المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 358 - بتاريخ: 13 - 05 - 1940 - مجلة الرسالة - جـ ٣٥٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 358

- بتاريخ: 13 - 05 - 1940

ص: -1

‌رأي الرافعي في الأستاذين طه والعقاد

بمناسبة ذكراه الثالثة

ذكرتُ بذكرَى الرافعي وعداً درجت الأيام عليه ولم أوفّ به. ذلك أن أذكر لقراء الرسالة الرأي الصريح المجرد لصاحب (السفود) و (تحت راية القرآن) في خصميه العظيمين طه والعقاد. وفي ظني أن تسجيل هذا الرأي قد يصحح ما شاع في أجواء الأدب من نقد مسه الهوى وحكم أفسدته الخصومة.

فإن الرافعي رحمة الله عليه كان من أبصر الناس بِصَرف الكلام وأقدرهم على نقده؛ ولكن تعقبه للأدباء الأحياء قلما كان يبرأ من مجاملة الصداقة أو منافسة الحرفة. فإذا أردت استنباط رأيه الحر من غوره البعيد لا يتيسر ذلك منه إلا في الخلوة حين يأمن الأذن الخصيمة والقلم المسجل

جلسنا معاً ذات يوم من أيام الإسكندرية على قهوة (أتينيوس) بعد غداء ضاحك هنئ على مائدة صديقنا المرحوم فليكس فارس. وكان الرافعي برد الله ضريحه شديد الحساسة بالجمال قوي الرغبة في اللذة؛ ولكنه كان يطلبها من طريق المحال أو الحلال فتعييه. كان يتمنى أن يكون كأصحاب الجنة: يصبو من غير فجور وينتشي من غير إثم. فلما أعجزه الدرَك أغلق فؤاده من دون نفسه؛ ثم فتح للجمال عينيه وأطلق في نعيمه لسانه، فلا يدع معنى من معاني اللهو ولا لوناً من ألوان العيش إلا صرَّف الكلام فيه وأدار الرأي عليه

كان حديث الرافعي على المقهى الأنيق الوادع أفانين من النكات والأفاكيه يدور أكثرها على سكرات الجمال في الكرنيش، وسطوات الشباب على الشاطئ، وحسرات الحرمان فيما بين ذلك. ثم توافدت زمر المصطافين على المقهى، فأخذ يتحفظ في الحديث ويخافت به حتى رده مرغماً إلى الأدب؛ فسألني كيف أكتب ومتى أكتب وماذا أشرب حين أكتب. فلما أجبته أني لا أفكر إلا أول الكتابة، ولا أكتب إلا آخر الوقت، ولا أدخن التبغ ولا أشرب القهوة ولا أكركر الشيشة، عجب كيفتواتي القريحة على هذه الحال الكليلة، وذكر لي ما يتملق به قريحته من المطاعم والمشارب والعقاقير، ثم روي لي الأعاجيب مما يُلقى عليه إلقاء في النوم، وما يلهَمه إلهاماً في اليقظة، وعزا ذلك إلى قوة إلهية ترفده وتسنده. فقلت له ضاحكاً: وهل تعتقد أن من إلهام هذه القوة تلك الفصول المقذعة التي كتبتها في

ص: 1

النقد؟ فأجاب بلهجته الطفلية الحاسمة:

أما ما كتبته (على السفود) فأكثره رجس من عمل الشيطان، وأما ما أدخلته (تحت راية القرآن) فكله إلهام من روح الله

فقلت له، أو بالحري كتبت، لأن مناقلة الحديث كانت لصممه تحريرية مني وشفوية منه:

أتستطيع في هذه المناسبة يا صاحب (تاريخ آداب العرب) أن تجرد نفسك من ملابسات الخصومة وتُجمل لي رأيك الخالص في طه والعقاد؟

فأجاب الرافعي وعلى محياه الوردي سيما المعترف المقر:

- أما لك فأقول الحق. وما دمت لا أكتبه فلا أبالي أن تنشره:

إن طه عجيب التكوين جليل المواهب. وهو مدين بنبوغه لتوقد ذهنه ودقة حسه وقوة ذاكرته ولباقة حديثه ومزايا عاهته. ولو أنه انتهى كما بدأ لكان اليوم أحد عباقرة الدنيا. ولكنه بلغ المنزلة المرجوة قبل الأوان لأسباب غير طبيعية، فأعفى طبعه واطمأن إلى منصبه المضمون ومجده المكتسب

علمه علم الأديب يأخذ من كل شئ بطرَف، وأدبه أدب الصحفي تصرفه السرعة عن الإجادة، وأسلوبه أسلوب الوادي المنحدر يشتد جريانه ويقل عمقه

ذهنه لمًاع الذكاء ولكنه لا ينفذ، وقريحته واسعة الحيلة ولكنها لا تخلق. لذلك تجده مغسول الكلام لا أثر فيه لروعة الفن ولا لبراعة الفكرة. ولكنه قوي الشخصية جياش الحركة عذب السياق جميل العرض. وهو أشبه الناس بمهندس العرض في بيوت التجارة، يعرض البضائع في البترينات منسقة على نظام يملك البصر، ولكنها تظل بعد التنسيق كما كانت قبل التنسيق ملك غيره. وأحسبه إذا تنفس به العمر على هذه الحال يعود رجلاً له رأي مسموع في التأديب، ولكن ليس له أثر خالد في الأدب.

ويلوح لي أن طه تعوزه العقيدة التي تخلق المبدأ، ومن هنا كان التناقض الظاهر في كل ما يصدر عنه من قول أو فعل

أما العقاد فإني أكرهه وأحترمه: أكرهه لأنه شديد الاعتداد بنفسه قليل الإنصاف لغيره. ولعله أعلم الناس بمكاني من الأدب، ولكنه يَنْفِس عليَّ قوة البيان فيتجاهلني حتى لا أجري معه في عنان

ص: 2

وأحترمه لأنه أديب قد استملك أداة الأدب، وباحث قد استكمل عدة البحث. قَصرَ عمره وجهده على القراءة والكتابة فلا ينفك بين كتاب وقلم. ومن آفة الذين يديمون النظر في كلام الناس أنهم يفقدون استقلال الفكر وابتكار القريحة، وليس كذلك العقاد؛ فإن رأيه لقوة عقله وسلامة طبعه يظل متميزاً عن رأي الكتاب مهيمناً عليه؛ يؤيده أو يفنده، ولكنه لا يسمح له أن يذوب فيه أو يتأثر به

أسلوب العقاد أسلوب الأديب الحكيم، تبرز فيه الفكرة الدقيقة في مجتلى من الفن الرفيع، فيجمع بقوة تفكيره ودقة تعبيره طَرَفيْ البلاغة. والعقاد مخلص لفنه فلا يخرج للناس ما لا يرضاه. فهو لذلك أبعد الأدباء عن استغلال شهرته واستخدام إمضائه

فقلت له وأنا أختم الورقة التي أحدثه عليها: هيهات يا صديقي أن يخلص رأيك من هواك. إن رأيك في الأستاذ العقاد رجوع إلى الحق، ولكن رأيك في الدكتور طه إمعان في الباطل!

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌في ذكرى الرافعي

طريقته في تأليف كتبه

للأستاذ محمد سعيد العريان

قلت عن طريقة الرافعي في تأليف مقالاته ما وسعني أن أعرفه بنفسي حين كنت أكتب له؛ فقد أملى عليّ أكثر من مائة مقالة كنتُ شاهدَه فيها إذ يُلَقَّى الوحيَ، ويهذب الفكرة، ويرتب المعاني، ويتألف الألفاظ، حتى تفصل عنه المقالة إلى نفس قارئها كما هي في نفسه.

وأحسب أن طريقته العامة في كل ما كتب من المقالات هي ما وصفْتُ عن عيان وملاحظة، ولكن لم يتهيأ لي أن أشهده حين يؤلف في موضوع من موضوعات العلم، مما يقوم على التتبع والاستقراء، وتقليب الصحائف، وبعث الدفائن، والارتفاق إلى الكتب، والاستعانة بما انتهى إليه السابقون من حقائق العلم ونتائج البحث والروية، ثم التهدِّي من ذلك إلى رأي ينتهي بمقدماته إلى نتيجة.

وطريقة الكتابة غير طريقة التأليف؛ أعني أن الطريقة لإعداد مقالة أو فصل أدبي من مثل (رسائل الأحزان) أو (السحاب الأحمر) أو (المساكين) - غيرُ الطريقة في إعداد كتاب مثل (تاريخ آداب العرب)؛ فإن الشأن بين هذين مختلف باختلاف موضوعهما؛ ذلك أن في كل نفس معانيها التي تعِّبر بها عن الحب والبغض والقطيعة وما إليها من خلجات الوجدان أو مدركات الحس، بأسلوبها وعلى مقدارها؛ فما يحتاج الأديب لتصويرها وإبرازها إلى شئ غير الأداة الطبيعية التي يؤديها بها إلى الناس كلاماً مقروءاً يصل نفساً بنفس وينقلها من خطرة قلب إلى إدراك حس. أما تأليف الكتب العلمية فله سبيل غير هذه، لأنه يقوم على الجمع والتفريق، وعلى النقد والتصفح، وعلى الاستقراء والملاحظة.

وأنا قد قرأت الجزء الأول من كتاب تاريخ آداب العرب منذ بضع عشرة سنة، وألممت منه بما ألممت، واهتديت به ما اهتديت؛ ثم عدت إلى نفسي أسائلها: أين وأيان اجتمع لمؤلف هذا الكتاب هذا القدْرُ من المعارف في شئون العرب والعربية فألّف بين أشتاتها في هذا الكتاب؟

وظل هذا السؤال قائماً في نفسي زمناً، وما أزال من مطالعاتي في الأدب القديم أقع على شئ بعد شئ في صفحات متفرقة من كتب عدة يُنسى آخرها أولها من تباعد الزمان بينها،

ص: 4

وكلها مما اجتمع للرافعي في كتابه. وكان ذلك يزيدني عجباً وحيرة؛ فإنه ليس من الطبيعي أن يعرف إنسان كل من يراه في طريقه من الناس بحيث يتهيأ له أن ينسب بعضهم إلى بعض ويعرف القريب منهم والجنيب بما بينهم من تشابه في الخلقة؛ ولقد يكون ممكناً أن يجلس أخَوان بإزائي فأعرف ما بينهما من النسب بالمشابهة والفراسة، ولكن هيهات أن أهتدي إلى ذلك لو رأيتهما متفرقين على تباعد الزمان وانقطاعالصلة. من مثل ذلك كان عجبي وحيرتي

. . . وهممت أن أسأل الرافعي مرة، ولكني لم أفعل؛ وهممت أن أعرف بنفسي فلم أبلغ؛ ثم عزوت ذلك إلي ذاكرة الرافعي وسرعة حفظه؛ وقلت: متفرقاتٌ قد عرفها في سنين متباعدة فوعتها حافظته، فلما هم أن يؤلف كتابه أمدته الذاكرة بما وعت منها، وكان مستحيلاً عليه أن يجمعها لو لم تجتمع له من ذات نفسها، واطمأننت إلى هذا الاستنتاج ونسبتُ إليه عدم ذكر الرافعي للمراجع التي استعان بها في هذا الكتاب؛ لأنه يروي عن ذاكرته!

ثم قرأت له بحثه في (الرواية والرواة)؛ فإذا هو يتحدث عن أثر الحفظ في مؤلفات العلماء وينادي بإحياء هذه السنة، سنة حفظ العلم واستظهار كتبه؛ فتأكد لي ما رأيت، وكان وهما من الوهم عرفت حقيقته فيما بعد. . .

أما الحقيقة التي عرفتها بعد، فما أزال في شك منها وإن كان برهانها ماثلاً لعيني؛ ولكنه شك المتعجب الذي يفجأه ما لم يكن يتوقع. . .

منذ بضعة أشهر وكل إلي القيام على تصحيح بعض مؤلفات الرافعي التي تطبعها الآن إحدى دور النشر الكبرى في القاهرة؛ فأخذت أهبتي للعمل. . .

. . . وزرت المكتبة التي خلفها صاحبها أوراقاً مركومة وكتباً تستند إلى الحيطان؛ أريد بذلك أن أبحث فيها عما يكون هناك من مستدركات على بعض الكتب المطبوعة، فأزيدها عليها؛ وأبحث عن (أصول) الكتب التي لم تطبع بعد، فأرتب فصولها وأعدها للطبع. وفتحت أدراج الدولاب، فرأيت وعرفت السر. . .

رحمه الله!

ذلك جهد لا يقوى على مثله جند سليمان ولكنه قَويَ عليه وحده، ثم مات وخلَّفه شاهداً على

ص: 5

ما بذل في حياته لخير هذه الأمة فلم يلق من يعرف يده!

وإلى القارئ أصف ما عثرت عليه:

يعرف قراء العربية أن كل كتب المراجع في لغتنا ليس لها فهارس تعين الباحث على التماس ما يريده منها في أقصر وقت، إلا بضع كتب من المطبوعات الحديثة؛ فالأغاني، والأمالي، والعقد الفريد، والكامل، والعمدة، والخزانة، والحيوان والبيان والتبيين، وكتب الطبقات، وحتى كتب الفهارس والتراجم، ليس لها فهارس يمكن الاعتماد عليها عند البحث؛ فمن أصاب منها غرضاً فعن طريق المصادفة والاتفاق، أو بعد المطاولة وضياع الزمن؛ وحسبي أن أذكر أنني ذات مرة أنفقت ليلة كاملة في البحث عن كلمة في البيان والتبيين ثم لم أعثر بها فطويته على سأم وملالة؛ فلما كنت بعد أيام، وقد فات عليّ الغرض الذي كنت أقصد، فتحت الكتاب عرضاً فإذا الكلمة التي كنت أريدها أمامي. . .

هذه الحقيقة يعرفها كل من عانى مشقة البحث في هذه الكتب؛ فهي كتب للقراءة المجرّدة لا للبحث والتنقيب العلمي عرف الرافعي ذلك فاتخذ له طريقاً. . .

وكان أول ما صنع أن انتخب كل الكتب التي يعينه أمرها فيما يمهد له من البحث، فقرأها كلها قراءة درس؛ وهي كتب ليست بالقليلة، وحسب القارئ أن يعرف أن كل فصل في كتاب تاريخ آداب العرب للرافعي قد اعتمد فيه على عشر مراجع من المطولات أو يزيد، ليدرك من ذلك كم كتاباً قرأ قبل أن يؤلف كتابه الذي ذكرت. . .

قلت إن الرافعي انتخب طائفة من الكتب يرجو أن تعنيه على البحث فقرأها كلها، أعني نَفَضَها نَفْضاً بحيث لم يفُتْه منها معنى يتصل بموضوعه

ثم شرع يعمل، فكتب لكل كتاب مما قرأ ملخصاً يضم المجلدات الكثيرة في كراسة أو كراسات؛ يرجو أن تغنيه عن أصولها المطولة

ثم عاد إلى هذه الملخصات فرتب أجزائها ترتيباً يضم القريب إلى القريب بحيث يجد طلبته عند النظرة الأولى من غير أن يتعب في تقليب الأوراق

ثم كانت الخطوة الرابعة فزاوج بين ملخصات الكتب المختلفة يضم الأشباه منها إلى الأشباه

ثم كتب. . .

ثم عاد إلى المكتوب فقرأه قراءة الباحث: يزاوج بين رأيٍ ورأي ليخرج منهما رأي ثالث.

ص: 6

واجتمعت له من ذلك المقدماتُ التي تبلغ به النتيجة. . .

ثم كانت المرحلة الأخيرة هي التهذيب والصقل الفني، من صناعة البيان وتحكيك الألفاظ وتجميل المعاني وتزيين الأسلوب

سبع مراحل بين البدء والنهاية. . . ثم خرج الكتاب لقارئه ليسائل نفسه في عجب: أين وأيان اجتمع لمؤلفه ذلك القدرُ من المعارف في شئون العرب والعربية فألف بين أشتاتها في هذا الكتاب؟

سؤال كنت أسأله نفسي قبل أن أرى وأعرف وأضع يدي على تلك الأوراق التي كانت في درج مكتبه فتكشف لي السر. .

بين يديَّ الآن الجزء الثالث من تاريخ آداب العرب، أرجو أن أفرغ منه ليكون في أيدي القراء بعد أيام؛ وهو كتاب ألفه في سنة 1911 أو قبل ذلك، ثم شغلته شئون الحياة عن إخراجه فخلَّفه أوراقاً مصفرّة يكاد يبليها التقادم. . . في هذا الكتاب وجدت مفتاح السر، وسيقرؤه قراؤه بعد أيام فيعرفون في بعض فصوله أين بدأ مما انتهى وعند أي مرحلةٍ وقف. . . ثم يذكرون مؤلفه فيترّحمون عليه. . .

. . . وفي مكتبته كتاب آخر أرجو أن يعينني الله عليه ما أعانني على هذا الكتاب. وهناك غير ذلك كراسات عدة وأضابير مطوية. تلك هي الفهارس التي كتبها ثم استكتبها. . ولكنها - فيما تبدو لي - ألسنةٌ خُرْس

قلت كانت المرحلة الأولى في تأليفه أنه اختار طائفة من الكتب. . . وأقول إن أول ما اختار من ذلك كتب التراجم؛ مثل الفهرست لابن النديم، ووفيات الأعيان، ونحوهما

وطريقته في التحصيل من هذه الكتب، أن يقرأ الكتاب ما بين دفتيه؛ ثم يكتب ملخصه بحيث يشمل من أسماء أهل الفنون الأدبية وامتياز كل منهم، مثل الشعراء، والخطباء، والكتاب، والرواة؛ ثم أسماء الكتب، وموضوعها، فنون العلم، ومعارضات العلماء بعضهم لبعض؛ ثم الطرائف الأدبية التي تشير إلى معنى يتصل بشيء من موضوعه. وفي كتب التراجم من هذه الطرائف ما ليس في كتاب

وأستطيع أن أقول جازماً: أن الرافعي أعتمد على كتب التراجم في الجمع لكتابه (تاريخ آداب العرب) أكثر مما أعتمد على الكتب الخالصة للأدب؛ وكان اتجاهه إلى ذلك سبباً في

ص: 7

توفيقه إلى ما لم يوفق إليه غيره في موضوعه

ويذكِّرني اعتدادُه بكتب التراجم في هذا الشأن، ما ذكرته في كتابي (حياة الرافعي) عن استمداده منها أكثر ما كان يكتب لقراء الرسالة من قصص لم ينسج على منوالها كاتب من قبله ولا من بعده؛ فكأن هذه الكتب كانت عوناً كبيراً له على ما أبدع في الأدب بنوعيه: الإنشائي والوصفي

لست أشك في أن طريقة الرافعي هذه كانت ذات فائدة كبيرة، ولكنها كانت حقيقة بأن تكون أكثر جدوى وفائدة لو أن هذه الملخصات والفهارس التي صنعها ليستعين بها كانت على غير النظام الذي وضع، ليمكن انتفاع غيره بها؛ فلو أنه عني بأن تكون تلك الفهارس كاملة وعامة، لكان بذلك قد كمل نقصاً في تلك الكتب التي أخذ عنها وزادها فائدة ولكنه رحمه الله لم يكن له غاية من صنع هذه الفهارس إلا الاستعانة بها على الجمع لكتابه، فبلغت به ما أراد، ثم بطل عملها!

وقد يسأل سائل: كيف تهيأ للرافعي الزمن الذي قرأ فيه تلك الكتب التي أخذ عنها ولخصها، ثم ألف منها كتابه؟

وهو سؤال لا أجد جوابه، على أنه مما يزيدني دهشة أن الرافعي قد بدأ يعد لكتابه تاريخ آداب العرب في سنة 1909 وفرغ منه - بأجزائه الثلاثة - في سنة 1911؛ فأنظر ما عسى أن تتسع له سنتان من عمر فتى لم يتجاوز الثلاثين وهو أب وزوج وله عمل في الحكومة يشغل نصف نهاره؟

وقد قال لي قائل مرة وقد جاء ذكر الجزء الأول من تاريخ آداب العرب: إنه كتاب يتحدث عن كل شئ إلا عن آداب العرب!

قلت: قد يكون ذلك رأيك ورأي طائفة معك، ولكنه على كل حال كتابٌ يغني عن مائة كتاب؛ وأسأل معلِّميك: من ألف في تاريخ آداب العرب قبل الرافعي؟

رحمه الله بما قدم لهذه الأمة وأجزلَ ثوابه

محمد سعيد العريان

ص: 8

‌من مذكرات الأستاذ محمد كرد علي

(للأستاذ محمد كرد علي مذكرات تتناول مشاهداته وتاريخ حياته من يوم وعى لنفسه، وقد تحدث فيها كثيراً عن مصر ورجالات مصر، ويسرنا أن نقدم إلى قرائنا هذه الصفحة منها.)

أخلاق القضاة

لم أرَ فيما رأيتُ من أنواع العداوات أشد من تعادي المشايخ، ولا أكثر

من غمط بعضهم حق بعض، ولا أعظم من تكالبهم على حُطام الدنيا،

ولا أشد تهالكا منهم على أبواب الأمراء والحكام. ولقد رُويت لي عنهم

روايات ما كنت أصدقها لولا أن روايتها ممن لم يعرفوا الغيبة

والنميمة. ولما أخذت أتعرف إلى الرجال رأيت ما هالني، وآلمني أن

كان من يُطلب منهم الصدق هم من أول الكاذبين، ومن تفترض فيهم

الأمانة هم في مقدمة الخائنين؛ وأيقنت أن القليل منهم عرفوا الكرامة

وعزة النفس. وهم هم جعلوا مسلكهم بضعتهم علامة ضَعَة وصَغار،

وكان علامة شرف وفخار. وأُصيبوا بغرور وزهو ظنوا معهما أن

سلطانهم القديم على الملوك، فمن دونهم، يبقى لهم بهذا الجهل وهذا

الفساد

قلت يوماً لعالم درس تاريخ الإسلام درس تدبر، وعرف استخراج عبره:(أما كان في العصور الماضية قضاة جاهلون فاسقون سارقون، فكتب الأدب تتعرض لذكر كثير مما كان يتهمون به أليس ما روي عنهم صحيح أم صنعوه للنكتة؟) فأجاب: أكثر ما روي في سيرة القضاة قديماً صحيح، والجهل وسوء الخلق لا ينقطع دابرهما من الأرض، ولكن إذا فرضنا أنه كان في المملكة الإسلامية ألف قاض في القرون الغابرة، وألف مثلهم في هذه الأيام، فإن الألف السابقين كان فيهم عشرة فاسدون لا يصلحون، أما الألف اللاحقون فالفاسدون منهم

ص: 9

يعدون بالعشرات بل بالمئات. وأظن السلطان بيلديرم بايزيد العثماني هو الذي جمع قضاة مملكته لما ثبت له قلة دينهم وتلاعبهم بالحكومة وأمر بقتلهم كلهم؛ فلما حقت عليهم كلمة العذاب لجئوا إلى أحد حاشيته وندمائه ورشوه بمبلغ من المال (وداوني بالتي كانت هي الداء)، فذهب إلى السلطان لابساً ألبسة السفر، فسأله السلطان عن الداعي إلى اكتسائه هذه الكسوة؛ فقال: إنه ذاهب صاحب القسطنطينية - وكانت يومئذ بأيدي الروم - ليأتي من عنده بقسيسين يتولون القضاء في بلاد السلطان. فضحك هذا وعفا عن القضاة على ألا يعودوا إلى سالف سيرتهم القبيحة

ومازالت حال القضاة في تدهور العصر بعد العصر حتى كانوا هم السبب الأعظم في إدخال قوانين الغرب على الدولة العثمانية والحكومتين العربية والتونسية لكثرة ما أساءوا إلى الشرع الإسلامي وعبثوا بأصوله وفروعه، فكانت المحاكم الشرعية بؤرة فساد، وأحكامها سلسلة من الخلل والعلل، فأكرهت أوربا الدولة على قبول قوانينها، ظناً منها أن الفساد آت من الشريعة، وما العيب إلا من جهل المنفذين لأحكامها وفساد أخلاقهم. وقد شاهدنا تحسناً ظاهراً في قضاة الشرع لما أنشأت الدولة مكتب النواب في الآستانة وكان المتخرجون على أساتذته إلى الاستقامة والعلم أكثر ممن سبقوهم بكثير. ومثل ذلك شاهدنا القضاء في مصر يتولاه اليوم الأخيار وكان في القرن الماضي يتولاه الأغمار والأشرار. بحثت سيرة من أهمني أمرهم من القضاة فقلَّ جداً من اقتنعت بذمته منهم، ومن نعده مستقيماً قد لا يتعفف عن قبول الهدايا من أرباب المصالح

قصة لطيفة وقعت لقاض من أهل دمشق كان في دومة من الغوطة، وكان مضحاكا خفيف الروح يحفظ كثيراً من النوادر والفكاهات، وهذا جل رأس ماله في القضاء على ما يظهر. أتاه ذات يوم رجل اسمه محمد عبد النافع أحد ظرفاء دومة بكتاب يقول له فيه إن الله خلقه بغير إرادته، وأنى به إلى هذا العالم ولم يستشره، وزين له أن يتزوج ففعل، ورزقه أولاداً ليقربهم عيني والديهم فكانوا علة إفلاس والدهم وشقاء والدتهم، وإن فقره يزيد كلما زاد عدد أولاده؛ فهو لذلك يتلمس من القاضي أن يجلب إلى محكمته العادلة المدعي عليه وهو الله سبحانه وتعالى ليتقاضى معه؛ فرأى القاضي أن صاحب الدعوى من أصحابْ النكتة، فانتظر حتى أنجز أرباب الأشغال مراجعاتهم وأغلق باب المحكمة ولم يترك فيها غير

ص: 10

الموظفين والقائم مقام، وطلب المدعي وهو والحاضرون يصطنعون الجدِّ، فسأله عن دعواه على الحق تعالى، فقال إن دعواه مكتوبة في القصة التي قدمها. فقال القاضي للمدعي بعد أخذ ورد قليل: هل تسقط دعواك يا شيخ إذا أُعطيت من مال الله خمس ليرات عثمانية وكيس طحين؟ قال: أفعل. قال: القاضي أنا سائلك سؤالاً تجيبني عليه بصراحة.

