الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 360
- بتاريخ: 27 - 05 - 1940
الفكر والحرب.
. .
قال الأستاذ (دومينيك) في تحليله البليغ للكتاب القيم الذي ألفه السير (نيفل هندرسون) سفير إنجلترا في برلين بعنوان (سنتان عند هتلر):
(إن المتمدنين الذين يعيشون في هذا القرن بإنسانية القرن التاسع عشر ومسيحيته ليقضون من الدهش إذ يرون هذا (الهتلر) يرجع بالعالم إلى عهود الجاهلية القيصرية فيحمل أتباعه على أن يعتقدوا أن الله قد حل به وأن ألمانيا قد تجسدت فيه. وإن المفكرين ليفزعون في وسط هذه الزعازع الهوج إلى الله جزعين أن يرتكس للفكر والحضارة في مهاوي البربرية الأولى).
وقال المستر (سمنر ولز) في خطبته الختامية بالمؤتمر العلمي للأمم الأمريكية:
(ليس من الصعب أن نتنبأ بنكسة القرون الوسطى في بلد أصبح التفكير الحر مستحيلاً فيه. وأي أمل يبقى للإخلاف بعد هذا الطغيان الذي موَّه الباطل على الناس حتى اعتقدوا أنه الحق؟). ثم دعا الولايات المتحدة إلى أن تذود عن المدنية التي تدين لها بأكثر مما تنعم به.
وقال صديقنا الأستاذ (الحكيم) في (الأهرام):
(إن نذير الدمار المسلط على شؤون الفكر والروح كفيل بأن ينهض برجال الفكر والأدب للدفاع بأقلامهم وقلوبهم عن حضارة ساهم أسلافهم في وضع أحجارها الأولى).
وكلام هؤلاء السادة على اختلاف الموطن والمذهب ترجمة لطائفة من المعاني الخداعة التي قدمها الإنسان الحديث فأقام عليها ثقافة المدرسة، وراض بها نفسية المجتمع، وجعل منها خصائص لحيوانيته تميزه في زعمه على الإنسان القديم والوحش الآبد. وليس في منطق الطبع أن يكون أثر الفكر دائماً من الخير المحض ما دام مصدره الإنسان وهو يفسد ويصلح ويخبث ويطيب تبعاً لوحي غريزته وخضوعاً لهوى منفعته. أليس الفكر والأدب والعلم والمدنية التي يدعو الأساتذة الكتاب إلى النضج عنها هي نفسها التي جعلت ألمانيا الهتلرية جحيما يستعر باللظى والغاز والحمم، فزلزل الأرض من القطب إلى القطب، ورمى الدنيا جمعاء بغاشية من الموت الوحِيِّ والقلق المميت؟
لو لم تعتمد النازية على المفكر الألماني القوي الخصيب لما استطاع ناسك (برجوف) أن يفجأ العالم الآمن بأهوال من الشر ينكرها الشيطان، وأساليب من الموت يجهلها الموت
إن الفكر الفعال في الأرض لا ينفك عنه قصور الإنسان وضلاله، فهو عاجز عن هداية
الناس ما لم يهده الله بنوره. ولا يجرؤ المسكين أبن آدم على أن يزعم أنه استطاع بفكره أن يحل مشكلاته بالمفاوضة، ويقسم أرزاقه بالعدل، ويثق علاقته بالمودة، ويضع لدنياه أنظمة ثابتة تكفل له السعادة الخالصة والسلام الدائم
وإن الأدب المحرك لهوى النفوس لم يستطع الإنسان الأثِر أن يسمو به على الأهواء النفسية والأغراض الحزبية والأطماع القومية؛ فظل في كل أمة خاضعاً لمنهاج المدرسة وسياسة الدولة وطبيعة الشعب لا يتجاوز حدود المكان ولا فصول الزمن، فكان عاملاً من أشد عوامل العصبية والوحشية والفرقة
وإن العلم الذي ناط به العقل كشف أسرار الكون لفهم الحياة، وتسخير قوى الطبيعة لخير الناس، جافاه الضمير فاستبد به الشر وراح يستعديه على نتائج الخير وآثار الصلاح، فرماها بآلات البوار والدمار من طائر يقذف الشهب وسائر يطلق السموم وزاحف يرسل اللهب!
وإن المدنية التي عمرت بها الأرض، وتمت عليها الأنفس، وزخر بها النعيم، وتبجح بازدهارها الإنسان، قد سطت عليها المادة القاسية فسلبتها الروح وحرمتها القلب، فوقعت الجفوة بينها وبين الدين، وانقطع السبب بينها وبين الحب؛ فتشتت الآلاف، وتباعدت القُرْبى، وتشعبت الحاجات، وتنافست المطامع، وتكاشفت الأحقاد، واضطرب الناس في سبل الكدح، وألهبتهم حوافز الهم، حتى عجزوا بخلقتهم وطبيعتهم عن مسايرة الحضارة فسعوا بالطائرات، وعملوا بالآلات، ونظروا بالتلسكوب وسمعوا بالمكرفون، وضاقت عليهم الأرض برحبها فضربوا في الآفاق، واختصموا على ديار المستضعفين فحكموا بينهم السلاح فكانت هذه المدنية المادية أشبه بسعير الآخرة تنضج الجلود ولا تزهق الأنفس ليستمر الاضطراب ويتجدد العذاب ويدوم للطبيعة الخداعة هذا الثوب الأنيق الموشى بفضل هذا الإنسان الأحمق الذي يعمل ولا يعرف لماذا، ويسرع ولا يدري إلى أين!
