - وهذا ما أنت جدير بالمواساة فيه. . . فجنيهاتك معي أنا وليست معك أنت. . .
عزيز عيد - وأي شئ في هذا؟ أعطني إياها تكن معي وينته الأمر
جورج أبيض - وكيف السبيل إلى هذا؟
عزيز عيد - ضع يدك في جيبيك وأخرجها وهاتها، ولا غير
جورج أبيض - أنا؟ أنا أضع يدي في جيبي، وأخرج منه ألف جنيه، وأعطيك إياها بكل سهولة هكذا، وأنا حي أرزق، وقوي صحيح أستطيع أن أحمي نفسي وما في جيبي؟. . .
عزيز عيد - ولكنه مالي أنا
جورج أبيض - وهل أنكرت أنا ذلك يا أخي؟ كل ما في الأمر أني لا أطيق أن أخرجه بيدي
عزيز عيد - إذن فأخرجه بيدي أنا. . . في أي جيب من جيوبك المال؟
جورج أبيض - هنا يا أخي يا عزيز. . . في جيبي هذا. . .
عزيز عيد - طيب. اسمح لي. . .
جورج أبيض - لن يحدث هذا إلا إذا فقدت آخر قطرة من دمي. . . حذار يا عزيز أن تمد يدك. . .
عزيز عيد - عجيبة!
جورج أبيض - العجيب أن يخرج من جيبي ألف جنيه لا أن أحتفظ بها. . .
ويؤكد الأستاذ عزيز عيد أن هذا المحادثة كانت آخر صلته بالألف الجنيه، وإن لم تكن آخر صلته بالأستاذ جورج ابيض. . . الاثنان فنانان ولا ريب!
هذه صور مررنا بها سريعاً، وقد كنت أحسب أن براحي في هذا العدد من الرسالة سيتسع إلى صور غيرها لبعض الشعراء وبعض الموسيقيين وبعض المغنين وغيرهم من الفنانين ولكنه امتلأ بهؤلاء؛ فإلى عدد مقبل بإذن الله نعود فيه إلى المرور بصور سريعة أخرى نرى فيها من بواطن أعلام الفن عندنا وظواهرهم ما يهدينا الله إليه
نسأله الهداية إلى الحق رائدنا وغايتنا
عزيز أحمد فهمي
القصص
الصدأ. . .
للقصصي الفرنسي جي دي موباسان
لم يكن له في حياته سوى (غِيِة) واحدة، غية نهمة، لا تعرف الشبع:(الصيد!)
كان يصطاد كل يوم من الصباح إلى المساء في لهفة وشوق، وكان يصطاد في الشتاء والخريف وفي الربيع والصيف، وكان يصطاد في الغدران حين كانت الأنظمة تحظر الصيد في الغابات والإحراج، وكان يصطاد بجميع أنواع الصيد: بالعدو، وبالكلب المتحفز والكلب الراكض، والكمين، والمرآة والفتاش. . .
ولم يكن يتحدث عن شئ غير الصيد، ولم يكن يحلم بشيء غير الصيد!. . . ولم يكن لينقطع عن التردد: يا لشقاء من لا يحب الصيد!. . .
ومع أنه تجاوز العقد الخامس من حياته، فإنه صحته لا تزال جيدة، بحيث لا يظن أنه تخطى عتبة الشباب، بالرغم من الصلع الذي فتك بشعر رأسه؛ وهو إلى ذلك شديد البأس قوي البنية ضخم الجسم
وكان يحلق ما تحت الشارب ليكشف جيداً عن شفتيه، ويجعل دائرة الفم حرة ليسهل عليه النفخ في البوق
ولم يكن أحد في المنطقة يدعوه بغير اسمه الخاص: (السيد هيكتور)، مع أن اسمه البارون هيكتور غونتران دي كورتلين
وكان يقطن في وسط الإحراج، في مزرعة صغيرة انتقلت إليه بالإرث؛ ومع أنه كان يعرف جميع الطبقة الأرستقراطية في المقاطعة، ويتقابل مع جميع أفرادها الذكور في أماكن الصيد، فإنه لم يكن يتردد بصورة فعلية على أكثر من أسرة واحدة هي أسرة (كورفيل) التي تقطن بجواره وتخلص له الود، والتي عقدت أواصر القرابة بين أسرته وبينها منذ أجيال عديدة
وكان حبيباً إلى هذه الأسرة عزيزاً لديها، مكرماً محترماً؛ وكان كثيراً ما يقول لأفرادها:
- لو لم أكن صياداً لما وددت الابتعاد عنكم قط! وكان السيد دي كورفيل صديقه ورفيقه منذ عهد الحداثة، وكان مزارعاً شريفاً يعيش عيشة هادئة مع زوجه وابنته وصهره السيد دي
دانتو الذي لم يكن له عمل، بحجة أنه منقطع لأبحاث تاريخية خطيرة.
