الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 359
- بتاريخ: 20 - 05 - 1940
مصطفى كامل
بعد ثلث قرن
بمناسبة إزاحة الستار عن تمثاله
كل شيء في مصر ينسى بعد حين كما قال شوقي وليست مصر بدعاً من الأمم في ذلك. فإن الرجل أو العمل لا ينطبع ذكره في الذهن إلا إذا كان ندى الصوت قوي الأثر. ومصر في عهدها القريب إنما كانت تجري في خلاء من التاريخ لا يكاد يظهر فيه إلا فقاعة تنفجر أو ومضة تنطفئ. وليس لهذه أو تلك من الأثر ما يملأ الشعور ويشغل الذاكرة
على أن السائر في الصحراء مهما ضعف وعيه واشتدت غفلته لا بد أن يذكر المنار الذي دله على الطريق، والواحة التي أعادته إلى الحياة. وهيهات أن تعرض القلوب عن ذكر محمد علي ومصطفى كامل وسعد. وإذا جاز للزمن العابث أن ينال من رجل الدولة أو بطل الثورة فإن مصطفى كاملاً يظل على تراخي الحقب أنوط بالقلب وأعلق بالذاكرة. ذلك لأن زعامته كانت أشبه بالنبوة في تهيئة الفطرة وثبات العقيدة وعصمة النفس واختيار القدر. وهو الزعيم الوحيد الذي لم تلده الظروف، ولم تبعثه المطامع: لم تلده الظروف لأن مصر كانت في إبان حداثته قد استأمنت إلى الجهل والاحتلال فنامت في ظلها نومة الضاجع الأبله. وكانت دعوة الأفغاني قد جمعت من ومضات الأذهان النيرة شعلة أضاءت جانب الطريق فسلكه العرابيون؛ ولكنهم لم يكادوا يبعدون حتى أدركهم الظلام في التل الكبير. فلا يصح في العقل إذن أن نقول إن مصطفى كان أثراً للأفغاني وعرابي، كما نقول أن سعداً بعد عبقريته كان أثراً لهؤلاء الثلاثة. إنما أرسل المصطفى على فترة من رسل الوطنية. وكان إرهاصة وهو في المدرسة الثانوية أن الوزير علي مبارك باشا زار مدرسته يوماً فسأله فيمن سأل من التلاميذ: ماذا اعتزم أن يعمل بعد الشهادة؟ فأجابه مصطفى اليافع في خطاب طويل: (إن أرفع الرجال شأناً من يحرر بلاده. وسأكون أنا ذلك المحرر الذي يكتب ويخطب حتى ترفع الأغلال عن عنق مصر). وكان إرهاصه وهو في مدرسة الحقوق أن أنشأ مجلة سماها (المدرسة) أشرقت فيها نفسه الكريمة إشراقة النفس الزعيمة، فتهافت على ضوئه طلاب المدارس العليا يؤيدون دعوته ويرددون كلمته ويترسمون خطاه، حتى نال إجازة الحقوق ففرغ لرسالته وخلص لوطنه. وحينئذ رأيناه يكتب إلى أمه الروحية مدام
جوليت آدم يقول: (إنني لا أزال صغيراً، ولكن لي آمالاً كباراً. أريد أن أوقظ في مصر الشيخة مصر الفتاة. هم يقولون أن وطني لا وجود له؛ وأنا أقول إنه موجود بدليل ما أشعر له في نفسي من الحب الشديد الذي سيتغلب على كل حب سواه سأنفق في سبيله كل قواي، وأفديه بشبابي، وأجعل حياتي وقفاً عليه. . .)
ثم اضطرمت في ذلك الجسد الناحل روح الله ففار فورة الجبارين، وثبت ثبات الرسل، وقام في وحدة النبي وإيمان الشهيد يجاهد الإشراك بالوطن والكفران بالأمة، ويقارع بالحجج الثائرة الملزمة طغيان المحتل، وأمته يومئذ علة العلل ودولة الدول!
ومصفى لم تبعثه المطامع، لأنه أدرك وهو في طراءة الشباب زعامة الأمة وثقة العرش ورضى الخلافة وخصومة المحتل، وكان في مقدوره إذا شاء أن يستغل هذه القوى العظيمة في سبيل الثراء والحكم، ولكنه زهد في ذلك كله زهادة الحكيم، فعاش للمبدأ والفكرة، ومات للقدرة والعبرة
وهل أدل على نزاهة مصطفى ونبل نفسه من نبوه على عباس وانحرافه عنه حين رآه يستيئس ويستكين بعد الاتفاق الودي الذي أبرم بين إنجلترا وفرنسا سنة 1904؟ لقد كان في مسايرة الخديوية ومياسرة الاحتلال ما شاء الطامع من جاه وألقاب وسطوة وثروة. ولكن مصطفى كان يريد أن يقود لا أن يسود، ويطلب أن يخدم لا أن يحكم. والزعيم الحق هو الذي يدافع عن أمته ولا يحاول أن يحكمها. لأنه متى حكمها أدركته حقارة الإنسان فاستطال وترفع وفاش وطاش حتى يصعب عليه أن يوفق بين رغائب نفسه وبين مطالب الناس!
وهكذا قضى الصدق في الجهاد والإخلاص للمبدأ على مصطفى العليل الواهن أن يحرك ساكن شعبه بوجيب قلبه، ويذكي خمود جيله بحرارة دمه، ويضيء ظلام وطنه بوميض روحه؛ ثم يموت رضوان الله عليه ميتة الأنبياء، لا (عمائر) تحجب سماء المدن، ولا (دوائر) تشغل أرض القرى
لو أن زعيمنا الخالد كان قد سعى ما سعى لينال كرسياً في (وزارة) أو مكتباً في (شركة) لما أقمنا له هذا التمثال بعد ثلث قرن؛ فإن الزعيم الذي يجعل همه السياسي أن ينتفخ لغدوده وجيبه لا يمكن أن يعيش في ذاكرة الناس هذا العمر. ولكن مصطفى عاش كأصغرنا وسعى كأقدرنا ومات كأفقرنا، فكان حقاً علينا أن نقيم تمثاله رمزاً للوطنية التي لا تتاجر،
والوطني الذي لا يداجى، والزعيم الذي لا يخون
أحمد حسن الزيات
الورق الأزرق
للأستاذ عباس محمود العقاد
إلى الورق!
إلى الورق مرة أخرى!
فلا وسيلة غيره على ما يظهر لحفظ النور ولو أطبق الديجور، وأحاط بالدور ظلام كظلام القبور
وقديماً عرف الناس الورق الذي يحفظ النور للعقول والسرائر وهاهم أولاء يعرفون الورق الذي يحفظ النور للعيون، حين يصبح النور خطراً من أكبر الأخطار
وهل كان النور قط إلا خطراً من أكبر الأخطار، وهدفاً للشياطين والفجار، وللجهلاء والأغرار، ولكل من يكره الإبصار، لأنه مخلوق لعالم العماية، غريب في عالم الأبصار؟!
من الذي ضربوه لأنه في الظلام؟ ومن الذي تركوه لأنه في النور؟
إن الذي في الظلام لآمن مستور
وأن الذي هو هدف الرماة في الحرب والسلم وفي الأرض والهواء وفي الغيبة والحضور، لهو الذي في النور في هذه العصور وفي جميع العصور
وما صنعت (وقاية المدنيين) في أيامنا هذه إلا أن كشفت السر (للجمهور)، وهو أغنى الأسرار عن الكشف وأحقها بالظهور.
والأمر هين بحمد الله: لفة من الورق الأزرق أو لفتان أو لفات ثلاث، والنور محفوظ لعينيك من وراء الحجرات، محجوب عن طيارات الخيال وطيارات الواقع. . . لا سمحت بها السماء، ولا اتسع لها الفضاء
وإني لأحمد الله على تجارب الوقاية، لأنها خليقة أن تحبب الاعتكاف إلى أكثر الناس، وإن كان بعض الناس ليخافون العزلة أشد من خوفهم أخطار التجارب والغارات
ونحن المصريين محتاجون إلى تجربة الاعتكاف، لأننا من أقل الأمم طاقة به وصبراً عليه. وما ظنك بمصري يمكث في بيته ثلاثة أيام لا يريمه ولا يبرم بمكثه فيه؟ ذلك في رأي نفسه شهيد أعجب في استشهاده من ماكسويني وصبره عن الطعام ستين يوماً أو تزيد!!
والاستقلال بالنفس نعمة من نعم الأخلاق نود لو وفر منها حظ هذه الأمة في بداية استقلالها وفي تجاربها التي تجربها لحماية حوزتها ورد العادية عنها
لأن الرجل الذي يعيش بين الجماهير ولا ينعم بالوقت إلا وهو غارق في غمارها مدفوع في تيارها هو رجل ضائع في الزحام، أو صفر لا ينفرد عما جاوره من الأرقام، أو هو شخصية بغير استقلال وبغير حدود، كأنه يأخذ حياته على المشاع ولا يأخذها مستقلة معروفة الحدود والأقسام
فمن الواجب أن يستطيع الإنسان الاعتكاف في بيته والاعتكاف في شخصه، وأن يكون مالكاً لزمام نفسه ولا يكون مملوكاً لزحام المجالس وضجة الرائحين والغادين على المشاع
وأعجب ما يلحظ في هذا الباب أن الأمم التي تعرف العزلة وتطيق الانفراد هي أصلح الأمم للاجتماع وأقدرها على سياسة الناس
ونقول أعجب ما يلحظ ولا نعني إلا العجب في الظاهر دون الحقيقة الواقعة، وإلا فاستقلال النفس ضمان الحرص على الحقوق وأن يكون لكل حده الذي يقف عنده ولا يخطو وراءه، وأن يضن بحريته ولا يجور على حرية غيره، وتلك هي أكرم صفات الاجتماع والمقارنة، وهي هي لبابها صفة الاستقلال والقدرة على الانفراد
وفي العصر الحديث مخترعات كثيرة تعين على العزلة من يشاء أن يعان عليها
فالكتاب والصحيفة جليسان أنيسان، والمذياع ينقل العالم إلى البيت فينفي الوحشة ويعود من يصغي إليه أن ينفرد وأن يقنع بالقليل من الجلساء، ثم هذه التجارب التي نجرب بها قوة نفوسنا وقوة مدافعنا: أليس فيها معين على الاستقلال من غير ناحية الحرب والأهبة للدفاع؟
بلى! فإنها لتنقل الوحشة إلى الطريق أو إلى المجالس العامة، فينفر منها من تعود الأنس فيها وعز عليه أن يصيبه بمعزل عنها
وتعلمنا أن نركن إلى نفوسنا، وأن نغوص في أعماق ضمائرنا وأن نجد فيها ذخيرة تغنينا وتشبعنا فلا نشكو الخلو في الخلوة، ولا نبحث عن القوة في كل مكان إلا المكان الذي ننفرد فيه
ولعلنا إذ نتعود الخلوة ينتهي بنا الأمر أن نحسبها خلوة اطمئنان إلى النفس والأقربين، لا خلوة الخوف من العدو المغير والفزع مما يضمره الفضاء أو القضاء
فمن الناس من يذكرون الغارات فيبالغون في الحذر والحيطة ويظنون أن الدنيا كلها خطر ذو عيون وأقدام، وأن القنابل تبحث عنهم في كل مكان
ومنهم من يذكرون الغارات فيبالغون في التواكل ويقولون كما يقول المتواكلون في أوربا: إن يكن أسمك مكتوباً على قنبلة فلا فائدة من الوقاية ولا أمل في النجاة
ومنهم قوام بين ذلك لا ينزعجون ولا يهملون، ولكنهم (يعقلون ويتوكلون) أو يحسبون الحساب وهم مطمئنون، لأنهم فرغوا من واجب الاحتراس فلم يبقى إلا واجب الاطمئنان
فالإهمال لا يليق بكرامة الإنسان ولا بالمزايا الآدمية، لأنه أشبه بصفات الحيوان السائم الذي لا يدري ما يضره وما ينفعه ولا يتصرف في مقاومة الحوادث التي تهدده واجتناب الهلاك الذي يفرض عليه اجتنابه
أما المبالغة في الاحتراس والوسواس فهي الجبن الذميم بعينه؛ وليس بين الصفات التي تشين الإنسان اقبح من صفة الجبان
ولقد دلت التجارب في أوربا على فائدة لهذه التجارب غير الفائدة المقصود منها، وهي نقص الجرائم والسرقات في هذه الأوقات خلافاً لما كان مظنوناً في البداية
وعللوا نقص الجرائم والسرقات بأمور كثيرة نشترك في بعضها وتنفرد الأقطار الغربية ببعضها الذي لا نجاريها فيه، والحمد لله مرة أخرى
فمن هذه الأمور كثرة الحراس ورجال الأمن القائمين بالتجربة في الطرقات
ومنها شكوك اللصوص إذ يميزون في أوقات السلم بين البيت النائم والبيت اليقظان ولكنهم يعجزون عن تمييز هذا وذاك متى تساوى الظلام في جميع الأنحاء
ومنها - ولعله أهمها في أوربا وأضعفها عندنا - أن السراق يصعب عليهم الهرب بالسيارات بعد اقتراف الجريمة لتقييد حركة السيارات وتشديد الرقابة عليها
ولا ندري علام تسفر التجربة في بلادنا ولم يبلغ لصوصنا بحمد الله مبلغ اللصوص الموسرين الذين يعتمدون على الهرب في السيارات، ولا يزالون يهربون على الأقدام كما كانوا يهربون قبل ألف عام، في ظلام كان يخيم على الأيقاظ والنيام، في أيام الحرب أو أيام السلام؟
والذاكرون للحرب الماضية في بلادنا لا ينسون حوادث النشالين بالليل والنهار، وقلما سلم
منهم إنسان
ولعلهم أول من اخترع من زمرة اللصوص رد الأمانات إلى أصحابها متى استغنوا عنها. . .!
فقد كانوا يأخذون لأنفسهم الورق النفيس ثم يلقون بالمحفظة أو الكيس في صناديق البريد، فيعود ما فيه من المحفوظات إلى أصحابه، ولعله أنفس لديهم من النقود
إلا مرة واحدة - أو مرة واحدة على ما نعلم نحن - أخذوا فيها المحفظة كلها وليس فيها نقود ولا ورق أنفس من النقود
وذاك أن صديقاً لنا أديباً خرج يوماً من عند المصور وفي جيبه محفظة - أو غلاف من الورق على الأصح - فيه أثنتا عشرة صورة شمسية لا تنفع أحداً غيره
قال لنا: سأذهب إلى مكتب البريد القريب فلا شك عندي في رجعتها
ولكنه ذهب وعاود الذهاب والمحفظة الذاهبة لا تعود
فحار في أمر هؤلاء اللصوص، وسأل موظف البريد مرة وقد كان من الظرفاء:(عجبي لهم ما بالهم لا يردون هذه الصور التي لا قيمة لها عندهم وهم يردون الوثائق والسفاتج والأسانيد التي قد تشترى وتباع؟)
قال موظف البريد متظاهراً بالدهشة: (أتقول لا قيمة لها عندهم يا أستاذ؟ كيف هذا؟ إنهم لو وزعوها على زملائهم لأراحوا أنفسهم على الأقل من اثنتي عشرة محاولة أخرى بغير فائدة!
وهذه من طرائف النشالين في الحرب الماضية، ولكن طرائف النشالين خاصة ليست بالتي يستحب فيها التكرار أو التي تؤمن في جميع التجارب. فلا نخال أن أحداً سيتفقدها في الحرب الحاضرة، أو يلوم الحكومة على وقاية المدنيين منها!
بدأت أكتب هذا المقال من وراء الورق الأزرق الذي يحجب السماء وفيه شبه منها
ثم فتحت النافذة فإذا السماء تشاركنا في التجربة من طرفيها فهي كالمدنيين تحجب ضياءها، وهي كالمغيرين ترسل غبارها وحصباءها
قلت: الحمد لله مرة أخرى!
إذا اشتركت السماء في التجربة فلا خوف مما يرسله الفضاء، وعسى أن تمضي التجربة
وهذه الغارات الوهمية أقصى ما نعانيه في بلادنا، فتظل في حرز من الغارات الحقة إلى يوم السلام.
عباس محمود العقاد
في سبيل الأزهر أيضاً
فائدة الأربعاء
للأستاذ محمد محمد المدني
أعتقد أن (الرسالة) لم تأت فيما مضى من تاريخها بمثل هذا العنوان، ولولا أن أدخل في الحكومة بعض الغيب - كما يقول الجاحظ - لزعمت أنها لن تأتي بمثله في مستقبل عمرها الطويل!
وأعتقد أيضاً أن كل معنى من المعاني التي يحتملها هذا التركيب سيرد على الذهن إلا معنى واحداً: هو معناه المقصود!
(الأربعاء)، يا سيدي القاريء، هو اليوم الخامس من أيام الأسبوع كما تعلم؛ أما الذي لا تعلمه - ولم أكن أنا أيضاً أعلمه - حتى علمته بالأمس القريب، فهو أن لهذا اليوم فائدة، وأن هذه الفائدة هي موضوع تحقيق علمي من الطراز الأول، لا يقوم به رجل من عامة العلماء، أو من صغار رجال الأزهر، ولكن يقوم به عالم خطير وفيلسوف كبير قد عرف بأنه فيلسوف الإسلام والمسلمين، وتبوأ مقعده من جماعة كبار العلماء منذ زمن طويل!
وهي لهذا جديرة بأن نجعل منها مقال اليوم، فنشغل بها قراء (الرسالة) هذا الأسبوع، كما اشتغل بها في الأسبوع الماضي قراء مجلة أخرى حين نشر البحث فيها باحثه الجليل!
كتب كاتب من (قنا) إلى الشيخ الكبير قال:
(إن كثيراً من أهل قنا وضواحيها وغيرها من البلدان، خصوصاً بعض أهالي جرجا، قد اعتادوا أن يقوموا بعمل فائدة تسمى: (فائدة الأربعاء)، وميعادها قبل الظهر بساعة تقريباً في اليوم المذكور من كل أسبوع بضريح سيدي عبد الرحيم القنوي رضي الله عنه؛ والجميع - يا صاحب الفضيلة - يعتقدون نفعها ويرجون بركتها، وهي مجربة بين الآلاف المؤلفة من المسلمين.
وإلى فضيلتكم كيفية هذه الفائدة:
(يذهب من أراد قضاء حاجة (هكذا)، أو تفريج كربة في اليوم والوقت المذكورين سالفاً، ويجلس في ضريح سيدي عبد الله القرشي - وهو على مسافة قريبة من ضريح سيدي عبد الرحيم رضي الله عنهما - ويكون على وضوء، ثم يقرأ سورة يس مرة أو ثلاث مرات،
بنية قضاء الحاجة، أو تفريج الكربة، وبعد ذلك يخرج من الضريح، ثم يصلي ركعتين لله تعالى بنية قضاء الحاجة أيضاً، وهو عاري الرأس، في مكان متوسط بين الضريحين، وبعد تمام هاتين الركعتين يأخذ عمامته في يده وحذائه تحت إبطه، ويتوجه إلى ضريح سيدي عبد الرحيم، ثم يتجه إلى القبلة، ويدعو بالدعاء الآتي عاري الرأس أيضاً: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بحبيبك محمد صلى الله عليه وسلم، وبأبينا آدم، وأمنا حواء، وما تناسل بينهما من الأنبياء والمرسلين، والأولياء والصالحين، وبعبدك هذا سيدي عبد الرحيم، أن تقضي حاجتي، وهي كذا. . .)
قال السائل: ولكن ظهر في هذه الأيام عالم من المتصدين للوعظ والإرشاد، ينكر هذه الفائدة قائلا: إن هذه الفائدة لم تكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد خلفائه الراشدين. ولقد حدثت فتنة كبيرة بسبب ذلك بين المعتقدين لها، وبين العالم المذكور، لذلك رأيت أنا ولفيف من إخواني المسلمين أن نلجأ إلى فضيلتكم لتفتونا في هذه الفائدة لنكون على بصيرة منها لما نعهده فيكم من العلم، والحرص على نفع المسلمين، وتعريفهم أمور دينهم الخ)
هذه هي القضية! فماذا قال فيها (أبو حسن!)؟
قال - نفع الله الناس بعلمه -:
(الجواب عما سألت عنه من فائدة يوم الأربعاء، أن ذلك جائز لا شك فيه، بل هو مرجو البركة، وبركة الأولياء لا ينكرها إلا مخذول. ولست أدري: أي شيء في ذلك؟ وهل فيه إلا عدة أمور بعضها جائز، وبعضها مندوب إليه؟ ولا شك أن المساجد محل الرحمات والبركات، والتوسل بالأولياء والصالحين جائز لا شيء فيه، وقد ورد الأمر به، وفي الحديث عن عثمان بن حنيف وأظنهم يعرفون!) ولست أدري من هم الذين يظنهم مولانا؟؟
ولعله يريد الواعظ المسكين الذي يشير إليه صاحب السؤال!
قال الشيخ: وتوسل عمر بالعباس، ولو كان الأمر على ما ظن هؤلاء ما صح أن يقول عمر: اللهم إنا نتوسل إليك بعم نبيك العباس، والمتوسل طالب من الله، مستشفع إليه بأحبابه فلا معنى لتلك الترهات، لأن لهم منزلة عند الله، وسيشفعون بمقتضاها في الآخرة، والأولياء أحياء عند ربهم يرزقون، ومن اعتقد أن من ينتقل من الدنيا يلتحق بالعدم فهو
مكذب أو جاهل بما ورد في ذلك من المتواترات. . . الخ. . . الخ
ثم قال بارك الله للمسلمين في حياته:
(وبعد، فلست أدري لماذا لا يشنون الغارة على المنكرات في المجمع عليها؟ وما أجدرنا أن نخاطبهم بقول الشاعر:
أفتتركون المنكرات سَبَهلَلاً؟
…
وتحاسبون على اقتراف الذَّرَّةِ
أفتصلحون البيت من شرفاته؟
…
ما أنتمُ إلا كأهل الكوفةِ الخ
عفواً، يا قراء الرسالة وصبراً، فإنما أردت أن أهدي إليكم طرفة من الطرف التي وعدتكم بها يوم كتبت مقالي الأول (في سبيل الأزهر) وقد أبى الله إلا أن تجيء هذه الطرفة من حيث لا أحتسب، على يد أستاذ مبرز من جماعة كبار العلماء في الأزهر الشريف!
ولست أريد أن أنقد هذه الفتوى، لأني رجل من صغار العلماء، وليس من الأدب الذي درجنا عليه وأخذنا به أن يتطاول الصغير إلى مقام الكبير. وفي منصب الإفتاء رجل علاّمة ثَبَت محقق، هو صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ عبد المجيد سليم، يعرفه الناس فقيهاً جيد الفقه، وبصيراً بما يتناول منه؛ وعند جهينة الخبر اليقين!