هذا الفكر العاجز، وهذا الأدب القاصر، وهذا العلم المجرم، وهذه المدنية الفاجرة، لا تستحق الاحتفاظ بها ولا الذياد عنها يا زملاءنا الأعزة. لقد أشتد بأسها وعظم سلطانها في ألمانيا (الراقية) فولدت الهتلرية بوحشيتها وعصبيتها وبلاياها؛ وإن من الخير للإنسانية أن تذهب هذه العقلية مع الهتلرية إلى غير رجعة
إن الفكر الذي نريده هو الفكر المدبر النفاذ الذي يشرق في جوانبه نور الله فلا يشت به ائتلاف ولا يضل عليه سائر. وإن المدنية التي نرجوها هي المدنية الإنسانية التي ينبث في طواياها روح الله فلا يولد بها شقي ولا ينجم فيها ثائر
إن شمس المدنية الصحيحة قد أشرقت من الشرق ثم غربت في الغرب، ولا بد أن يدور الفلك فتعود إلى مطلعها لتشرق على العالم من جديد!
أحمد حسن الزيات
سيكولوجية الأديب
للدكتور إبراهيم ناجي
في هذا الموضوع ناحية شخصية طريفة، وطرافتها تغريني بالثرثرة؛ فإني لا أرى الآن موضوعاً علمياً، وإنما أرى أمامي شخوصاً وأسماء وصنوفاً من النفسيات تكون مجموعة مسلية فخمة. ومع ذلك، فسأتنكب هذا الجانب البديع، وأتكلم كلاماً علمياً سيكولوجياً تكون فائدته أعم وأوقع
أجل، من أهم الموضوعات الاجتماعية مسألة:(سيكولوجية الأديب)
ولما كان الأدب فرعاً من الفن، كان الكلام الصحيح هو عن سيكولوجية الفنان. ومقال اليوم يتناول سيكولوجية الفنان المصري، لأن للفنان المصري طابعاً خاصاً به لا تجده في غير مصر، وللثقافة الفنية في مصر طرقا لا تجدها في غيرها من البلاد
ولمَّا كان الجسم والنفس وحدة متماسكة، فإن أمراضهما متصلة، وإن كانت في الجسم أعضاء تتأثر أكثر من غيرها. وفوق ذلك، فإن للأدباء المصريين أمراضاً خاصة بهم وحدهم.
نبدأ الآن بالتحدث عن نفسية الأديب المصري:
الأديب المصري يندر أن يكون رجلاً طبيعياً، فإننا إذا نظرنا إلى الحياة وتعريفها، ثم إلى الأدب وتعريفه وخصائصه، تبين صحة ما نقول
ما هي الحياة؟
أصدق تعريف لها أنها تفاعل بين عوامل خارجية تتكون من البيئة والظروف والعادات والتقاليد؛ وعوامل داخلية تتكون من العناصر التي بتفاعلها وتطورها وتماسكها أدت إلى المجموعة التي اصطلحنا على تسميتها (بالشخصية). الحياة (ميزانية) بين دخل وخرج. الحياة موازنة بين قوتين وملائمة بين دافعين، وكل ما يعتري الحياة من اعوجاج أو شذوذ، أصله اضطراب في ميزان التفاعل، وأصل ذلك الاضطراب اختلال في عنصر من العناصر الداخلية أو الخارجية
وإذا سَّلمنا أن الدوافع الخارجية متساوية بالنسبة لنا جميعاً، سَّلمنا كذلك أن الاختلال أكثره داخلي أي في ذواتنا، وفي صميم أنفسنا. ولنراجع الآن أهم العناصر الداخلية في النفس
بوجه عام، ثم نراجعها في نفس الأديب المصري بوجه خاص
أهم العناصر الداخلية التي تكون (الذات) هي (العادة) و (الجنس)
ويدخل تحت حكم العادة ما نسميه (بالخُلق). ولا يخفى أن التربية (عادة)، فخلقنا وتربيتنا أخيراً هما ما اعتدناه وصار طبيعة ثانية. ويدخل في بناء الشخصية - بعد العادة - مواهب موروثة أو فطرية كالذاكرة والخيال والذكاء
ويتكئ ذلك كله على الغرائز الفطرية التي هي واحدة في جميع البشر، وإنما يختلف عملها بمقدار ما أطلقنا منها وما كبتنا.
