المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 36 - بتاريخ: 12 - 03 - 1934 - مجلة الرسالة - جـ ٣٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 36

- بتاريخ: 12 - 03 - 1934

ص: -1

‌في ملعب الكرة

للدكتور محمد عوض محمد

. . . وفي ذلك اليوم ذهبت بصديقي إلى ملعب الكرة. . . لم أذهب به إلى دور العلم أو إلى حلقات الأدب، حيث ينصت إلى لجاج الفقهاء، وحوار الأدباء؛ فلقد طَعِمَ من هذا الغذاء الدسم الشهر كله: وشهد المعركة الطاحنة بين اللائحة والشرعة، وبين الأريكة والسرير؛ وبين الفنون الرفيعة والغليظة؛ وبين الفتوة والمروءة، وبين الكوفة والبصرة، وبين المستشرقين والمستغربين. . .

انتزعتك يا صديقي من بين هذا كله. فلعمري لقد آن لك أن تمسح عن جبينك المجهد المعنى عرق النحو والصرف والفقه، وأن تزيل عن عينيك ما علق بهما من قذى البحث العميق، عن اللفظ الدقيق والمعنى الأنيق: ذلك البحث الذي طالما ما أضناك وأذواك؛ ثم عدت منه صفر اليدين، أو رجعت بشيء زهيد لا يطفئ غلة، ولا يغني من جوع.

فتعال اليوم نتبوأ هذا المقعد العالي، ونشرف منه على هذا الميدان الفسيح، كما يشرف النسر من ذروة الطود. ولنرقب ما يجري بين أيدينا من الحوادث الجسام. . . أراك تبتسم ابتسامة الشكل أو الإنكار، كأنما تظن أن ما يجري هنا ليس إلا ضرباً من العبث واللهو؛ فلا وأبيك لن تبرح حتى تشهد في هذا المعلب من دروس الحكمة ومن عبر الحياة، ومن المعاني البديعة العميقة، ما لم تجده بعد في الكثير من أسفار أصحابك الخالدين. . .

وها هم أولاء اللاعبون قد أقبلوا، فدوى رعد الهتاف والتصفيق، أرأيت هذه الأجسام الفتية التي أفعمت صحة وقوة، والتي لا تكاد تستقر في مكان مما بها من نشاط ومرح ولكنها قد تثبت في موقفها حينا فكأنها الجبال الرواسي. ثم تنقض على الأثر كأنها صخور تهوي من قمة طور؛ أو تندفع طائرة كما تندفع السهام عن القِسِيِّ. وهي بعد هذا كله لا تشكو كلالا ولا ملالا، كأنما يتفجر نشاطها من ينبوع لا يغيض. . إن هذه السيقان التي تراها تحمل تلك الأجسام ما نمت هذا النمو ولا اكتسبت تلك القوى في يوم أو بعض يوم. . بل هي ثمار المران الطويل شهوراً وسنين. وليس من هؤلاء الفتيان من لم يأخذ نفسه بأنواع من الجد والدأب وبالحرمان من ضروب اللهو والعبث، كي يبلغ هذه المرتبة العالية من القوة ومن الرشاقة؛ ومن جمال الفتوة، والرجولة الصحيحة.

ص: 1

حدثني بالله! ألا ترى في النظر إلى هذه الأجسام القوية الفتية متعة للنفس وللحس، بعد الذي شاهدته من تلك الأجساد المترهلة ومن تلك البطون الناتئة، والمبات المترامية على الصدور، والأقفاء المطوية في ثنايا عديدة، مديدة والسيقان الغلاظ التي لا تستطيع المضي ميلا أو بعض ميل. ألا أن عيوننا لتقذى برؤية هؤلاء الأسبوع كله. فلينعم طرفنا اليوم بمنظر الصحة الدافقة والقوة الباهرة. . بعد هذا فلتضف فصلا جديدا إلى كتاب الفتوة، فصلا تبنيه على المشاهدة والعيان إلا على الأخبار والأقوال. . .

إن الرياضة قد أدبت هؤلاء الفتيان فأحسنت تأديبهم. . . أنظر إليهم كيف تركوا ضيوفهم يسبقونهم إلى الملعب. وفي إثرهم ينزل أصحاب الدار على مهل، كأنما يمشون على استحياء. وهم على هذا كله خصوم، ستدور بينهم معركة لا هوادة فيها ولا لين. ولا محاباة فيها ولا مداراة: معركة سيبوء فيها الضعيف بالخزي والخسران، ويرقى النصر بالمنتصرين إلى أعلى مراتب السمو.

هذه المعركة هي بيت القصيد. وإن في صورها العديدة لما ينشرح له الصدور وتطمئن القلوب. . . فها هنا معركة تنشب بين فريقين قد تكافأ في العدة، وتماثلا في العدد. فلن يكون الفوز فيها إلا للجد والجلد، للبراعة والأقدام. . . ونحن في عالم طالما نشهد فيه تألب الأقوياء على الضعفاء، وطغيان جيوش الظلم على جنود الحق. . واستبداد الكثرة الغاشمة التي تزهى بعدتها وعديّدها، ويحلو لها أن تمعن في الجور وتسرف في العدوان. فما أسعدنا اليوم إذ نتناسى ذكر هؤلاء حينا، لكي تنعم أبصارنا بشهود معركة نظيفة بريئة بين أكفاء وأنداد. .

أجل، وانك لتهتز طربا إذ ترى هذه المعركة تدور رحاها بين يديك في وضح النهار. معركة ليس فيها خفاء ولا لبس. الميدان كله أمام أعينا - من أدناه إلى أقصاه - نتأمل كل ما يجري فيه ولا يخفى علينا من أمره شيء. . . فلننس الآن - ونحن ننظر إلى هذه الحرب الطاهرة - تلك المعارك الغريبة المريبة، التي تدبر في الخفاء وتنمو في الظلام. وتنصب فيها الحبائل، ويشتد فيها الكيد، ويتناسى فيها الشرف. وتحنث فيها الإيمان، وتخان فيها العهود. والتي لا يحلو فيها الطعن إلى على غرة، ولا يتحارب فيها إلا بأسلحة الجبن. . . هذه - ويا للأسف! - معارك قد امتلأت بها حياة الناس فلنستعن على نسيانها الساعة

ص: 2

بهذه المعركة النبيلة، التي بين أيدينا، والتي تبدأ جهاراً، وتجري جهاراً، وتنتهي جهاراً. . . وعلى كل لاعب رقباء من هذه الآلاف المؤلفة، التي احتشدت اليوم لكي ترقب حركات كل لاعب وسكناته. والويل لمن يحيد عن الصواب لمحة العين، فيستثير من آلاف الأفواه صيحات الإنكار والاستهجان.

أجل وإن لهذه الحرب الضروس لقواعد وشروطا قد نصت عليها قوانين مقدسة الرعاية، ولن ترى في العالم كله قانونا ينفذ في شدة وصرامة، وفي قوة وحزم، كما ينفذ هذا القانون، الذي ليس في تنفيذه تسويف ولا (تأجيل). بل سرعان ما يلقى الآثم جزاء اثمه، قبل أن يتحول عن مكانه، وها هنا الحكم النزيه اليقظ الذي يحصي الصغيرة والكبيرة، ولا يعرف المحابات ولا المداراة. . فإذا كنت - يا صديقي -! قد أهمك وأحزنك إن رأيت العدل يصرع والقانون يداس بالنعال في مشارق الأرض ومغاربها، فلتسر الهموم عن نفسك برؤية هذا الحكم العدل، الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم، والذي يرى القوي المدل بقوته ضعيفا عاجزاً، حتى يقتص منه ويرده إلى جادة الصواب.

والآن، ألست تراك شديد الإعجاب بما تراه الساعة في الفريقين من عزيمة وثبات ودأب لبلوغ الغاية، ومضي لما وطنوا النفس عليه. فلقد يخطئون الهدف المرة بعد المرة. من بعد ما أجهدوا قواهم سعيا وطلبا. ولكنهم يعودون بعد الإخفاق إلى السعي والعدو، لا تنيهم العقبات إلا ريثما يتأهبون لاجتيازها. ولا يرتدون لحظة إلا ليأخذوا العدة للتقدم. وكأنما لا يعرفون طعم اليأس، ولا يؤثر فيهم الإخفاق، فهم أبداً كموج البحر لا يتراجع إلا ليدفع، ولا يضعف إلا ليشتد.

وها قد انقضت الساعتان كأنهما لحظتان. ففي وسعك الآن أن ترجع إلى أسفارك وأخبارك، ونحوك وصرفك. وأحسبك الآن قد آمنت إن هذا الميدان البريء لا يخلو من الحكمة والموعظة الحسنة. اجل وانك لتحدثك نفسك الساعة بمثل الذي تحدثني به نفسي

ليت لعب الحياة كان جداً،

ويا ليت جدها كان لعبا!

ص: 3

‌في الجو.

. .

للدكتور طه حسين

أما في العصور القديمة حين كان الإنسان رشيدا حذرا يطلق خياله إلى أبعد مدى ممكن، لأن إطلاق الخيال لا يضر ولا يخيف ولا يرسل عقله وجسمه إلا في أناة وبمقدار، لأن إرسال العقل والجسم بغير حساب قد يؤدي إلى ما لا يحب، أما في تلك العصور فقد كان الناس يطيرون في الخيال. يطيرون مجازا لا حقيقة، وقد تتحدث أساطيرهم بأن منهم من حاول أن يطير حقا، فلما ارتفع في الجو دنا من الشمس فذابت أجنحته التي اتخذها من الشمع ولم يلبث هو أن هوى إلى الأرض فاندق عنقه، ولقي من الموت جزاء على هذه الجراءة التي سمت به إلى أرقى ما يجب أن يسمو إليه الناس. فقد خلق الناس ليمشوا على الأرض لا ليطيروا في الجو، فمن عدا منهم طوره أو تجاوز حده لقي هذا الجزاء الذي لقيه طائر الأساطير اليونانية حين أذابت أجنحته الشمس، أو ما لقيه طائر الأخبار العربية حين كان جسمه اثقل من خياله فلم يكد يسلم نفسه إلى الهواء حتى خانه الهواء وأسلمه إلى أمه الأرض فدقت عنقه أولاً. ثم حنت عليه بعد ذلك كما تحنو الأم الرؤوم على ابنها العزيز.

كان ذلك في العصر القديم حين كان خيال الإنسان اكبر من عقله. وأشد من اجتراء على الطبيعة وما يلبث فيها من المصاعب والعقاب وكان أسلافنا من أدباء العرب وشعرائهم محبين للأناة، يطيرون ولكن دون أن يفارقوا أماكنهم، تطير نفوسهم وقلوبهم شوقا إلى من يحبون، وتطير نفوسهم وقلوبهم فرقا ممن يكرهون، وقد تطير أجسامهم إلى ساحة الحرب وميادين القتال حين يأتيهم الصريخ ويبلغهم فزع المستغيث. ولكن أجسامهم كانت تطير دون أن تفارق أقدامهم الأرض، كانوا يسرعون في العدو فيحسبون إنهم يطيرون، ولعل منهم من كان يطير في الجو، ولكن على ظهر ناقة أو جمل. فكان يباعد بين قدميه وبين الأرض، ولكنه كان يتخذ بينه وبين الأرض سببا على كل حال. ومنهم من كان يسعده الحظ وتواتيه الثروة فيطير على ظهر فرس أو جواد، ويحسب مع ذلك أنه يطير حقاً، وربما عبث به الوهم ولعب به الخيال فظن حينا أنه يطير، وظن حينا آخر أنه يسبح في الماء، أما الآن فلست أدري أضعف الخيال أم لم يضعف، ولكن الشيء الذي لا شك فيه هو ان العقل والجسم أخذا يسابقان الخيال فيسبقاه في كثير من الأحيان، فلم يبق الطيران في

ص: 4

الجو حلما ولا وهما ولا نبأ من أنباء الأساطير، وإنما أصبح أداة يسيرة من أدوات الانتقال. وكان منذ أعوام أداة مقصورة على أصحاب الجرأة من الفنيين، ثم تجاوزهم إلى أصحاب الجراءة والسعة من المترفين وفارغي البال، ثم تجاوزهم إلى أصحاب الثروة الذين يحبون السرعة ويستطيعون الانفاق، ثم أخذ منذ حين ينزل ويتدلى دون أن يفارق الجو، ولكنه ينزل ويتدلى على كل حال حتى بلغ أمثالك وأمثالي من أهل الطبقات الهينة اليسيرة المتواضعة التي يسمونها الطبقات الديمقراطية. وأصبح الطيران في هذه الأيام أداة من أدوات الانتقال قد يعجز العمال عن استخدامها، ولكن أهل الطبقات الوسطى لا يعجزون عن ذلك ولا يترددون فيه، والغريب انه بعد أن تقدم أو تأخر في أوربا وأمريكا إلى هذا الحد وصل إلى مصر واستقر فيها، ان صح إن الطيران يستطيع أن يستقر. وصل إلى مصر واصبح أداة للانتقال يستخدمها المصريون الذين عرفهم الزمان ببغض السرعة وحب الأناة والحرص على الثبات والاستقرار. أليس آباؤهم قد بنوا الأهرام. ومع ذلك فقد أخذ المصريون يطيرون، ولم يقتصر الطيران على الرجال في مصر، بل تجاوزهم إلى النساء فهن يطرن أيضا وهن يسابقن في الطيران، وهن يسبقن الطائرين، وقد كان مكتوبا عليهن أن يلزمن الدور ويعكفن من وراء الخدور. ولكن ماذا نصنع وقد ارتقى العقل حتى سابق الخيال، وارتقى الجسم حتى استطاع أن يطير ويبلغ آماداً وبيئات لم يكن يبلغها من قبل إلا الخيال والوهم. وأغرب من هذا وذاك إن الطيران قد هان ولان وسهل أمره وابتذلت قيمته حتى أصبح مباحا لقوم ما كان ينبغي أن يباح لهم لولا أن الفساد قد دب إلى كل شيء وتسلط على كل شيء وأصبح الناس ينظرون فلا يعرفون أين يعيشون، ولا كيف يعيشون.

وهؤلاء القوم الذين سخر لهم الطيران في آخر الزمان هم الأدباء. والأدباء المصريون، أرأيت إلى أديب عربي يطير؟ أين نحن من أيام طرفة بن العبد، وعلقمة بن عبدة، وزهير، وغيرهم من الشعراء الذين كانوا إذا حز بهم الأمر وألح عليهم الهم وعبث بهم شيطان الشعر يعمدون إلى نوقهم فيركبونها ثم يخرجون بها في الصحراء ليسلوا عن أنفسهم همها، وليتلقوا عن شياطينهم ما يريدون أن يوحوا إليهم من جد الكلام وهزله. ثم يعودون وقد فتنوا بهذه النوق وقالوا في وصفها ما لا نزال نتكلف في فهمه وتفسيره ضروب المشقة وألوان العناء.

ص: 5

كذلك كان يفعل أسلافنا من شعراء الجاهلية والاسلام، أما الآن فصديقنا الأستاذ عبد العزيز البشري يطير لا بالخيال ولا بالعقل ولا على جناح الفلسفة، وإنما يطير حقا، يطير من هليوبوليس إلى الإسكندرية، ثم يتحدث عن طيارته كما كان يتحدث طرفة عن ناقته، أو كان يتحدث صاحب العرداة عن عرادته، أو كما يتحدث أبو نواس عن ناقته في تلك الأبيات التي يحسن الأستاذ عبد العزيز البشري خاصة إنشادها وتوقيعها، يتحدث عن هذه الطيارة حديثا أي حديث، حديثا ساحراً حقا، باهراً حقا، نشرته الأهرام في الصيف فأعجبت به حتى لم أنسه إلى الآن على كثرة ما قرأت منذ الصيف، حديثا لا تكاد تمضي فيه حتى تحس كأن الأستاذ يعرف طيارته كما كان طرفة يعرف ناقته، ومع ذلك فما أظن أن للأستاذ علما مفصلا بهذه الشياطين التي تطير بالناس في الجو منذ طغى العلم الحديث. ولكن للبيان سحراً ينطق صاحبه بالأعاجيب، وما دام الأدباء وقد أخذوا يطيرون، وما دام الطيران قد أصبح أداة، من أدوات الانتقال فلابد من أن تتغير لغة الناس بعض الشيء، ولابد من أن يلتمس المبالغون لأنفسهم ألفاظا أخرى يعبرون بها عن السرعة حين يريدون أن يصفوا السرعة، فقد كانوا يطيرون شوقا حين كان الطيران أمراً مستحيلا، أما الآن فيجب أن يجدوا للشوق أداة ينتقل بها غير الطيارة، وبيئة ينتقل فيها غير الجو.

وقد أخذ الأدباء الأوروبيون يسلكون الطريق الطبيعية إلى هذه الغاية، وأول ما كان ينبغي أن يفعلوه من ذلك إنما هو تسخير الطيارة للأدب بعد أن سخرت للعقل والجسم، ولعقول الأدباء وأجسامهم بنوع خاص، أخذوا يفهمونها ثم يصفونها ويعبرون عنها تعبيراً أدبيا بعد أن كان وصفها والتعبير عنها مقصورين على العلماء الذين يخترعون، والعمال الذين ينفذون، والصناع الذين يعالجون أجزاء الطيارة في كل ساعة من ساعات النهار. ثم لم يكتف الأدباء بالفهم والوصف والتصوير فيما يكتبون من المقالات، وما ينظمون من القصائد وما يذيعون من الأحاديث، ولكنهم تجاوزوا ذلك فاستغلوا الطيارة في فنون الأدب كلها. فما الذي يمنع أن تكون الطيارة موضوعا يلهم أصحاب القصص، ويلهم أصحاب التمثيل، وإذا كان من الحق أن الناس يأتلفون ويختلفون وتثور بينهم عواطف الحب والبغض فتؤثر في حياتهم أبلغ الأثر وأعمقه، وتلهم القصاص أن يصوروا من ذلك ما يريدون، فإذا بعضهم يصور من ذلك ما يقع في قطار، وبعضهم يصور من ذلك ما يقع في

ص: 6

سيارة، وبعضهم يصور من ذلك ما يقع في عربة تجرها الخيل، أقول إذا كان من الحق أن كرسي البريد وعربة الخيل والسيارة والقطار والزورق والسفينة الشراعية والسفينة البخارية، كل ذلك قد الهم الأدباء في الشعر والنثر والقصص والتمثيل، فما الذي يمنع الطيارة أن تلهم الأدباء في هذه الفنون جميعا، ومن الذي يستطيع أن يزعم أن الطيارة أقل قدرة على الإلهام، وأقل حظا من الفصاحة وسحر البيان من هذه الأدوات التي ذكرناها آنفا. ومن الذي يستطيع أن يزعم أن الأدباء الذين سخروا للأدب كل هذه الأدوات يعجزون عن أن يسخروا للأدب هذه الأداة الجديدة التي تطير بأجسام الناس بعد أن طارت صورتها بما كان لهم من عقل أو خيال.

الطيارة قادرة على الإلهام، والأدباء قادرون على أن ينطقوها رغم أنفها سواء أكان لها أنف أم لم يكن. وتستطيع أن تنظر في الآداب الأوربية الحديثة فسترى أن الأدباء قد أغنوا فنون الأدب وأضافوا إلى ثروته الضخمة ثروة أخرى قيمة حين اتخذوا الطيارة أداة من أدوات القصص. وأنا زعيم بأنك بدأت القصة التي أنشأها الكاتب الفرنسي كيسل منذ أعوام وسماها اكيباج فلن تستطيع أن تدعها حتى تتمها، ولن تتردد في أن تعترف بأنها من خير ما انتج القصص الحديث. وليس لهذه القصة موضوع إلا اختصام جنديين من جنود الطيران في الجيش الفرنسي أثناء الحرب حول امرأة كانت زوج أحدهما فاحبها الآخر وهو لا يعرف زوجها. ثم جمع الطيران بين الزوجين فاحب كل منهما صاحبه حبا عميقا، ثم ظهر لهما أنهما يحبان امرأة واحدة. وصور أنت لنفسك كيف تنتهي القصة، ولكن يجب أن تعلم أن الطيارة هي الأداة التي بها تنتهي القصة والتي عليها تقوم القصة.

وإذا استطاعت الطيارة أن تدخل فن القصص، فما الذي يمنعها أن تدخل في فن التمثيل وأن تلهم الممثلين أو كتاب التمثيل آيات بينات وقد فعلت. وقد بلغت من الإجادة في ذلك أمداً بعيداً حقا، تستطيع أن تقرأ إن لم تستطيع أن تشهد هذه القصة التمثيلية الممتعة التي وضعها الكاتب الفرنسي المعروف فرنسيس دي كروا وسماها أو طيران العرس، فسترى اتقانا في الأداء، واتقانا في العرض، واتقانا في تصوير الصراع بين هذه العواطف الجديدة التي استحدثها الطيران في نفوس الناس لا عهد للأدب بمثله من قبل، وسترى من هذه القصة التمثيلية ومن تلك القصة الأخرى أن الطيران لم يكد يوجد لنفسه بيئة خاصة

ص: 7

من الذين يحبونه ويتخذونه صناعة أو لهوا حتى أوجد لهذه البيئة أخلاقها الخاصة وعواطفها الخاصة ولغتها وأساليبها في الحسن والشعور ومذاهبها في التعبير والتصوير.

ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد بل تجاوزه إلى شيء عظيم الخطر حقا، لست أدري أنافع هو أم ضار، ولكن من الذي يستطيع أن يقيد العقل والخيال بما ينفع أو بما يضر. وإذا كان الرقي العلمي قد انتهى بالناس إلى حيث يتنافسون الآن في اختراع أدوات الموت والتدمير وما يمحو الحضارة محوا ويرد الإنسان إلى شر ما عرف من أطوار الوحشية، فما الذي يمنع الرقي العلمي من أن يدفع بالطيران إلى ما يفسد العلم إفسادا ويجعله أداة من أدوات الشعوذة والتضليل؟

لست ادري أعرفت إن كاتباً فرنسيا شابا هو الأديب ملرو قد مر بمصر منذ أسابيع، فقد طار هذا الشاب من مصر إلى غرض لم يرد أن يعينه، ولأمر لم يرد ان يدل عليه، ثم أصبحنا اليوم وإذا الصحف تنشر رسائل برقية تنبئ بأن هذا الكاتب الشاب قد طار إلى بلاد العرب وتغلغل في أحشائها، ولكن من فوق، لأن أحشاء البلاد العربية خطرة تهضم الذين يقتحمونها هضما. قالت الرسائل البرقية إن هذا الكاتب الشاب قد استكشف شيئا عجيبا وطار فوق أخطار جسام، استكشف مدينة سبأ التي تحدثت عنها التوراة وتحدث عنها القرآن وامتلأت بأنبائها كتب التاريخ والأساطير، وليس من شك في أننا سنقرأ تفصيلا واسعاً لهذا الاستكشاف، ولكن الشيء الذي لا اشك فيه هو أننا سنقرأ كتابا لهذا الأديب الشاب عن مدينة سبأ هذه. وسيكون هذا الكتاب من أقوم الكتب الأدبية، وسيكون على كل حال من أروجها أكثرها انتشارا، ولن يكون حظه من الرواج والانتشار أقل من حظ القصة التي وضعها الكاتب الفرنسي بييربنوا وسماها الأطلنطيد والتي فتحت لصاحبها أبواباً ثلاثة: باب الثروة وباب الشهرة وباب المجمع اللغوي. سمع بييربنوا بأحاديث القارة الموهومة اتلنتيس وسمع باستكشافات الجغرافيين للصحراء الكبرى، فزعم ان صاحبه قد ذهب يستكشف فانتهى إلى بقية من هذه القارة، ولقي هناك الملكة انتنيا من سلالة نبتون إله البحر. ثم وصف شخصها وقصرها وبيئتها وصفا رائعا عجيبا، وسمع الكاتب الشاب ملرو أحاديث سبأ وقصة بلقيس، وسمع أحاديث المستكشفين الذين يتجشمون الأهوال لاستكشاف البلاد العربية. ووجد الطيارة فطار مستكشفاً، والله يعلم هل عبر البحر إلى بلاد العرب،

ص: 8

وهل وصل إلى طرف من أطراف الربع الخالي حقا. ولكن مما لا شك فيه أنه وجد مدينة سبأ، ومن يدري لعله رأى ملكتها، وتحدث إليها ولو بالإشارة من طيارته، ولعل الملكة أن تكون قد شغفت به، ولعله هو أن يكون قد فتن بما رأى من حسنها البارع. ولعله قد انصرف عنها بعد أن ألقى إليها بقلبه من أعلى الجو، فهو مضطر إلى أن يعود إليها ليلتمس قلبه هناك حيث ألقاه في ذلك القصر الممرد من قوارير، والذي يقوم في تلك المدينة العظيمة التي ترتفع أسوارها الشاهقة في طرف من أطراف الربع الخالي. وسيكون حظ هذه القصة المنتظرة كحظ تلك القصة التي فرضت بييربنوا على الأدب الفرنسي فرضا.