ولكني أقتصر فيما يتعلق بهذه الفتوى على تسجيل بعض (الظواهر) واستجلاء بعض (الغوامض)
السؤال الذي بنيت عليه الفتوى يعرض المسألة على أنها عقيدة لإقليم من أقاليم مصر العليا، ويذكر أنها أمر من أمور الدين وأنه حدثت بسببها فتنة كبيرة بين عالم واعظ وبين معتقديها: هم يتمسكون بما يعلمون منها، وهو يقول لهم: لم تكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا خلفائه الراشدين
فكيف عالجت الفتوى هذه النواحي:
إنها أقرت المعتقدين على ما يعتقدون، فذكرت لهم أن هذا جائز لا شك فيه، واستدللت على ذلك بأن هذه العملية ما هي إلا مركبة من أمور بعضها جائز، وبعضها مندوب إليه، وأن التوسل على هذا النحو وغيره مأمور به في الحديث
أما ما يخص العالم الواعظ منها فهو قول الشيخ: (وبركة الأولياء لا ينكرها إلا مخذول) و (أظنهم يعرفون!) و (لا معنى لتلك الترهات) و (ومن اعتقد كذا فهو مكذب أو جاهل بما
تواتر. . . الخ)
وتخرج الفتوى بعد ذلك عن نطاق ما هي فيه، فتنكر على الناس أن يتعلقوا بصغائر الأمور دون كبارها، وأن يتركوا المنكرات المجمع عليها (سبهللاً) ويحاسبون على اقتراف الذرة. الخ
هذا ما أردت أن أسجله من ظواهر الفتوى. ويجب أن يفهم هنا أنه لا شان لي بالتوسل بالأولياء جائز أو غير جائز، ولا بأنه قد أمر به في الحديث أو لم يؤمر به في الحديث
ولا شأن لي بحياة الأولياء عند ربهم، ولا بكيفيتها، ولا بنوع العمل الذي يدخل في قدرتهم بعد موتهم، أو الذي لا يدخل لا شأن لي بشيء من ذلك كله، فقد تكلم فيه الناس كثيراً وللشيخ فيه جولات، ولخصومه جولات! كما للشيخ في حياة الأرواح وعجائب الأرواح جولات، ولا نحب أن نشغل بشيء من ذلك قراء الرسالة
ولكني أتساءل: أيكفي أن يكون شيء مركباً من أشياء بعضها جائز وبعضها مندوب إليه ليكون حقيقة معترفاً بها من الشرع؟ حتى لو لفق ملفق بين عدة مندوبات وعدة واجبات أو جائزات، وأنشأ من ذلك عبادة يلتزمها ويتقرب إلى الله بها على وضع خاص لما كان في ذلك ملوماً؟
ثم ما هي المسائل التي هي منكرات مجمع عليها، وقد تركت من غير بيان حتى صارت (سبهللا) بهذا التعبير الظريف؟
وما الموازنة بين هذه المسائل المعروفة التي أجمع الناس على تحريمها، والمسائل التي شغف كثير من الناس أن يلبسوها ثوب الدين وما هي من الدين؟
وإني لأتوجه بعد ذلك إلى أستاذنا الكبير الشيخ محمد عبد اللطيف دراز مفتش الوعظ والإرشاد لأساله: ماذا فعل الله بهذا الواعظ المسكين الذي أنكر (فائدة الأربعاء)، وأثار عليه الشيخ هذه الحرب الشعواء؟ أتركته إدارة الوعظ بين هؤلاء القوم محصوراً لعلهم يقضون عليه، أو يسيئون إليه. أم أنقذت المسلمين في قنا وضواحي قنا منه إن كانت تعتقد أنه شر ووبال؟
أما بعد:
فإني أقول لأصدقائي وشيوخي الذين أثارتهم كلمتي السابقة، فعلقوا عليها قولاً وكتابة بأقوال
وألوان شتى من (التعليقات): إني أحب الأزهر كحبكم، وأنا فيما اعتقد أشد له حباً، ولكني أكره هذا اللون من ال. . . ولا أقول كما قلت في المرة السابقة من التسكع العلمي، ولكني أقول: من (التلطف العلمي!)
في الوقت الذي يشتغل العالم فيه بحرب عامة، أقامت الدول وأقعدتها، ويوشك لظاها أن يأتي على الأخضر واليابس من الأموال والأنفس والثمرات
لا تشغلوا الناس بهذا النوع من الأبحاث في الوقت الذي يستمعون فيه كل يوم إلى أخبار الطائرات التي تمخر عباب الجو، والمظلات الواقية التي تتساقط بها الجنود جيوشاً من السماء!
إننا نسمع ذلك، ونسمع من ورائه أحاديث الناس فينا، وأقوالهم عنا، فهل يجوز مع هذا وذاك أن تشغل الناس (بحديث الأربعاء)؟
استغفر الله العظيم! فإن (حديث الأربعاء) عنوان قديم لكاتب لا أحبه، كان يتحدث فيه عن الأدب والأدباء، وإنما أردت أن أقول:(فائدة الأربعاء) فنسيت، وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره!
وعلى ذكر الشيطان، أهمس في أذن الذين ما زالوا يشغلون أنفسهم ويشغلون الناس بأمره: لست صاحب الموضوع، وإن صاحبه لمعروف لكم غير مجهول، فناقشوه صرحاء، ولا تجعلوني بينكم وبينه ترساً إن كنتم تجدون
محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة
نابليون الأديب
للأستاذ صلاح الدين المنجد
حدثوا أن نابليون كان يرنو ذات يوم إلى البحر الساجي في (سنت هيلين)، يفكر في أمره: كيف صفق له النصر، وابتسمت له الدنيا، وكيف خانه الزمن فأودى به إلى هذه الجزيرة الغرقى وسط البحار. . . فابتسم وصاح: إن حياتي لرواية رائعة، ما كان ضرني لو كتبتها
على أن نابليون إن لم يسجل هذه الرواية بنفسه، فقد سجلها التاريخ، وحفظها الناس فأكبروا منه ذلك الجبروت الطاغي وتلك العزة الرفيعة. وكأن نابليون أراد أن يجمع إلى خلود البطولة والعظمة، خلود الأدب والفن، فود لو يكتب مؤلف
ولقد ذهب (سانت بوف) شيخ النقد في فرنسة، إلى أن نابليون كان أكبر أديب عرفه عصره. واحتج لذلك بروائع خطبه التي كانت تنعش الأمل الذاوي، وتحيي القلب اليائس.
ألم يغر جنوده العراة بكنوز إيطاليا ومحاسنها؟ ألم يكلم الهرم ويجعل القرون تنظر إلى أشبال فرنسة الفاتحين. . . ألم يسكب الحياة في نفوس فرسانه، هناك في سهول أوسترليتز. . .؟ فلقد كانت فصاحة لسانه وبلاغة بيانه تؤثران في كل قلب، وتنفذان إلى كل روح؛ والفصاحة والبلاغة بنتا الأدب البكر الجميل
ولقد ذهب (جاك بانفيل) الكاتب الفرنسي الكبير إلى ما ذهب إليه (سانت بوف) من قبل. ورجع ذلك إلى أن آل بونابرت كانوا ذوي بلاغة تخلب ومنطق يغري، وأن قلوبهم كانت ترف إلى الفنون والآداب. ولعل ذلك آت من أصلهم الفلورنسي القديم - وفلورنسة كانت مهد الآداب في حقبة من الزمن -، ومن أبيهم شارل بونابرت الشاعر الأديب. فلما تسنموا العروش كانوا من حماة الآداب ومشجعي الأدباء. فلقد شجع جوزيف بونابرت ولويس بونابرت ولوسيان بونابرت حملة الأقلام، وإن كانوا وجهوها وجهة خاصة وسخروها لتوطيد سلطانهم. على أن نابليون وحده كان ذا موهبة قصصية رائعة. فقد كانت أفكاره تتدفق ويومض كالبرق، مليء بالصور الأخاذة والتعابير الراقصة والألوان البارعة
ولقد كان ميل نابليون إلى الأدب يحبب إلى نفسه كل رقيق لطيف. فقد كانت تؤثر فيه الموسيقى الناعمة، وتهزه أشعار (أوسيان) الحالمة، وتعجبه مآسي (كورنيل) المترعة بالفخار المفعمة بالبطولة، ويطرب (لهوليز الجديدة)؛ ويقول عنها: (إن هذا الكتاب سيبقى
إلى الأبد كتاب الشباب. ولقد قرأته وعمري تسع سنوات فإطار لبي وأذهلني. . .)
وكانوا يقولون: إن لنابليون خيالاً جبارا، وإنه كان يختلق الأقاصيص المرعبة، أقاصيص الجان والشياطين، والمغامرات والبطولات؛ يسمعها رفقاءه في الليل، أو زوجه وأولاده في ليالي الشتاء.
وقد عثر في ثنايا الأوراق التي كتبها في صباه، والتي أودعها بعد واترلو الكاردينال فيش أقاصيص ثلاث نشرت في عام 1895 في فلورنسة تحت عنوان (نابليون المجهول) وقد كتبها عام 1789 عندما كان ضابطاً في (أوكسون).
أما القصتان الأولى والثانية، فقد قبسهما من التاريخين العربي والإنكليزي. أما الثالثة، فهي من تأليفه، وفيها يصور كورسيكياً شيخاً فر مع ابنة له إلى جزيرة مصخرة تناطحها الأمواج هرباً من ظلم (قوم) ذبحوا أبناءه وذويه.
وتصرمت أعوام. . . وإذا بالعالم البولوني سيزيمون اسكيناري يخرج للناس قصة كتبها نابليون في عام 1795 عنوانها (كليسون وأوجيني): لها صفات القصة الوصفية التحليلية وفيها حقيقة يشوبها خيال، وهي أشبه بما يكتبه الأدباء أول عهدهم بالكتابة
كتب نابليون هذه القصة وهو يتخطى الخامسة والعشرين من عمره، أوحاها إليه حبه لفتاة أسمها وهي الفتاة التي عرف بها الحب الأول. وكان قد رآها في مارسيليا، إذ أتي إليها بعد أن ذاع اسمه في حصار (طولون) فأحبها. وكان دقيق العود جميلاً، فألهب خيال هذه الفتاة بعينيه الزرقاوين وشعره الأشقر، وكلامه المتدفق كالماء، اللاهب كالنار؛ وأسكرها بأقاصيصه الحلوة، وأطربها بأشعار أوسيان الذائعة. وتحابا. . .
ولم يطل بقاء نابليون في مارسيليا، فاضطر إلى السفر إلى باريس، تاركاً حبيبته الصغيرة وحدها. وما وطأت قدماه باريس حتى أرسل إليها رسالة فيها الشوق والحب والحنين، ولكن أهلها منعوها من الكتابة إليه. فاضطرب نابليون لصمت الحبيبة الصغيرة، فكتب لها كتاباً يصور لها فيه باريس الفاتنة ليثير شوقها إليها. ولكنها صمتت أيضا فكتب يقول:
(إن الحياة حلم رقيق لا يلبث أن يذوب كالضباب. إنني أشعر وأنا أكتب الآن بهياج في عواطفي ما شعرت بمثله قبل هذا اليوم. ولئن طال هجرها لأقتلن نفسي، ولأرمين بهذا الجسم تحت عجلات العربات. . .)
ثم عاوده الحنين فكتب إليها مرة أخرى، ولكنها لم تحفل به وأعرضت عنه. عندئذ ضاق ذرعاً. . . فكتب لنا قصته هذه، وقص على الناس نبأه ونبأ (أوجيني) الغادرة، وكيف نشأ وترعرع، وكيف أحب وكيف خان الحبيب، وسمى نفسه (كليسون) وحول قليلاً وحور
لقد كتب في قصته: (ولد كليسون للحرب والنزال، وكان يعلم سير القواد وهو ما يزال صبياً، وكان يحب أن يتفقه في فن القتال مذ كان في المدرسة يافعاً، على حين كان رفقاؤه يفتشون عن الفتيات يلهون بهن. فلما قارب السن التي تؤهله للقتال، أقبل على الجندية مسرعاً. فبرع في أمورها، وناداه النصر، فذاع في الشعب اسمه، ونظر إليه الوطن كبطل من أعز أبطاله، ولكن روحه كانت ما تزال ظمأى للنصر والخلود، ولقد كانوا يسمون طموحه كبرياء، وقوة إرادته شدة، وكان ينظر إلى نفسه البكر فيتأمل فيها، فيرى أنه أبعد الناس عن الحب.
فلقد كان له خيال مشبوب، وقلب ملتهب، وعقل راجح، ولكن فكره كان (بارداً) لا يسعفه بالخاطرة البارعة والنادرة والفريدة فدفعه ذلك إلى الملل من دلال الفتيات والابتعاد عن التلطف والتظرف، وعم تزوير الجمل واللعب بالكلمات لينال رضاهن وعطفهن
(وكان يحب أن يشرد في الغابات الخضراء، لا يحفل بالتعب ولا يخشى العناء، ليبتعد عن جنون البشرية وانحطاط أهلها
(وكان يستسلم إلى أمانيه، ويصغي إلى همس فؤاده، فيخلد إلى العزلة، وينظر إلى الليل الحزين الهادئ المزدان بأشعة القمر، ويستمع إلى صوت الطبيعة الخفي، حتى إذا تنفس الصبح، عاد حزيناً سادراً لينال قسطاً من الراحة التي ظمئ لها
(وكان يعجب باختلاف ألوان الطبيعة، يهتز لميلاد النهار، ويطرب لغروب الشمس، ويصفق لأغاريد العصافير، وخرير المياه، ورفيف السهول. وكان ينفق الساعات في تأملاته هذه في أعماق الغاب. . .
(على أن ميوله هذه أفهمته أنه بعيد عن الحرب وفنها، وعن الدمار وأصوله. وكان يخيل إليه أن تهذيب الشعوب وإسعادها خير من قتالها وقتلها. . . ولكنه كان يسعى إلى التخلص من هذه الفكرة التي لم تطرب نفسه لها
(وفي هذه الفترة يلقى كليسون أوجيني مع ترب لها اسمها (إميليا) فعرفهما. وكانت إميليا
كقطعة من الموسيقى الفرنسية ينصت الناس إليها بشوق، أما أوجيني فكانت كأغرودة العندليب أو كقطعة من موسيقى (بازيللو) الإيطالي لا تعجب بها إلا النفوس الرقيقة الحساسة. . .
(ولقد كانت إميليا توحي الحب بجمالها، أما أوجيني فكانت تعجب الرجل القوي الذي لا يحب تحت سلطان الدلال والذوق، ولكنه يحب لأنه يشعر بأنه بحاجة إلى الحب. . .
(ومسح فؤاد كليسون - الذي اعتاد النصر والمغامرات - هواه مسحة جميلة، وأكسبه قوة وصلابة. . . فعلمت أوجيني أن عليها أن تتصل بهذا الرجل العظيم، ليذيقها السعادة الخالدة. فيكتب لها الخلود
(وتزف أوجيني إلى كليسون، ويرزقان أولاداً، وبنتاً اسمها (صوفيا)، وكانت أوجيني زوجة غيوراً، تخشى شر الفتيات أن يغرين زوجها. . . ولقد غضبت عليه يوماً، وانفجرت باكية تقول: إذا كنت تريد أن تصدف عن حبي فخذ بهذه اليد التي كانت تداعب حبيبتك - حياتي. . . ولكن نابليون يهدئ روعها، ويقسم لها ليبقين على العهد، وليحفظن الود
(. . . ويضطر إلى الرحيل ليقود كتيبته إلى المعركة. . . فيترك أوجيني تنتحب وتذرف الدمع، ويحرز نصراً بعد نصر، وينال شهرة بعد شهرة، وكانت زوجه ترسل الرسائل إليه كل يوم، ولكنه كان لا يعبأ برسائلها، ويحاول أن ينساها، فيرسل إليها (بييرفيل) الضابط الجميل الذي كان في فجر حياته، يفتش عن فتاة يودعها قلبه، فأحبته، وكان الحب (باسم الصداقة)، ثم ما لبثت أن نسيت حبيبها الأول كليسون، وانقطعت عن الكتابة إليه.
ويذكر كليسون حبه وهواه يوماً. . . فيحن. . . ويشتد به الحنين. . . ويرى أن فتوره قد جنى عليه، فيداخل اليأس قلبه، ويقرر الانتحار، ولكنه يرسل إليها رسالة يودعها بها ويقول:
(وداعاً أيتها الحبيبة التي قضيت معها أجمل أيامي. . . لقد ذقت بين ذراعيك السعادة المسكرة، ارتشفت لذات الحياة وأطايبها ترى ماذا يبقى لأيامي المقبلة غير الملل والضجر؟. . . لقد ذقت وأنا في السادسة والعشرين من عمري اللذات الفانية. . . ولكنك أذقتني بحبك الشعور العذب بالحياة. . . إن هذه الذكرى لتمزق قلبي. . . أتستطيعين العيش سعيدة دون أن تفكري أبداً في أمر كليسون البائس؟. . . قبِّلي أولادي يا أوجيني. .
قبليهم. . . ولا تجعلي إليهم روح أبيهم الملتهبة المتأججة، لئلا يكونوا مثله ضحايا الرجال وضحايا النصر والحب. . .
ويرسل الكتاب إليها. . . ويقود الكتيبة بعزم، وإذا به يسقط إلى الأرض (مثخناً بالجراح. . . ويموت)
تلك هي القصة الرائعة التي كتبها نابليون وهو في نعومة صباه. وفيها نجد بلاغة تخلب، وصوراً تغري، وقسوة ترعب، وحناناً يهز ولو أن هذا البطل لم يسلك طريق الحرب، لكان له في الأدب روائع وفرائد. . . ولكان أدبه كالربيع الضاحك، فيه زهور وعطور، وفيه جمال وصفاء، وفيه نغمات وقبلات.
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
مصطفى كامل بمناسبة تمثال
له وجدان. . .!
للسيدة وداد صادق عنبر
حضرتني اليوم حاضرة من الخواطر المستمدة من فيض عاطفة لها دافع قوي، وذلك لأنني استلهمتها ميراثاً عن أبي الراحل؛ وكأنني منها في صدد واجب مقدس ألقته علي فجاءت كتحية قصيرة للزعيم الخالد مصطفى كامل باشا بمناسبة إزاحة الستار عن تمثاله.
فإذا كان قد قيل بالأمس إن الأبوة في هوى الأبناء، فإني أعود فأنم ذلك القول بأن النبوة أيضاً في هوى الآباء.
فإلى الزعيم الخالد أرسل هذه الكلمات، إلى صديق أبي العزيز أرسلها تحية خالصة:
على روحك الطاهرة التي ترسل نور العظمة يشعُّ في عين كل مصري عرف ما لمصطفى من أيادٍ على الوطن
على وجدانك الحي، وكم من حيٍّ ليس له وجدان، أو ميت مات وجدانه قبل موته
على ذلك القلب الذي طالما نبض بحب مصر
على طيفك الذي كان أمناً للوطن وعصمه
وقلمك الذي ما أسال إلا كل حجى وحكمة
عليك أيها المثل الأعلى الذي جاهد حتى بلى في جهاده سلام هذه الأمة وأبنائها
أي مصطفى. . .
هذا هو الوطن الذي كان كل أملك النهوض به أبداً في مراقي التقدم درجات حيَّا أصبحت أنت كل ذكره ميتاً
وهذه هي الأمة التي ألقت أعباءها على عاتقك بالأمس تحمل ذكراك في قلبها اليوم
وما هذا وتلك إلا شهود فضلك وشواهد إخلاصك
وهكذا كنت واليوم ذكراك تكون. . .
وهكذا ظللت تكافح وتجادل، حتى إذا استنفدك الكفاح، ولم يدع من قوتك الجدال، هويت في أرض الميدان. فإذا كانت حياتك عظمة للموتى، فإن موتك أيضاً عظمة للأحياء
ولكن، أين هم الذين يقدرون فضل المجاهد وحق المناضل الناهض برقي أمته المدافع؟؟
وأخيراً، أجيب نفسي: كيف أتساءل وهم كثيرون؟
هاهم أولاء يقفون أمام تمثالك مهللين مكبرين بعد وفاتك بأعوامٍ عدة. . . . . .
وهاهو أولاء يسيرون في الشارع الذي أطلق عليه اسمك العظيم بعد اختفائه سنين طوالاً
أجل، لقد عرفوك وذكروك وعظموك بتلك الأكاليل المعقودة من الحمد على مفرقك عرفاناً لفضلك وإقراراً لمجهودك. وهاهم أولاء يهرعون إلى التمثال لينثروا حوله آيات الذكرى الطيبة
يا مصطفى:
حسبك فخراً أنك يوم ظهرت لم يكن في مصر سوى مصطفى واحد. . .
ثم حسبك أنك نبغت حين كانت مصر تضرب من اليأس في ظلمات بعضها فوق بعض، وقد تظاهر عليها عنت السياسة وفقدان العون وخذلان القدر؛ فكنت الأمل الساطع الذي محا هذه الظلمات فصيرها نوراً من المجد والإسعاد. وكانت القوة الهادية السارية على ذلك الضعف الذي زال. بل وكان عملك بعد ذلك نظاماً دار عليه فلك التاريخ المصري دورة جديدة
فما كان أنشط كاهلك وما كان أثقل ما عليه من الأعباء، وما كان أشق المهمة التي سهلها عليك مضاء عزيمتك وقوة ثباتك بل ما كان أقصر المدة وأبعد المدى
ثم حسبك فخراً يا مصطفى أن كل مصري كاد يكون مصطفى في عقيدته
وحسبك أن مبادئك ملء النفوس وذكراك مقترنة بتاريخ مصرنا العزيزة
وإذا كنا اليوم نرى ثمرة الجهاد دانية فحري بنا ألا ننسى من غرسها وتعهدها بالسقيا حتى أينعت الأثمار. ونحن بعد قد قطعنا وهي بأيدينا شوطاً بعيداً متفائلين ببشراها التي يعتذر لنا بها الدهر في كل حين
يا مصطفى:
الآن وقد آن لك أن تعود إلينا لا حيَّا تقام لاستقباله المواكب وتنظم لتحيته الكواكب. بلى ولكن لتعود تمثالاً ومثالاً أعلى لمجاهد في سبيل وطنه
الآن وقد عدت إلينا - وشتان بين العودتين - عدت إلينا مثلا حياً وفكراً دائماً
فإليك تحية الوطنيين
إليك أيتها القوة الوطنية التي رفعت رأس مصر عالياً
إلى العزيمة المصرية التي أضحى بها مجد الوطنيين حالياً
إلى المقدام البصير الذي أغلى قدر وطنه فأمسى في الأقدار غالياً
إليك أيها المجاهد تحية أمتك أولاً وآخراً
وإنك لحي دائماً بذكراك - حي بآثارك - حي في وطنك الذي يبكيك وتاريخه الذي يذكرك ويناجيك - حي بمواقف الصدق التي وقفتها ووطنيتك الصادقة وجهودك التي ضحيت لوطنك بها وبذلتها
فليحي ذكرك الذي لم يكد يخرجك لنا من الدنيا جسداً هامداً حتى أرجعك إلينا فكراً خالداً
ولتحي ذكراك حياة تكافئ جهادك المضني في سبيل الحياة
وداد صادق عنبر
مقارنة
في سبيل إصلاح الأزهر
للأستاذ محمد يوسف موسى
لست في حاجة للقول بان الأستاذ الجليل الزيات قد أحسن كثيراً بفتح باب مسألة إصلاح أزهر؛ فتلك صيحة يدرك مداها البعيد وأثرها الكبير الأزهريون أنفسهم والذين يلابسونهم ويغشون أنديتهم ومجالسهم. وكان من آثارها الظاهرة ما قرأناه من كلمات ثائرة على الماضي وما ضم بين أطوائه، وأخرى هادئة رزينة يمد صاحبها بصره قبل أن ينقل قدمه عالماً أنه لا جديد لمن لا قديم له، ولا مجد لمن يتنكر لماضيه كله. ولعل أهم ما لفت النظر واسترعى الانتباه خاصَّا بهذا الأمر في عدد الرسالة الماضي رقم 358 كلمة الأستاذ المعروف محمود الشرقاوي. فقد تناول الموضوع بأناة ورفق شأنه في أمره كله ونظر إلى الأزهر باعتباره وحدة من وحدات الثقافة العالية في مصر والعالم الإسلامي، وذلك شأن الباحث الذي لا يغفل عند بحثه الظروف والملابسات وسائر العوامل البيئية
ليس منا من لا يرجو مخلصاً أن يكون الأزهريون، طلاباً وعلماءً، مُثُلاً عالية لما يجب أن يكون عليه رجل الدين الذي يعرف واجبه ويؤديه كاملاً، لا يرجو عليه جزاءً ولا شكوراً إلا إرضاء ضميره وإحساسه بأنه رجل يحترم ما فيه من الإنسانية والرجولة. وليس منا من لا يعترف - ولو بينه وبين نفسه - بأنه دون الوصول لهذا عقبات ليس من السهل تذليلها في هذه الأيام، لعوامل لا يخفى أمدها، إلا إذا عمل كل فرد منا - بتكميل نفسه - على أن يكون من عمال الإصلاح في ظاهر أمره وخافيه قبل أن ينادي به: فيساير النهضة العلمية، ويعرف أبواب المكاتب الخاصة والعامة، ويتعرف أحوال إخوانه المسلمين والشرقيين ليحس آلامهم ويفهم آمالهم؛ وبكلمة واحدة يعيش في هذا العصر لا في العصر الخوالي وحدها. بذلك يستطيع أن يضع لبنه في بناء الأزهر الجديد على ما يود المصلحون الغيورون
ولكن هل أمن العدل أن ننعى على الأزهر وحده تخلفه أو تريثه في طريق الإصلاح، وأن نقارن بينه وحده وبين أمثاله من جامعات أوربا فنخلع عليه ثوباً قاتماً بغيضاً يصرف عنه النفوس؟ من الحق كما يقول الأستاذ الشرقاوي إن أردنا أن نقارن بين الأزهر وجامعات
أوربا، ألا ننسى أنه في مصر التي لم تبلغ بعد شأو أوربا في كثير من النواحي الاجتماعية والثقافية، كما لم يبلغ متزعمو الحركة الفكرية هنا مبلغ رجالات العلم والفكر هناك. وإني سأكتفي اليوم بذكر مثال واحد لعل فيه عظة وعبرة، ولعله يكون حجزة دون من يود بجدع الأنف أن يمحى الأزهر من الوجود فلا يصبح له ذكر إلا في التاريخ
عندما كنت بباريس في الصيف الماضي رأيت أن أتصل ببعض علمائها النابهين في الدراسات الإسلامية الفلسفية، فبدأت بالأستاذ ماسَّينْيون وهو من نعلم علماً ومكانة هناك ومن يفخر كبار خريجي جامعة باريس بالأخذ عنه والاتصال به. تفضل واستقبلني في مكتبه الخاص بمنزله، وأعطاني من وقته الثمين أكثر من ساعتين ضاعتا في حديث علمي رفيع ونصح وتوجيه وإرشاد بينما طلابه العديدون وعارفو فضله في الانتظار، وخرجت على أن أعود مرات أخرى. وما كان أشد عجبي في صباح اليوم التالي حين أخبر أن هذا الأستاذ الجليل جاء برد لي الزيارة! أي والله سيدي القارئ إني لا أمزح ولا أتزيد؛ فقد جاء الأستاذ ماسينيون للنزل المتواضع الذي كنت فيه، ولم يمض على زيارتي له يوم وليلة، شاكراً تفضلي - كما قال - بزيارتي له! وأهدي إلي عدداً من مجلة علمية تعني بالدراسات الشرقية والفلسفية الإسلامية تضمن الكثير من بحوثه
لم أصل بعد لما أريد، فهاك بقية الحديث: رأيت بعد هذا، أو رأى رفيق سوري كان معي، أن أسعى لزيارة الدكتور طه حسين بك رجاء أن أصيب من فضله وتوجيهه ما يساعدني في دراستي، ولم يثنني عن الرغبة في الاتصال بالأستاذ الكبير ما أعلمه من العداء بين الأزهر وبينه، وهو عداء ليس من صالح الأزهر ولا الجامعة أن يدوم
اتصلت إذا بالمنزل الفخم الذي كان مقيماً به بالتليفون فقيل لي إنه ليس موجوداً وكان ذلك قبل الظهر. عاودت الاتصال بعده فقيل إنه على المائدة. وأخيراً اتصلت مدة ثالثة ورجوت محدثي أن يبلغ حضرة الدكتور رجائي أن يتفضل باستقبالي في الوقت الذي يحدده، وتركت له رقم تليفون المنزل الذي كنت مقيماً به. وهأنذا لا لأزل أنتظر الرد من المواطن الجليل!