وأما (الجنس) فيساوي (الحب) ويجب ألا يفهم من ذلك اللفظ حب الشهوة، وإنما الحب على طول خطه المبتدئ بالوالدين المنتقل إلى المجتمع المنتهي بالزواج
ولعل ترتيب الأمور بأهميتها يكون على الوجه الآتي: الوراثة، العادة، الحب
إني أعطي الوراثة المكان الأول لكي أؤكد أن هناك ذكاء مكتسباً موروثاً، وآخر نحصل عليه بالمران. الأول عميق (عمودي) والثاني (سطحي)
ولا جدال في أن الأدب يورث، والمواهب الأدبية كالخيال، والموسيقية وغيرهما، مواهب تورث أي تولد ولا تصنع
والأدب تنبت جذوره وعناصره في الطفولة. فمن المألوف أن الطفل ينام على اللحن الموسيقي، ويستأنس بالغناء، ويحب القصة الخيالية، وقد يؤلفها هو نفسه
فالواقع أن الأديب طفل لم يكبر. والأديب الصحيح من له خصائص الطفل، في فرحته بالأشياء، وسذاجته، وتهلله، وضحكته، وخياله، وفرحه وابتهاجه بالموسيقى. والتربية الأدبية الصحيحة، هي التي ترمي إلى شيئين: تربية الحواس، فإن حدة الحواس هي الوسيلة التي بها يستعين الأديب على التقاط الصور وتذوق الأشياء. والشيء الثاني جو الحرية الذي فيه تترعرع شجرة الذات، وتتغذى تلك الحواس النشطة المتقدة
والأديب المصري محروم من الأمرين. ففي المنزل وفي المدرسة لا يجد من يتعهد تلك الحواس بالتغذية، وفي المنزل يجد التربية قائمة على الزواجر والنواهي، وقتل حرية الاستطلاع التي هي أهم خصائص الأديب. وفي المدرسة يجد سلسلة من (الكليشهات) التعليمية التي تقتل المواهب وتقبرها وتدفن شجرة الحرية دفناً! وكما ذكرت، عندنا أديب
بالسليقة، وأديب بالاكتساب
أما الأول فيمر على تلك الأدوار ونفسه تشعر بالضيم، وتنطوي نفسه على ثورة مكتومة. والثاني يتلقى تلك الأخطاء، ويبتلعها بسهولة، ويصل إلى عتبة المستقبل رجلاً عادياً يتميز عن غيره من الناس بقليل من المواهب الكلامية والبيانية وشيء من الحقد على العباقرة وأرباب النبوغ
ونتكلم الآن على مسألة (الحب) لما لها من الأهمية البالغة في حياة الديب، ولما لها من الشأن في مصر خاصة
الحب في تعريف بلاتو وفي تعريف البيولوجيا (شطْر يبحث عن شطره الآخر الذي كان لاصقاً به ومكملاً فانفصل. . .)
فالبيولوجيا تقرر أن المخلوق كان في البدء وحدة ثم شُطر، وكان الشطران في المبدأ على جذع واحد وكانا متساويين، فلم يلبثا أن تميزا على الجذع ثم انفصلا، ثم قضى الله عليهما أن يبحث كل عن الآخر. . . في سن المراهقة حيث تنشط الغدد وتتأجج الحواس وتتطلع النفس باحثة عن شطرها الضائع
وهذا الوقت هو أزمة الأزمات. وهو عندنا في مصر - خاصة - عهدٌ خطر، ومع الأسف يقل فيه الإرشاد وتندر الصراحة الواجبة، مع أنه العهد الذي يبدأ فيه نضج الأديب، وتزدهر مواهب الفنان وتتفتح
فإن النفس التي تتطلع إلى مثلها الأعلى، أي إلى توأمها من الجنس الآخر، قد تجده، فإن وجدته قد لا تظفر به، أو قد تظفر وتنتهي الرواية، أو لا تجده، فتتحول إلى خَلق شيء على مثاله، أو التغني بالحنين إليه، أو رسمه على القماش أو الحجر، وهكذا. أو تكون الأزمة النفسية من الشدة بحيث تحدث اضطراباً نفسياً كبيراً، فإما يكون هذا الاضطراب تحدياً واعتداءً، أو تخاذلاً وانطواءً، وإما أبعد من ذلك، وهو الجنون. فنحن الأطباء نعرف ما هو جنون المراهقة ونفهم أسبابه وعلته
قلت إن هذا العهد في مصر أخطر العهود على الشاب الأديب
فإما أن يكون أديباً عبقرياً، فطامته الكبرى أن مثله الأعلى غير موجود أو مستحيل، وكارثته الأخرى أنه إذا وجد خياله المنشود، يخفق في الحصول عليه أولاً، لأنه ضال لا
يعرف الطريق العملي إلى ذلك، وثانياً لأنه شديد الحساسية متناه في الاعتزاز بكرامته فيفر بها حتى من وجه الحبيب! أما الأديب (المصنوع) فهو قد ركب في (القالب) الخطأ وقبله وانصب فيه، ومحنته أولاً في (التركيب) الذي ركب فيه، وثانياً في الحقد المتأصل في نفس صغيرة بالفطرة وبالتربية، وثالثاً فيما يحاوله لبلوغ مرتبة العبقرية والعبقرية منحة من السماء
هذا فيما يختص بالعناصر الداخلية أو كما يسميه الدكتور جوردون صاحب كتاب (العصبي وأصدقاؤه)(ضغط الظروف) فهو الذي باصطدامه مع تلك العوامل التي ذكرناها يسبب المرض العصبي، وذلك الاصطدام منشؤه عند العبقري عظم الفرق بينه وبين البيئة، وعند الأديب المصنوع الفرق بين ما يتعاطاه وما يحاول أن يصل إليه
هذا موجز لمرضى الأدباء مرضاً نفسياً، أما أمراضهم الجسمية فمسببة عن اضطراب ذواتهم وقلقلة حياتهم. فهم قوم مسرفون في التفكير، ينامون قليلاً ويأكلون قليلاً - وأكثر الأدباء فقراء! وشذوذهم يدعوهم إلى تناول أطعمة شاذة، وقد يستعينون بالمنبهات على إدمان العمل ووفرة الإنتاج
وهم في مصر قليلو الرياضة، ولذلك يمرضون بالكبد والمعدة وأكثرهم يأتوننا شاكين من اضطراب القلب، وليس في قلوبهم مرض. وإنما منشأ علتهم فرط ذكائهم واطلاعهم فهم يقلبون كتب الطب فيفهمونها نصف فهم، ثم يتحسسون قلوبهم وأكبادهم ويتخيلون في المرض كما يتخيلون في الأدب.