فقال: الأمر لسيدي. فقال القاضي: جاء هذه البلدة قضاة كثيرون قبلي فَلِمَ لم تتقدم إليهم بهذه الشكوى لينصفوك ممن تدعي عليه سبحانه وتعالى؟ فقال: لم يكن القضاة الذين يقدمون لتولي القضاء في بلدنا مثلك، كانوا يخافون منه. فصفق الحاضرون تصفيقاً شديداً استحساناً لهذا الجواب. وربما قال القاضي في سره والله لصادق؛ فأنا أعلم من نفسي أن معظم القضاة لعهدنا لا يخافون الله، هم لصوص على رؤوسهم عمائم بيضاء، وإن طعامهم ولباسهم من أموال اليتامى والأيامى. وهكذا كان هذا القاضي يقول لزوجته مفاخراً، وما أشك أنه من قضاة النار. . .

هزل مصر

ومنها من فصل عنوانه (هزل مصر):

. . . في مصر اليوم عدة جماعات ومجتمعات تظفر في بعض حواشيها بأفراد ممتازين يختلفون إلى المقاهي ويزهدون في الاجتماع في بيوتهم، وكذلك الحال في بلاد الشام، وكانت فيها الأندية الخاصة أو (البعاكيك) في كل حيّ من أحياء المدن والقرى الكبيرة. ولي جماعة في بار اللواء أمام إدارة جريدة الأهرام بالقاهرة، وهم بقايا صالحة من أرباب الثقافة العالية والوطنية الحقة الصامتة، ومنهم صديقي القديم الأمير محمد بك علي المهندس، وقد وقع لي، وأنا أسير معه في بعض الشوارع، وأمه سودانية وهو أسود البشرة محمود الصفات خدم السياسة المصرية بما يخدمها به الرجل الشريف أعواماً طويلة وما طلب على عمله لوطنه مكافأة ولا طمع في مظهر من المظاهر التي يطمع فيها المتجرون بالوطنية

وقع لي أن لاقيت على الجادة صديقاً لي آخر اسمه صالح أفندي السوداني وهو أسود أيضاً بلون محمد بك علي، وهو من أرباب الأقلام ومن المخلصين في خدمة مصر فقلت لهما: خطرت ببالي الآن قصة وقعت لي في بلدي وأنا في صدر الشباب، كان لنا جار وهو أخي من الرضاع اسمه رشيد الهبل من أبناء البيوتات القديمة وقد خلف له أهله ثروة جيدة،

ص: 11

وكان أسود اللون قاتمه مثلكما، ولكما المثل الأعلى، فكنا يومئذ نركب الخيل وعنده وعند والدي منها عدة نمتطي بعضها عند الأصيل وتخرج إلى المنتزهات بين البساتين. فقال لي والدي يوماً: إنك يا بُنيَّ تثبت كل يوم حسن ذوقك؛ أما رأيت في هذه المدينة الكبيرة أجمل طلعة من جارنا ابن الهبل تصحبه إلى نزهتك؟ ودعا لي بالتوفيق والغبطة! والتفت إلى الصديقين وقلت لهما من باب مطابقة الحديث للترجمة: أليس قول والدي يصدق علي الآن؟ ولا شك أن الناس هنا أدق شعوراً فيضحكون إذ يرونني بينكما. فضحكنا ضحكاً كثيراً. . . وتالله إني لأفضل هذين الأسودين بما فيهما من صفات غُرّ على كثيرين من البيض أصحاب الصحائف السود.

محمد كرد علي

ص: 12

‌خواطر يثيرها سائل

للأستاذ عبد المنعم خلاف

- 3 -

سنة الله - التحرر من التاريخ - الطفولة موضع أمل - عصر العمل - شرود النساك - عالم الأجسام - فلنعش هنا - معنى العبادة - الدين ابتهاج لا كآبة - دعوة الأغنياء للدين - الحياة لعب ولهو - جناية الدولة على حياة الروح

لا يزال أكثر الناس يجهل سنة الله واتجاه إرادته في الطبيعة على الرغم من كثرة عدد العلماء الطبيعيين، ولا يزال كثير من الأمم يأبى أن يبني الحياة الإنسانية الفردية والاجتماعية كما بنى الله الطبيعة بقوانين لا تخطئ ولا تستثنى ولا تهمل، مع أن الحل الوحيد الموفق السعيد لجميع المشكلات هو أن يبني الفرد حياته وتبني الجماعة حياتها كما بنى الله الحياة العامة على الحرص الدقيق واليقظة التامة والعلم الشامل والقوة القاهرة والتصميم النافذ والاستيعاب الكامل للجزيئات والتوزيع العادل للقوى والعناصر؛ فبرزت في هذا التناسق والانسجام والجمال

ومع هذا الجهل الفاضح من الناس (لسنة الله) نجدهم في غاية الجرأة إذ يقدمون على محاكمة الله بعقولهم الصغيرة المحدودة التي لم تعرفه بعد ولم تعرف اتجاه إرادته الظاهر في الطبيعة

إن الله احتجب عنا فلن ندركه بأبصارنا إذ لا قدرة ولا طاقة لنا على ذلك. ولكنه وضع أمامنا (خريطة) الكون مفصلة واضحة لنرى فيها تخطيطه وأسلوبه في إيجاد الحياة وتنظيمها والقيام عليها

وقد وضع الله في الإنسان قوة أشبه بمرآة تنطبع فيها جميع صور الطبيعة ونظمها وهي (العقل)، وكان من المحتم لو سارت التربية سيرها الطبيعي أن ينتقل سنة الله في الطبيعة إلى تلك القوة وينطبع فيها فتحفظه وتتنبه إليه دائماً وتسير بإرشاده في بناء الحياة الإنسانية. ولكن قوة (الاختيار) التي في الإنسان من جهة وحبه (لاختبار) كل أفق (واستطلاع) كل شئ في الحياة هما السبب في عدم تقيده بما يوحي إليه أسلوب الله، وفي خلقه لنفسه جواً صناعياً جعله يبتعد بالتدريج عن الطبيعة التي هي كتاب الله إليه وصورة

ص: 13

من علمه تعالى واتجاه إرادته

وشئ آخر غير (الاختيار) وحب الاستطلاع والاختبار يؤثر في إدراك الإنسان وعقله تأثيراً رديئاً. . . شئ هو كل شئ. . . هو التاريخ المسطور في الصحف الموروثة وأدمغة العجائز والشيوخ الذين هم قناطر وجسور دائمة تعبر عليها وراثات من الجاهليات الأولى متحدرة في الدماء والأعصاب والألسنة هي آثار من المحاولات الأولى المغلوطة التي حاولها الإنسان لإدراك الله وإدراك اتجاهه في الطبيعية

إن خمائر التاريخ السيئة التي تعوقنا عن رؤية الحق الصريح إنها جعلتنا أناسً صناعيين لا طبيعيين. . . فلا يزال في التاريخ كثير من الأمراض والظلمات التي كنا فيها قبل أن نشب عن الطوق وندرك الرشد، إنه من اكبر أسلحة الشر لمقاومة تقدم الإنسانية. . . إنه يربينا بما كان يربي عليه الأولون من العواطف والأفكار المغلوطة، ومن العجيب أن الاحتفاظ بخرافات التاريخ وجد له شرعة عصرية تحلله بحجة الإبقاء على (التقاليد) حتى الدين العقلي الطبيعي وهو الإسلام لم يستطيع أن يمحو مصائب التاريخ ومواريثه السيئة من الأمم التي تدين به فدخل كثير من الناس فيه من غير أن يغتسلوا غسلاً تاماً من مواريث الوثنيات والأباطيل واكتفوا بتغيير عنوان حياتهم العقلية القلبية من غير أن يخلعوا ما وراء العناوين، ولو ذهبت أتقصى بقايا الوثنيات في ديار الإسلام وفي أفكار المسلمين لطال بي المقال، وحسبي أن أحيل كل قارئ على علمه بما يجرى، وإذا كان هذا ديار الإسلام فما بالك بما في ديار غيره. . . وقد انحدرت إلينا هذه المواريث سائرة مع أصول الدين جنباً لجنب ولم تنتبه إلى ازدواج شخصياتنا تبعاً لذلك، وإني أتخيل جيلاً من الأطفال ربي بأيدي حكماء تحرروا من كل باطل واسترشدوا بأسلوب الطبيعة وسلامة الفطرة ولم يأخذوا الأفكار العامة عن الحياة والدين من التاريخ والبيئة الملوثة. . أتخيل ذلك فتسطع أمامي في هذه الأرض أنوار من الجنة الموعودة في السماء. . .

ولم يستطع نبي أن يتلقى الوحي عن الله إلا بعد هذا التجرد من التاريخ. . . إن النبوة في مبتدأها تجرد من كل شئ موروث ثم! إيغال في الوصول إلى أصول الحياة، ثم رؤية يد الله وهي تضع هذه الأصول وتحفظها، ثم سماع الله بعد ذلك. . .

والطفولة هي موضع أمل الإصلاح. . . ولكن هل تترك الإنسانية المصلحين يبنون

ص: 14

مستقبلها؟ هذا سؤال قبله سؤال آخر: هل هي تدرك المصلحين وتعرفهم؟ نعم تدركهم ولكنها تحسدهم؛ لأن الغرائز السفلى وقوى الشر دائماً تسلط الحسد ليكون طليعة في الدفاع عنها وبقاء وجودها. .

قلوب الأنبياء والحكماء كقلوب الأطفال. . . لأنهم يرتدون دائماً إلى مبادئ الطبيعة وأوليات الحياة البسيطة التي لم تلتو مع ميراث النفاق الاجتماعي والإثم الصناعي. فهم دائماً ينظرون بفرحة وبهجة إلى الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكل شئ. . . وكل شئ. وكأنهم في ابتداء حياة جديدة كل يوم بل كل ساعة. . . وتترقى نظرتهم بترقي إدراكهم حتى ينتهي بهم الأمر إلى أن ينظروا إلى الوجود نظرة خالق الوجود! نظرة وراءها وصاية كل شئ واهتمام به وحرص على استمرار نفاذ قوانين الحق على سنة الله وطريقته

قد كان من الواجب على الإنسان أن يقلد أسلوب الله منذ وجوده. وأسلوبه يتمثل في العمل والصمت الدائم. . . ولكن الإنسان أخذ يلهو ويعبث ويتكلم! وفرح بالكلام وقضى في علوم الكلام دهراً طويلاً من عمره، حتى جاء العصر العملي الذي لا نزال في فجره وبواكيره. وهذا العصر العملي كثير البركات على الإنسان، إذ كشف له عن كثير من أبواب كنوز الطبيعة ومفاتيحها. وكان من أول الواجبات بعد هذا العصر أن يشرع الإنسان في تعديل غرائزه السفلي وتهذيبها (وتطويرها) حتى لا تشغله بسفالاتها القديمة وصراخها الصبياني

وإني لأعجب من العلماء الطبيعيين الذين كشفوا عن كثير من الأسرار العملية في الطبيعة، ثم استمروا بعد ذلك خاضعين للغرائز السفلى ومواريث التاريخ الجاهلي! كما أعجب من النساك والعباد الذين يتنسكون ويتركون الجهاد للحياة العملية والاندماج في موجاتها!

إن الله بنّاء بنى السماء والأرض والجبال. . . وصانع صنع جسام النبات والحيوان. . . وسقَّاءٌ يسوق السحاب الثقال. . . وزراع يخرج نبات كل شئ، ومعلم هدى كل شئ إلى طبيعته. . . وفنان طرَّز حواشي الوجود، وصبغ الخدود، وزركش الأرض بالورود، ورقق أنفاس الرياح، ونشر العطر الفياح، ورقرق الأنهار، وجلا النهر، وزين الظلام بالمصابيح الوضاء. . .

(فالجمال هو توقيع الله على الأشياء)!

ص: 15

فكيف يأبى النساك أن يعملوا للحياة عمل الله؟!

إنهم لم يعرفوه! فلو عرفوه لساروا على أسلوبه، ولأقاموا أسواق الحياة عامرة. . . لأنه خلقهم ليعمروها لا ليتركوها غامرة صامتة صمت الخراب والقبور. . .

إن حياة التأمل في الله بدون عمل قليلة المحصول جالبة للخبال (ولا تفكروا في ذاته فتهلكوا)

الأجسام! الأجسام! هي أداة الحياة في الدنيا، فيجب أن نحيا بها حياة كاملة، ولا نعطلها في البحث وراء العالم الخفي. . . يجب أن نخرجها إخراجاً جميلاً قوياً فإنها محاريب من محاريب الطبيعة أيضاً. . . بل يكاد يكون الجسم الإنساني الجميل المكتمل أجمل شئ في الوجود. . .

لعل النساك يحرمون أنفسهم هنا لينالوا ما هناك؟. . . كلا! ليس وجود الآخرة معناه ألا نحيا هنا حياة طيبة بقدر ما تسمح به طبيعة الحياة الدنيا. . . إن الآلام هي سبب الكفر والجرائم التي تحرم من جنة السماء فلنحاربها ولنمحها إذا استطعنا لنضمن الرضا عن الحياة والرضا عن الله

لماذا ننشد نعيم الآخرة بشقاء الدنيا؟! ألا يجوز الجمع بينهما؟ بلى! وإلا فالحياة مأساة!

ويقيني أن صلاح الدنيا صلاح للآخرة

إن الدين لم يكلفنا بعمل أشق من الموت في سبيل الله وما معنى الموت في سبيل الله؟ أنه الموت لتكون كلمات الله هي العليا. ولن تكون كلماته كذلك إلا إذا سار الإنسان على أسلوب الله في الطبيعة فضمن سلامة الحياة من إجرام الغرائز السفلى وظلمها، فكأنه أشق عمل ديني فرضه الله وسيلة لإصلاح الدنيا. فصلاح الدنيا هو المطلوب الأول لأننا نحيا حياتنا هذه قبل حياتنا الأخرى

يقول النساك المعتزلون للحياة: إنهم يطلبون وجه الله بالعزلة. . . ولكن وجه الله الحقيقي لا يرى. . . وفي الحديث: (إن الله احتجب عن الأنظار، وإن الملأ الأعلى ليطلبونه كما تطلبونه أنتم). ذلك قول قالته أعظم نبوة رأتها الأرض، وعليه طابع جلالها وعمقها وصدق تجربتها في البحث عن وجه الله

ولكن صور وجه الله تظهر جلية رائعة في الطبيعة وفي آفاق الحياة الإنسانية، فعلينا أن

ص: 16

نبحث فيها عن الله وأسراره. وما خلقنا بالأجسام إلا لنعرفه في عالم الأجسام. . .

علينا أن نلبس الحياة لبساً واسعاً شاملاً وأن نحسها في كل شئ إحساساً عميقاً. وتلك هي حقيقة عبادتنا. فالدين هو الإحساس بالحياة إحساساً دائماً يكون معه الفكر في الله مبدع الحياة. وبهذا أجد تفسير (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) وبهذا التفسير تتبين غاية الخالق من خلق الناس متحققة واضحة جلية. أليس كذلك أيها الأخ البيروتي أو ليس كذلك أيها الأخ الآخر (ح. م)؟

فالإحساس الصادق بالحياة والعمل بمقتضى هذا الإحساس هو عبادة الله. وعلى هذا تكون كل حياة الإنسان في الأرض عبادة. . . حتى خدمته لنفسه وشعوره بلذاته المحللة وكشفه العلمي وعمله للرزق ما دام وراء كل أولئك فكر في الله وتنبه إلى سر إيجاده للحياة

وتبتدئ العبادة حين يحس الإنسان أنه دخل هذه الحياة مكرهاً من غير إرادة، فصبر على ما فيها من آلام ومشقات حتى يتوفى الله نفسه من جسده. . فالمنتحر كافر لأنه لم يتحمل آلام التجربة والاختبار في هذه الرحلة الأرضية التي لابد أن يكون وراءها غاية عقلية عند الذي دعانا إليها وحملنا عليها. المنتحر شخص وهبه الله الحياة فردها في وجهه. فما دمت قد شعرت أني لست أنا الذي خلق نفسي ودفع بها إلى هذا البيت الهائل العظيم فصبرت وانتظرت وفكرت في صاحبه دائماً فأنا عابد لله؛ لأنني صرت طائعاً مع أبناء الحياة، ومواكب الطبيعة التي تسير أمام عصا القهر طائعة ساجدة

والفرق بين أعظم القديسين وأعظم الكافرين هو اتجاه الفكر والنية إلى رب الحياة في كل عمل وفي كل وقت. . . فالقديس كل أعمال حياته مسبوقة باتجاهات ونيات منظور فيها إلى رب الحياة. . . والكافر كل حياته غفلات يأخذ بعضها برقاب بعض فلا يفيق منها إلا عند الموت. مع أنه حين يدخل متحفاً أو بيتاً جميلاً يسرع فكره إلى السؤال عمن بناه أو نظمه. . .

لقد أفسدنا المعاني الدينية بأخذها تقليداً من دون فكر وروح وإحساس بها وبتلقينها للأحداث قبل أوان تفتحها في أرواحهم وعقولهم بمناسباتها. فحسبنا العبادة هي أداء رسوم الصلوات والزكوات والصوم وغيرها. . . كلا! إن العبادة هي الإحساس الصادق بالحياة والشعور الملازم بالله والفكر فيه، وفي أسلوبه وتقليد أعماله في الطبيعة من أول الوعي للحياة إلى

ص: 17

أن تحين سكرة الموت. . . وأما الصلوات وما وراءها مما يسمى عبادات، فهي فيض النفس بتلك المشاعر والأحاسيس والأفكار فيضاً يتمثل ويتشكل ويظهر في عالم الأجسام بعد امتلاء الروح. . .

والدليل على ذلك أن هذه الأعمال تكون باطلة إذا خلت من التوجه والنية. . . فكأنها مواقف (استعراض) لأجسام الذين تمثلت فيهم الحقيقة الدينية كمواقف استعراض الجنود الذين يجيشون لغاية ما، ولن يعد الجندي بلباسه وشاراته وسماته الظاهرة إلا إذا كان عامر القلب بمعاني الوطنية والغاية التي جند من أجلها.

شئ واحد ينبغي للإنسان أن يحرص عليه، حتى يحقق الغاية من خلقه: هو أن يحيى رب هذه الحياة بتحية بسيطة قبل أي عمل أو متاع، ومع كل ألم. . .

فإذا استطاعت التربية في بيوتنا ومدارسنا أن تجعل هذه الخاطرة الصغيرة عادة ملازمة للإنسان فقد قام الدين وأقيم أساسه في النفس، ثم تأتي سائر رسومه وأشكاله بعد ذلك فيضاً نفسياً وفعلاً اختيارياً

وإن إدراكنا لله في القرن العشرين يجب أن يكون أوسع منه عند جماهير الناس في القرون السالفة. وهذا منوط بالتربية، والنشأة الطبيعية تحت التأثير المباشر للطبيعة أقل ضرراً وإفساداً لنفس الطفل من التربية المغلوطة التي فيها مواريث ومقاييس فاسدة

والدين يجب أن يعلم على أنه بهجة وفرح بالحياة التي أتاحت لنا أن نعرف الله في هذه الرحلة السعيدة التي دعانا إليها على الزورق الأرضي

ولشد ما يغيظ ويؤلم أن ترى حياة التدين عند أكثر الناس ملازمة للكآبة والضعف والحزن والفقر!. . . وسوء الطريقة من دعوة الأغنياء والأقوياء للدين، هي التي حرمتهم منه وحرمته منهم، حتى صار معلوماً عند الناس أن عبادة الله لا تكون من قوة ولا غنى، وإنما تكون من الفقر والضعف الذي لا يملك على الأرض صرفاُ ولا نصراً. وعدم التفريق بين ما لابد منه في الدين لأنه ضروري وبين ما منه بد لأنه كمالي هو مما جنى على حياة التدين بعدم انتشارها بين الأغنياء والأقوياء

ثم إن مفاجأة الأغنياء والأقوياء بألحان الكآبة والحزن والموت والقبر وجهنم، وغمرهم بكثرة التكليفات التي لا يقوم بها إلا الورعون، هي التي جعلت نفوسهم تضيق بهذه القيود

ص: 18

القاسية التي تحبسهم عن حياة المتاع الحلال والحرام الذي لم يبين لهم سبب معقول لتحريمه إلا الخوف من عذاب جهنم. والدين إذا لم يبن على الفكر والتعليل أو شك أن ينهار بناؤه، حتى في نفوس الدعاة إليه. وخصوصاً إذا كان ديناً يهيمن على شئون الدنيا ويقيم لها حدوداً كالإسلام

أمن الحق أن يوجه فكر الإنسان دائماً إلى الموت على أنه هو المطلوب الأول من الحياة؟

وهل من الحق أن نجعل المثل الأعلى للحياة الدينية هو التفرغ لما يسمى عند الناس بالعبادات؟

قال الغزالي: (واعلم أن العلم غذاء والدين دواء، فمن جعل الدواء غذاؤه مرض. . .)

وقول الغزالي هنا قول فصل، لأنه قول خبير في هذا المقام ومن قواعد الدعوة الإسلامية الأولى أن العامة والجماهير ينبغي ألا يحملوا على الورع والزهد والتزمت. . .

والقرآن يعترف بسلطان الحياة على النفوس ويقول: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث. ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب). ويقول: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد). ويكرر هذا المعنى في غير موضع. فلماذا نريد نحن أن نفرض للحياة صورة عقلية كلها جد مؤلم مستمر وصرامة. ونريد أن نحمل الناس عليها، مع أن العقل والشرع والتجربة الأزلية تقرر أن هذا مستحيل؟ وهل كل ما في الحياة إلا تكوين وتخريب كلعب الأطفال؟ وهل الرجال والنساء إلا أطفال كبار يلعبون في الحياة لعبها المعهود بالجمع والطرح؟

إننا نصنع من طين الأرض وموادها الميتة آلات تسعى وتطير وترى وتسمع. . . ثم نخربها بالاستعمال والامتهان ونكون غيرها وهكذا. .

إننا نشقى في جمع المال والاقتناء والاستكثار ثم نترك كل هذا لغيرنا يعبث فيه ويبدده. أليس هذا عبثاً أو شيئاً أشبه بالعبث في نتائجه؟ ولكننا محمولون على هذا من الطبيعة ولن نملك لأنفسنا غيره، ورجال الدين مثلنا مع أننا نعلم ما تقول الحياة وما قال القرآن عن الدنيا من أنها (متاع الغرور)

فلماذا لا ننظر إلى الحياة على حقيقتها هذه ثم لا نتشاءم من كثرة ظواهر الشرور فيها،

ص: 19

حتى لا يحملنا التشاؤم على اليأس وترك الكفاح، ثم نحاول أن نتلطف في الدخول على الطبيعة البشرية اللاهية اللاعبة فنقنعها بواجبات الجد والعمل في الأوقات القليلة التي لم يطلب الله في غيرها من الإنسان أن يؤدي عملاً؟

وكما تلطفت التربية في الدخول على طبيعة الأطفال، فعلمتهم مبادئ العلوم، ودربتهم على مبادئ الأخلاق عن طريق اللعب من غير شعور، ينبغي أن تفعل مثل ذلك مع الأطفال لكبار: الرجال والنساء. . . وتلك هي رسالة رجال الروح. . .

ولكن الدولة قد جنت على الحياة الروحية أكبر جناية حين أباحت الانتساب إلى الدين لمن لا تؤهله عقيلته، ولا ثقافته، ولا تكوينه الجسمي أن يكون قائداً من قواد الروح، وعنواناً جذاباً للدين. . . وإلى الآن لم يتيقظ كبار رجال الروح إلى ضرورة وضع حد لهذه الحالة مع أنهم يدرسون في علوم العقائد أن الله لم يرسل رسولاً إلا بعد الانتقاء والاصطفاء، وأنه لا بد أن يتحلى بالصدق والأمانة والتبليغ والفطانة والخلو من العيوب المنفرة. . .

ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة فقد كان ذكياً قوياً جميلاً لطيف الروح دمث الأخلاق رحب النفس نظيف الجسم والثوب يمشط شعره ويعطر ثيابه ويخضب لحيته

ولقد عاش رسول الله بجسده عيشة رحبة كما عاش بروحه فسابق وصارع وركب وحارب ولبس الدروع واقتني السيوف والخيل وأكل من الطيبات وتمتع بالنساء، وأمر بالهرولة في السعي إظهاراً للقوة، واستعرض الجنود. . . ولذلك خضع لقوانين الأجسام ولم يشرد على المجتمع هائماً ولم يعش منطوياً على نفسه يأكل خواطره وتأكله خواطره

فكذابون أفاكون هم الذين يزعمون أن الله لا يريد أجسامنا، إنه ما خلق أرواحنا إلا فيها ولم نعرفه إلا من نوافذها وحواسها وهي أدوات علومنا وإحساسنا بالحياة، وهل نرى في الحياة غير الأجسام. . . إن حياة الروح الخالص لا تكون في الأرض إلا كلمعات البرق

لقد ضاع الحق من المسلمين لما أهملوا قوانين عالم الأجسام والتفتوا إلى عالم البدوات والأماني والأحلام والكلام. فضاعت القوة لما ضاع الحق فهما صنوان متلازمان: فالحق قوة، والقوة حق!

(القاهرة)

عبد المنعم خلاف

ص: 20

‌الفقه الإسلامي ورعاية الصالح العام

للأستاذ محمد محمد المدني

المدرس بكلية الشريعة

(الفقه الإسلامي) مستنبط من الشريعة الإسلامية وهذه الشريعة تمتاز بأنها شريعة الفطرة، وشريعة العقل، وشريعة الرحمة:

فهي تعترف بالحقائق، ولا تحاول الخروج على السنن الكونية ولا تصطدم بالعلم، ولا تضيق صدراً بالإصلاح، ولا تكلف الناس ما ليس في استطاعتهم!

ذلك بعض ما كانت به الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، وجعل لها هذا الاعتبار العام، ولم يكن فقهها معه شخصياً ولا موضعياً

وليس معنى هذه الصلاحية أن كل جزئية من جزيئات الفقه التي استنبطت لا تقبل التغيير ولا التعديل، فإن ما صلح للأولين لا يعقل أن يكون هو بعينه، وفي جميع جزيئاته، ما يصلح للآخرين ذلك أن شريعة العقل والرحمة لا تجهل أن الأحوال دائماً في تغير، والدنيا في تقلب، ولكل قوم عادة وعرف

ولو كان هذا هو المعنى المقصود من قولهم: (إن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان)، لوقعنا منه في حرج عظيم، وتكليف لا يحتمل

أيجوز مثلاً أن نرجع بالمساجد إلى حالتها الأولى، فنجردها من الفرش والبسط، ونكتفي بأن نفرشها بالرمل أو الحصباء، لأن سنة السلف في مساجدهم كانت كذلك؟

أيجوز مثلاُ أن نلزم القاضي بأن يكون له في المسألة الواحدة قضاء واحد من غير تفرقه بين أحوال المتقاضين وبيئاتهم؟

لقد سمعت أن قاضياً شرعياً عُرضت عليه قضية أهان الزوج فيها زوجته بألفاظ جارحة - وهما زوجان من وسط راق - فطلبت الزوجة التفريق، فقضى لها به القاضي

فهل يجوز للقاضي أن يقضي بمثل ذلك في قضية يكون الزوجان فيها من وسط قد ألف ذلك فيه، بل ألف فيه ما هو أشد منه كالضرب مثلاً؟

أيجوز لنا مثلاً أن نلزم وزارة الدفاع أن تلبس جنودها العمامة البيضاء تحقيقاً للخبر الذي يروون: (تعمموا فإن الشياطين لا تتعمم)؟

ص: 22

إن هذا وما يماثله هو الحرج الذي لا يرضى الله به ولا يرضى به رسوله، ولا تقول به شريعة العقل والرحمة!

يقول أبن القيم (إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد، في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها وحكمة كلها، وكل مسالة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل!)

فالمعنى إذن في صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، أن الشريعة قد بنيت أحكامها على رعاية المصالح، ولما كانت المصالح تختلف باختلاف الناس، وتتكيف بتكيف الظروف والبيئات، وتتغير بتغير العوائد، اعترفت الشريعة بذلك ففتحت باب الاجتهاد وأباحت للناس أن يستنبط أولو الرأي منهم ما يصلح لهم، وينهض بهم في حدود ما رسمت وبينت

وآية ذلك أن الشريعة الإسلامية تركت كثيراً من الفروع من غير نص على أحكامها، وأنها تعني - قبل كل شئ - بالأصول العامة والمبادئ الأساسية، دون التفاصيل والجزيئات!

وفي هذا المعنى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها. وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها)

فهذه الأشياء هي موضع اجتهاد المجتهدين، وقوله (فلا تبحثوا عنها) أي فلا تطلبوا فيها نصّاً فتحرجوا أنفسكم. هذا معنى قوله تعالى:

(يا أيها الذين آمنوا لا تَسْألوا عن أشياء إنْ تُبْد لكم تسؤكم، وإن تسألوا عنها حينَ يُنزَّل القرآن تبد لكم، عفا الله عنها، والله غفور حليم. قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين)

وليس اعتبار الظروف والأحوال، ورعاية الصالح العام، في الفقه والأحكام، بالشيء المستحدث، فقد وجد منذ وجد التشريع، وكان حيث كان الفقه والاجتهاد

وإننا نسوق أمثلة من أحكام الرسول، صلوات الله عليه، وأمثلة من أحكام الصحابة ومن بعدهم من الفقهاء والأمراء

1 -

في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، أن قريشاً أهمهم أمر المخزومية التي

ص: 23

سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله؟ وهل يجترئ عليه إلا أسامة؟ فلما كلمه أسامة قال: (أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟ إنما هلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. والذي نفسي بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها!)

2 -

وروي أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تقطع الأيدي في الغزو

فهذان حكمان لرسول صلى الله عليه وسلم في شئ واحد هو الحد: تراه في الأول يصر على إقامته، ولا يقبل تعطيله، مع أن السارق امرأة من أكبر القبائل وأشرف البيوت، ومع أن أمرها أهم قريشاً وأزعجهم، ومع أن الشفيع صاحب من أحب أصحابه إليه!

وتراه في الثاني ينهى أن تقطع الأيدي في الغزو، فهل كان إصراره الأولى لأن أمراً كهذا لو دخلته الشفاعة، وقبلت فيه الوساطة، وفرق بين الشريف والوضيع، لضاعت الحكمة المقصودة فيه، وبطلت الغاية المرجوة منه!

وهل كان نهيه في الثانية إلا خشية أن يترتب عليه ما هو أضر على المسلمين، وأبغض إلى الله، وهو لحوق المقطوع بالعدو حمية وغضباً. ولكن التشديد الأولى، والتسامح في الثانية، يدعو إليهما أمر واحد وإن اختلفا ظاهراً، وهو الحرص على أمور المسلمين، أن يفضي إليها الخلل، أو يلحقها الاضطراب والفساد.

وقد روى مثل ذلك عن أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم:

1 -

قال علقمة: كنا في جيش في أرض الروم ومعنا حذيفة بن اليمان، وعلينا الوليد بن عتبة، فشرب الخمر، فأردنا أن نحده، فقال حذيفة: أتحدون أميركم وقد دنوتم من عدوكم فيطمعوا فيكم؟

فهل ترى فهم حذيفة، ونصيحته للمسلمين حين فهم ونصح إلا فقها تملية السياسية الرشيدة، والنظر الصحيح؟

2 -

وشبيه بهذا ما روى من أن سعد بن أبي وقاص كان قائد المسلمين يوم القاسية، فأتى بأبي محجن، وقد شرب الخمر، فأمر به إلى القيد فلما التقى الناس قال أبو محجن:

كفى حزناً أن تطرد الخيل بالقنا

وأترك مشدوداً على وثاقيا!

ثم قال لامرأة سعد أطلقيني، ولك عليَّ إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد،

ص: 24

فإن قتلت استرحمتم مني. فحلت وثاقه، فوثب أبو محجن على فرس لسعد يقال لها البلقاء، وكانت بسعد يومئذ جراحه فلم يخرج، ثم أخذ أبو محجن رمحاً وخرج فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم، وجعل الناس يقولون: هذا ملك! لما يرون من صنيعه، وجعل سعد يقول وهو يرقب المعركة: الضبر ضبر البلقاء والطعن طعن أبي محجن وأبو محجن في القيد!! فلما هزم العدو رجع أبو محجن فوضع رجليه في القيد، وقصت امرأة سعد على سعد ما كان من الأمر، فقال سعد: والله لا أضرب اليوم رجلاً أبلى هذا البلاء للمسلمين، فخلى سبيله! فقال أبو محجن: قد كنت أشربها إذ يقام علي الحد فأطهر منها، فأما إذ أبطلته عني فو الله لا أشربها أبداً

قال في أعلام الموقعين (إن سعداً قد اتبع في ذلك سنة الله تعالى فإنه لما رأى من تأثير أبي محجن في الدين، وجهاده وبذل نفسه لله ما رأى درأ عنه الحد، لأن ما أتى به من هذه الحسنات غمر هذه السيئة الواحدة، لا سيما وقد شام فيه مخايل التوبة النصوح وقت القتال، إذ لا يظن بمسلم إصراره في ذلك الوقت الذي هو مظنة القدوم على الله، وهو يرى الموت

وأيضاً فهو بتسليمه نفسه، ووضع رجليه في القيد اختياراً قد استحق أن يوهب له حده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قال له: يا رسول الله، أصبت حداً فأقمه علي، فقال: هل صليت معنا هذه الصلاة؟ قال: نعم، قال: فاذهب فإن الله قد غفر لك حدك!)

وهذا هو الفقه!

3 -

ولقد كان عمر بن الخطاب، وهو في الفقه والعلم من هو، يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي المؤلفة قلوبهم، وأن أبا بكر كان يعطيهم، وأن الله يقول:(إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم. . . الآية) ولكنه مع ذلك كله لا يعطيهم، ويقول لهم: إن الله أعز الإسلام وأغنى عنكم، فإن ثبتم عليه، وإلا فبيننا وبينكم السيف!

فهو قد علل الإعطاء بالمصلحة، إذ كان الإسلام بحاجة إلى استرضاء هؤلاء وتأليف قلوبهم، فلما ارتفعت هذه الحاجة بعزة الإسلام، لم يبق إلى استمرار الحكم من سبيل

4 -

ولقد ولى زياد بن أبيه إمارة البصرة من قبل معاوية، فوجدها وكراً من أوكار الفساد، وموطناً من مواطن الفجور، فخطب فيهم خطبته (البتراء) التي كان بها أول من أعلن

ص: 25

الأحكام العرفية في الإسلام فقال: (وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالمولي والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والمطيع بالعاصي، والصحيح منكم في نفسه بالسقيم أو تستقيم لي قناتكم. . . فإياي ودلج الليل، فإني لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه. . . وإياي ودعوى الجاهلية فإني لا أجد أحداً دعا بها إلا قطعت لسانه. . . وقد أحدثتم أحداثاً لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن غرق قوماً غرقناه، ومن أحرق قوماً أحرقناه، ومن نقب بيتاً نقبنا عن قلبه، ومن نبش قبراً دفناه حياً)

وقد سكت معاوية عن ذلك فلم يعلم أنه راجعه فيه، فهل كان هذا الفعل من زياد، وهذا السكوت عليه من معاوية ألا اجتهاداً وسياسة، استباحا بهما إحداث ما لم يكن من الأحكام وفي مثل هذا يقول الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور

وإنك لتجد في فقه المذاهب كثيراً مما علق الحكم فيه على العادة والعرف، واعتبر فيه تغير الزمان

1 -

يقول المالكية: إن المرأة إذا مات عنها زوجها يستحب لها أن تلبس السواد زمناً، رعاية لحقه ووفاء له، ثم يقولون: إلا إذا كان السواد زينة قوم البياض حدادهم، فإن حدادها عليه حينئذ لبس البياض!

2 -

إن النبي صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير أو صاعاً من إقط؛ وهذه كانت غالب أقواتهم بالمدينة. فأما أهل بلد قوتهم غير ذلك، فإنما عليهم صاع من قوتهم، كمن قوتهم الذرة أو الأرز أو التين أو غير ذلك. فإن كان قوتهم من غير الحبوب: كاللبن واللحم والسمك؛ أخرجوا فطرتهم من قوتهم كائناً ما كان، وهذا قول جمهور العلماء

وقد اجتهد علماء الأحناف إلى أبعد من ذلك، فنظروا إلى العلة التي من أجلها فرضت الزكاة في هذا اليوم، وهي الترفيه عن الفقير وإغناؤه عن المسالة، فأجازوا إخراج قدرها من المال، لأنه أنفع له وأيسر لسد خلته!

3 -

وكثيراً ما تجد في كتب الحنفية قولهم هذا: تغير عصر وأوان، لا تغير حجة وبرهان. يقولون هذا تعليلاً لاختلاف المروي عن أمامهم أو أحد أصحابه في المسألة الواحدة

ص: 26

فالمسألة إذن مفروغ منها، والأمر فيها بين واضح، وأساسها المصلحة التي جعلها الله أساساً لكل شئ!

ولقد جنى على الشريعة الإسلامية حملتها في بعض ما مضى من الزمان، فأظهروها للناس بمظهر الشريعة الجامدة في أحكامها، التي يضيق صدرها بما يحدث للناس من نظم، أو يرون الأخذ به من أسباب، ولم يحاولوا أن يدرسوا هذه النظم والأسباب ليتبينوا أمرهما، فإن وجدوا خيراً وصلاحاً فإن الله لا يأبى الخير والصلاح، ولا بد أن يكون في الشريعة السمحة منفذ إليهما، وإن كانت الأخرى أنذروا قومهم، وأقنعوهم بالضرر فيما هم عليه مقبلون، أو به آخذون

لم يفعلوا ذلك ولكنهم اكتفوا بالصياح والشغب على الناس وتنكبوا طريق أهل العلم في الإقناع أو الاقتناع، والشغبُ والصياح لا يجديان شيئاً في قضايا العلم، ولا يصلحان أداة له في هذا الزمان!

على الأزهر الحديث إذن أن يرأب ما أثأت يد الغفلات إذا أراد أن ينظر الناس إلى الفقه فيما يأخذون به من تشريع، ويسنون من قانون

على الأزهر الحديث أن يلبي مطالب الزمن، وأن يعرف مواضع الحاجة القومية فيجتهد في وضع حلول من الفقه الواضح الجيد لهذه المشاكل التي تعرض للناس في حياتهم الاجتماعية: في بيوتهم، وتجارتهم، واقتصادهم، وقضائهم، وعقوباتهم!

عليه أن ينظر فيما جد من الأقضية والأحداث والنظم، فيعرض كل ذلك على الفقه ليعرف الوجوه التي كانت بها مخالفة له، والوجوه التي يمكن بها أن توافقه أو يقنع الناس بأنها أشياء في غيرها غنى عنها وعوض منها

وهانحن أولاء نشهد طلائع على يد طائفة من مفكري الأزهر وبقيادة شيخه المصلح العظيم

ولن يمضي زمان طويل حتى يكثر فينا هذا الصنف من الفقهاء، المنتجين المجددين، وحتى يسحب الزمان ذيل العفاء على (فقهاء بيزنطة) الجامدين!

محمد محمد المدني

ص: 27

‌في الاجتماع اللغوي

نشأة مراكز اللغة

للدكتور علي عبد الواحد وافي

يمتاز الإنسان بصدد التعبير عن بقية الفصائل الحيوانية بأمرين: أحدهما اللغة الصوتية، وثانيهما المراكز المخية التي تشرف على مختلف مظاهر هذه اللغة (مركز إصدار الألفاظ، مركز حفظ الكلمات المسموعة، مركز الكلمات المرئية. . . الخ) فقد ثبت أن هذه المراكز ليس لها نظير في مخ أية فصيلة حيوانية أخرى حتى الفصائل العليا من القردة نفسها

فالبحث في نشأة اللغة يتطلب إذن دراسة موضوعين اثنين: أولهما نشأة الكلام في الفصيلة الإنسانية؛ وثانيهما نشأة مراكز اللغة في المخ الإنساني

وقد درسنا أول هذين الموضوعين في المقال السابق، وسنعالج ثانيهما في هذا المقال

اختلف الباحثون اختلافاً كبيراً في نشأة مراكز اللغة في الفصيلة الإنسانية

فالقائلون باستقلال النوع الإنساني في نشأته عن الأنواع الحيوانية الأخرى يذهبون إلى أنه قد خلق مزوداً بهذه المراكز كما خلق مزوداً بخصائصه الأخرى كاعتدال القامة وإدراك المعاني الكلية. . . وما إلى ذلك. ويرون أن هذه المراكز كانت في مبدأ الخلق ساذجة قاصرة؛ ثم ارتقت في بعض الشعوب حتى وصلت إلى درجة كبيرة في الدقة والنضج؛ على حين أنها جمدت في شعوب أخرى فلم تتزحزح كثيراً عن الحالة الساذجة التي خلقت عليها. ويرجع الفضل في ارتقائها إلى عوامل كثيرة منها كثرة استخدامها في وظائفها وما تمرن عليه من عادات مكتسبة واتساع الحضارة الإنسانية وارتقاء التفكير. . . وهلم جرا. فشأن مراكز اللغة في ذلك شأن أعضاء الحس وأعضاء الحركة في الجسم الإنساني: تخلق مزودة بالقدرة على القيام بوظائفها، وتظل قابلة للارتقاء في هذه الناحية ما أتيحت لها الوسائل المواتية، فإن لم يتح لها ذلك قصرت عن القيام بوظائفها أو جمدت على الحالة التي كانت عليها في نشأتها الأولى

وأما القائلون بمذهب الارتقاء وتفرع الإنسان عن غيره من الفصائل الحيوانية، فيرون أن الفضل في نشأة هذه المراكز عند الإنسان يرجع إلى الظروف التي أحاطت به في مبدأ نشأته، وإلى الأمور التي ألجأته إليها مقتضيات حياته، وبخاصة ما يتصل منها بشؤون

ص: 28

دفاعه عن نفسه. وقد اختلفوا في تصوير هذه النشأة على الرغم من اتفاقهم على الأسس السابق ذكرها. وأشهر نظرياتهم بهذا الصدد نظرية دارون التي تتلخص في أن الإنسان كان في الأصل من الفصائل المتسلقة الأشجار؛ ثم اضطرته ظروف قاهرة إلى العيش على الأرض، حيث تعرض لغارات الحيوانات القوية وسطوها عليه. فاستخدم في مبدأ الأمر في مقاومتها أنيابه وأعضاء جسمه كما كان يفعل من قبل وكما تفعل أفراد فصيلته. ولكن هذه الوسيلة كانت تضطره إلى الارتماء في أحضان عدوه فتعرض حياته الخطر. فهدته غريزة المحافظة على الحياة إلى وسيلة أخرى تدفع عنه عدوان الحيوان بدون أن تضطره إلى الاصطدام به. وذلك بأن يقذف عليه عن بعد قطعاً من حجارة أو خشب أو معدن، أو بأن يمسك بطرف عصا ويدفعه عنه أو يضربه بطرفها الآخر. وقد كان لهذا الأسلوب الجديد أثران كبيران في حياة الإنسان:

أحدهما أنه يضطره إلى الوقوف على رجلين اثنين في أثناء دفاعه عن نفسه. ومن تكرار هذه الوقفة أخذت قامته تعتدل شيئاً فشيئاً حتى استوى القسم الأعلى من جسمه مع أطرافه السفلى، وأخذت عادة المشي على أربع تضعف بالتدريج حتى انقرضت (وإن كانت تظهر في بعض مراحل الطفولة الإنسانية وفقاً لقوانين الوراثة النوعية التي تقضي بأن يجتاز الطفل في سبيله من الطفولة إلى الرجولة نفس المراحل التي اجتازها النوع في سبيله من الحيوانية إلى الإنسانية ومن الوحشية إلى الحضارة)

وثانيهما (وهو الذي يهمنا في موضوعنا) أن هذا الأسلوب الدفاعي قد أعفى الإنسان من استخدام فكه وأسنانه في الدفاع عن نفسه؛ فتعطلت هذه الأعضاء عن القيام بجزء كبير من وظيفتها ونجم عن ذلك تقلص العضلات والعظام الصدغية التي تتحرك مع الفم؛ وترتب على هذا التقلص أن اتسع مجال النمو للجمجمة، فزاد حجمها عما كان عليه؛ وباتساع حجم الجمجمة اتسع مجال النمو للمخ، فزاد حجمه ونشأت به مراكز جديدة لم تكن به من قبل، من أهمها مراكز اللغة التي نحن بصدد الكلام عنها

ولتأييد هذا الأثر الأخير، قام العلامة أنتوني بتجربة على عدد من الجراء (الكلاب الصغيرة)؛ وذلك بأن استأصل جزءاً من عضلاتها وعظامها الصدغية، وتتبع نمو جماجمها بعد هذه العملية؛ فتبين له أنها أخذت تتسع أكثر من المعتاد.

ص: 29

وقد تصدى كثير من العلماء المحدثين للتحري عن هذه الحقائق، فثبت لهم فسادها من نواح كثيرة لا يهمنا منها الآن إلا الناحية المتعلقة بنشأة مراكز اللغة. فقد ظهر لهم بهذا الصدد أن تعطيل الفك والأسنان، وإن نجم عنه اتساع في الجمجمة، لا يترتب عليه مطلقاً اتساع في حجم المخ أو اختلاف في تعاريجه أو شكل تكونه. والتجربة التي قام بها أنتوني تدل هي نفسها على صحة ذلك. فقد ظهر له أن جماجم الجراء قد انحسرت عن أمخاخها، بدليل أن الآثار التي تنطبع عليها من ملاصقتها للمخ قد انمحت. فاتساع الجمجمة الناجم عن تقلص عضلات الصدغ وعظامه لا يتبعه إذن اتساع في حجم المخ أو نشأة مراكز جديدة كما يزعم دارون

وكثيراً ما تتسع الجمجمة عند بعض الناس اتساعاً غير عادي لسبب آخر غير تقلص عضلات الصدغ وعظامه، ولكن لم يحدث مطلقا في حالة من حالات هذا الاتساع أن زاد حجم المخ أو تغيرت صورته. وعلى العكس من ذلك نمو المخ نفسه، فإنه يرغم الجمجمة على الاتساع ويشكلها بالشكل الذي يتفق مع نموه. فإن قاومته بأن كان عظم اليافوخ (حيث يتلقى عظم مقدم الرأس بعظم مؤخره، وهو الذي يكون ليناً في الصبي) قد اشتد قبل أوانه، تغلب على مقاومتها، وشق لنفسه طريقاً على أي وجه. فأحياناً يدفعها إلى الأمام فينشأ الشخص بارز الجبهة؛ وأحياناً يدفعها إلى الخلف فينشأ الشخص أحدب الرأس؛ وأحياناً يدفعها إلى أعلى فينشأ مُسَنِّم الرأس؛ وأحياناً يدفعها من ناحيتين أو أكثر فينشأ مُدَنَّخ الرأس. وهكذا فالطريق الطبيعي للارتقاء - إن كان ثمة ارتقاء - هو أن يتسع المخ أولاً وتوجد فيه مراكز لم تكن موجودة من قبل، ويتبع ذلك اتساع في الجمجمة، لا أن تتسع الجمجمة أولاً ويتبعها اتساع المخ كما يقول دارون ومن نحا نحوه

على أن الارتقائيين لم يكونوا في حاجة إلى هذه الفروض التعسفية لتعليل نشأة مراكز اللغة بطريقة تتفق مع مبادئهم. فقد كان في إمكانهم أن يذهبوا إلى أن هذه المراكز لم تنشأ من العدم، بل كانت نتيجة تطور لمراكز قديمة أو لأجزاء من مراكز قديمة. كان في إمكانهم مثلاً أن يذهبوا إلى أن جزءاً من مراكز الحركة الخاصة بعضلات الوجه قد تخصص في حركة أعضاء النطق، ومع تقادم الزمن وكثرة مزاولته لهذه الوظيفة تشكل بالشكل الذي يتفق معها واستقل عن غيره وأخذ يسير في سبيل الارتقاء حتى وصل إلى

ص: 30

الحالة التي هو عليها الآن، كان في إمكانهم أن يقولوا هذا بصدد مراكز الكلام ويقولوا مثله بصدد المراكز اللغوية الأخرى، فيتقوا معظم ما وجه إلى فروضهم السابقة من اعتراضات، ويكون مذهبهم أدنى إلى القبول وأكثر اتفاقاً مع حقائق الأمور، وذلك أنه بالموازنة بين مخ الإنسان وأمخاخ الحيوانات القريبة منه، يظهر أن مراكزه اللغوية - على فرض أنها لم تكن موجودة في أصل خلقته - كانت نتيجة تشكيل جديد لبعض المراكز الموجودة في أمخاخ هذه الحيوانات.