أرأيت إذا، قارئي العزيز أنه قبل أن تطلب من الأزهر أن يكون كأمثاله من جامعات أوربا، يجب أن نطلب من كبار رجالنا وخاصة الذين عرفوا أوربا وتخرجوا في جامعاتها،
أن يكونوا كرجالاتها!
ذلك خاطر أوحى إليَّ به كلمة الأخ الجليل محمود الشرقاوي. على أني أرى أن ذلك ليس معناه ألا نطالب بإصلاح الأزهر؛ بل على الضد من هذا أعتقد أن الأمر جد، وأن الأزهر في حاجة ماسة للإصلاح، وأنه واجب ديني ووطني أن يساهم كل قادر في هذا السبيل برأيه وجهده. إن الأزهر إن تخلف طويلاً عن القافلة تناساه الناس وطواه الزمن فصار من أحداث التاريخ، وحينئذ لا قدر الله يذهب آخر مجد من أمجاد مصر التالدة ويضيع المعقل المنيع الباقي للإسلام، والله يهدينا طريق الرشاد
محمد يوسف موسى
المدرس بكلية أصول الدين
أسلوب الرافعي وطريقته في كتابته
للأستاذ محمود أبو رية
حمد الناس للرسالة الغراء جميل وفائها لصديقها المغفورة له (مصطفى صادق الرافعي) وشكروا لها احتفاءها بذكراه الثالثة فكتبت بمناسبتها ما كتبت، ولا ريب في أن صنيعها هذا مع إمام من أئمة الأدب إنما هو وفاء للأدب الذي وقفت نفسها على حياطته والقيام عليه
ولقد كان مما كتب في هذه الذكرى مقال بليغ لصديقنا الأستاذ سعيد العريان كان مما جاء فيه أنه قال عن طريقة الرافعي في تأليف مقالاته ما وسعه أن يعرفه، وأن ذلك مبين في كتاب (حياة الرافعي) وفي الحق أن ما ذكره صديقنا سعيد صحيح لا ريب فيه، ولكن ذلك لم يكن شأن شيخنا الرافعي من يوم أن أمسك القلم للكتابة؛ وإنما كان ذلك في منتصف سنة 1932 فحسب، ذلك أنه لما كتب مقال (فلسفة الأدب) في صيف هذا العام أخذ يسأل أهل البصر بالأدب عن قيمة هذا المقال وبالغ في السؤال، ولما سألته عن سر اهتمامه بمعرفة آراء الأدباء فيه أجابني بخطاب تاريخه 26 يولية سنة 1932 قال:
(إنما اهتممت بمعرفة الرأي في مقال فلسفة الأدب لأني كتبته بطريقة لم تتفق لي من قبل في غيره، فإني لما أردت كتابته بعد كتابة فصل ابن الرومي انتكست فجعلت أدون ما خطر لي وقتاً بعد وقت ثم أخرجت المقالة من هذه الخواطر واختصرت كثيراً ولم أزد شيئاً. وهذه هي الطريقة التي يكتب بها كبار العلماء في أوربا، ولكن الوقت يسمعهم ولا يسعنا)
من ذلك يتبين أن الطريقة التي بينها صديقنا الأستاذ سعيد في كتابه (حياة الرافعي) عن كتابة الرافعي لمقالاته إنما كانت في صيف سنة 1932 فحسب، وكان مقال (فلسفة الأدب) أول ما كتبه بهذه الطريقة
ولقد رأيت بمناسبة القول في طريقة كتابة شيخنا الرافعي وأسلوبه أن أوافي قراء الرسالة بما قاله هو عن أسلوبه عندما سأله العالم الجليل يعقوب صروف: لم لا يكتب بلغة سهلة يفهمها كل الناس كما كتب في (تاريخ آداب العرب)
(. . . تمنيتم لو جريت في إنشائي كله مجرى أسلوبي في (تاريخ آداب العرب) ومقالاتي الأخرى، ولوددت والله أن أرفه عن نفسي، وأطرح عني الكد فيما عالجته من أسلوب: حديث القمر والمساكين ورسائل الأحزان والسحاب الأحمر؛ ولكني أجدني كالمسخر في
ذلك لقوة تساورني في أوقاتها وتهب عليّ كالريح من سكون وركود، فلم أفكر قط في كتاب من هذه الكتب، ولكن تقع الحادثة، فيجئ بها الكتاب، ثم أرى من بعد صوته وتعلق المتأدبين به ما لم أكن أقدر بعضه وتنتهي إلى آراء مشيخة الأدب وطلابه؛ فإذا هم لا يعدلون بهذا الأسلوب شيئاً في نسقه وألفاظه ومعانيه، ثم لا يعيبه إلا من قصر عنه وشق عليه النزوع فيه وكابر في الإقرار بعجزه، فذهب يلتمس المعاذير والمعايب، وأخذ في ذلك مأخذ فرعون إذ جاءته امرأة فقيرة كانت هي وأطفالها يعيشون على دَرَّ (عنزة) لهم، فماتت، فأقبلت المسكينة بها على هذا الذي يدعي الألوهية ويقول أنا ربكم الأعلى وسألته أن يحييها، فاعتذر بأن في السموات أعمالاً كثيرة أكبر من العنزة. . .
أرى المتأدبين يعرفون لهذا الأسلوب ما يعرفه رجال التربية والتعليم من أساليب إنشاء التصوير وإرهاف الذهن وتدقيق الخيال وقوة الطبع اللغوي وصقله وإدارة الحس عليه. ثم هم يقولون إن موضعه من هذا الكلام الخنث المتهالك الذي ترمي به الأقلام المريضة في هذا العصر موضع الفحولة التي لا بد منها في الخليقة لإيجاد القوة التي لا تكون إلا بالفحولة وإشعار الهيبة التي لا تكون إلا بالقوة. فنحن في زمن كل كاتب فيه قادر على أن يرسل مداده، يمطر وحلاً لغوياً، حتى كل من يعرف القراءة هو كاتب إن صحح أو أفسد، وإن أصاب أو أخطأ، وإن أخذ اللغة والكتابة عن معجماتها ودواوينها ومدارسها، أو أخذها من الروايات والجرائد والأسواق
يقولون هذا ويضيفون إليه أن الفصاحة العربية كادت تنقطع أمثلتها العليا، وأنه لم يعد يكمل أحد في صناعة الكلام وأن زمننا هذا حين ينقلب إلى مرآة التاريخ فينظر فيها، سيرى وجهه متورماً مخدشاً مضمداً ملفوفاً بالجرائد. . . وليس عليه سِمَة جمال ولا فيه من الأدب منظر قوة، وأن اللغة أصبحت أشبه بالبيت المتداعي الذي يريد أن ينقض لا تسمع من أهله ولا من جيرانه ولا من السابلة في طريقة إلا (هدوا هدوا إلى الأساس)
عَلمِ الله يا سيدي الشيخ أني ما كنت أصبر على مصيبة البلاغة. . . لولا ثقتي بأجرها ولولا استئناسي إلى المعزين فيها، وهم جمهور أهل الأدب إلا قليلاً يعزيني بأسلوب آخر يضحكني أحياناً
أما هذا الذي يسمونه غموضاً وتدقيقاً فما أنا بصاحبه ولا العامل فيه، ولكنه طور من أطوار
الزمن لا بد أن يسبق نهضته التجديد كما سبقها من قبل. فلقد كانوا يصفون به سيدي شعراء العربية قاطبة أبا تمام والمتنبي، حتى قالوا في أبي تمتم إنه أفسد الكلام وأحاله وعقده بتعمله وصناعته، وإنه أتعب الناس حتى صار استخرج معانياً باباً منفرداً في الأدب ينتسب إليه طائفة من العلماء، وإن أعرابياً سمع قصيدته التي مطلعها: طَلَلَ الجميع. فقال: إن في هذه القصيدة أشياء أفهمها وأشياء لا افهمها، فإما أن يكون قائلها اشعر من جميع الناس، وإما أن يكون جميع الناس أشعر منه. وهذه شهادة بأنه اشعر من جميع الناس ولا ريب إذ يستحيل أن يصح الشق الآخر. ثم كان جمع من كبار الرواة يتعصبون عليه كابن الأعرابي والرياشي وغيرهما، بل قد بلغ من تعصب الرياشي عليه وعلى البحتري أن قلَّت نسخ ديوانهما بالبصرة في زمنه لزهد الناس فيهما. ولقي المتنبي شرا مما لقي أستاذه ومثله الأعلى الذي يقلده ويحتذي عليه! ومع ذلك انحدر الشعر كله في طريقتهما إلى عصرنا هذا
ولقد كان المتنبي خَمُلَ اسمه ومُحي من لوح الزمن لو كان يعيب البلاغة عيب يكون معها. فقد قال فيه الإمام العسكري: لا أعرف أحداً كان يتتبع العيوب فيأتيها غير مكترث إلا المتنبي، فإنه ضمن شعره جميع عيوب الكلام ما أعدمه شيئاً منها. قلنا ولكن جميع عيوب الكلام (بهذا الحصر) لم تزد على أن كانت من أقوى الأسباب في تخليد حسنات الرجل
إن أرفع منازل البلاغة العربية، كما قالوا، أن يكون في قوة صائغ الكلام أن يأتي مرة بالجزل وأخرى بالسهل، فيلين إذا شاء، ويشتد إذا أراد. ولا يبلغ هذه المنزلة أحد فيحكمها ويعطيها حقها من التمييز إلا جعلته الأقدار وسيلة من وسائل حفظ البلاغة يتسلم الزمن ويسلم، بل قل بالألفاظ الصريحة المكشوفة: يتسلم لغة القرآن ويسلمها. فأما أسلوب واحد وطريقة واحدة فهذا في قوة كل كاتب على تفاوت فيه، ولن يكون الرجل حق رجل إلا إذا كان له مع الظرف واللين والدماثة حديداً من العضلات وفولاذاً من العظام، فإن لم يكن إلا اللين محضاً والاسترسال خالصاً فهذا أصلحك الله شيء سَّمه ما شئت إلا أن تقول إنه رجولة. فإذا لم يبلغ كل الناس ولا أكثرهم هذه المنزلة فذلك أخرى أن يعد في محاسن من يبلغها لا في معايبه
ألا لا يحسبن أحد أن الفصاحة العربية هالكة بحياة طائفة من مرّضى القلوب كهؤلاء الكتاب الذين يعملون جهدهم في إفسادهم، فهم مهما كثروا تنتظرهم قبور بعددهم. وفي هذه
البلاغة العربية خاصة ينبغ الكاتب الواحد في عصر من عصور الضعف. فإذا ألف كاتب يتساقطن حوله، وإذا الكاتب كان سنة من سنن الكون تضرب ضرباتها بالقضاء والقدر)
هذا هو قول شيخنا الرافعي من خطة عن أسلوبه وطريقته في كتابته نقلته للرسالة وهي أحق به ليعرف الناس هذه الطريقة من قوله هو ويكونوا على بينة من ذلك. ولعل فيما نقلناه إيضاحاً لناحية من دراسة أسلوبه وبياناً لجانب من ترجمته رحمه الله.
محمود أبو ريه
رسالة كلية الشريعة
إلى الأستاذ الأكبر
دعوة الإصلاح تنقلب في الناهضين عملاً وفي الجامدين جدلاً. وفي هذه الرسالة وفيما تقرأه في بعض الصحف لفقهاء بيزنطة مصداق ذلك.
(الرسالة)
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي
السلام عليكم ورحمة الله وبعد فإن أبناءكم طلبة كلية الشريعة الذين يعيشون في ظلال عهدكم السعيد قد تدبروا فيما يتصلون به من حياتهم العلمية وعلاقتهم العملية فاتفقوا على أن يتشرفوا برفع هذه الرسالة لفضيلتكم. يا صاحب الفضيلة - في عصركم الذهبي الذي تبذلون فيه مجهوداً جباراً في نفض غبار الخمول والكسل عن وجه الأزهر ليستطيع أن يطل برأسه على حياة العامة فيستأنف رسالته ويؤدي أمانته على الوجه الذي ينبغي له، نرى في الوقت نفسه أن جهوداً من جانب آخر تتضافر على الحيلولة بين الأزهر وبين رسالته وإبعاده عن الحياة العامة بشتى الوسائل ومختلف الطرق فتارة بتحصين دار العلوم وأخرى بإنشاء معهد للدراسات الإسلامية، ولا يبعد أن نسمع بفكرة أخرى هي إنشاء قسم للوعظ والإرشاد بإحدى كليات الجامعة، كما سبق العمل على تحقيق ذلك لولا عناية فضيلتكم، وطوراً بالعمل على إقصاء كلية الشريعة عن القضاء في الأحوال الشخصية وهي البقية الباقية من التشريع الإسلامي وإحلال كلية الحقوق محلها بحجة توحيد القضاء، وطوراً بإنشاء عدة إدارات للشؤون الاجتماعية وحرمان الأزهر من إدارة للشؤون الدينية تكون مهمتها توجيه ثقافة الأمة من هذه الناحية مع أن الدين هو الأساس الذي يجب أن تقوم عليه ثقافة أمة هي حاضرة الإسلام والمسلمين، ومن وراء العمل على إبعاد الأزهر عن نواحي الحياة العملية نرى حملة صحفية تنادي بوجوب التخلص من نفوذ رجال الدين؛ وفيما بين جهودكم التي تبذلون والمناوءات التي بها يقومون ضد الأزهر، نرى أن الأزهر نفسه قابع في داره ماض في طريقته القديمة التي تضعف صلته بالحياة العملية. أما هذه الجراثيم الفاتكة التي تنخر في عظامه، وأما هذه السهام القاتلة التي توجه إلى قلبه، وأما الكشف عن أسرار التشريع الإسلامي وإقناع الأمة بصلاحيته لسعادة المجتمع حتى نستطيع
حماية الأمة من نفثات الإباحيين وتحصين الأزهر من معاول الهدامين؛ فكل هذا لا يخطر بمخيلة أحد من الأزهريين، اللهم إلا بعض صيحات نسمعها في سماء الجمعيات ودور المحاضرات وعلى أثير الإذاعة تنادي بالخروج من هذا الجمود؛ وتحرير الفقه الإسلامي من هذه الأغلال والقيود التي شوهت جماله وحالت بين الناس وبين معرفة مزاياه
في هذا الوقت الذي تتردد فيه فكرة الرجوع إلى التشريع الإسلامي تهب طائفة أخرى من الإباحيين اللادينيين لمناهضة هذه الفكرة والعمل على إماتتها
أمام هذا الصراع الذي تندلع نيرانه بين فكرتين خطيرتين: فكرة الرجوع إلى أحضان التشريع الإسلامي والتفيء بظلاله، وفكرة التمادي في ارتشاف السموم الحضارة الغربية والاندفاع في تياراتها لا نستطيع نحن طلبة كلية الشريعة أن نقف في مهب هذه العواطف والنزعات موقف المتفرج أو الخائف المتهيب، وبهذا النزاع المحتدم يتعلق مصير الإسلام وهو مصيرنا. فما أحرانا بعد أن دوى في سمعنا من قلبكم الطاهر صوت الإسلام الوديع، وعصفت في رأسنا نخوة الفقه الإسلامي الصريع، أن نتيمم ساحتكم وأنتم قلب الإسلام الخافق ولسانه الناطق وعنوان نهضتنا ومعقد آمالنا لتضموا إلى برنامجنا الدراسي برنامجاً ثقافياً يمشي مع روح العصر ويساير النهضة حتى نقوى على خوض معارك الحياة الجادة وننهض بالفقه الإسلامي إلى مستواه الحق
يا صاحب الفضيلة:
1 -
على عاتق كلية الشريعة وحدها يجب أن يسترد الفقه الإسلامي شبابه ويستأنف ماضيه
2 -
على عاتق كلية الشريعة وحدها يجب إنقاذ الأمة من مخالب القانون الوضعي ببيان فشله في قمع المجرمين والجناة
3 -
على عاتق كلية الشريعة وحدها يجب إقناع الأمة بأن الفقه الإسلامي هو دواء هذه الأمة المنكودة وبلسم جراحاتها.
4 -
على عاتق كلية الشريعة وحدها يجب أن تخفق للفقه الإسلامي القلوب وتهفو له النفوس وتنحني له الرؤوس
5 -
على عاتق كلية الشريعة أخيراً يجب أن يبسط الفقه الإسلامي جناحيه على جميع
مناحي الحياة التشريعية ويمد يديه في كل ناحية تقنينية
هذه هي التركة المثقلة بالديون التي خلفها لنا الأقدمون، وهذه هي المسؤوليات الجسام التي يجب أن تقوم بها كلية الشريعة خير قيام؛ وهل هناك من يضطلع بهذه الأعباء إلا كلية الشريعة التي أنشأتموها لتقوم بهذه المهمة وسط هذه الزوابع والأعاصير، ولكنها بحالتها الراهنة لا تستطيع النهوض بهذه الأعباء، وذلك لما يأتي: -
أولاً: إن دراستها للتشريع الإسلامي دراسة بعيدة عن روح التشريع وبيان أسراره في كل باب من أبوابه
ثانياً: قصر دراستها للفقه الإسلامي في صورة تمثل حوادث وأحوال أناس خلقوا وعاشوا في عصر غير عصرنا وزمان غير زماننا، وعدم استعانتها في دراستها بأساليب العرض العلمي الحديث
ثالثاً: عدم قيامها بدراسة القانون الوضعي
لذلك كان طبيعياً أن تشعر كلية الشريعة ببعد الشقة بينها وبين الأمة، بينما تتهيأ شقيقتاها عن طريق الوعظ واللغة لأخذ نصيبها في الحياة؛ وإلا فأين منا الفقيه الذي يستطيع كما تذكرون فضيلتكم أن يحل مشاكل العصر وأين منا الذي يستطيع أن يسير على نهج فضيلتكم في التفكير فينتج إنتاجكم في القضاء والتشريع؟
يا صاحب الفضيلة:
لعل الساعة تكون قد حانت لوضع حد لهذا النقص في دراستنا بتحقيق هذين المطلبين في أوائل العام الدراسي القادم وهما المطلبان اللذان نرى أنهما وحي من وحي روحكم وأمنية من أسمى أمانيكم
المطلب الأول: أن ينتظم برنامجنا الدراسي إلقاء سلسلة من المحاضرات الأسبوعية في موضوعات لها صلة بدراستنا وبمشاكل الأمة، تكشف لنا القناع عن كنوز الفقه الإسلامي الغني بأعظم الثروات وأحدث المبادئ ووجه صلاحيته لإنقاذ الأمة من براثن الفوضى التي تعاني آلامها في جميع مناحي الأجتماعية، والسياسية والمالية، على ضوء الحوادث المتجددة والنظريات الحديثة، على أن يقوم بتنظيم هذه المحاضرات وإلقائها أكفاء نابهون من العلماء الذين لهم جولات في هذه الأبحاث ووقفوا على أسرار التشريع، واحسنوا
عرضها، وعلى عيوب المجتمع، ووضعوا علاجها.