إبراهيم ناجي
الأزهر والحياة العامة
مالك والجاحظ في العصر الحديث
للأستاذ محمود الشرقاوي
يقول الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي في حديثه مع الرسالة: (بين أيدينا كل ما ورد عن الرسول من الأحاديث، وما روي عن الأئمة من الأحكام، وما أثر عن الفقهاء من الكتب؛ وفي خزائننا ما خلف العرب وغير العرب من لباب الأدب وعصارة الفكر. ومع هذا اليسر في الوسائل وهذه القوة في الاستعداد لا نرى إلا فراغاً يثير الظنون ويغري بالأزهر التهم)
ثم يتعجب الشيخ الأكبر كما يتعجب بعده الدكتور زكي مبارك متسائلاً: لماذا لا يظهر في العصر الحديث مشرِّع مثل الإمام مالك أو أديب مثل الجاحظ. . .؟
وهذه هي المسألة التي وعدنا قراء (الرسالة) أن نبحثها في ختام مقالنا الأول
صحيح ما يقوله الشيخ الأكبر من توفر ما روي عن الرسول من الأحاديث وما روي عن الأئمة وعن الفقهاء، وتوفر ما في خزائننا مما خلف العرب وغير العرب من لباب الأدب وعصارة الفكر. صحيح كل هذا ونحن أميز عن جميع العصور حتى عن عصر مالك وعصر الجاحظ في توفر هذه المصادر كلها والمراجع كلها والكتب كلها وفي سهولة الوصول إليها والبحث فيها
ولكن توفر هذه المراجع والمصادر والكتب يبرز من بيننا إماماً كمالك ولا أديباً كالجاحظ. وليس من العجب ألا يبرز
ليست الكتب وحدها ولا المراجع ولا الأصول هي التي تنشئ الأديب ولا هي التي تبرز العبقري، بل هناك أسباب أخرى يمكن أن نذكر منها البيئة العلمية والوسط الاجتماعي، ومستوى الحياة الذهنية في العصر الذي ينشأ فيه العالم أو ينشأ فيه الأديب
فهل نستطيع أن نزعم أن البيئة العلمية التي نشأ فيها مالك والتي تكوَّن فيها تفكيره وتم نضوجه العقلي، أو تلك البيئة التي نشأ فيها الجاحظ، وتكون فيها تفكيره، وتم نضوجه الأدبي. هل نستطيع أن نزعم أن هذه البيئة أو تلك شبيهة بما نحن فيه الآن أو قريبة منها!؟
كانت الحياة الاجتماعية والحياة السياسية في عصر مالك والجاحظ تفور بالنشاط بل
بالعنف، وتضطرب بالحياة القوية المتجددة. وكانت الأحداث السياسية والحربية والاجتماعية تجيء في كل يوم بجديد. وكانت الأمة الإسلامية أو الأمة العربية في عصر مالك والجاحظ هي صاحبة السيادة والسلطان المطلق على العالم كله (عالم ذلك العصر)، وكانت حضارات الأمم القديمة العريقة وأموالها وآثارها العقلية والأدبية تنحدر كالسيل في نهر الحياة الإسلامية أو العربية ويملأ ضفافها بالنشاط والحركة والحيوية. وكان المجتمع الإسلامي أو العربي في عصر مالك والجاحظ يشعر بأنه صاحب السيادة على ما سواه من المجتمعات، صاحب السيادة الذهنية والعقلية والأدبية. بل لم يكن يجد أمامه نداً من المجتمعات يمكن أن يقارن به أو يوزن إلى جانبه أو تقام بينه وبينه المفاضلة والترجيح، لأن الأمة الإسلامية أو العربية كانت لذلك العهد صاحبة السيادة السياسية والحربية وما سواهما من السيادات ولم تكن تجد أمامها من توزن سيادته بسيادتها أو تقام بينها وبينه المفاضلة والترجيح
وفي هذه البيئة وفي ظل هذه السيادة التي يشعر بها المجتمع وتشعر بها الدولة لأنها حقيقة واقعة. نشأ مالك والجاحظ فكانت لهما سيادة الذهن وسيادة الفكر والأدب والفن
وهذه الأشياء كلها: البيئة العلمية، والوسط الاجتماعي، ومستوى الحياة الذهنية، وشعور المجتمع بالسيادة أو بالهوان، ومكان الدولة من القوة والضعف؛ كل أولئك أشياء ليست هينة الشأن في تكوين الأديب والعالم وفي تبريزه وحدة ذهنه وقيمة إنتاجه.