رأيت أن بييربنوا قد استغل الاستكشاف العلمي للصحراء فدل الناس على بقية القارة المفقودة، وأن ملرو قد استغل الاستكشاف الجغرافي والطيارة، وسيدل الناس على ما بقى من ملك السبئيين.

أما بعد فإنا نبحث منذ قرون عن مدينة ضائعة في الصحراء يقال أنها تنتقل من مكان إلى مكان يحسبها بعضهم من الذهب والفضة، ويحسبها بعضهم من النحاس والحديد. وهي إرم ذات العماد. ويقول بعضهم أنها ليست إلا هرما من هذه الأهرام التي تقوم في الجيزة، والتي تستكشف من حولها المقابر والتماثيل والأدوات المختلفة. ولدينا طيارون، ولدينا طيارات. فهل نستطيع أن ننتظر من أديب من أدبائنا وليكن صديقنا عبد العزيز البشري أن يطير مع بعض شبابنا البارعين في هذا الفن لعله ان يعثر - إن أمكن أن يعثر الناس في الجو - بهذه المدينة القديمة العظيمة إرم ذات العماد؟ وليس عليه بأس إن لم يجدها أن يخترعها اختراعا وأن يزعم لنا انه وجدها كما فعل بييربنوا وكما سيفعل ملرو. وليس ينبغي أن نخاف من صديقنا عوض وأصحابه الجغرافيين فان الكاتبين الفرنسيين لم يحفلا بأعلام الجغرافيا في السوربون.

طه حسين

ص: 9

‌الإحسان

للأستاذ احمد أمين

لا أطيل على القارئ، فإني أريد بالإحسان التصدق على الفقراء، ومعونة الضعفاء والمرضى، ولست أرى لفظا أدل على المعنى من الإحسان، وإن لم يرضه المتشددون في الألفاظ.

ربما كانت فضيلة الإحسان من أكثر الفضائل تقلبا مع الزمان، وتغيرا في أفهام الناس، فكم بين ما كان يفهمه حاتم الطائي من نحر الجزور وانهابها الناس، وبين ما وضع من النظم الحديثة للإحسان من فروق ومباينات!

فنظام المعيشة من قديم ينتج غنيا مفرط الغنى، وفقيرا مفرط الفقر، كما ينتج:

أعمى وأعشى ثم ذا

بصر وزرقاء اليمامه

فذوو السعادة يَضْحكُو

ن وغيرهم يبكى ندامه

ولم يخلق للآن نظام يعدم هذه الفروق أو يقلها من غير أن يستتبع خطراً أعظم، وداء أعضل.

فاهتدى الناس لتلطيف هذه الفروق إلى المناداة بالكرم والفخر به، ولست أدري أكان أول من نادى به الأغنياء اتقاء لخطر الفقراء، أم الفقراء تعطيفاً لقلوب الأغنياء

وأتت الأديان تدعو إلى الأخُوَة، وخاصة بين أهل الدين الواحد، وتجعل من مستلزمات هذه الأخّوة عطف الغني على الفقير وإشراكه في جزء من ماله، واستتبع ذلك وجود الأديار في النصرانية والتكايا في الإسلام

وكما أنتجت النظم معونة للفقراء وسداً لحاجات المعوزين أنتجت عند بعض الناس تراخيا في العمل، وميلا إلى الكسل واتخاذ الاستجداء حرفة، والتكدي صناعة.

وكثرت جيوش الفقراء فلم تكف النزعات الدينية لسد حاجاتهم، فتدخلت الحكومات تحمل بعض العبء فبنت المستشفيات وأنشأت الملاجئ وما إلى ذلك.

وأتت المدنية الحديثة فأخذت تقوَّم الفضائل من جديد، واستخدمت العلم في هذا التقويم كما استخدمته في كل شيء وكان مما نظمته طرق الإحسان، بل جاء قوم من الفلاسفة متأثرين بمذهب النشوء والارتقاء. وبنظرية الانتخاب الطبيعي وعلى رأسهم (هربرت سبنسر)

ص: 10

يطبقون هذا على الإحسان ويرون أنه رذيلة لا فضيلة، وأن العجزة ومن إليهم لا يستحقون هذه العناية، إنما العناية يجب أن تتجه إلى الأقوياء وإلى خير العناصر، ويجب أن ينتخب من المجتمع خيره وأقوه، فنوجه إليه العناية ونأخذ بيده، وبعد أجيال سيفنى الضعفاء ويبقى الأقوياء فيسعد مجتمعهم - نفعل في ذلك ما نفعل بالزهور والأشجار، نهمل الذابل والضعيف فيفنى، ونستولد القوي الجيد فيبقى إلى آخر ما قالوا. ومن حسن الحظ لم تلق نظريته هو وأمثاله نجاحا، فإنها نظرية تقضي على خير ما في الإنسان من عاطفة نبيلة نحو الناس، وكيف يقضى على العجزة والفقراء ونظام الحياة يخلق منهم كل يوم خلقاً جديداً وجيشاً كبيراً لو لم يُعْن به لاكتسح الأغنياء، ولثار ثورة لا يعلم مداها إلا الله.

إنما كتب النجاح لقوم آخرين من الأدباء والعلماء لم يحاولوا أن يمنعوا الإحسان، ولكن حاولوا أن ينظموه، لم يشكوا في قيمته، ولكنهم آمنوا بضرر فوضاه، واستعانوا بما وصل إليه العلم كما استعانوا بمنهاج البحث الجديد، فدرسوا الفقر وأسبابه وطرق الإحسان وما يتلاقى منه مع أسباب الفقر وما لا يتلاقى، ووفقوا في ذلك إلى حد كبير وان لم يصلوا إلى الغاية، وعلى ضوء هذه الدراسة سنت القوانين وأنشئت النظم، وظلت قوانين تنظم والنظم تعدل، حسب مقتضيات الأحوال إلى اليوم.

فمن أشهر القوانين القانون الإنجليزي للفقراء الذي وضع سنة 1601 ونقح سنة 1834 والتزمت فيه الحكومة بمساعدة الفقراء والعاطلين

ومن أشهر النظم المعروفة نظام (همبرج) الذي وضع للفقراء والعاطلين، وهو يتلخص في تأسيس مكتب رئيسي في المدينة للنظر في شؤون الفقراء وتنظيم الإحسان وتقسيم المدينة إلى أقسام، وتعيين مشرف على الفقراء في كل قسم وظيفته إعانة العاطلين على وجود عمل لهم، ودراسة أسباب الفقر في الأسر ووصف العلاج لها، وإنشاء مدارس صناعية لأولاد الفقراء ومستشفيات لمرضاهم، ويقضي بمنع الإحسان يداً بيد إلى الفقراء، إنما يعطى الإحسان لهذه الجمعية، فهي أدرى بطرق إنفاقه - وكان من أثر هذا النظام قلة عدد الفقراء وتنظيم معيشتهم، وقد أدخلت عليه تعديلات قليلة ثم عمم في مدن كثيرة في أوربا.

ونشأت في أمريكا جمعيات على هذا النظام وسعت بعض أغراضها - من ذلك أنها رأت أن أكبر مساعدة ليس إعطاء المال للفقراء ولكن إيجاد العمل لهم، كما جعلت من أهمم

ص: 11

أغراضها ترقية المعيشة الاجتماعية في منازل الفقراء والعناية بحالتهم الصحية، وبتعويدهم العادات الصالحة للعيش، ووجهت أكبر همها إلى العناية بأطفال الفقراء حتى لا ينشئوا كآبائهم، فكان لدى الجمعيات سجل للفقراء والعاطلين في كل حي، ومجمل عن سبب فقر كل أسرة وحالتها وما بذل من العناية لها، والاتجاه الذي اتجهوه في معالجتها، وبذلك أسس الإحسان على الأسس العلمية.

لعل أهم ما حدث من الانقلاب في تصور الإحسان أنه كان يفكي في عده فضيلة أن يخرج الإنسان عن شيء من ماله أو جهده ابتغاء ثواب الله، لا يبالي بعد ذلك أين وقع ماله: أعلى غني وقع أم على فقير، أكان فيه صلاح للفقير أم إفساد له؟ فيكفي أن يجود بقرش ليحسب له عند الله عشرة أو مائة، فجاءت الدعوة الحديثة تطلب أن ينظر في الإحسان إلى المحسن إليه لا إلى المحسن، فليس من العمل الصالح في شيء أن تعطي حسبما اتفق، بل يجب أن يكون عطاؤك لإصلاح الهيئة الاجتماعية التي أنت فيها، ولا يكون ثوابا عند الله إلا إذا نظر فيه هذا النظر، ولا يعد فضيلة حتى يكون القرش الذي يعطى يقصد فيه رفع مستوى الأمة، فإذا كان الإحسان يزيد حال الأمة سوءا عد رذيلة لا فضيلة، وعد من أتى به مجرما لا محسنا، وبعبارة أخرى أن هذا النظر الحديث يتطلب أن يشعر المحسن بالتبعة أو المسئولية، فمسئولية المحسن أن يعطي الفقراء وأن يتساءل عن إعطائه هل أفاد من أحسن اليه؟ وهل أفاد الأمة بعمله أو لم يفد؟

كان لهذا النظر نتائج لها قيمتها - منها تحريم الإحسان الفردي، وهو أن تكون علاقة المحسن بالفقير علاقة مباشرة، وإنما يجب أن توسط في ذلك الجمعيات والهيئات التي عرفت حالة الفقراء ودرست شؤونهم، واهتدت عن طريق دراستها إلى نوع ما يصلح لهم، فمن شاء الإحسان فعليه أن يتبرع لهذه الجمعيات وهي التي تتولى الإنفاق - ومنها تحريم التسول في الشوارع والطرق، لأن المتسول لم يثبت للجمعيات صحة دعواه وعلة فقره. إن كان وليس التسول حرفة مشروعة، ولكن إذا أثبت عدم صلاحيته للعمل وعجزه عن العيش وجب على الأمة إعانته، والجمعيات أقدر على تعرف هذا - وكان من مقتضى هذا النظر أيضا أن الهيئات التي وكل إليها هذا الأمر لا يصح أن تكتفي بإعطاء المال إلى الفقراء، بل يجب أن تعالج الأمر بشتى الوسائل حسب حالة كل فقير. فمن كان سبب فقره أن لا

ص: 12

عمل له مع قدرته سعت له في إيجاد عمل، ومن كان سبب فقره مرضه عالجته، ومن كان سبب فقره إدمان مخدرات أو سوء عادات نظرت في وسائل إصلاحه، كذلك أهم عمل تعمله أن ترعى أبناء الفقراء حتى لا يكونوا فقراء المستقبل. فتنشئ لهم المدارس لا ليتعلموا فيها تعلما نظريا لا يسمن ولا يغني من جوع، ولكن تعلما صناعيا يبعث فيهم روح الاعتماد على النفس، ويفتح لهم السبل لتحصيل العيش - بهذا وأمثاله عولج الفقر في أوربا وأمريكا، فان كان بعد ذلك عاطلون لم يكن سبب عطلهم راجعا إليهم، وإنما يعود إلى نظام العمل والعمال وسوء الحالة العامة، وجب أن تضمن الحكومات لهم ما يقيم أودهم حتى يعودوا إلى عملهم.

ونحن إذا نظرنا - في ضوء هذه النظريات وكيف طبقت - إلى حالة الشرق وجدنا عجبا، وجدناه لا يزال على حالته الأولية، سواء في ذلك أغراض المحسنين أو تطبيق الإحسان.

لدى الشرق أموال كثيرة تبرع بها أهلها للخير، لدينا أموال الأوقاف الخيرية، ولدينا أموال النذور، ولدينا تبرعات المحسنين، إلى كثير من أمثال ذلك، ولكن أكثرها لا يقع موقعا حسنا عند الله وعند الأمة، وكأنه يصب في البحر صبا أو يدفن في الأرض دفنا، على أن المال الذي يدفن أو يلقى في البحر ليس له من الضرر أكثر من فقده، ولكن ضرر الإنفاق على غير مستحق يزيد الأمم بلاء والحال سوءا

وأهم ما استوجب هذه الحالة الأسيفة في نظري شيئان - أولهما - احترام إرادة الواقف والمتبرع. فالفقهاء يرون أن شرط الواقف كنص الشارع، والواقف لا يعلم تطور الأمة ولا مطالبها ولا حاجاتها التي تختلف باختلاف الزمان - قد كان كثير من الواقفين لا يفهمون فمن وجوه البر إلا الوقف على الحرمين والمساجد والتكايا والتصدق بالخبز على المقابر، فأصبح الناس اليوم يفهمون أن من وجوه البر كذلك إنشاء المستشفيات والمدارس والملاجئ، وسيفهمون قريبا أن من وجوه البر إعانة جمعيات التأليف وإعانة الفلاحين ليحصلوا على الماء النقي، وليستضيئوا بالنور الكهربائي، وسيجدّ غير ذلك من ضروب الخير، وسيرون أن الوقف على مسجد إذا كان المسجد قد وُقف عليه من قبل ما يكفيه ليس وجها من وجوه الخير، وسيرون ان أموال النذور تلقى في صناديق الأضرحة ليست تنفق على المعوزين والمحتاجين، فليس التبرع بها إحسانا.

ص: 13

كان الواجب من عهد بعيد أن تحترم إرادة الواقف والمتبرع في رغبته في الخير فقط، ولكنا لا نحترمها في وجوه الخير التي يراها هو إذا رأينا أنها ضارة أو رأينا أن الأمة أحوج إلى الصرف في وجوه أخرى - رحم الله حسن باشا عاصم، فقد كان له موقف في ذلك من أبدع المواقف - تبرع محسن ببناء مدرسة، ووقف عليها الأوقاف التي تلزمها، وأتبعها للجمعية الخيرية الإسلامية، وكان حسن عاصم مديراً للمدارس ثم أراد الواقف أن يدخل ابنه في المدرسة، وكانت سنة تزيد على السن المقررة شهوراً، فأبى عليه ذلك وقال: انه تبرع بمدرسة فله الشكر، ووقف عليها أوقافا فله من الله الأجر، ولكنه يريد أن يبطل قوانيننا فليس له في ذلك حق.

قد يكون من المعقول أن نقبل إرادة الواقف في أوقافه الأهلية. أما الخيرية فيجب أن تخضع كل الخضوع لمصلحة الأمة. لا أظن الواقفين إذا بعثوا من قبورهم ورأوا تطورات الأمم إلا مؤيدينا في رأينا وراجعين عن رأيهم. والأمر الثاني وهو متصل بالأول، أن أموال الخير تصرف حسبما اتفق لا خضوعا لدراسة اجتماعية ولا تحريا لوجه الإنفاق ولا للمنفق عليهم، فكيراً ما يحرم البائس المحتاج ويعطى الغني المبذر، وكثرا ما يحرم العائل لا يجد قوته وعياله، ويعطى المدمن ينفقها في كيوفه

ان فوضى الإحسان في الشرق سبب من أسباب شقائه، ولو نظمت لكانت من أكبر العوامل في نهوضه وصلاحه

لا أمل في هذا الإصلاح حتى ينشط رجال الأمة وشبانها للخدمة العامة، وان يمتلئوا عقيدة بضرورة المساهمة في الإحسان بالمال وبالنشاط، وأن يطالبوا مطالبة حارة بتنظيم الإحسان حتى يؤدي غرضه على أكمل وجه مستطاع، إذن لرأينا البؤس في الأمة يتضاءل إلى حد كبير، ويحل محلة كثير من الرخاء، ولرأينا المال - الذي يضيع في الشرق سدى - وقد أصبح دعامة للإصلاح، وسببا من أكبر أسباب النهضة الحديثة.

احمد أمين

ص: 14

‌حوادث النمسا

النمسا الجمهورية في خمسة عشر عاما

للأستاذ محمد عبد الله عنان

- 1 -

في الثاني عشر من فبراير المنصرم اضطرمت النمسا فجأة بضرام حرب أهلية خطيرة، واتجهت أنظار العالم إلى هذا الحدث الأوربي الجديد ترتقب آثاره في سير الشئون الدولية. وكانت المعركة عنيفة هائلة ولكن قصيرة المدى، لأنها لم تطل سوى ثلاثة أيام وكانت حاسمة النتائج والآثار سواء في الموقف الداخلي أو في سير السياسة الأوربية العامة.

ويرجع هذا الفصل السريع الحاسم إلى عزم الرجال الذين يشرفون اليوم على مصاير الجمهورية النمسوية، وعلى رأسهم الدكتور انجلبرت دولفوس المستشار (رئيس الحكومة) الفتي. وقد تولى الدكتور دولفوس الحكم منذ عامين (في أواخر مايو سنة 1932) في ظروف صعبة تزداد كل يوم حرجاً؛ وفوجئ غير بعيد بخطر السياسة العنيفة التي اتخذتها الوطنية الاشتراكية الألمانية أو السياسة الهتلرية إزاء النمسا، ومحاولتها أن تقضي على استقلالها وأن تجعل منها ولاية ألمانية؛ وأنفق العام الماضي كله في قمع الاعتداءات المنظمة التي يدبرها الوطنيون الاشتراكيون (النازي) النمسويون بوحي ألمانيا وإرشادها؛ وأبدى حزماً وشجاعة نادرين في الدفاع عن استقلال النمسا، ومقاومة ضغط السياسة الهتلرية، واستطاع حتى اليوم أن يقضي على كل مشاريعها ومحاولاتها. بيد أن هذا الخطر ما يزال قائماً داهما.

وكان ثمة خطر آخر تواجهه حكومة الدكتور دولفوس وتخشى منه على النظم القائمة وعلى سلام البلاد ذلك هو قوة الديمقراطية الاشتراكية النمسوية وتغلغلها في مرافق البلاد. وكانت الديمقراطية الاشتراكية تؤيد الحكومة في نضالها ضد الخطر الهتلري، ولم يك ثمة خلاف في جبهة السياسة النمسوية من هذه الناحية؛ ولكن المعركة الخالدة بين الجبهة الاشتراكية والجبهة المحافظة كانت تجثم دائماً وراء هذا التفاهم المؤقت على مقاومة الخطر المشترك؛ وتلك هي المعركة التي انفجر بركانها في الثاني عشر من فبراير لأسباب وظروف ما تزال

ص: 15

غامضة. وقد استطاعت الحكومة ومن ورائها القوى المحافظة أن تخرج من هذا الصراع ظافرة، وأن تقضي - مؤقتا عل الأقل - على الديمقراطية الاشتراكية النمسوية. ولكن ماذا سيكون بعد هذا الظفر وبعد اختفاء الديمقراطية الاشتراكية من ميدان كان لها فيه منذ قيام الجمهورية النمسوية أيما شان؟ لقد كانت الديمقراطية الاشتراكية سند حكومة الدكتور دولفوس في نضالها ضد الخطر الهتلري، فالآن وقد حطمت هذه القوة، فان مهمة الدكتور دولفوس تغدو أصعب وأشق. بيد أنه يصعب علينا أن نقول اليوم كلمة حاسمة في نتائج هذه المعركة. وسنحاول في هذا البحث أن نستعرض تاريخ الجمهورية النمسوية منذ قيامها، وأن نشرح العوامل والظروف الداخلية والخارجية التي تقلبت فيها، والقوى السياسية والاجتماعية التي تتجاذبها، والاتجاهات المختلفة التي تسيرها في ميدان السياسة الدولية.

قامت الجمهورية النمسوية في الثاني عشر من نوفمبر سنة 1918، على أنقاض البقية الباقية من إمبراطورية النمسا والمجر القديمة، وكانت إمبراطورية النمسا والمجر تسير قبل ذلك بعامين أو ثلاثة في سبيل الانحلال والتفكك. وكان الإمبراطور الشيخ فرانز يوسف الذي سهر على وحدتها ومصايرها نحو سبعين عاما قد توفى في نوفمبر سنة 1916، والحرب الكبرى في إبان اضطرامها والإمبراطورية القديمة تواجه أخطار الهزيمة والتفكك؛ فخلفه حفيد أخيه الأرشيدوق كارل؛ ولم تمض أشهر قلائل حتى أخذت بوادر الإعياء والهزيمة تبدو قوية على الجيش الإمبراطوري. وأخذت القوميات والأجناس القديمة التي تتألف منها الإمبراطورية أعني المجر والتشك والسلوفاك والبولونيين والصربيين والرومانيين، تتحرك في سبيل التحرر والاستقلال. وفي أكتوبر سنة 1918، أعلنت تشيكوسلوفاكيا نفسها بمؤازرة الحلفاء جمهورية مستقلة برئاسة الدكتور مازاريك؛ وفي نفس الوقت أعلن الصرب والكروات خلع الإمبراطور كارل، ونادوا بأنفسهم مملكة مستقلة هي مملكة الصرب والكروات والسلوفين، أو مملكة يوجوسلافيا وملكها بطرس الأول ملك صربيا. وقامت خلال ذلك ثورة في بودابست، وأعلنت المجر انفصالها عن الإمبراطورية وقيامها دولة حرة مستقلة. وبذلك انتهت إمبراطورية آل هبسبرج القديمة. وفي أوائل نوفمبر ثارت مدينة فينا بدورها وطالبت الجموع بإقامة الحكم الديمقراطي، فلم ير

ص: 16

الإمبراطور كارل سوى التنازل عن عرشه والانسحاب؛ وأعلن قيام الجمهورية النمسوية في 12 نوفمبر؛ واجتمعت في الثالث عشر جمعية وطنية تولت مقاليد الحكم، وانتدبت حكومة مؤقتة على رأسها الدكتور رنر الزعيم الاشتراكي، ودخلت النمسا في طور جديد من تاريخها.

ويقرر الدستور النمسوي الجديد الذي بدئ بتنفيذه في نوفمبر سنة 1920 أن النمسا جمهورية اتحادية تتكون من ثمان ولايات والعاصمة فينا. وهذه الولايات هي النمسا السفلى والنمسا العليا، وسالتسبورج، وستريا، وكارنتيا، والتيرول، وفورا لبرج وبور جنلند. ونظام الحكم نيابي ديمقراطي، قوامه جمعية وطنية هي (الناسيونال رات) وتؤلف بالانتخاب العام، وتتولى التشريع؛ ومجلس الاتحاد (البند سرات) وينتخب من أعضاء المجالس الاتحادية، وسلطاته استشارية فقط، وينص الدستور على إلغاء جميع الامتيازات والألقاب الخاصة وعلى ضمان الحرية الدينية، وعلى المساواة المطلقة في الحقوق والواجبات بين جميع السكان. وللجمهورية رئيس ينتخب لمدة أربعة أعوام ولا يجدد انتخابه أكثر من مرة. ويبلغ سكان النمسا نحو ستة ملايين ونصف

وقد حددت علائق الجمهورية الجديدة بدول الحلفاء، ومركزها الدولي بمعاهدة سان جرمان التي عقدت في سبتمبر سنة 1919. وكانت النمسا تريد يومئذ بعد أن فصلت عن باقي أجزاء الإمبراطورية القديمة أن تنضم إلى ألمانيا؛ ولكن الحلفاء عارضوا في ذلك أشد المعارضة. ونصت المعاهدة على اقتطاع جزء من التيرول النمسوي وضمه إلى إيطاليا، وعلى اقتطاع بوهيميا الألمانية وضمها إلى تشيكوسلوفاكيا ونصت على تنازل النمسا عن جميع حقوقها في مصر ومراكش والصين؛ وحددت عدد الجيش النمسوي بثلاثين ألفا ووضعت قيودا شديدة على التسليح الجوي؛ ونصت على حماية الأقليات، وعلى إلزام النمسا بنصيب من تعويضات الحرب.