علي عبد الواحد وافي

ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السوربون

ص: 31

‌الأزهر والحياة العامة

للأستاذ محمود الشرقاوي

كان مفيداً وقيما ذلك الحديث الذي أفاض به صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي (للرسالة) منذ أسبوعين، واستطاع صاحب (الرسالة) أن يركّزه وأن يلخصه لقرائها في بيان واضح وفكر واضح

وكان قيماً ومفيداً ما كتبه صاحب (الرسالة) في مقاليه عن الأزهر ورجاله وأبنائه وحاله في القديم والجديد وما نرجوه ويرجو منه المسلمون في العصر الحديث

وقد أثار حديث الأستاذ الأكبر وأثار مقالا الأستاذ الزيات مثاراً من المقالات والمناقشات في الرسالة وفي غيرها من الصحف، وكان بعض ما نشر من ذلك فيه كثير من الشطط

وكان من أقوم ما كتب عن ذلك ما نشره صديقنا الدكتور زكي مبارك في مجلة أسبوعية على طريقته من الصيال

وقد حرك في نفسي حديث الأستاذ الأكبر ومقالا الرسالة وما نشر بسببهما من الآراء والمناقشات شوقاً لأن أكتب بعض الملاحظات عسى أن يجد فيها الأستاذ الكبير صاحب الرسالة شيئاً من الحق وشيئاً من الإفادة

ونحن اللذين تعلمنا في الأزهر وقضينا فيه خير الأشطر من شبابنا لا نفتأ نشعر بالحنين إليه ونديم التفكير فيه، مهما تباعد بيننا وبينه الأيام

يكتب الكاتبون وقول القائلون إن الأزهر الحاضر متأخر متخلف عن عصره وعن الحياة الجديدة في العالم، وأنه قديم في الفهم قديم في التفكير. ويكتب الكاتبون ويقول القائلون يطلبون أن يخرج الأزهر علماء كرجال الدين في أوربا، ثقافة ذهن، واستنارة فكر، وسعة عقل، ومرونة تفكير، ولياقة أداء ودعوة، وأن يكون طلبته على شاكلة ما يكون أندادهم في بلاد الغرب تهيؤاً واستعداداً

وهؤلاء الذين يقولون ذلك لاشك في أنهم مخلصون في أمانيهم، ولا شك في أن الأزهر لن يقوم بما يجب عليه في حياة مصر وتقدمها، وفي حياة الشرق وتقدمه، ولن يساهم بنصيبه وقسطه في توجيه الحياة الروحية والدينية والخلقية في الشرق (وأوشك أن أقول في العالم كله) - إلا إذا كان علماؤه كما يكتب الكاتبون، ويتمنى المتمنون، وكان طلبته كما يكتب

ص: 32

الكاتبون ويتمنى المتمنون

وقد روى عالم من أكبر علماء الأزهر كلمة للمغفور له الملك فؤاد هي نبراس ما يكتبه هؤلاء ولا نشك في صوابهم فيه

روى أن الملك فؤاد حدثه بأنه يريد أن يرى علماء الأزهر كأندادهم رجال الدين في أوربا، وأن هذه أمنية من أعز أمانيه

ولكن هؤلاء الكاتبين والباحثين ينسون أن الأمنية شئ والحقيقة شئ. ويفوتهم أن المشتهي المرغوب والمتمني المطلوب شئ والأمر الواقع الذي لا مناص منه شئ

فالأزهر ليس كجامعة اللاهوت في أوربا، وعلماء الأزهر ليسوا كرجال الدين فيها، وطلبته ليسو كطلبة الجامعات أو الدراسات الدينية فيها. ولكن هذا لا دليل فيه على أن الأزهر رجعي وأنه قديم في الفهم قديم في التفكير

فإن هؤلاء الباحثين يقيسون الأزهر ورجاله وأهله على قياس أشباههم في بلاد الغرب، ويقارنون بينهم وبين رجال الدين فيه؛ ولا شك في أن هذا القياس شطط وأنه بعيد عن الحكمة وعن الصواب

فالحياة المصرية والحياة الشرقية كلها بعيدة عن الحياة الغربية: الحياة العقلية والحياة الثقافية والحياة الأدبية وكل نوع ولون من أنواع الحيوات وألوانها وشكولها، شتان بين الشرق والغرب فيها

ومن الشطط والبعد عن الإنصاف أن نفصل بين الأزهر وبين أنواع الحياة المصرية الشرقية وألوانها وأن نقارن بينه وحده وبين أوربا. بل الإنصاف يقتضينا أن نقارن بين الأزهر وبين غيره في مصر، وأن نوازن بين الحياة العقلية والحياة الذهنية والحياة الأدبية فيه، وبين هذه الحيوات في مصر

والذين يقيمون الميزان بين الأزهر وبين أوربا نقول لهم: هل يرضيكم أن نقيم الميزان بين الجامعة المصرية وجامعات أوربا؟

وأن نقيم الميزان بين المدارس في مصر والمدارس في أوربا؟ وأن نقيم الميزان بين الحياة الأدبية والذهنية والثقافية ي مصر في أي مظهر من مظاهر نشاطها وبين نظائرها وأشباهها في أوربا؟

ص: 33

ليقل لنا الدكتور زكي مبارك، وقد خبر الجامعة والتعليم في المدارس ويعرف كلمة الحق: هل رضي عن شئ من مظاهر الحياة العقلية الأدبية والتعليمية في هذه أو تلك؟ وليقم لنا الميزان بين هذه الجامعة وهذه المدارس، أو ليقم لنا رجال الجامعة أنفسهم والمنافحون عنها والمستطيلون بها الميزان بين الجامعة المصرية والمدارس المصرية وبين جامعات أوربا ومدارسها، ليقيموا لنا ميزان العدل وقسطاس الحق ثم ليدلونا أيها الراجح وأيها المرجوح

فالأزهر يجب أن يحدد مكانه وأن يوزن نشاطه وأن تقوم المقارنة بينه وبين غيره في مصر، لأنه جزء منها ولا يستطيع أن يسير وحده ولا أن يتقدم وحده ولا أن يسبق في جيش من المتخلفين، والحياة الاجتماعية كعربة ذات عجلات أربع، الأزهر واحدة منها، ولا يمكن أن تسير عجلة من العربة فتسبق، ولو كان ذلك لما استقامت العربة في سير ولا حركة، أو هي كالكائن الحي لا يمكن أن يسبق منه عضو عضواً في النماء والحياة، وإلا كان الكائن الحي كله منتهياً إلى الهلاك والموت أو للتشويه والنقص.

فإذا أقمنا بعد ذلك الميزان بين الأزهر وبين غيره في مصر والشرق، وإذا وازنا بين الحياة الثقافية والذهنية والتعليمية فيه وبين ذلك كله في غير الأزهر من المعاهد في مصر والشرق؛ فعند ذلك يستقيم الميزان ولا نكون قد بعدنا عن الشريعة الإنصاف؛ وعند ذلك أيضاً لا نظن أن الأزهر كفته تشيل، ولا أن كفة غيره تميل، ولا أن يكون غيره الراجح وأنه المرجوح.

ومن الإنصاف أيضاً أن نقارن بين الأزهر الجديد وبين الأزهر في الماضي، حتى القريب منه، وقد أشار الشيخ الأكبر إلى هذه الملاحظة في حديثه للرسالة وفي غيره، وهي مقارنة لا تحتاج إلى كثير من الكلام

ومن العنت أن نهمل التراث الزمني والتقاليد القاسية عندما نتكلم عن تطور معهد هو بطبيعته ركن الأركان في التقاليد، بل هو الركيزة التي تثبت فيها الحياة العامة كلها فلا تنحرف ولا يجرفها التيار القوي من مغريات التجديد والاندفاع

ولا نريد بعد ذلك أن نقول إن الأزهر عظيم عظيم، ولا إنه يقوم بواجبه، ولا إن التفكير فيه والحياة الذهنية فيه والتعليم فيه مما تغتبط به النفس وينشرح له الصدر ويبشر بمستقبل الخير. لا نقول ذلك ولا شيئاً منه؛ ولكنا نقول إلى جانب هذا إن الجامعة المصرية

ص: 34

والمدارس الحكومية، وإن الحياة الذهنية والحياة العقلية والحياة الأدبية في مصر والشرق، ليست مما تغبط به النفس وينشرح له الصدر ويبشر بمستقبل الخير ما دام هذا الحال، ونريد أن نتمنى بعد ذلك ما تمناه الملك فؤاد لرجال الأزهر ومساواتهم بأندادهم رجال الدين في أوربا، ونزيد على أمانيه التمني بأن تستوي الحياة المصرية كلها والحياة الشرقية، وأن يتساوى الشعب المصري والشرق بهذه الأمم ذوات السيادة في الغرب وأن نكون لهم أنداداً في حياتنا كلها وفي نشاطنا كله

وفي حديث الأستاذ الأكبر و (تصحيح) صديقنا الدكتور زكي مبارك له، موضوع آخر نترك الكلام عنه إلى عدد قادم من (الرسالة) فقد طال بنا اليوم الحديث.

محمود الشرقاوي

عالم من الأزهر

ص: 35

‌من وراء المنظار

صاحب الديوان المجد

مجد في عمله، لا يعرف في جده هوادة؛ فإذا رأيته يقرأ جريدة من الجرائد أو مجلة من المجلات؛ فمن أعظم التجني عليه أن تحمل عمله هذا على أنه مضيعة للوقت في غير جدوى، فما هو إلا استجمام لابد منه لمن يعاني مثل عنائه المتصل؛ وإذا رايته يبدأ عمله عند العاشرة أو في منتصف الحادية عشرة، فاعلم أن ذلك من أثر إجهاده نفسه وتحامله على أعصابه في اليوم السالف، لا شئ غير ذلك؛ وإذا رأيته يتزاور عن مكتبه، فيحرق دخينة في إثر دخينة، أو يرتشف القهوة في هدوء وسكون، ويقضي في ذلك ساعة أو بعض ساعة، فترفق بهذا الجسم الذي أنهكه الجهد، ولا تأثم فتظن بصاحبه الظنون

وصاحب الديوان هذا لا يطيق أن يرى وجوه الناس، فإذا أبصر أحدهم مقبلاً، أحس كأنما عليه مكروه من مكاره الزمن فيلقاه متأففاً متبرماً، وإنه ليتمتم حين يراه بألفاظ لا أدري أيسوقها ضد القادم الكريم، أم ضد الزمن اللئيم الذي وضعه حيث يستقبل هؤلاء الذين يصرفونه عما هو فيه من جد لا يعرف معه هوادة؟!

دخلت عليه ذات يوم قبيل العاشرة، فرأيته لسوء حظي أو لحسن حظي - لست أدري أيهما الصواب - يترك مكتبه ليغادر الحجرة إلى حيث لا أعلم من الحجرات أو من الجهات؛ فحاولت أن أستوقفه مترفقاً، فاستمهلني دقيقة واحدة وهو عابس ثم ازور عني في حركة سريعة خيل إلي معها أنه يخشى أن أرجعه بالقوة إلى مكتبه!

ولبثت أنتظره في مقعد تفضل به علي أحد زملائه، ومرت اللحظات ثقالاً طوالاً ولم يعد، حتى إذا يئست من رجوعه وهممت بالانصراف رأيته مقبلاً، وجاء وفتح بعض أدراج مكتبه وأغلقها ولكنه لم يأخذ منها شيئاً ولا وضع شيئاً، وفعل ذلك دون أن يجود بنظرة علي أو أن يخطر بباله أن أحداً من عباد الله ينتظره لأمر متصل بعمله ولن يؤديه سواء!

واعترضت طريقة إذ رأيته يتأهب للخروج مرة ثانية،

وما التقت أعيننا وانفرجت شفتاي في ابتسامة هادئة عن قولي: من فضلك. . . حتى أشاح بوجهه عني مقطباً قائلاً في تبرم وضيق (عن إذنك دقيقة يا أفندم). . . ومضى وإنه لضائق بثقلي وثباتي في موضعي، وخيل إلي بل لقد أيقنت أنه عقد النية على ألا يكلمني

ص: 36

ما دمت هناك كأنه لا مفاوضة عنده هو أيضاً إلا بعد الجلاء!

وصممت من جانبي ألا أنصرف أو يكلمني، وإن أخذتني الحيرة كيف أحمله ولو على أن يلتفت إلي فضلاً عن أن يحادثني؛ ولقد كنت أرجح عودته إلا إذا غادر الديوان إلى داره وترك طربوشه حيث كان على مكتبه يحدث كل سائل عنه أنه هنا وأنه قادم بعد دقيقة، وإن تتابعت في غيابه الدقائق بل الساعات!

وجاء أخيراً فاستوى على كرسيه وفتح دفتراً كبيراً وراح ينظر فيه وعلى وجهه أمارات الجد وأمارات تجاهله وجدوي في وقت واحد ثم قطع عليه جده المصمم زميل له فأخبره أن فلاناً وفلاناً من الرؤساء استفهموا عنه، فأجاب متكلفاً عدم المبالاة أنه ما كان يلعب وأنه هلك من الجري هنا وهناك في (الأرشيف) و (المستخدمين) و (الحسابات) وتحت وفوق باحثاً عن أوراق تتصل بما في يديه من المسائل

وظللت ساكتاً لحظة، فأقبل شخص بادي الوجاهة، يطأ أرض الحجرة في صلف وينظر نظرة ذي الجاه، وفرحت إذ رأيته يتجه إلى صاحب الديوان المجد فيسأله في لهجة الآمر عن مسألة طال به انتظار الإجابة عنها؛ وتهجم له صاحب الديوان ولم يعبأ به، ولما تهدده الرجل أن يرفع الأمر إلى رئيسه، انطلق صاحب الديوان مزمجراً ونهض واقفاً يخبط المكتب بقبضة يده عدة مرات حتى لقد أشفق ذلك الرجل أن تمتد واحدة منها إلى صدره أو إلى بطنه فتراجع قليلاً، وقد تطايرت الأقلام من مكامنها، وسال المداد من المخابر، وتناثرت الأوراق، وزلزلت الدفاتر، وخشعت الأصوات في جوانب الحجرة، والتفت أصحاب الديوان يتفرجون على عاصفة جديدة كم رأوا قبلها من عواصف؛ وانطلق لسان المجد الثائر بعبارته المألوفة:(يا أفندي أنت بتهددني؟ من فضلك ما تعطلنيش يا أفندي. . . أما شئ غريب والله. روح اشتكي زي ما أنت عاوز. . . هو أنا فراش عندك؟ الواحد طول النهار هلكان من العمل وجاي حضرتك تفلقنا؟)

ولم يكن لي بعد هذا الذي رأيت إلا الجلاء بلا قيد ولا شرط، وقد أصابني من دوار العاصفة ما زعزع إيماني بقوتي، ولم لا أقرر الحق فأقول: إني منذ أن رأيت أهاويل الشر في وجه صاحب الديوان قد رضيت من الغنيمة الإياب؟

(عين)

ص: 37

‌في سبيل الأزهر

للأستاذ عبد العزيز محمد عيسى

أعتقد أني لا أتجاوز الحقيقة حين أقول إن كلمات الأستاذ الزيات تنزل برداً وسلاماً على قلوب المخلصين للأزهر؛ وإنهم يرون فيها بريقاً من النور يضئ لهم سبيل الإصلاح فيما يبتغون للأزهر من إصلاح.

وللرسالة في الأمة المصرية وفي الشرق الإسلامي جميعاً مكانتها السامية الممتازة التي تجعل لكل ما تعالج من موضوعات أهمية خاصة، لا يستطيع أحد معها ألا يعطيها ما هي حقيقة به من التقدير والعناية

لذلك كانت دعوتها لإصلاح الأزهر جديرة بألا تمر كغيرها من دعوات الإصلاح، وكانت جديرة بأن يتجاوب صداها في أجواء الأزهر مدوياً عالياً، فيردده رجاله عارضين صوراً من أدوائه راجين أن تعالج علاجاً ناجعاً، حتى تنحسر عنه ولا تنتقل عدواها إلى أبنائه الناشئين.

الأزهر من غير شك محتاج إلى الإصلاح في كثير من نواحيه، والأزهريون الآن متطلعون إلى من يداوي ما يحسون به من علل ليست من صنيعهم ولا يد لهم فيها، وإنما انحدرت إليهم مع الزمن ميراثاً ثقيلاً؛ وما دامت النفوس مستعدة والنيات خالصة فسيأتي اليوم الذي ينفض فيه الأزهر عن نفسه كل ما يشوه جماله أو يسئ رسالته

وإن من البشائر التي تطمئن على نجاح هذا السعي ونفاذ هذه الدعوة إلى القلوب، اشتراك الأزهريين أنفسهم في معالجة هذه العيوب ومحاولة التخلص منها؛ ولن يقدر أحد على إصلاح الأزهر كما يقدر عليه أبناء الأزهر؛ فقد حاولت ذلك حكومات فيما مضى فلم يتأت لها ما تأتى لابنه البار (محمد عبده) ولم يقدر أحد على ما قدر عليه في هذا الشأن مع ما وضع في سبيله من عراقيل وما أرجف به عليه من ترهات وأكاذيب؛ لأن دعوة الحق لابد أن تجد سميعاً ولا بد أن تتغلغل في النفوس وأن ينصرها - من حيث لا يشعر - أولئك الذين يعملون جاهدين على كيدها والصد عنها، ودعوات الإصلاح يخدمها خصومها كما يخدمها أنصارها

وها قد أصبح يؤمن بمبادئ الأستاذ الإمام ويتتبع مناهجه، ويدل بذلك حتى صار من فخر

ص: 39

الرجل في الأزهر الآن أن ينتسب إلى الأستاذ الإمام تلميذاً أو مسترشداً أو صديقاً، بعد أن كان في حياته هدفاً لسهام الطاعنين ونبال الحاقدين.

وفي يد الأزهر الآن فرصة ثمينة لا يسوغ له أن يضيعها أو يهمل استغلالها، هي قيام الإمام الثاني الأستاذ المراغي على رياسته وتوجيهه، ومن ورائه في ذلك طائفة من المخلصين للأزهر المقتنعين بفكرة الإصلاح قرأت خطبه وأحاديثه ودرستها دراسة فاحصة ممعنة فاتخذت لنفسها وجهة الخير منها، وحرصت أن تهتدي إلى طريق النجاح بها. ولست أحب أن أسمي هؤلاء كما سماهم الأستاذ الزيات (شباب المراغي) فإن روح المراغي لم تكن قاصرة على التأثير في شباب فحسب، وإنها لأشد قوة وأبعد أثراً من ذلك فقد أثرت فعلاً في شيوخ قد جاوزوا عهد الشباب وخلفوه، فأجدر بنا أن نسمي هؤلاء وهؤلاء (مدرسة المراغي)

ولسنا نلقي هذا الكلام على عواهنه فإن الأستاذ المراغي حينما خطأ خطوته الجريئة في إصلاح بعض القوانين المتصلة بالأحوال الشخصية وقف في طريقه إذ ذاك كثير من العلماء، وعلى رأسهم عالمان فاضلان ألفا رسالة ذكرا فيها أنه لا يجوز الخروج عن المذاهب الأربعة التي أجمعت عليها الأمة؛ فهل تدري أيها القارئ أنهما الآن يعملان عضوين بارزين في لجنة الأحوال الشخصية التي لا تقف فيما تختار عند المذاهب الأربعة! أليس هذا أثراً لروح المراغي واستجابة لرجة الإصلاح التي يستوي عندها الشيب والشباب؟

هذه المدرسة الصالحة يعلق عليها الأزهر الحديث آمالاً جساماً وتنتظر منها الأمة نهضة قوية تساير نهضتها في كل نواحي التقدم؛ تنتظر منها أن تخرج للناس كتباً واضحة الأسلوب جديدة المعنى خالية من التعقيد والغموض، وأن نفهم الجو المحيط بها فهماً صحيحاً فلا تكتفي بالعيش في ظلال كتب تمثل عصوراً خلت، ربما كانت هذه الكتب صالحة لها موفية بحاجتها، وهي الآن عاجزة عن حل المشاكل التي تعترض الناس في معاملاتهم ونظم حياتهم؛ تنتظر منها اشتراكاً فعلياً في توجيه الثقافة القومية في البلاد، في الأحاديث التي تذاع، والمقالات التي تنشر، والمحاضرات التي تلقى، وفي تعليم الشعب وإرشاده بأسلوب لا يجافي روح العصر الذي نعيش فيه؟ فقد مضى عهد الجمود والوقوف

ص: 40

عند النصوص من غير مراعاة لروحها وظروف أحوالها والعوامل التي أثرت فيها، تنتظر منها كذلك أن تبين بالعمل لا بالقول أن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان حتى ينخلع من أذهان الواهمين ما اعتقدوه من تنافر الدين مع ألوان الحضارة ومجافاته أساليب الرقي العلمي والفكري

إن الأمة تضع الأزهر في مكان القيادة منها، أو هي ترجو ذلك فيه؛ فليعرف هذه المنزلة وليحرص عليها، وليعمل على الاحتفاظ بها، ولا يمتعض رجاله من كلمة الحق تقال في صراحة سافرة على منبر عام أو خاص، فإنها إنما بإخلاص لمصلحة الأزهر وخيره، والإبقاء على منزلته ومكانته

إن النفور من دعوة الإصلاح، والهرب من مواجهة العلل وإغماض العين ولوى العنق سياسة غير صالحة في هذا العصر، وإنه لا يكفي أن تقنع في نفسك بأنك خير الناس ليعتقد الناس فيك هذا، ولكن يجب أن تبرهن لهم عملياً على ذلك وتشعرهم بأنك تحس بإحساسهم وتفكر في حل مشكلاتهم، ولعلنا ننتفع بما أرشد إليه أستاذنا الأكبر في خطابه الأخير من قوله:(إني أرحب بالنقد البريء، وأنصح لكم ألا تضيق به صدوركم، فإن كان حقاً فاشكروا الناقد وأعملوا على الخلاص من الخصال التي كانت سبب النقد، وإن كان غير حق فادفعوه بالحسنى وأظهروا براءتكم مما وجه إليكم)

لقد كان للأزهر فيما مضى موقف سلبي فيما يتصل بتنظيم الفقه وتحويره وتعديله للانتفاع به في القانون والتشريع؛ ومازال هذا الموقف السلبي وصمة في تاريخ الأزهر، تغمض العين منها على قذى موجع، وتنطوي الأحشاء منها على ألم ممض؛ ولقد كان من أثر هذا الموقف المعيب الذي حرص أصحابه عليه (تورعاً) فيما زعموه أو فيما زعم لهم بعض الناس، أن تحاكم المسلمون إلى غير شريعتهم، وألزموا بغير قوانينهم، وهو ما نأسف له جميعاً؛ فهل يكون موقف العلماء اليوم كموقف أسلافهم بالأمس؟ أو هم مستعدون لإصلاح هذا الخطأ وإقناع الناس بأن الشريعة الإسلامية السمحة غير عاجزة عن مسايرة المدنية في أجلى مظاهرها، وإدراك غاية الإصلاح الاجتماعي وتلبية حاجاته ومطالبه، فيصدروا في فقههم عن هذه الروح التي لا تغفل ما جدّ للناس من نظم ومعاملات؟

إن اليوم الذي يخرج فيه العلماء للناس بهذه الفقه النافع لهو النصر الذي يتمناه المسلمون

ص: 41

جميعاً؛ وهو اليوم الذي يصل فيه الأزهر - كما يقول الأستاذ المراغي - إلى الغاية التي يرجوها من أداء الرسالة الإسلامية على الوجه الملائم لطبيعة العصر وعقلية الناس

وكم نرجو أن يتحقق ذلك في هذا العهد المبارك لنمحو من الأذهان موقف السلبيين، وليشهد التاريخ أن الأزهر في عصر فاروق غيره في عصر إسماعيل، وأنه على عهد المراغي غيره كذلك على عهود من سبقه من الشيوخ

عبد العزيز محمد عيسى

مدرس بمعهد القاهرة

ص: 42

‌إذا شبت الحرب في البحر الأبيض

للأستاذ فوزي الشتوي

خطوة متوقعة

لا تعتبر الخطوة التي اتخذتها الأميرالية البريطانية بإخلاء البحر الأبيض المتوسط من سفنها التجارية خطوة مفاجئة، فقد تنبأ رجال البحرية منذ سنين بأن خطة إنجلترا إذا اشتعلت الحرب لن تخرج عن ثلاث وسائل

أولها - إغلاق البحر الأبيض المتوسط إغلاقاً تاماً ومنع الملاحة فيه، على أن تترك بعض السفن الحربية الخفيفة للدفاع عن شواطئ البلاد الموالية للحلفاء.