وكثيراً ما كان البارون دي كورتلين يتناول عشاءه على مائدة أصدقائه ليحدثهم عن الصيد خاصة، وكان يروي لهم قصصاً مطولة عن الكلاب والفتاش، وكان يتحدث عن هذه الأشياء كما لو كان يتحدث عن شخصيات بارزة له بها صلات وثيقة، فكان يكشف عن نياتها ومقاصدها، ويشرح حركاتها وإشاراتها:
عندما رأى فيدور - اسم كلبه - أن العصفور هو الذي يضطره إلى أن يعدو سريعاً هكذا، قال في نفسه: انتظر أيها اللعين، أنا لن نلبث أن نضحك وأن نضحك كثيراً. ثم أشار إلىَّ برأسه أن أذهب وأتوارى في حقل النَفَل، وأنطلق يبحث ويبحث ملتوياً تارة ومنحرفاً تارة أخرى في شئ غير يسير من الجلبة وهو يتسلل بين الأعشاب ليوصل العصفور المطارد إلى زاوية لا يستطيع الإفلات منها. وقد تم كل شئ كما توقعه، ولم يلبث العصفور أن سقط في أقصى الحقل، إذ لم يكن في إمكانه أن يذهب إلى أبعد من ذلك من غير أن يرى. فقال له فيدور: هاأنت وقعت بين يدي. . . ثم أكب على رجليه متخفياً والتفت ينظر إلى، فما كدت أشير إليه حتى سمعت (بررررر) فطار العصفور فرفعت البندقية إلى كتفي وأطلقت منها النار:(بان) وإذا بالعصفور يسقط، فحمله فيدور إلى وهو يحرك ذنبه كأنه يريد أن يقول: أرأيت كيف نجحت الحيلة يا سيد هيكتور؟
وكان كورفيل ودارنتو والسيدتان يضحكون ضحكاً شديداً من هذه القصص الغريبة التي يرويها البارون بكل ما أوتي من فن وبراعة، فكان يحرك كتفيه ويشير بجميع أعضاء جسمه، حتى إذا وصل إلى موت العصفور انفجر يضحك ضحكاً عريضاً وهو يسأل هذا السؤال الذي يتخذه خاتمة لقصته: إنها لجميلة هذه القصة. أليس كذلك؟.
ولا يكاد الحديث ينتقل إلى موضوع آخر حتى ينصرف عنه سمعه، ويشرع يدمدم بعض أغاني الصيد، كما كان يفعل حين يسود الصمت بين جملتين، فإن الهدوء لا يكاد يقطع ضجة الحديث حتى تنطلق منه على حين غرة: طن. . . طن. . . ويظل البارون يرددها وهو ينفخ خديه كأنه ينفخ في بوق
وهو لم يتعلق بالحياة إلا لأجل الصيد، وكان الهرم قد بدأ يدب إليه شيئاً فشيئاً. وذات يوم أصيب بداء المفاصل ولزم الفراش شهرين متواصلين، فكاد يقضي كآبة وضجراً. ولما لم
يكن لديه خادم تتولى شئون بيته عهد إلى إحدى العجائز بأمر إعداد الطعام. . .
ولم يكن في استطاعته أن يحصل على كمادات حارة، ولا أن يظفر بما يفتقر المرضى إليه من عناية، فتخذ من قائد كلابه ممرضاً له، وصار هذا الأخير يضجر بقدر ما يضجر سيده على الأقل، فصار ينام ليلاً ونهاراً على الكراسي بينما البارون يشتم ويجدف محنقاً مغتاظاً في سريره
وكانت السيدة كورفيل وابنتها تعودانه أحياناً، فكانت الساعة التي تقضيانها بقربه أحي الساعات إليه، ينعم بالهدوء والراحة، إذ تغليان له ما يحتاج إليه من مشروبات حارة وتتعهدان الموقد وتقدمان له فطوره على حافة سريره؛ فكان يدمدم حين انصرافهما: كان عليكما أن تقطنا هنا؛ فتغرق السيدتان في الضحك وتوصدان الباب وراءهما
ولما تحسنت صحته وعاد يصطاد في الغدران ذهب ذات مساء لتناول العشاء على مائدة أصدقائه، ولكنه لم يكن كعادته مرحاً نشطاً، إذ كان يخشى الانتكاس وعودة الآلام قبل افتتاح موسم الصيد؛ فلما نهض يريد الانصراف هرعت السيدتان إليه تلفان حول عنقه وشاحاً حريرياً، فترك نفسه للمرة الأولى في حياته بين أيديهما؛ ثم أخذ يتمتم بلهجة يائسة:
- إذا عادت الآلام إلىَّ قضى علىّ لا محالة!