بدأت النمسا حياتها الجديدة في غمار من الصعاب، وكانت النظم الاجتماعية والاقتصادية القديمة قد انهارت وساد الانحلال واليأس جميع الطبقات والأفراد، فكان على النمسا الجمهورية أن تخلق لنفسها حياة اجتماعية واقتصادية جديدة، وأن تبرز من أنقاض الماضي المجيد إلى ميدان الكفاح الشاق. وكانت الكتلة الديموقراطية الاشتراكية هي صاحبة الكلمة

ص: 17

في توجيه مصاير النمسا الجديدة، فهي التي تولت الحكم على أثر انهيار الإمبراطورية وهي التي عقدت معاهدة الصلح، وكانت أغلبية في الجمعية الوطنية التي وضعت الدستور (سنة 1919) حيث بلغ عدد النواب الديموقراطيين الاشتراكيين 70 والاشتراكيين المسيحيين 64 والوطنيين الألمان وحزب الفلاحين، وغيرهما 30؛ وقد كان هذان الحزبان القويان القديمان، أعني الديموقراطيين الاشتراكيين، والاشتراكيين المسيحيين، هما اللذان يتنازعان الحكم والسلطان في الجمهورية الجديدة، والحزب الأول يمثل طبقات العمال وأصحاب المهن والحرف وله مثل اشتراكية قوية. والحزب الثاني يمثل أصحاب الأملاك والأموال والفلاحين، ذوي المبادئ والآراء المحافظة، وتغلب عليه نزعة دينية قوية. وقد لبث تيار الديموقراطية الاشتراكية غالبا زهاء عامين، وتولى زعيمها الدكتور رنر رآسة أول حكومة جمهورية في سنة 1918، ولما أجريت الانتخابات العامة للمرة الثانية خرج الديموقراطيون الاشتراكيون بأغلبية جديدة حيث بلغت كراسيهم ثمانين مقابل 61 كرسيا للاشتراكيين المسيحيين وعاد الدكتور رنر فتولى رئاسة الحكم على قاعدة الائتلاف مع الاشتراكيين المسيحيين. وكان الائتلاف يومئذ ضرورة تمليها الظروف العصيبة التي تجتازها النمسا، وكان في كثير من الأحيان ضرورة دستورية أيضا، لأن الأغلبية الحاسمة لم تكن لأحد الحزبين وكان العمل التشريعي يتطلب التفاهم والمهادنة. وفقدت الديمقراطية أغلبيتها سنة 1920، وتولى الاشتراكيون المسيحيون الحكم على يد زعيمهم المونسنيور أجناس سيبل، وهو حبر وعلامة في القانون الدولي، ولكن الديموقراطيين الاشتراكيين لبثوا أقلية قوية تناهض الأغلبية وتملي عليها إرادتها في كثير من الأحيان. وكان اكتساح الحزبين القويين للميدان الانتخابي على هذا النحو يحرم الطبقات الوسطى من أن تمثل تمثيلا قويا، ويجعل ميدان النفوذ والكفاح قاصرا على معسكرين يمثل كل منهما ناحية متطرفة من المثل والمبادئ، بيد أن الطبقة الوسطى كانت أكثر ميلا إلى ناحية الديموقراطية منها إلى الناحية الأخرى.

وأنفقت الجمهورية النمسوية أعوامها الأول في معالجة المشاكل التي خلقتها الحرب وفروض الصلح، وشغلت حينا بمسألة النقد وتدهوره. وكان المونسنيور سيبل رجل الموقف، فاستطاع بكثير من البراعة والجلد أن يعالج مشكلة النقد بالالتجاء إلى عصبة

ص: 18

الأمم، واستقر النقد النمسوي منذ سنة 1923، وأخذت النمسا تسير في طريق الانتعاش الاقتصادي، وعولجت عدة مشاكل اقتصادية واجتماعية مثل: مسألة الأجور وتنظيمها، ومسألة المساكن وحماية المستأجرين، ومسألة التأمينات والمعاشات، والتشريع العملي والاجتماعي. وبذل المونسنيور سيبل لتنظيم النمسا الجديدة جهودا تخلق بالإعجاب. وكان يعتمد في سياسته أثناء هذه الأعوام على جبهة موحدة من حزبه، أعني الاشتراكيين المسيحيين والأحزاب الصغيرة الأخرى، ولكن الديموقراطيين الاشتراكيين كان لهم دائما في سير الشئون نفوذ قوي، بل كان هو الغالب في معظم الأحيان، وكانت جهودهم خلال هذه الأعوام تتجه إلى تقوية حقوق الطبقات العاملة وتوطيدها، وإلى مقاومة أصحاب الأموال والصناعات الكبرى والكتلة المحافظة من الملاك ورجال الدين. وكانت أهم المسائل السياسية التي واجهتها الجمهورية خلال هذه الفترة مسألتان: الأولى، مسألة التيرول الجنوبية، والثانية مسألة الاتحاد مع ألمانيا (الانشلوس)، فأما الأولى فترجع إلى أن معاهدة سان جرمان قضيت بفصل قسم كبير من أراضي التيرول الجنوبية عن النمسا وضمها إلى إيطاليا، وفيها نحو مائتي ألف نمسوي. وعبثا حاولت النمسا أثناء مفاوضات الصلح أن تقنع الحلفاء بتعديل هذا النص والإبقاء على حدود النمسا الطبيعية. وقد ازدادت هذه المسألة أهمية وخطورة حينما اشتدت وطأة النظم الفاشستية على أهل التيرول وأخذ السنيور موسوليني في حرمانهم شيئا فشيئا من أخص حقوقهم القومية والجنسية، وفرض عليهم اللغة الإيطالية في المدارس والكنيسة ولم يدخر وسيلة لسلخهم عن الكتلة الجرمانية وإدماجهم في الكتلة الإيطالية. عندئذ حاولت النمسا أن ترفع صوتها بالاحتجاج على هذه السياسة، وقامت الصحف النمسوية والألمانية عامة بحملة شديدة على ما تنزله الفاشستية بأهل التيرول من ضروب الظلم والإرغام؛ ولوح الرجال المسئولون في النمسا وألمانيا بإمكان طرح المسألة على عصبة الأمم تطبيقا لما تنص عليه معاهدات الصلح المختلفة من حماية الأقليات القومية. ولكن السنيور موسوليني أنكر هذه التهم، وسخر من تدخل العصبة ونوه بما تسبغه الحكومة الإيطالية على رعاياها الجدد من ضروب الرعاية والمعاونة، وأكد أن التيرول الجنوبية ضرورية لسلامة إيطاليا، وأن إيطاليا لن تنزل عنها قيد ذرة. وانتقد الشعب النمسوي موقف المونسنيور سيبل في هذه المسألة ورماه بالتردد والضعف، ولكن

ص: 19

سيبل لم ير سبيلا للعمل الإيجابي إزاء وعيد موسوليني: ولم تستطع النمسا أن تحمل إيطاليا على تغير شيء من سياستها وخططها في التيرول، ولبثت المسالة مثاراً لسوء التفاهم بين البلدين مدى حين، وما زالت على حالها لم يتخذ بشأنها أي إجراء لإنصاف أهل التيرول.

وأما المسألة الثانية وهي مسألة اتحاد النمسا مع ألمانيا فقد لبثت مدى أعوام ظاهرة بارزة في السياسة النمسوية. وهي أمنية قديمة لدعاة الجامعة الجرمانية ترجع إلى أواخر القرن الماضي، وكانت قبل الحرب من غايات السياسة الألمانية، ولكنها لم تتخذ في النمسا الإمبراطورية أية أهمية، ولم يكن لها سوى أنصار قلائل بين شبيبة هذا العصر، فلما انتهت الحرب بانهيار الإمبراطورية القديمة وتمزيقها، وفصلت النمسا عن باقي وحداتها وشعرت النمسابمخاطر ضعفها وعزلتها عن باقي الكتلة الجرمانية، ورأت في اتحادها مع ألمانيا شقيقتها الكبرى خير سبيل لضمان مستقبلها السياسي والاقتصادي وأعربت النمسا فعلا عن هذه الأمنية لدول الحلفاء على يد مندوبيها في مؤتمر الصلح تطبيقا لمبدأ الرئيس ولسون في حرية تقرير المصير، ولكن الحلفاء عارضوا في تلك الخطوة أشد المعارضة كما قدمنا، لأن اتحاد الأمتين الجرمانيتين على هذا النحو يقوي ساعد الكتلة الجرمانية في أواسط أوربا، ويجعلها اشد خطراً وأبعد نفوذاً، ولما بدأت النمسا الجمهورية حياتها الجديدة، وآنست كل ما يعترضها من الصعاب السياسية والاقتصادية المترتبة على فصلها وعزلتها وتمزيق معاملاتها وعلائقها القديمة، عادت فكرة الاتحاد مع ألمانيا تبدو لها كعلاج ناجع، وكان الفريق المتطرف من أنصار الفكرة يرى أن يكون هذا الاتحاد تاما من جميع الوجوه السياسية والاقتصادية أو بعبارة أخرى يكون نوعا من الاندماج العام، ويرى الفريق المعتدل أن يكون هذا الاتحاد اقتصاديا قبل كل شيء يقرن بتوحيد الخطط السياسية العامة، ولكن تبقى النمسا محتفظة بشخصيتها واستقلالها الداخلي. بيد أن الفكرة كانت تلقى على وجه العموم تأييداً كبيراً من الشعب النمسوي، وكان أنصار الجامعة الجرمانية في البلدين يروجون لها بالدعاية الواسعة، وكانت تقام من أجلها المظاهرات في العاصمة النمسوية من آن لآخر، وتشجعها الحكومات النمسوية المختلفة. وكانت الديموقراطية الاشتراكية مع ذلك تشك في قيمة هذا الاتحاد وتخشى منه على مستقبلها وحقوقها إذا ما انتهى بالقضاء على

ص: 20

استقلال النمسا بيد أنها لم تعارضه بطريقة إيجابية، وكانت تؤيد جانبه الاقتصادي على الأقل، خصوصا وقد كانت الديموقراطية الاشتراكية الألمانية يومئذ صاحبة النفوذ والسلطان في ألمانيا. واتخذت أول خطوة عملية لتحقيق مشروع هذا الاتحاد في سنة 1931 حيث عقدت النمسا مع ألمانيا اتحاد اقتصاديا جمركيا، وكان المفهوم أنه أول مرحلة فقط، ولكن دول الحلفاء، ودول الاتفاق الصغير، احتجت كلها على هذا الاتحاد بمنتهى الشدة. وانتهى الأمر بسحبه وإلغائه، وأدركت النمسا مرة أخرى أنه لن يسمح لها بالاندماج في الجامعة الجرمانية الكبرى.

وكانت فكرة الاتحاد النمسوي الألماني ما تزال قوية في النمسا حينما تولى الوطنيون الاشتراكيون الحكم في ألمانيا في يناير سنة 1933 وأخذوا يعملون لتحقيق برنامجهم، والمعروف أن العمل على تحقيق وحدة الشعوب الجرمانية في مقدمة المبادئ التي يحتويها برنامج الهرهتلر، وليس من ريب في أن ضم النمسا لألمانيا هو أهم عناصر هذا المشروع، وكان المفهوم أن ظفر الوطنية الاشتراكية بالحكم في ألمانيا يقرب أمد هذه الغاية، ولكن سرعان ما ظهرت الوطنية الاشتراكية الألمانية في ثوبها الحقيقي، مسرفة في العنف والطغيان وسرعان ما أخذت الحكومة الهتلرية تتدخل في شئون النمسا وتعاملها بخشونة وغلظة كأنها ولاية تابعة لألمانيا. وهنا أدرك الشعب النمسوي حقيقة لم يقدرها في البداية حق قدرها، وهو أن أنصار الجامعة الجرمانية لا يفهمون من الاتحاد إلا أنه قضاء على كيان النمسا كأمة مستقلة أو بعبارة أخرى ضم النمسا لألمانيا كولاية ألمانية. وشهد الشعب النمسوي في دهشة وسخط كيف تتجنى ألمانيا الوطنية الاشتراكية على النمسا، وكيف يحاول الدعاة الهتلريون أن يضرموا في النمسا نار الحرب الأهلية لكي تقضي على وجودها، وشهدت الديموقراطية النمسوية من جهة أخرى كيف قضى الهتلريون على الديموقراطية الألمانية في غمر من العنف المثير: عندئذ انهارت في الحال فكرة (الاتحاد)(الأنشلوس)، وظهرت للشعب النمسوي في روعة خطرها وخطئها، وقضت حكومة الدكتور دولفوس ومن ورائها سواد الشعب ترد عدوان ألمانيا الهتلرية، وتعمل لحماية الاستقلال النمسوي بكل ما وسعت من جهود.

للبحث بقية

ص: 21

محمد عبد الله عنان

-

ص: 22

‌حجر رشيد والقلم الهيرغليفي

للاستاذ عبد الفتاح الزيادي مدرس التاريخ والجغرافية بدار العلوم

تعإلى الله كان السحر فيهم

أليسوا للحجارة منطقينا

(شوقي)

إن هذا الحجر وثيقة تاريخية خطيرة أدت إلى فك رموز الكتابة الهيرغليفية (المقدسة) ففتحت ما غلق من تلك المدينة المصرية القديمة التي ترعرعت على ضفاف النيل ودنت قطوفها حتى عمت جهات البحر الأبيض الشرقية.

قد هذا الحجر من صخر البازلت، وهو نوع من الحجارة البلوتونية السوداء المعروفة بصلابتها، وهو يرى الآن قائما في الطرف الجنوبي من غرفة الآثار المصرية بالمتحف البريطاني. أطلق عليه المؤرخون هذا الاسم بعد العثور عليه في مكان قريب من مصب النيل الغربي بالقرب من موضع رشيد. وقد قرر بعض المؤرخين انه كان ملقى على الأرض وقت أن عثر عليه، وقرر آخرون انه وجد مبنيا داخل جدار قديم كان نابليون قد أمر ثلة من جنوده بهدمه ليعزز ذلك الحصن الذي عرف بعد ذلك باسم حصن (القديس جوليان)

أما الذي عثر عليه فهو الضابط (بوسار) من فرقة المهندسين الذين رافقوا نابليون في حملته على مصر في أغسطس سنة 1799 ورقي عقب ذلك إلى رتبة جنرال (قائد)

لما لاحظ (بوسار) ما على وجه الحجر الأملس من الخطوط والنقوش الغريبة أيقن إنها لابد أن تكون خطوطا من قلم خاص، وسرعان ما كاشف رئيسه الجنرال (منو) بما لاحظه، فأمره هذا بنقل الحجر إلى منزله بالإسكندرية، فنفذ بوسار الأمر وظل الحجر زمنا في بيت (منو) لا يعلم أحد من أمره شيئا حتى ادعى (منو) ملكيته واعتبره جزءا من متاعه الخاص

ولما علم نابليون بما كان من أمر هذا الحجر أصدر أمره للجنرال (منو) بنقله إلى القاهرة فصدع منو بالأمر، ونقل الحجر إلى (المعهد الوطني) الذي أسسه نابليون في المدينة، وما ذاع خبر نقله حتى تهافت عليه جمهور العلماء المرافقين لنابلون فأثار دهشتهم، وأصبح منذ ذلك الحين موضع اهتمامهم واهتمام العاهل العظيم الذي رأى ضرورة فك طلاسم ما عليه من النقوش. أمر نابليون بأن تطبع من تلك الرسوم نسخ توزع على طوائف العلماء في

ص: 23

أوربا، واستقدم لهذا الغرض اثنين من مهرة الطباعين في فرنسا، وهما مارسل وجالان. أما الطريقة التي اتبعاها في نقل النقوش فهي تتلخص في أنهما نشرا على وجه الحجر مداد خاصا. ووضعا أدراج الورق فوق الحجر ضاغطين عليه بمضغط من مطاط حتى انطبعت الرسوم واضحة، ثم وزعت النسخ المطبوعة على علماء العاديات الشرقية في أوربا تنفيذاً لأمر نابليون، وقد اختص (المعهد الوطني بباريس) بنسختين وضعتا موضع بحث وتنقيب قام به العلامة (دوتيل)

وصول الحجر إلى إنجلترا

بعد أن أحرز (السير رالف ابركرمبي) الإنجليزي النصر في مصر بهزيمته الجنود الفرنسية سنة 1801 أبرمت معاهدة بين الإنجليز والفرنسيين تنص المادة السادسة عشرة منها على أن يسلم الفرنسيون حجر رشيد مع آثار مصرية أخرى عظيمة الخطر كانت في حوزتهم إلى الجنرال هاتشنسون في أواخر أغسطس من هذه السنة عينها، وتنفيذا لهذه المعاهدة شرع هاتشنسون يتسلم الآثار المصرية بدون كبير معارضة ويرسلها إلى إنجلترا. ولما حان تسليم حجر رشيد إليه لاقى صعوبات جمة، إذ أن الفرنسيين كانوا قد أسرعوا عقب هزيمتهم إلى نقل هذا الحجر إلى الإسكندرية وأخفوه في منزل الجنرال منو مدة من الزمن بعيدا عن أعين الرقباء، فلم يقف هاتشنسون له على أثر، إلا أنه في سبتمبر سنة 1801 عادت إنجلترا إلى طلبه على يد الماجور جنرال تيرنر تنفيذاً لشروط المعاهدة المذكورة، ملحة في ضرورة تسليمه، فلم ير الفرنسيون بدا من التنازل عنه والأسف يملأ قلوبهم وأبحر به تيرنر على الباخرة (الأجبسين) ووصل بورتسموث في فبراير سنة 1802. وفي 11 مارس أودع الحجر إحدى غرف جمعية الآثار بلندرة، وبقي فيها بضعة شهور فحص في أثنائها جماعة من علماء المشرق، وعلماء الإغريق ما عليه من النقش، وفي يوليه أمر رئيس الجمعية بصنع أربعة نماذج من الجبس على مثاله لجامعات أكسفورد وكمبردج وأدلبره ودبلن وطبع نسخاً من هذه النقوش وأرسلاها إلى جامعات أوربا ومكتباتها الشهيرة ومجامعها العلمية. وفي أواخر هذه السنة نقل الحجر من غرفة جمعية الآثار إلى المتحف البريطاني حيث نصب وعرض للجمهور لمشاهدته بين بقية التحف الأخرى.

ص: 24

وصف الحجر

إن حجر رشيد كما كشف قطعة غير منتظمة من صخر البازلت يبلغ طوله نحو ثلاثة أقدام وتسع بوصات، ولا يتجاوز عرضه قدمين وأربع بوصات. أما سمكه فلا يزيد على إحدى عشرة بوصة. وليس في الإمكان تحديد الجزء الناقص منه تماماً، إلا أنه من الهين أن نحكم أنه كان أطول مما هو الآن بنحو اثنتي عشرة بوصة، ويغلب على الظن أن الطرف العلوي منه كان مقوسا. وواجهة الجزء المقوس كانت محلاة بنقوش تحوي صورة القرص ذي الأجنحة لهوروس اله أدفو. وفي أسفل القرص ذي الأجنحة كنت ترى صورة الملك واقفا مع الملكة في حضرة جمع من الآلهة. وليس من الصعب أن نتصور أن هذا الحجر وهو منصوب في المعبد بجانب تمثال الملك الذي صنع تخليداً لذكراه كان من أبرز الآثار وآخذها بالألباب وأكثرها استرعاء للنظر.

أما النقوش على الحجر فقد كانت مرسومة بلغتين مختلفتين المصرية والإغريقية. وكان يعبر عن اللغة المصرية بنوعين من الكتابة: أولهما الهيرغليفي وهو القلم العتيق المستعمل منذ عهد الأسرات الأولى في تدوين كتاب الموتى والمراسيم المختلفة. وثانيهما الديموطيقي أي القلم العامي وهو المحرف عن القلم الهيراطيقي الذي كان مستعملا في نشر الأعمال الأدبية من تأليف وغيره.

وقد بطل استعمال الخط الهيرغليفي والديموطيقي عندما دخلت الديانة النصرانية في البلاد المصرية، وحلت محلهما حروف الهجاء القبطية المركبة من ألف باء اليونانية، ومن ستة حروف توافق بعض أصوات مصرية، وليس في اليونانية ما يعبر به عنها

أما الكتابة الإغريقية المنقوشة على صفحة الحجر فقد كانت عادية ومماثلة لما تحويه المخطوطات اليونانية القديمة. ويلاحظ أن القسم الهيرغليفي على الحجر مكون من أربعة عشر سطرا فقط على حين إن ما يقابله من الإغريقي مكون من ثمانية وعشرين سطر بينما يتألف الديموطيقي من اثنين وثلاثين سطرا

مجهودات العلماء في فك رموز حجر رشيد

أثارت النقوش التي على الحجر حركة عنيفة من الترجمة والبحث بين العلماء، وكان

ص: 25

ستيفن وستن أول من وضع ترجمة القسم اليوناني ثم ألقى هذه الترجمة أمام جمعية العاديات بلندرة سنة 1812. وقام دوتي بنقل هذا الجزء إلى الفرنسية فإذا به شكر وتمجيد مرفوعان من كهنة الإسكندرية إلى بطليموس ابيفانس

وقام بدراسة الرموز الديموطيقية العالمان الشهيران سلفستردي ساسي وأكربلاد السويدي، ونجح هذا في توضيح ما يرادف بالديموطيقية أسماء الاسكندر والإسكندرية وبطليموس واسيس وأسماء الأعلام الأخرى، ورتب حروف هجاء مستعملة في القلم الديموطيقي مازال العلماء يعولون على معظمها، وأكثرها موافق للصحة والضبط. وقد وجه هذان العالمان اهتماما خاصا بالخانات الملوكية وأوضحا ما يقابل ذلك في الهيرغليفية

وفي سنة 1818 كتب الدكتور توماس ينج في دائرة المعارف البريطانية عن نتائج دراسته الشخصية في فك رموز الحجر، ونشر جريدة (قائمة) تحوي كثيراً من الحروف والمقاطع الهيرغليفية. ويعتبر الدكتور ينج بحق أول من أدرك فكرة القاعدة الصوتية في قراءة الهيرغليفية وطبق هذه القاعدة على حله بعض الرموز.

ظلت أبجدية ينج رهن التحول والتغير إلى أن ظهر العلامة شامبليون، وهو من أبرز العلماء في جمع طلاسم القلم الهيرغليفي اشتغل منذ نشأته بدراسة اللغات الشرقية، واستوعب بنوع خاص آداب اللغة القبطية من الكبت الدينية والأناشيد الكنسية التي نشرها أقباط مصر أتباع القديس سان مارك بالإسكندرية، وقد استطاع شامبليون بمعونة اللغة القبطية أن يدرك القيمة الصوتية لكثير من العلامات المقطعية.

وفي سنة 1822 نشر جريدة (قائمة) بالحروف والمقاطع الهيرغليفية، وأصلح بهذا بعض الأخطاء التي وردت في جريدة ينج، وقد شفع هذه الجريدة ببيان قواعد النحو عند المصريين الأقدمين فكان شامبليون أول من أدرك أن الهيرغليفي يحوي علامات تدل على أفكار ومعان مستقلة بالفهم يمكن التلفظ بها. وقد ضمن أول نتيجة ظهرت من أعماله في رسالة بعث بها إلى المسيو داسيه السكرتير الدائم في جمعية النقوش والآداب، وطبعت هذه الرسالة وقابلها الناس أولا بشيء من الاستنكار، ولكنه أزال الشك عندما نشر كتابه خلاصة قواعد الكتابة الهيرغليفية موضحا في هذا الكتاب أن الصيغ النحوية في الهيرغليفية توافق المصطلح عليها في اللسان القبطي. بهذا المجهود الجبار أصبح من السهل ترجمة الخطوط

ص: 26

وقراءتها فلا نكون مبالغين إذا قررنا أن شامبليون هو الذي وقف على كنه أسرار الهيرغليفية وفتح الباب على مصراعيه للباحثين بعده:

ماذا على حجر الرشيد؟

إن المسطر على حجر رشيد هو صورة من القرار الذي أصدره مجلس الكهنة المصريين المجتمعين في ممفيس للاحتفال بإحياء الذكرى الأولى لتتويج بطليموس ابيفانس ملك مصر في ربيع سنة 196 ق. م. والصورة الأصلية للقرار كانت بالقلم الديموطيقي. أما الهيرغليفي واليوناني فكلاهما مترجم عن هذا الأصل. وتاريخ القرار هو اليوم. الرابع من الشهر الإغريقي (أبريل) وهو الموافق لليوم الثامن عشر من الشهر القبطي أمشير، ويتألف هذا القرار من فقرتين تحوي الفقرة الأولى ألقاب بطليموس الخامس، وتنوه بما يتحلى به الملك من الورع والتقوى وخشية الآلهة وحبه لمصر والمصرين - أما الفقرة الثانية فهي تعداد للنعم التي اسبغها الملك على البلاد وما أسداه للدين من خدمات. ويمكن تلخيص هذه النعم فيما يأتي:

1 -

هبات مالية وعطايا من قمح للمعابد والهياكل - 2 - حبس أموال على المعابد والأعمال الدينية - 3 - نقص الضرائب الحكومية إلى النصف - 4 - التنازل عن بعض الديون التي للحكومة على الأهلين - 5 - إطلاق سراح المسجونين الذين قضوا معظم المدة في السجون - 6 - العفو عن العصاة والسماح لهم بالعودة للبلاد والإقامة فيها - 7 - ضرورة إرسال سرية عسكرية برا وبحرا ضد أعداء البلاد - 8 - محاصرة بلدة ليكوبوليس وفتحها - 9 - تجديد هياكل العجل ابيس ومعابده والحيوانات المقدسة الأخرى ووقف أموال عليها.