المطلب الثاني: بعث فكرة دراسة القانون الوضعي مقارناً بالقانون الشرعي
بإجابة هاتين الرغبتين تستطيع كلية الشريعة أن تظهر نشاطها في دائرة أبعد مدى وأوسع أفقاً، فنشارك الأمة في تشريعها وتقنينها بعد أن تظهر الفقه الإسلامي قانوناً محكماً يعالج مشاكلنا الحاضرة. فبالرغبة الأولى يمكن الوصول إلى النتائج الآتية:
أولاً: إقناع الأمة وعلى رأسها المتقننون الوضعيون بأن التشريع الإسلامي هو العلاج الوحيد الذي يشف النفوس من عللها، ويقي الجماعات من أمراضها، وما أجدرنا بإحراز هذا النصر في مصر بعد أن أحرزه الأزهر في لاهاي
ثانياً: بتحقيق هذه الرغبة تستطيع تطبيق أحكام التشريع على كل ما جد من الحوادث والمعاملات التي لا تنتهي. وبالرغبة الثانية يمهد لنا الطريق للوصول للنتائج الآتية:
أولاً: معرفة العلل المختلفة للمجتمع المصري والوقوف على موطن الضعف في القانون الوضعي وكيف حاول المقنن المصري وضع العلاج فلم يفلح فنستطيع أن نضع يد الأمة على مصدر دهائها ومعين دوائها ونصف لها من التشريع الإسلامي علاجها على ضوء الظروف والبيئة المحيطة بها
ثانياً: نستطيع أن نحسن صوغ التشريع الإسلامي وتنسيقه، فمن المسلم به أن جمال الصيغة وحسن الترتيب لهما دخل كبير في إقبال الأمة على أحكام الشريعة وتعرف نواحي الفضل فيها. ولو أن سلفنا القريب قدر ما في هذا من خير وصاغ تلك الأحكام في الثوب الذي يلفت الأنظار إليها، ويتمشى مع طرق العرض الحديث لما وصلنا إلى هذا المصير المؤلم
ثالثاً: بتحقيق هذه الرغبة تستطيع كلية الشريعة أن تثبت أهليتها للنهوض بأعباء الحياة التشريعية وأن تشعر الأمة بحاجتها إليها وعدم الاستغناء عنها
مما تقدم يتبين أن تحقيق هذين المطلبين يمكن كلية الشريعة من الاضطلاع برسالتها التي فرضها الله عليها فتشتق من عناصر الفناء التي تحيط بها خلوداً وتتخذ من خصومها جنوداً وتشق طريقها في الحياة وهي أقوى يقيناً وأصلب عوداً
لهذا رفعنا رسالتنا إلى ساحتكم وكلنا أمل في أنها ستجد العناية من فضيلتكم وستظفر
بالرضا من جانبكم، لأنها ثمرة من ثمرات غرسكم وبريق من نور قلبكم. أبقاكم الله للإسلام ذخراً وللأزهر فخراً.
(الرسالة): علمنا أن الأستاذ الأكبر قد وعد بتحقيق المطلب
الأول. أما المطلب الثاني فوعد فضيلته بمفاوضة ولاة الأمور
في فتح أبواب كلية الحقوق أمام من يجيد الفرنسية من حملة
الشهادة العالية من كلية الشريعة.
إلى أخي الطنطاوي
ولكنها دمشق!. . .
للأستاذ شكري فيصل
(سيلمح القراء في هذه الكلمة بعض النواحي الشخصية. . ولكنهم سيجدون صورة من صور الصراع النبيل القوى في الحياة. . . وليس أحق من الدكتور (زكي مبارك): شيخ المصاولات والمطاولات في عالم الأدب، بهذه القطعة. . . فليتقبلها في معتكفه الهادئ. . . على طرف الصحراء)
(شكري)
أخي الأستاذ علي:
الآن أرسلت يدُي بعد أن مسحت بهما دمعتين اثنتين غشيتا عيني وانحدرتا على خدي كقطرات الندى الناعم حين يترقرق على أوراق الزهر الرفاف في ربيع الغوطة الفاتن. . . ولقد أخذت القلم لأكتب لك، وأنا لا أدري أي شيء كانت هاتان الدمعتان. . . أكانتا تطفئان نار الوله والحنين، أم ترثيان لوضع البلد المسكين، أم تترجمان عن فرحة القلب بالأمل المؤيد والنصر المبين؟ وهل كنت أملك إلا هاتين الدمعتين، وإلا هذا القلم أفزع إليه كلما عبث بي الشوق، أو ماجت بي الذكرى، أو استثارني الحب
لقد قرأت زفرتك هذه التي سطرتها بدم قلبك الفائر، وعزم شبابك المضطرم؛ فبعثت في نفسي عالماً كبيراً. . . بكل ذكرياته وأحاديثه. . . ما كان أشد حرصي على أن أدفنه وأنطوي عليه؛ وأثارت في ذهني صور الماضي البعيد بكل ما كان يصطرع فيه من آمال، ويفيض فيه من خواطر. . . ونعمت حيناً بهذا الجو العبق الذي فنيت به، وعشت معك من جديد ساعات تقلبت فيها مع الزمن الدائر، وجريت مع الأيام المتعاقبة، وقرأت هذه الصفحات المشرقة التي خططتها بيديك في كتاب الحياة، وعاودت قراءتها وانغمست في نعيمها حيناً وفي شقائها أحياناً. . . ومضيت مع فرحتها مرة، ومع شكاتها مرات، وخرجت وفي قلبي يقين، وعلى شفتي ابتسامة، وفي عيني بريق من الأمل الضاحك
لقد عرفتَني ناشئاً حين كنت أسير مع أخيك بين المدرسة والبيت. . . صغيرين وادعين. .
لا نعرف آلام الحياة، ولا نفقه مصاعب الدنيا، ولا ندرك من هذا العالم إلا جنة المدرسة ونعيم التلميذة وصفاء القلب. . . فكنت تلقانا بالرعاية، وتصلنا بالعطف، وتفيض علينا ألوانا من الحنان. . . فعرفتُ فيك الأخ البر، وقد حرمتْني الحياة من نعيم الأخوة. . . وأفضيت إليك ذات يوم بكل ما في نفسي. . . بكل ما يموج فيها وما يضطرب عليها. فكنتَ بعدُ كثير السؤال عني إن غبت، كثير العناية بي إن حضرت، واقترنت صورة أخيك في ذهنك إلى صورتي فجعلت منهما إنساناً واحداً تضمر له أنبل الشعور وأصدق العاطفة. . . ثم كانت إرادة الله فانصرفت أنت إلى بغداد، ومضى هو إلى باريس، وسعيت أنا إلى القاهرة. وبقي (ناجي) وحده في دمشق يرعى فيها عهود الصبا ومراتع الأنس، ويمدنا منها بالروح والريحان
وفي خلال هذه السنوات كنت أتعرف إلى نفسك الكبيرة وكان يتفتح لي منها آفاق وعوالم، ولقد أكبرت فيك هذا الجلد وهذا الصبر. . فما بالك تشكو اليوم، وتنفث هذه الشكاة على حين احتملت من قبلُ الأهوال والمشقات، ضاحك السن، منطلق الوجه، لا تأبه ولا تهتم؟ ولكن سامح الله قاسيون، وهذه السهول المنطلقة عند قدميه يدغدغها النسيم فقد شجتك واستثارتك. . .
. . . وهل كانت الأولى هذه العماية عن الأدب، وهذا الإهمال للعلم، وتلك الرعاية للجهلاء؟ وهل كنت تأمل من هؤلاء الذين عاشوا في الظلام أن يدركوا النور، وأن يفتحوا عيونهم له، وأن يغفلوا عن الوحي (الأرض) الذي يسيرهم في كل ناحية، ويمضي بهم في كل اتجاه؟ وماذا كان حديثك لنا حين كنت تبعث فينا حمية الأدب، وعقيدة العلم، إلا أننا سنصادف غداً في معترك الحياة هذا الإنكار وهذا الجحود. وأنه يجب علينا أن نصبر عليه ونصمد له ونمضي في مقاومته، وأننا سنحمل في أيدينا مشاعل الدعوة الكبرى التي تريدنا دمشق أن ننهض بها، وستصيب النار المقدسة من أجسامنا فتكوى أكفنا وتنثر الشر على أجسادنا وتنالنا بما تنال به جنودها المخلصين من الامتحان والابتلاء. . . فلا يجب علينا أن نتخلى عنها، لأنها دعوة الحق والصدق والخير تريد أن تنبعث من جديد في دمشق لتعم الدنيا، وتبهر العالم
إن دنيا الأديب لن تخلو من أنماط من الجحود. . . هكذا قلت لنا. . . وإن رسالته لتصادف
ألواناً من الصعوبات، وأصنافاً من المشقات، حتى لكأن الله قد أراد له أن تصهره الشدائد، وأن يصقله الحرمان حتى يكون إنساناً آخر في إحساسه المرهف وشعوره النبيل، وعواطفه المتدفقة
وهل تخلو حياة الأدباء من هذا الصراع العنيف بين النور المتدفق الثر، وبين الجهالة الكابية المعتمة؟ وماذا يريدون منك حين يحولون بينك وبين العدل، ويحاولون أن يقصروك على منصب (الأستاذ المعاون) إلا أن يصرفوك عن الدعوة النبيلة التي قدحت شررها، وأثرت نارها، ونشرتها في كل قلب؟!. . .
نحن لم نخلق لهؤلاء البغاث، وسيذهب أولئك الذين يتخذون منقار النسر وجناحه ومخلبه. وستبقى رسالة دمشق الغالية، وسنتحمل الأذى، وسنذوق مرارة الحرمان اليوم، لنبلغ حلاوة الظفر غداً. وثق أنك لست وحدك في هذا الاضطهاد والحرمان، ولكنها سبيل مرسوم، وسهم مسموم، يقذفون به عباد الله الذين لا يستطيعون هز الرؤوس للممالأة! وحتى الظهور للنفاق، وإلا فما تقول يا سيدي وماذا يقول الناس عنا نحن هنا؟ يبعثون بنا إلى القاهرة: أروع بلدان الشرق وأزخرها بالحياة والنشاط لنمثل مدينة من أكرم المدن، وأمة من أنبل الأمم، ثم يبخلون أن يسووا بيننا وبين البعثات الأخرى التي يوفدونها إلى باريس وغير باريس؛ فيقدمون لنا المرتب - والحياء يعقل لساني عن أن أقولها - جزءاً من خمسة أجزاء من مرتب عضو البعثة. . . كأن القاهرة بلد آخر غير باريس. . . وكأن الطلبة يأكلون هناك ويصومون هنا. . . أجل!. . . ولم لا يصومون؟. . . في جوار الأزهر، وعلى مقربة من سيدنا الحسين ليتضاعف ثوابهم، ويجزل أجرهم؟. . .
وأحسب أن الحرمان سيمتد بك وبإخوانك؛ فما يؤذي هؤلاء في الدنيا أكثر من الصراحة والحق. . . ولكنك لن تني عن (رسالتك)، ولن تتخلى عنها. . . وإذا لم تجد في جماعات الوزارة، ورجالات الديوان، من يمتَّ إليك بسبب، أو ينهض معك في حق. . . فتك إرادة الله أن تكون صفحتك في كتاب الحياة بريئة، إلا من نصرته وتأييده. . . لقد اقتحمت الحياة، وصارعت أمواجها طفلاً ليس معك إلا والدتك عليها رحمة الله. . . ولقد حملت أخواتك على كتفيك في هذا الخصم الهائل، وتعرضت لألوان من الشدة ومن النكد، حتى صعدت بهم إلى هذه المنازل السامية التي ينزلونها. . . وأصبحت بين هاتين المرحلتين ما
لا يعلمه إلا الله. . . وإلا هذا العدد اليسير من إخوانك، وتقلبت بين بيروت وبغداد والقاهرة. . . وحفظ لك الناس صورة بارعة تحوطها هالات الإعجاب والإكبار والتقدير، فليهنك هذا. . . وليهنك أنك ساهمت في كل مشروع، وأنك تقدمت لكل عمل منذ كنت يافعاً في الثانوية، وشاباً في الحقوق، وقائداً وخطيباً في لهب الثورة وجحيم الاضطرابات. . . فتاريخك - مع هذه الحفنة الصادقة من الشباب - أبعد من أن تحده بهذه الحدود الضيقة من الوزارة والديوان، وما عليك أن تلقي اليوم هذا الضيقة، وهذا التجاهل. . . فذلك تأريث لعزتك، وإيقاد لشعلتك
أما الشهادات. . . هذه الأوراق السحرية التي يحملونها حين يترجمون نصاً لابن المقنع، أو يميزون بين مضارع (قال)، ومضارع (وعد). . . ويعودون بعدها من أهل العربية. . . فهي ليست أكثر من أن تكون بمثابة (الشيك) على (خزانة الحكومة). . . ولكنها لن تكون قط السبيل إلى قلوب الناس وضمير الزمن وسجل الخلود. . .
لن تظلمك دمشق هذه المدينة الصابرة الوفية. . . ولن تجزيك عن البر بالنكر، وعن الإحسان بالإساءة، فلقد خلدت منها كل صور الجمال، ومواطن الجلال، ومجال العظمة. . . ولقد نشرت على الناس صورتها الرائعة في مآدنها المتألقة، وقبابها الناهضة، ومساجدها المترعة بالنور والفيض، وبساتينها الملأى بالحسن والجمال. . . وغوطتها الضاحكة على رغم هذا الزمن العابس. . . وإن ما تلقاه الآن من أوضاع، وتجده من أذى، لا يتصل بدمشق ولكنه محمول عليها. . . فدمشق مخلصة نبيلة. . . آوت من قبل ألوان البشر، وآلاف العلماء، وفتحت صدرها للناس من كل مكان، تلقاهم بالتحية الضاحكة، وترعاهم بالود الخالص، وتنزلهم منها منزلة الولد والصاحب والرئيس!. . . ولن تنسى أبناءها لأنهم كل ما أبقيت لها يد الزمان الغادر. . . إن قلبها ليرعاهم ويحوطهم، ويهتز لهم هزة الحب. ولئن عميت طائفة عن هؤلاء الأبناء، وعن هذا النور ينسكب من وجوههم وقلوبهم؛ فإن طوائف وطوائف أخرى تتطلع إليهم بأعناقها. . . وإنها لتنظم لهم من حبات القلوب، وأزهار الربيع، وأغصان الغار، تاج الحب. . . وإنها لتوقع لهم مع نسمات الأصائل التي تزخر بالعبق نشيد الإعجاب. وإن أصوات المآذن التي تنادي: الله أكبر، الله أكبر، خمس مرات في اليوم، إنما تنبعث من أعماق قلب هذه المدينة لتهيب بهؤلاء الأبناء أن يمضوا
قدماً في دعوتهم وجهادهم لخلاصها من مفاتن الباطل والضلالات
لقد هدأ الليل، وسكن الناس. . . وأخذت أستشعر لهذه النسمات بعض القسوة. . . وليس من حوالي إلا حديث القمر، وهمسات النجوم. . . أحملها كل حنيني لك، وللأخوان السامرين، وللجادة الخامسة. . . وللغوطة الزهراء
. . . وألف تحية وسلام يا دمشق الحبيبة الوفية
(القاهرة)
شكري فيصل
تأملات
للأستاذ محمود الدسوقي
خابت آمالي إلى اليوم مرات، فكانت مرة تذهب بقطعة من نفسي. وأمس تلقيت الدرس الذي لم يكن مفر من تلقيه، فالحقائق تؤلم وتصدم وتدمى في بعض الأحيان، لكن فيها شفاء للنفس بعد حين، وقد تركتني صدمة الأمس صريعاً بين التي أحببتها حتى العبادة، والتي وددتها حتى الحب؛ وجرح مصاب الأمس كبريائي، وعفرني بالتراب، وأطلعني على الخفي الذي عز إلى الآن على الأوهام
أنت يا فتاتي قاسية لأنك قديسة، رحمة مع ذلك لأنك من بنات حواء، وقد تركتك بالأمس لا أعلم، أإلى تلاق أم تطغى كبريائي على حبي فيكون الفراق، والفراق مرُّ أمرُّ منه أن نلتقي بعد الآن
لقد حاولت جهدك أن تكوني مهذبة معي إلى غاية حدود التهذيب، لكنك لم تحاولي مرة أن تكوني لطيفة
كان وجهك كقطعة من المرمر؛ ناعم الملمس بارده، وكان مثله تتخلله تلك المعاني الكامنة فيه، ولا يدلني على شيء يهديني إلى الصواب. شئت به الإنذار فكان، وشئت به الإخطار فكان؛ ثم حاولت أن أتلمس في معنى من معانيه غرائز، فألفيته فيه، لكني لم أنته إليه، فبيني وبينه ذلك السطح المتجمد من العاطفة الجائشة فيما يليه
هذا هو فن المرأة التي لم تتعلم ضبط النفس من أمها حواء، وإنما تعلمه من غباوة الأبناء، أبناء أبيها آدم، وقد كنت معها غبياً إلى حد، ذكياً إلى حد؛ لكن الخرق يعلق بالحكيم، ولا تذهب الحكمة بالخوف العالق
ترى لو رأيتك اليوم ما أنا فاعل؟ أكبر الظن أني سأحاول أن أكون فظاً، فلا أغدو أن أكون متهالكاً ضعيفاً، وسوف تعود المياه فيما أتوقع إلى مجاريها، وأعاود خرقي، وتعاودين دروسك، ولن أفوز يوماً برضاك المحض، ولن أعود أبداً بجفاك المحض، وهذا مبعث تعاستي وهنائي
حاولت بالأمس، وإني لمنصرف عنك مطرق الرأس، أن أرفع فيك عيني، وفكرت في تحيتك فلم أفعل، وكنت أنت متغافلة عني تأملين بقائي ولا تحاولين استبقائي حتى تواريت.
وقد تواريت وأنا معتزم الرحيل إلى غير رجعة فلم يصبح الصباح حتى كان حديث النفس إلى ختام، وكانت مشيئتي قد تبلورت في عزم أكيد
حذار يا فتاتي أن تظهري اليوم أو غداً فإني قاس مع نفسي رحيم معك، وأحب أن تفسحي لي الوقت ليقوى التصميم، ولا أعلم ما أنا فاعل ولكني أعلم ما أريد، والقطعة شر مفض أحياناً إلى الخير، وهو خير سوف أشتريه غالباً، فأنكر فيه نفسي، وأتنكر لماضي حبي المنكوب. وقد ذهبت آمالي فيك إلى الهوة التي يتردى فيها المحزون لتضيف إلى تجاريبهم في أنفسهم تجاريب أخرى بالسماع. وإنها في هذه الهوة لتبقى وقد حاولت يأساً قاتلاً، كالقمح اليانع قد جف واسود من عصف الريح
وإذا جاز للعاصفة أن تهدأ فقد جاز لنفسي أن تستكن وأن تعود فتثور كما هو بالعاصفة خليق. وقد عصفت تجاربي بأحلامي غير مرة فلم تفني فيها إلا هذه المرة، وكنت أجمع ما تفرق منها كل مرة لأعاود حبي في أسر شديد، فاليوم يضيق به الأنف ويضيق به الصدر، ولا يجد متنفساً إلا في أن يأكل النفس التي غذته وأشبعته حتى بات المنهوم
إنه جارف، وإنه ليحطم، وإنه ليخلف ما تخلف العاصفة من أثر بعد عين، فهو الحب اليأس وهو الحب المحروم
محمود الدسوقي
رسالة الشعر
رجال ونساء
للأستاذ علي محمود طه
للشاعر المهندس الأستاذ (علي محمود طه) ملحمة شعرية تقع في نحو أربعمائة بيت من الشعر لم تنشر بعد. عنوانها (البعث الأول) يدور الحوار فيها بين شاعر وملك وأرواح حوريات في انتظار البعث. أما موضوع الحوار فهو الفن وأثره في العلاقة بين الرجل والمرأة، وما أثر الغريزة فيه، وكيف تلهم الأرواح قبل حلولها في أطيافها الميل إلى الشر أو الخير. وننشر فيما يلي هذا الحديث الذي يسوقه الشاعر على لسان الأرواح)
بليتيس:
هو الحسنُ فنَّانُنا العبقريُّ
…
هو الحبُّ سلطانُنا القاهرُ
ممثلهم لُعْبَةٌ في يديهِ
…
ومثَّالهم إِصْبَعٌ فاجرُ
وألحانهم من فحيحِ العروق
…
يُرَجِّعها الوتر الساخرُ
ورسَّامُهم صَنَمٌ مُبْصِرٌ
…
فإِن جُمِعوا فهمُ الشاعرُ
قلوبٌ مُدَلَّهةٌ بالجمال
…
ترى فيه معبودَها المُلْهَما
هو الرجلُ القلبُ، لا غيره
…
فأَوْدعْنَهُ القَبَسَ المضرما
أَنْمِنَ به الشَّرسَ المستخفَّ
…
وأيقظنَ فيه الفتى المغرما
إذا ما اقتحمتنَّ هذا السياجَ
…
فقد خضع الكونُ واستسلما
سافر:
ولكنْ حَذَارِ ففي طبعنا
…
ليانٌ يسمُّونه بالوداعه
وفيهم جراءةُ مستأسدٍ
…
تَحدَّى المنيةَ باسمِ الشجاعه
بليتيس:
وَهْمِتِ فذلك هَزْلُ الرجال
…
وفَنٌّ أجزنا عليهم خداعه
نُذيب به صُلْبَ أعصابهم
…
وفي رِقّةِ العود سرُّ المناعه
سافو:
أطلنا الأحاديثَ عن عالمٍ
…
مُلثَّمةٍ أرضُه بالخفاءْ
جعلناه مطمحَ أحلامنا
…
كأنّا شقينا بسُكنى السماءْ
طوانا على حُبِّهِ شاعِرٌ
…
كثيرُ المجانةِ نزرُ الحياءْ
أثار الملائكَ في قدسها
…
وأوقع في سحرهِ الأبرياءْ
بليتيس:
عجبتُ له كيف جاز السماَء
…
وغرَّرَ بالملأ الطاهر؟
أيمرحُ في الكون شيطانُه
…
بلا وازعٍ وبلا زاجر
دعي الوَهم سافو ولا تَحْقِري
…
بليتس معجزةَ الشاعر
فما نتقيهِ بحيَّاتِنا
…
إذا هو ألقى عصا الساحر!
ناييس:
بليتيسُ هَلْ هو ذاك الخيالُ
…
المُجَنَّحُ بين حواشي الغيومْ
عَشِيَّةَ صاح بأترابنا
…
وقد أخطأته قِيسِيُّ الرجومْ
وقيلَ لنا مَلَكٌ عاشِقٌ
…
يُسرِّي الهمومَ ببنتِ الكرومْ
يجوبُ السماَء إذا ما انتشى
…
يُعَرْبدُ بين خدورِ النجومْ
بليتيس:
أعاجيبُ شَتَّى لهذا الفتى
…
وأعجبُ منها الذي تذكرينْ
كأنَّ أحاديثَه بيننا
…
أساطيرُ آلهةٍ غابرينْ
إِذا كان للشعر هذا الصيالُ
…
فوا رحمتا للجمال الغبينْ!
وَدِدْتُ لو أنيَ في إِثره
…
درجتُ على الأرض في الدارجينْ
سافو:
أتغوين بالشعر شيطانَه؟
…
خياليةٌ أنتِ أم شاعره!
بليتيس:
بل الشعرُ آسرُهُ المستبدُّ
…
فيا ليتَ لي روحَه الآسره
ويا ليتَ لي وثباتِ الخيالِ
…
وقوةَ أربابِه القاهره
لصيَّرتُهُ مِثْلَةً في الحياةِ
…
وسُخرية البعثِ في الآخره
ناييس:
صفى لي بِلِيتيسُ هذا الأملْ
…
وماذا ابتدعتِ له من حِيَلْ؟
بليتيس:
أُدَلِّهُ هذا الفتى بالجمالِ
…
وأُسْمِعُه من رقيق الغزلْ
وأورثه جُنَّةً بالرحيقِ
…
وأَحْرِمُه رَشَفَاتِ القُبَلْ
إِلى أنْ تُحَرَّقَ أعصابُه
…
ويصرَعه طائفٌ من خَبَلْ
وأحفرُ بعد الردى قبرَه
…
هناك على قِمَّةِ الهاويه
وأغرس في قلبهِ زهرةً
…
من الشرِّ ريَّانةً ناديه
سَقَتْها سمومُ شرايينه
…
ورفَّتْ بها روحُه العاتيه
تخفُّ إليها قلوبُ الرجال
…
وترجع بالشوكةِ الداميه
إذا جَنَّها الليلُ لاحتْ به
…
كعينٍ من الَّلهَبِ المضطرمْ
تثور الشياطينُ من عطرها
…
كمجمرِة الكاهن الملتثمْ
إذا استافَها الرَّجُلُ العبقريُّ
…
تحَوَّل كالحيوان الوخِمْ
تصيحُ البلاهةُ من حوله
…
فينظر كالصَّنَمِ المبتسم!