وعندما انصرف قالت السيدة دارنتو لأمها:
- يجب تزويج البارون!
فسرَّ الجميع لهذه الفكرة وعجبوا كيف أنهم لم يفكروا في ذلك إلى الآن، وطفقوا يبحثون طيلة السهرة بين الأرامل اللواتي يعرفوهن، وانتهى بهم الأمر إلى أن وقع اختيارهم على سيدة في الأربعين من عمرها ما تزال جميلة موسرة، حسنة الطباع جيدة الصحة تدعى (برت فيلرس)
فدعوها لتمضية شهر في القصر، ولما كانت تضجر وحدها في بيتها لبَّت دعوتهم، وكانت كثيرة الحركة والمرح، وراقها السيد كورتلين لأول نظرة، وأصبحت تسر بوجوده كما تسر بلعبة تنبض فيها الحياة، وصارت تقضي الساعات الطويلة تسأله في خبث عن عواطف الأرانب وحيل الثعالب. فكان يندفع برزانة في تمييز وجهات نظر مختلف الحيوانات ناسباً إليها خططاً دقيقة كما ينسب مثلها إلى معارفه من الرجال
وقد استحسن الالتفات الذي كانت تعيره إياه، وأراد أن يبرهن على تقديره لها فدعاها لمرافقته إلى الصيد، وكانت هذه الدعوة أمراً لم يقدم عليه إلى الآن مع أية سيدة أخرى. وقد بدت لها هذه الدعوة مضحكة إلى درجة لم تر مانعاً من قبولها
وتعاون الجميع على إلباسها لباس الصيد. فصار كل واحد يقدم لها شيئاً، ثم ظهرت وقد ارتدت ثيابها على طريقة سكان (الأمازون) في رجليها حذاءان ضخمان، تنفرجان عن سروال من سراويل الرجال، فوق قميص قصير تغطيه سترة من القطيفة تضيق عند النحر، وعلى رأسها قبعة من قبعات الخدم الذين يقودون الكلاب
وكان يبدو على البارون أنه شديد التأثر كأنما هو سيطلق أول طلقة من بندقيته، وشرع يشرح لها بدقة اتجاه الهواء ومختلف أنواع وقفات الكلاب، وطرق اجتذاب الحيوانات والطيور لصيدها. ثم دفع بها إلى أحد الحقول وراح يسير في إثرها خطوة خطوة كأنه مرضع تسير وراء رضيعها عندما يبدأ يمشي لأول مرة
وصادف (فيدور) طائراً فأكب على رجليه ووقف.
ثم رفع إحدى رجليه، وكان البارون وراء تلميذته يرتجف كريشة في مهب الرياح يتمتم: انتهى. . . حجـ. . . لات. . .
ولم يكد يتم كلمته الأخيرة حتى دوى طلق شديد، وارتفع من الأرض بررررر. . . فارتفع على الأثر سرب من الطيور في الهواء وهي تضرب بأجنحتها ضرباً عنيفاً
ومن شديد التأثر أغمضت السيدة فيلرس عينيها وأطلقت طلقتين، وتقهقرت من أثر رجة البندقية، فلما استعادت رباطة جأشها أبصرت البارون يرقص حولها كالمجنون وفيدور يعود بحجلتين بين فكيه
منذ ذلك اليوم بدأ السيد كورتلين يعشقها!
وأنشأ يقول عنها وهو يرفع بصره: يالها من امرأة!. . .
ومنذ ذلك اليوم صار يأتي كل مساء ليتحدث عن الصيد. وذات مرة، بينما كان السيد دي كورفيل يودعه والبارون مندفع في امتداح صديقته الجديدة سأله:
لماذا لا تتزوجها؟
فجمد البارون كالمأخوذ وقال:
- أنا؟. . . أنا؟. . . أتزوجها!. . . ولكن. . . فعلاً. . .
وصمت ثم هز يد صديقته بسرعة وتمتم:
- إلى اللقاء يا صديقي
واختفى في ظلام الليل وراح يبتعد بخطوات واسعة. . .
ولم يعد البارون طيلة أيام ثلاثة، ولما عاد كان الشحوب قد صبغ وجهه بصفرة داكنة لشدة ما عاناه من التفكير الممض. وكان هذه المرة أكثر رزانة من قبل، فتوجه إلى السيد كورفيل وأخذه على طرف ثم قال له:
- لقد خطر لك وجيه، فأرجوك أن تعمل على تهيئتها لقبولي زوجاً لها. . . يا لله. . . لكأن هذه المرأة خلقت من أجلي، إذ نستطيع أن نذهب للصيد معاً دائماً
ولما كان السيد دي كورفيل متأكداً من أنها لا ترفض، أجاب:
- أطلب يدها حالاً يا عزيزي. . . أتريد أن أقوم بهذه المهمة؟
ولكن البارون اضطرب فجأة وصار يتلعثم:
- كلا!. . . كلا!. . . . ينبغي قبل ذلك أن أقوم برحلة قصيرة. . . برحلة قصيرة إلى باريس، وسأجيبك حال رجوعي الجواب النهائي. . .