واعترافاً بهذه المبرات التي أسداها الملك بطليموس الخامس قد قرر المجلس العام للقساوسة تخليد ذكرى الملك والإكثار من إقامة حفلات الذكرى، وتتلخص قراراته فيما يأتي:

1 -

صنع تماثيل لبطليومس بوصفه (منقذ مصر) تنصب في المعابد ليقوم الكهنة والناس بعباداتها.

2 -

صنع صورة ذهبية لبطليموس تحفظ في صناديق ذهبية توضع جنباً لجنب مع توابيت الآلهة وتحمل في المواكب والاحتفالات معها. 3 - أن تكون الأيام الخمسة الأولى

ص: 27

من شهر توت أعياداً متصلة تقدم فيها القرابين ويلبس الناس فيها أكاليل الغار. 4 - إضافة هذا اللقب الجديد إلى ألقاب الكهنة (كهنة الإله المحسن الوهاب بطليموس ابيفانس الذي ظهر على الأرض) ونقش هذه العبارة على خاتم كل كاهن وتسجل في كل وثيقة دينية. 5 - للجنود أن يستعيروا من المعابد الصناديق التي تحوي صور بطليموس ويحملوها معهم إلى ميادين الحرب تبركا بها. 6 - كتابة صورة من القرار على حجارة من بازلت بلغة الآلهة (الهيرغليفية) وبلغة الأدب (الديموطيقية)، وكذا باليوناينة ويكون من بينها حجر كبير يقام في الهيكل الأعظم جنباً لجنب من تمثال بطليموس (الإله المخلد في المعابد).

عبد الفتاح الزيادي

ص: 28

‌رسالة الشعر

ليس الشعر صنعة يمكن كل إنسان احترافها، ولا أداة يستطيع كل

شخص امتلاكها، وإنما هو رسالة يلهمها الشاعر، فإذا هو قد تبدل من

نفسه نفسا أخرى، تنظر إلى العالم نظرة جديدة، تغير قيم الأشياء في

رأيه، وتعدل أقدارها، نظرته لا تقف عند القشور، ولا تنحجز عند

اللفائف، وإنما تنفذ إلى اللباب، وتتغلغل إلى صميم الجوهر، وما تزال

هذه النظرة ترقى بإحساسه وتسمو بقلبه، حتى ترفع له الحجب عن

الجمال الهاجع في الكون، وتكشف له الأستار عن سحره البديع وسره

العجيب، فيخر ساجدا أمام عرشه مفتونا بحسنه، مأخوذا بروعته، وما

هي إلا عشية أو ضحاها حتى يحس بشعور غامض غريب، وحال

نفسية شاذة، لا يزالان يتضخمان في نفسه، ويتبلجان في قلبه، حتى

ينحسرا عن رسالة شاقة ممتعة معاً، هي رسالة الجمال، فيترجح بين

سترها ونشرها، ويتردد بين إخفائها وإعلانها. بيد أن رسل الوحي لا

تمهله ولا تتركه، بل تتبعه وتقلقه، وما تزال به حتى يذعن إلى تلبيتها،

ويستجيب إلى دعوتها، فيتناول قيثارته السحرية، ويوقع للناس عليها

أفكاره الغنائية اللذيذة، ويرتل عليها أناشيده العذبة الجميلة، محاولا بكل

جهده أن يطلعهم على هذه المعاني الموسيقية التي هي لباب كل شيء

في هذا الكون، وصميم كل موجود في هذا العالم، وكل ما سواها إنما

هو قشور وأغلفة، فان جمال الطبيعة ونظام الكون إنما يتألفان من

شيء يشبه النغمات الموسيقية وما بينها من ائتلاف وانسجام، ووحدة

ووئام، بل هو النغمات الموسيقية نفسها وما تحمل من رنة وجمال، وما

ص: 29

تغشى من حسن وجلال. ولقد اهتدى أحد فلاسفة اليونان القدماء

ببصيرته النافذة إلى معرفة هذا السر الموجود في كل كائن فقال: إن

للأفلاك موسيقى تنظم حركتها ودورانها، وتحفظ توازنها وبقاءها،

وأكبر ظني أن اليونان شعروا منذ القدم بهذا الحقيقة الجميلة، وربما

كان هذا الشعور هو السبب في نبوغهم في فن الشعر، وتفوقهم على

العالم فيه، فقد نظروا إلى الطبيعة نظرة جمة الضياء، غزيرة الشعاع،

فتبينوا باطنها وكشفوا داخلها، وعرفوا أن الموسيقى هي قلبها بل هي

جمالها وجلالها، فأخذوا يقتربون منها، يحاولون أن يعرفوا أسرارها

ويمثلوا نغماتها، فكانت هذه المثل العليا في فن الشعر التي لا يزال

شعراء العالم يحتذونها حتى الآن.

والمعاني الموسيقية التي يغنيها الشاعر لا ينقلها إلينا من الطبيعة نقلا وإنما يمزجها بقلبه، ويخلطها بدمه، ثم يقدمها إلينا فتؤثر فينا تأثيراً جميلا، لأنها تصدر عن القلب، وكل ما يصدر عن القلب يؤثر في القلب، ولكن جماعة من النقاد زعمت أن الشاعر لا يرينا شيئاً أكثر من الواقع الخارجي نفسه، وكل ما يملك تلقاءه إنما ينحصر في كشف حقائقه، وكأنهم أبوا إلا إن يفسروا كل شيء في الوجود تفسيراً ماديا فأنكروا الخيال وأنكروا المثال، وما عرفوا أن في الوجود شيئاً آخر ليس حقيقة مقيدة، ولا مادة محسوسة، وإنما هو نور يشع على وجه الطبيعة، فيشرق على قلوب الشعراء، ويختلط بما فيها من نعمة وبؤس، وشقاء وسعادة، وبكاء وفرح، ويمتزج بما يسري في روعهم من خطرات وأفكار وخوالج وآراء، فإذا هو نغم مزيج من الإنسان والطبيعية، وغناء خليط من قلبه وقلبها، بل من خياله وجمالها.

وقد يكون من الجحود أن نقول إن الشعر من الأعمال الموضوعية التي لا يتبين لصاحبها فيها أثر، والتي يقتصر فيها على إبداء الملحوظات وذكر التنبيهات، فان الشعر ذاتيا أكثر

ص: 30

منه موضوعيا وداخليا أكثر منه خارجيا، وهو يعني بتقديم شخصية صاحبة قبل عنايته بتقديم الموضوع الذي يحاول الكلام فيه، وما التصويرات والأفكار الشعرية إلا الواقع كما نحلم به ونتخيله، لا كما نراه ونشهده، ولو كانت مهمة الشعر هي نقل ما في الطبيعة لكان تكراراً قليل القيمة، ولو كانت هي فكرته عن الجماللكان أقل قيمة وأدنى درجة، وإنما تتركز مهمته السامية في أنه الحلقة الربطة بين الطبيعة في أجمل مظاهرها وأسمى معانيها وبين روح الإنسان، وإذن فالشعر لا يبتغي نقل حقائق الأشياء ولا إظهار جانب الحق وتزيف الباطل منها، فان لذلك لساناً خاصاً يقوم به. ونحن لا ننكر أن الشاعر يحب الحقيقة فان الحقيقة في ذاتها محببة إلى كل نفس ولها سلطان على القلوب لا يمكن أحد أن يجحده، ولكنا نقول إننا لا نريد من الشاعر بيان الحقائق، وإنما نريد منه تحديثنا عن الجمال المستتر في الكون، وتمثيل الموسيقى التي تؤلف بين أجزائه ووحداته، وينبغي أن ننبه إلى أن الشاعر يعرف الحقيقة معرفة أخرى غير المعرفة التي يعرفها الرياضي والرجل العادي، وكأني بالشعر ينظر إلى الأشياء من جهة خاصة به، وينظر إليها العلم من جهة ثانية، والدين ينظر إليها من جهة ثالثة، وقد ينظر إليها الشعور العام من جهة رابعة، أما هؤلاء الذين ينطقون عجبا قائلين أي حق هذا بينما يقرأون شعر الشاعر إنما هم لا يعرفون كيف يستفيدون من الفن الاستفادة الصحيحة، ولا ينتفعون بها الانتفاع الواجب وهم يضيعون أوقاتهم من حيث لا يشعرون، وإلا لو كان الأمر كما يظنون لانقلب الشعر إلى صور من الحجج والبراهين

على أن الحقيقة الواحد ة قد تتبدل من حين لآخر أمام الشاعر الواحد، ويتبين هذا من أننا نلاحظ إن الشاعر المحب إذا كان مسروراً بش للطبيعة وبش للسماء، وتخيل كأن كل شيء يحدثه ويضاحكه فالريح تسر إليه باسم حبيبته، والنجوم ترنو إليهبعين الحنان والعطف، وكل شيء في الطبيعية يداعبه ويفاكهه، أما إذا كان مخزوناً فان هذه الحقائق والأخيلة تتغير في رأيه، وتختلف في نفسه فالريح تسخر من تأوهاته، والنجوم القاسية تنظر إليه من غير تقدير ولا عناية، وكل شيء حوله مغاضب له ساخط عليه

قد يقول قائل إن الشعر يقوي ويوضح الاحساسات ويوسع الخيال، ونحن نوافق على ذلك ونزيد أن الشعر قد يعمل على تنظيم ما يضطرب في عقول الآخرين، وانه قد يوقظ العقل

ص: 31

ويوسعه بترقية الاحساسات وكثرة الأفكار التي يلقيها إليه، ولكننا ننكر أن هذه هي غايته السامية، فليست رسالة الشعر هي التثقيف كما قال هورس، فللتثقيف أداة خاصة به والشعر لا يزاحمه فيها، وما جاء من ذلك إنما آتى عن طريق غير مباشر في عرض الرسالة وأدائها، ولعل أعظم برهان على ذلك أننا لا نسمع لشعر الشاعر، ولا لغنائه لأنه أكثر تفكيراً، ولكن لأنه أكثر حساسية وأوفر شعوراً، والذين يفهمون الشعر على أنه فلسفة أو أخلاق أو يحاولون فهمه على هذا الأساس، إنما هم مخطئون في معرفة رسالته، فالشعر لم يرسل ليكون لسانا للفلسفة، ولا أداة للأخلاق، وأما هذه الأفكار التي قد نعثر بها عند بعض الشعراء فنظنها فلسفة أو أخلاقا، فهي ليست من هذا الطراز الذي نعهده عند الفلاسفة، ولا من المبادئ التي نعرفها عند الأخلاقيين، وفهمها على هذا النحو خطأ من أساسه، ونسيان لرسالة الشعر وغايته.

والشعر لا يخضع لقانون خاص كقوانين العلم، ولا أصول ثابتة كأصول الدين، وإنما يحتاج إلى قوة التأثير التي تربط بينه وبين قلوبنا وتصل بينه وبين أفكارنا، وذلك لأنه صلة بين صاحبه وبين قارئيه، وبمقدار تلك الصلة من القوة والضعف تكون منزلته العلو والإسفاف وقد نستطيع أن نقول إن التأثير هو كل شيء في الشعر، وهو سر خلوده، وسبب بقائه على وجه الدهر، وما الشاعر العظيم إلا الذي يشعر الأشياء التي تلمس قلوب الناس وتؤثر فيها تأثيراً عميقاً، ولقد كان قلب شاكسبير - كما يقول الإنجليز - كأنه مخلوق من قلب الإنسانية ذاتها، لأنه كان يتحدث فيلم بخطرات القلوب وخلجات النفوس، ولقد كان لسانه - كما يقولون أيضا - كأنه يحفظ كل الكلام الأنساني، لأنه كان يعبر فيحسن التعبير ويؤثر فيجيد التأثير

وإنه من الحق هنا أن نذكر أن معظم شعرائنا لا يتناولون بشعرهم ما يتصل بحياتنا اتصالاً مباشراً، ولا ما يؤثر فيها ولو تأثيراً بعيداً، كأنهم في شغل عنها أو في غفلة عن أمرها، ولهذا فشعرهم لا يقع منا إلا موقع الطنين الممقوت والضوضاء الكاذبة، فهو شعر لا يمتزج بالنفوس، بل لا يتصل أي اتصال بالقلوب، وما أشبهه بمدينة منهدمة لها سور لا يكاد يقوم فلا هي تجذب العيون، ولا هو يعطف القلوب، وأكبر ظني أن هذا الخطأ الفاحش في فهم رسالة الشعر جاء هؤلاء الناس من أنهم يعيشون معيشة فنية صرفة فهم لا يستمدون فنهم

ص: 32

من الطبيعة التي ينظرون إليها، ولا يتخذون ألوانه من الحياة التي يحيون فيها، وإنما يجذبونه جذبا من دواوين أسلافهم، ويسلبونه سلبا من موضوعاتها وأساليبها، وكأنهم جهلوا أن الشعر هو نفس صورة الحياة معبرة في حقيقة الجمال الخالدة، وموسيقاه المؤثرة.

شوقي ضيف

ص: 33

‌سياسة أمريكا النقدية

الرئيس روزفلت والدولار

يتتبع الرأي العالمي سياسة روزفلت الاقتصادية والنقدية بمنتهى الاهتمام. وما زالت مشكلة الدولار الأمريكي في مقدمة المسائل العالمية لما للدولار من عظيم الارتباط بسير النقد في كثير من الأمم ومن عظيم الأثر في سير التجارة الخارجية العالمية لأن أمريكا من اعظم الدول المصدرة في العالم. وفي مصر تعنينا مسألة الدولار بنوع خاص لما لها من أثر كبير في سير أسعار القطن. وقد قرأنا في هذا الموضوع مقالا للعلامة الاقتصادي الأمريكي الدكتور ايرفنج فيشر في مجلة الأمريكية فرأينا أن نلخصه لقراء الرسالة فيما يأتي:

قال الرئيس روزفلت في 3 يوليو الماضي ما يأتي: (إن الولايات المتحدة الأمريكية تبحث عن الدولار الذي يكون له بعد جيل من عصرنا من قوة في الشراء وفي أداء الدين ما للدولار الذي نؤمل أن نحصل عليه في القريب العاجل)

ويتفق جميع علماء النقد الذين درسوا هذه المسألة مع العلامة مينارد كينس في إن الرئيس روزفلت (مصيب كل الإصابة) ومع ذلك فان أغلبية الشعب الأمريكي لم تقتنع فيما يظهر بهذه الحقيقة. بيد أنه من الخطر أن تترك المسائل الفنية لحكم الجمهور. ويعتمد الرئيس روزفلت في عمله على مؤازرة اثنين من أعظم خبراء النقد في العالم هما: الدكتور وارنز الأستاذ بجامعة كورنل، والدكتور هارفي روجرز الأستاذ بجامعة ييل

ونرى عند تحليل كلمات الرئيس روزفلت إن سياسته النقدية تقوم على غايتين: الأولى هي رفع مستوى الأثمان، والثانية هي الاستقرار أو تحديد مستوى الأثمان. وقد قال الرئيس روزفلت فيما يتعلق بالمسألة الأولى ما يأتي:

(إن الحكومة تنوي أن تعمل على رفع أثمان الحاجات إلى حد يمكن أولئك الذين اقترضوا مالا من أن يؤدوا ذلك المال بنفس نوع الدولار الذي اقترضوا به، ونحن لا نريد أن نمكنهم من الحصول على دولار يكون من الرخص بحيث يمكنهم من الأداء بأقل مما اقترضوا، ونريد بعبارة أخرى أن نصلح خطأ ارتكب لا أن نحدث خطأ جديدا في الناحية الأخرى)

وإذا كان التضخم النقدي أمرا لا يرغب فيه، فكذلك التمسك النقدي مما لا يستحب. ونستطيع أن نقول إن التدهور الاقتصادي الحاضر يرجع في معظمه إلى التمسك النقدي.

ص: 34

وهو (تمسك) في الدين، والدين والتمسك يتفاعلان معا. وقد كان عبء الدين الذي تواجهه الأمة فادحا، فادى ذلك إلى تدهور البيع، ونقض الودائع في البنوك بسبب تصفية القروض، وكان هذا الانكماش في تداول النقد، والهبوط في البيع، سببا في هبوط مستوى الأثمان ورفع قيمة الدولار من حيث القوة الشرائية بما يبلغ 81 في المائة، وهذا يعني إن كل دين كانتقيمته ألف دولار، اصبح يعادل 1810 دولارات، وكان هذا اصعب واشق في الأداء

وقد كان هذا المجهود الذي بذل في أداء الدين سببا في نقص ودائع البنوك، ومن ثم في زيادة الديون، وكلما حاول الشعب الأمريكي أن يتخلص من دينه كلما شعر أن عبء الدين يزداد، وذلك لأن الدين يجب أن يقاس بقيمة السلع الحقيقية. وهذا هو لغز الركود التجاري. فنحن قد أدينا في الظاهر 20 في المائة من ديوننا، ولكننا في الحقيقة زدنا هذه الديون 40 في المائة بما بذلناه في سبيلها مدى أربعة أعوام من السلع الحقيقية

وللمسألة وجوه كثيرة يثيرها خصوم الرئيس روزفلت. أولها إن هذا التضخم النقدي هو تضخم غير محدود. والواقع ليس كذلك بل ليس في أمريكا رجل مسئول يقوم بالتضخم غير المحدود، وكل ما هنالك هو انه يراد أن يسير التضخم إلى الحد الذي يتدارك فيه أثر (التمسك).

ثم يقال انه حتى لو أريد ضبط هذا التضخم، فأنه سيفلت من كل ضبط، ويضربون لذلك مثل ألمانيا التي انتهت سياسة التضخم فيها بكارثة نقدية، وان مثل هذا التضخم يحدث بنوع خاص بواسطة الأوراق النقدية الحكومية. ولكنا قد جزنا في أمريكا هذه التجربة مرتين: الأولى سنة 1865، والثانية أثناء الحرب. وقد استطعنا في كلتيهما أن نوقف سيل التضخم، بل وان نصل إلى نوع من (التمسك)

ويقال أيضا إن كل رفع الأثمان بالطريقة النقدية هو عمل مصطنع، نظراً لأن الأثمان يحددها قبل كل شيء قانون العرض والطلب. وهذا غير صحيح. فان أسعار القطن مثلا لا تتأثر فقط بعرض القطن وطلبه، ذلك أن طلب النقود وعرضها أيضاً عامل مهم، فإذا قايضت قطنا بفضة، وارتفع سعر القطن المقوم بالفضة، فلا يمكن أن ننسب هذا الارتفاع في الثمن لأسباب تتعلق بالقطن وحده. ذلك أن القطن في هذه الحالة يرتفع بالنسبة للفضة، وتنخفض الفضة بالنسبة للقطن، والعرض والطلب كلاهما مهم. وكذا سعر كل سلعة يتأثر

ص: 35

بعرض النقود وطلبها. ولا يمكن في الواقع أن يقوم عرض القطن وطلبه بالنقود دون أن نرجع إلى قوة النقود في الشراء. وهذه القوة تمثل في كل ثمن وكل مساومة. بيد أن هذه الحقيقة تنسى دائماً. فإذا حدث هبوط عام في أسعار الحاجات كما هو حادث منذ أعوام، فان الناس لا يفهمون السر في ذلك إلا أنه يرجع إلى وفرة الإنتاج. ولكن هذا الهبوط يرجع في الواقع إلى قلة النقود أكثر مما يرجع إلى وفرة الإنتاج.

ويقولون أيضا إن مثل هذا الاستقرار في الأثمان لا قيمة له بل هو ضار. والوقائع تثبت غير ذلك، وفي رأيهم أن الاستقرار الحقيقي لا يمكن إلا أن يكون بالنسبة للذهب، وأنه يجب علينا أن نعود إلى معيار الذهب بأسرع ما يستطاع، وهذا وهم. ذلك أننا إذا كنا على عيار الذهب، فأنا نعتبر أن معيار النقد يجب أن يكون هو الذهب وإننا سنعود إليه. ولكن إذا كانت دولة أخرى تتبع معيار الذهب فأنا نشكو من اضطراب القطع بين البلدين. وقد كان المستطاع حينما كانت ألمانيا وروسيا تجوز كل منهما عملية التضخم الكبرى. أن ينشأ بينهما معيار ثابت للقطع؛ ولكن ذلك لا يعني ثبات المارك أو الروبل، ولكن معناه انهما قد خفضا معاً، وكذلك لو قام بيننا وبين فرنسا مثلا معيار ثابت للقطع، وبقينا معاً على عيار الذهب، فليس معنى ذلك أن الدولار أو الفرنك ثابتان؛ ولكن معناه انهما قد ارتفعا معاً في الأعوام الأخيرة، وما نريده هو تثبت الفرنك والدولار، أو المارك والروبل، بالنسبة للسلع والأشياء الحقيقية وبالنسبة لقوة الشراء التي تعبر عنها النقود

لقد اتبعت أمريكا سياسة الذهب، ولكنها تركت معيار الذهب في الأثمان، فكان من نتيجة ذلك أن وقف هبوط التجارة الأمريكية وهبوط الأثمان.

وللرئيس روزفلت في ذلك سلطة هائلة، فهو إذا قرر أن يخفض الدولار إلى نصف قيمته الأصلية كما هو مخول له، فمعنى ذلك أن الأربعة بلايين دولار من الذهب التي تملكها أمريكا تصبح في الحال ثمانية بلايين إذا أوقفنا شراء الذهب من الخارج.

ص: 36

‌3 - التفاؤل والتشاؤم وهل لهما أسباب تاريخية

بعض غرائب الخرافات عند الغربيين والشرقيين

أيام الأسبوع

إن فكرة التشاؤم من بعض أيام الأسبوع سائدة عند الأمم الغربية، ويعتقدون بعدم التوفيق ونجاح الأعمال فيه، فيوم النحس عند الفرنسيين هو يوم الأربعاء، وعند الألمان يوم الاثنين، وعند الإنجليز يوم الثلاثاء، حتى أن عدد الذين يركبون القطار المترو الذي يسير تحت الأرض قليل جداً بالنسبة إلى عدد الركاب في الأيام الأخرى من الاسبوع، ويعتبر الأميركيون يوم الجمعة من أسوأ أيام الأسبوع. وبعضهم يعتقد أن أقبح الأيام يوم الأربعاء، وأغرب من هذا أن عالماً أمريكياً يدين بهذه الفكرة ويؤيدها. وأحسن الأيام عند الأميركيين هو يوم السبت فتجدهم يقيمون فيه حفلاتهم.

وكان المغفور له السلطان حسين كامل يتشاءم بيوم الاربعاء، ولا يحب أن يقرر فيه قراراً ما. ومما يروى عنه في هذا الصدد انه لما أراد أن يعين لنفسه طبيباً خاصاً سأل الأطباء الذين كانوا يتولون معالجته عن أسم الطبيب الذي يشيرون عليه باختياره، فذكروا له اسم الدكتور محمد شاهين باشا وكيل وزارة الداخلية للشؤون الصحية الآن فدعاه إلى مقابلته، وبعد ما حادثه مليا أبلغه أنه يرغب في تعينه طبيباً خاصاً له، ثم صرفه بعد ما طلب منه أن يعود إليه في اليوم التالي ليصدر قرار تعيينه.

ولم يؤجل رحمه الله قرار التعيين إلى الغد إلا لأن المقابلة كانت يوم الأربعاء فلم يشأ أن يصدر القرار في ذلك اليوم، وخصوصا أن القرار كان لأمر متعلق بصحته.