وبالمقارنة بين هذه الأشياء على عصر مالك والجاحظ وبينها في مصر والشرق على عصرنا هذا نستطيع أن نضع علماءنا وأدباءنا حيث يكون موضعهم الطبيعي
ولعل من المفيد أن نذكر هنا قول أبن دريد في مقصورته:
وكل قِرن ناجم في زمن
…
فهو شبيه زمنٍ فيه بدا
وقد نجم مالك ونجم الجاحظ في زمن كانت السيادة فيه لدولتهم ودينهم ومجتمعهم فكانوا شبيهين بزمنهم، ونجم علماؤنا وأدباؤنا في زمن فهم شبيهون به
ولا عجب في ذلك ولا غرابة
ولكنا ننتقل من ذلك إلى مسألة أخرى نلخصها في هذه الأسئلة وفي الإجابات عليها:
ما هي القيمة الحقيقية لمالك والجاحظ؟ وهل لا نجد في عصر غير عصريهما من تكون
قيمته مثل قيمتهم؟ وهل لا نجد في عصرنا هذا من يقرن إليهما ويوزن بميزانهما؟
أما مالك فهو إمام مشرع نافذ البصيرة والذكاء في فهم المسائل وفي التشريع، ولكنا نستطيع أن نجد له نداً بل أنداداً كثيرين في هذه الصفات كلها. وفي مسائل كثيرة نجد علماء متأخرين يناقشون مذهب مالك أو غيره من المذاهب ويفَّندون رأيه في مسألة أو في مسائل. ثم يقتنع الباحث المنصف بأن رأيهم أرجح من رأي مالك وأن فهمهم لهذه المسألة أو المسائل أدق من فهمه
ونستطيع أن نجد كثيراً من هذا في مطالعاتنا لعلم الأصول وأن يجده غيرنا كذلك
ونجد في عصرنا هذا علماء يناقشون في مذهب مالك وفي غيره من مذاهب الأئمة ويفندون رأيه في مسألة أو في مسائل، ويكون رأيهم فيها أرجح من رأي مالك، وفهمهم لها أدق وأصدق من فهمه
في الأحاديث الدينية التي أذاعها الأستاذ الأكبر، وفي دروسه التي ألقاها منذ سنين، وفي أحكامه قبل ذلك في القضاء آراء ومسائل خرج فيها عن رأي مالك وأبي حنيفة وناقشها وأقنع سامعيه وقارئيه بصواب رأيه على رأيهم. وكان فهمه لهذه المسائل أدق وأصدق من فهم مالك وأبي حنيفة.
ونقرأ ونسمع لعلماء معاصرين آراء يخالفون بها هذا أو ذاك من الأئمة ومن الفحول، ثم نجد من الإنصاف أن نقرهم وأن نشهد بأنهم أدق فهماً وأصدق رأياً من هذا وذاك من الأئمة والفحول ولو خالفوا مالكا
ثم نقول بعد ذلك في الجاحظ مثل قولنا في مالك بفارق بسيط ولكنه ضروري. فإذا أردنا أن نضع الجاحظ وغيره من فحول الأدب القديم حيث يستحقون من تاريخنا الأدبي والثقافي، يجب أن نلاحظ الفرق بين (الأديب) في العصور القديمة وبين (الأديب) في عصرنا هذا، وأن نلاحظ الفرق بين (الأدب) في تلك العصور وبين الأدب في عصرنا هذا
فالأدب عند العرب في عصر الجاحظ وفي غيره من العصور (وإلى عهد قريب) كان أدب حفظ وجمع ورواية. وكان الأديب يوزن قدره ويلحظ مكانه نقدر ما يحفظ من الشعر، ومن غريب الرواية، ومن كلام السلف والأعراب، ومن شعر الشعراء. وكان أكبر ما يمدح به الأديب أن يقال فيه أنه (بحر علم) و (خزانة أدب) وإن صدره (وعي علوم الأوائل
والأواخر) إلى غير هذه النعوت التي تدور كلها حول محور الرواية والحفظ والجمع والاستيعاب
فإذا نظرنا إلى الجاحظ وإلى من هو أقل من الجاحظ مكاناً فإنا لا نجد في عصرنا من يشابهه أو يقاربه، ولا نريد أن نجده. والأدب والشعر ورواية الغريب التي هي بضاعة الجاحظ وغيره من فحول الأدب السوالف (إذا نظرنا إلى الأدب هذه النظرة) هذه البضاعة لا تساوي شيئاً، ولا نأسف لأنا لا نجد في عصرنا من يوزن بالجاحظ فيها. فعندنا خزائن الكتب أرحب وأوسع وأصدق وأيسر من صدر الجاحظ ومن روايته
أما الآن، فنحن ننظر إلى الأدب على أنه فن قائم على قواعد وأصول، وعلى أنه أسلوب وفكرة، أو على أنه أسلوب فقط. نحن ننظر إلى الأدب على أنه شيء من هذا أو هذا كله، أو على أنه شيء غير هذا وذاك. ولكنه مهما يكن، فليس هو الجمع والحفظ والاستيعاب والرواية للغريب والشعر. فإذا وزنا أدب الجاحظ بهذا الميزان الجديد للأدب، فقد خف وزنه ولم يبق منفرداً ولا فذاً منقطع النظير والأقران في عصرنا
فمقدار الثقافة التي كان يتميز بها الجاحظ ونوع هذه الثقافة لا وزن له ولا قيمة في عصرنا. وتلميذ في الأزهر أو في مدرسة ثانوية يعرف من الجغرافيا ومن حقائق التاريخ ومن علوم الطبيعة أكثر وأصدق مما نجد في كتب الجاحظ من الحيوان إلى البيان والتبيين. بل يعرف من ذلك ومن حقائق العلوم أكثر وأصدق مما يعرف أدباء العرب جميعاً في جميع العصور، وليس ذلك عيباً فيهم، فقد كانوا يعرفون أكبر قسط وأصدق قسط من علوم عصرهم ومعارفه
وليس مطلوباً منهم أكثر من ذلك، ولكنه لا يجعلهم أعظم شأناً، ولا أكبر مكاناً من كاتب متوسط في عصرنا
وأما أسلوب الجاحظ وبصره بالأدب على قواعده التي أشرنا إليها منذ قليل، فهو الذي يصح أن نقيم له وزناً وأن نقارن بينه فيه وبين كتابنا وأدباءنا المعاصرين. وهذه المقارنة نرجو أن يسمح لنا فضيلة الأستاذ الأكبر، وأن يسمح لنا صديقنا الدكتور زكي مبارك، إذ نقول أنها لن تخرج بنا إلى النتيجة التي توافقنا عليها. فالجاحظ وغير الجاحظ من فحول الأدب القديم نستطيع أن نجد لهم شبيهاً وقريناً في عصرنا هذا.