وامتنع عن بيان أسباب ذلك. وفي اليوم التالي سافر. . . . مضى أسبوع. . . أسبوعان. . . ثلاثة. . . والسيد كورتلين لم يعد، فاستغربت ذلك أسرة كورفيل وقلقت عليه، ولم يعد أفرادها يدرون ماذا يقولون للسيدة فيلرس التي أطلعوها على رغبة البارون، وصاروا يرسلون كل يوم إلى داره من يتسقط أخباره، ولكن لم يكن بين خدمه من تلقى شيئاً منه
وذات مساء، بينما كانت السيدة فيلرس تغني وهي تعزف على البيان اقتربت الخادم بحذر كبير من السيد كورفيل، وهمست في أذنه بصوت خافت جداً: إن بالباب رجلاً يريد مقابلته
وكان هذا الرجل البارون وهو ما يزال في لباس السفر، وقد بدا عليه كثير من الشحوب والهزال والهرم، وما كاد يقع بصره على صديقه حتى أسرع إليه وأمسك بيديه، وقال له بصوت ضعيف متعب:
- وصلت في هذه اللحظة يا عزيزي ومع ذلك فقد أسرعت إليك لأقول لك. . .
ثم صمت برهة، وفي شئ من الارتباك والتردد استأنف:
- أريد أن أقول لك. . . حالاً. . . إن القضية. . . التي تعرفها لا يمكن. . . أن تتم. . .
فنظر إليه السيد كورفيل دهشاً:
- كيف. . .؟ ولماذا لا يمكن أن تتم؟
- أوه!. . . أرجوك ألا ترهقني بالأسئلة، إذ يشق على كثيراً أن تضطرني لبيان السبب، ولكن كن واثقاً كل الثقة أنني لا أفعل إلا ما يفعله كل رجل شريف. . . . إني لا أستطيع. . . بل ليس لي الحق في أن أتزوج هذه السيدة. . . أفهمت؟. . . وسأنتظر مغادرتها داركم لأعود إليكم. . . لأن مشاهدتها تمضني كثيراً. . . فإلى اللقاء. . . وانصرف هارباً
فاجتمعت الأسرة كلها وأخذت تتشاور وتتناقش وتفترض الافتراضات المختلفة، وانتهى بها الأمر إلى أنه لابد أن يكون في حياة البارون سر خطير، فقد يكون له أولاد طبيعيون، وقد تكون له علاقات غرامية قديمة. . . وأدركت أسرة كورفيل أن الحالة على جانب عظيم من الرصانة، ومنعاً لتعقيدات أخرى تسلحت بلباقة فائقة لإطلاع السيدة فيلرس على الواقع. . . فعادت هذه السيدة أرمل كما قدمت. . .
ومضى على ذلك ثلاثة أشهر. وفي ذات مساء أفرط السيد دي كورتليه في تناول العشاء، وصار يترنح وهو يدخن غليونه مع السيد دي كورفيل، كم كانت دهشة هذا الأخير عظيمة حينما فاجأه البارون قائلاً:
- آه لو كنت تعلم كم أفكر في صديقتك، إذن لأشفقت علي!
والسيد دى كورفيل الذي استاء من سلوك البارون في هذه القضية أجاب بصراحة:
- كان عليك يا عزيزي، ما دام في حياتك الماضية أسرار ألا تقدم على ما أقدمت عليه، إذ كان في إمكانك بكل تأكيد أن تفكر من قبل في السبب الذي سيضطرك للرجوع من عزمك
فبدت على البارون علامات الخجل، وقال بعد أن توقف عن التدخين:
- كان ذلك ممكناً وغير ممكن في وقت واحد. . . ولكني لم أكن أصدق إمكان حدوث ما حدث
فقاطعه لسيد دي كورفيل بفارغ الصبر:
- كان عليك أن تفكر في إمكان حدوث كل شئ!