تاييس:
هبي الشعرَ أولاكِ من مُلكه
…
سماَء الألُوهةِ ذات البروجْ
ونصَّ المعاني على جانبيكِ
…
فمنها السُّرى وإليكِ العروجْ
فما تصنعينَ إذا ما بُعِثْتِ
…
واحدةً من بنات الزنوجْ!
ألم تسمعي قِصَّةَ السامريِّ
…
وما صَنَع القومُ بعد الخروجْ؟
نبا منطقُ الوحي عن سمعهم
…
وخفَّ عليهِ رنينُ الطربْ
ومَدُّوا العيونَ إلى دُميةٍ
…
تَمَثَّلُ في حيوانٍ عَجَبْ
ترامي بأحضانهِ غادةٌ
…
أفادَ صباها شبوبَ الَّلهَبْ
جنونُ الحياةِ وأهواؤها
…
أنوثَتُها وبريقُ الذّهَبْ!!
فأينَ من القوم سحرُ البيانِ
…
وصيحةُ موسى قُبَيْلَ الوداعْ؟
هُمُ الناسُ لا يعشقون الخيالَ
…
إِذا لمْ يكنْ حافزاً للطِماعْ
همُ الناسُ لا يعبدون الجمالَ
…
إذا لم يكنْ نَهْزةً للمتاعْ
همُ الناسُ لا يألفونَ الحياةَ
…
إذا لم تكنْ مَعْرِضاً للخداعْ!
سافو:
تماثيلُهُ بعضُ أجسامنا
…
وقد صاغها العبقريُّ الصَّنَاع
ولوحاتُهُ صُوَرُ العارياتِ
…
إذا مَزَّقَ الفنُّ عنها القناع
أبا الشعر - تُغوينَ هذا الفتى؟
…
وَهِمْتِ إذنْ - وجهلتِ الطباع!
أليستْ له صبوةُ الآدميِّ
…
وشهوةُ تلك الذئابِ الجياع؟
بليتيس:
رجعتُ لنفسي فلا تغضبا
…
وكُفَّا العتابَ ولا تسْهِبا
لقد رُعْتماني بهذا المزاحِ
…
وأبدعتما نبأً مُغْرِبا
سَرَتْ بيَ من ذكرهِ رعدةٌ
…
كأني لبستُ به الغيهبا
أتاييسُ ما كنتُ بِنْتَ الزنوجِ
…
ولا شِمْتُ أُمّاً بهم أو أبا!!
تاييس:
وَصَمْتِ الخليقةَ في بعثهم
…
كأنّهُمُ الحدَثُ المنكرُ
وما أخطأ الطيفُ ألوانَه
…
ولكنَّه القبَسُ الأحمر
أبوهم كما زعموا آدمٌ
…
وأفئدةٌ بالهوى تَشْعُرُ
لهم نارهم في أقاص الدُّجى
…
وأبياتُهم في أعالي الكهوفْ
ورقصٌ يُمَثِّلُ قَلْبَ الحياةِ
…
إذا ما استُخِفَّ بنقرِ الدفوفْ
ونايٌ يُقسِّمُ فيه الربيعُ
…
ويسكبُ شجوَ الليالي الهتوفْ
وسحرُ الطبيعةِ في عُرْيها
…
إذا هَتَكَ الفجرُ عنها الشفوقْ
تتَفَرَّدَ فّنهُمُ بالخلود
…
وصيغَ بفطرتهم واتّسَمْ
يعيش جديداً بأرواحهم
…
وإن عاش فيهم بروح القدَمْ
له بأس (مانا) وإيحاؤه
…
إذا اضطربتْ رُوحُه بالألم
وَرِقّة (هاوايَ) في شدْوها
…
إذا جاشَ خاطرُها بالنَّغَمْ
ألا فلْيَكُنْ لكِ من فنهم
…
سموُّ اللظى وعتوُّ الجبالْ
ألا فلْيَكُنْ لكِ من سحرهم
…
فنونٌ تُعَطِّلُ سحرَ الخيالْ
ألا فلْيَكُنْ لكِ من نارهم
…
وشاحُ مُؤَلهَّةٍ بالجمالْ
إلى الأرضِ فانتقمي للنساءِ
…
وكوني بها محِنةً للرجالْ!!
علي محمود طه
رسالة الفن
بواطن وظواهر
عندنا فنانون. . . ولكن!
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
5 -
من الموسيقيين
مصطفى بك رضا
الفنان المصري الوحيد الذي له تمثال منصوب في معهد رسمي من معاهد الحكومة. فهل الحكومة تسمع من الموسيقى ما لا نسمعه نحن الرعية؟ وهل سمعت الحكومة فيما سمعت من هذه الموسيقى شيئاً لمصطفى بك رضا لم تستطع أن تمسك نفسها معه دون أن تقيم له تمثالاً في حياته مع أن هذا أمر شاذ جداً يكاد يكون منقطع النظر. . . فإذا كان الأمر كذلك فأين هي يا حكومة هذه الموسيقى التي ينتسب مصطفى بك رضا إلى الفن بها؟ ألم يكن الأجدر بها أن تكون أول ما تكون في ذلك المعهد الرسمي الذي أقيم تمثال مصطفى بك رضا فيه؟ ليس في ذلك المعهد شيء من مصطفى بك رضا إلا التمثال، فهل هذا التمثال يغني في وقت من الليل أو النهار لا يعرفه أحد غير الحكومة، فتذهب إليه في ذلك الوقت تسمع غناءه في استخفاء ضناً منها به أن تختلس آذان الشعب منه آهة، أو تنال أفئدة الشعب منه تنهيدة؟ فهنيئاً إذن للحكومة!. . .
أو قل هنيئاً لمصطفى بك رضا، وأعلم أنه كما استطاع لنفسه أن يقيم تمثالاً في معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية من غير أن يكون له في الموسيقى إلا أنه يعرف أن يعزف بعض المحفوظات على القانون. . . فإنه يستطيع كذلك أن يقيم لك تمثالاً في كلية الآداب مثلاً إذا ثبت لديه أنك تفك الخط فقط لا أكثر ولا أقل. . . فإذا كانت لك رغبة كهذه فها هو ذا عندك ملء الدنيا كلها فاتفق معه على الأسلوب، إنك تجده فيما بين المعهد، ومحطة الإذاعة، ووزارة الأوقاف، ومسجد السيدة نفسية. . . ومهما ينصحك بشيء فاعمل بنصائحه حتى لو رأيت نفسك ستضحي في البدء بالقليل أو الكثير، فالرجل لا يتجه إلا إلى شيء واحد، وهو أن الآخرة خير ربحاً وأبقى كسباً
الأستاذ عبد الوهاب
مسكين هو مع مصطفى بك رضا. كلما رأى موسيقاه تملأ البلد، ويغنيها الناس هنا وهناك، ورأى الحكومة مع هذا كله تنكره فلا تنزع من معهد الموسيقى تمثال مصطفى بك رضا لتقيم مكانه تمثاله هو، أو تقيم له تمثالاً مع تمثال مصطفى بك رضا - كلما رأى هذه الحال ضاق ذرعاً وعجب للموازين التي يوزن بها الناس في هذا البلد
ولقد اهتدى أخيراً إلى فكرة نفذها فارتاح بعدها واطمأن، لأنه ساوى بها مصطفى بك رضا، بل إنه وصل بها إلى حيث لا يستطيع مصطفى بك رضا أن يصل بتمثاله، ذلك أن الأستاذ عبد الوهاب أقام لنفسه تمثالاً نصفياً، ثم صوره بالسينما ولصقه في أوائل فيلم يوم سعيد فهو يعرض على الناس كلما عرض الفيلم، والفيلم كما تعرف يسافر داخل القطر وخارج القطر، فيراه الناس هنا وهناك، بينما تمثال مصطفى بك رضا لا يراه إلا الذين يزورون المعهد الموسيقي فقط
صحيح أن الناس يرون الأستاذ عبد الوهاب نفسه في الفيلم ويسمعونه، وأنه لا لزوم مع هذا إلى التمثال؟ ولكنه تنافس الموسيقيين في تشجيع إخوانهم النحاتين!
الدكتور الحفني
هو موسيقي من نوعي أنا، ولكنه يعلم ما لا أعلم عن تاريخ الموسيقى، وآلاتها، وأسمائها، وشتى شئونها، وهو يشبهني من حيث أنه لا ينتج شيئاً منها، وإن كان يكثر من الحديث عنها إكثاراً نال به الدكتور فيها من ألمانيا لا من هنا. . . من ألمانيا
6 -
من الشعراء
الأستاذ محمد الأسمر
كان ترتيبه الأول بين حضرات الشعراء الذين تقدموا لمسابقة الأناشيد الحماسية التي عقدتها وزارة الدفاع، فنال الجائزة السنية
الأستاذ أحمد رامي
في يوم من الأيام قال في أغنية الأستاذ عبد الوهاب:
تعالى نفن نفسينا غراماً
…
ونخلد بين آلهة الفنون
أرتل فيك أشعاري وأصغى
…
إلى ترجيعك العذب الحنون
. . . فكان شاعراً رائعاً، وهو اليوم يقول في أغنية للأستاذ عبد الوهاب أيضاً:
تنزل وادي وتطلع كوبري!
تحود مرة وبعدين دوغري!
يا وابور. . .
. . . أحترف! نجاه الله ورده شاعراً رائعاً. . . أو فليبقه الله هكذا فإن الشعر عذاب! أو فليدع الله هو بما يشاء!
الأستاذ محمود إسماعيل
الشاعر الذي لا يزال مصرياً والذي أدعوه إلى أن يغزو بإحساسه ثم بشعره نفوس الناس حتى يكون شاعراً إنسانياً. وإني وإن كنت أدعوه إلى هذا فإني أطلب منه ما يتعبه فهو لا يخالط الناس إلا ليسخر منهم، لأنه يعتقد أن الناس لا يتعارفون إلا ليسخر بعضهم من بعض، فلو ظل على هذا لظل شعره بعيداً عن الناس الذين لا يعاشرهم بنفسه فلا تشعر بهم نفسه ولا يدركهم شعره
فهل عقد العزم على أن يبقى هكذا شاعر القمح والثور والشادوف وعينيها وشفتيها وما يشبه هذا؟
إن عليه أن يدرب نفسه منذ الآن على أن تحب الناس وحياتهم رغم ما فيها؛ فهذا الذي فيها هو موضوع الشعر وموحِي أخلده، وهو شاعر
الدكتور إبراهيم ناجي
لم يكن هذا الشاعر يستطيع إلا أن يكون فناناً على أي وجه من الوجوه وفي أي فن من الفنون، فله نفس تضطرب بالبهجة والرحمة والحب، فهو على العكس من صاحبه محمود. . . بذل نفسه لكل ما حسن عنده، وإنه ليحسن عنده كل ما يرى، فهو في شعره: إما محب هاتف للحسن، وإما محب راث للحسن إذا مسه الأذى
7 -
من الرسامين
الأستاذ عبد السلام الشريف
عقله له أسلوب، ويده لها أسلوب؛ وأسلوب عقله يؤدي بفنه إلى مسرح العواطف الإخلاص والوداعة والرضا؛ وأغرب ما فيه هو الرضا، فهو لا يسخط على ما أعتاد أهل الفن أن يسخطوا عليه. له رسم صور الدنيا أما ذات طفلين ترضع أحدهما دون الآخر، فالراضع يرضع هادئاً لا يشغله شيء إلا الرضاعة، والآخر متبرم بهذا، ولكنه لا يزيد في تبرمه على أن يمط شفتيه. . . فلو كان الحقد يعرف قلب الأستاذ الشريف، لكان قد صبه نقمة في وجه من هذه الوجوه الثلاثة، ولكنه نثرها جميعاً بوداعة ورضا وإخلاص للحق، فالدنيا حين ترضع من ترضع من أبنائها، وحين تغفل من تغفل منهم، لا تفعل ذلك عن ميل إلى الجريمة أو الظلم وإنما هي أم، والطفل الذي يرضع. . . يرضع وهو لا يقصد أن يظلم أخاه الذي أهملته أمه، والطفل المهمل نفسه كان عند الأستاذ الشريف حكيماً يمط شفتيه إذا أهمل، صابراً راضياً مؤملاً أن يشبع أخوه وأن تعطف عليه بعد ذلك أمه
هذا هو أسلوبه العقلي
أما يده، فسريعة رشيقة خفيفة، لا ثرثرة في خطوطها ولا زحمة؛ وإنما هي أقواس تجري بها يده على الورق فتضع الحدود اللازمة لحصر الفكرة التي تريد أن تؤديها، وهو بعد ذلك يترك الناظر إلى رسومه يكمل من خياله ما كره هو أن يفصله، فيرغم بتفصيله إياه قارئه أو الناظر في صورة على أن ينحصر معه
8 -
من الخطباء
الأستاذ فكري أباظة
يغيظني من هذا الرجل تبعثره، ولست أدري متى يوحد نفسه ويتجه بمواهبه إلى هدف واحد؟ هو الآن محام، وصحفي، ونائب، وهو فوق ذلك كله - كما قلت عنه مرة - أباظة؛ يتعهد بالدعاية لكل أباظة من أهله العاملين في الحياة المصرية العامة
والشيء الذي لا أشك فيه هو أن أعظم ما وهِبَهُ الأستاذ فكري هو قدرته على الخطابة، فإن له شخصية محببة ترتاح إليها النفس، وان صوتاً مدوياً تهتف له الأرض، وإن له عقلاً جارياً يسعفه بالفكرة، فان قصر عنها أسعفه بالنكتة، وإن له لساناً ليناً يطاوعه ويتدفق بأمره
فلا يتعثر ولا يتوقف، وإن له إلى جانب هذا كله قلباً يكدس عليه الأستاذ فكري أثقالاً وأثقالاً من آماله المشتتة المبعثرة، ومع ذلك فإنه لا يزال ينبض تحتها حياً
الأستاذ مكرم باشا
خطيب الجماهير بلا منازع. أول ما يعمد إليه إذا وقف الخطابة هو أن يسكر سامعيه ليقول لهم بعد ذلك ما يريد، وهو يجد عنده من خمر البيان أو سحره ما يذهب بالعقول ما لم تكن راكزة ركوز الأهرام، وهو لا يدع مواقفه الخطابية للصدفة، وإنما هو يعد لها العدة إعداداً، فيكتب خطبة وينمقها، ويقطعها، ويلحنها، ويقوم أمام الناس فيلقيها فإذا هم عواصف وقتما يريد لهم أن يكونوا عواصف، وإذا هم نسائم وقتما يريد منهم أن يكونوا نسائم
الأستاذ توفيق دياب
مسرحي إلى حد كبير في خطابته. . . سمعته يوماً في مسرح البلفدير في الإسكندرية يرثى سعداً عقب وفاته، فرايته يقوم وهو بالمعطف و (التلفيعة) يشكو للجمهور المرض وعجزه عن القول، ثم تحمس قليلاً حزناً على سعد فانطلق يقول ويقول حتى فرض الجمهور أن الدم جرى في عروق الأستاذ فملأها حرارة وهنا خلع الأستاذ (التلفيعة) ومضى وحماسته تزداد، حتى استثقل الناس المعطف عليه فخلعه هو أيضاً، ثم زاد فخلع الطربوش، ثم أخذ يقفز بعد أن خف في المسرح ويضرب أرضه برجله، وأثاثه بيده حتى هم بأن يختم الخطبة فخفف من حماسته قليلاً ووضع الطربوش على رأسه، ثم خفف منها قليلاً وارتدى المعطف، ثم فتر فلف (التلفيعة) على عنقه، ثم تعيا وتراخى فما جلس حتى كان يشكو المرض في نهاية خطبته كما كان يشكوه في بدايتها، فكان ختاماً فنياً مسرحياً كما رأيت، وباهراً كما رأى الجمهور
9 -
من المعلمين
الأستاذ إبراهيم مصطفى
أستاذ النحو بقسم اللغة العربية بكلية الآداب. هذا المعلم وهب نفسه للنحو، وهو يحب النحو الذي أودعه نفسه لتلامذته فإذا هم يتلقونه نحواً حياً فيه روح، ولا ريب أن هذه أعجوبة من الأعاجيب، فقد كان النحو ولا يزال من أثقل علوم العربية وفنونها على النفس، ولكن
الأستاذ إبراهيم مصطفى يحببه إلى النفس، لأنه لا يرجمها به رجماً، وإنما يدسه عليها دساً، فهو يعرف أن اللغة العربية مخلوق حي تطورت به الحياة حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن من اختلاف اللهجات وتميز كل لهجة من هذه اللهجات بميزة خاصة أو بميزات. وهو يدع هذا حتى يمسك بطرف عربي في نفوس تلامذته، ثم لا يلبث يتابع بهم مسالك هذا الطرف مرتداً إلى الأصل العربي حتى يجد تلامذته لأشد عقد النحو تعقيداً، حلاً ميسراً تهديه إليهم لغة الخطاب المتداولة الآن
ولا يمكن أن يطمع معلم للنحو في أكثر من هذا، وفي أن يؤمن من يتعلم على يديه بأن النحو العربي هو الموسيقى المنطقية للذوق العربي.
عزيز احمد فهمي
رسالة العلم
في عالم الأمواج
للدكتور محمد محمود غالي
سبر العلماء لمراحل الإشعاع - طول الموجة وعدد الذبذبات - من الموجات اللاسلكية إلى الأشعة النافذة - أشعة الموت - الأشعة السينية وعمل (لاويه) - الضوء والكهرباء وأنواع كونية واحدة
حدثنا القارئ عن الموجات الكهربائية التي نستخدمها في الاستماع إلى الإذاعة اللاسلكية، وعن الموجات الضوئية التي نرى بها صورة الأشياء وذكرنا عقيدة (هرتز من أنها أمواج واحدة لا يتميز فريق منها عن الآخر إلا باختلاف أطوالها، فهي كأهل مدينة كبيرة بينهم من هو طويل القامة ومن هو قصيرها؛ كلهم من البشر ويمثلون جنساً واحداً ولكن يتحتم أن يوجد بينهم الطويل والقصير
ونذكر الآن أنه كان للمصادفة شأن هام في كشف (هرتز) لوحدة هذه الأمواج، ذلك أنه أراد أن يعرف ما إذا كانت للأمواج الكهربائية خواص الأمواج الضوئية كخاصية الانعكاس مثلاً، وتصادف أنه استخدم أمواجاً قصيرة طول موجتها بضعة أمتار فكان هذا الاختيار سبباً في نجاح تجاربه وفي نجاح نظريته الضوئية في الكهرباء، إننا لا نستطيع اليوم أن نعكس أمواج الراديو على مرآة لسبب واحد هو عدم استطاعتنا أن نصنع مرآة كبيرة تتناسب وأطوال الأمواج التي نستخدمها الآن، ولم نستخدم في الإذاعة الأمواج القصيرة إلا في العهد الأخير، وهي الأمواج التي أمكن عكسها بواسطة شبكة سلكية بدل المرآة، وليس ثمة شك في أن اختيار (هرتز) لنوع معين من الأمواج كان توفيقاً نحمد الظروف عليه، فقد تقدمت بذلك العلوم خطوة كبرى إلى الأمام
ولا نود أن نذكر للقارئ كلمة أمواج دون أن يتابعنا في المعنى المراد من هذه الكلمة ونعيد عليه أن الأمواج التي نعرفها في الظواهر المختلفة تنقسم إلى أمواج طولية وأمواج مستعرضة، وتعتبر الأمواج الضوئية والأمواج الكهربائية من النوع الأخير فهي أمواج مستعرضة، ومعنى ذلك أن الذبذبات تحدث عمودية على الخط الضوئي أو الكهربائي الواصل من المنبع إلى مكان وصول الشعاع، ويسمون طول الموجة المسافة الواقعة بين
قمتين للأوضاع المختلفة التي تأخذها نقطتان تتذبذبان على هذا الخط، ويحسن بالقارئ لكي يتخيل طول الموجة أن يتصور تلك الأمواج التي تحدث على سطح الماء فإنها هي أيضاً من النوع المستعرض، وطول الموجة بالتعريف هو المسافة الواقعة بين قمة الماء عند مكان معين والقمة التي تليها، وهذه المسافة في حالة أمواج الماء تبلغ مثلاً متراً أو أثنين ولكنها تبلغ في الأمواج الكهربائية الطويلة من 200 إلى 2000 متر وفق طول الموجة التي تتخيرها محطة الإذاعة
وينبغي ونحن نتكلم عن طول الموجة أن نذكر للقارئ شيئاً عما يسمونه عدد الذبذبات. فثمة علاقة بين سرعة الضوء وطول موجته وعدد الذبذبات الحادثة، ذلك أن سرعة الضوء تساوي عدد الذبذبات مضروباً في طول الموجة فبمعرفة سرعة الضوء يمكننا إيجاد عدد الذبذبات إذا عرفنا طول الموجة أو نعرف طول الموجة من عدد الذبذبات، وما يقال عن الضوء يقال عن الكهرباء لأننا نعرف أن سرعتهما واحدة
فإذا رمزنا بالحرف ع لسرعة الضوء وم لطول الموجة وز للفترة التي تستغرقها الذبذبة الواحدة
فإن السرعة ع=زم
وإذا رمزنا بالحرف ن للتردد أي لعدد الذبذبات الحادثة في
الثانية الواحدة فإنه من الواضح أن ن=ز1
أي أن ع=م ن
ومعنى ذلك أن سرعة الضوء أو الكهرباء تساوي طول الموجة مضروباً في عدد الذبذبات في الثانية
وعلى ذلك، فإننا نميز الظواهر الضوئية والكهربائية على السواء إما من طول الموجة أو من عدد الذبذبات الحادثة في وحدة الزمن وهي الثانية، ويبلغ عدد الذبذبات في حالة الأمواج الطويلة المستخدمة في الراديو الملايين في الثانية الواحدة، ويزيد هذا العدد وفق القانون المتقدم كلما كانت الأمواج قصيرة
أما الأمواج الضوئية فتختلف في أطوالها وبالتالي في عدد
ذبذباتها عن الأمواج الكهربائية رغم تماثل طبيعتها، فبينما
تبلغ أطوال الأخيرة في كثير من الأمواج التي نستمع
بواسطتها للإذاعة بضعة كيلو مترات ويبلغ وترددها الملايين،
فإن أمواج الضوء المرئي تختلف أطوالها من 100008 من
المليمتر للضوء الأحمر إلى 100004 من المليمتر الضوء
البنفسجي ويبلغ ترددها ألتريليونات من الذبذبات في الثانية
الواحدة
ومن السهل على القارئ أن يحسب عدد الذبذبات الحادثة عند
نقطة معينة من شعاع مرئي معتبر بين الأشعة الحمراء
والأشعة البنفسجية وليكن طول موجة هذا الشعاع 100006
من المليمتر ويمثل في الواقع اللون الأصفر المائل إلى
البرتقالي
فمن المعروف مما تقدم أن سرعة الضوء تساوي طول الموجة مضروباً في عدد الذبذبات أي أن عدد الذبذبات يساوي سرعة الضوء مقسوماً على طول الموجة
ولكن سرعة الضوء تساوي 300 ألف كيلو متر في الثانية أي تساوي:
300.