نستطيع أن نجد من يشبه الجاحظ في فهمه للمسائل الأدبية وفي بصيرته بالأدب والشعر وفي (الذوق الأدبي)، وأن نجد من يشبه الجاحظ أو يبرز عليه في النقد الأدبي؛ ولا أقدِّم على ذلك دليلاً سوى تصحيح زكي مبارك نفسه لكتاب زهر الآداب وتعليقاته وتصويباته الأدبية والتاريخية عليه وعلى غيره من الكتب ورسالته عن كتاب الأم ونسبته للشافعي
وكذلك نستطيع أن نقول ذلك عن أسلوب الجاحظ وعن أساليب عدة من فحول الأدب القديم، لا نستثني من ذلك سوى أصحاب المقامات كالحريري والزمخشري.
وأسلوب الشيخ المراغي في الكتابة والخطابة، وأسلوب الزيات في (الرسالة)، وأساليب غيرهما من الباحثين والأدباء والمفكرين في عصرنا، نستطيع أن نقيم الميزان بينها وبين أسلوب الجاحظ وغير الجاحظ من أهل القديم. وقد نجد بالموازنة أننا خير منهم. وليس لهم إلا أن الزمن تقدم بهم فارتفعت بهم قداسة التاريخ
محمود الشرقاوي
الأسماء تعلل
للدكتور مأمون عبد السلام
(وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة)
(قرآن كريم)
لكل كائن أسم يعرف به. هكذا جرت طبيعة الخلق، وهكذا ستكون إلى أن يشاء الله. فمعنى كلمة آدم، الرجل، لأنه أول رجل خلقه الله، كما أن حواء أول امرأة خلقت. وقد أنجبت قابيل لأنها اقتنته رجلاً من عند الله. وسمى الله أبرام إبراهيم لأنه سيكون أباً لجمهور من الأمم. ودعا ساراى زوجة أبينا الخليل سارة لأنه سيسر بها قلبه، وسمى أبنه منها أسحق لأن إبراهيم عليه السلام سقط على وجهه وضحك لأن الله أخبره بأنه سيولد له منها ولد وهي ابنة تسعين سنة. وقد قالت سارة عندما ولدته:(صنع الله إليَّ ضحكاً كل من يسمع بي يضحك) لذلك سمي اسحق من الضحك. وسمي يعقوب بذلك لأنه كان توأماً لعيسوه، فخرج بعده وهو قابض بعقبه. هذه هي رواية التوراة في تعليل أسماء الأنبياء عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام
فأسماء الأعلام في الأصل إذن لها تعليل ومعنى. وقد جرت عادة بني الإنسان في كافة أنحاء الأرض أن يتبعوا قواعد في تسمية أبنائهم تكاد تكون واحدة. فتراهم ينسبون أسماءهم إلى معبوداتهم، وإلى الملائكة والرسل والأنبياء والقديسين وأسماء الملوك والفاتحين، وأصحاب الشهرة ممن خلدوا ذكرهم. فكان قدماء المصريين مثلاً يسمون أبناءهم بالإضافة إلى آلهتهم مثل رعمسيس، وتوت عنخ أمون، وإخناتون. وكان العرب في جاهليتهم يسمونهم بعبد مناة وعبد العزى. ويسمي أهل الكتاب أولادهم بأسماء الرسل أولى العزم والنبيين كنوح، إبراهيم، يونس، عيسى، محمد. وبأسماء الملائكة مثل جبريل وميخائيل. وقد ورد في الأثر: خير الأسماء ما عبد وما حمد. لذلك يكثر في أسماء المسلمين عبد الله، عبد الرحمن، عبد الغفار، وغير ذلك من الإضافة إلى أسماء الله الحسنى، كما يكثر فيهم محمد، محمود، أحمد، حامد، حماد، حمدين.