ثانياً - أن تسير الملاحة في طريقها الطبيعي، على أن تقسم حماية طرق الملاحة بين الأسطولين البريطاني والفرنسي، فيتولى الأسطول البريطاني حماية الجزء الشرقي، ويتولى الأسطول الفرنسي حماية الجزء الغربي

وثالثاً - الالتجاء إلى خطة وسط، وهي تقضي بإخلاء البحر الأبيض من الأساطيل التجارية وحدها، مع إغلاق جبل طارق وقنال السويس وعدن في البحر الأحمر، وتوجيه قوات الحلفاء إلى القضاء على القوات المعادية

ويظهر من التدابير التي اتخذتها إنجلترا أخيراً أنها ستنفِّذ إحدى الخطتين الأولى أو الثالثة؛ فإذا طال أمد الحرب أخليت جزيرة مالطة؛ فإن قربها من مواقع إيطاليا الحربية مع صغر مساحتها بجعلها قاعدة جيدة للهجوم

اتفاقات سرية

ونظرة واحدة إلى خريطة البحر الأبيض المتوسط والمواقع الحربية التي تسيطر عليها الدول المتحاربة تبين خطورة الموقف وما يكفله الصراع لتأمين مواصلاته من تضحيات غالية، فلإنجلترا وفرنسا مواقع بحرية كثيرة انتثرت في أخطر مواقعه ممتدة من شرقه إلى غربه، ومن جنوبه إلى شماله، بحيث يتيسر لقوات هذه الجهات التحكم في جميع طرق الملاحة، فضلاً عن سيطرة إنجلترا على أبوابه في جبل طارق وفي قنال السويس. أضف إلى ذلك ما يقال عن وجود اتفاقات سرية تضع موانئ الدول المحايدة تحت تصرف الحلفاء

ص: 43

أما إيطاليا فطبيعة موقعها الجغرافي تشطر البحر الأبيض إلى شطرين: الجزء الشرقي والجزء الغربي. والقسم الأخير شديد الخطورة نظراً لكثرة مواقع إيطاليا البحرية عليه، ولأن شواطئها تكون جزءاً منه يمتد من ميناء جنوة بطول الساحل الإيطالي حتى جزيرة صقلية إلى جزيرة بنتلاريا التي تقف في وسط المضيق فتتحكم في طرق الملاحة

تونس

ولا يضايق هذا الخط إلا شاطئ الإفريقي في تونس، وقد أنشأت عليه فرنسا ميناء بيزرت؛ ولعل هذا الوضع يوضح خطورة مطالبة إيطاليا بتونس التي تجعل خطها مقفلاً لو تيسر لها الاستيلاء عليه، ويساعد هذا الخط المواقع البحرية التي أنشئت على جزيرة سردينيا الإيطالية، فلا يقتصر تهديده على مواصلات البحر الأبيض بين شرقه وغربه، بل يتعدى إلى تهديد خطوط المواصلات بين فرنسا ومستعمراتها في أفريقيا

وهذه المواصلات هامة جداً في نظر فرنسا، لأنها الطريق القصير لنقل قوات المستعمرات إلى فرنسا لتغذية قوات خطماجينو، ولم تغفل فرنسا خطورة مواقع القواعد الإيطالية، فأعدت في قورسيقا مينائين خطيرين لهما من حصانتهما ما يكفل إفساد الخطط الإيطالية. وقد اشتغل فيما أمهر المهندسين الفرنسيين، حتى جعلوهما من أمنع المواقع؛ وما زالت أسرار دفاعهما وهجومهما سراً محظوظاً في صدور منشئيهما؛ ولم تتح زيارة بعض مواقعهما إلا لصحافي واحد لم يخرج من زيارته لهما إلا ببعض معلومات زهيدة وصور شائعة.

ولا يسع الباحث أن يتجاهل موقف أسبانيا في هذا الصراع فإن حكومتها الحالية وليدة الأطماع الدكتاتورية في إيطاليا وألمانيا ولها جزر الباليار التي قيل أثناء الحرب الأهلية الأسبانية إن إيطاليا أعدتها لقطع مواصلات فرنسا مع مستعمراتها؛ فإذا انحازت إلى جانب الدكتاتورية، فإن الخط يتضخم، على أنه لن يحد من نشاط الحلفاء، فيسهل تحويل طرق الملاحة إلى المحيط. ولن تستطيع القوات المعادية أن تقترب من الشواطئ الإفريقية لخطورة المواقع البحرية التي أنشئت عليها بطول الساحل من المرسى الكبير إلى بيزرت.

الحصر الاقتصادي

ص: 44

ولاشك أن الحلفاء سيتخذون إقفال البحر الأبيض وسيلتهم لتجثو الدولة المعادية على ركبتيها؛ وأول نتائج هذا الإقفال عزل إيطاليا عن مستعمراتها في شرق أفريقيا وفي شمالها؛ وبهذا الحصر تخسر إيطاليا 86 ? من ملاحتها خسارة لا يمكن الاستعاضة عنها، لأنها لا تملك شواطئ على غير البحر الأبيض، بينما تتمتع فرنسا بشواطئها على خليج بسكاي، وعلى بحر الشمال

وعدد البواخر التجارية التي تصل أو تغادر إنجلترا يومياً 815 سفينة، متوسط حمولة كل منها ثلاثة آلاف طن يخترق منها البحر الأبيض 57 سفينة فقط يحول طريقها إلى رأس الرجاء الصالح. وتخسر فرنسا 20 ? من بترولها الذي تستورده من العراق، ولكن خسارة إيطاليا في هذا المادة الأساسية للحرب خسارة فادحة. فهي تستورد من العراق 70 ? من البترول الذي تستهلكه وهو يرد إليها عن طريق جزئه الشرقي ومركزها فيه أضعف من مركزها في الجزء الغربي، فليس لها فيه إلا خط مشاغب يبدأ من جزيرة ليروس في جزر الدودكانيز، وينتهي في طبرق. وقد أعدت هذه الموانئ لتكون قواعد جوية للطائرات وقواعد بحرية للغواصات

ولكن هذين الموقعين مهددان بمواقع الحلفاء وخصوصاً من جزيرة قبرص، التي فاقت جزر الدودكانيز في صلاحيتها للاستعدادات العسكرية من مطارات برية وبحرية ومن قواعد للأساطيل البحرية. وهي لا تبعد عن جزر الدودكانيز إلا 220 ميلاً تقطعها قاذفات القنابل في أقل من ساعة

قبرص والإسكندرية

ولميناء حيفا أهمية خاصة في نظر الحلفاء، ففيها تنتهي أنابيب البترول العراقي، ولكن طبيعة أرضها لم تعدها لتكون ميناء حربياً جيداً. فاتخذت الاحتياطات للدفاع عنها من قبرص والإسكندرية فبعدهما عنها قصير، وهي تمثل الزاوية الثالثة من مثلث ضلعه من قبرص إلى الإسكندرية يواجه الخطر الأجنبي.

وإذا نشبت الحرب فإنه ينتظر أن تصبح الإسكندرية قاعدة الأسطول البريطاني، فإن جزيرة مالطة لا تصلح في رأي الخبراء البحريين لحرب طويلة الأمد، وإن كانت في أول

ص: 45

الحرب تتخذ كقاعدة خطيرة للهجوم على مواقع الدولة المعادية، فهي لا تبعد عن صقلية إلا عشرين دقيقة بالطائرات. وأكبر عيوبها ضيق مينائها مما لا يساعد على الحركات البحرية

ويختلف رجال البحر ورجال السياسة إزاء إخلاء هذه الجزيرة، فيدعى فريق أن إخلاءها يحط من هيبة إنجلترا في نظر حلفائها، ويرى الفريق الآخر أن إخلاءها هو الخطوة الأولى لنصر محقق، وخصوصاً إذا تم هذا الإخلاء من بدء الصراع، لأن التجاء الأسطول إليها يجعله في مركز حرج ويعرضه للهجمات المعادية، ويرون الاستعاضة عنها بميناء الإسكندرية التي تعتبر أصلح، ولا سيما بعد التحصينات التي أضيفت إليها.

كوروفو والادرياتيك

وقد يظن البعض أن بحر الإدرياتيك يصبح بحيرة إيطاليا الحصينة، وخصوصاً بعد ما استولت على ألبانيا، فقبضت بذلك، على مدخله من الجانبين، ولكنه يقال إنه توجد اتفاقات سرية مع يوجوسلافيا واليونان تقضي بوضع موانيهما تحت تصرف أساطيل الحلفاء، ومعنى ذلك سهولة مهاجمة سواحل إيطاليا المكشوفة من الغرب، كما يسهل على موانئ فرنسا مهاجمة شواطئها الشرقية من تولون ومرسيليا وأجاكسيو وغيرها. أضف إلى ذلك وجود جزيرة كورفو القريبة من هذا المدخل، وبواسطتها يسهل حصر أسطول الإدرياتيك الإيطالي.

ويجمع الرجال العسكريون على أن دخول إيطاليا الحرب بفتح الطريق أما قوات الحلفاء لمواجهة قوات ألمانيا، سواء من إيطاليا أو من يوجوسلافيا، إذ يهاجمون النمسا من المقاطعة المعروفة باسم سلوفانيا وحصون ألمانيا من ناحيتها أضعف منها في أي مكان آخر. أضف إلى ذلك أنه يتيسر لهم جعل حصارهم الاقتصادي فعالاً؛ فإن إيطاليا ودول البلقان هي أكبر ممول لألمانيا، والغالب أن يجر دخول إيطاليا الحرب إلى حرب عامة تحرم المحور من خاماته سواء كانت حربية أم مدنية فتجوع بطون الرجال، ويبطل عمل الأدوات من مدافع وطائرات ومدرعات

فوزي الشتوي

بكالوريوس في الصحافة

ص: 46

‌ريفية!

عَرَّافَةُ الزَّهْر. . .

(السنبلة)

للأستاذ محمود حسن إسماعيل

سَمِعْتُ مِنْ سُنْبُلَةِ القَمْحِ

أُنْشُودَةً تَبْكِي عَلَى السَّفْحِ

لَا دَمْعُهَا دَمْعِي! وَلا نَوْحي

مِمَّا أذَابَتْ فِيهِ حُزْنَ الحُقُولْ

وَأَتْرَعَتْهُ مِنْ شُجُونِ الأَصِيلْ

فَغَابَ فِي أَوْتَارِها وَانْطَوَى

حَفِيفَ أحْلَامِ بَوادِي الهَوَى

اسْتَلَّ نَارَ الشَّوْقِ مِنْ جُرْحى

وَبَعْثَر الآهَاتِ فَوْقَ السُّهُولْ!

فَقُلْتُ: يَا مَخْضُوبَةَ الرَّأْسِ

بِذَائِبٍ مِنْ وَجْنَةِ الشَّمْسِ

يا خَمْرَةً مَخْبُولَةَ الكَأْسِ

دَارَتْ عَلَى الدُنْيَا بِعَذْبِ الرَّحِيقِْ

وَخَلَّفَتْ عَاصِرَهَا فِي الطَّرِيقْ!

عَلَامَ تْبكيِنَ؟ أَلِلْبَاِئسِ. . .

غَارِسِكِ المُسْتَضْعَفِ التّاعِسِ؟

أَمْ قَدْ نَقَلْتِ الشَّجْوَ عَنْ نْفسِي

وَشَجْوَهَا كالبَحْرِ طَامٍ عَمِيقْ!

قَالَتْ ولَمْ تَسْمَعْ صَدَىَ شِعْرِي:

إِنِي هُنَا عَرَافَّة الزَّهْرِ

أبْحَثُ في الكُثْبَان عَنْ سِرِّ

أَشْتَقْتُ بِهِ الفَلاحَ كَفُّ الغُيُوبْ

ص: 48

وَهَا أَنَا يَطْوِى حَيَاتِي المَشِيبْ

وَلَمْ أَزَلْ أَبْحَثُ عَنْ حِكْمَتِه!

عَلامَ بَاري الخُلْد في جَنَّتِهْ

يأتِي لَهَا عُريَانَ فِي الفَجْرِ

وَيَرْتَدِي ألاكْفَانَ عِنْدَ المَغِيبْ

-

ص: 49

‌سمفونية شعرية

مع الماضي. . .

إنني أحلم وحلمي هو الماضي. . .

// لازلت أذكرك ووراءك موسيقى آتية من مكان لا أراه. . . أدواح متباعدة، وأرض

مخضوضرة. وليس هناك إلا أنا وهذه الموسيقى، وخيالك بارزاً من الماضي إليَّ!

أين ليالينا والظلام. . .

إن صدرك ما زال يضطرب، والهواء البارد يرطب وجهك وعنقك؛ وصوتك الخافت

اللاهث يردد أنشودة الحب في الليل

إنني أحلم وحلمي هو الماضي

لقد عشنا معاً، أياماً وليالي. . .

كنت معي: شعرك المرسل يرف علي، ويداك الدقيقتان تبحثان عن لا شئ

آه. . . .

رأيتك في ثوبك الأبيض ذات أمسية بعيدة؛ وكنت صامتة مجهدة، وكان في صمتك نداء

يوم مقبل

وجاء اليوم بطيئاً كخطى العذارى. وكنت لا تتكلمين، فأخذت بيدك وسرنا جنباً إلى جنب

حيث لا أدري. ولم أسألك إلى أين. لقد كنت حالماً أسبح خلف الضباب. إلى أين كنت ذاهبة يا ساحرة؟ كنت مشغولاً بك عن كل شئ

جلسنا نسترجع حلماً حلمناه منذ أزمان

وتحت المصباح الخامد وصدرك إليَّ سألتك: أتحبينني؟ فقلت: نعم

وفي أذنيَّ المفعمتين بألحان الغاب وأنات السواقي، استطاعت كلمتك أن تحيا هادئة

واضحة كماء البحيرة وسط الشجر الأَلفّ

(م. وهبة)

ص: 50

‌الأدب في الأسبوع

نجوى الرافعي

أيها العزيز!

(في القلب تعيش الأرواح الحبيبة الخالدة التي لا تَفنَى وفي القَلبِ تُحْفَرُ القبورُ العزيزة التي لا تُنسى)

هكذا قلت (وعواطفي تشيِّع الميت الحبيب مطرقة صامتة) واليوم ماذا أقول؟ أما إنك لتعلم - أيها الحبيب - أن الذي بيني وبينك دنيا تمشي الأحزان في أرجائها نائحة باكية. . . لستُ أكفر بأنعم الله عليَّ أو عليك. . .، كلا، كلا!! لقد ذهبتَ إلى ربك راضياً مرضياً فرحاً بلقائه، مؤمناً بما زَّين في قلبك من الإيمان، وبقيتُ أنا لأبحث عن أحبابي بعدكَ،. . . لأفقِد لذَّة المعرفة التي يفيض فيضها من الصداقة والحب،. . . . لأتلدَّدَ هاهنا وهاهنا حائراً أنظر بمن أثق،. . . لأجدَ حَرَّةَ القلب وكَمد الروح وألمَ الفكر من حبي وصداقتي،. . . لأسير في أوديةِ من الأحزان بعيدة: أمشي وحدي، وأبكي وحدي، وأتألمّ وحدي. . . لا أجدُ من أنفُضُ إليه سرَّ أحزاني،. . .

ذهبتَ وبقيتُ. . . لأتعلَّم كيف أُنافق بصداقتي بعضَ النفاق لأنهم يريدون ذلك. . . لأُجيد مهنة الكذب على القلب لأنهم يجيدون ذلك،. . . . لأتعلَّم كيف أنظر في عيونهم بعينين لئيمتين يلتبس في شعاعهما الحب والبغض، لأنه هو الشعاع الذي يتعاملون به في مَوَداتهم،. . . لأفْنِيَ بقائي في معانيهم المتوحشة إذ كانوا هكذا يتعايشون،. . . لأحطم بيدي بنيان الله الذي أَمرنا بحياطته، وأتعبد معهم للأوثان البغيضة الدميمة التي أنشأتها أيديهم المدنسة القذرة،. . . لأجنِي الثمار المرّة التي لا تحلو أبداً ولكنهم يقولون لي: هذا ثَمَرٌ حُلْوٌ، فلماذا لا تأكل كما يأكل الناس؟

ذهبت - أيها الحبيب - وبقيت. . .، في الحياة التي أولها لذةٌ وآخرها لذْعٌ كأحرِّ ما يكون الجمر حين يتوهج، بقيتُ للحياة التي تريد أن تسلبَ القلبَ براءةَ الطفولة لنملأه إثماً وخداعاً وشهوةً. . . بقيتُ على الحياة في الأرض التي تميد وترجف وتحتدم من تحتي، لأنها تنكر الإيمان الذي يمد بسبب إلى السماء. . . بقيتُ بقاءَ حبة القمح في رمال الصحراء المجدبة لا أجد مائي ولا تربتي. . . ولا من يزرَعُني. . .

ص: 51

شدَّ ما اختلفتْ عليَّ أحداث الحياة من بعدِكَ أيها الحبيب!

كنتُ أشكو إليك ما أُلاقي من ظمأ الروح الهائمة، وهي تطوف بحسراتها على ينابيع الحياة لا تنتهي ولا تستطيع أن ترِدَ. . . كنتُ أبثّك كأحزاني وهي جالسةٌ توقِد النارَ على نفسي وتؤرِّثها بأفكاري القلقة التي لا تهدأ ولا تنقطع. . . كنتُ أشكو إليك آلامَ الشَّوْكِ الذي تنْبِتُهُ في قلبيَ الشكوك العاملةُ الناصبة التي جعلتْ همَّها تعذيبي بالحيرة والخوفِ والحرمان. . . والحقيقة المؤلمة أيضاً. . . كنتُ أجدكَ حين ينبغي أن أجدَك، لأقول لك ما يجب عليَّ أن أقول. . .

شدَّ ما اختلفتْ علي أحداثُ الحياة من بعدك أيها الحبيب! وهاأنذا أريد أن أجدَ بعدكَ من أضعُ في يديه الرفيقتين هذه الجروح الدامية النابضة التي أسمِّيها قلبي. . . أريد أن أضع أفكاري التائهة في بيداءِ الظنون المغفرة، بحيثُ تجدُ مَن يتولى أمر إرشادها إلى رَوضَة اليقين الناضرة. . . أريد أن أجدَ مَلْجئ المؤمن حين تطارِدُني من الظنِّ صعاليكه الكافرة. . . أريد أن أعرف لذَّة الصداقة والحبِّ حين لا أجدُ من الحياة إلاَّ آلام صداقتي وحبي. . أريد. . أُريدُ!. . . أُريدُ مَنْ أقول له: ها أنذا بعذابي وضَعفي وخُضوُعي؛ فيقول: وها أنذا بصبري وقوَّتي وحبي لك. . أُريد من أقولُ له: هذه جروحي التي تَنْفُثُ الدمَ لا ترقأُ ولا تستريحُ ولا تبرأ إلا على وعي من دَمِها؛ فيقول لي: وهذا طِبِّي الذي يحسمُ هذا الدم لتستريحَ وتبرأَ من أَلم النزيف، يا بنيَّ. . .!

(يا بني. . . .) هذه طفولتي، أريد من يحنو علي بها حنو الأم على صغيرها الذي هو كل أشواقها الرقيقة من قلب نبيل رقيق. . . (يا بنيَّ. . .)، هذه طفولتي، أريد من يمسح بها أحزاني التي حيَّرت بصري لأعرف من بعد طريق رجولتي التي تريد أن تعمل وأن تسير وأن تصل إلى سر أشواقها البعيدة الجميلة. . . (يا بنيَّ. . .)، هذه طفولتي، أريد من يعرف أني طفل وديع حين أؤوب من كدي وكدحي، فيتلقاني بين ذراعيه إلى قلبه لأشعر بحنان من الروح يطفئ غُلتي، ويرسل في أعصابي ريها من الحب، الحب الذي هو فجر الحياة بنعومته ورقته وطهره، الحب الذي يرد القلب الظامئ زُهرة تتفتح في جو من النور والندى والشباب. . . (يا بني،) من يقولها لي يضع في نبض أحرفها نبض الحب. . .

أين أنت أيها الحبيب؟ كنتَ أخي وصديقي ومن أستودعه سر قلبي المعذب في تنور الحياة

ص: 52

المتوحشة التي يضطرم جوها بالصمت المتوهج والوحدة المستعرة. . . كنت أخي وصديقي، وأنا أبيد كما تبيد الأيام والليالي في كهوف الحياة الدنيا. . . كنت أخي وصديقي، وعواطفي تزأر وتجأر في باطني كأنها وحش جريح متألم ثائر لا يرى من جرحه لينتقم. . . فالآن وقد جددت الدنيا أساليب تعذيبي عذاباً ضعفاً من الآلام. . . الآن وقد أوجدتني الحياة ما أريده، ثم وضعت بيني وبينه سداً يصف ما وراءه من أشواقي ويقف دوني فلا أنفذ منه. . . الآن وأنا أشتعل وأتفانى من جميع نواحي. . . الآن وأنا أتوثب في قيود مرخاة تمنحني الحركة وتمنعني دون الغاية. . . الآن وأنا أمزق جو حياتي بزئيري وأنيابي ومخالبي، وأحرقه بوجدي ولوعتي واشتياقي. . .

الآن أين أنت أيها الحبيب؟ يا أخي وصديقي

أنظر إلي - أيها الحبيب - من وراء هذه الأسوار المنيعة التي تفصل بين الحياة والموت. . . الأسوار التي تمشي إليها الحياة كلها ساعة بعد ساعة دائبة لا تقف، فإذا بلغتها ابتلعتها من حيث لا تشعر ولا تتوقَّعُ. . . انظر إليَّ - أيها الحبيب - وتكلَّم بكلامٍ من شعاع مضيءٍ حيٍّ يُفهمُني حقيقتي الحية، ويضئ لعيني هذه الظلمات التي تعتبرك بين يدي في مد عيني. . . انظر إليَّ - أيها الحبيب - وأسكبْ في قلبي وروعي حقيقة الإيمان الحيّ الذي لا يموت. . . أنظر إليَّ واصحبْني فأنا الذي لا يصاحبُ الأحياء من الناس، لأنهم لا يعرفون معنى الحياة إلا فائدة تلد فائدة، كما يلد بعضهم بعضاً في مشيمة من الكره والعنت وآلام المخاض وأمشاجٍ من الدم يشخب من حولها ويتضرجُ ويقبحُ بعضه في بعض

ولكن. . . ولكن ما أكذب النَّفس على النفْس! أنت هناك بحقيقتك الخالدة التي تحيا بأمر الله في جو السماء، وأنا هنا بحقيقتي الفانية التي تموت يوماً بعد يوم بأمر الله في جو هذه الأرض. . . أنت هناكَ وأنا هنا، بينهما البرزخ الذي لا تجوزه الروح إلا بعد أن تتطهر من أدران هذا الدم المتجسِّد في أجلاد الإنسان. . . أنت هناك وأنا هنا، فكيف أنخلعُ من ثروتي التي أنا بها أنا؟ كيف أنخلع من جسدي؟ ومع ذلك. . .

(ففي القلب تعيشُ الأرواح الحبيبة الخالدة التي لا تفنى وفي القلب. . . تحْفَر القُبُور العزيزة التي لا تُنسى لم أفقدكِ - أيها الحبيب - ولكني فقدتُ نفسي)

ذكرى الرافعي

ص: 53

لستُ أدري! فأنا أذكر الرافعي. أعرفهُ أدبياً شاعراً فيلسوفاً. . . رجلاً قد انصرف بهمّه إلى الأدب والفكر يجيدُ فيما ما يجيد، ولكني حين أذكره لا أجده في نفسي إلا الصديق وحده. لم أعاشره طويلاً حتى أقول إني أعِي للناس خبره وأعرف عنه ومن أمره مالا يعرفه غيري، كلا لست أدعي ما ليس عندي ولكني كنت أبداً معه بحبي له وصداقتي، وكان هو أبداً يحوطني بروحه في أنفاس من حنانه وحبه. كنا روحين تناظرتا من بعيد وتناسمتا من قريب فعرفته وعرفني. كان بيننا سرٌّ جامعٌ لا أدري كيف أصفه، ولكن كان من يعرفني ويعرفه يجد آثاره ويرى من بعض بيناته ما لا أُحبُّ أن أحدِّثَ به. ومع ذلك فأنا أقصر في حقه ما لم يقِّصر أحد ممن توجبُ عليه الصداقة بعض واجباتها، ولم يكن ذلك، لأني لا أريد، بل لأني لا أستطيع ولا أطيقُ. فما زالت كلما ذكرتُ الرافعي - وقد مضت سنوات - أجد لذعةَ حُزن في قلبي تُرسل آلامها في كلّ سابحة من دَمِي

ولكن الله لم يُخلِ حقَّ الرافعي من رجُلٍ يقوم عليه ويحسن النظر فيه، فهيأ له الأخ (محمد سعيد العريان) يردُّ - بوفائه لذكرى الرافعي - كل ما وجب على أصدقاء الرافعي وأبنائه وتلامذته والمتبعيه. فقد بادر (سعيد) بعد وفاة الرافعي، فأنشأ يحث الناس أخباره ما دق منها وما جلَّ، ويضع بين أيدي الأدباء أكثر العوامل التي يتكون منها تاريخ الرافعي، والتي كانت تعمل في إنشاء أدبه وتوجيه بيانه. وفتح (الزيات) باب القول في الرافعي له وعليه حتى اجتمعت من ذلك طائفةٌ من القول صالحةٌ لدراسة أدب الرافعي دراسة جيّدة لمن ينصبُ نفسه لها. ولكن الأخ (سعيد) لم يرض أن يقنع بما كتب هو عن الرافعي وجمعه في كتابه الذي طبعه بعد وسماه (حياة الرافعي)، فدأب على إظهار ما لم يظهر من آثار الرافعي قديمها وحديثها، وقد كان آخر جهد بذله في ذلك سعيه لإنقاذ مؤلفات الرافعي كلها من الضياع. فانتدب لجمعها وتصحيحها ومراجعتا وطبعها بعد ذلك سلسلة واحدة تقوم بنشرها (المكتبة التجارية) وقد كاد يفرغ من طبع أكثرها، وأنا أعلم أن بين يديه الآن كتاباً من كتب الرافعي التي لم يتمها وكان أصولاً مبعثرة رديئة الخط كثيرة الإضطراب، وهي أصول الجزء الثالث من كتابه الجليل (تاريخ آداب العرب) واستخراج هذا الجزء وحده دون سائر كتب الرافعي يعد عملاً عظيماً ووفاء نبيلاً لرجل هو كسائر الأدباء: حياته حياة أدبه، فإذا مات لم يجد في هذا الشرق الغافل من ينفخ الحياة في آثاره الأدبية مرة أخرى