وكان أهالي جزيرة مدغشقر حتى عهد قريب يقتلون الأطفال الذين يولدون في أيام الأسابيع المحسوبة شؤما. وكانوا يرمون جثثهم في البحر تيمنا.

ولم يبين أحد من الباحثين حتى الآن سبب التشاؤم من بعض أيام الأسبوع، وربما يرجع هذا التشاؤم إلى عقائد فاشية عند القدماء، ثم انقطعت الثقافة بينهم وبين أسلافهم فلا يمكنهم التفسير على وجه سديد.

كسر المرآة

ص: 37

من الخرافات السائدة بين الناس عامة والنساء خاصة التشاؤم من كسر المرآة. والأصل في ذلك أن الإنسان القديم كان يحسب أن ظله جزء منه، وإن إيذاء الظل هو إيذاء له لأنه بمثابة الروح منه. وكلمة ظل عند بعض الأمم في آسيا تعني الروح. وكان الإنسان قبل اختراع المرآة ينظر صورة ظله على أسطح مياه الأنهار والبحيرات وغيرها، وذلك لأن الزجاج لم يكن قد عرف بعد. وما زلنا نرى في (المندل) بعض آثار هذه الخرافات القديمة. فأن هناك اعتقاداً بأن من ينظر في كوب به ماء ثم تتلى عليه الرقي يرى أشياء خفية لا يراها غيره. واكثر ما يكون الخطر من المرآة في الوقت الذي يكون أحد في المنزل في النزع الأخير أو قد توفى من وقت قريب لأن الموت عندئذ يرفرف بجناحيه على المنزل، فليست رؤية الظل (الروح) مما تؤمن عاقبته. ولذلك كثيرا ما يقلب الناس مراياهم في ذلك الوقت العصيب. والأصل كما قلنا هو خوف الناس من تعرض أرواحهم أي ظلالهم للأذى أو الموت كما يتوهم المتوحشون القدماء إن الظل هو الروح

السلم

مما يتشاءم منه الغربيون المشي تحت أو وراء السلم، وقد ذكرت مجلة إنجليزية محادثة بين سيدة وصديقتها عن خرافة السلم:

السيدة - أنا لا امشي تحت سلم مطلقا لاعتقادي أن ذلك شديد الخطر.

صديقتها - أنت بلهاء فأني أضع أطراف أصابعي الصغيرة معاً واثني الثلاث الأخر في راحة اليد وابسط الإبهامين ثم أقول (ماجنوم بونوم) وامشي رابطة الجأش تحت السلم فإذا فعلت مثلي مررت من دون أن يلحق بك أذى.

وقد ألقت المس (واليس) إحدى مدرسات لندن محاضرة يوم 19 يناير سنة 1928 عن منشأ الخرافات السائدة بين الشعب الإنجليزي فقالت: إن خرافة السلم يرجع تاريخها إلى أزمنة العقاب بلا محاكمة قانونية فكان المحكوم عليهم يشنقون بتعليقهم على سلم إذا لم تكن شجرة في مكان التنفيذ، وكان كل شخص يتفق وجوده وراء السلم مستهدفاً لخطر الاتهام بالاشتراك مع المشنوق في جرمه.

إبراهيم تادرس بشاى

ص: 38

‌تعد ذنوبي.

. .

يصدق الشطر الأول من بيت أبي العلاء المشهور على الشرق في موقفه اليوم من الغرب. سواء أصدق الشطر الثاني أم لم يصدق، ولا يسع الشرقي في بلاد الغرب إلا أن يتمثل به ما بين آن وآخر. فالشرق كما قال الاستعماري كلبنج ما زال شرقاً والغرب غرباً وكلاهما جاهل بالآخر، والغرب أجهل بصاحبه. الشرق مخدوع في الغرب يحسبه أرقى مما هو عليه، والغرب مزدر للشرق يظنه أحط مما هو في الواقع.

صورة الشرق في ذهن الإنجليزي وإن يكن متعلما صورة خيالية. تحوي أمراء مترفين عائثين ورعايا كادحين مخشوشنين. صحارى وغابات تجيش بغوائل الوحش والإنسان. ورجلا أبيض ينشر الخير والبركات ويبدل الشرور منافع محتسبا لا يبغي غير وجه المدنية ورضى الانسانية. فان جاء أحد أبناء تلك البلاد يفهم ذلك الواهم أن تلك الصورة القصصية التي ربما انطبقت على بعض نواحي الهند في غابر الأيام لا تنطبق على الشرق اليوم. وأن الشرقيين ليسوا موغلين في الجمود والتشبث بالقديم كل ذلك الإيغال، وإنما هم فضلا عن عراقة حضارتهم يسعون جهدهم - وقد ظهرت مدنية أوربا على غيرها من المدنيات - أن يأخذوا بأسبابها ويسايروا عصرها، إذا أراد الشرقي أن يشرح ذلك للإنجليزي الذي لم يبرح بلاده انصرف عنه معرضا. لأنه يراه يفسد عليه صورته المحبوبة التي يألفها ولا يريد فراقها

ومهما أطنب الإنجليزي في روعة الشرق وثروته ولآلائه وفتنته. ومهما ود لو تتاح له مشاهدة كل ذلك فانه يعود - إذا ما تأمل الصورة الموصوفة - إلى نفسه مغتبطا ويحمد الله من صميم قلبه على أن خلقه إنجليزيا مسيحياً لا عربياً مسلماً ولا هندياً بوذياً، وقدر له أن يقضي حياته في ربوع المدنية لا بين أكناف الهمجية

فلا عجب أن ينظر الإنجليزي إلى نزلاء وطنه - ولا أقول ضيوفه - من الشرقيين نظره إلى أطفال كبار جاءوا ليتلقوا في بلاده طرق الحياة وسبل المدنية، ويتوهم أنهم حين وطئوا أرضه طرحوا عاداتهم وتقاليدهم وأزياءهم المتأخرة جانبا، واستبدلوا بها الطرق الإنجليزية الراقية، وبدءوا حياة جديدة، ولا عجب ان يضمر لهم كثيرا من الازدراء وغير قليل من الكراهية.

قابلت في بعض جولاتي في إنجلترا إنجليزيا يعمل في السودان كان يقضي عطلته في

ص: 40

بلاده. فسألني في غضون الحديث. كيف ترى إقامتك في إنجلترا؟ قلت: أين هي من إقامة الأوربي في مصر؟ قال: ماذا تعني؟ إن الإنجليز يحبون المصريين ويرحبون بهم في منازلهم، قلت: لا أرى دليلاً على ذلك. وليست تخدعني المجاملة الظاهرة عما تكن النفوس من ترفع تارة وكراهية أخرى. قال: كيف؟ هل لقيت سوى حسن المعاملة حيثما ذهبت؟ قلت هبني لم ألق سواها فما ذاك إلا لأني رجل مهذب أحترم نفسي وأرعى حق غيري، فمن له بمخاشنتي وهذا محملي؟ فمضى في مكابرته الإنجليزية التي تعمى عن الحقائق من أجل أغراضها عماية عجيبة

ومضى زمن، وكنت أحادث طالبة إنجليزية بيني وبينها صداقة وثيقة فقالت: كم زوجا لك في مصر؟ قالتها بلجهة بن الجد والمزاح وقدماً قال شاعرهم شكسبير: كم من حقيقة أودعت نكتة، وأذكرني الخوض في هذا الشأن حديث ذلك الإنجليزي، فأردت ان أستوثق منها صراحة عن حقيقة رأي الإنجليز في الأجانب وشعورهم نحوهم، قالت أتروم الحق! قلت الذي لا غبار عليه والذي لن يغضبني مهما قسا

قالت: فأما إذا تروم الحق، فالإنجليز لا يحبون الأجانب عامة لأنهم يعدون أنفسهم سادة العالم، ولا يقيمون كبير اعتبار لما جاء من خارج جزيرتهم، ثم هم أشد نفوراً من الشرقيين الملوني البشرة لأنهم شديدو البعد والاختلاف عنهم، ولأنهم في الغالب غير مسيحيين، ومن لم يكن مسيحيا فهو في نظرهم لا يؤتمن، ثم إن المعروف بينهم عن الشرقيين أنهم شهوانيون، وأنت تعلم ما يقال عن مسائل الحريم وتعدد الزوجات، وأخيراً لأن من يفد إلى هذه البلاد من طلابهم هم عادة صفوة شباب بلادهم، وهم لذلك يفوقون أقرانهم الانجليز، ولذا ينقم عليهم طلاب الذكور خاصة

وكنت وعدت مخاطبتي ألا أغضب، فلم أشأ أن أفند لها هذه الأوهام، ولا سيما وقد عزتها إلى غيرها في لهجة من هي براء منها، فلم أقل لها إن القول بسيادة الإنجليز للعالم فيه ادعاء وتغرير، فتلك السيادة إن صحت لا يتمتع بها وبما تجره من منافع مادية سوى طبقة محدودة من الإنجليز، بينما سواد الشعب لا يمتاز كثيراً من سواد الشعوب الأخرى من نواحي التعلم والثراء والخضوع لتحكم الطبقة العليا، وإن المسيحية ليست أسمى ولا أطهر من الإسلام والبوذية دين الملايين من الشرقيين، وإن الإنجليز وإن رموا غيرهم بالشهوانية

ص: 41

يقارفون مثل ما يقارف غيرهم لأنهم آدميون مثلهم، لم تكن لذكر هذا وذاك جدوى فلم أذكره وإنما شكرت الطالبة على بيانها الواضح المفيد المليء بالعبر

وذكرت هذا كله حين قرأت كلمة الدكتور عوض التي سماها (جريمة) فقلت: صدق الدكتور الفاضل، ولكنه ذكر جريمة واحدة، ولنا غير جريمة سمرة البشرة جرائم أخرى عديدة. وذنوبنا تعد عند قوم كثيرة.

فخريي أبو السعود

ص: 42

‌ابن سينا

(انه من أشهر مشاهير العلماء العالميين)

(سارطون)

مقدمة:

ما أقل الذين يعرفون أن ابن سينا اشتغل في الرياضيات والفلك، وأن له فضلا كبيراً في علم الطبيعة وقد يكون لهم بعض العذر إذا علمنا أنه كان فيلسوفاً وطبيباً، وان شهرته في هاتين الناحيتين ومؤلفاته الكثيرة فيهما جعلت الناس لا ترى عبقريته في النواحي الاخرى، وسيقتصر بحثنا في هذا المقال على مآثر ابن سينا في الرياضيات وعلم الطبيعة، وقد نأتي عرضا على بعض آثاره في الفروع الأخرى من المعرفة. وهو أبو علي الحسن بن عبد الله بن سينا ويلقب بالشيخ الرئيس، ويعرف عند الإفرنج باسم ويقول عنه بعض فلاسفة الغرب انه أرسطو الإسلام وابقراطه، وهو أيضاً من العلماء العالميين المشهود لهم بطول الباع في كثير من العلوم والفنون. ولد في خرميشن من ضياع بخارى سنة 371هـ - 980م وتوفي في همدان سنة 428هـ - 1037م. اشتغل ابن سينا في الرياضيات والفلك وعلم الطبيعة وكان له بها ولع خاص، وكذلك في الفلسفة والموسيقى والطب والمنطق، وله في هذه كلها مؤلفات قيمة يعد بعضها من موسوعات العلوم وتشهد له بعبقريته ونبوغه، وقد نقلت هذه المؤلفات إلى اللاتينية وكان لها تأثير عظيم في نهضة أوربا الحديثة.

منشؤه

كان والد الشيخ الرئيس من بلخ، انتقل إلى بخارى في أيام نوح بن منصور سلطان بخارى، واشتغل والياً في إحدى قراها خرميشن، وبعد حين رجع إلى بخارى حيث تولى تهذيب ولده، فاحضر معلما ليدرسه القرآن الكريم والأدب وعلم النحو، وصادف ان جاء إلى بخارى عبد الله الناتلي، ونزل في دار الشيخ الرئيس فاستفاد منه كثيراً، ثم اخذ ابن سينا يقرأ الكتب بنفسه ويطالع الشروح فقرأ كتب هندسة اقليدس، وكتب المجسطي والطبيعيات والمنطق وما وراء الطبيعة، فخرج من ذلك واقفاً على دقائق علم الهندسة بارعاً في الهيئة محكما علم المنطق، مبرزاً في علم الطبيعة وعلوم ما وراء الطبيعة، ولم

ص: 43

يكتف بذلك، بل عكف على دراسة الطب وقراءة الكتب المصنفة فيه، ويقول عن (نفسه) في هذا (ثم رغبت في علم الطب وصرت اقرأ الكتب المصنفة فيه، وعلم الطب ليس من العلوم الصعبة، فلا جرم أنني برزت فيه في اقل مدة، حتى بدأ فضلاء الطب يقرأون على علم الطب؛ وتعهدت المرضى فانفتح علي من أبواب المعالجات المقتبسة من التجربة ما لا يوصف) واشتهر كثيرا في هذا العلم وطار اسمه في الآفاق حتى دعاه الأمراء لتطبيبهم، ووفق في مداواة الأمير نوح والأمير شمس الدولة، والأمير علاء الدولة ونجح في معالجتهم فسروا منه كثيراً وأنعموا عليه وفتحوا له خزائنهم ودور كتبهم، وفي هذه وجد مجالا كبيراً لتتم دراساته وللتعمق في مختلف فروع المعرفة، ويقال إن ابن سينا لم يكن منقطعاً انقطاعاً تاماً للعلم والتأليف، بل كان في كثير من الأحايين يعين والده في أعمال الدولة

وبعد وفاة والده (وكان إذ ذاك في الثانية والعشرين من عمره) ترك بخارى ورحل إلى جرجان حيث كان يقطن فيها رجل اسمه ابو محمد الشيرازي اشتهر بميله وشغفه بالعلم، فتعرف إليه ابن سينا وقويت بينهما وشائج الصداقة حتى اشترى الشيرازي للشيخ داراً في جواره وأنزله فيها، وفيها ألف الشيخ الرئيس كثيراً من مؤلفاته القيمة: ككتاب القانون الذي هو من أهم المؤلفات الطبية ومن المؤلفات النادرة التي تشمل على أساس علوم الطب، وقد بقى كتاب القانون منهلا عاماً يستقى منه الراغبون في الطب قروناً عديدة. ولم تطل إقامة الشيخ كثيراً في جرجان (لاسباب سياسية) بل اضطر إلى تغير موطنه مراراً، فاتى همذان حيث استوزره الأمير شمس الدولة، ولكن الظروف حالت دون بقائه كثيراً في الوزارة فان الجند طلبوا قتله، ولم يرض بذلك الأمير وأنقذه منهم بعد عناء، وبعد وفاة الأمير شمس الدولة وانتقال الملك إلى ابنه كاتب ابن سينا سرا علاء الدولة أمير أصفهان (لأعراض شمس الدولة عنه) يطلب الانضمام إلى جانبه، واكتشفت هذه المكاتبة وعوقب من أجل ذلك بالسجن، ولكن بعد عدة أشهر قضاها فيه فر إلى اصبهان حيث رحب به الأمير علاء الدولة، وبقى في معيته إلى أن وافته منيته في همذان، وكان قد رجع اليها مع علاء الدولة في احدى غزواته لها.

آثاره

قسم ابن سيناء العلوم في كتاب الشفاء إلى ثلاثة أقسام:

ص: 44

العلوم التي ليس لها علاقة بالمادة أو علوم ما وراء الطبيعة، والعلوم التي لها علاقة بالمادة وهي الطبيعيات

والعلوم الوسط وهي التي لها علاقة تارة بعلوم ما وراء الطبيعة وطوراً بالمادة وهي الرياضيات، وفي بعض المواضع نراه قد جعل الرياضيات نوعاً من الفلسفة ونسب إليها بعض أشياء تبحث في غير المادة، وقد اتبع الطريقة اليونانية في بحوثه عن العدد، وقد كان فكر ابن سيناء يمثل المثل الأعلى للفلسفة في القرون الوسطى وله فيها آراء ونظريات لا تزال تدرس في جامعات أوروبا. وهو وإن اعتمد كثيراً على فلسفة أرسطو واستقى كثيراً منها، قد أضاف إليها كثيراً وأخرجها بنطاق أوسع ونظام أتم. وهو من الذين قالوا بإنكار تحول المعادن بعضها إلى بعض مخالفاً بذلك آراء أكثر علماء زمانه، وفي رأيه أن المعادن لا تختلف باختلاف الأصباغ بل تتغير في صورتها فقط، وكل معدن يبقى حافظاً لصفاته الأصلية وقد قال في ذلك (نسلم بإمكان صبغ النحاس بصبغ الفضة، والفضة بصبغ الذهب إلا أن هذه الأمور المحسوسة يشبه ألا تكون هي الفصول (أي الخواص) التي تصير بها هذه الأجساد أنواعا، بل هي أعراض ولوازم والفصول مجهولة: وإذا كان الشيء مجهولاً فكيف يمكن أن يقصد تصد إيجاد أو إخفاء)

واستنبط ابن سينا آلة تشبه آلة الورنية أل وهي آلة تستعمل لقياس طول أصغر من اصغر أقسام المسطرة المقسمة ولقياس الاطوال بدقة كبيرة، ودرس دراسة عميقة بحوث الحركة والإيصال والقوة والفراغ، واللانهاية والحرارة والضوء، وقال بأن سرعة النور محدودة، وعمل عدة تجارب في إيجاد الوزن النوعي لمعادن كثيرة وقال بان شعاع النور يأتي من الجسم المرء إلى العين وفي كتابه الشفاء بحث في الموسيقى وقد أجاد فيه لدرجة كبيرة، وقد فاقت أبحاثه فيها أبحاث الفارابي وشرح طريقة إسقاط التسعات وتوسع فيها، ألف في المعادن ومؤلفه كان النبع الذي استقى منه علماء طبقات الارض في القرن الثالث عشر للميلاد. ويقال ان ابن سينا خرج مرة في صحبة علاء الدولة وقد ذكر له الخلل الحاصل في التقاويم المعمولة بحسب الأرصاد القديمة، فأمر الأمير الشيخ بالاشتغال بالرصد وطلق له من الأموال ما يحتاج إليه وهذا (طبعاً) ساعده على التعمق في علم الهيئة، وفي كشف بعض حقائق هذا الكون وفي إتقان الرصد (ووضع في حال الرصد

ص: 45

آلات ما سبق إليها)

مؤلفاته وانتقالها إلى الغرب

على رغم المتاعب التي انتابته والمشاغل الكثيرة التي كانت تشغله وبرغم تعدد انتقاله من محل إلى آخر، تمكن من وضع مؤلفات قيمة عديدة يربو عددها على المائة، وهذه هي التي جعلت سارطون وغيره من علماء الإفرنج يضعونه في مصاف العلماء العالميين ومن كبار حكماء الشرق. ومن أهم مؤلفاته:

كتاب الشفاء وهو في ثمانية عشر مجلداً، وتوجد منه نسخة كاملة في أكسفورد، ويحتوي على فصول في المنطق والطبيعيات وما وراء الطبيعة، ترجم بعضها حنا الأسباني وكنديسالينس إلى اللاتينية، وقد اختصر ابن سينا هذا الكتاب في كتاب سماه (النجدة) ترجمه إلى اللاتينية كآرام باسم

وله أيضاً كتاب القانون في الطب وهو من أشهر مؤلفاته ويتكون من أكثر من مليون كلمة ترجمه جيرارد اوف كريمونا إلى اللاتينية، وبقيت ترجمته هذه المعتمد عليها والمستعملة في الجامعات والكليات حتى منتصف القرن السابع عشر للميلاد، وكتاب المختصر للمجسطي، وكتاب المجموع، وكتاب الحاصل والمحصول ويتكون من عشرين مجلداً، وكتاب الارصاد الكلية، وكتاب النجاة وهو ثلاثة مجلدات، وكتاب القولنج، وكتاب لسان العرب، ورسالة الآلة الرصدية، وهذه الآلة صنعها في أصبهان عند رصده لعلاء الدولة، ورسالة غرض قاطيفورياس، وكتاب الأجرام السماوية، وكتاب الإشارة إلى علم المنطق، وكتاب أقسام الحكمة وكتاب النهاية واللانهاية، وكتاب في أبعاد الجسم غير ذاتيه له، وكتاب مختصر أقليدس، وكتاب الأرثماطيقي والموسيقى. وقد أورد في كل من مؤلفاته في الرياضيات زيادات رأى ان الحاجة اليها داعية. ففي اقليدس أورد شبهاً وفي الارثماطيقي أورد خواص حسنة في الموسيقى أورد مسائل غفل عنها الأولون، وكتاب المجسطي وقد أورد فيه عشرة أشكال من اختلاف النظر، وأورد في آخره أشياء لم يسبق إليها وله رسائل أخرى في الحساب، وله أيضاً فيه وفي الهندسة ابتكارات كثيرة، وكتاب مختصر في ان الزاوية التي من المحيط والمماس لا كمية لها، وكتاب المدخل إلى صناعة الموسيقى وكتاب كيفية الرصد ومطابقته مع العلم الطبيعي وكتاب الحدود، وله خطبة في أنه لا يجوز أن

ص: 46

يكون شيء واحد جوهراً وعرضاً ومقالة في خواص خط الاستواء، ومقالة في هيئة الارض من السماء وكونها في الوسط، وكتاب تدبير الجند والمماليك والعساكر وأرزاقهم وخراج الممالك وفوق ذلك له شعر رقيق وأشهر قصائده قصيدة نظمها في النفس يقول عنها ابن أبى أصيبعة إنها من أجل قصائد ابن سينا وأشرفها، وقد ترجمها فانديك إلى الإنجليزية

نابلس

حافظ قرى طوقان

ص: 47

‌من طرائف الشَعر

عد إلينا

قطعة من البحر المديد

يا غريباً راح يطوي القفارا

أين تمضى؟ هل كرِهت الديارا؟

أختياراً تقطع الأرض سيراً،

أم طريقٌ سرتَ فيها اضطرارا؟

ولأَمرٍ في النهُّى مستقرٍّ

بِتَّ تغشى الأرض داراً فدارا؟

أم لسِر غامض لست تدري

كنهه أبعدَ عنك القرارا؟

أم لخطب داهمٍ قد تمادى

بك حتى رحت تبغي الفرارا؟

إن تكن تبغي مراماً عزيزاً

فلماذا أُصْلِىَ القلب نارا؟

ولماذا بعدَ نأي وهجرٍ

لا تَنى للغائبين ادِّكارا؟

ودموعٍ مذرفات حنينا

حائراتٍ في جفون حيارى!

عد إلينا آمناً مطمئنا

تلقِ خِلاً ذا وفاءٍ وجارا!

يا غريباً راح يطوي القفارا

عد إلينا وادن منا مزارا!