ومن الأسماء ما يكثر محلياً بالنسبة لولي أو قديس محلي، فترى أسم عواد منتشراً في
مديرية القليوبية، وعبد الرحيم في قنا، لوجود قبري هذين القطبين فيهما، كما يكثر أسم موسى في جنوب سينا
وكانت عادة العرب وغيرهم من الأمم قديماً أن يختاروا للذكور من أولادهم أسماء تشعر أعداءهم بالشدة والبأس والقوة والشجاعة لتتلقى الرعب في قلوبهم. فمن أسماء العرب معارك، محارب، حرب، شجاع، صنديد، شديد، دهشان، غضبان، هراس، تاعب، وحش، منصور، ولهذه الأسماء ما يقابلها عند الفرنجة مثل جيرالد، سافيدج، فكتور
كما أنهم يسمونهم بأسماء الحيوانات التي يعجبون بها لصفات يحمدونها فيها كالشجاعة والمكر والمثابرة، فترى كثيراً من المصريين والعرب يسمون الوحش، الوحيش، السبع، الضبع، النمر، الفهد، الذئب، الفيل، الجحش، الجدي، العجل، العجيل، الجمل، الحلوف، البغل، القرد، الفار. كما أن منهم من أسمه ثعلب، نمس، نميس، بعرور، قطه، بقر، بهايم، جربوعه، علوش، وهو الذئب أو أبن آوى بلغة بني حمير، ومنهم من أسمه البدن وهو الماعز الجبلي
ويسمي كثير من سكان السواحل المصرية بأسماء الأسماك مثل: قرموط، شلباية، شال، زقزوق، كركور، شوبار، طومار، سحلول، حوت
كما أن منهم من يسمي بأسماء الطيور مثل الدقيش وهو نوع من الطير أغبر أريقط، وقد يكون الدقنوش المعروف بمصر. ومن الأسماء المعروفة بمصر حدايه، صقر، عصفور، شحرور، هدهد، غراب، فراخ، زرزور، بلبل، غر، ديك، بطة
ومنهم من يسمي بأسماء الحشرات والدبيب فهناك أشخاص يسمون نحلة، دبور، جعران، خنفس، برغوث، بقة، حنش، حنيش، حية
ومن الناس من يسمون بأسماء النباتات، فمنهم من يتخذ أسماء الحبوب مثل عائلات قمحة وشعير وذرة. ومنهم من يسمي بأسماء الخضر مثل: فلفل، قوطة، كوسة، جزر، فقوسة، بطيخة، بقلة. ومنهم من يسمي بأسماء الأشجار والفاكهة والنقل مثل: نخلة، شمروخ، خوخة، زيتون، لوزة، بندق، حب الرمان، برقوق، تفاحة، برتقالة، وردة، فله. أو يسمون بأسماء الحشائش والنباتات الصحراوية مثل: زريبح، شيحة، حنظل، حطب، زعتر، زعيتر، حشيش
ومن الناس من يغلب عليه لقب لصفة بارزة أو شهرة ذائعة فيصبح اسماً يتوارثه أولاده، فهناك من يسمون: النطاح، العفش، النتن، الدكر، الزفر، العبيط، اللطخ، الظايط، الجميص، الأقرع، الأعور، الهاكع، الأجرب، السعران، الأطرش، الأعسر، الأحدب، الجارم، الحلو، الخشن، الناعم، الفللي، الدهل، الأهبل، المكهرب، العجوز، السايح، العقدة، السيد، العبد، البربري، المملوك، المعتوق. كما أن منهم من يسمي ناعس، نعسان، مهلهل، غناجة، غندر، غندور، عشقوتي
ومنهم من يأخذ أسم عيب جسماني أو إفراز مثل حدبة وقتب وبربور
ومن الناس من يكون لأسمه غرض صوفي خالص يدل على الزهد كأن يسمي الرجل أبنه زعلوك، عاكف، مغيب، الماحي، الضعيف، الخفيف، الذليل، الناقص، العريان، القشلان؛ ومنهم من يسمى باسم حنفي، مالكي، شافعي
ومن غريب أسماء الأشخاص ما يدل على مأكول، فهناك أشخاص يسمون باسم بصل، عجوة، عجور، كشك، ملوخية، سكر، قشطة، عسل، كعك، قراقيش، برغل، مش، لبن، لبنة. كما أن بعضهم يأخذ لأولاده أسماء الجمادات مثل: خشبة، لوح، قنديل، مصباح، فانوس، غربال، الدلو، الغلق، الزق، الصحن، زلط، صخر، شقرف، الدرس، الدرع، الزير، طبق، قلة، مغراف، دبشة، طوبة. ومنهم من يسمي بشيء يلبس مثل: الطرحة؛ أو يسمى بنفيس الأشياء: كذهب، مرجان، ألماس، زمرد، لؤلؤ
ومنهم من يسمي بأسماء الأيام والشهور وفصول السنة مثل: خميس، جمعة، محرم، رجب، شعبان، رمضان، ربيع، شتا. ومنهم من يسمي: مطر، غيث، سحاب؛ كما أن منهم من لأسمه علاقة بالنور والنار والكواكب مثل: شعلان، لهلوبة، أتون، محروقي، محروق، محاريق، نور، أنور، نوار، نور الظلام، شمس، قمر، نجم، ثريا، زهرة
ومنهم من يسمي بأسماء آلات القتال مثل دبوس وخشت وسيف وبمبة