000 1000 1000مليمتر
ومن ثمَّ يكون عدد الذبذبات يساوي 300. 000 1000 1000
مقسوماً على 100006 أي يساوي 500 مليون المليون من
الذبذبات في الثانية
وإن نظرنا إلى مجموعة الأشعة التي نعرفها الآن الكهربائية كانت أم ضوئية لوجدنا أن أسهل مراحلها في الدراسة هو الأشعة المرئية التي ذكرنا أطوال أمواجها، ولقد استخدم (نيوتن) وغيره أبسط الأجهزة ليقوم بتحليل أشعة الشمس أو عكسها أو كسرها، وتسنى له بابسط الوسائل أن يجوب هذه الدار من مراحل الإشعاع، وزودنا باستخدام أشعة الشمس وبثقب كان في نافذة معمله ومنشور من الزجاج ينصف علم الضوئيات الذي نعرفه اليوم، ولكن لم تكن معرفة ما بعد الأشعة المرئية وما قبلها من الإشعاع بالشيء الهين إذ تطلب ذلك أبحاثاً طويلة ما زالت قائمة حتى اليوم، ولا يتسع هذا المجال لنذكر الوسائل الطبيعية المختلفة والأجهزة المعقدة التي استخدمها الإنسان للتوصل إلى معرفة مراحل الإشعاع المختلفة، فمادة الكوارتز حلت محل الزجاج كما حل اللوح الفوتغرافي والترمومتر وغيره من الوسائل محل العين لمعرفة وجود الأشعة، وكان لهذه الأجهزة شأن كبير في الكشف عن مراحل الإشعاع وقياس سلسلة الأمواج المختلفة التي تبدأ من أشعة الراديو التي تجهلها حواسنا وتنتهي بالأشعة النافذة أو الكونية التي لا تشعر بها هذه الحواس رغم مقدرتها على اختراق ما سمكه عشرة أمتار من الرصاص، وهكذا كشف العلماء عن مراحل الإشعاع التي تقع في منتصفها هذه المنطقة المحدودة، والضيقة من الأشعة المرئية، وهكذا تعرف العلماء على أنواع الإشعاع لمختلف الأمواج كما عرفوا أن سرعة الأشعة الكهربائية هي سرعة الأشعة الضوئية، وأن طبيعة الشعاعين واحدة
على أننا نقسم الأشعة التي نعرفها في الكون إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول من الأشعة غير المرئية تبدأ من الأمواج الهرتزية أو اللاسلكية وتنتهي بالأشعة تحت الحمراء
القسم الثاني الأشعة المرئية وتبدأ بالأشعة الحمراء وتنتهي بالأشعة البنفسجية
القسم الثالث: وهو الطرف الآخر من الأمواج غير المرئية وتبدأ من الأشعة فوق البنفسجية وتنتهي على حد ما بلغنا إليه اليوم بالأشعة النافذة والأشعة الكونية، وهي أغرب ما نعرفه من الإشعاعات
ولم يكن التعرف على مراحل الإشعاع نتيجة لتتبع منتظم لأطوال الأمواج المختلفة والبحث عن الأطوال غير المعروفة بين الأطوال التي نعرفها، لأن سبيل تقدير هذه الأطوال وقياس
التردد سبيل وعر ألجأ العلماء في كل مرحلة إلى فن خاص يختلف عن الفن المتبع في المرحلة القريبة منها. إنما كان التعرف على الإشعاع سابقاً في العادة لدراسة خواص الإشعاع من طول موجته أو تردده أو خواصه الطبيعية، وكان التعرف على الإشعاع في كثير من الأحيان نتيجة لمصادفات علمية موفقة، وقد ضربنا للقارئ مثلاً بكشف (بكارل) لأشعة الإيرانيوم، ولولا أنه ترك غير عامد قطعة من الإيرانيوم في أحد أدراج مكتبه على لوح فوتغرافي، ولولا أنه لاحظ بعد ذلك على هذا اللوح أثر مطبوعاً يدل على شكل هذه القطعة من الإيرانيون لتعذرت على الإنسان معرفة هذه المرحلة من الإشعاع المادي، ولما كشف الإنسان بعده إشعاع الراديوم العجيب
وليس المجال هنا لنعرف خواص الإشعاع المختلفة، وما زال الإنسان دائباً وراء توسع معارفه في استخدام الأشعة في أغراضه، ففي الناحية الأولى ومن الأشعة غير المرئية التي تبدأ من الأمواج الهرتزية وتنتهي بالأشعة تحت الحمراء استخدام الإنسان مرحلة من هذه الأشعة في الإذاعة، وهو ما زال يسعى لمعرفة المرحلة الأخرى من هذه الأشعة، وقد عثرنا في كتاب لريشنباخ على أن الأشعة التي طول موجاتها من ثلاثة أمتار إلى خمسة تقتل بعض الحيوانات الصغيرة كالفيران وبعض الحشرات، ولاشك في أن ثمة أبحاث موجودة خاصة بهذا الموضوع لم تتح لنا فرصة الاطلاع عليها. ولعل هذه الملاحظة الخاصة بالحيوان والحشرات سبب جعل فريقاً من الناس يتحدث أحياناً عن استخدام الإنسان يوماً لما يسمونه الأشعة القاتلة التي أطلق عليها البعض أشعة أو أشعة الموت، وليس في هذا الحديث إذن من سخف شديد ما دام أن هناك مرحلة من مراحل الإشعاع لها هذا الأثر على الحيوان الصغير، ومع ذلك فإننا لا نعرف حتى الآن أشعة قاتلة للإنسان سهلة الوجود والاستخدام، وهو الكائن الذي تخترقه في النهار يتبعه الليل كل أنواع الأشعة من أشعة الراديو الطويلة التي يبلغ طول موجاتها بضعة كيلو مترات إلى أشعة الشمس المرئية وغير المرئية إلى الأشعة الكونية الخارقة، وطول موجاتها أجزاء من ملايين ملايين المليمترات، ويعيش الإنسان تحت كل هذه الأنواع من الإشعاعات المختلفة، يروح جيئة وذهاباً، ينعم بالشباب بعد الطفولة، ويتألم من الشيخوخة بعد الرجولة، ويأخذ قسطاً وافراً من الحياة يلجأ خلالها إلى هذه الأشعة في مراحلها المختلفة يستخدمها في الإذاعة وفي نقل
الصور الفوتغرافية باللاسلكي وفي التليفزيون، ونأمل أن نستخدمها بطريقة عملية قريباً فيما نسميه (التحليل عن بعد)، بل يستخدمها الإنسان في العلاج دون أن يناله في كل ذلك أثر مميت، ولو أننا صعدنا اليوم الدرج إلى عيادة أحد الأطباء المشتغلين بالأشعة وفي جسمنا ألم فإنه يستطيع بين لحظة وأخرى أن يعطينا صورة واضحة لجزء دفين من أجسامنا وذلك باستخدام مرحلة من مراحل الأشعة التي لا نراها بالعين، وهي الأشعة السينية
فيمكننا أن نرى مثلاً حصوة في الكلى يجب استئصالها أو نعلم مثلاً أن وراء هذا الضرس خراجاً هو سبب مباشر لورم معين، وهكذا أخذ بعض الكشوف العلمية الكبرى مرحلته التجارية، فأصبح له أجهزة تباع في الأسواق يستخدمها الإخصائيون، وأصبحت بذلك نفعاً للبشر
ولقد كانت معرفة أطوال الأمواج من المسائل العلمية في كثير العويصة في كثير من هذه المراحل، وأننا نذكر للقارئ على سبيل المثال كيف عرف العلماء طول موجة الأشعة السينية المتقدمة؛ فلقد كانت ظاهرة الحيود الضوئية التي سبق أن تحدثنا عنها، والتي قامت دليلاً على أن الضوء ظاهرة موجية، بل قامت دليلاً على النظرية الحدَيثَّة، من الظواهر التي استخدمها الباحثون لمعرفة أطوال الأمواج الضوئية في جزء هام من مراحل الإشعاع، على أن هذه الظاهرة بذاتها لم تعد تصلح سبيلاً لدراسة الأشعة السينية، إذ أن أطوال أمواج هذه الأشعة من الصغر بحيث أن أية فتحة نعمد إلى صنعها في معاملنا مهما صَغرَت تعتبر كبيرة بنسبة موجة الأشعة السينية، فلا تصلح لترى بواسطتها ظاهرة الحيود اللازمة لنا لدراسة هذه الأشعة
ولكن العالم الكبير (ماكس لاويه) استطاع أن يعرف بهذه الظاهرة طول الموجة السينية، ويحصل على أشكال بديعة ناتجة من ظاهرة الحيود المتقدمة، مستخدماً فيها تلك الأشعة، وذلك باللجوء إلى البلورات، فهذه تتكون في الواقع من جزيئات موضوعة في ترتيب خاص، ومرصوصة بطريقة يوجد بينها هذه الثقوب الصغيرة التي لا نستطيع بوسائلنا الحصول على ثقوب في صِغرها، وهي فتحات تصلح مصادفة لاستخدام الأشعة السينية، وبذلك كان يجمع (لاويه) الأشعة السينية بعد احتراقها البلورة ويجعلها تقع على لوح
فوتغرافي فتُحْدِث فيه بقَعاً سوداء منظمة تنظيماً عجيباً وجميلاً. ولقد كنا نود أن نعطي للقارئ إحدى هذه الصور البديعة فلم نعثر على واحدة منها اليوم؛ وبدراسة رياضية عميقة استنتج (لاويه) طول موجة الأشعة السينية التي لا تراها العين والتي لا تحدث ظاهرة الحيود في تجاربنا العادية
وإذا كانت أطوال أمواج الأشعة السينية من المجموعة التي نعتبرها قصيرة القامة، فإن أطوال أمواج أشعة الراديوم أقصر منها بكثير؛ وليس المجال هنا لنذكر الطرق المختلفة لتحديد هذه الأمواج وتحديد التردد
على أن أقصر الأمواج هو ما نصادفه في الأشعة الكونية أو الخارقة، وقد سبق أن تحدثنا عنها بإسهاب، وهذه تصل إلينا من جهات من الكون لا نعرفها وبسبب عمليات طبيعية لا نعرف الأصل فيها، وهذه الجهات بعيدة بلا شك كل البعد عن مجموعتنا الشمسية، إذ لا علاقة هناك بين شدة هذه الأشعة وبين وضع الأرض بالنسبة للشمس، فأمريكا تلقي منها بقدر ما نلقاه في اللحظة ذاتها في رابعة النهار، ويبلغ طول موجتها واحداً على تريليون من المليمتر
وهكذا تمتد مجموعة التموجات فتشمل كلها مجموعة واحدة كهربائية كانت هذه التموجات أو ضوئية، ولا تشعر أجسامنا ولا تلمح عيوننا إلا جزءاً يسيراً منها، بينما امتدت أجهزتنا وامتد ذكاء الإنسان للكشف عن هذه السلسة غير المحدودة من طرفي الإشعاع والأمواج، الأمواج الطويلة في طرف والقصيرة في الطرف الآخر
لقد طوح بنا الحديث في مراحل الإشعاع بعيداً عن مسائل كان في برنامجنا أن نذكرها للقارئ اليوم، ولكن الحديث ذاته يسوقنا إلى موضوعات أخرى، بعضها من صميم الخيال، وبعضها في أعماق الحقيقة، وعن هذه المسائل سيكون حديثنا القادم
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية.
ليسانس العلوم الحرة.
دبلوم المهندسخانه
البريد الأدبي
جوائز (مصطفى كامل) المالية
1 -
المباراة الأدبية:
لمناسبة إزاحة الستار عن تمثال المغفور له مصطفى كامل باشا تبرع
حضرة الأستاذ محمد محمود جلال بك نائب بني مزار وعضو اللجنة
الإدارية للحزب الوطني بمبلغ ثلاثين جنيهاً تعطي مكافأة لمن يحوز
قصب السبق في مباراة أدبية موضوعها: (جهود مصطفى كامل في
نواحي النشاط الإنشائي القومي ونجاحه في التعليم والاقتصاد
والاجتماع وعلاقة ذلك بدعوته الوطنية)
وفيما يلي شروط المباراة:
1 -
أن يكون المشترك شاباً مصرياً لا تزيد سنه على ثلاثين سنة
2 -
ألا تزيد الكتابة في موضوع المباراة على عشرة صفحات من القطع الكبير
3 -
أن تقدم الموضوعات إلى لجنة المباراة المؤلفة من حضرات: أنطوان الجميل بك، وعبد الرحمن الرافعي بك، والأستاذ فكري أباظة، والأستاذ محمود العمري، في مدة ثلاثة أشهر من اليوم إلى 14 أغسطس سنة 1940 وتعلن اللجنة أسم الفائز في المباراة بعد شهرين من الموعد المذكور
وقد أودع الأستاذ جلال بك قيمة الجائزة وقدرها ثلاثون جنيهاً لدى الأستاذ أنطوان الجميل بك بشيك على بنك مصر
2 -
جائزة كلية الحقوق:
وخصص الأستاذ جلال أيضاً جائزة سنوية قيمتها عشرة جنيهات تسمى (جائزة مصطفى كامل) تمنح كل عام لأول ناجحي الليسانس في الدور الأول لكلية الحقوق، وهي الكلية التي بدأ بها الفقيد دراسته العليا. وأرسل إلى حضرة عميد الكلية خطاباً بذلك، وأرفق به صورة الاعتماد الذي خصصه ببنك مصر عن قيمة الجائزة وبموجبه يصرف المبلغ في شهر من
كل عام. فورد إليه كتاب شكر رقيق من حضرة العميد مع قبول هذه الجائزة الكريمة.
3 -
جائزة كلية تولوز:
وتبرع أيضاً بمبلغ ألفي فرنك لأول الفائزين في العام الحالي بكلية الحقوق بتولوز، وهي الكلية التي أتم فيها الفقيد دراسته ونال منها شهادة الليسانس سنة 1894 وكتب بذلك خطاباً إلى وزير فرنسا المفوض في مصر وأرفق به قيمة الجائزة فتلقى كتاباً من سعادة الوزير المفوض بقبول الجائزة وشكره على هذه المبرة
افتتاح المعرض الرابع لرابطة الفنانين المصريين
افتتح معالي محمود فهمي النقراشي باشا وزير المعارف، في الساعة العاشرة والنصف من صباح الخميس الماضي، المعرض الرابع لرابطة الفنانين المصريين بحضور الأساتذة حسن فائق بك، ومحمد فهيم بك وأحمد شفيق زاهر بك وحسين فريد بك والمسيو جورج ريمون ومحمد حسن وسيد يوسف وأعضاء الرابطة
وقد أقيم هذا المعرض بالدور الأول من السراي الصغرى في أرض المعارض التابعة للجمعية الزراعية الملكية، وعرض فيه أعضاء الرابطة حوالي مائة لوحة فنية رائعة بين تصوير، وأعمال خزف، وتماثيل. وقد جمعت هذه اللوحات ألوناً شتى من الاتجاهات الفنية ومثلت في مجموعها فكرة الجمال كما عبرت عن المشاعر المألوفة في الحياة المصرية. هذا وسيظل المعرض مفتوحاً حتى آخر هذا الشهر يومياً من العاشرة صباحاً إلى الواحدة بعد الظهر، ومن الرابعة إلى الثامنة مساء
جراحة الأسنان في المغرب
قرأت بمجلة الرسالة الغراء في العدد (350) نبأ اختراع جديد في طب الأسنان نشرته المجلة الطبية الأمريكية، وملخصه أن طبيب أسنان وفق بطريقة خاصة من اختراعه إلى إعادة الأسنان الفاسدة إلى افكاك مرضاه بعد خلعها وإصلاحها إلى آخر ما هناك
وقد أسفت كل الأسف أن يسبق طبيب مغربي متواضع إلى مثل هذا الاختراع منذ نحو أربعين سنة ثم لا يجد من أمته ولا من غير أمته من ينوه باسمه، ويفتخر بعبقريته، وبديع خبره على أمم الشرق والغرب
حدثني الشيخ الجليل الثقة السيد عبد الكريم الدباغ قال: كان السيد عبد السلام الدرعاوي من الأطباء النطاسيين المهرة عندنا بفاس قبل عهد الحماية بسنين، وكان يشتغل بالتجارة ولا يتقاضى أجراً على التطبيب والتمريض كجميع أطباء المغرب، إذ كان عاراً أي عاراً أن يكون للمادة نصيب في مهنة الأطباء الذين يحتسبون أجورهم في سبيل الله. ومن ثم كان إخلاص الأطباء المغاربة في مهنتهم من أشد العوامل في تفوقهم ونجاحهم
قال محدثي: والطبيب عبد السلام الدرعاوي لم يدرس الطب في كلية باريس الطبية، وإنما أخذه عن أشياخ هذا العلم هنا. ومع بساطة الأعشاب والعقاقير التي كان يستعملها في أدويته كنت تجده في علاج كل داء كأحسن ما يكون الطبيب حين يكون اختصاصياً فيه
قلت: وما شواهد عبقرية هذا الطبيب في جراحة الأسنان مثلاً؟
قال: لقد سقطت بها على خبير، وحسبك من ذلك أن تسمع هذه القصة: كانت لي أخت فتاة سقطت صباح يوم من شرفة الجناح الأعلى إلى عرصة المنزل فانهشمت عظامها أو كادت، وانخلعت أسنانها وانتثرت، ولم يعد أحدنا يخطر له في بال أنها ستعيش ساعة أو ساعتين. وأسرعنا فأوصينا بصنع التابوت، ثم نادينا الطبيب عبد السلام لننظر رأيه في الفتاة المتردية، وبعد لحظات كان الطبيب قد أحضر أدويته، وجاء فجردها ودهنها بدهان من فوق إلى تحت، ثم أخذ كل سن من أسنانها فأعادها إلى التجويف (بطريقة خاصة من اختراعه) لم يحتج معها إلى جبيرة من الذهب قط. ثم وصف لنا طريقة تمريضها ووقايتها
ثم قال محدثي: واقسم لك يميناً صادقاً لقد عاد للفتاة كامل صحتها بعد أيام قلائل، أما أسنانها فيكفي أنها لا تزال حتى الآن صلبة متماسكة وقد أصبحت الفتاة أم فتيات.
ونريد أن نثبت هنا أن بعض ابتكارات الغرب إن هي إلا بعث جديد لنتاج عباقرة الشرق من غابر التاريخ. وأن بعضاً منها له أصول وأسس في تاريخ الشرق نعلمها حيناً ونجهلها أحياناً
فما عسانا نصنع بعد هذا وقد حكم الدهر الظلوم بأن تطمس معالمنا وتعفي مآثرنا بين ظلمات الجهل وغمرات الجمود؟
(فاس)
أدريس الكناني
للتحقيق
تردد كتب الأدب ومذكرات تاريخه قصة عن الشاعر الطائي أبي تمام، وخلاصتها أنه وقف ذات يوم يمدح الخليفة بقصيدة كان منها قوله:
إقدام عمرو في سماحة حاتم
…
في حلم أحنف، في ذكاء إياس
فاعترض عليه أبو يوسف الكندي الفيلسوف وقال: الخليفة فوق من وصفت، وما زدت على أن شبهت الأمير بأجلاف العرب فأطرق أبو تمام ثم قال على البديهة:
لا تنكروا ضربي له من دونه
…
مثلاً شروداً في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره
…
مثلاً من المشكاة والنبراس
فأعجب به الخليفة وقال لوزيره: أعطه ما يطلب، فإنه لا يعيش أكثر من أربعين يوماً، لأن الدم بدا في عينيه من حدة الفكر، ومن كان هذا حاله فهو لا يعيش أكثر من هذه المدة. فطلب أبو تمام الموصل فأعطيت له ولم ينقض عليه أربعون يوماً إلا ومات!
ذلك هو مجمل القصة، وقد اعتمدها كل المؤلفين في الأدب في عصرنا هذا، ولكني وجدت صاحب الوفيات - الجزء الرابع ص29 طبعة الحلبي - يقول عنها ما نصه:(وهذه القصة لا صحة لها أصلاً)، وقال ابن خلكان أيضاً عنها:(وقد تتبعتها وحققت صورة ولايته - يعني أبا تمام - للموصل فلم أجد سوى أن الحسن بن وهب ولاه بريد الموصل. فأقام بها أقل من سنتين ثم مات بها. والذي يدل على أن القصة ليست صحيحة أن هذه القصيدة ليست في أحد من الخلفاء، بل مدح بها أحمد بن المعتصم وقيل أحمد بن المأمون، ولم يل واحد منهما الخلافة). المصدر السابق ص30، وغلط ابن خلكان أبا الفوارس المعروف بالحيص بيص وابن دحية، إذ رويا ما يجعل لهذه القصة نصيباً من الحقيقة! فما هي كلمة أدبائنا في هذا الموضوع؟
(البجلات)
أحمد جمعه الشرباصي
حول خواطر يثيرها سائل
سرتنا هذه المقالات التي يكتبها الأستاذ عبد المنعم خلاف ويوالي نشرها في مجلة الرسالة؛ إلا أنه قد استوقف نظري وأنا أقرأ مقاله الأخير قوله (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع الغناء وشاهد الرقص وسمح به في المسجد)، وهذا القول على إطلاقه فيه شيء، إذ الظاهر من الغناء هو ما نعرفه وما نسمعه، وهذا لا يسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يرضاه قط ولم يجز إلا الغناء العفيف في زفاف العروس (إن الأنصار فيهم غزل فلو بعثهم معها من يقول أتيناكم فحيانا وحياكم) وأذن في اللعب بالطبول، وغير ذلك في أيام العيد للصغار من الشبان والفتيات. مر عياض الأشعري بالأنبار في يوم عيد فقال: ما لي لا أراهم يقلسون، فإنه من السنة (التقليس أن يقعد الجواري والفتيات على أفواه الطرق يلعبون بالطبل وغير ذلك) وسمع الحداء بالشعر النبيل السامي (اللهم لولا أنت ما اهتدينا) وكان البراء بن مالك حسن الصوت وكان يرجز لرسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وكان عمر بن الخطاب إذا سمع الحادي قال: لا تعرض بذكر النساء. كما أن كلمة الرقص لا يفهم منها في هذا الزمن إلا ما يعرف في دور اللهو والحانات، وحاشا أن يشهد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يسمح به لأي إنسان في الخارج بله المسجد، وإنما الرقص الذي سمح به هو الرقص الحربي الذي كان من الأحباش حين قدموا المدينة. والرقص الحربي يعرفه العرب إلى الآن في بلاد الحجاز بسيوفهم وسلاحهم مما يشعل في النفس الحمية ويبث فيها الشجاعة، ولا أعرف الأستاذ عبد المنعم خلاف إلا يريد هذا
عبد الستار أحمد فراج
حادث عجيب! نداء إلى الأطباء العلماء
إلى كل طبيب يعتقد أن مهنته مهنة بحث وفحص وتضحية وإيثار، أسوق مأساة فتاة في ميعة الصبا وزهرة العمر. . . فتاة رزئت فجأة في جمالها وشبابها بنكبة (اللحية) الكثة والشارب الغزير. . . ويا ليت هذه النكبة قد اقتصرت على الوجه فحسب، فإن الشعر قد نبت في صدرها فشوه نعومته وأنوثته!!
كانت تظن أنها ستتحول كما تحولت غيرها، وكانت تعتقد أن هذا الشعر بداءة لهذه المرحلة، مرحلة التغيير والتبديل، فذهبت إلى بعض المشهورين المعروفين من الأطباء
تعرض أمرها وتبسط شكوكها وتأمل أن تجد الشفاء العاجل أو الآجل مما هي فيه من هم واصب. فحار الطب ولم يصل إلى العلاج المنشود
فهل عند الأطباء تعليل لهذا الحادث الشاذ وعلاج له؟؟
محمد السيد المويلحي
جمع مشكاة
ورد في القرآن الكريم ذكر (المشكاة) وهي (الطاقة) أو (النافذة). وقد بحثت عن جمعها فلم أعثر عليه بعد مراجعة عدة معاجم وتفاسير فهل لكم أن تفيدونا بذلك.
(م. س)
(الرسالة): لم يرد السماع بمجمع مشكاة، فلم يبق إلا القياس
وهو: مشاك أو مشكيات
جريدة الوفاق
دخلت زميلتنا (الوفاق) في عامها الثالث عشر من عمرها الطويل الحفل، وهي أقوى ما تكون إيماناً بجهادها الموفق واطمئناناً إلى نجاحها المطرد. فنرجو لها دوام التوفيق واطراد التقدم حتى تبلغ الصحافة الإقليمية بها وبأمثالها الغاية المرجوة.