فألقى السيد كورتلين نظرة على الظلام الذي يكتنفهما، وبعد أن تأكد من أنه ليس حولهما
من يسمعهما قال بصوت منخفض:
- ألاحظ أنك مستاء من تصرفي، وسأفضي إليك بكل شئ لتمن عليّ بالعذر. . . منذ عشرين سنة وأنا لا أحيا يا صديقي إلا للصيد. . . والصيد وحده دون كل شئ آخر. . . أنا كما تعلم لا أحب شيئاً غير الصيد، ولا أهتم بشيء آخر سواه. . . ولذلك خطر لي قبل أن أوقع عقد الزواج مع هذه السيدة أن. . بل حصل في ضميري تردد. . . إذ منذ الزمن الذي انقطعت فيه عن. . . عن الحب. . . لم أعرف إذا كنت لا أزال أقوى على. . . على. . . أفهمت؟؟. . . تصور أنه مضى عليّ أكثر من ست عشر سنة لم. . . لم. . . أفهمت؟ وليس من السهل في هذه المقاطعة أن. . . أفاهم أنت؟. . . ثم إنه كان لدي شئ آخر أعمله. . . كنت أفضل على ذلك أن أطلق طلقة من بندقيتي. . وبكلمة مختصرة حين عزمت على أن أتعهد إزاء الكاهن وإزاء المأمور الرسمي على أن أقوم بواجب الزوجية خشيت أن أكون. . . والرجل الشريف لا ينقض عهوده ولا يخل بتعهداته. . . وكان علي أن أقطع لهذه المرأة عهداً مقدساً بأن. . . وأخيراً، ولكي أكون واثقاُ من نفسي قررت أن أسافر إلى باريس وأن أقضي فيها ثمانية أيام، ولكن الأيام الثمانية انقضت ولم أستطع أن أعرف شيئاً مطلقاً، ولم يكن ذلك ناشئاً عن قلة ما قمت به من تجارب، إذ ترددت على أحسن ما في باريس من جميع الأنواع وجميع الأجناس، وأؤكد لك أن أولئك عملهن كل ما باستطاعتهن. . . ولكن ماذا تريد. . . كن جميعاً ينسحبن مغمغمات. . . متمتمات. . . وإذ ذاك قررت أن أنتظر خمسة عشر يوماً. . . فثلاثة أسابيع رجاء أن. . . وقد أفرطت في تناول الأطعمة المفلفلة، الأمر الذي أجهد معدتي إجهاداً عظيماً. . .
ورغم كل ذلك لم أستطع شيئاً مطلقاً!. . . وفي هذه الحال وإزاء فشل جميع المحاولات لم يكن لي بد من الانسحاب. . . وهذا ما فعلته!. . .
وكان السيد دي كورفيل أثناء ذلك يدور على نفسه ويبذل جهداً عظيماً ليحول دون انفجاره بالضحك، فلما فرغ البارون من روايته هزَّ يديه برصانة قائلاً:
إني لأشفق عليك حقاً
ورافقه إلى منتصف طريق منزله. . .
ولما خلا السيد كورفيل بزوجه، أطلعها على كل شئ وهو يكاد يختنق من شدة الضحك،
ولكن السيدة دي كورفيل لم تضحك قط وإنما كانت تنصت إلى زوجها بانتباه، حتى إذا فرغ من حديثه ابتدرته برزانة:
إن البارون أبله يا عزيزي. . . فإذا كان لم يستطيع شيئاً فلأنه كان خائفاً. . . وسأكتب حالاً إلى برت أن تعود
فأنشأ السيد دي كورفيل يحتج بفشل جميع المحاولات البارون ولكن زوجته أسكتته بقولها:
- يجب أن تعلم أن الرجل إذا كان يحب زوجته واتته القدرة دائماً!
فلم يحر السيد دي كورفيل جواباً إذ اعتراه هو نفسه شئ من الخجل. . .
ابزاك شموش
البريد الأدبي
في سبيل الأزهر
تلقينا من الأستاذين عبد اللطيف السبكي وسيد نايل المدرسين بكلية الشريعة كلمتين عقبا بهما على مقال الأستاذ المدني (في سبيل الأزهر) تعقيباً لم يتجاوز أسلوب النقد ولهجة الناقد، فرأينا من الحكمة أن نتريث في نشرهما حتى لا يعوقنا الجدل في الشكل عن البحث في الموضوع. وما دامت الآراء مطبقة على حاجة الأزهر للإصلاح فلا بأس أن تتسع الصدور لما يسيل على الأقلام من مبالغة في عرضه أو شدة في طلبه. ومما لا ريب فيه أن أبناء الأزهر أجمعين سواء في المحافظة عليه والإخلاص له والجهاد فيه؛ ولكن أهواءهم إذا تفرقت في سبيل حبه، فقامت هنا صيحة تدعو إلى الإصلاح، وقامت هناك ضجة تخزّل عنه وقف بينهما المصلح موقف المتأني الحائر، لا يطمئن للوقوف ولا يثق بالتقدم.
قانون صنع التبشير في مصر
وقع صاحب الجلالة الملك مرسوماً بإحالة مشروع القانون الخاص بمنع التبشير إلى البرلمان، وهذا نصه بعد الديباجة:
المادة لأولى: تمنع الدعوة الدينية بأية طريقة كانت، خارجاً عن المحال المعدة لإقامة الشعائر أو الأمكنة المرخص بذلك.