ص: 54

إن هذا التراث الذي خلفه الرافعي للأدب العربي، قد جعله الله أمانة بين يدي (سعيد) فهو يؤدي اليوم إلى الناس هذه الأمانة وافية كاملة لم ينتقص منها شئ - إلا شيئاً يعجزه أن يهتدي إليه أو يقع عليه، وغداً يجد الناس بين أيديهم كل ما كتبه الرافعي حاضراً لم يضيع شئ منه وكذلك يجد من يريد سبيله إلى معرفة الرافعي من قريب وتقديره والحكم إما له وإما عليه

مصر المريضة

ألقى الدكتور عبد الواحد الوكيل بك، أستاذ علم الصحة بكلية الطب، في المؤتمر الحادي عشر للمجمع المصري للثقافة العلمي - محاضرة هي تصوير للآلام التي تعانيها الصحة في مصر، وتمثيل للحقائق المؤلمة المخيفة التي تعمل عملها في هدم البناء الصحي للأبدان المصرية. وقد نشر صديقي الأستاذ (فؤاد صروف) قسماً من هذه المحاضرة في مقتطف مايو سنة 1940، فأخذتها وقرأتها وأنا أرجف بالرعب والفزع لما مثل لعيني من تلك الحقائق البشعة الشنيعة، وهي على بشاعتها وشناعتها متفشية منتشرة تغزو مصر من جميع نواحيها غزواً مهلكاً مبيراً، ثم لا تجد من يرده عنها من الجنود المجندة المقالة التي هي كل صناعة الطب وأسباب صناعته

لقد عمد الدكتور الوكيل إلى الإحصاء الصحي في مصر، فبان منه أن البلاد إذا لم تتدارك أمر الصحة بأوثق العزم وأحكم التدبير وأسرع العمل، فسوف تنتهي إلى فناء محقق يأكل القوة المصرية كما تأكل النار يبس الهشيم. ونحن في فاتحة عصر رهيب قد بدأ بالحرب المجتاحة، تأتي معها الأوبئة والأمراض وتجر في أذيالها أوبئة أخرى وقحطاً ومجاعة - إلا أن يشاء الله - والعالم كله يخشى ويتأهب ويستعد، فهل عمدتْ مصر إلى جعل الوقاية الصحية تدبيراً ممتداً مع أسوأ الفروض التي يمكن أن توحي بفرضها أوهامنا ومخاوفنا وتشاؤمنا من الأيام المحاربة والأيام التي تلْقي عن عواتقها أوزار الحرب بعد أن تأكل القوة بعضها بعضاً في ميادين البغي والقتال؟

يقول الدكتور الوكيل: (ونحن إذا رجعنا إلى نسبة الوفيات العامة سنة 1937 في مصر وثلاثين دولة أخرى في مختلف القارّات متدرجين من الأسوأ إلى الأفضل، اتضح لنا أن مصر في رأس هذه القائمة؛ ومن هذه البلدان: الهند واليونان وبلغاريا وفلسطين). . . لا،

ص: 55

بل أكثر من ذلك، وهو أن الإحصاء دلالة على أن الأطفال هم 55. 8 ? من مجموع الموتى، وأن هذه النسبة في صعود متواصل حتى في هذا العهد الذي نحن فيه. بل انظر إلى الأصل فالدكتور الوكيل يقول: إنا إذا أخذنا الأمراض المتفشية كالبلهارسيا والأنكلستوما والرمد والسل والأمراض العقلية والملاريا والتيفوس والتيفود والدفتيريا والأنفلونزا الحادة والحمرة وغيرها، ثم جمعنا بعضها إلى بعض مرضاً مرضاً كانت ما يربو على 50 مليون مرض، فإذا وزعت هذه الملايين على المصريين أصاب كل شخص ثلاثة أمراض في وقت واحد

وهذه النتيجة المؤلمة قد أفضت إلى هذه الغاية باهتمام القائمين على أمر الصحة والتعليم بالحضر دون الريف، وبالذي كان من طغيان الجهل واستبداد الفقر بطبقات الشعب التي يتكون منها السواد الأعظم. وقد وضع الدكتور الوكيل مشروعه لمكافحة هذه الحالة، فهل يمكن أن تكون الوزارات المختصة قد عرفت حق مصر فهبت إلى القيام بواجبها في الدفاع عن البلاد لإنقاذها من براثن هذه الأعداء المتعادية المتحالفة على قتال الروح والحياة في الشعب المصري؟ ذلك ظننا، والله خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين.

محمود محمد شاكر

ص: 56

‌رسالة الفن

بواطن وظواهر

عندنا فنانون. . . ولكن!

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

3 -

من النقاد

الأستاذ بيرم التونسي:

كل ما يكتبه رائع، ولكن أروع ما يكتبه هو النقد، وقد كنت أقرأ للأستاذ بيرم فأحسبه كتبه بعد كراهية عقلية لما ينقده، واقتناع فكري أو خيالي بأن هذا الأمر الذي ينقده قائم على أخطاء يجب أن تزال حتى لا ينهض عليها من الأخطاء ما سيتدعي النقد. فلما لقيت الأستاذ بيرم رأيت فيه أنه يكره بقلبه كراهية التحريم كل هذه الأمور والشخوص التي ينقدها، وقد يعلم القارئ أن كثيراً جداً من نقد بيرم منصب على الرجال الذين يسميهم (خناشير) تذكيراً بغيضاً بخشونتهم وتبشيعاً لها وانتصاراً منها لرقة الأنوثة ودلالها. . . قد يعلم القارئ هذا. . . فهل يعلم القارئ أني رأيت الرجل هكذا حقاً يكره الرجال ويستثقل ظلهم ولا يكاد يطيق صحبتهم، ويمقت من يقول إن فيهم حسناً وإن في عشرتهم راحة. وهو لذلك يفر من الناس فراراً ويستخفي في الشارب العامة في زواياها على نواصي الشوارع المائجة ويجلس مغمض العينين ولكنه يرى. . . وهو يرى من ثقب في إحدى عينيه - لعلها اليمنى - ولا أدري كيف انثقب وإن كنت أراه تجويفاً استدار في ملتقى الجفنين منهما فراغ هو نصف الدائرة. . . وكلما مر في الطريق رجال هرب الأستاذ بإنسان عينه من وراء الثقب فلم يرهم، فإذا مر في الطريق غير الرجال تألق الإنسان من وراء الثقب وارتعد

ومن هذا الثقب يرى الأستاذ بيرم كل شئ، ولعل هذا هو السر في أنه يرى أبعد وأعمق مما يرى الناس، فهو كعدسة الميكروسكوب تجمع الأشعة للعين في مستقيم واحد حيزه مجموع وهدفه دقيق. . .

وكما أن بصر الأستاذ بيرم مكرسكوب، فإن بصيرته ميكروسكوب أيضاً. . . فضاح لا

ص: 57

يغيب عنه إلا ما يشاء الله أن يخفيه وإذا شاء الله أن يخفي على الأستاذ بيرم شيئاً حفز فيه قوة انتباهه، فيستيقظ في نفسه سوء الظن بما يسمع ويرى، فيخطئ الحكم. . . وسبحان الذي لا يغفل ولا يخطئ.

الأستاذ محمد الههياوي:

أعوذ بالله من غضب الله ومن غضبه. هو صاحب القلم الذي كان سعد زغلول ينتظر قوله فيه أسبوعاً بعد أسبوع، ليطمئن على كيانه أسبوعاً بعد أسبوع. فكما كان سعد أزهرياً فناناً عبقرياً؛ فالأستاذ الههياوي أزهري فنان عبقري، كانت وقفاته من سعد كوقفات سعد، وكانت كلماته في سعد من الرواج مثل كلمات سعد؛ فلعله كان أشد الناس حزناً على وفاة سعد، إذ فقد الههياوي بوفاته قريعه وضريبه الذي كان يستنبع من زعامته مادة فنه، والذي كان يستخلص بالبراعة والحدة من كلامه وفعاله أهدافاً لهجومه ونقده. بل لعله كان أشد الناس حباً لسعد وقتما كان يبدو للناس أنه أشد الناس مضياً في خصومته وعداوته، فأنا لا أستطيع أن أتصور فناناً عبقرياً يمقت فناناً عبقرياً، والنبي كان يطلب للإسلام أن يعزه الله بعمر، فلم يكن سعد أيضاً يكره ناقده.

الدكتور طه:

ويا لطول شقائي بالدكتور طه! الناقد الجبار الذي لم يستطع أن ينقذني أنا! كنت أنقش وأنا في العباسية الثانوية على أركان كراساتي وكتبي أربعة أسماء. . . نقشتها على كل كراسة وعلى كل كتاب هي: (مصر. سعد. طه حسين. سيد درويش) وكان أساتذة اللغة العربية في العباسية الثانوية ينهونني عن الدكتور طه والكفر، فكنت أثور وأعرض نفسي لسخطهم وعقابهم ما لم تنقذني شفاعة من أحد الأساتذة الثلاثة المستنيرين الذين يحبون معي الدكتور طه وهم: محمود مرعي، ومصطفى السقا، وأحمد الشايب. وسماني زملائي في الثانوية باسمه من فرط ما كنت أقلده في تفكيره وأسلوبه. وأحسب نفسي لا أزال إلى اليوم مطبوعاً بطابعه. ولما كنت في كلية الآداب كنت أضع على عيني منظاراً أسود إمعاناً مني في (الطحسنة). وفي معهد التربية كان زملائي وبعض أساتذتي يجلسونني إليهم ويطلبون مني أن أحدثهم أي حديث وأنا الدكتور طه. . . وعندما كان الأستاذ الههياوي مشرفاً علي في

ص: 58

أول عهدي بالكتابة كان يقول لي: إني أخاف عليك أن تكون نسخة ممسوخة من الدكتور طه. وعاب علي الأستاذ الزيات يوماً أنني أفقد توازني أحياناً فيما أكتب للرسالة فأضمحل وأذوب ويتبلور من بقاياي بعد ذلك طيف من الدكتور طه يكتب هو ويقول ما يريد

والدكتور طه الذي غزاني هذا الغزو لا أدري كيف لم يشعر بي، وكيف لم يعطني من نفسه ولو عشر ما احتل من نفسي. . . كلما أقبلت عليه صدني، وكل ما قيل له عني فيه صدقه. . . وإلا فأي شئ كان يبغضه فيّ. . . لقد كان من أثر ذلك أني تابعته بالذي تعلمته منه. . . الصد بهجر، والنكران بخدش

وأين أنا من أستاذي الذي إذا كره أمراً حرض الناس عليه حتى إذا رآهم أجمعوا على كراهيته معه، عاد هو فكره أن يكون معهم في إجماعهم فراح يعلن حبه لهذا الأمر ويحرض للناس على حبه حتى يعودوا إلى حبه معه، فيعود هو فيكرهه ويحرضهم على كراهيته. . . وهكذا

4 -

من الفلاسفة

لطفي السيد باشا:

هذا الفيلسوف شرد عن نفسه بالفلسفة فلا هو يعرف أنه يعيش في مصر وإنما هو يحسب أنه يعيش في أثينا، ولا هو يعرف أن الزمن دار ودار حتى وصل التاريخ إلى القرن العشرين بعد الميلاد وإنما هو يحسب أن العصر لا يزال عصر سقراط وأرسطو

رشح نفسه يوماً لانتخاب الجمعية التشريعية وقال للناخبين إنه رجل ديمقراطي. فسمع بذلك منافسه الفلاح فقال للناخبين: وأنا رجل مسلم. فسأل الناخبون منافس الباشا: وهل الديمقراطي غير المسلم فقال لهم: الديمقراطي كالماسوني، مبادئه الإخاء والمساواة بين المسلمين والنصارى واليهود، والرجل والمرأة، والسيد والخادم والكبير والصغير، والعالم والجاهل، والقادر والعاجز، والسليم والأجرب. . . وغير ذلك وذلك أنه يمنح لكل إنسان أن يكون حراً في حدود القانون، فالذي لا يصلي حر، والذي لا يصوم حر، والذي يسكر حر، والذي يفعل ويفعل حر مادام القانون محفوظاً لم يمس. . . وقانوننا في الأصل فرنساوي

وزار لطفي السيد باشا دائرته الانتخابية، فسأله الناخبون: هل حقاً أنت ديمقراطي؟ فقال

ص: 59

لهم: نعم. فسألوه: أمساواة وإخاء وحرية كالماسون؟ فقال لهم تماماً ولا فرق! فسألوه: والمسلم كالمجوسي؟ فقال لهم: سواء بسواء! فسألوه: والمرأة كالرجل، والسكران كالصاحي؟ فقال لهم: أمام القانون لا كبير ولا صغير. . والسكران ما لم يؤذ أحداً حر في نفسه. . . فقالوا له: عال. . . إن فلاناً يتهاون في الصلاة فلا يؤديها فقال لهم: هو حر. . . فقالوا له: إنا نعوذ بالله من (ديمقراطكم). . لكم دينكم ولنا دين!. . .

وفاز الفلاح منافس الفيلسوف في الانتخاب. أما الفيلسوف المفكر فإنه لم يفز، وكان عيبه عند ناخبيه أنه ديمقراطي!

فهل الذي لا يعرف كيف يتفاهم مع ناخبيه فيلسوف؟

إنه فيلسوف ولكنه لا يعيش في هذا البلد ولا في هذا العصر

الأستاذ شهاب:

هو عبد السلام بن حسنين بن شهاب بن أبي شامة البشبيشي، واصل الدراسة في الأزهر الشريف حتى أشرف على امتحان العالمية فتكاسل عنه. والتحق بفرقة تمثيلية يؤلف لها الأغاني والأناشيد وكان جمهور هذه الفرقة خليطاً من الناس ذوي المشارب المتباينة والأذواق المختلفة، فكانوا جميعاً يجودون ما يرضون عنه فيما كانوا يسمعون. ثم شارك حلاقاً في صالون، لعبا برأس ماله في (اليانصيب) فلم تصبهما ثروة، فالتقطه واحد من أصحاب المجلات الأسبوعية كان يدير تجارة إلى جانب المجلة فعمل الأستاذ شهاب في تجارة وفي المجلة حتى رأى صاحبه يسلمه يوماً لواحد آخر من أصحاب المجلات الأسبوعية، ولم يعلم أنه باعه له المال إلا بعد زمن طويل، وانتقل من المجلة القديمة إلى المجلة الجديدة يكتب فيها شعراً وزجلاً ونثراً مما يعيه الشعب ويفهمه ويتلذذ به وهو ماكث في (الإدارة) لا يخرج منها، ويعمل ويأكل وينام على المكتب. . . ثم طرأ له أن يخرج يوماً فخرج وغاب فلم يعد، فدار صاحب المجلة يبحث عنه في الأقسام والمستشفيات وهو متلهف عليه يقول: يا عالم إنه لا يعرف الطرق ولا الشوارع ولكنه كان قد عرف الطرق والشوارع ومن بينها شارع الأمير قدادار، وهو الطريق إلى دار الهلال التي يعمل فيها الآن محرراً لإحدى المجلات التي تصدرها، يكتبها بعد أن يجمع له المندوبون معلوماتهم، ومن أولها إلى آخرها

ص: 60

وهو أزهد من رأيت في الجاه والشهرة، وأقدر من رأيت في الحكم على النفوس، وأقوى من رأيت في إقامة الحق إذا أراد إقامته، وفي إزهاقه إذا أراد إزهاقه، وأشد من رأيت استسهالاً للعبث بعقول الناس، فهو يبدأ يقص عليك القصة، فلا تلبث بعد أن يقطع معك مرحلة طويلة فيها أن تفيق فتجد نفسك قد سمعت كلاماً كثيراً مرتبطة أجزاؤه بعضها إلى بعض، ولكنه ذاهب إلى حيث لا تدري؛ فإذا أحببت أن تعود أدراجك إلى بدايته لم تعرف كيف تروح معه ولا كيف تجئ

يشترط عليه الأستاذ إميل بك زيدان إذا أراد أن يحادثه في أمر أن يمتنع عن مناقشته فيه، لا لشيء، إلا لأنه جرب مرات ومرات أن مناقشة الأستاذ شهاب تنتهي عادة بأن تقر دار الهلال نقيض ما تريده، وما تكون قد أعدت العدة له

من آرائه أن مصر ستظل هكذا في انتظار زعيم لابد أن يكون دينياً، وأن اللحم سيد الطعام، وأن أسعد الناس هم سكان التكايا؛ وأن الأستاذ محمود حسن إسماعيل شاعر قبطي بدليل الرهبان والصلبان والأجراس التي ترن في شعره كثيراً، وأن طلبة كلية التجارة يجب عليهم أن يقضوا مدة التمرين في المذبح وعند أبي ظريفة وغيره من تجار الفول، على أن لا تزيد مدة التمرين هذه على ثلاثة شهور يعطى الطلبة بعدها دبلوم التجارة ليغزوا هذين الميدانين من ميادين التجارة القومية الرابحة ربحاً مؤكداً ومركباً أيضاً؛ وغير ذلك له آراء كثيرة كم اختلستها منه نشرتها منسوبة إليه في (الرسالة)، فأعجبت من قرأها

حفني محمود بك:

هو أيضاً عجيب في تفهمه للناس وإدراك تكوينهم النفساني وهو يثأر للناس بعلمه هذا من الأشرار الذين يفتكون بهم. ولا تأخذ عند هذا الثأر رحمة ولا شفقة، وجمهور من الناس يحسبون (حفني بك) مهذاراً ماجناً، وهم يروون حوادثه على أنها نوع من العبث والمزاح، وقد اصطنع بعض المتظرفين أسلوبه في السخرية من الناس، ولكنهم لم يحرصوا على ما يحرص عليه هو وهو أن ترمي كل نكتة من نكاته إلى معنى حق، وأنه لا يمكن أن يصيب بمزاحه ضعيفاً أو مسالماً، وأنه لا يؤذي به إلا من هو جدير بالأذى. . .

كان غني من أغنيائنا في أوربا في شهر يوليو. وهذا الغني صاحب ذمة واسعة

تقدم منه حفني بك وهو في بار اللواء وقدم إليه ورقة من ذوات الخمسة الجنيهات وهو

ص: 61

يقول له: أشكرك كل الشكر يا سعادة البك. هذه وهي الجنيهات الخمسة التي أقرضتني إياها في عيد فرنسا في كازينو سان استفانو. فقبل الغني الورقة وهو يقول: العفو العفو!. . . من غير أن يفكر في أن عيد فرنسا لا يكون إلا في 14 يوليو، وأنه كان في أوربا في ذلك الوقت، فلم يكن من الممكن أن يلقى حفني بك في سان استفانو ولا أن يقرضه شيئاً. . .

تلك كانت ضربة قضى بها حفني بك على المسكين من غير شك. . . ولكن أليس هذا المسكين جديراً بهذه الضربة. . . إنه على أي حال لم يتألم منها ولم يشك وجعها. فنفس كهذه لا يقتلها السم إذا نقع معه قرش لا جنيهات خمسة

الأستاذ محمود بسيوني:

صاحب البطاقة السهلة التي يستطيع أن ينالها منه كل قاصد تقديماً وتوصيةً. وصاحب الصدر الرحب الذي يفتحه لكل من يريد أن يرتمي في أحضانه. ولكن كم من الناس يستطيع أن يقول إن بطاقة بسيوني بك نفعته أوأن وساطته قضت له حاجة؟

هذا رجل كاهن. استطاع أن ينجح في المحاماة إلى أبعد حدود النجاح لأنه استطاع أن يتغلغل ي نفوس الفلاحين إلى أبعد حدود التغلغل. . . رآهم يحبون الرجل الطيب فكان أطيب رجل، ورآهم يأمنون الرجل الصالح فكان أصلح رجل

رأيته يوماً يدخل بنك مصر ومعه عميل من الريف، فلم يصعد به السلم إلى المكتب الذي كانا يقصدانه، وإنما طاف به في بهو (البنك) طوفة متأنية متريثة، أخذت أعصاب الرجل الريفي تتفكك فيها وتنحل رويداً رويداً من أثر الروعة التي كانت تشع عليه من جدران البنك. . . فلما تم له هذا أخذه وصعد به إلى حيث كانا يقصدان؛ وقد آمن الرجل إيماناً بأن بنك مصر هو خير من ألف بنك

وهذه من غير شك أطيب دعاية وأكرم خدمة يؤديها محام وطني لعميله الوطني وللبنك الوطني ولإحساسه الوطني أيضاً. . .

عزيز أحمد فهمي

ص: 62

‌من هنا ومن هناك

أركان الحرب محور الدفاع الوطني

(عن مجلة (لموا الفرنسية))

يظن الكثيرون أن مهمة أركان الجيش محصورة في رسم خطط المعارك وإصدار الأوامر لقَّواد الجيوش، ويتساءلون دهشين:(بأية وسيلة أو أعجوبة يتلقى قوَّادنا في المكان المحدود والساعة المعينة القوات المستمدة والكميات المطلوبة من الذخائر والمؤن والملابس وسائر المعدات الحربية؟)

من المعلوم أن شعب فرنسا يعمل بأسره في سبيل الجنود الذين يحاربون من أجله، ومن المجهول تلك القوة الخفية التي تُعدُّ وتنظم الجنود وتجهّز وتوزّع المعدات الحربية. وقد لا يخطر للكثيرين أن تلك القوة مصدرها أركان الجيش التي تتخذ باريس قاعدتها ووزارة الحربية مركزها. وإذا جاز لنا أن نشبّه القوى العسكرية بالجسم البشري، فالجنرال غملان يمثّل الرأس وأركان الحرب تمثّل القلب وإذا كان القلب هو مصدر الحياة في الجسم والمحرك الدائم الحركة الذي إن توقف لحظة شلَّت كل الأعضاء حتى الرأس نفسه، فأركان الحرب هي مبعث كل قوة ومصدر كل تنظيم في الجهاز العسكري

لدى أركان الجيش جيش صغير من الكتّاب يعمل نهاراً وليلاً في ساعات معينة بإدارة بضع مئات من الضباط والاختصاصيين المسؤولين، وفي مكتب رئيس أركان حرب الخرائط الحربية والخطط العسكرية والمعلومات الوافية التي تنبئ دائماً عن مواقف الجيوش في ساحات القتال وعما لديها من الذخائر والمؤن وغير ذلك مما يطول شرحه

ولنذكر الآن شيئاً مما تبذله أركان الحرب في إعداد المعدات الحربية. فمن المعلوم أن في فرنسا بضعة آلاف من المصانع الحربية يعمل فيها مليون عامل وعاملة، وقد كان نتاج هذه المصانع في الحرب الكبرى يفوق نتاج أية دولة من الدول المحاربة والمحايدة، وعلى رغم احتلال ألمانيا لمقاطعاتنا الصناعية في الشمال فقد كنا نمدّ حلفائنا بما يعوزهم من المعدات. فإذا طلبت القيادة من أركان الجيش مثلاً بضعة آلاف من لوالب مدفع 75 فما هي إلا دقائق معدودة حتى يباشر تجهيزها في المصانع، وفي أقل من يومين تتسلم أركان الجيش الطلب وترسله إلى القيادة. ولكن إذا روعيت هذه الدقة في الحرب الحاضرة التي لم يعرف جنودنا

ص: 63

فيها حتى الآن المعارك الحامية والإنسحابات القاهرة فكيف تراعي في مثل تلك الأيام التاريخية الحرجة حين انسحبت جنودنا من شارلروا أمام الزحف الألماني ووقت أن هجم الألمان على باريس وبلغوا كمبيان وسان كنتن؟ لقد خبر جيشنا الساعات المشؤومة التي كانت تهدد فرنسا بالهوان ولكن تنظيمه العجيب كان يفوق كل ارتباك وتشويش. إن تقهقر الجيش يعني وقوع ألوف من الأسرى ومئات من المدافع في حوزة العدو، إخلاء مراكز للمدفعيات والطيارات، إهمال المستشفيات والنقالات، وأخيراً ترك كل شئ أمام العدو المطارد. ومع ذلك كان جنودنا الذين شهدوا مثل هذه المآسي يعلمون جيداً أن وراءهم مدافع جديدة جاهزة بدل المفقودة وكميات هائلة من الذخائر والمؤن عوض المتروكة

وقد أطروا كثيراً التنظيم الألماني وأركان الحرب الألماني، ولكن ذلك كان فوق الواقع. ولماذا لا يحق لنا أن نعجب بالتنظيم الفرنسي الذي برهن في أشد المواقف حرجاً على دراية وحسن إدارة نادرتين؟

ومن مهام أركان الجيش تعهد طرق المواصلات والعناية بأسرى الحرب من جنود ومدنيين. أما المهمات الكبرى، فهي تموين الجيش وكفى بها عبئاً ثقيلاً يقتضي الجهد الكبير والعمل المتواصل، فإن تموين خمسة أو ستة ملايين رجل منتشرين في مئات من الكيلومترات لمن أشق الأمور وأعقدها

وقد تستعظم المهمات المذكورة مع أننا لم نأت إلا على شئ منها ولم نذكر إلا بعض ما يفرض على أركان الجيش من الواجبات.

من السهل أن نطلع على ما يقال ويجري عندنا وما تصدره أرضنا وتخرجه مصانعنا، ولكن علينا في زمن الحرب أن نعرف أيضاً ما يقال ويجري عند الآخرين من أعداء ومحايدين وما تغله أرضهم وما تنتجه مصانعهم، فكل حركة حربية يتوقف نجاحها غالباً على معرفة الحالة الاقتصادية والمعنوية في بلاد العدو. من ذلك أن الهجومين الظافرين على بلغاريا وتركيا في الحرب الماضية لم يفلحا لولا التعليمات التي تلقتها من أركان الجيش، ومنها عرف أن ليس في طاقة الجيش البلغاري أن يواجه حملة عنيفة، وأن الشعب البلغاري قد سئم الحرب.