رسالة النقد
في ليالي الملاح التائه
للشاعرة الفلسطينية الآنسة (دنانير)
شعر صافٍ صفاء الجدول النمير تنعكس فيه صورة نفس الشاعر، فتحس إذ تقرؤه بروح صاحبه تتغلغل في كل لفظة من ألفاظه، وتشعر بدمه يسري في كل بيت من أبياته. فإذا أنت تقرأ نفساً حية تتمثل في قصيدة، وإذا الشاعر يسمو بروحك معه إلى دنيا شعرية علوية تفيض بالجمال والجلال حتى لتنسى ما يحيط بك، وقد ملأت قلبك تلك الأخيلة البديعة التي ملأت قلب الشاعر، وأثر فيك ذلك الإلهام الذي صدر عن حسه المرهف الرقيق. وهذا هو الشعر، متى كان القلب منبعه فالقلوب مصبه. وذلك هو شعر الأستاذ علي محمود في ديوانيه (الملاح التائه) و (ليالي الملاح التائه) وهذا الأخير هو موضوعنا الآن.
يهدي الشاعر شعره إلى الذين أطالوا التأمل في أسرار الكون، وأرهقهم التيه في مجاهل الحياة، وإلى العائدين بأنس أحلامهم إلى وحشة مضاجعهم بين اللهفة والحنين. وفي هذا الإهداء نستطيع أن نلمس تلك الروح النبيلة الهائمة وتلك النفس الرقيقة الشاعرة التي لا يفتر حنينها، نفس الأستاذ علي محمود طه.
أول ما يطالعك الديوان به هو تلك القصيدة التي شرق ذكرها وغرب. ومن منا لم يسمع بأغنية الجندول التي اوحتها إلى الشاعر زيارته لمدينة فينسيا أثناء احتفال الفينيسين بليالي الكرنفال؟ ولعل من اللغو أن أذكر هنا هذه القصيدة لشهرتها البعيدة وذيوع صيتها
اثر في نفس الشاعر طوافة في أقطار الغرب، ونحن نسمع صدى هذا التأثير يتردد في قصائده التي يصف فيها ما شاهده هناك، أو بالأحرى التي يصف فيها تأثير تلك المشاهد في نفسه الصافية وخياله الخصب. نقرأ مثلاً:(بحيرة كومو)، أو (الجندول) أو (خمرة نهر الرين)؛ فإذا روح الشاعر وحسه وقلبه كل أولئك مذاب في قصائده يظهرك على مدى تأثير ذلك الطواف فيه. يقول في قصيدة عنوانها (خمرة نهر الرين):
كنز أحلامك يا شا
…
عر في هذا المكان
سحر أنغامك طوا
…
ف بهاتيك المغاني
فجر أيامك رفا
…
ف على هذى المجاني
أيها الشاعر، هذا الر
…
ين فاصدح بالأغاني
كل حيّ وجماد هاهنا
…
هاتف يدعو الحبيب المحسنا
يا أخا الروح دعا الشوق بنا
…
اسقنا من خمرة الرين اسقنا
وكأني بالشاعر يرى كل تلك المفاتن تتصدى له بسحرها وجمالها فلا يسعه إلا أن يتساءل في هذه البيات كأنه لا يصدق عينيه فيما تريان:
عالم الفتنة يا شاعر
…
أم دنيا الخيال
أمروج علقت بي
…
ن سحاب وجبال
ضحكت بين قصور
…
كأساطير الليالي
ثم ينثني، وقد رأى أن نهر الرين بجمال جناته وجلال قصوره إنما هو الجنة؛ فيهتف:
هذه الجنة فانظر
…
أي سحر وجمال
ويحس أن الطبيعة قد أخذت بسحر تلك الليالي، كما أخذت نفسه، حتى أنصت الغاب، وأصغى النهر؛ ويرى بعين الشاعر التي ترى ما لا يراه الناس أن هذه الليلة الشعرية على ضفاف نهر الرين قد أسكرت الدجى، وجعلت النجوم بعض الندماء، فيقول:
ليلة فوق ضفاف الن
…
هر حلم الشعراء
أليالي الشرق يا شا
…
عر أم عرس السماء
الدجى سكران والأن
…
جم بعض الندماء
أنصت الغاب وأصغي الن
…
هر من صخر وماء
فاسمع الآن البشير المعلنا
…
حانت الليلة، والفجر دنا
فاملأ الأقداح من هذا الجنى
…
واسقنا من خمرة الرين اسقنا
ثم يقول لصديقته (فتاة برن) التي التقى بها في هذا الجو الشعري، فنذوق في قوله حلاوة تلك اللحظات السحرية في النفس الشاعرة، ومرارة الأسى على ما فات:
يا ابنة الآر حديث ال
…
أمس ما أعذب ذكره
كان حلماً أن نرى الر
…
ين وأن نشرب خمره
وشربنا فسكرنا
…
وأفقنا بعد سكره
ووقفنا لوداع
…
وافترقنا بعد نظره
أين أنت الآن أم أين أنا
…
ضربت أيدي الليالي بيننا
غير صوت طاف كالحلم بنا
…
اسقنا من خمرة الرين اسقنا
أي حسرة وأي لهفة تجدها في هذا التساؤل الذي تكاد كل لفظة من ألفاظه تقطر بدمعة مذابة من قلب الشاعر الفياض بالحنين والشوق:
أين أنت الآن أم أين أنا؟
…
ضربت أيدي الليالي بيننا
نقرأ هذه القصيدة أو قصيدة (بحيرة كومو) أو (الجندول) فتتمثل في أخيلتنا مفاتن الغرب، وإن لم نرها، من مناظر الطبيعة إلى ليالي الأنس والبهجة، إلى مرح الشباب والصبى، ونحس بتأثير تلك المباهج في تلك الروح الرقيقة وذلك القلب الذي يهيم بحب الجمال أينما كان، في الماء والسماء، في القصور والرياض، في المرأة، سواء كانت سامية أو آرية أو غير هذه وتلك. فالشاعر موكل بالجمال يتبعه، يملأ عينيه ومشاعره وقلبه منه ليتغنى به في كل قصيدة من قصائده
هذا وتجيل الطرف في (ليالي الملاح التائه) هنا وهناك فتقرأ له مثلاً (سيراناد مصرية) أو قصيدته التي عنوانها (هي) أو (حلم ليلة) أو (إلى راقصة) وغير هذا مما في الديوان من الشعر الغزلي، فترى أن المرأة قد شغلت حيزاً كبيراً من قلب الشاعر وفكره وإحساسه فأوحت إليه بأرق الشعر، الحزين حيناً، الباسم حيناً آخر. فالمرأة قد أذاقت الملاح التائه أفانين من حلوها ومرها، وكل هذا يتجلى لنا في شعره الغزليّ
وهناك قصيدته في مصرع ربان حاملة الطائرات كوريجس التي أغرقتها غواصة ألمانية في أوائل الحرب الحالية. يسمع الشاعر بتلك النفس الكبيرة التي آثرت الموت على الحياة. يسمع بما كان من تضحية الكابتن ربان السفينة الغارقة إذ جاد بنفسه. والجواد بالنفس أقصى غاية الجود، فتوحي تلك البطولة النادرة إلى الشاعر بقصيدة من عيون الشعر يبدؤها بقوله مخاطباً الربان:
يا قاهر الموت كم للنفس أسرار
…
ذل الحديد لها واستخذت النار
وأشفق البحر منها وهو طاغية
…
عات على ضربات الصخر جبار
وكأني بالشاعر هنا يظهر الناس على ضعف الطبيعة مع جبروتها أمام عظمة النفس الإنسانية، تلك العظمة التي تتجلى في تضحيتها وعاطفتها. . . ثم يقول معرضاً بالغواصة
التي أغرقت السفينة:
رماك في جنبات اليم محترب
…
خافي المقاتل عند الروع فرار
نرصدتك مراميه ولو وقعت
…
عليه عيناك لم تنقذه أقدار
يدب في مسبح الحيتان منسرباً
…
والغور داج وصدر البحر موّار
كدودة الأرض نور الشمس يقتلها
…
وكم بها قُتلت في الروض أزهار
وفي هذا البيت الأخير تشبيه بلغ منتهى الجمال والروعة، لم نسمع بمثله قبل الشاعر علي محمود طه
ويذهب الشاعر في فنون القول كل مذهب، واصفاً ذلك الموقف النبيل الرائع، حيث يلقي الربان بقبعته إلى البحر إجلالاً للموت. كل هذا في أبيات تفيض بالشاعرية التي تسري في دم الشاعر إلى أن يقول:
يا عاشق البحر حدث عن مفاتنه
…
كم في لياليه للعشاق أسمار
ما ليلة الصيف فيه ما روايتها
…
فالصيف خمر وألحان وأشعار
إذا النسائم من آفاقه انحدرت
…
وضّو أت من كوى الظلماء أنوار
وأقبلت عاريات من غلائلها
…
عرائس من بنات الجن أبكار
شغل الربابنة السارين من قدمٍ
…
تجلى بهن عشيات وأسحار
يترعن كأسك من خمر معتقة
…
البحر كهف لها والدهر خمار
وأنت عنهن مشغول بجارية
…
كأن أجراسها في الأذن قيثار
انظر إلى هذه التورية المحببة في ذكره الجارية:
صوت الحبيبة قد فاضت خوالجها
…
ورنحتها من الأشواق أسفار
وبعد هذا يأتي الملاح التائه بأجمل وأعجب ما يوحيه الخيال الخصب إلى شاعر. فيخرج عما ألف الشعراء أن يقولوه من استمطار الرحمة على الميت أو ما مثل ذلك ويطلع علينا بقوله:
نزلتما البحر قبراً حين ضمكما
…
رفت عليه من المرجان أشجار
تالله، لا يقرأ المرء هذا دون أن يقف عنده متأملاً مأخوذ اللب بسحر هذا الخيال الشعري. رفت عليه من المرجان أشجار
ونقرأ له قصيدة في موسيقية عمياء، وإذا بالشاعر، دأبه في نظمه، قد ذوب نفسه وحسه في قصيدته الجميلة، متألماً لتلك الصبية، أو الزهرة التي زواها الدهر لم تسعد من الإشراق باللمح فيقول لها مثلاً:
إليك الكون فاشتفى
…
جمال الكون باللمس
خذي الأزهار في كفي
…
ك فالأشواك في نفسيِ
ويمضي الشاعر في القصيدة على أروع ما يوحي به الشعور بالألم، إلى أن يقول لها:
عرفت الحب يا حوا
…
ء أم ما زال مجهولاً
ألمَّا تحملي قلباً
…
على الأشواق مجبولاً
صفيه، صفيه فرحاناً
…
ومحزوناً ومخبولاً
وكيف أحسَّ باللوع
…
ة عند النظرة الأولى
ومن آدمك المحبو
…
ب أو ما صورة الصب
لقد ألهمت والإلهام
…
يا حواء في القلب
هو القلب هو الحب
…
وما الدنيا لدى الحب
سوى المكشوفة الأسر
…
ار والمهتوكة الحجب
هذا وليس في وسعي الآن أن أحيط بكل ما في ديوان الشاعر من قصائد متنوعة الموضوعات. ولكنك أن أجلت طرفك في ليالي الملاح التائه وجدت الشعر بكل ما تضمنته هذه الكلمة من معنى. تقرأ القصيدة فترى القوة تسندها من أي ناحية جئتها، وترى الرقة تبلغ نهايتها حتى تشف عن تلك النفس الهائمة في عوالم الجمال والشعر والخيال. وترى الخواطر والمعاني الدقيقة وقد صبغها الشاعر بصبغة من فنه الرفيع وعبر عنها بأسلوبه الشعر الخاص، حتى لتكاد اللفظة الواحدة بحلاوة جرسها وسحر وقعها في النفس تقول لك: أنا لست كلمة من الكلمات ولكنني نغمة من الأنغام. حتى إذا روّيت نفسك من هذه الشاعرية المتدفقة بأروع الشعر وارقه رفعت عينيك الفياضتين بالنشوة وقد آمنت معي بأن الطبيعة التي قالت للشاعر الفرنسي لامرتين (سر في طرقك، ما أنبه شأنك، إنه رآك) تعود اليوم فتقول مثلا هذا للشاعر العربي المصري علي محمود طه
(دنانير)
القصص
من آداب الصين الحديثة
قصة الراعي المحزنة
للكاتب الصيني قوموجو
- 1 -
استقدمتني إلى كوريا من وراء البحار على بعد آلاف الأميال، واستقبلتني تلك الأرواح العلية لجبال كُنج كنج الشامخة الكثيرة القمم، فلما وصلت إلى كوريا نزلت في قرية صغيرة على سفح كنج كنج مشرفة على البحر الياباني اسمها (حي الأرواح والأولياء) وكان في القرية بضعة عشر كوخا مواجهة للبحر متكئة على الجبل، ليست قديمة متهدمة ولا حديثة مزدانة، وكان أمام كل بيت بستان جميل تتسلق على جدرانه الفروع ذات الأزهار الناضرة لزكية، وتبدو من بين المنازل والحدائق أشجار عالية، وكانت تحوط القرية غابات كثيفة من الصنوبر؛ وثمة أراض قليلة على مقربة من القرية كانت مفروشة ببساط من شجيرات القمح والشعير، وكان يجري في خلال الغابة الواقعة في الجنوب الغربي من القرية نهر يسمى نهر الغناء، يتجمع من السيول المنحدرة من قمم كنج كنج وله صوت حزين غاضب وهو يسير صوب البحر الياباني
ارتاب أهل القرية في أمري حينما بلغتها وظنوا أنني صيني مزيف فلم يرضوا أن أنزل عندهم. غير أن سيدة كريمة في أقصى القرية أشفقت عليَّ بعدما سمعت كلامي وعرفت قصدي وأنني بعيد عن أهلي وأقاربي فأذنت لي بالنزول عندها، وآنست وحشتي بكلمات وجدت لها برد الراحة بعد التعب الذي لقيت في سفري الطويل الشاق. وكانت السيدة بوذية تعيش في وحدة تصوم وتصلي وقد جاوزت الخمسين من عمرها، وكان على الباب شعر منثور مكتوب على ورق أبيض؛ كما هي عادة الكوريين؛ فلما دخلت الباب وجدت فضاء مسوراً مزيناً ببعض الأشجار والأزهار ومنزلاً مكوناً من ردهة واسعة على جانبيها حجرتان، وللردهة باب جانبي ينفذ إلى المزارع التي خلف المنزل والتي تظهر لمن يراها كأنها متصلة بجبل كنج كنج، وكانت في وسط الردهة منضدة عالية عليها تمثال بوذا من
الحجر الثمين. ودعتني السيدة الكريمة إلى النزول في الغرفة اليمنى، ولم يكن بها إلا سرير ونافذة مملوءة بالغبار كأن لم يسكنها أحد من زمن بعيد
مر بي أسبوع مرور الطيف وأنا في بيت هذه السيدة الكريمة، وكنت أخرج كل يوم للنزهة في الجبال وزيارة الآثار الشهيرة من الصباح إلى المساء لا تعوقني الشمس ولا المطر ووطئت جميع القمم إلا قمة واحدة، وقد انطبعت في ذهني جميع المناظر الجبلية الجميلة الجذابة لا تفارقني لحظة فإذا أغمضت عيني برزت لخيالي كما تبرز الصور على الشاشة الفضية. على أني لم أكن أملك من قوة الكتابة أو التصوير ما يسمح لي أن أصف هذه المناظر الخلابة أو أصفها واحدة واحدة فأهدي صورها لجميع إخواني وأصدقائي كي يتمتعوا بمشاهدتها
- 2 -
جلست على حافة بئر عميق على القمة الأخيرة ناظراً إلى الجبال التي تسبح في السحاب والدخان على ضوء الشمس التي آذنت بالزوال، فرأيتها شامخة ساكنة كشيخ ورع يحيط به عالم متحرك فانبعثت عاطفتي بتلك المناظر الجميلة سابحة كالطير في الجو متمتعة بالطبيعة، سكرى بما اشتملت عليه من الجمال، وإذا غناء حزين من فتاة في سفح الجبل قد انبعث إلي بين هبات الرياح ونفحات الرياحين فأيقظني، فأصغيت إليه فإذا هو:
تستقبلني الشمس حينما أطلع،
وهي تشيعني حينما أنزل،
للشمس بعد الغروب موعدٌ للطلوع
لكن الراعي ليس له وقت للرجوع.
ثغاء الغنم،
صوتٌ حزين فزع!
إنها تشتاق إليك، ألا تعرف أيها الراعي؟!
انقطع الغناء وثغت صغار الغنم بأصوات حزينة وقد اختلطت بأصوات الأجراس الضئيلة التي لا تكاد تسمع
إن الأجراس في رقاب الغنم
معلقة كلها بيديك الكريمتين؛
لكن الحبل الذي يمسكها يكاد ينقطع وتوشك أن تقع،
والذي علقها قد ذهب وليس له وقت للرجوع.
ثغاء الغنم،
صوت حزين فزع!
إنها تشتاق إليك، ألا تعرف أيها الراعي؟!
أخذ الغناء يبتعد شيئاً فشيئاً ويتضاءل صوته في مسمعي، ولكن تأثيره في نفسي كان عجيباً يبعث في العين الدموع
لست بمعدومة المقص،
أقص به صوف الغنم؛
ولكن عليه أثر مقصك المحبوب،
إذا ذهب ذهبتْ روحي وحياتي!
لست بمعدومة الرباط،
أربط به جرساً في رقاب الغنم؛
ولكن أنتظر وقت انقطاعه،
فأذهب إلى جانب المحبوب!
فلما سمعت هذا الغناء انحدرت دموعي من غير أن اشعر، ثم وقفت على قمة الجبل تحت شجرة الصنوبر ونظرت إلى السفح فإذا قطيع من الغنم لا يزيد على بضع عشرة غنيمة ترعاه فتاة صغيرة وتسير به في ضوء الشمس الغاربة ذاهبة على مهل نحو المدينة؛ وكان على رأس الفتاة لفاع أخضر يفيض على يديها، ويبدو تحته لباس آخر أحمر؛ وفي رجليها حذاء من النسيج وهي تسير بقطيعها مغنية منشدة مبتعدة عني شيئاً فشيئاً:
غنمي، غنمي!
لا تخافي ولا تحزني!
إنه لا يجترئ حيوان مفترس أن يقترب منك ما دامت موجودة معك.
فإن جاء،
قاتلناه حتى نموت فيفعل بنا بعدُ ما يشاء.
غنمي، غنمي!
ارجعي إلى البيت معي!
وخفت الصوت حتى تلاشى، وغربت الشمس، واحتجبت الفتاة عن عيني وراء الجبل، وكنت غريقاً في نهر من الدموع. ولبثت واقفاً تحت الشجرة مدة لا أعرف قدرها، والجبال كأنها نائمة، وقد تلألأت النجوم في السماء وبرز الهلال من شرقي البحر
- 3 -
ألا تعرف أنها ابنة السيد مين الشريف، أيها الضيف الكريم؟
جلست مع مضيفتي الكريمة خارج الردهة نتجاذب الأحاديث وقصصت عليها ما رأيته في النهار فأخبرتني باسم تلك الراعية الصغيرة
- إن كانت شريفة من بيت شريف فلماذا ترعى الغنم بنفسها هنالك؟
يظهر أن سؤالي هذا حرك في قلب السيدة الكريمة شيئاً كامناً فصمتت برهة وهي تحدق في القمر في وسط السماء ونظرت إليها فإذا عيناها مغروقتان بالدمع، فندمت على ذلك السؤال الذي ضاقت به مضيفتي، وذهب بي الفكر مذاهبه. ثم تحولت إليَّ مضيفتي الكريمة وقد جفت دموعها وقالت:
- كان في نفسي ألا أذكر شيئاً من ذلك الماضي الأليم المحزن، لكنني لا أطيق أن أكتم عنك. غير أن الحديث طويل متشعب فلا أدري من أين ابتدئه؟ وأردفت:
- لم تولد هذه الفتاة الشريفة هنا، في هذه القرية، لقد كانت تسكن في الشارع الرئيس في العاصمة منذ عشر سنوات، وكأن أبوها وزيراً في الحكومة، ثم ترك الوزارة وغادر العاصمة هو وأسرته ليقيموا هنا؛ وإنما كان ذلك حين عرف أن بعض الخونة في الحكومة اتفقوا مع دولة أجنبية ذات مطامع، ولم يسمع الملك شكواه ولم يجبه إلى ما طلب من إعدام هؤلاء الخونة ليصون استقلال البلاد وسيادتها ويوطد سلامتها وحريتها
وكانت زوجته الأولى قد ماتت منذ ست عشرة سنة، ولم يرزق من زوجته الثانية ولداً ولا بنتاً، وكانت الفتاة في الخامسة من عمرها حين ماتت أمها، وكان أبوها يحبها حباً جمَّاً، فعهد إليَّ أن أقوم بخدمتها، وذلك عمل نتوارثه في أسرتنا من زمان في خدمة تلك الأسرة،
وكان زوجي شيخو خادماً له أيضاً، وكان لنا ولد. . .
استمرت السيدة في الحديث وقد شاب صوتها رنة حزن، والبكاء يغالبها: وكان ابني اسمه يين وهو الاسم الذي سماه به سيدنا أبو الفتاة وكان يحبه كثيراً ويناديه دائماً (يا بني يين)، وكان أكبر من الفتاة بسنة واحدة فكانت تدعوه أخاها الأكبر، وكان أبني يتجاوز فيدعوها أخته الصغيرة أيضاً، وكان كلاهما يحب الأخر كأنهما أخوان شقيقان
وكانت زوجته الثانية السيدة لي من الأسرة الشريفة أيضاً، وقد درست في اليابان وهي صغيرة، ثم سافرت إلى نيويورك ولندن وباريس وفينا بعد تخرجها في اليابان فقضت أكثر أيامها في الخارج. ولما رجعت إلى البلاد وهي في الثانية والعشرين من عمرها، طلبت أسرتها إلى السيد مين وقد مرت على وفاة زوجته الأولى ثلاث سنوات أن يتزوجها. وكانت ذات شخصية بارزة في العاصمة، معروفة في المجتمع باسم الفتاة الحديثة. تصور أيها الضيف الكريم كيف يمكن سيدة متعلمة لطيفة نشيطة حديثة العهد بالزواج مثل هذه السيدة أن تحيا هنا هذه الحياة القروية الخشنة؟!
أنتقل السيد مين إلى هنا، ونزل في معبد في تلك المدينة، واعتكف فيه لا يهتم بالشؤون السياسية والاجتماعية، وامرني أنا وزوجي أن نسكن هنا في القرية لضيق المعبد، واستبقى ابني يين معه حيث يقيم، واشترى له قطيعاً من الغنم يرعاه، وكان ابني في الثانية عشرة من عمره يرعى الغنم بين الجبال في الأيام التي لا تمطر فيها السماء، وفي بعض الأحيان كانت تصحبه الفتاة، وكثيراً ما كان يضلان، فنخرج للبحث عنهما حتى نجدهما في سلام وسرور.