المادة الثانية: تعتبر الأمور الآني ذكرها دعوة دينية إذا وقعت في معاهد تعليم:
(1)
إشراك التلاميذ أو تركهم يشتركون في دروس ديانة غير ديانتهم.
(2)
إشراك التلاميذ أو تركهم يشتركون في صلوات تخالف عقائدهم الدينية، أو إسماعهم أو تركهم يستمعون إلى خطب دينية كذلك.
(3)
توزيع كتب أو نشرات على التلاميذ تخالف عقائدهم الدينية
وتسري الفقرتان الثانية والثالثة السالفتان على المنشآت الطبية أو المعاهد الخيرية إذا كانت الدعوة الدينية موجهة إلى المرضى أو اللاجئين إلى تلك المعاهد.
المادة الثالثة: لرجال الضبطية القضائية دائماً حق الدخول في الأماكن المشار إليها في المادة السابقة للتحقق مما قد يقع فيها مخالفاً لهذا القانون
المادة الرابعة: مع عدم الإخلال بتوقيع عقوبة أشد حيث يقضي بذلك قانون العقوبات، يعاقب على المخالفات لأحكام هذا القانون بالحبس لمدة شهر وبغرامة قدرها عشرة جنيهات مصرية، أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط
المادة الخامسة: يعاقب بالحبس لمدة لا تزيد على سنة، وبغرامة لا تتجاوز مائة جنيه مصري، أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط كل من حاول تلقين حدث تقل سنه عن ثماني عشرة سنة كاملة عقائد تخالف دينه أو عقيدته، حتى ولو كان ذلك برضاه.
ويعاقب بنفس العقوبات كل من أعطى أو منح شخصاً عطية أو هبة من نقود أو أوراق أو عروض أو فوائد أخرى أو عرض عليه شيئاً من ذلك أو وعده به، سواء أكان ذلك بالذات أم كان بواسطة الغير، وسواء أكان للشخص نفسه أو للغير، وذلك بقصد التأثير على عقيدته الدينية أو تحويله عنها
ويعاقب أيضاً بنفس العقوبات كل من استعمل مع شخص آخر لهذا الغرض القوة أو التهديد أو الإرهاب أو أخافه من فقد خدمة، أو من تعريض نفسه أو أهله أو ماله للأذى، أو استعمل معه المخدرات أو التنويم
المادة السادسة: يعتبر من رجال الضبطية الفضائية فيما يتعلق بتطبيق هذا القانون، موظفو وزارة المعارف وموظفو وزارة الصحة الذين يندبهم لهذا الغرض وزير المعارف أو وزير الصحة بالاتفاق مع وزير الداخلية
المادة السابعة: على وزراء الداخلية والمعارف والصحة تنفيذ هذا القانون؟ كل منهم فيما يخصه، ويعمل به من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية
وقد أرفقت بالمشروع مذكرة إيضاحية أشير فيها إني أن الدستور يعلن حرية العقائد ويحميها كما يحمي حرية القيام بشعائر الأديان، طبقاً للعادات المرعية في الديار المصرية، وذلك في حدود النظام العام والآداب، وأن هذه المبادئ تتفق وأصول التسامح الذي درج علية الإسلام
وقديماً أحسنت مصر معاملة أهل الأديان المختلفة، وأقطعتهم الأراضي الواسعة وكانت تعفيهم من أغلب الرسوم وتتركهم يباشرون في حرية تامة ما تقوم عليه جمعياتهم ومؤسساتهم ومنشآتهم من أعمال التعليم والبر، غير أن بعض هؤلاء انصرفوا إلى التبشير
بدينهم، وتوسلوا إلى ذلك بوسائل أقل ما يقال فيها إنها استهانة بكرامة المسلمين، وتحد لعواطفهم الدينية
وإذا كانت الدعوة الدينية تتصل في بعض صورها بحرية العقائد، فإنها إذا بوشرت خارجاً عن محال العبادة أو الأماكن المخصصة لهذا الغرض والمرخص لها بذلك قد تحدث الفتنة وتصبح إخلالاً بالنظام لا يجدر السكوت عليه. لذلك وضع مشروع هذا القانون ليحظر الدعوة الدينية على أية صورة، خارجاً عن تلك الأماكن؛ ثم تضمنت المذكرة الكلام عن مواد المشروع
تعبانٌ وظمآنٌ