م. ع. م

وادي الأحلام

للشاعر الدمشقي أنور العطار

(يا آلهة الشعر! تأملي ضحيتك)

(الفونس دو لامارتين)

يا وادَي الأحلام فيك التقت بيضُ الأماني بأغاني المُهودْ

ليت فؤادي بلَّ منك الصدى

وليت أيامَك يوماً تعودْ

يا مُقلَةَ الدهر أطيلي الكَرى

وباركي الحُلْمَ لقلبي العميدْ

ومهِّدي للروح رحبَ المَدى

فقد يضيقُ اليومَ عنها الأبيدْ

أُلحُلْم يُشْجيِني تَذكارُهُ

إنْ زارني في غير يومِ سعيدْ

ص: 48

يا مُقلةَ الدهرِ توارَىْ وما

ألهاكِ عَمْن تاه في ذا الوُجودْ

لا تفجعي بالله تِرْبَ المنى

فَمُبتَغى الأمِلِ سُؤْلٌ زهيدْ

توردُهُ الأطماعُ سبْلَ الردى

فيُرمِضُ القلبَ العذاب الوكيد

يرضى من المغنم لو آب من

آمالهِ وهو الحريب الشريدْ

لا يملك الأحلامَ من يأسه

وماله عن ظلها من محيدْ

إنْ تستفيقي من دياجي الكَرى

يَنهدُّ في نَعماهُ قصري المشيدْ

ففيه أحلامي في مهدها

تَنعَمُ في الدنيا بعيشٍ رغيدْ

تَغمسُ في قلبي أفواههَا

وتَسلب العين شعاع الخلودْ

غذاؤها من كبِدي ماؤها

ولهوهُا من مَدْمَعي بالعقودْ

تزين بالأزهارِ تاجَ الصبا

كموْجة الأطفال في يومِ عيدْ

ترى إذا ما نهِلتْ في غدٍ

هل توِدعُ المبثوثَ عقداً فريدْ

أم تنثُرُ الأشعارَ في روضها

فتخطفُ الأطيار منها القصيدْ

تَصوغُهُ والزهرَ أغرودةً

فتانةً يصبيك منها النشيدْ

تُحِسُّ منها خطراتِ المُنى

تَرُودُ بالرُّوح المطافَ البعيدْ

تُعيدُ للقلب كُنوزَ الهوى

وكَنْزُها ليس له من مُعيدْ

وإنْ أضاعتْهُ فما ذنبُها؟

الطفلُ يُؤذيه المتاعُ النضيدْ

أهَبْتُ بالأحلام أنْ مهِّدِى

لِيَ الاماني، والنعيمَ العتيدْ

والحُبَّ، والشِّعْرَ وعهدَ الصِّبا

والعيش نَضراً، والخيالَ الوليدْ

لا أرتضِي بالنَّزْرِ منها ولا

أطمعُ إلاَّ في الشُّعاع المديدْ

فأمعنَتْ في ضحكها واغْتَدَتْ

تَسْخَرُ من آمال غِرٍّ عنيدْ

فخِلتُ أنَّ الضحكَ منها رِضىً

وضِحكةُ الهازئِ نارُ الوعيدْ

لقيتُها في سكَرَات الرُّؤَى

تَنْشُدُ أيامي وتبكي الوُعُودْ

تجُود للدهرِ بأحلامها

وهْوَ بما تطلبُهُ لا يِجودْ

تبوحُ بالأسرار في سَهْوِها

وسِرُّنا قد وثَّقَتْهُ العُهُودْ

درَيْتُ في عُزْلتها ما مَشَى

في خافقٍ واهٍ وفكرٍ كَدُودْ

ص: 49

ورُحْتُ أبكي أملا لامعاً

أنأتْهُ عنِّي عاثراتُ الجدُودْ

يا طيفَها جدَّدْتَ عُمْرَ الأسى

ونِلْتَ من قلبي المنالَ الشديد

نضَّرْتَ يا غامضُ تَذْكارَها

وحِصنْكَ الممنوعُ جَهْمُ الوصيِد

أيَّتها الذكرى أثَرْتِ الجوى

فهل لما تذْكِينَهُ من مزيد؟

علَامَ زرْتِ اليومَ خِلَّ الشجا

إيناسكِ الطَّائف يضنيِ الوحيد

أبليْتُ في ذكراكِ نضْرَ الصِّبا

وعهدُكِ الآيِبُ غضُّ جديد

مَلَّ صراعَ العيشِ نَدْمانُه

وضجَّ من قفر الحياة الجليدْ

يخبط في يهماَء مستْعديا

على معَنِّيه العزيزَ الحميدْ

يَصرُخُ إن مَرَّ بصحرائها

ماذا نلاقي في ظلامِ اللحودْ

خذ بي أيَا غيبُ إلى مأمنٍ

يزيح عن روحي عبء القيودْ

فنادت الأقدار في جرْيها

لما يَحِنْ أن يستريح الطريدْ

نجوز دنيانا سِراعا ولا

نستطيع أن نمشي مشياً وئيدْ

فهل ترى نقعد في ساحها

أم ليس للرائد يوماً قعودْ

السير يضنينا وما نأتلى

نَشقُّ في الأطواد سُبْل الصعودْ

تمضي بنا الأيام في فسحةٍ

راعبةٍ ليس لها من حدود

حتى إذا ما العمرُ أمضى بنا

مطافهُ ثم طوانا الهمُودْ

عدنا إلى كون بعيد المدى

يطيبُ للمتعَبِ فيه الرقودْ

هناءة الأيامِ ممزوجةٌ

بالصاب والعمر خيالُ الهجودْ

أفراحُنا يمشي عليها الأسى

ولهوُنا يغتالُ منا الجهودْ

نضيعُ في غيهب هذا الرَّدى

ولا يردُّ النوْحُ منا الفقيدْ

لا تحسدنْ بالله عِقدَ الهوى

كم في وصال الحبِّ عاشت صدودْ

ولا يهولنّكَ شكُّ الورى

رُبَّ يقينٍ فائضِ من جحودْ

قال شبابي لِنَؤوِم الصبا:

كيف تمتعْتَ بنضر السعودْ

فقال: في الغفلة عن عالمٍ

ما فاز بالمأمول منه الرشيدْ

هاتِ أغانيَّ وعَدْ بالمنى

وانهبْ خطى العمر فكلُّ يبيدْ

ص: 50

وانس الورى وانشر على ما مضى

من نعمة النسيان ضافي البرودْ

ص: 51

‌بائعة الزهر

جاء ظبي يبيع زهرا جنيا

زاد حسنا بروعة التنضيد

قال هلا اشتريت مني زهرا

ضم أبهى شقائق وورود

قلت أبغي شراء أجمل زهر

وسأسخو له بكل نقودي

قال لي فاشتر الشقائق تحكي

أكؤس الخمر أو خدود الغيد

قلت لا، قال فاشْرِ ورداً زهيا

هو بين الأزهار بيت القصيد

قلت لا، قال فاشر - إن كنت تشري

زنبقا يزدهي ببيض البرود

قلت لا، قال لي أذن فاشر فلا

قد حبوه لون الصباح الجديد

قلت لا، قال فاشتر النرجس الحا

وي لتبر في فضة كالجليد

قلت لا، قال فاشر أساً فلم أقـ

بل فأغضي طرفاً ومال بجيد

قال دعني لم يبق عنديَ زهر

قلت باق لديك زهر الخدود

قال زهر الخدود: كم ذا يساوي؟!

لست ادري: فقلت كل وجودي

قال ما تستفيد من زهر خد

نلته في وجودك المفقود؟!

قلت في البيع أستفيد هياما

هو عندي يفوق كل مفيد

أن أسمى اللذات ما تنتهي بي

لفناء ما فوقه من مزيد

لذة السكر تبلغ الأوج لما

فيه يغدو الرشيد غير رشيد

أن أقصى حدود سيرىَ أني

أتخطى في السير كل الحدود

دمشق

احمد الصافي النجفي

ص: 52

‌في الأدب الفارسي

2 -

منطق الطير

القصة الصوفية الخالدة

للدكتور عبد الوهاب عزام

والشاعر في وصف هذه الأودية يذهب مع الشعر المذاهبَ البعيدة، فيملؤها جميعاً بالأهوال والدموع. ولست أدري أكان الهدهد حازماً حين وصف الأودية هذا الوصف المروع. وهذا أجمال وصفها:

1 -

في وادي الطلب، يعترض السالك عقاب كثيرة: ويلقى من النص والتعب ما يضنيه، ولابد له أن يفرغ من كل ما يربطه بهذا العالم، ويطهر قلبه من علائق هذه الأرض. فإذا تم الطهر أصاب القلب شعاع من النور الإلهي فيتضاعف طلبه ألف مرة، وإذاً يذهب قدما لا تثنيه الأخطار والأهوال

2 -

وأما وادي العشق: فهو النار يمضي فيه العشاق كاللهب مضطرما ثائراً ولا يفكر في العواقب، لا يعرف الكفر والدين، ولا الشك واليقين، الخير والشر سواء عنده، كلا بل لا خير ولا شر إذا اضطرم العشق. هناك القلب خفاق يحترق ويذوب ليرجع إلى مكانه كالسمكة أخرجت من البحر إلى الصحراء. هنا لكم العشق نار والعقل دخان، فأما جاء العشق فر العقل مسرعا.

3 -

ثم وادي المعرفة: الذي لا أول له ولا آخر. هنالك تتشعب السبل، وكل يسلك الطريق الذي يستطيعه، وكيف ترجو أن يسير الفيل والعنكبوت معاً في هذا الطريق الوعر. إنما سير كل سالك على قدر كماله، وقربة بمقدار حاله. هنا لكم المعرفة متفاوتة، فهذا يجد المحراب، وذاك يجد الصنم، إذا أضاءت شمس المعرفة من ذلك الفلك العالي أبصر كل بمقداره. وكل ما يرى فهو وجه الحبيب؛ وكل ذرة محله. آلاف الأسرار تتألق كالشمس من وراء الحجب هناك الظمأ الدائم إلى الكمال. . الخ

4 -

وادي الاستغناء

مى جهد أزبى صرصرى

ميزند برهم بيكدم كشورى

ص: 53

هفت دريايك شمر آنجابود

هفت أختريييك شرر آنجابود

تعصف من الاستغناء ريح صرصر تدمر في كل خفقة إقليما، وهنالك سبعة الأبحر غدير، وسبعة الكواكب شرر، والجنات السبع جيفة، وسبع النيران قطعة من برد. يقول العطار: (يا عجباً! إن النملة هناك تربو قوتها على مائة فيل، وإن غراباً لا يشبع بمائة قافلة.

لو سقطت آلاف الأرواح في هذا البحر ما كانت إلا قطرة واحدة في بحر لا ساحل له. ولو هوت الأفلاك والأنجم ما كانت إلا كورقة سقطت من شجرة. . الخ

(يريد شاعرنا أن يشرح ما يدركه السالك في هذه المرحلة من استغناء الله عن العالم وصغر هذه العوالم كلها وضآلتها في جانب الحقيقة الكبرى. ويبين أن الأشياء هناك لا تقاس بمقاييسنا)

5 -

وادي التوحيد

هناك كل عدد يصير واحداً في واحد فيتم الاتحاد، ولكن هذا الواحد ليس كالواحد الذي يذكر في العدد، هو وراء العد والحد (كلام يذكرنا بكلام فيثاغورس في نشأة العالم من الواحد). هنالك لا أزل ولا أبد. وان يضع الأزل والأبد فلا شيء بينهما فكل الأشياء كانت وستكون عدما.

(ومعنى هذا الكلام - فيما أظن - أن الله هو الحقيقة التي لا يحدها الزمن، وكل ما عداها، مما يقاس بالماضي أو الحاضر عدم، فلا شيء قائم إلا هذه الحقيقة).

6 -

وادي الحيرة

هناك يلاقي السالك أضدادا ونقائض تلوح له كلما اختلفت على نفسه الأحوال والادراكات. وهو بين هذا وذاك يفقد نفسه. لا يستطيع أن يهب قلبه لهذا الجلال ولا أن يمنعه. ولا يقدر على أن يسير وحده أو يتبع غيره. فهو نفور من الخلق ومن نفسه، لا مسلم ولا كافر، لأن دين الحيرة لايحد، ولا يعرف الحب ولا البغض، ولا التقوى ولا الفسوق، لا هو خير ولا شرير، ولا موقن ولا مرتاب، ولا هو عزيز ولا ذليل. لا هو كل شيء ولا هو شيء، ولا هو كل ولا جزء من كل.

يقول العطار: (فان يسال السالك هل أنت موجود أم لا؟ أأنت في العالم أم خارجه؟ أظاهر أنت أم خفي؟ أفأن أم باق، أم لست فانيا ولا باقيا، أم أنت فان وباق في وقت واحد؟ فلن

ص: 54

يكون جوابه: إلا (لا أدري شيئاً ولا أدري أنني لا ادري. أنا عاشق ولكن من؟ لا أدري)

ويضرب العطار مثلاً بنت ملك أحبت خادماً واستحيت أن تظهر حبها للخادم. فأوحت إلى جواريها فيسقينه حتى سكر، ثم أتين به اليها، فلما صحا بعض الصحو فتح عينيه فرأى جمالا باهراً في مكان يسحر الألباب، وشم رائحة ذكية، وسمع موسيقى مطربة. فأحب الخادم الفتاة، فلما غلبه النوم حمله الخدم إلى مكانه، فلما استيقظ ذكر ما رأى ولكن كيف ومتى وأين؟ قال له الناس إنه حلم، ولكنه لم يستطيع أن يقول أكان هذا حلما أم يقظة، ولا أن يعرف أكان سكران أم صاحيا:

(فهذا المثل يوضح مقصد الشاعر فالسالك في هذه المرحلة تلوح له أشياء من عالم الغيب ثم تختفي عنه حين يرجع سيرته الأولى من هذه الحياة)

7 -

وادي الفقر والغناء

وهو آخر الأودية: هو وادي الدهشة والصمم والبكم أو الغشية، هنالك آلاف آلاف الظلال تحمي في الشمس. إذا ماج البحر الكلى فكيف يبقى النفس على صفحة الماء. وكل من فقد نفسه في هذا البحر فهو في فناء وسلام أبدا.

يضرب الشاعر أمثالا ليبين الكلام عن هذا الوادي كدأبه في الفصول كلها، ومما ضرب هنا مثل الفراش الذي اجتمع ليلة واتفق على طلب الشمعة، فقالوا لابد أن يذهب بعضنا ليراها ويصفها لنا قبل الذهاب؛ ذهبت فراشة إلى قصر فرأت نور الشمعة منبعثاً منه فرجعت تصف الشمعة لأخواتها، قالت فراشة عارفة: ما لهذه علم بالشمعة قط. فانبعثت فراشة أخرى قاصدة مكان الشمعة فاقتربت ثم اقتربت حتى لم تطق حرها فانثنت إلى صاحباتها تصف ما عرفت من أسرار الشمعة، فقال الخبير: أيها الأخ ما هذا إلا كلام كالذي سمعنا من قبل. ذهبت ثالثة سكرى من الشوق راقصة مرفوفة، فألقت بنفسها في نار الشمعة فأخذتها النار من كل جهة فاحمرت كالنار. فلما رجعت رآها في لون النار وضوئها فقال هذه عرفت الشمعة إنما يدرك المحبوب بالفناء فيه: الخبير العارف

كل هذا يقوله الهدهد على منبره والطير مصيخات إليه. فلما سمعت الطير مقاله أخذها الغم ووجمت وعرفت إن لا طاقة لها بهذا ومات بعضها في مكانه، ثم بدأن الطيران فلقين في الطريق ما لا قبل بوصفه، وانتهى قليل منها إلى الغابة، وهلك أكثرها في الطريق! فمنها

ص: 55

غارق في البحر، ومنها ضال في الفيافي، ومنها هالك عطشا على قني الجبال، وبعضها هلك في وهج الشمس، وبعضها سقط إعياء وبعضها شغلته عجائب الطريق فوقف. وبعضها وجد ما يلهو به فركن إلى الدعة وآثر الراحة. وبعضها أصابته مصائب أخرى.

لم يبلغ الغاية من تلك الآلاف المؤلفة إلا ثلاثون طائراً (سي مرغ) بلغت وبها من النصب والإعياء والآلام ما بها. فماذا وجدن؟ وجدن حضرة لا يدركها الوصف ولا ينالها العقل. وأين برق الاستغناء يومض فيحرق مئات العوالم في لمحة. وأين آلاف الشموس وآلاف الكواكب حائرة كالذرات. فقالا بعضهن لبعض: وا أسفا على ما تحملنا من مشاق السفر. إن مائة فلك هنا كذرة من التراب. فما وجودنا أو عدمنا نحن في هذه الحضرة؟ بقين في حسرة ينقص الحزن منهن حتى خرج عليهم حاجب العزة. قال: أيتها الحائرات المضنيات من أين جئتن ولماذا؟ ما اسمكن، ماذا سمعتن، ومن أخبركن أن قبضة من العظام مثلكن تستطيع أن تعمل شيئا، قالت الطير: جئنا هنا ليكون السيمرغ ملكنا. وقد طال الطريق وكنا آلافا فما بقى إلا ثلاثون. جئنا من أرض بعيدة راجين أن يؤذن لنا في هذه الحضرة، لعل الملك يرضى عملنا فتنالنا نظرة من رحمته

قال الحاجب: أيها الحيارى ما أنتن ما وجودكن وعدمكن عند الملك المطلق الباقي؟ إن مئات آلاف من العوالم لا تزن شعرة أمام باب هذا الملك، هلم فارجعن أيتها المسكينات.

قالت الطير: إن هوانا على هذا الباب عز، وسنبقى هنا نحترق كالفراش علىالنار، أذن لنا بالدخول أم لم يؤذن، ولن نيأس من رحمة الملك. فخرج عليهن حاجب الرحمة وفتح الباب لهن وتقدم يرفع الحجب مئات من الحجب كل لمحة، فانبعث النور في الأرجاء ويبدأ عالم التجلي. فدخلت الطير وأجلست على أرائك القرب

ماذا أصاب الطير من بعد؟ أعطى كل طائر ورقة ليقرأهافقرأ كل ما قدم من عمل حتى غشى عليه حياء وخجلا. ثم محيت الأعمال وأنسيت فلم تذكر الطير شيئاً. ثم أضاءت شمس القرب محرقة كل روح وحينئذ راين السيمرغ. وما اعجب ما رأين. كن إذا نظرن إلى السيمرغ يرَين (سي مرغ) وإذا نظرنا إلى أنفسهن (سي مرغ=ثلاثين طائرا) رأينا السيمرغ، وإذا نظرن إلى أنفسهن والسيمرغ معاً رأين سيمرغا واحدا. فبلغت بهن الحيرة مبلغها. فسألن فقيل لهن: إن هذه الحضرة مرآة فمن جاء هنا لا يرى فيها إلا نفسه. فقد

ص: 56

جئتن ثلاثين طائراً (سي مرغ) فرأيتن في المرآة سيمرغ، ولو جاء أربعون أو خمسون لانكشف الستر كيف تدركنا الأبصار. كيف تنال الثريا عين. النملة. ليس الأمر كما علمتن ورأيتن، ولا كما قلتن وسمعتن. ولكنكن خرجتن من أنفسكن فهاهنا مكانكن. فامحين فيه وضاع الظل في الشمس (بلغت الطير مقام الفناء وهو عند الصوفية أن يتجرد الإنسان من نفسه، ويخضع صفاته للصفات الإلهية ويرجع كما يقولون قطرة في البحر تموج بموجه. ويقول أبو سعيد في تعريف الفناء: إنه فناء الشعور بالبشرية - ولأجل توضيح لغة العطار الشعرية أنقل الجملة الآتية من كشف المحجوب:

(الفناء درجة من الكمال ينالها الأولياء الذين تحرروا من آلام المجاهدة، وخرجوا من سجن المقامات والأحوال، وانتهى طلبهم إلى الكشف، فرأوا كل ما يرى وسمعوا كل ما يسمع، وعرفوا كل أسرار القلب، ولكنهم أدركوا نقص كشفهم هذا فأعرضوا عن كل شيء، وفنوا فيما رغبوا إليه وفي هذه الرغبة فقدوا كل رغباتهم)

وراء هذه الحال حال أخرى يسميها العطار وغيره من الصوفية (البقاء في الفناء) ويقول عنها كتابنا هذه العبارة العجيبة. وهو يعترف أنها حال لا تشرح إلا بالتمثيل)

فلما مضى مائة آلاف من القرون، القرون التي لا زمان لها. أرجعت الطيور الفانية إلى نفسها فلما رجعت إلى نفسها رجعت إلى البقاء بعد الفناء

(وتأويل هذا بكلام الصوفية الآخرين: أن الإنسان يفنى عن نفسه - عن إرادته ورغباته وشهواته الخاصة فيبقى في الله، يريد من اجل الله، ويرغب في الله ويفعل كل شيء غير غافل عن الله طرفة عين هذه خلاصة ما في الكتاب - كما فهمته - والكتاب في حاجة إلى بحث مفصل، ولعله يتاح من بعد.

ثم يختم العطار (منطق الطير) بقوله:

قد عطرت يا عطار آفاق العالم، وهجت العشاق في كل مكان، تارة تنفث العشق المطلق، وتارة تغنى أغاني الحب لمن عشق، ففي شعرك كنز العاشقين وزينة لا تفنى للوالهين. فقد ختم عليك (منطق الطير) كما يحيط بالشمس ضوؤها.

عبد الوهاب عزام

ص: 57

‌العُلوم

عمل التطور

للسر ارثر طمسن

ترجمة بشير الياس اللوس

الغربلة والانتقاء

تنشأ خلال عملية التطور العظيمة تنوعات جديدة لا يخلد منها إلا القليل، لان التناحر على البقاء يعمل على انتقاء أصلح التنوعات الجديدة. ويظهر أن هذه هي الطريقة الأساسية في التطور العضوي. وأهم ما يجب أن نبحث عنه الآن هو: هل التغيرات الطارئة على حياة الفرد كنتيجة مباشرة لمميزات خاصة في البيئة أو الغذاء أو العادات يمكن أن تنتقل بدرجة ما إلى الأحقاب التالية؟ إذ لو لم تكن قابلة للانتقال والتسلسل ولو بدرجة ضئيلة على الأقل إذن لما كان لها آية أهمية من الوجهة السلالية. فالوراثة إذن هي إحدى صفات التطور. إنها (منخل) آخر. ويمكننا أن نقول عندئذ إن عملية التطور العضوي ما هي إلا عملية انتخاب وتثبيت الصالح وإهمال الطالح.

أصل النشآت الجديدة

من أعقد مشاكل علم الحياة معرفة كيفية نشوء التنوعات الجديدة. ففي القرن السابع عشر ظهرت في إحدى حدائق مدينة هيدلبرج نبتة جديدة ذات أوراق غريبة مبتورة الشكل سميت ودعيت تنوع - الـ من النوع - الـ ومن خصائص هذه النبتة أنها أصلية - وظلت كذلك منذ ذلك العهد. هذا مثال من التنوعات الجديدة التي دامت. ولكن المهم هو كيفية نشوء هذه النبتة.

وحدث في زمن شارل الأول ملك إنكلترا إن رجلا فرنسياً يدعى (جيان نوكاري كان مصابا بعاهة (العمى الليلي)، - أي عدم القدرة على الرؤية في الضياء الضعيف. وترجع أسباب هذه العاهة إلى نقص في شبكية العين - وقد حفظ سجل عائلة هذا الرجل إلى الآن ودرس بإمعان فعُرف إن في كل جيل وراثي كان بعض الأفراد من عائلته مصابين بتلك العاهة. وعندما يتزوج أحد أفراد نسله المبرئين من المرض بامرأة من عائلة أخرى أو

ص: 58

بالعكس كانت العاهة تنقطع لأن جميع أفراد النسل يسلمون منها. ولكن عندما يتزوج فرد مصاب من عائلته بفرد سليم من عائلة أخرى كان يستمر هذا المرض في عدد معين من النسل الجديد. أن ميزة العمى الليلي هذه توضح لنا ما يسمى بالوراثة المندلية ولكننا قد نتساءل أولا كيف ابتدأ (العمى الليلي).

لماذا يختلف أفراد العائلة عن بعضهم؟ كيف نستطيع تعليل بعض الحوادث العرضية كالقطط العديمة الأذناب والعجول العديمة القرون والعصافير البيضاء والصبير العديم الشوك والبرتقال العديم البذور. الخ. كيف تنشأ كل هذه الشواذ؟

الوراثة

تتمثل الميزات الوراثية في البويضة والحيوان المنوي بطريقة لا نفهمها فمن الجرثومة الأولى تظهر الميزات التي تختص بها الكائنات وتميزها عن بعضها؛ وفيها العناصر التي تكون الوراثة الطبيعية للنوع. ولكن هذه العناصر قد تتحول نحو جهة معينة أثناء النمو. والواقع إننا نعلم في بعض الحالات وخاصة في الحيوانات الدنيا كالأسماك بين الفقريات - إن نمو بعض الخصائص يتوقف على انتقالات المخلوق الحي وبيئاته. وبكلام آخر أن العناصر أو العوامل الوراثية هي بذور حية يجب الاعتناء بزرعها. فما الجسم النامي إلا بذرة الأولين، والآن نعلم انه عند نضوج الحجيرات الجرثومية (التناسلية) وتلقيح البويضة من قبل الحيوان المنوي (وهذه هي بداية حياة الفرد) توجد فرص عديدة واحتمالات شتى لاختلاط الميزات الوراثية. ومن المؤكد إن التبادلات والتوافقات & التي تنشأ بهذه الطريقة تخلق التنوعات الكثيرة خلال النمو.