أذكر أنهما مرة لم يرجعا إلى المعبد حتى منتصف الليل، وظن السيد مين أنهما في منزلنا، فبعث إلينا يستفسر عنهما، فجزعنا وخفنا أن يكون قد أصابهما شر وأسرعنا نبحث عنهما هنا وهناك، فلما وصلنا إلى جبل كنج كنج البحري رأينا القطيع على بعد نائماً على الشاطئ، وقد اتكأ ولدي على صخرة كبيرة، ونامت الفتاة متكئة على كتفه وقد استغرقا في نوم عميق، وكانت الليلة مقمرة، كهذه الليلة، والقمر ينشر ضوءه على الأرض والبحر تتجاوب أمواجه، فكانا في مهد الطبيعة الكبير. إنني لن أنسى ما حييت تلك المناظر الجميلة التي رايتها ليلتئذ
وكان ابني يين يعالج بعض التمرينات الرياضية في المعبد مع الرهبان في الأيام الممطرة، فلا يخرج ليرعى الغنم، وكان يقرأ ويكتب مع الفتاة عند أبيها كل ليلة. وهكذا مرت أربع سنوات ولم يحدث شيء. وبلغ ابني ست عشرة سنة من العمر، وبلغت الفتاة خمس عشرة، وكان السيد مين يقول دائماً: سأذهب بهما إلى المدينة لتزداد معلوماتهما. . . أواه! أن إرادة الله فوق إرادة الإنسان، فقد حدث في تلك السنة. . . . . .
وأمسكت السيدة وأخذت تبكي بكاء مراً شعرت معه برجفة وتوقعت أن نكبة شديدة قد أصابت هذه الأسرة، وكان القمر في تلك اللحظة محجوباً بسحاب كثيف فزادنا ذلك شعوراً بالحزن والكآبة ولم أجرؤ على السؤال عما حدث، وانتظرت حتى عادت السيدة إلى نفسها وقالت والدموع في عينيها:
(فقد قتله أبوه. . . قتله أبوه في تلك السنة!. . .)
ثم عادت السيدة إلى البكاء، فلم يلبث أن وقع حزنها في قلبي وملكني ألم شديد، وكنت أود أن أجد كلاماً أعزيها به فلم يطاوعني لساني فوقفت وقدمت إليها فنجانا من الشاي فأخذته وجرعت منه جرعات ثم قالت:
(القصة طويلة جداً فلآت بكتاب أبني الأخير تقرؤه، ثم أخبرك بالخاتمة)
- 4 -
كان قد مضى من الليل نصفه والجو بارد، فدخلنا الغرفة وجلسنا على الأرض الخشبية كما هي عادة الكوريين، وجاءتني السيدة بكتاب ابنها فأخذت أقرأه تحت ضوء المصباح الضعيف:
أمي المحبوبة:
لقد عثرت برسالة كانت بجانب الحظيرة عندما رجعت من المرعى. يظهر أن هذه الرسالة كانت سقطت من أبي، وأخذت أقرؤها لأنها كانت مفتوحة، أواه! أمي! ليتني لم أقرؤها فقد جزعت عندما قرأتها وطار لبي!
لقد عزمت على أن أنقذ سيدنا وأختي وأبي، لأني لا أريد أن يرتكب أبي تلك الجريمة الشائعة فيصير مذنباً عظيماً، وأظنه الآن في المعبد فإني لم أجده بعد البحث الطويل. أمي! إني أعتقد أن هذا السر إذا شاع فإنه سيكون له شأن. إنه أمر لا يهم أبي وحده لذلك
سأمضي لأبحث عنه في الليل وأراقبه، وسأحاول أن أمنعه عن ارتكاب ذلك الجرم العظيم وأقنعه أن ذلك عمل سيئ
أمي المحبوبة:
إن خذلني الحظ وقدَّر لي أن أموت فلا تحزني، فإنه خير لرجل أن يموت حراً من أن يبيع حريته وبلاده للأجانب. . . ولقد ضاق الوقت فلا يسعني أن أكتب أكثر من هذا. فإذا قرأت الرسالة السرية التي عثرت عليها فأحرقيها قبل أن يراها أحد وإذا حمَّ القضاء فيّ فأرجو أن تقدمي نسختين من يومياتي المحفوظة في الدرج إلى أختي المحبوبة!
ولدك (يين)
الرسالة السرية
شيخو. . .
تعال إلى المعبد هذه الليلة وسأساعدك على دخول الحجرة، فإذا أمكننا أن نبطش بهم جميعاً كان خيراً. خذ هذه الورقة التي فيها شِعره الثائر المثير، واذهب بها إلى المعسكر، واعترف بما فعلت، فسيكون في ذلك نجاتك ورقيك! أحذر ولا تنس!
(في 16 يونية)
السيدة (لي)
الشمس
من نظم السيد (مين)
ما أحمى الشمس النارية!
…
قد أحرقت زرع أراضينا الخصبة
جف التراب ومات الزرع
…
فافتخرت الشمس النارية
ليتني أجد سهم يي
…
فأرميك به حتى تسقطي في أعماق البحار
وليتني أجد سيف يان
…
فاقطعك به حتى تموتي وراء الجبال
لكن السهم والسيف ليسا معي
…
وإنما أذرف الدم من عيني دموعاً على الجبال
ما أطول النهار! فمتى يحين الليل؟
…
ومتى الهدوء والنهاية؟
انتظرتني السيدة الكريمة حتى أتممت قراءتها كتاباً كتاباً ثم قالت لي بصوت هادئ حزين:
- لعلك قد عرفت القصة بوضوح أيها الضيف الكريم؛ فقد مات أبني الوحيد في تلك الليلة المشئومة، ليلة 16 يونية. وقد جاءنا في ظهر اليوم التالي راهب صغير وقدم لزوجي رسالة، فخرج من فوره، وكنت أظن سيدنا استدعاه لأمر مهم فإذا به يعود بعد منتصف الليل متعباً سكران، ثم لم يلبث أن جاء طارق يطرق بابنا، فلما فتحته وجدت اثنين من الرهبان فصاحا قائلين:
- واحزنا أيتها السيدة الكريمة! لقد قتل ابنك الكريم!
فلما سمعت كلمتهما أخذتني رعدة شديدة. وخرج زوجي فجأة من الغرفة كأنه قد سمع ما أخبراني به، وصاح قائلاً:
- أواه! لقد غلطت في القتل! لقد غلطت في القتل! ثم خرج من الباب مسرعاً!
وذهبت إلى المعبد عَدْواً، فلما دخلت الحجرة التي ينام فيها ولدي، وجدت على مكتبه رسالة مكتوباً فيها:(إلى أمي المحبوبة من ولدها يين). فأخذتها ووضعتها في جيبي، وأسرعت إلى المكان الذي يزدحم فيه الناس حول القتيل، فرأيت ابني يين مخضباً وجهه بالدماء وقد سكن قلبه وبرد حسه، فسقطت على الأرض مغشياً عليَّ
ولما افقت من الإغماء وجدت السماء صافية والشمس ساطعة، ظننت أني كنت في حلم مخيف، وحدقت فيما حولي فوجدتني نائمة في حجرة الفتاة الصغيرة، ووجدتها ساكتة بجانبي؛ ولما رأتني قد أفقت أحنت جسمها وأخذت تعزيني، فازداد بذلك حزني وبكائي، وبكت الفتاة معي
وبعد قليل دخل السيد مين وزوجته السيدة لي وقال لي السيد: (يجب أن ندفن ولدنا يين؛ فلماذا لم يظهر أبوه إلى الآن؟)
لما سمعت ذلك عرفت أن زوجي لم يجئ إلى المعبد قط، ثم تذكرت الكتاب الذي تركه ابني على مكتبه فطلبت من الفتاة أن تخرجه من جيبي وتقدمه إلى والدها ليقرأه؛ فما كاد يتناوله حتى سقط من يده كتاب آخر، هو الكتاب السري الذي كتبته السيدة لي إلى زوجي، فلما رأته السيدة لي خرجت مسرعة وأخذ السيد يقرأ كتاب ابني، وخرجت الفتاة الصغيرة فقدرت أنها ذهبت لتأخذ اليوميات من درج المكتب. وقرأ السيد الكتاب السري فازداد
غضباً على غضب وسكت برهة ثم انفجر باكياً وصاح يقول: (ولدي يين، ولدي يين! لقد كنت أرجو أن أراك رجلاً حتى تجاهد في سبيل وطنك، لكنك قد مت من أجلي وأجل فتاتي آه! آه! أين أجد بعدك لذة الحياة؟!. . .
ودخلت الفتاة الصغيرة مسرعة وهي تقول في ذعر: إن السيدة لي قد أزهقت نفسها وانتحرت في غرفة يين. . .
خَفَتَ ضوء المصباح لقلة الزيت، فقامت السيدة الكريمة فغمرته بالزيت ثم رجعت لتتم حديثها:
قبر ابني يين، والسيدة لي، كلاهما في المعبد، وقد قضيت أسبوعاً هناك مريضة. ولم أسمع خبراً عن زوجي منذ تلك الليلة فلا أدري أهو حي أم ميت! وكنت أود أن أبقى في المعبد بعد ذهاب زوجي وأخدم السيد مين وفتاته، لكنه رفض وترهب، وبقيت الفتاة وحدها تخدم والدها وترعى الغنم التي كان يرعاها أبني من قبل. . . ذلك سبب ما سألتني يا بني. . .
أليست فتاة مسكينة أيها الضيف الكريم؟ وكثيراً ما تلقاني فتقول لي: إن الغنم بعد ما فارقها راعيها امتنعت عن الأكل وقد نفق أكثرها هزالاً، وكلما مات واحد منها بكته الفتاة بكاء شديداً وأقامت له قبراً بجانب قبر ابني؛ فلذلك لا أظن ابني يين يشعر بالوحشة والانفراد، ولن يشعر بهما أبداً!
- 5 -
أمسيت أتقلب على السرير بعد ما سمعت قصة السيدة مضيفتي فلم أنم إلا بعد ساعات. ولما أغمضت عيني رأيت كأني قد ذهبت إلى ذلك المعبد الرهيب، ورأيت ذلك القبر المكتوب على حجره (قبر الفتى يين) ورأيت حوله قبور الغنم ورأيت أيضاً تلك الفتاة التي رايتها في النهار فوق الجبال جاثية أمام القبر تدعو لصاحبه
ثم لم يلبث أن تحول منظر القبور إلى مسرح جميل في وسطه فتى وفتاة عاريان يرقصان ويغنيان وحولهما قطيع من الغنم واقف وقفة الناس يرقص معهما ويغني، وثمة كثير من الأسد والنمور وصنوف من الحيوان. . . وفجأة أبصرت إنساناً يدنو، وفي يده سيف قاطع، يهم أن يقتل به الفتى فأخذت عليه الطريق فأهوى علي ثم استيقظت، ولما هدأت نفسي وزال اضطرابي جلست في فراشي أترقب مطلع الصبح حتى أستعد للسفر؛ فما لي طاقةٌ
بعدُ على البقاء في هذا المكان!
المترجم أبو بكر هوغانجين
عنان
للأستاذ مراد الكرداني
كن أربع غيد عذارى فاتنات ناعمات يتحدثن ويسمرن في مجلس خامستهن، وقد جئن يهنئها بخطبتها وكن أخص صواحبها
قالت حورية - وهي غرة صغيرة، خفيفة الظل - تخاطب العروس: فعلِتها يا عنان؟
فابتسمت عنان بفمها وعينيها ابتسامة أشرق بهاؤها وقالت في حياء وفرح: العقبى لكن جميعاً
فاندفعت ثريا - وهي ضاحكة تحب عنان وتؤثرها - تقول وتضحك: تلك حال الدنيا يا عنان. . . وكلنا لها، فضحكن جميعاً ضحكاً حلواً مُرِنَّا كالغنم الأغن. فإجابتها عنان:
- هذا عزاء يقال للمسكين الذي يبتليه الله بك يا خرقاء. . . ثم لما صفا المجلس من هَذَر ثريا ومجونها أقبلن على عنان ورجونها في شغف أن تحدثهن كيف أتم الله نعمته عليها. فبدأت تقص عليهن وقلبها يقفز من الفرح، فتسَّاقط الألفاظ من فمها الصغير مبتورة ضائعاً نصفها في شهقة خفيفة ما كانت تقوى أن تخفيها من فرط ما تحس به من سرور وفرح. . . ولم تفت حالها ثريا فقالت: ما هذا يا عنان؟! اثبتي لو رآك خطيبك لطمع فيك ولا استثمر لنفسه تلك الفرحة التي تفيض من عينيك فَذَلَّكِ وخضَّعك. . . أنت فرحة أكثر من اللازم كل جارحة فيك تهتز حتى كلامك يخرج مهتزاً مدغوماً. . . انظرن قلبها كيف يرقص من خلال عينيها، ووجهها كيف يضحك كله كأن قد انتخبت نائبة في مجلس النواب أو سفيرة لبلادها!! خفضي عليك يا عنان فهو رجل. . . رجل لا أقل ولا أكثر. . .
فقالت عنان في نشوة ظاهرة وإيمان صادق:
- اسكتي يا مجنونة اسكتي. . . حين ذهب عنكن الرجل، وحين تبيَّنُتن أنه جاد ولن يرجع، رُحُتن تنشدن السلوى عنه في السفارة والنيابة. . . والله لو أنا أبوك لبحثت أنت عنه في النواب ثم خرجت به. ما كان أجمل أن يبحث هو عنك. . . أما أنا فلقد ظفرت برجل يا ثريا
فناصرت هدى - وكانت قد عنَّست - رأي عنان
-. . . في زمن عز فيه الرجال يا ثريا
وكانت حورية قد تركتهن يصطخبن كما يحلو لهن، وأعملت أسنانها في الطبق المثقل باللذيذ من الحلوى، حتى إذا أتت عليه رفعت رأسها وقالت لعنان، ولا تزال تمضغ وتتمطق:
- أوَ يكون في ليلة العرس عشاء؟ لعله عشاء كامل مسمن، لا أن ندور لنلْتقم من كل صنف لقمة، كأنما جئنا لنتسلّف أو لنتقصى أنواع الطعام!
فالتفتت لها ثريا ودارتْ عينُها لما رأت الطبق فارغاً، ثم نهضتْ فضربتها وجعلت تدسُّ لها الطبق فارغاً في فيها تريدُها أن تمضغه هو الآخر. فانفجرن جميعاً ضاحكات، ونهضتْ عنانُ فعوضتهن وأجزلت
قالت هدى لعنان وكانت أشغَفهن بسماع الحديث:
- حدثينا كيف ظفرت برجلك ولا تلْتفتي للمجنونة ولا للمنهومة. . .
فقالت عنان:
- والله إن الأمر يا هدى عجبٌ من العجب، لعله لا يصدق أو لعله هَيَّن نادر، ولكنه وقع لي على أي حال. . . كان جالساً بجواري في مركبة عامة لا أعرفه ولا يعرفني، فَلَفَتَ فيَّ فقبَّلني في زحمة الناس وعلى عيونهم! ثم تبعني لما نزلت. . ثم جاء فخطبني!
فشُدْهن كلهن، وشاع فيهن حنين خفيف، وثارت فيهن أنوثتهن المحرومة والمنتظرة. . . فأصْغَين إليها وأقبلن عليها وهي تفصَّل ما أجملت:
- كنت أترقب السيارة الصاعدة إلى (مصر الجديدة) وكانت الزَّحمة بالغة، وتدافع الناس على باب الدرجة الأولى. فهداني ربي أن أدلف إليها عن طريق الدرجة الثانية، ولكني - وقد استويت راكبة - عجزت أن أبلغها، فوقفت أهتز وأتدافع وسط الرجال. فتضاغط الجالسون إلى يساري ووسعِوني، فجلستُ خامسة في مقعد يسع أربعة وكان هو إلى يساري يتأملني ويختلسني بأطراف عينيه. أفجأه فيغض، ثم يعود فأعود. . . ولما شعرتُ بدقَّ قلبه. إذ كان جسمه لصق جسمي تركته فلم ألفِتْ فيه. . . ثم بدا له أن يرسل عينيه في الطريق من ناحيتي في نفس اللحظة التي بدا لي فيها أن أرسل عيني أنا الأخرى من ناحيته. فَرَفَّ شفتي بشفتيه! وتلاقت عينانا في نظرة داهشة ثم عاتبة وغاضبة. وكانت قبلة ضاعت حلاوتها في حَرةَّ الخجل التي تنفَّثَتْ فيَّ فأطرقت مضطربة محمومة
لم أدر ما حدث بعد ذلك ولكنه خبرَّني. قال وهو يعيد الذكرى على سمعي:
. . . لم أستطع أن أواجه أعين الناس. وحنقت على نفسي أشد الحنق، وأحسست أن الدم قد تصعد وفـ. . .
وأمسكت عنان عن حديثها بغتة لأنهن لفتن نحو الباب ففوجئن - ما عدا عنان - برجل يقتحم عليهن فألفينه شاباً موفور الشباب رائع الرجولة، فجأت رجولته أنوثتهن فتمنَّيْنَه، وثار عليهن نقصهن فغبطن عنان التي وجدت كمالها
ونهضت تقدمه لهن وتقدمهن له، فرحب وهو يبتسم ويجلس جنب عنان جلسة يزحمها بها، كأنما يعاود على فؤاد منها ذكرى اللقاء الأول والقبلة الأولى. فتضاحكن من ظرفه ومن جِلسته ثم اندفع هو مستطرداً كأنه الذي كان يتحدث:
- لقد حنقت على نفسي وأحسست الدم. . .
فشرعت فيه عنان عينيها، فغضَّ، فقال:
- من غير إذن. . .! ثم من أدراك أنهن يسمعن لك؟
فقال: من التوفيق وحسن الحظ أنني أقبلت حين بدأ الحديث يكون عني، أعني في شأني، فأنت التي يجب أن تنأذني، لأن الذي حنق هو أنا، ودمي أنا - لا دمك أنت - هو الذي تصعد في وجهي وفي قنة رأسي فجعل يخزني كأن إبراً تتوالى على صفحة وجهي وفي هامتي، فجعلت أتحسس مواضع الوخز وأنا مطرق لا أجسر أن أرفع، ولكني عدت فاختلستها - وهي مطرقة مثلي - فرأيت الوجه الجميل قد تورد كله. ثم تجمع ورده وزكا في الخدين فوهجا وأضاءا. فسلبتني روعة حياءها قسوة حيائي. فلم أعد أحفل بالناس، إذ لم يعد في وسع عيني ولا في أقطار نفسي سواها
ثم تكشفت على فؤادي من عينيها - لحظة شرعتهماُ فيَّ - فتنة جديدة أشد وأروع كانتا مسبلتين فنجلتهما في، فكأنما - والله - سلت الأهدات الطَّوال المشرَعة في كبدي فسيَّلتها!
لم أستطع أن أحتمل أكثر من ذلك. فهامستها - من غير وعي وأنا لا أعرفها - أن من الأوفق أن ننزل. . .
فقطعت عنان حديثها قائلة في تتايه ودلال:
- كنت وإياها كوسيط مسحور يصرفه المنوم كيف شاء - فقال أأذنت لك أن تقاطعيني.
اسكتي. فهذا حديث كبار فبسمن جميعاً وعاد يقول:
- نزلنا ولم يبلغ واحد منا وإنما هربنا من فضول الناس. لم ندر كيف، ولم تدر هي كيف أطاعتني. فكلانا ذاهل غائب فتى يقبل فتاة لا تعرفه ولا يعرفها في جمع الناس وعلى عيونهم ثم ينهضان معاً. . . إن هذا لشيء عظيم!
ولبثنا وقوفاً زماناً ثم جمعت بدد ذهني قليلاً حين دار في أذني سبابها خفيفاً حلواً يتندى على فؤادي كحبات الماء على جبين محموم.
وقلت: إنها غلطة يا آنسة وإنها - ولا يد لي فيها - لأحب إلى نفسي من عملي كله
فعبس فمها. . . فمها فقط. . . عبسة أشهد ما رأيت أحلى ولا أروح منها، وعاد سبابها العذب يتوثب حول شفتيها ثم يتسامى إلى قلبي نغماً قصيراً رقيقاً يحمل في وهن رقته قوة فتائه. . . فابتسمت ثريا وقالت:
- مرحى. مرحى. هذا منطق عاشق يسمع بقلبه سباب حبيبه نغماً كحباب الكأس ما تسمو واحدة حتى يعالجها فناؤها الكامن فيها
فأمن على تشبيهها واستطرد عليه يقول: أي والله يا. . . ونسي فأدركته عنان قائلة. . . يا ثريا
- أي والله يا ثريا إنه لكذلك على فؤادي كان يوقظ حنينه ولا يشبعه! ولكنه لم يكن سباباً. أنه - يا آنسة - غضبةُ جمال شق عليه أن يمتهن على أعين الناس
وكانت إفاقتي على حلو سبابها ردة على جمال جديد تجلى على فؤادي من قوامها المعتدل سحرتني وحيرتني فلم أدر أياً أطيل فيه النظر ولا أياً أقصر عنه. . . كانت فتنة مجسدة، وكنت من فمها وحده بين ثلاث متن: أكبرها وأقتلها أنني قبلت هذا الفم وأوسطها أنني نعمت به حين عبس فبدا بشفتيه - العليا على السفلى - كفراشة حمراء قانية بسطت جناحيها الصغيرين ثم نامت على لفة وردة تترشف رحيقها. . . وأنني سحرت حين ترسل على فؤادي منه نغم حبيب. وأهونها - وتلك من عجائب القلب - أنني فزت بعد ذلك برضاه. . . إنه حلو فاتن حين يرضى، وإنه لأحلى وأفتن حين يعبس
فضحكت ثريا وقالت:
- الأمر بيدك. . . اغنم لنفسك الأحلى!
فقال وهو يبتسم: هذه أنانية يا آنسة!
وقالت عنان تُتم الحديث من حيث قطعتْه ثريا:
-. . . وفرغَ سبابي فَمدَّ إليَّ يده في ضراعة وقال لي:
- إنه خطأ هين، وإني لمصلحٌ ما كان بجمال ما سيكون، ولذلك لن اعتذر، وعاد هو يتم لها:
-. . . قلتُ لها: ولذلك لن أعتذر؛ فعقدت حاجبيها وتغَضَّبَتْ بعينيها، ولكنها ابتسمت على رغمها ابتسامة كانت تمنعهاُ جهدها وتخفيها، ففهم قلبي معاني قلبها، وناجت روحها روحي، وانسرقتْ حواسها بجملتها على غفلة منها فألقت في حواسي رسالة فرحتُ بها فاتَّزنت واطمأن قلبي
وجاءت سيارة فقفزت إلى الدرجة الأولى لتواصل طريقها وقفزت أنا في الدرجة الثانية، ولما نزلتْ هي نزلت أنا وتحاشيتها وعرفت من بُعدٍ منزلها. . . ثم. . . ثم اقتحمت على أبيها فأسعدني وأسعدها
فبسمت عنان ابتسامة أشرقت في قلب خطيبها هذه المرة، وقالت في دلال وتخابث: في (وأسعدها) بحثٌ وكلام
فأخذ وجهها بين يديه وقَبَّلها على مرآي منهن قبلة عاجلة وهو يقول:
- لا كلام ولا حديث لقد ظفرت بالدنيا يوم ظفرت بك يا عنان وخرج يجري فائزاً بقبضة يدها تهوى على ظهره جزاء ما فعل
- أما هن - كان الله لهن - فقد تخاجلن وتضاحكن.
ثم نظر بعضهن إلى بعض، وقمن لينصرفن. فقالت لهن والدنيا لا تسعها: إنه خفيف الظل وأنا أعبده
فقالت ثريا:
- إنه رجلٌ يُتَمَّنى يا عنان، وإنه لحقيق أن يحبَّ ويعبد، لو كنتُ مكانك. . .
وعَىَّ على المسكينة أن تزيد. فَجَرَّتْ هدى وزاملْتها وأرسلتا - حين صارتا في الطريق - زفرة حارة، وزادت هدى أن عبرة فرَّت منها برغمها
وقالت ثريا:
- تعالي يا هدى سنركب الدرجة الثانية من سيارة مزحومة وبعداً - منذ اليوم - لسيارتي وللدرجة الأولى. . . ولتحرص كل منا أن تجلس - منذ اليوم أيضاً - خامسة في مقعد يسع أربعة. . . لعل وعسى. . .
مراد الكرداني