وعلى مكتب أركان الجيش أن يقدم تعليمات دقيقة عن الحالات المعنوية والاقتصادية

ص: 64

والحربية في بلاد الأعداء، وأن يطالع الصحف الأجنبية ويستخلص منها ما يفيد القيادة العليا ووزارة الخارجية، ثم يدرس أساليب التنظيم الحربي عند الدول الأجنبية ويستطلع مستحدثاتها الحربية. ومن شؤون هذا المكتب إيفاد البعثات إلى الخارج ونقل البريد والاتصال الدائم بأركان جيوش الدول المحالفة والمحايدة وغير ذلك مما لا نذكره اجتزاء

وهناك مكتب آخر من مصلحته تقديم التعليمات السرية عما يجري في بلاد العدو، وهو الذي أفادنا في الحرب الماضية أن القروض الألمانية والنمساوية منيت بالفشل وإن تكن حكومتا برلين وفينا أذاعتا نجاحهما الباهر. ومن مصلحته أيضاً الإفادة من نتائج الحصار ودرس الوسائل التي تضعف العدو

ومن المهام الخطيرة المفروضة على أركان الجيش نقل الجيوش وكلنا يذكر النظام التام الذي تم فيه نقل جيوشنا سواء في أغسطس من سنة 1914 أو في سبتمبر من هذه السنة. فلا اضطراب، ولا فوضى ولا تشويش. وقد أدت سككنا الحربية خدمات جليلة، وكانت من أهم أسباب انتصارنا في الحرب الفائتة. ومنها توزيع الرسائل على جنودنا سواء في فرنسا أو في الخارج. ولكي يتصور القارئ مشقة هذه المهمة نقول إن ما يرسله جنودنا من الرسائل وما يرسل إليهم يملأ ثلاث مركبات

إن ما ذكرناه ليس إلا صورة مصغرة للخدمات الكبيرة والمهمات الخطيرة التي يؤديها أركان جيشنا محور الدفاع الوطني وقلبه النابض

ممتلكات إنجلترا

(عن مجلة (العصبة))

من الأقوال الشائعة أن الشمس لا تغيب عن أملاك إنجلترا. وتلك حقيقة ليس فيها أقل مبالغة، فأني توجهت تر لبريطانيا العظمى علماً مرفوعاً ومدفعاً منصوباً وسفينة جارية. محطات حربية في أهم وأمنع المواقع، قواعد تجارية منتشرة في كل صقع، ممتلكات ومستعمرات لا تقل مساحتها عن خمسة وثلاثين مليون كيلو متر مربع، عمارات من السفن الحربية والتجارية تغشى البحار ليل نهار. هذا هو المشهد الأول من عظمة الإمبراطورية البريطانية.

يخفق العلم البريطاني في أوربا على: إنجلترا، إيرلندا، مالطة، جبل طارق

ص: 65

وفي أمريكا على: كندا، الأرض الجديدة، لبرادور، أرخبيل برموداس في الأطلانطيكي، أرخبيل باهاما في الأطلانطيكي جزر برلافنتو، جزر سوتوفنتو، جزيرة جاميكا، جزيرة باربادس، جزيرة ترينداد، جزيرة تاباكو، هوندوراس البريطانية، غيانا البريطانية، جزائر فلكلان وجورجيا في الأطلانطيكي الجنوبي

وفي أفريقيا على: الاتحاد الإفريقي الجنوبي، روديسيا الجنوبية، تانغانيكا، أوغندا، زنجبار، كينيا، الصومال الإنجليزي، السودان الإنجليزي المصري، غامبيا، الشاطئ الذهبي، توغو (قسم منها)، جزيرة سانتا هيلانة، جزيرة إسنسيون، جزر سيشل، جزر موريشاس، جزيرة سوقطرا، سيراليون

وفي آسيا على: الهند، سيلان، قبرص، فلسطين، شرق الأردن، عدن ونواحيها، سنغافورة، ملَقة، هونغ كونغ، بورينو الشمالية، ساراوك، بروني، واي هاي واي، البحرين اندمان ونيكوبار

وفي الأقيانوسية على: أستراليا، زيلاندة الجديدة، فيجي، غينيا الجديدة، بابو، سلمون، تونغا، ساموا الغربية، نورو وغيرها من جزائر الباسيفيكي العديدة

35 مليون كيلو متر مربع تتدفق خيراتها على الجزر البريطانية وخمسمائة مليون نفس يمتثلون لأحكام السلطة الإنجليزية.

وقد بلغ التوسع البريطاني أشده في القرنين الأخيرين؛ ففي سنة 1800 كانت مساحة الإمبراطورية البريطانية 3. 883. 320 كيلومترا مربعاً فبلغت سنة 1919 نحو 35. 467. 656 كيلو متراُ وعدد سكانها 475 مليون نفس.

تبلغ مساحة كندا وحدها نحو تسعة ملايين كيلو متراً مربعة يسكنها نحو عشرة ملايين نفس، وهي تشغل المرتبة الثالثة في العالم بما تغله أراضيها من الحنطة، وقد استخرجت في سنة 1936 نحو 116 طناً من الذهب و 77 ألف طن من النيكل.

والاتحاد الإفريقي الجنوبي مساحته 1. 225. 000 كيلومتر مربع وعدد سكانه 8 ملايين، وهو موطن الذهب فقد استخرج منه في سنة 1936 نحو 352 ألف كيلو. وأستراليا ومساحتها نحو 8 ملايين كيلومترا مربعة بقدر عدد مواشيها بنحو 120 مليوناً استغلت في سنة 1936 أكثر من 450 ألف طن من الصوف. والهند ومساحتها نحو 5 ملايين كيلومتر

ص: 66

مربعة وعدد سكانها 350 مليوناً أنتجت في سنة 1936 ما يزيد على 57 مليون طن من الأرز وهي الأولى بين كل بلدان العالم بمحصول الأرز.

وأنتجت أيضاً في تلك السنة 4 ملايين طن من السكر و10 ملايين طن حنطة ومليون طن من القطن ومليوني طن من الخيش أي 99 في المائة من محصول العالم كله، وفي الهند من البقر ما يقدر بمائة وخمسين مليوناً.

ص: 67

‌البريد الأدبي

وحي الرسالة

تفضل كاتب العربية الأستاذ الجليل عباس محمود العقاد فلخص في هذا الكتاب البليغ رأيه القيم في كتاب (وحي الرسالة). وإنا لننشره شاكرين للناقد الكبير جميل رأيه في الكتاب وصاحبه:

أخي الكاتب البليغ الزيات

وحي رسالتك أصدق ما قرأت في الكتابة العربية الحديثة من مصداق لرأي القائلين: إن الرجل هو الأسلوب

فأنت أسلوبك وأسلوبك أنت: إتقان واستحياء وسلاسة، صُوِّرت في عالم الخلق فكانت إنساناً، وُصورتْ في عالم الفكر فكانت وحي الرسالة

إتقان صيغة في غير ظهور ولا ادعاء، يوشك من يتبينه أن يلمسه ليعرف موضع الجودة فيه، كما يلمس المسّوم النسيج المتين الذي وعى المتانة سراً من أسرار منواله وخلا من الزخرف والبريق، لأن إتقان تلك الصيغة كإتقان هذا النسيج، في حقيقتها وليس على مرآها، وعلى صفحة محياها دون سواها

واستحياء يخفى مزاياه ولا يفوته شئ بأن يخفيها، لأنها أثبت من أن يحجبها الإخفاء

وسلاسة تطوع العصي وتملك الزمام في الوعر والسهل على السواء. فإن ما تصف من ألم نفساني يلهب مراق الحشا ويَبْده الضعف الإنساني بأقصى ما يطيق وفوق ما يطيق، لكالذي تصف من ألم يباشر الفكر قبل أن يباشر اللحم والدم، ويحسب من قضايا الرأي كما يحسب من قضايا الفؤاد إتقان واستحياء في المعنى لا في اللفظ وحده، وفي موضوع الكتابة لا في بنيانها وتركيبها وكفى، وعلى السيماء وفي الطوية سواء

وتلك هي الأساليب التي تضاف إلى لغة العرب فيقال معنى إنساني في كلام عربي، ولا يرتد المعنى إلى بني الإنسان حيث كانوا ثم لا يبقى منه للعربية ما تحرص عليه

وحي رسالتك في كتاب أحمد

والسلام عليك وعلى من اتبع هداه

عباس محمود العقاد

ص: 68

مصر الحلوة

تحت هذا العنوان الجميل جمع الكاتب الفرنسي الكبير جان لوجول رئيس تحرير البورص إجبسيان طائفة من الفصول الفرنسية الرائعة القصيرة كان قد نشرها متفرقة في مدى عشر سنين. وهي صور صادقة للحياة المصرية في شتى مظاهرها ومناظرها وأحداثها وعاداتها، رسمها قلم فنانٌ صَنَاع وجد إلهامه في حب مصر وأهل مصر، وقصد بعرضها في هذه الألوان الجميلة أن يوثق بها التعارف والتآلف بين الصديقتين القديمتين فرنسا ومصر في هذا العهد الذي قضى فيه إلغاء الامتيازات وما سيعقبه من إلغاء المحاكم المختلطة أن يعيش المصري والأجنبي عيشة أهل الوطن الواحد لا تفرق بينهما فوارق السياسة والاجتماع.

وقارئ هذا الكتاب القيم يستطيع أن يقول على الجملة إن مسيو لوجول من الكتاب الأجانب القلائل الذين فهموا مصر وعرفوا كيف يُفهمونها من يجهلونها بأسلوب يشرق فيه الحب والصدق والإخلاص

مصر المزدهرة '

وذلك عنوان آخر جعلته الكاتبة الفرنسية الشاعرة (فلنتين دي سان بوان) حفيدة (لامرتين) لمجموعة من المقالات الممتعة قصدت بها تصوير مصر الجديدة في عهدها الفاروقي المبارك تصويراً دقيقاً يجلوها في أوضاعها المختلفة من اجتماعية واقتصادية وفكرية ودينية وأدبية وفنية. وقد آثرت أن تكل هذا التصوير لمن كان لهم يد في التجديد والإحياء من المصريين وبعض الأجانب، فاستكتبت أكثر من أربعين رجلاً من سراة الكاتبين والمفكرين ونشرت آراءهم وصورهم في هذا الكتاب الأنيق بعد أن زينت صدره بطاقة من الشعر الفرنسي الرفيع قدمتها إلى صاحبي الجلالة الملك والملكة. وهذا الكتاب كسابقه دعاية وتعريف لمصر الناهضة. وهما فوق ذلك نموذج نريد من الفن العالي في التحرير والتصوير والطبع، ودليل جديد على اعتراف الأدب الفرنسي بالجميل لوادي النيل.

حول الأزهر

أعيذ الرسالة وصاحبها أن يكونا كأصحاب صحف أخرى عرفت بأنها تنشر الخطأ في الدين ولا تنشر الصواب وتنشر الطعن ولا تنشر الرد وأعيذها مرة أخرى وقد تعرضت

ص: 69

لنشر بحوث دينية أو علمية أن يفوتها فيما تنشر مغمز من قول أو فلتة من لسان ولا تعلق عليه كما هو شأن الصحف الراقية بعلمها الجمّ ومعرفتها القيمة، فهي غنية بمعرفتها عن اتخاذ أخصائيين لها في هذه الشئون

جاء في كلمة الأستاذ المدني حول الأزهر أن مدح أحد الشيوخ لقوله إن الشيطان إنما هو قوة الشر المنبثة في العالم وأخذ يدبج لهذا الشيخ الثناء، ويكيل له الإعجاب، وينتقد الذين انتقدوه في القول وحمل عليهم وقال كان من حق الأزهريين جميعاً أن يقابلوا هذا الرأي العجيب الذي يوافق الدين والعلم الحديث بالإعجاب إلى آخر ما قال من لون من القول كان الأولى بمن يكتب النزوع عن مثله في التحدث عن الفريقين

ومن الأسف أن الأستاذ المدني وصاحبه إن كان لا زال مصمماً على ما قال مخطئان كل الخطأ في الدين وفي العلم الحديث معاً. وما العلم الحديث ومسائل لا تعرف إلا عن الوحي؟

ذلك لأن الجن والشياطين والملائكة والجنة والنار حقائق إسلامية لا تعرف إلا من طريق الوحي، وليست مجالاً للرأي ولا للعلم الحديث في شئ، ولا هي ضارة بالعلم الحديث في شئ أيضاً، فهمها العرب الذين نزل القرآن الكريم بلسانهم مؤمنهم وكافرهم كما عناها القرآن وأرادها. وهذه أوليات مسلمة في الإسلام في قسم الغيب الذي يجب الإيمان به كما جاء وليس للبحث العلمي إليه من سبيل، ومنها الإيمان بالبعث والحشر والنشر وصورة ما تكون عليه تلك الشئون، ولا يطلب في ثبوت ذلك إلا صحة الدليل النقلي من كتاب أو سنة صحيحة. فالتحكك بخلق جدل وخلافات دينية في موضوعات دينية ليست موضع جدل، هو فضول من القول وشغل للقراء بغير ما يليق بالكاتب الأمين أن يشغلهم به

وأولى بمن يتكلم باسم الدين في الناس أني شغلهم بالنواحي العملية منه ويبعدهم عن الجدليات، لأن الدين نفسه ينهى عن الجدل والمنازعات كما ينهي عن المنكرات. وفي النواحي العملية الإسلامية ما يشغل ألف كاتب وكاتب أعماراً طويلة، لأن هداية الناس وجملهم على العمل بالدين في شئونهم اليومية والاجتماعية، وتحليهم بأخلاقه واحترامهم لمبادئه وآدابه، وخصوصاً بعد أن رأوا إله الحضارة الحديثة والمدنية الجافة قد سقط، وأنه آن الأوان لسلطان الإسلام الحق ومبادئه العادلة أن يسود وأن يقود العالم مرة أخرى مديدة إلى حياة السعادة والهناءة والأمن على النفوس، وأن ينقذهم من دبلوماسيات هذا العصر

ص: 70

ويكبح جماح العلم الحديث فلا يستعمل إلا في خير الإنسانية، فلا بد للعلم الحديث من دين يكبح جماحه، ولا بد للدول من أن تعترف بالإله الحق الذي سخر لهم الطبيعة وأنزل لهم الشريعة وأنذرهم من آلاف السنين في كتبه المقدسة بما صدقه التاريخ وبما هو حاصل اليوم وواقع على رؤوسهم

فعلى رجال الدين الإسلامي أن يثبتوا في مراكزهم ولا يتزحزحوا عنه بالتأويل والتحوير إرضاء لعدوهم فالعاقبة لهم إن كانوا مؤمنين حقاً بدينهم. . . والله يدعوا إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم

محمد عبد السلام القباني

المدرس بكلية الشريعة

تعقيب على مآخذ

1 -

ذكر الأستاذ القطان كلاماً حول لفظي تعبان وظمآن فقال إن تعبان تمنع من الصرف، لأن مؤنثه تعبانة ولا يمنع من الصرف إلا ما كان مؤنثه على وزن فعلى وكان زائد الألف والنون. نعم إن القاعدة مسلمة، ولكن هل وردت كلمة تعبان في كتب اللغة أم هي كلمة عامية والعربي غيرها. أجمع أساس البلاغة وتاج اللغة والقاموس وشرحه وأقرب الموارد واللسان والصحاح على أنه يقال: هو تعب ومتعب ولم يقولوا تعبان. إلا أن المنجد ذكر هو تعب وتعبان، ولا ندري من أي مصدر استقاها. من هذا يتبين لنا أن تعبان ساقطة من أساسها على الأصح لأنها لو كانت موجودة في اللغة لذكرها الأشموني مع الأربعة عشر لفظاً التي مؤنثها فعلانة وإذن نأخذها على الدكتور زكي مبارك غلطة لغوية. أما ظمآن فقد ورد في القاموس ظمآن وظمآنة، وفي أقرب الموارد هي ظمأى وظمآنة. أما في اللسان وتاج اللغة والصحاح فهي ظمأى، وما دامت قد وردت ظمآنة في بعض أمهات الكتب يصح قول الدكتور محمد عوض لم يزل ظمآناً.

2 -

الأبيات الحائرة: يذكر الأديب علي محمد حسن أن كتب النحو والشواهد أجمعت على أن الأبيات الحائرة لمالك بن الريب، ولا أدري أين هذه الكتب التي أجمعت على أنها له؛ فإن كتب النحو والشواهد أجمعت على أنها للفرزدق. ففي حاشية الصبان على الأشموني

ص: 71

نقلاً عن التصريح، وفي فرائد القلائد في مختصر الشواهد لمحمود العيني أنها للفرزدق. وقد ارتضى ذلك الأستاذ أحمد زكي صفوت في كتابه الكامل في النحو، والأستاذ الشيخ محمد محي الدين في شرحه على ابن عقيل. أما في شرحه على الأشموني فقد ذكر ما ذكره العيني ثم أورد رواية ياقوت في معجم البلدان. والذي يرجح أنها للفرزدق عدة أمور (1) إن ما ذكره أبن قتيبة في الشعر والشعراء، والمبرد في الكامل من أنها لمالك بن الريب خطأ محض، إذ أن مالكاً مات في زمن معاوية ولم يدرك الحجاج (2) شبه الإجماع من كتب النحو والشواهد على أنها للفرزدق (3) إن رواية أبي تمام أقوى من رواية ياقوت التي تنسبها للبرج بن خنزير، إذ أن أبا تمام توفي سنة 231هـ، فهو أقرب إلى الفرزدق المتوفى سنة 114هـ من ياقوت المتوفى سنة 626هـ. ولم نجد كتاباً آخر ينسبها للبرج غير ياقوت (4) إن البيتين الآتيين من القصيدة نفسها:

فلولا بنو مروان كان ابن يوسف

كما كان عبداً من عبيد إياد

زمان هو العبد المقر بذله

يراوح صبيان القرى ويغادي

بالفرزدق ألصق لما له من اعتزاز وتيه وذكر للآباء والأجداد، ولكثرة مناوشاته مع الولاة بل مع الخليفة أحياناً.

3 -

الآخر والثاني: يأخذ الأستاذ م. م. إبراهيم على الأستاذ أحمد أمين قوله: قال أحدنا: جزءاً من العقد الفريد، وآخر: جزءاً من الأغاني وثالث الخ. . . ثم يقول: والمعروف في اللغة أنه لا يسوغ أن تقول آخر إلا إذا كان هو الأخير فلا تقفي بعد ذلك بأعداد أخرى الخ. . وأظن الأستاذ قد خلط بين آخر بكسر الخاء ضد أول وآخَر بفتحها بمعنى غير أو واحد. كما أحسب أنه لم يعرف أنها ربيع الآخر وجمادي الآخرة بكسر الخاء فيهما، ولو كانت بالفتح لقالوا: جمادي الآخرى مؤنث الآخر بالفتح لأن الآخرة مؤنث الآخر بالكسر. فاللغة إذن لا تمنع أن يقال جاء رجل وغيره وثالث ورابع.

عبد الستار أحمد فراج

ص: 72

‌القصص

عاصفة القدر

للمرحوم مصطفى صادق الرافعي

(عثر في أوراق المرحوم الرافعي على أقصوصة نحسبها لم تنشر، فوجدنا من حسن المناسبة أن ننشرها في يوم ذكراه)

على شاطئ النيل في إقليم (الغربية) من هذا البر قرية ليس فيها من جبل ولكن روح الجبل في رجل من أهلها، فإذا أنت اعتبرته بالرجال قوة وضعفاً رأيته ينهض فيهم بمنكبيه نهضة الجبل فيما حوله، وهو بطل القرية ولواء كل معركة تنشب فيها بين فتيانها وبين فتيان القرى المتناثرة حولها، ولا تزال هذه المعارك بين شبان القرى كأنها من حركة الدم الحر الفاتح المتوارث فيهم من أجيال بعيدة ينحدر من جيل إلى جيل وفيه تلك القطرات الثائرة التي كانت تغلي وتفور، وهي كعهدها لا تزال تفور وتغلي، ويلقبون هذا الرجل الشديد (بالجمل) لما يعرفونه من جسامة خلقه وصبره على الشدائد واحتماله فيها وكونه مع ذلك سلس القياد سليم الفطرة رقيق الطبع، على أنه أبطش ذي يدين إن ثار ثائره، وله إيمان قوي يستمسك به كما يتماسك الجبل بعنصره الصخري، إلا أنه يخلطه ببعض الخرافات؛ إذ لا بد له من بعض الجرائم الشريفة التي يحمل عليها فرط القوة والمروءة في مثله مع مثله. وليس في تلك القرية من بحر غير أن فيها شاباً أعنف طيشاً وعتواً من الموجة على بحرها في يوم ريح عاتية، حلو المنظر لكنه مر الطعم، صافي الوجه لكن له غوراً بعيداً من الدهاء والخبث، وهو ابن العمدة البلدة وواحد أبويه والوارث من دنياهما العريضة يبسط يديه على خمسمائة فدان، وقد أفسدته النعمة، وأهانته عزته على أهله، ولو اجتمعت حسنتان لتخرج منهما سيئة من السيئات بأسلوب من الأساليب لما وسعها إلا أسلوب نشأته من أبويه الطيبين، تعلم وهو يعرف أنه لا حاجة به إلى، فجعلت تلفظه المدارس واحدة بعد واحدة كأنه نواة ثمرة إنسانية، فإذا قيل في ذلك قال إن خمسمائة فدان لا تسعها مدرسة. . . وذهب إلى فرنسا يطلب العلم الذي استعصى عليه مصر، فأرهف ذلك العلم. . . خياله وصقل حسه، ورجع من باريس رقيق الحاشية خنثاً متظرفاً لا يصلح شرقياً ولا غربياً.