الكاليدوسكوب الحي

إذا أمعنا النظر في أشكال الحيوانات وصورها لا نقع على اثنين يتشابهان تشابهاً تاماً، وهذا يذكرنا بالكاليدوسكوب الذي يعطينا مختلف الصور والأشكال بتحريك القطع الزجاجية الملونة فيه، وربما كانت الجرثومة كالايدوسكوبا حياً فقد تتأثر أحياناً بعوامل الغذاء والمحيط وعادات الوالدين وقد يؤثر عليها تغيير المناخ، أو قد تتغير من نفسها محدثة ترتيبات جديدة لعناصرها. ولما كانت الجرثومة حية فهي جسم عضوي مضمر أو بعبارة

ص: 59

أخرى (هي مخلوق حي كامن في حجيرة واحدة) وقد أشرنا فيما سبق إلى تعدد الفرص في امتزاج العناصر الوراثية عند نضوج حجيرات التناسل وتلقيحها.

التغايرات والنشآت الجديدة &

كثيراً ما يكون الطفل شديد الشبه بأحد والديه في بعض الأوجه على الأقل. وقد يرث بعض الخصائص عن أبيه والبعض الآخر عن أمه وهذا ما دعا دارون إلى اعتبار تلك التغايرات كمواد أولية للتطور. وقد عثر على مجموعات من الأحافير تظهر التغير من شكل إلى آخر وتوحي لنا بفكرة (التقدم بعلاوات تدريجية) أو التقدم (بالاختزالات) وهناك احتمال حدوث تغير خاص في جهة معينة الأمر الذي يجعل هذه التطورات كالفصول المتابعة في النمو الفردي

بيد أن هناك نوعا آخر من التغير اكثر تعقيداً وهو (النشوء الفجائي) كالشعر المجعد والشعر الآنقري والنبوغ الموسيقي والرياضي والصفصاف الباكي والديك الطويل الذنب والفيل الأبيض. وقد قارن السر فرنسيس غالتون التغايرات الصغيرة بذبذبات جسم كثير الأوجه مرتكز على أحد سطوحه والنشوء الفجائي بانقلاب الجسم كله على سطح جديد. ومن أبرز خصائص النشوءات الفجائية أنها تتوارث وتظهر بوضوح في النسل المولود من أبوين فيهما نفس تلك الخصائص. فإذا تزوج النابغ بنابغة كان النسل حاوياً لنوابغ عديدين، ولكن في حالات كثير يجب أن يلاحظ إن النشوء الفجائي يظهر غالباً بشكل نقص في التركيب - أي عدم وجود ميزة معينة في النباتات، أو قرون في الأبقار، أو أذناب في القطط. ويقال عنه في مثل هذه الحالات انه نشوء فجائي سلبي بينما قد تظهر الميزة الشاذة بشكل إيجابي أي بإضافة ميزة جديدة لم تكن موجودة في الوالدين ولا في أسلافهما.

الانتخابات الطبيعي

إن أساس نظرية التطور الداروينية هو: (انتقاء الأصلح من النشوءات الجديدة بعد التجربة والاختبار). وقد أجرى العالم الطبيعي الإيطالي (سسنولا تجارب على الجراد المصلي أو فرس النبي وهي حشرة غريبة توجد على ضربين أخضر وأسمر كل منهما ملائم للمحيط الذي يعيش فيه. ربط (سسنولا) الضرب الأسمر بخيط حريري على نبتة ذابلة

ص: 60

فتخلصت الحشرة من أعدائها، وكذلك ربط الضرب الأخضر على نبتة خضراء فسلمت من الأعداء أيضاً. ولكن عندما ربط الحشرات السمراء على نبتة خضراء والخضراء على نبتة ذابلة، سرعان ما اجتاحتها الطيور عن آخرها. فلو أصبحت إيطاليا مثلا بقعة جرداء إذن لانقرض الجراد الأخضر فيها عن آخره، ولبقى الجراد الأسمر فقط، والعكس بالعكس. هذا مثال لما نسميه بالانتخاب الطبيعي أو ما نعبر عنه بغربلة الطبيعة

الانتخاب الصناعي

رأى دارون أن يستعمل تعبير (الانتخاب الطبيعي) تمييزا له عن الانتخاب الصناعي الذي يقوم به الإنسان فإذا أعجب المربي بضرب جديد أزوجه بآخر يشابهه على قدر المستطاع، ويبادر إلى النسل فيغربله منتزعاً الضروب التي لا يريدها ومحافظاً على الضروب التي يريدها. وهكذا نستطيع أن نميز عمليتين مزدوجتين في الانتخاب الصناعي وهما:(1) تزاوج الأفراد المتشابهة المرغوب فيها (2) إقصاء الأفراد غير المرغوب فيهم

ولكن ترى من يقوم مقام المربي المنتخب في حقل الطبيعة، للإجابة على هذا السؤال يمكننا أن نستعين بالفكرة التي أدخلها (دارون) و (ولس) في نظرية التطور وهي فكرة الانتخاب الطبيعي التي تعني غربلة الطبيعة للنشآت الجديدة خلال التناحر على البقاء.

التناحر على البقاء

لقد استعمل دارون هذا التعبير بمعنى واسعي ومجازي فشمل اتكال البعض على الآخر، وعلى الأخص نزوع الفرد إلى الحياة وتكثير ذريته. فلكي نفهم فكرة دارون يجب أن نشاركه في نظريته الواسعة لأنه عنى بالتناحر على البقاء أكثر من نضال مستميت في سبيل الغذاء.

تميل المخلوقات الحية إلى التكاثر، ولكثير منها نزعة شديدة للحياة لا تقف مطامعها عند حد فهي عاصية متمردة تستنكر التغيرات المقيدة لحريتها في البيئة التي تعيش فيها. وفي وسط هذه الميول والنزعات يجري التناحر على البقاء - أو التصادم بين العضويات الحية وحواجز بيئاتها. على أن ذلك النزاع المستمر قد يؤدي إلى فناء البعض، ولكنه قد يؤدي أيضاً إلى التعاون بين أفراد البعض الأخر، وقد يكون لأجل التوطن والحصول على الغذاء

ص: 61

ولكنه قد يؤول أيضاً إلى التنعم والترف، وقد يكون لأجل التمتع الفردي أو لتكوين رابطة عائلية يقوي الحب أواصرها، وقد يؤدي إلى استعمال الأسنان والمخالب ويؤول إلى النفع العام، وأخيراً يسقط في ساحة ذلك النضال المستميت ضعاف المخلوقات ومهازيلها فيثبت القوي ويفنى الضعيف والطبيعة خالدة فوق الجميع.

الانتخاب الجنسي

لكي نهيئ مرجا صالحاً يجب أن نقتلع منه الدغل ونبقى العشب الأخضر فقط. كذلك تنتقي الطبيعة الصالح وتقضي على الطالح. على أننا نحتاج إلى نوع من السماد يغذى العشب ويقويه دون أن يفيد الدغل الضار وهكذا يتغلب العشب على تلك الأدغال. إن هذا يشبه ما نسميه في الطبيعة بالانتخاب الجنسي لأن كثيرا من المخلوقات لا تنجح في الحياة لقوتها ومهارتها بل لكثرتها غالبا - وقد تكون القوة والمهارة مرافقتين للكثرة أيضاً.

لقد علق دارون أهمية كبرى على الانتخاب الجنسي، أي ذلك التناسل الذي يصحبه تفضيل الأنثى للذكر الذي يروق في عينيها أكثر من غيره: إما لجماله أو لرشاقته أو لقوته، أو لجمال صوته أو لغير ذلك من الصفات المستملحة. وكان رأي دارون أن شغف الأنثى بتلك الصفات حملها على محاولة استهواء الذكر بما اكتسبته أثناء التطور من جمال قد ورقة صوت، تلك الميزات التي يهتم بها الذكر هياما عظيما.

ص: 62

‌مطالعات وأشتات

للدكتور احمد زكي

لبن الحمام

سمعنا بلبن الإنسان وتذوقناه كلنا، وسمعنا بلبن الأبقار والجاموس وشربناه لا شك جميعا، وبلبن الماعز ولبن الجمال، ولا ريب أن منا عدداً غير قليل أسعدته المصادفات بتذوقهما واستمرائهما، حتى لبن الحمير يدخل في دائرة ما عَرَفنا أو سَمِعنا في الحياة، ومن الناس من يحدثك عن فوائده وأسراره بأحاديث حارّة لا تتشكك بعدها في صفاته وآثاره. وغير هذه الحيوانات عدد كثير تهيئ اللبن لصغارها طعاماً سائغاً تستحضره من غذائها إذ يجري في دمها فتستخلصه منه مجموعةٌ من الغدد أُسميت بالثُّدِيّ. أما لبن الحمام، وهو طائر يبيض، فلم يسمع به الكثير، ولكنه مع ذلك حقيقة، فهو إفراز كاللبن تفرزه الحمامة قبيل أفراخ بيضها، وتستمر في إفرازه أياماً عبد إفراخه، وتطعم به صغارها وهن ضعاف عراة، وهذا اللبن ثخين يضرب لونه إلى البياض، ويحتوي الدهنَ الذي تحتويه الألبان، وكذلك يحتوي زلالها، فيبلغ مقدار دهنه ما بين 25 إلى 29 في المائة، ويبلغ زلاله ما بين 13 إلى 14. 5 في المائة وهذان يبلغان في لبن البقر نحواً من 3. 7 في المائة و 3. 5 في المائة على التوالي.

فلبن الحمام إن خالف ألبان الأبقار فهو يشبه لبن الأرنب في مقدار دهنه وزلاله، غير أنه لبن يعوزه سكر الألبان وكل سكر غيره.

والحمام لا يحضر لبنه في ثديه، فليس له ثدي، وإنما يفرزه في حويصلته

ومن الغريب أن الذكر يفرز اللبن كما تفرزه الأنثى، وهذه ظاهرة لا ينفرد بها الحمام، فقد عُرفت من الحيوانات الثدييّة أنواع تتعادل ثدي إناثها وذكروها حجماً، ويشتركان كليهما في تغذية الوليد الرضيع. حتى الوَطواط يُظن إن ذكره يساعد أنثاه في الإرضاع أحيانا.

والرجل ذو ثديين هما فيك وفيّ منضمران، ولكن قد عُرف من البشر رجال تضخمت ثدِيّها حتى كانت كالنساء وقطر اللبن منها وسال. والفسلجيون لا يعدون هذه الظاهرة فلتات من الطبيعة وإنما هي لديهم شارة إلى أن الحيوانات في أبان نشوئها كان يشترك جنساها بالسوية في تغذية الرضيع وإنجاده كما اشتركا في إيجاده. ثم تلا هذا أن تخصصت الأنثى

ص: 63

بذلك في الأكثرية العظمى من المملكة الحيوانية. وقد حدث في بعض الأسماك أن قام الذكر بذلك بالحضانة وأُعفيت الأنثى.

شرارة هائلة

من المعروف المألوف الآن أن الذرَّة الواحدة من ذرات الأجسام تحتوي على نواة يدور حولها عدد يزيد وينقص من وحدات كهربائية تسمى بالكهارب، هي نفس الوحدات التي يتركب منها تيار الكهرباء. ومن المعلوم كذلك أن الأبحاث في ذرات العناصر من بعض وسائلها إصابة الذرَّة بمقذوفات من تلك الكهارب يحّضرها الباحث من الكهرباء نفسها ويسلطها على الذرّة المبحوثة فيتطاير عنها من كهاربها ما يتطاير ثمَ يمتحن ما ينتج عن ذلك من إشعاع.

وقوة تلك القذائف تتوقف على الضغط الذي يدفعها في طريقها، ويسمى هذا الضغط في لغة الكهربائيين (بالفلتجة) ويقاس (بالفلت). وضغط الكهرباء في أكثر منازل القاهرة يبلغ مائة (فلت) أو يزيد قليلا. وهو ضغط كاف لحاجات البيت، ولكنه غير كاف لتمزيق الذرَّة.

وقد كان وصل العلم من عهد قريب إلى توليد كهرباء استاتيكية ضغطها 800000 فلت، ولكن جاءت الأخبار من المعهد الصناعي بماساشوست بأمريكا بان الدكتور (فان دي جراف) وهو أحد الفيزيائيين فيه قد توصل إلى تدبير جهاز يتولد به تيار متواصل من الكهرباء ضغطه 10000000 فلت. ويتركب المولِّد من قطبين كبيرين متماثلين هما في الواقع كرتان عظيمتان لّماعتان من الألمنيوم قطرهما 15 قدما تحملهما اسطوانتان جوفاوان عازلتان قطرهما 6 أقدام وارتفاعهما 25 قدما. ويحمل الاسطوانتين عربتان ثقيلتان تسيران منفصلتين على قضيبين حديديين تبلغ مسافة ما بينهما 14 قدمان وبذلك يمكن التقريب بين القطبين والتبعيد بينهما. وهما يسكنان الآن بيتا وسيعا كانت تسكنه المناطيد. ويُشغِّل الجهاز بادارة أحزمةُ مغلقَة عديدة من الورق تصعد وتهبط في دورانها داخل الاسطوانة على حذاء طولها، تتصل عند قاع الاسطوانة بالمحركات التي تديرها، وتتصل من أعلى ببكرات مثبَّتة في وسط الكرة، فإذا بلغت أجزاء الحزام الدوَّار بَكرَتَه وهو متكهرب مسّ عندها فرشة فأعطاها حمولته من الكهرباء فأوصلتها إلى الكرة المعدنية وهي على ضغط 2000 فلت. ولكن لا تلبث أن تأتي الأحزمة بحمولات غيرها فِعلَ الساقية المصرية فتزيد شحنة

ص: 64

الكرة زيادة كبرى. وذلك بَينما الكرة الأخرى في القطب الآخر جادَّة في جمع شحنة مثل هذه في الكبر ولكنها تخالفها في النوع، فان كانت إحداهما سالبة كانت الأخرى موجبة. فإذا بلغ اختزان الكهرباء في كل منهما ضغط قدره 5000000 فلت أخذ القطبان في التفريغ الكهربائي تحت ضغط 10000000 فلت ولما كان التفريغ تحت هذا الضغط الهائل لا يُؤمن جانبه على المشتغلين بالجهاز من البحّاث فقد أنزلوهم منه آمن منزِل: ذلك جوفه في الكرة المعدنية نفسها، وسيكون بها نور وآلات وأجهزة، أي ستكون معملا فيه كل ما يطلبه الرجال للعمل، وستشحن أجسامهم بالكهرباء والجهاز دائر إلى أقصى القطبين، ولكنهم معزولون عن الأرض فلن يصيبهم أذى.

قماش جديد:

ويصنعونه من القطن والكتان. وخلط القطن بالكتان في النسيج أمر معروف، فهم يجمعون خيوط هذا إلى خيوط ذلك، أو يُسدون بهذا ويلحمون بذلك. ولكن الطريقة الجديدة تتضمن إحالة القطن إلى مادة كالفالوذج، وإحالة الكتان إلى مادة فالوذجية مثلها، ثم خلط الاثنين بنسب تتفاوت لأغراض تتفارق، ثم ضغط المخلوط في ثقوب رفيعة يخرج منها وقد جف خيوطاً بين القطن والكتان تغزل ثم تنسج منها الأثواب. وسنرى في القريب بشائر هذا الأثواب تباع في الأسواق بأثمان يقولون عنها إنها أغلى من القطن بقليل ولكنها أرخص من الكتان بكثير.

ص: 65

‌القصص

الصديق الصدوق

للأديب الإنجليزي المعروف أوسكار وايلد

في صباح أحد الأيام أطل من جحره فأر ماء عجوز، ذو عينين لامعتين كالخرز، وشارب خشن أسمر، ذنب كأنه قطعة طويلة من المطاط الأسود، وكان يسبح حوله في الغدير أفراخ من البط ومعهم أمهم البيضاء الناصعة ذات السيقان الحمراء تعلمهم كيف يقفون في الماء على رؤوسهم، وتقول لهم من حين إلى حين (لا يمكن أن تعيشوا في جمعية راقية وانتم غير قادرين أن تقفوا في الماء على رؤوسكم.) ثم تريهم كيف يكون ذلك؛ ولكن الأفراخ لم يصغوا إليها، لقد كانوا صغاراً لا يدركون فائدة الحياة في الجمعية.

صاح فأر الماء العجوز - ما أعقهم من أولاد، أنهم ليستحقون الموت غرقا.

أجابت البطة - ليس الأمر كذلك، إن لكل امرئ بداية. . وإن الآباء ليصبرون طويلا.

فأر الماء - آه. . أنا لا أعلم شيئاً عن عواطف الآباء، إنني لست رجل أسرة، فلم لم أتزوج ولم أفكر قط في الزواج. الحب جميل إجمالا، ولكن الصداقة أسمى بكثير. في الحق أني لا أعرف ما هو أشراف ولا أندر من الصديق الصدوق.

سأل الطائر الصغير الملقب بالتفيفحة، وكان جالساً على شجرة الصفصاف وقد سمع المحادثة (ولكن بالله عليك قل لي ما رأيك فيما يجب أن يكون عليه الصديق الصدوق؟)

البطة - نعم هذا ما أردت أن أعرفه - وسبحت إلى نهاية الغدير ووقفت على رأسها.

صاح فأر الماء - ما أسخفه من سؤال! إني أريد من صديقي الصدوق أن يضر نفسه لينفعني.

قال العصفور الصغير وهو يطير فوق عسلوج ذهبي ويصفق بجناحيه الرقيقين (وماذا تفعل أنت مقابل ذلك؟)

أجاب فأر الماء - لا أفهم ما تعني.

العصفور - دعني أقص عليك حكاية في هذا الموضوع.

فأر الماء - وهل يدور حولي محور هذه القصة - إذا كان كذلك فأنا أصغي إليك لأني جد مولع بالقصص الخيالية.

ص: 66

العصفور - إنها تناسبك، وطار هابطا وحط على الشاطئ وأخذ يقص حكاية الصديق الصدوق.

الطائر الصغير - كان يعيش في أحد الأزمنة شاب نبيل يدعى (هانس)

فأر الماء - هل كان مشهوراً.؟

الطائر - كلا ما أظن أنه كان مشهوراً، اللهم إلا بقلبه الرحيم ووجهه الضحوك البشوش المستدير، لقد عاش في كوخه الحقير وحيدا وكان يشتغل كل يوم في حديقته التي لم يكن في القرية حديقة تدانيها في الجمال، فيها كان ينمو الزهر المنثور والورد الأحمر والورد الأبيض والأصفر والزعفران الليلكي والذهبي والبنفسج الأرجواني والريحان والياسمين وهكذا كنت تجد دائماً في الحديقة ما يقر العين وينعش الفؤاد.

وكان (لهانس) الصغير أصدقاء كثيرون، ولكن (هيو) الطحان الضخم الغني كان أكثر هؤلاء الأصدقاء وفاء وتضحية وقد بلغ من وفائه (لهانس الصغير) أنه لم يكن يمر بحديقته دون أن يعطف على الحائط ويقطف باقة أزهار كبيرة أو يجمع حزمة من الحشيش النظيف، وإذا كان الفصل فصل الأثمار ملأ جيوبه بالبرقوق والكرز.

وكان الطحان يقول: يجب أن ترتفع الكلفة من بين الأصدقاء الأوفياء، فيؤمن هانس الشاب على أقواله ويبتسم ويأخذه العجب كلما فكر أن له صديقا يحمل مثل هذه الأفكار النبيلة.

وكان الجيران أحياناً يتساءلون مستغربين: كيف أن الطحان الغني لا يعطي هانس شيئاً مقابل ما يأخذه منه في حين أن لديه مئات من أكياس الدقيق مخزونة في مطحنته وعنده ست بقرات حلوب، وقطيع كبير من الغنم المكسو بالصوف، ولكن (هانس) لم يزعج نفسه بمثل هذه الافكار، ولم يكن ليسره شيء بقدر ما كان يسره أن يصغي إلى الأقوال الغريبة التي كان يذكرها له الطحان عن تضحيات الصديق الصدوق.

وكان هانس الصغير يشتغل في حديقته ويعيش جد سعيد خلال أيام الربيع والصيف والخريف، ولكن حين يأتي الشتاء وليس لديه ما يبيعه من أثمار وأزهار كان المسكين يتألم كثيراً من البرد والجوع، وكثيراً ما كان يذهب إلى فراشه دون أن يتناول شيئاً من الطعام اللهم إلا قليلاً من التين الجاف أو شيئاً من الجوز اليابس، وفي الشتاء أيضاً كان دائم الوحدة لان الطحان لم يكن يأتي ليراه في ذلك الفصل أبداً.

ص: 67

- ليس من الخير أن أذهب وأرى (هانس الصغير)(والثلج لا يزال على الأبواب) هذا ما كان يقوله الطحان لزوجه حين يكون الناس في اضطراب، علينا أن ندعهم فلا نزعجهم بزياراتنا هذا رأيي في الصداقة، واكبر ظني إني على صواب، لذلك فأنا سأنتظر قدوم الربيع وعندئذ أذهب لزيارته، وسيكون عندئذ قادراً على أن يقدم لي سلة كبيرة من أزهار الربيع!

أجابت الزوجة وهي ترتمي على المقعد الكبير إلى جانب النار - في الحق أنك كثير الاهتمام بغيرك، إنه ليسرني أن أسمعك تتكلم عن الصداقة دائماً. . إنني على يقين أن رجل الدين نفسه لا يتكلم بمثل كلامك الممتلئ علماً وحكمة.

قال أصغر أولاد الطحان - ولكن لا نطلب (لهانس الصغير) أن يصعد إلينا - إذا كان هانس الصغير في ضيق فأنا سأقدم له نصف ما عندي من ثريد، وأريه أرنبي الصغير.

صاح الطحان - يالك من ولد غبي. حقاً إني لا أعلم ما فائدة إرسالك للمدرسة، يظهر انك لا تتعلم شيئاً؛ لماذا؟ إذا أتى هانس الصغير إلى هنا ورأى نارنا الموقدة وطعامنا اللذيذ ودننا الكبير الطافح بالنبيذ الأحمر عندها يأخذه الحسد، والحسد هو أفظع خلة يمكن أن تشوه طبيعة الإنسان، أنا خير أصدقائه وسوف أظل أرعاه بعنايتي وأحول دون دخوله في أية تجربة، وبالإضافة إلى ذلك فان هانس إذا جاء إلى هنا فقد يطلب مني أن أقرضه قليلا من الدقيق، وهذا ما لا أستطيعه، الدقيق شيء والصداقة شيء آخر ولن يجتمعا. لماذا! لأن الكلمتين تختلفان في التهجية ولكل منهما معنى خاص. كل إنسان يوافقني على ذلك (. .

قالت الزوجة وهي تملأ كأسها بالجعة الدافئة: إن ما تقوله هو عين الصواب. .

أجاب الطحان - يحسن بعض الناس التمثيل، ولكن قل من يجيد منهم الكلام، وهذا يعني إن الكلام أصعب من التمثيل وهو كذلك أجمل بكثير. ثم نظر بجفاء إلى ولده الصغير الذي جلس إلى المائدة منكمشاً مطرقاً برأسه، خجلا من نفسه.

سأل فأر الماء العجوز - أهذا ختام القصة؟

أجاب العصفور - طبعاً لا. هذا أولها. . .

فأر الماء - أنت إذن من الرواة القدماء، إن الرواية البارعة في هذه الأيام يبدأ روايته من نهايتها ثم يسير بالسامعين إلى بدايتها، تلك هي الطريقة الحديثة، لقد سمعتها من فم ناقد كان

ص: 68

يسير منذ يوم برفقة شاب حول البركة، لقد تكلم بحماس جعلني أوقن بأنه على صواب خصوصاً وقد كان أصلع الرأس يضع على عينيه منظارين أزرقين. ولكن أرجوك أن تستمر في قصتك.

قال العصفور وهو يقفز حيناً على إحدى ساقيه وحيناً على الأخرى: وكان الطحان عندما ينتهي الشتاء وتبدأ أزهار الربيع تتفتح عن أكمامها الباهتة الصفراء يقول لزوجته بأنه ذاهب ليرى هانس الصغير

صاحت زوجته - ماذا! ما أطيب قلبك! انك دائم التفكير في الآخرين. هل أذكرك أن تأخذ السلة معك لتملأها بالأزهار.

وهكذا ربط الطحان شراع الطاحونة وهبط التل وبيده السلة

الطحان - صباح الخير، هانس الصغير.

قال هانس وهو متكئ على معوله ضاحكاً مل شدقيه: صباح الخير

الطحان - كيف أمضيت أيام الشتاء؟

هانس - بخير انه لكرم منك أن تسأل عني، كانت أياماً شديدة، ولكن ها قد أتى الربيع وأنا سعيد حقاً وأزهاري أخذت تتفتح.