تعبان على وزن فعلان، وهذا الوزن يمنع من الصرف إذا توفر فيه شرطان زيادة الألف والنون، وكون أنثاه على وزن فعلي كسكران وغضبان وما شابهه، فإن أنثاه فعلى كسكري وغضبي. . . أما إذا كان فيه زيادة الألف والنون ولم تكن أنثاه على فعلى نحو تعبان وتعبانة فإنه لا يمنع من الصرف، فنقول مثلاً: استيقظت تعباناً، وهو تعبانٌ. وفي هذا يقول أبن مالك في الألفية:
وزائدا فعلان في وصف سلم
…
من أن يرى بتاء تأنيث ختم
وأما ظمآن فإن أنثاه ظمأى فهو ممنوع من الصرف لأنه منطبق على القاعدة، وقد نص عليه صاحب اللسان فقال:(رجل ظمآن وامرأة ظمأى لا ينصرفان نكرة ولا معرفة)
والذي حدا بي إلى الكلام عن هذين اللفظين أنهما وردا في عبارتين لأديبين من كبار الأدباء على غير وضعهما الأصلي فأحببت أن أنبه عليهما لئلا يقلدهما القراء لأنهما ممن يقتدي بهم ويقتفي أثرهم، فالعبارة الأولى جاءت في أول الجزء الثالث من كتاب (ليلى المريضة في العراق) للأديب الكبير الدكتور زكي مبارك قال:(واستيقظت في الساعة التاسعة تعبان) وصحتها أن تكون (تعباناً) لما قدمنا، والرجاء من الدكتور مبارك أن يستيقظ نشيطاً حتى لا يتعبنا ويتعب نفسه مرة ثانية والعبارة الثانية. والعبارة الثانية جاءت في العدد 70 من الثقافة في مقال الدكتور محمد عوض محمد قال:(ورأى الزعيم، الذي لم يزل ظمأناً إلى فتح جديد) وصحتها ظمآنَ لما قدمنا أن مؤنثه ظمأى فهو ممنوع من الصرف.
إبراهيم يسن القطان
النقد والتصويب
صاحب الرسالة الأستاذ الكبير أحمد حسن الزيات
لك مني تحيات وإعجاب
وبعد فإنني معجب تمام الإعجاب بحضرات الشعراء البارعين الذين يتحفون رسالتهم بجرائدهم البليغة. وأبداً لا تعدو عيناي عن واحدة مما ينشرون. غير أن هنالك أمراً كنت أتمنى كثيراً أن ينهجه أرباب الدراية في العربية وبحور الشعر. ذلك هو النقد والتصويب الذي رأيته لأول مرة على ما أذكر لحضرة الأستاذ أبي الفضل السباعي ناصف الذي أحكم بيتاً ند عن الوزن في قصيدة ذكرى المرحوم الهراوي للأستاذ علي الجندي. وكم كان جميلاً أن يعلن الأستاذ الجندي شكره للناقد المصوب. إن هذا النقد والتصويب الذي يجمل بالأساتذة أن ينهجوه على النمط المتقدم أرى ألا يقتصر على ما تنشره الرسالة وغيرها، بل يتعدى إلى ما يسمع في المحافل من مناظرات وخطب وإذاعات، كما جرى عليه الأستاذ الدكتور زكي مبارك - أدام الله عليه التوفيق وأصلحه مع زمانه - فقد ناقش ببراعته المعروفة الأستاذ الكبير أحمد أمين في كلمة (أوقات) التي نصبها الأستاذ بالكسرة إذ كان يلقى نفثاته عن طريق المذياع. ومن المؤكد أن الأستاذ أحمد أمين يدري يقيناً أنها تنصب بالفتحة كما هو معروف ولم يلفظها مكسورة إلا سهواً، ومع ذلك يجب أن تعلن كلمة الحق وهذا حسن
لقد قرأت في العدد (353) من الرسالة قصيدة (رجع أيامي) للأستاذ محمود خفيف وهي من القصائد الرقيقة المعجبة، ولكني لن أسكت على شطر منها كما لم يسكت الأستاذ أبو الفضل السباعي ناصف. ذلك قوله:(صوحت ويلاه خضر الأماني) فهل سها الأستاذ الخفيف عن وضع النداء بين كلمتي (صوحت) و (ويلاه) حتى يصح الوزن على هذا الوضع؟ (صوحت يا ويلاه خضر الأماني). أن الأستاذ وضع حرف النداء وابتلعته المطبعة على كل حال أعلن نقدي وتصويبي لهذا الشطر راجياً أن يتحفنا الأستاذ الخفيف وغيره من المبدعين دائماً بآياتهم البالغة الباهرة، وأن يتوالى النقد والتصويب على هذا الطراز
(نابلس)
محمد البسطامي
أندونسيا