. . . وليس في تلك القرية غابة كن فيها عذراء تلتف من جسمها في رداء الجمال الطبيعي

ص: 73

الرائع، ولها نفس أشد وعورة مما تنطوي الغابة عليه، ففي ظاهرها الرونق الذي يفتن فيجذب إليها، وفي باطنها القوة التي تلتوي فتدفع عنها؛ وهي ابنة عم (الجمل) واسمها (خضراء)؛ وكأن فيها زهو خضرة الربيع، ولم تكن تعشق إلا القوة، فما يزيِّن لها ن الرجال إلا ابن عمها، وهي شديدة الإعجاب به وإنما إعجاب المرأة برجل من الرجال مفتاح من مفاتيح قلبها

وكانت (خضراء) جاهلة كنساء القرى، بيد أنها تلميذة بارعة لطبيعة التي نشأت فيها وزاولت أعمالها، فهي بذلك أقوى نفساً وأشد مراساً من الفتيات المتعلمات؛ إذ اتخذت شكلاً ثابتاً من أشكال الحياة، والحياة هي صنعتها هذه الصنعة وأقامتها على هذه الهيئة على حين أن المتعلمات يمضين أيام النشأة وسن الغريزة في التلقي عن الألفاظ والكتب، وفي توهم الصور المختلفة للاجتماع دون مباشرتها، وفي توقي أعمال الحياة بدلاً من مخالطتها، فيؤول ذلك منهن إلى قوة في التخيل قلما ترضى الحقيقة الإنسانية المؤلمة حين تصادمها يوماً، وتتم الواحدة منهن ولكن باعتبار أنها تمت تلميذة للمدرسة، لا امرأة للحياة بما فيها مما يعجب وما لا يعجب

وكانت خضراء أشبه بدودة النهار تفتح أجفانها على أشعة الفجر كل يوم، ولا تزال نهارها في دأب وعمل، فنفي ذلك عن أخلاقها ما يجلبه السكون من الخمول والميل إلى العبث والدعابة، وحصلت لها من الحياة حقيقة عرفت منها أن المرأة عامل من أكبر العوامل في النظام الإنساني عليه أن يصبر على الكد والتعب إذا أراد أن يظهر بطبيعته الحقيقة لا بطبيعته المزورة المصنوعة؛ ورأت الرجل يستأثر بجلائل الأعمال ولا يترك للمرأة إلا كما يترك عقرب الساعات لعقرب الثواني في الرقعة التي تجمعهما، فهذا الصغير لا يبرح يضطرب في (دائرته الضيقة) يهتز من جزء إلى جزء، حتى إذا أتم الدقيقة في ستين هزة كاملة ذهب الأول بفضلها كلها وخطأ بها خطوة واحدة. ثم يعود المستضعف المسكين إلى مثل عمله، ولا يزال هذا دأبهما وإن أكثرهما عملاً وتعباً هو أقلهما قيمة وظهوراً. ولكن هذا الضعيف المغبون لم ينله ما ناله إلا من كونه هو وحده الذي بني في هذا النظام على فضيلة الصبر والدقة ليكون أساساً للآخر. فعرفت (خضراء) كيف تقيد طبيعتها من تلقاء نفسها وتقرها على الصبر والرضا والسكون إلى حظها الطبيعي والاغتباط به، إذا كان

ص: 74

فضل الرجل على المرأة ليس في كونه أكثر منها فضلاً الرجل على المرأة في كونه أكثر منها فضلاً أو أسباب فضل، بل في كونها هي أكثر منه حباً وتسامحاً وصبراً وإيثاراً؛ ففضائلها لحقيقة هي التي جعلته الأفضل، كما تجوع الأم لتطعم ابنها

ورآها ابن العمدة، ولما تمض أيام على رجوعه من أوربا، وقد عبث هناك بضع سنين، وكان عهده بالفتاة صغيرة، فوثبت إلى نفسه في وثبة واحدة، ورأى شباباً وجمالاً وروعة زينتها في قلبه وسولت له مطمعاً من المطامع وجعلته يرى ما يرى بمعنى ويفهم منه ما يفهم بمعنى غيره

وكانت حين رآها واقفة على النيل تملأ جرتها مع النساء من نوعها وهن يتعابثن ويتضاحكن، كأن لخصب الأرض في أرواحهن أثراً بادياً، فإذا ما أقبلن على النهر لشأن من شؤونهن تندت روح الماء على ذلك الأثر فاهتز واهتزت المرأة به؛ فإن كانت ذات مسحة من جمال رأيت لها رفيفاً كرفيف الزهرة حين يمسحها الندى، وذهبت لتموج في جسمها، وقد حسرت عن ذراعيها، ولمس الماء دمها الجداب، فأرسل فيه تياراً من العافية والنشاط يتصل منها بقلب من يراها إن هو كان شاعراً يحس؛ فإن كانت روح الرجل ظمأى ورأى المرأة على هذه الهيئة، فما أحبه أن يشرب منها بعينيه شرباً يجد له في قلبه نشوة كنشوة الخمر. . . وكذلك وقعت الفتاة من نفس هذا الفتى، فزينها له الخبث الذي فيه أضعاف ما زينها له الجمال الذي فيها، وقذفها القدر إلى قلبه ليخرج من هذا القلب تاريخ جريمة، فوقف يتأملها بعين أحد من آلة التصوير لا تفوتها حركة، وسلط عليها فكرة وذوقه، وأيقظ لها في نفسه المعاني الراقدة، فنصبت في قلبه عدة تماثيل الجمال تجسّدت في كل واحد منها على شكل كأنما أفرغت فيه إفراغاً

وكانت نفس ابن العمدة من النفوس الخيالية المتوثبة، إذ قامت من نشأتها أن تطلب فتجاب، وتأمر فتطاع، وتشتهي فتجد، وكأنهما خلق إلا ليستعبد قلبي والديه، وكانا ساذجين لا يعرفان من علم التربية إلا أن للحكومة مدارس للتربية، وموسرين لا يفهمان من معنى الحاجة في هذه الدنيا إلا أنها الحاجة إلى المال، ومنقطعين من النسل إلا منه، فكأنه لم يولد لهما بل هما قد ولدا له. . . فله الأمر عليهما من كونه لا أمر لهما عليه، وبذلك أسرفا له من فضائل الرقة والحنان والإشفاق وما إليها، وهي في نفسها فضائل ولكن متى أسرف بها

ص: 75

الآباء على أولادهم لم تنشئ في أولادهم إلا ما يكون من أضدادها، كالشجر يفرط عليه الري فلا يحدث فيه إلا اليبس والذوى، وإنما أنت تسقيه الموت ما دمت ترويه بمقدار من هواك لا بمقدار حاجته

ونشأ الفتى في أحوال اجتماعية مختلفة جعلت من أخص طباعه تمويه نفسه على الناس، والتباهي بالغنى والتنبُّل بالأصدقاء. والحاشية من وزرائه وعماله، والتهيؤ بالثياب والأزياء، فانصرف باطنه إلى تجميل ظاهره، وردَّ ظاهره على باطنه بالشهوات والدنايا وأعانه على ذلك أنه جميل فاتن خلقت صورته (للصفحة الحساسة) من قلوب النساء. وذلك ملك عظيم لم يكن أبوه الرجل الطيب منه إلا كما يكون وزير مالية الدولة. . . ولما أرسل إلى باريس وقع منها في بلد عجيب كأنه خيال متخيل، لا يؤمه رجل في الدنيا من كامل أو ناقص، وعالم أو جاهل، وشريف أو ساقط، إلا رأى فيه ما يملأ كل مداخل نفسه ومخارجها، فلو قامت مدينة من أحلام النفوس الإنسانية في خيرها وشرها، وطهرها وفجورها، واختلالها ونظمها، لكانت هي باريس. وانقطع الشاب هناك إلى نفسه وإلى صور نفسه من أصدقاء السوء، فلا أهل فيلزموه الفضيلة ولا إخوان فيردوه إلى الرأي، ولا خلق متين فيعتصم به، ولا نفس مرة فيفئ إليها ولا فقر. . . فيحد له حدوداً في الشهوات يقف عندها. وما هو إلا خيال متوقد ومزاج مشبوب وتربية مدللة وطبع جرئ ومال يمر في إنفاقه، ومن ورائه أب غني مخدوع كأنه في يد أبنه كرة الخيط: كلما جذب منها مدت له مدا، ثم ما هنالك من فنون الجمال ومتع اللذات وأسباب اللهو مما يتناهى إليه فساد الفاسد وما هو في ذاته كأنه عقوبة مستأصلة للأخلاق الطبية فكان الشيطان الباريسيُّ. . . من هذا المسكين سمعه وبصرة ورجله ويده يوجهه حيث شاء. وبالجملة فقد ذهب ليدرس فدرس ما شاء ورجع أستاذاً في كل علوم النفس المختلة الطائشة وفنونها، وأضاف إلى هذه وتلك كلمات يلوي بها لسانه من علوم وأقاويل ليس فيها إلا ما يدل الحاذق على أن هذا الشاب لم يفلح قط في مدرسة فلما وقعت (خضراء) منه ذلك الموقع وأخذت مأخذها في نفسه، اعتدها نزوة من نزواته، فما بمثله أن يحب مثلها ولا هي كفايته في شئ، إلا أن تكون لهو ساعة من ساعاته، أو حادثة تجري فيها حال من أحواله الغرامية. وحسبها امرأة ليس لقلبها أبواب تمتنع على مثله، فقدر أن غناه وفقرها يقتلعان باباً، وعلمه وجهلها

ص: 76

يحطمان باباً آخر، وجماله وحده يضع ما يبقى من الأقفال عما بقي من الأبواب، وكان يحسب أن جمال المرأة من المرأة كالحلية من بائعها فكل من ملك ثمنها فليس بينه وبينها إلا هذا الثمن؛ ولكن الأيام جعلت تأتي وتمر وهو لا يزيد على أن يعرض لها وهي ترميه من صدورها كل يوم بداعية من دواعي الهوى، وكان لا يجد نفسه قوة أن يزيدها على النظر شيئاً، وترك لوجهه وثيابه ونظراته وغناه أن تصل بين قلبه وقلبها بسبب، فلم ينل طائلاً وتمادي في حبه واستولت عليه فكرة غمرته بهذه المرأة، أما هي فأشعرتها غريزتها بما في قلبه منها وكانت مسماة، لأبن عمها، فكانت تتحاشى هذا الشاب وتحذره حذراً شديداً، وتتوهم أن الناس يحصون عليها النظرة والالتفاتة ويحصون عليه من مثلهما، ووقع في نفسها أن لهذا الرجل شأناً غير شأن الرجال الآخرين، فهم لا يستطيعون معها حيلة وهو يستطيعها بغناه ومنزلته

وكان للرجل خادم داهية قد تخرج في مجالس القضاء. . . من كثرة ما حكم عليه في تزوير واحتيال وغش وادعاء وإنكار ونحوها، وقد استخلصه لنفسه واتخذه مؤنسا ورفيقاً وجعله دسيساً إلى شهواته السافلة، كان يسميه فيما بينه (إبليس) فلما أراد أن يرميها به قال يا سيدي هذه قضية احتيال عليها، فإذا دخل ابن عمها خصماً في الدعوى كانت قضية احتيال على عمري أنا! قال: ويحك أيها الأبله! فأين دهاؤك ومكرك؟ وإنما أرسلك إلى امرأة فقيرة عيشها كفافها، وأنت تعدها وتمنيها وتبذل عني ماشئت، ومتى أطعمتها في المال فإن هذا المال سيوجد ملا يوجَد في مكان فيشرى ما لا يشرى ويبيع ما لا يباع قال (إبليس): نعم يا سيدي وكذلك هو، ولكن خوف العار يطرد حب المال. قال: فأنت إذن لا تقبل. قال: ولا أرفض. . .

قال الشاب: قاتلك الله لقد فهمت سأشتريها منك بثمنين أحدهما لك والآخر لها، ولكن أخبرني كيف تصنع معها ومن أين تبلغ إليها؟ قال (إبليس): لما كنت بالسجن عرفت لصاً فاتكاً أعيا قومه خبثاً وشراً، وهذا السجن يحسبه الناس عقاباً وردعاً ومنهاة عن الإثم على أنه المدرسة التي تنشئها الحكومة بنفسها لتلقِّي علوم الجريمة من كبار أساتذتها، إذ لا يمكن أن يجتمع كبارهم في مكان من الأرض إلا فيه. فالسجن طريقة من طرق حل المشكلة الإنسانية ولكنه هو نفسه يحدث للإنسانية مشكلة لا تحل. قال الفتى: ويحك! أين يذهب

ص: 77

بك؟ إنما أرسلك إلى المرأة لا إلى السجن. قال: نعم ترسلني أنت إليها ولكن لا يعلم إلا الله أين يرسلني أبن عمها، إلى السجن أم إلى المستشفى. . . فاسمع يا سيدي، كان من نصائح أستاذي في ذلك السجن أن الحيلة على رجل ينبغي لإحكامها أن يكون في بعض أسبابها امرأة، والكيد لامرأة يجب أن يكون في بعض وسائله رجل. . . صه. انظر! انظر! فالتفت الشاب فإذا (الجمل) مقبل يتكفأ في مشيته، وكان غليظاً، فإذا خطأ شدَّ على الأرض بقدميه، وتكدس بعضه في بعض، وكان منطلقاً وقتئذ إلى بعض مذاهبه، فلما حاذاهما قال السلام عليكم. فردا جميعاً؛ ورمى ابنَ العمدة بنظرة ثم مضى لوجهه. فلم يجاوز غير بعيد حتى بلغه صوت الشاب يناديه: يا فلان! فانكفأ إليه: فقال له الشاب: لقد بعُد عهدك بالقوة على ما أرى. قال فما ذاك؟ قال: أما بلغك أن فلاناً في هذه القرية التي تجاورنا، سيقترن بزوجته بعد أيام. وأنت تعرف الموقعة التي كانت بين بلدنا وتلك البلدة يوم عرس فلان في السنة الماضية، وكيف اندفعوا على أهل بلدنا وحطموا فيهم تلك الحطمة الشديدة، ولولا أنت أدركتهم ورميتهم بنفسك حتى دفعتهم عن الناس وسقتهم أمامك سوق النعاج، لكانت بلدنا اليوم أذل البلاد، ولاستطالوا علينا بأنهم غلبونا. ولقد حدثني صاحبي هذا كيف تلقيت بهراوتك يومئذ خمساً وعشرين هراوة فأطرتها كلها في جولتك وهزمت أصحابها بعد أن أحاطوا بك وتكابُّواعليك؛ فأنت فخر بلدنا وصاحب زعامتها، وما أرى لك إلا أن تنتهز هذه الفرصة وتسرع الوثبة إليهم برجالك فتجزيهم في أرضهم صنيعاً بصنيع مثله

فهز الجمل كتفيه العريضتين وقال: بل سأنتظرهم في يوم عرسي بابنة عمي. . . قال الشاب: أبلغت؟ ما أرى فإنك لتخافهم! قال: لا أخافهم ولكن أخاف الحكومة أن تؤخر يوم زواجي. . . سنة أو سنتين. قال الفتى: فإن عملك هذا لا يشد من نفوس رجالنا، ولا بد أن أولئك سينتظرونكم ويعدون لكم؛ فإذا لم تناجزوهم في بلدهم عدوها عليكم هزيمة من الهزائم وكأنهم ضربوكم بلا ضرب

قال الجمل: هم لا يعرفون معنى الضرب بلا ضرب لأنهم رجال، والذي يضرب بلا ضرب لا يكون رجلاً. . . والسلام عليكم. . . ثم انطلق. فلما أبعد قال الشاب: لقد بدأت الحرب ولابد لي أن أحطم هذا الفلاح اللعين، ولقد عرفت الآن من وجهه أن عينه عليّ، ولست أشك في أن بنت عمه لا تمتنع بقوتها بل بقوته، ولولا معرفتي أنه من انحطاط

ص: 78

الغريزة كالوحش في الدفاع عن أنثاه لـ. . .

قال (إبليس): لقد تأملت القصة فرأيت أنه لا سبيل لك إلى الفتاة؛ فإذا هو وصل إلى امرأته قطعت أنت بهذه الخطوة نصف الطريق إليها. . . وستبلو هي من غلظته وخشونة طبعه ما يسهل لك أن تعلمها قيمة ظرفك ورقتك؛ وستجد من سوء معاملته وقبح تسلطه ما يفتح قلبها لمن يأتيها من قِبل الرفق واللين؛ وستصيب عنده من ضيق المعيشة وقلتها ويبسها ما يُفهمها معنى العيش الحلو الخضر الذي تعرضه عليها ثم أنه لابد مبتليها بغيرته العمياء بعد ما عرف من حبك إياها، والغيرة منك هي توجد بينهما دائماً ويتنبه المرأة إليك كلما كرهت من رجلها شيئاً لا ترضاه

ولم تكن إلا مدة يسيرة، حتى أهديت المرأة إلى زوجها، وإنما تعجل الزفاف ليأتي له أن ينصب يده القوية حجاباً بينهما وبين هذا المفتون، وليكتسب من القانون حقاً لم يكن من قبل إذا هو مد هذه اليد وعصر في قبضتها تلك الرقبة التي تتطلع إلى امرأته، ورأى الشاب أن هذه الحال لا تعتدل به وبخصمه معاً، وكانت الغيرة تأكل من قلبه أكلاً، وكان يعرض للمرأة كلما خرجت بمكتلها إلى السوق أو بجرتها إلى الماء، لأنه حينئذ يكون في الطريق الذي لا يملكه أحد. . . فكانت إذا رأته لم تزد على ما يكون منها إذا هي أبصرت حماراً يمد عينه إليها. فعمد إلى امرأة مغنية تزف العرائس، وهي التي زفت (الخضراء)، فأكرمها وأتحفها وسألها أن تسعفه ببعض ما تحتال به، وأن تكون سبيله إلى المرأة؛ وتحمل عليها (بإبليسه) حتى استوثق منها، فكانت تتحدث عنه أمام (خضراء)، وتستجرّ بذلك أن تلفتها إلى نعمته وجماله، ولكن المرأة أغلظت لها وسبتها وحذرتها أن تعود إلى مثل كلامها، قالت لها آخر ما قالت: وأعلمي أنني لو دُفعت إلى طريقين، وكان لابد من أحدهما، ثم كان أحدهما، حصاه الدنانير وهو الطريق العار، الآخر حصباؤه الجمر، ويفضي إلى الشرف إذن لتنزهت أن أدنس نعلي بالذهب ولنثرت لحم قدمي على الجمر نثراً.

وأما الحب فلا يبقى حباً أبداً، فإما فاز فبرد ورجع سلواً، وإما خاب فاضطرم وتحول إلى حقد ونقمة؛ وكذلك انفجر الشاب غيظاً، ووجد على الخيبة موجدة شديدة، وأخذ يدير رأيه، ففتقت له الحيلة أن يقتل الرجل الشهم بشهامته، والمرأة العفيفة بعفتها، فواطئ إبليسه على أن يدفع إلى تلك المغنية منديلاً من الحرير - عقد طرفه على دينار من الذهب - تلقيه في

ص: 79

صندوق (خضراء) وتدسه في طي من أطواء ثيابها، فذهبت المرأة ومازالت (بخضراء) تستصلحها وتعتذر إليها حتى استلت ضغينة قلبها، ثم سألتها أن تأتيها (بالعيش والملح) لتصيب كلتاهما منه وتتحرم بحرمته، فلما نهضت تأتيها أسرعت الخبيثة إلى الصندوق فدست المنديل في أبعد مواضعه وأخفاها، وكان مندى بالعطر لينم على نفسه إذا لم ينم أحد عليه؛ ثم رجعت بما فعلت إلى الشاب فأطلق خادمه يهمس لبعض أصدقاء الجمل أنه رأى اليوم في يد (خضراء) ديناراً ذهباً على ندرة الذهب وعزته، فجعل هذا الدينار يطير من نفس إلى نفس بقوة الذهب الذي فيه والحب الذي أعطاه والجمال الذي أخذه، ثم انتهى إلى الجمل فكأنما حمله وطار به إلى داره كالمجنون، وقد حمى دمه الحر وجاش جأشه العنيف، ولم تكن امرأته في الدار، فنثر ما في الصندوق وما كادت تفعمه رائحة العطر حتى نفخ الشيطان به نفخة الغضب الكافر، ثم عثر على المنديل ورأى بصيص الدينار فدارت به الأرض وأيقن أن العار قد طرق بابه وأن الباب قد فتح له؛ ثم رد نفسه على مكروهها ورد معها كل شئ إلى موضعه، وتلفف رأيه على جريمتين وخرج وروحه تصرخ من ضربة بمنديل وهو الذي كانت تتهاوى عليه الضربات القاتلة تهشم منه ولا يتأوه

وذكر أن (حماته) أثنت من عهد قريب على أبن العمدة ووصفته بالرقة والغنى، فوجه إليها أن تأتي فتبيت عند امرأته لأنه على سفر، وكان كالأعمى في ضلالته لا يرى الأشياء إلا كما يتخيلها في نفسه دون ما هي في نفسها، فسألته زوجته: أين أزمعت وما تبغي من سفرك وكم تلبث عنا؟ فكأنه سمعها تقول: ارحل إلى مكان بعيد وغب عنا زمناً طويلاً فبنا إلى غيابك حاجة شديدة، وكاد يبطش بها ولكنه كاتم صدره اللوعة وذكر اسم جهة بعيدة ومضى ولانكسار يعرف فيه

فزع الناس بعد أيام في جوف الليل فإذا بيت الجمل يحترق من أرضه وسمائه واقتحموه فإذا المرأة وأمها فحمتان، وانطلقت أسرار الألسنة وقبض على الرجل في بلدة أخرى، وتولى ابن العمدة توجيه البينة عليه، وشهد الشهود على الدينار، وشهد الدينار على النار، وأنكر (الجمل) ولم يقصر في إقامة الحجة، ودافع عن امرأته وبالغ في أمانتها وعفتها، وشهد أنه لا يعلم عليها من سوء وأنها أطهر النساء وأبرهن، ثم كان الحكم أن قضى عليه بالموت شنقاً

ص: 80

فلما كان يوم إنفاذ الحكم سئل الرجل: هل من شئ تريده؟ فطلب دخينة فقدمها له قيم السجن فأشعلها ونفخ من دخانها نفخة ثم أخذ يتكلم وعمره يفنى مع الدخينة نفساً في نفس، وعاد هذا الدخان المتطاير كأنه سحاب يسبح فيه الوحي بين حدود الدنيا وحدود الآخرة. قال المسكين: لم أتعلم، ولو تعلمت ما وقفت هنا، ولكن ربما كنت خرجت نذلاً كبعض المتعلمين الذين يعيشون أشرافاً وفيهم أرواح القتلة واللصوص.

لم أقر لأحد بجريمتي خشية أن تذكر كلمة العار مع أسمي، وآثرت أن أموت بالشنق على أن أحيا ويموت اسمي بالعار

ولكني سأعترف الآن أمامكم، وأنتم الساعة على قبري فكونوا كالملائكة: لا يشهدون بما عرفوا إلا عند الله وحده

أعترف أني قتلت زوجتي وأمها، وقد تقولون إنه ليس من عمل الرجل أن يقتل امرأة فضلاً عن اثنتين. إنني رجل سأشنق؛ أما النساء فلا يشنقن وإنما يُرسلن الرجال إلى المشنقة. . لم أر أبي إذ تركني طفلاً، ولكن يقال إنه كان رجلاً، فأنا رجل وأبن رجل ولم يذلني رجل قط؛ ولكن لو خلق الله قوة مائة جبار في جسم رجل واحد لأذلته امرأة

إنه ليس من شيمة الرجل أن يقتل النساء؛ ولكن المرأة تذل الرجل ذلاً يهون عليه قتل نفسه فكيف لا يهوِّن عليه قتلها؟ علموا المتعلمين ليصيروا في الشرف والأمانة والعفة كرجل جاهل مثلي، لا يرى للحياة كلها قيمة إذا كان فيها معنى العار، ويقدم عنقه للمشنقة حتى لا ينكس رأسه للذل

أصلحوا القانون الذي يحكم بالموت شنقاً ويزهق الأرواح الكبيرة في حين تغلبه الأرواح الصغيرة بحيلها الدنيئة

ومع ذلك سألقي الله وهو يعلم سريرتي إن كنت بريئاً أو مجرماً

قيم السجن: ستلقاه طاهراً

السجين: أريتم مني خلق سوء. . . .؟ أتعتقد علي ذنباً مدة سجني؟

القيم: كلنا راضون عنك

السجين: هذا مثل من أخلاقي والحمد الله على أن آخر كلمة أسمعها من إنسان على الأرض كلمة الرضا

ص: 81

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

اشهد أن لا إله إلا الله. وأن محمداً رسول الله

نظرت ريشة من زغب العصفور إلى النجوم فحسبتها ريشاً متناثراً، فامتطت العاصفة وقالت: إلى السماء، ودارت بها العاصفة ما شاء الله أن تدور ثم رمت بها حيث وقعت لم تبال في موضع نفع أو ضير. فأقبلت الريشة تتسخط وتزعم أنها فوضى ثائرة لا حكمة في خلقه، وأن الرياح بعثرة في نظام العالم. . . وكان إلى جانبها شجرة تهتز ولا تطير. . . فلما وعت مقالتها أقبلت عليها فقالت: أيتها الريشة! إن الرياح لا تكون بعثرة في نظام العالم إلا إذا كان العالم ريشاً كله

مصطفى صادق الرافعي

-

ص: 82

‌الشيطان ذو الأجنحة

إن لسكان جزيرة سيلان أسطورة مقدسة تخبر بالشعر عن تاريخ سيلان مدة تزيد عن أربعة وعشرين جيلاً. ويستنتج من هذه الأسطورة أن الجزيرة التي زارها بوذا مراراً كي ينشر فيها تعاليمه بنفسه مرت بعهود من الرفاهية لم تعرف مثلها إلى لك الوقت، ومن المحتمل أن يكون سكانها اكثر عدداً من الآن، فآثار الهياكل الكثيرة والبحيرات الاصطناعية التي أهملوها لا تزال برهاناً على ذلك.

ولا داعي للبحث بعيداً جداً عن أسباب نقص عدد السكان فالجزيرة المباركة قد اجتاحها مراراً المرض الوبائي بقساوة فإن أهالي الجزيرة وكذلك أيضاً البرتغاليين الذين احتلوها في الجيل السادس عشر والهولانديين الذين طردوا هؤلاء وأخيراً الإنجليز الذين ملكوا بعد ذلك سيلان قد قاسوا كثيراً من تفشي هذا الوباء، وقد نشر الهولانديون أيضاً سنة 1642 خريطة عن سيلان وقد تركت مناطق كاملة بيضاء مع أنه لم يكن المقصود من ذلك أنها أراض مجهولة إذ كان الإنسان يقرأ على هذه البقع البيضاء هذه الكلمات التي لا تدع مجالاً للشك جهات أفقرها المرض.

ففي سنة 238 مسيحية على عهد (دهامابو) قد اجتاحت الحميات والأمراض هذه المناطق وأهلكت السكان على ما يؤكده الرواة بدرجة، أنهم عجزوا عن أن يزرعوا الأرز وقد نتج عن ذلك مجاعة طويلة المدى فنسوا هذه البلية إلى حين الشيطان ذي الجوانح وسعوا إلى لتجنبه بواسطة الرقص حسب الطقوس الدينية ولكن الرواة يؤكدون أن سكان سيلان لم يجدوا السعادة مع ذلك طالما أن الشيطان ذو الأجنحة السوداء لم يقتل بعد.

وقد قامت الحكومة الإنجليزية بمحاربة بعوض الملاريا بنشاط كبير في سيلان يمكن الإنسان أن يأمن الآن بعد ثمانية عشر جيلاً بأن الساعة قد حانت أخيراً كي يرى نهاية حكم الشيطان ذي الجوانح كما يقول الرواة. وقد بنوا أيضاً مستشفيات كثيرة. وفي بحر هذه السنوات الأخيرة عندما عمت الملاريا بشكل وبائي قد وزعوا مراراً ألوف الجرامات من الكينا خلال ستة أشهر إما على سبيل الوقاية وإما على سبيل التداوي، والطريقة التي تصفها لجنة الملاريا في جمعية الأمم تلخص في تطبيق العلاج السريع بالكينا أي مقدار جرام واحد أو جرام وثلاثين سنتجرام يومياً مدة خمسة أو سبعة أيام وهي سلاح قوي لشعب يجند بأكمله ضد الشيطان ذي الأجنحة وتوصى على سبيل الوقاية بأخذ 450

ص: 83

ملجرام من الكينا يومياً طول مدة موسم الحميات.

ص: 84