الطحان - طالما تحدثنا عنك أيام الشتاء وتساءلنا كيف يكون حالك؟

هانس - هذا لطف منك، لقد كدت أظن وبعض الظن إثم انك نسيتني!

الطحان - هانس إني معجب بك. الصداقة لا تنسى أبداً وهذا هو سرها العجيب. . كم تبدو زهورك جميلة!!

هانس - حقا إنها لها منظراً بديعاً ومن حسن حظي أن لدي كثيراً منها، سأحملها إلى السوق وأبيعها إلى ابنة شيخ القرية وأبتاع بثمنها عربة يد.

الطحان - تبتاع عربة يد! ما أحسبك تعني أنك قد بعت عربتك، انه يكون إذن تصرفاً منك خاطئاً. .

هانس - هذا هو الواقع الذي أكرهت عليه. انك تعلم أن الشتاء كان على جد صعب، وإني لا أملك ما ابتاع به خبزاً، فاضطررت بادئ الأمر أن أبيع أزرار بذلتي يوم الأحد، ثم بعت سلسلتي الفضية فغليوني الكبير، وأخيراً بعت عربتي ولكنني مصمم أن أعود فأشتري هذه

ص: 69

الأشياء كلها.

الطحان - هانس. سأقدم لك عربتي. صحيح إنها بحاجة إلى إصلاح، وقد ذهب أحد جانبيها وفي دولابها عطل بسيط. ولكن ساقدمها لك على رغم ذلك، فأنا أعلم أن هذا كرم عظيم مني، وان كثيرين من الناس سيظنون بي الغباوة لتفريطي في العربة، ولكني لست كباقي الناس، أنا أرى في مثل هذا الكرم روح الصداقة.

هانس الصغير - حسناً حقاً انه لكرم منك وطفح وجهه الضحوك المستدير سروراً. . إنني أصلحها بسهولة لان عندي لوح من خشب.

الطحان - لوح من خشب أنا بحاجة إليه لان في سقف مخزن لحاصلات ثقباً كبيراً. انه لمن حسن الحظ انك نوهت لي بهذا اللوح الخشبي، عجيب حقاً، كيف ان العمل الصالح يلد دائماً عملا صالحاً لقد أعطيتك عربتي، والآن فانك تقدم إلي لوحك. نعم إن العربة أثمن بكثير من لوح الخشب ولكن الصداقة الحق لا تهتم بمثل ذلك، أرجو أن تحضره حالا.

هانس - بالتأكيد. وجرى إلى السقيفة وأخرج اللوح.

قال الطحان وهو ينظر إلى اللوح - انه ليس كبيرا جداً، إني لأخشى أن لا يبقى منه شيء لتصلح به العربة بعد أن أسقف مخزني ولكن ذلك ليس خطأي، والآن وقد قدمت لك عربتي الصغيرة، فأني متأكد بأنك ستقدم لي زهوراً مقابل ذلك. هذه هي السلة وإني أذكرك أن تملأها جيداً

قال هانس الصغير متألما - أملأها جيداً. .! (لان السلة كانت كبيرة جداً، وقد أردك انه أن ملأها فسوف لا يبقى لديه ما يأخذه إلى السوق، بينما هو يرغب أن يعيد أزراره الفضية)

أجاب الطحان - ما كنت أظن بعد أن أعطيتك العربة انه كثير على أن أسألك قليلا من الزهور. قد أكون مخطئاً ولكني اعتقد إن الصداقة، الصداقة الحق يجب أن تبتعد عن كل أنانية

صاح هانس الصغير - يا صديقي العزيز، يا أخلص صديق. لك الأمر على كل ما في حديقتي من أزهار، أني لأرغب في أفكارك السديدة أكثر من أزراري الفضية، وجرى فقطف كل زهوره الجميلة وملأ بها سلة الطحان.

الطحان - وداعاً هانس الصغير وصعد التل ولوح الخشب على كتفه والسلة الكبيرة في

ص: 70

يده.

هانس - مع السلامة.

في اليوم الثاني كان هانس ينصب العليق حينما سمع صوت الطحان يناديه من الطريق فقفز عن السلم، وجرى إلى الحديقة وتطلع من أعلى الحائط لرأى الطحان وعلى ظهره سلة كبيرة ملآنة بالزهور

الطحان - عزيزي هانس الصغير هل تحمل لي هذه السلة إلى السوق؟

هانس - إنني كثير الشغل اليوم. على أن أنصب كل العليق واسقي كل الزهور واحزم كل الكلأ.

الطحان - حسناً. أظن انه ليس من حسن الصداقة أن ترفض طلبي

صاح هانس - آه لا تقل ذلك إنني لا أحب أن أعادي العالم أجمع، ثم جرى فأحضر قبعته وسار ينوء بالسلة الكبيرة

لقد كان يوماً لافحاً، وكان الطريق يعج بالغبار، وقبل أن يصل هانس إلى الكيلومتر السادس كان قد بلغ به التعب مبلغاً عظيماً وكان عليه أن يستريح، ولكنه استمر يسير بشاعة إلى أن وصل السوق بعد ان انتظر قليلا استطاع أن يبيع الأزهار بسعر جيد، حينئذ عاد إلى البيت حالا دون إبطاء لانه خاف إن هو تأخر قليلا أن يلقى اللصوص في الطريق.

قال هانس الصغير لنفسه وهو ذاهب للفراش (حقا لقد كان يوماً مزعجاً متعباً، وعلى كل فأنا مسرور لأني لم أرفض طلب الطحان وهو أخلص صديق إلي، وعدا ذلك فهو سيعطيني عربته)

وفي صباح اليوم الثاني نزل الطحان مبكراً ليأخذ زهوره، ولكن هانس الصغير كان لا يزال في فراشه من أثر تعبه.

الطحان - قبل كل شيء انك كسول جداً والكسل خطيئة عظيمة، وأنا لا أحب أن يكون أحد أصدقائي كسولا بليداً. لا ينبغي أن تتأثر من صراحتي، تأكد إني ما كنت لأرميك بهذه الكلمات الجارحة لو لم اكن صديقك، كل شخص يستطيع أن يقول كلاماً ليناً ويذكر أموراً مبهجة ويصانع ويخادع ولكن الصديق الصدوق يقول دائماً أقوالا لا تسر ولا يهمه أن هو

ص: 71

آلم صديقه.

قال هانس وهو يفرك عينيه ويرفع عنه اللحاف - أنا متأسف جداً لقد بلغ من تعبي إن زعمت إني أستطيع البقاء في الفراش ولو قليلاً، والإصغاء إلى غناء الطيور. هل تعلم إني حين أصغي إلى الطيور اشتغل بنشاط عظيم؟

قال الطحان وهو يربت على ظهر هانس الصغير - أنا مسرور من ذلك، لأني أريدك أن تأتي إلى الطاحونة حالما ترتدي ثيابك وتصلح لي سقف مخزن الحاصلات. مسكين هانس الصغير! لقد كان في نيته أن يذهب ويشتغل في حديقته لأن أزهاره لم تسق منذ يومين، وهو في نفس الوقت لا يحب أن يرفض طلب الطحان صديقه الصدوق، قال هانس بصوت المتهيب الخجل - هل تظن إني أكون مذنباً إذا اعتذرت لك بقولي: أني مشغول

أجاب الطحان - ما أظن إني طلبت منك أمراً خطيراً ثم اذكر إني سأعطيك عربتي وطبعاً إذا رفضت فأنا سأذهب بنفسي وأصلح السقف.

صاح هانس - آه ليس من الضروري. . وقفز من الفراش وارتدى ثيابه وصعد إلى مخزن الحاصلات حيث اشتغل هناك طيلة النهار حتى إذا غربت الشمس جاء إليه الطحان ليرى مالذي صنع.

صاح الطحان بصوت رقيق هل رتقت خرق السقف يا هانس الصغير؟

أجاب هانس - تماماً ونزل عن السلم

الطحان - آه لا يوجد عمل ألذ من العمل الذي يقوم به المرء للغير.

قال هانس وهو يمسح جبينها - بالتأكيد، إنها لفائدة عظمى أن أسمعك تتكلم، فائدة عظمى، ولكني أخشى أن لا يقدر لي أن أحمل مثل هذه الأفكار التي تحملها

الطحان - إنها ستأتيك ولكن بعد عذاب أعظم. عندك الآن تطبيقات في الصداقة وبعد أيام ستعرف نظرياتها أيضاً

هانس - سأعرف حقيقة نظريات الصداقة؟

الطحان - أنا لا أشك في ذلك، ولكن الأحسن الآن وقد أصلحت السقف أن تذهب إلى البيت وتستريح لأني أريدك منك غداً أن تسوق غنمي إلى الجبل. مسكين هانس لقد خشي أن يجيب بشيء، وفي صباح اليوم التالي أحضر الطحان غنمه إلى الكوخ فسار بها هانس

ص: 72

إلى الجبل وقد كلفه أخذها والعودة بها يوماً كاملاً، وحين عاد كان منهوك القوى فنام على مقعد ولم يستيقظ حتى ساعة متأخرة.

قال - سأتمتع بيوم مبهج في حديقتي وذهب في الحال ليشتغل لكن لم يستطيع أبداً أن يرعى زهوره لأن صديقه الطحان كان يأتيه دائماً ويرسله في مهمات طويلة أو يحضره ليساعده في المطحنة.

ومع الأيام كان هانس الصغير يزداد حزناً على زهوره، ولكنه كان يعزى نفسه بأن الطحان صديقه الصدوق.

وهكذا كان هانس يشتغل للطحان، وكان الطحان يذكر له كل الأقوال الجميلة عن الصداقة فكان ينقلها إلى دفتره ويراجعها في المساء شأن التلميذ المجتهد

وقد حدث في مساء أحد الأيام وقد كان هانس الصغير جالساً إلى جانب الموقد أن سمع صيحة شديدة عند الباب، وكان ليلة مزعجة الريح تصفر فيها وتزمجر حول البيت، فظن هانس أن الصوت صوت العاصفة ولكن حين أعقب الصرخة الأولى ثانية فثالثة قال هانس لنفسه! انه مسافر مسكين، وجرى نحو الباب فإذا بالطحان يحمل فانوساً بإحدى يديه وعصا ضخمة بالأخرى

صاح الطحان - عزيزي هانس الصغير، إنني في قلق عظيم لقد، سقط ولدى الصغير من أعلى السلم وأنا ذاهب إلى الطبيب، ولكنه يسكن في مكان بعيد جداً. ولقد فتقت لي هذه الليلة الرديئة فكرة حسنة وهي أن تذهب أنت بدلا عني. انك تعلم أني أريد أن أعطيك عربتي، ولذلك فأرى من العدل أن تقوم لي بخدمة مقابل ذلك.

صاح هانس الصغير - بالتأكيد. إن قدومك إلى كرم منك وسأنطلق حالا. ولكن يجب أن تعيرني مصباحك لأن الليلة مظلمة وأخاف أن أقع في الوادي.

أجب الطحان - إنني آسف جداً. انه مصباحي الجديد وخسارتي تكون عظيمة إن حدث له أي حادث.

صاح هانس الصغير - حسناً، لا بأس سأذهب بدونه وتناول معطفه الكبير وطاقيته القرمزية الدافئة، ولف لثاماً حول عنقه ثم سار. .

يا لها من ليلة مرعبة. . لقد بلغ من حلكة الليل أن هانس لم يكن يرى إلا بشق النفس،

ص: 73

وبلغ من قوة الريح أنه ما كان يقف إلا بكل صعوبة، وعلى كل فقد كان شجاعاً، وبعد مسير ثلاث ساعات وصل منزل الطبيب. فطرق الباب.

صاح الطبيب وهو يطل من نافذة غرفة النوم - من أنت؟

- أنا هانس الصغير يا دكتور.

- ماذا تريد يا هانس الصغير؟

- لقد سقط ابن الطحان من أعلى السلم ويرجوك أن تأتي حالا.

قال الدكتور - حسناً وأعد جواده وفانوسه ونزل إلى الطابق السفلي وسار في اتجاه منزل الطحان. وهانس الصغير قد دلف وراءه ولكن العاصفة أخذت تزداد قسوة وشدة، وأخذ المطر يتدفق كالسيل ولم يستطع هانس الصغير أن يرى أين يسير أو كيف يتبع الجواد، وأخيراً ضل الطريق وهام في المستنقع الممتلئ بالحفر العميقة، وهنالك غرق هانس الصغير المسكين.

وفي اليوم الثاني وجد بعض الرعاة جثته طافية في بركة كبيرة من الماء فجاءوا بها إلى الكوخ.

خرج كل الناس في جنازة هانس الصغير لانه كان مشهوراً لدى الجميع وكان الطحان أول المؤبنين.

قال الطحان - وحيث إني كنت أصدق أصدقائه فمن الحق أن أتقدم الجميع، وهكذا سار إلى صدر الحفل في معطف طويل أسود وكان بين الفينة والفينة يمسح عينيه بمنديل كبير

قال حداد حين انتهت حفلة الدفن والجميع في الفندق يشربون النبيذ المعتق ويأكلون الكعك المحلى - بالتأكيد أن موت هانس الصغير خسارة عظيمة للجميع.

أجاب الطحان - خسارة عظيمة لي بوجه التخصيص، لماذا؟ لأني كنت أريد أن أتفضل عليه بعربتي. والآن فأني لا ادري ما الذي افعله بها، أنها دائماً في وجهي في البيت وهي في حالة من العطل لا تساوي معها شيئاً إذا عرضت للبيع، سوف أحتاط بعد اليوم فلا أتبرع بشيء، بالتأكيد إن المرء يضره أن يكون كريماً.

قال فأر الماء بعد تردد طويل - حسنا.

قال العصفور - حسناً. تلك نهاية القصة

ص: 74

سأل فأر الماء - ولكن ماذا حدث للطحان؟

أجاب العصفور - حقاً لست أعلم ولا يهمني أن أعلم

فار الماء - إذن فأنت بطبيعتك بعيد عن الإحساس.

العصفور - أخشى أن لا تكون أدركت مغزى القصة.

صاح فأر الماء - لم!. ماذا؟. .

العصفور - لم تدرك المغزى.

فأر الماء - هل تريد أن تقول إن القصة لها مغزى

العصفور - بالتأكيد.

قال فأر الماء بلهجة الساخط - حسناً حقاً. . أظن أنه كان يجب أن تخبرني بذلك من قبل. . بالتأكيد كنت لا أصغي إليك وضرب الماء بذنبه، ورجع إلى جحره.

سألت البطة التي جاءت على أثر ذلك مجدفة - كيف رأيت فأر الماء، أن له ملاحظات بديعة.

أجاب العصفور - أني لأخشى أن أكون قد أزعجته، فقد قصصت عليه قصة ذات مغزى.

شرق الأردن

بشير الشريقي

المحامي

ص: 75

‌الأدب والفن في حياة ملك بلجيكا الراحل

هذا الملك البطل قد أصبح بعد حياته حيا بين أبطال الأساطير وزاده مصرعه الفاجع عظمة على عظمته. وهو ملقى مضرجاً بدمه الغالي على أطراف الصخور المسنونة

ولم يكن ألبرت الأول ملكاً عظيماً فحسب، بل كان أيضاً رجلاً عظيما. وله قبل الحرب صورة تمثله والشاعر الأديب فرهيرن في وسط الأسرة المالكة في جو ديمقراطي، والأنجال إلى المائدة، والجميع يسمرون تحت المصباح وقيثارته الملكية ترسل أنغامها بعد العشاء.

ولم يكن هناك أثر للمراسم وأوضاعها التقليدية في علاقة صاحب التاج بالعلماء والكتاب وأهل الفن من أبناء البلاد. فقد كان يعلم حق العلم أن الفكر كالبطولة فله النصيب الأوفر في توثيق وحدة البلاد وجعلها موضع احترام العاملين وإعجابهم. ولقد استنهض الهمم لتوفير عتاد من مال الأمة مرصود على البحث العلمي، كما أنه فكر في تأسيس مجمع للغة والأدب، ومنح الأديب الروائي ماترلنك رتبة الكونت، ورفع لفيفا من الرسامين والمثالين ومهندسي العمارة إلى رتبة البارونات. وظلت الآداب والفنون مدى ربع القرن الذي حكمه عزيزة الجانب، تزداد مكانتها رفعة، وتستمتع بحرية لا عهد بها من قبل.

فالحق أنه أول ملك على بلجيكا بدت منه الشواهد الجمة على عناية حقيقة بالجانب الأدبي في بلاده. فأن والده العظيم ليوبولد الثاني مع مناداته بأن الأدب هو زهرة المدنية الرفيعة، لم يؤثر عنه قط متابعة جهد الأدباء وتشجيعهم، وهم أولاء الذين شقوا الطريق للشباب البلجيكي ولهم الفضل الكبير على كتابها المشاهير أمثال فرهيرن وماترلنك

ولئن كان الملك البرت قد تخرج على الأخص في العلوم، وانصرفت ميوله في الغالب الأعم إلى الرياضيات وتقدم الصناعات ودراسة المسائل الاجتماعية والاستعمارية، فانه لم يخل قط من الاهتمام بالفن وإن كان تذوقه للتصوير لم يكن بالغا، ورأيه في الموسيقى أقرب إلى القائل إنها (ضوضاء كبيرة النفقة). وأما الأدب فكان اكثر متعة به. وهو على كل حال من مدمني القراءة والاطلاع، وثقافته واسعة، وشوقه إلى المعرفة متنبه على الدوام. ولا نقول أنه كان يطرق آفاق التأليف الأدبية مستكشفا، وإنما كان يحب الوقوف على ما يشغل الناس من المؤلفات ويهتم بمن يأتي بين المؤلفين بالجديد. وهو من أول المشتركين في مجلة (مركير دفرانس) الأدبية لأول إنشائها وجنوحها وقتئذ في الأدب إلى

ص: 76

مذهب الرمزيين. كما أنه من أشد القراء عناية بتتبع آثار بول فاليري القلمية، وقد حضر في بروكسل تمثيل بعض روايات بول كلوديل سفير فرنسا في بلاده، ولم يكن حضوره مجرد مجاملة للسفير بل تكريما أيضاً للأديب.

وكثيراً ما أعرب الملك عن إعجابه بالأدب الفرنسي. وكانت إحدى المناسبات السانحة عندما جاء مسيو بول كلوديل إلى قصر (ليكن)، وهو على مسيرة عشرين كليومترا من بروكسل، لتقديم أوراق اعتماده فاستقبله الملك في حجرة المكتب الفسيحة الجنبات العالية السمك، حيث كان يحب الجلوس محفوفا بكتبه التي لا تقل في عددها عن ثلاثين ألف مجلد، وأدواته وأجهزته العلمية. وحياه الملك بالفرنسية بلهجة فلمنكية لها رنة ثقيلة حلوة قائلاً (هذا سفير الفكر الفرنسي). ولحظ السفير الأديب أحد مؤلفاته على مكتب الملك

كذلك كان الأدب الإنجليزي محبباً اليه، وقد نوه بذلك ذات مرة في خطب ألقاه بعد الحرب في قاعة بلدية لندن في أثناء حفلة أقامتها له جمعية الأدب الملكية.

ولا شك في أن هذا الملك الجندي، المعدود بين أكبر هواة الرياضة وتسلق قمم الألب، كان يؤثر الزيارة لأحد المصانع أو المعامل أو النزول في أحد المناجم، على زيارة معرض للتصوير، وأن استماعه إلى العمال في عملهم أحب إلى نفسه من أحاديث أبناء الفن المنمقة في ردهات المعارض يوم الافتتاح. غير أنه كان يستفسر من هؤلاء وهؤلاء، ويهتم بكل شيء شوقاً منه إلى المعرفة وقياماً بالواجب، ولما أن أقيمت سراي الفنون الجميلة في العاصمة تجاه القصر الملكي أو بعبارة أدق، أقرب ما يكون إلى مواجهته - أصبح الملك من أخلص المترددين عليها. ولقد يزور المعرض في الصباح الباكر زيارة الجيران وهو يلبس قبعة من اللبد عريضة الحافة، وفي رقبته ربطة معقودة على نحو ما يفعل الفنانون. ويطوف به الأستاذ الفنان (إنسور) وهو في مثل رداء مولاه، يشرح له الألواح والصور أكثر من ساعتين. والملك مطيع له، مصغ إليه. والجمهور لا يكاد يتنحى بعيداً عنهما، يتبعهما ويتابعهما بعيون ملؤها الإجلال والمحبة. وفي كل لحظة يقف الملك مقترباً من كل لوحة يدقق فيها نظره القصير ويسائل مرشده الشيخ مبتسما.

كذلك كان من آونة لأخرى ينزل إلى قاعة الموسيقى مزدانة بالأزهار والتحف الفنية ليستمع إلى الموسيقى ولا سيما موسيقى فاجنر، فقد كانت عند أثيرة. ولقد قال ذات مرة

ص: 77

بمناسبة هذا الموسيقار الألماني (إن الموسيقى لأقوى من كل تدابير السياسة في تأليف الشعوب).

وأكثر من هذا وذاك كانت رعاية الملك والملكة وأمارت عطفهما القلبي على الأدباء خاصة. ولم يعزب بعد عن الأذهان أنه في زيارته الأخيرة لفرنسا منذ شهور. رأس حفلة العشاء التي تقيمها (مجلة العالمين) وقد سره من الحفلة أن استطاع مطارحة الأدب مع طائفة من الكتاب واستدلوا من حديثه على واسع إلمامه بالأدب الفرنسي الحديث

وقد كانت آخر إمضاءات ملك بلجيكيا يوم السبت قبل ذهابه إلى النزهة المشئومة، هو إمضاؤه الذي مهر به أمره الكريم بمنح رتبة ضابط من طبقة التاج للمؤرخ الفرنسي (شاتيل) لنشره كتاباً عن جهود بلجيكا في فرنسا أثناء الحرب. ولقد قدم لهذا الكتاب مقدمته المسيو دومرج الذي هو اليوم رئيس الوزارة الفرنسية.

ثم إن هناك فوق ما تقدم سمات اعمق في الإنسانية وأرفع نذكر منها إن الملك كان في عصر أحد الأيام في قصر (ليكن) مع ماترلنك مؤلف قصة العصفور الأزرق الخالدة فبادره ببساطه وعلى غير انتظار (يا مسيو ماترلنك. أتريد تقبيل أولادي؟)

وكانت صلته بالشاعر البلجيكي (فرهيرن) صلة حميمة. فلما أن قضى الشاعر نحبه ذهب أحد أصدقائه النواب إلى الملك يلتمس منه أن يرأس الاحتفال بنقل رفاته إلى الضريح الفخم الذي أعدوه. فقبل الملك في الحال عن طيبة خاطر. ولما أراد النائب شكره اعترض قائلا (ليس لك أن تشكرني. فان مجد فرهيرن في غير حاجة إلينا. بل نحن امرأتي وأنا - اللذان نتشرف بالاشتراك في هذا الاحتفال)

فكيف لا تكون هذه نفس فنان أديب شاء صاحبها أو لم يشأ وهذا المتسلق وحده إلى القمم، المغرم بدوار الارتفاع المشغوف بالطبيعة؛ من يكون إن لم يكن شاعراً حالما؟

عبد الرحمن صدقي

ص: 78

‌المؤتمر الدولي الثاني عشر لنادي القلم العالمي

يقام في صيف هذا العام بين السابع عشر والثاني والعشرين من شهر يونيه القادم في مدينتي أدبنورج وجلاكسو (اسكتلنده) المؤتمر الدولي الثاني عشر لنادي القلم، وتمثل فيه جميع مراكز القلم في أنحاء العالم. وقد أرسلت الدعوة إليه إلى مختلف المراكز، وسيمثل كل مركز عضوان بصفة رسمية، وأعضاء غير رسميين يشهدون الأعمال والجلسات إذا شاءوا. وينزل المندوبون الرسميون ضيوفا على نادي القلم الاسكتلندي الذي يتولى تنظيم المؤتمر والدعوة إليه؛ ويقام لهم استقبال غير رسمي في أدنبورج في 17 يونيه؛ ويشتمل البرنامج فضلا عن الأعمال والمداولات الخاصة بشؤون الكتاب والمؤلفين، على تنظيم استقبالات ورحلات مختلفة في أدنبورج وجلاسكو وبعض مشاهد اسكتلنده التاريخية. وقد دعي نادي القلم المصري، أسوة بمراكز القلم الأخرى، إلى شهود المؤتمر واختيار مندوبيه الرسميين وغير الرسميين.

ص: 79