جاء في مقالة الأستاذ عبد العزيز الدوري (النقابات الإسلامية) المنشورة في العدد (355) ما نصه: (ونجد مثلاً عصرياً لنجاح هذه الفرق وفشل المذهب السني في حالة الهولنديين في الهند الصينية (أندونسيا) الخ. ولا شك أن الأستاذ يقصد بذلك جزائر الهند الشرقية الهولندية لا الهند الصينية، لأن الأخيرة - كما نعلم - تابعة للفرنسيين لا للهولنديين، وجزائر الهند الشرقية هذه هي التي أجمع أهلها الوطنيون في الأعوام الأخيرة على تسميتها بأندونسيا - أي جزائر الهند -، وكان العرب يطلقون عليها أسم (جاوة) - إحدى جزائرها - من قبيل تسمية الشيء ببعض أجزائه
حسن أحمد باكثير
القرن العشرون
في العدد 354 من الرسالة قرأت في باب (الأدب في أسبوع) تحت عنوان: (القرن العشرين) ما يأتي بعد كلام: وذاك تنبيه لنا أننا نعيش في القرن العشرين، وفي سنة 1940 منه). والمعلوم أن (من) للتبعيض وبالضرورة يعود الضمير فيه على القرن العشرين فيكون معنى ذلك أننا نعيش في سنة 1940 من القرن العشرين؛ والواقع أننا نعيش في سنة 40 فقط من هذا القرن وفي سنة 1940 من العشرين قرناً، ففي أي سنة نعيش؟
إبراهيم عقلة
معهد القاهرة
الأبيات الحائرة
للحجاج بن يوسف الثقفي مع الشعراء أحاديث طوالٍ. وقد فر جماعة منهم من وجهه وهربوا منه، ومن هؤلاء (سوار ابن المضرب) و (محمد بن عبد الله بن نمير الثقفي) وهو
الذي شبب بزينب أخت الحجاج ولما ظفر به عفا عنه. وغير هذين كثير.
وليس يعنيني الآن أن أستقصي أحاديث هؤلاء، ولكني أعرض لأبيات تتصل بالحجاج وتلك هي:
إن تنصفونا آل مروان نقترب
…
إليكم وإلا فأذنوا ببعاد
فإن لنا عنكم مزاحاً ومرحلا
…
بعيس إلى ريح الفلاة صوادي
فماذا عسى الحجاج يبلغ جهده
…
إذا نحن جاوزنا حفير زياد
فقد ذكر ابن قتيبة في كتابه الشعر والشعراء أنها (لمالك أبن الريب) وكذلك ذكر المبرد في كتابه (الكامل جـ1 ص 301 طبعة المكتبة التجارية. والبيت الثالث من شواهد النحويين وقد أجمعوا في كتب النحو والشواهد أنها لمالك هذا. ولكن المعروف أن هذا الشاعر مات في عهد معاوية وكان في بعث (سعيد بن عثمان بن عفان) إلى خراسان وقد مات في الطريق ورثى نفسه بقصيدته اليائية المشهورة - وهو أول من رثى نفسه - فليست الأبيات له إذن فلمن هي؟
جاء في (معجم البلدان لياقوت الحموي جـ3ص304 الطبعة الأولى) أنها للبرج بن خنزير التميمي، قال: وكان الحجاج قد ألزمه البعث إلى المهلب لقتال الأزارقة فهرب منه إلى الشام وقال. . . الأبيات:
وقد رضى الشيخ المرصفي رحمة الله عليه هذا الإسناد وشنع على المبرد (رغبة الأمل ج 5 ص 27) ولكن صاحب الحماسة نسبها إلى (الفرزدق) جاء ذلك في جميع الطبعات التي بين أيدينا لحماسة أبي تمام، وقد ارتضى بعض أساتذتنا هذا
فلمن هذه الأبيات؟ لعلنا نظفر بجواب ممن عنده تحقيق هذه المسألة
علي محمد حسن
كلية اللغة العربية
الثاني والآخر
قرأت في العدد 67 من مجلة الثقافة مقالاً بعنوان: (حديث أمس) للأستاذ أحمد أمين جاء فيه:
قال أحدنا: جزءاً من العقد الفريد، وآخر: جزءاً من الأغاني وثالث: نهج البلاغة، ورابع: مقدمة ابن خلدون
والمعروف في اللغة أنه لا يسوغ أن تقول آخر إلا إذا كان هو الأخير، فلا تقفي بعد ذلك بأعداد أخرى؛ وأن الواجب أن تقول: قال أول وثان وثالث وآخر إذا لم يبق إلا واحد بعد ثالث، أو إن شئت قلت (رابع)
وأحسبك لم تنس استدراكهم على من قال: ربيع الثاني وجمادي الثانية بأن الصواب ربيع الآخر وجمادي الآخرة ما دام ليس هناك ثالث ورابع؛ وعندي أن هفوة ربيع الثاني. . . أهون من قولنا: قال أول وقال آخر وقال ثالث. . .
(الفشن)
م. م. إبراهيم