ويدل كثير من ألقاب العائلات على أصل مواطنها الأولى مثل الشامي والمغربي، الفرنسي، التركي، السوداني، الحبشي، الهندي، كما أن منها ما يشعر بحرفة أو صناعة أو وظيفة أو مركز اجتماعي خاص كالجعيدي، الطبال، الزمر، الحمار، القلفطي، المراكبي، العربجي، النشار، الحداد، النحاس، النجار، الصباغ، الصايغ، الصبان، الخادم، الجمال، السحار،
السحرتي، الحانوتي، الغرابلي، الصيرفي، الزيات، الدهان، البستاني، الجنايني، الحاجب، الشوا، التراس، السبحاوي، البهلوان، النشوقاتي، الفسخاني، الكنفاني، المستكاوي، المسلكاتي، الشبكشي، الرماح، السخري، الهجان، الكحكي، الحمصاني، القماش، العسكري، الحرامي، السقا، الجزار، الفولي، الفوال، القزاز. ومن الأسماء طحان، عجان، خباز، زبال. ومنهم الزلباني، السلالي، السكاكيني، الحناوي، القمص، القسيس، الجندي، العمدة، الشيخ، الأفندي، البيه، الباشا الأمير، البرنس، مزارع
ويختار كثير من الناس غريب الأسماء لأبنائهم ليطيلوا بذلك أعمارهم ويدفعوا العين عنهم؛ فمن أمثلة ذلك: فندي، فانتي، دقدق، تهته، شكعه، حكشه، خنجر (بضم الخاء والجيم)، بلبع، درع (بتشديد الراء)، سنكحلو، زملوط، زعطوط، شحوت، شحات، حتحوت، شنن، جعلص، كعبلها، بخاطرها، زعزوع، جعيصة، الجعيص، سحبل، معيط، عاشور، دحروج، عميرة، دعبس، زعير، زعرب، زعربان، شلتوت، حمروش، حبروك، نونو، بنونه، شرشومة، بحبح، شولح، حتاتة، كانش، بصيص، تلكم، بالي، بابي، حيدة، حيدرة، حزنبل، بظاظة، دقدوقة، صلع (بتشديد الصاد واللام)، سلطح، حنبوط، كرشة، دلدل، عيطة، كعويرة، كشلة، الدكش، الدكس، شلضم، ضمضم، مدبح، زقلط، بعلط، فلوسة، حرحش، زغلة، شمردن، طعواش، خلطخ، لاغا، صوصي، سنون، الميت، طبل، سبل (بضم الطاء واسين وتشديد الباء المفتوحة)، قزامل، لهيطة، الزقم
ومن الأسماء ما هو مركب مثال ذلك: عائلات ميتكيس، قصير الذيل، نقر الطين، سبع الليل، هب الريح، سيف النصر.
ومن أسماء الغانيات: ست من نده، ست الدار، أدوب أنا (أسم بنت بالواحة البحرية)، قدم خير
وكثير من الأسماء كنيات كنى بها أصحابها في الأصل لصفة خاصة. ومن أمثلة ذلك: أبو شادوف، أبو قورة، أبو لبدة، أبو طاقية، أبو الروس، أبو الريش، أبو الغيط، أبو وردة، أبو كرش، أبو سنه، أبو دراع، أبو اصبع، أبو حجر، أبو جبل، أبو لقمه، أبو قلطه، أبو دهينه، أبو شبانه، أبو زهرة، أبو ريشة، أبو الني، أبو شنب، أبو شنب فضة، أبو هيف، أبو حصيرة، أبو ليفه، أبو لحاف، أبو اخربها، أبو غنجة، أبو قاعود، أبو طاحون، أبو طحين،
أبو جازية، أبو سحلى، أبو دراز، أبو رمح، أبو سيف، أبو شجر، أبو دومة، أبو دوح. ومنهم من يكنى بأسماء أولاده مثل: أبو حسين، أبو ليله، أبو نفيسة، أبو زهرة، أبو ظريفة،
ومن الأسماء ما هو مثنى لأسم علم مثل: محمدين، حمدين، حسانين، بكرين
ولا تظن أيها القارئ الكريم أن المصريين منفردون وحدهم بهذه التسمية، فهناك ما يماثل هذه الأسماء في كافة ممالك الأرض بلغات أصحابها مما يدل على أن العقل البشري يفكر على نمط واحد مهما بعدت الشقة واتسعت المسافة.
مأمون عبد السلام
عضو نادي الصيد الملكي
ووكيل قسم أمراض النباتات
كتاب الأغاني
للأستاذ حسن خطاب الوكيل
طبع كتاب الأغاني بالمطبعة الأميرية في عشرين جزءاً تنتهي بأخبار عمارة بن عقيل الخطفي. ومنذ خمسين عاماً ظهر في عالم المطبوعات الجزء الحادي والعشرون من هذا الكتاب المستطاب. قام بنشره وطبعه المستشرق رودلف الأمريكي في مدينة ليدن سنة 1888، وحدث في سنة 1926 أن أديباً فاضلاً ونبيلاً من النبلاء رغب إلى دار الكتب المصرية في أن تقوم بطبع الأغاني على نفقته، فلما همت بتنفيذ هذه الرغبة النافعة لم تعترف بالجزء الزائد على العشرين للأسباب الآتية:
1 -
أنه لم يصدره ناشره بمقدمة يبين فيها أصل النسخة التي نشره عنها ولا في أي المكتبات عثر على هذه الزيادة
2 -
أن أسلوبه ضعيف لا يشبه أسلوب أبي الفرج في العشرين جزءاً المتقدمة
3 -
أنه يشرح في كثير من الأحيان الألفاظ الغريبة التي ترد في أبيات الشعر، وهي طريقة غير معهودة في الكتاب. فالجزء الأول مثلاً على كثرة ما فيه من الألفاظ الغريبة لم يشرح منها إلا القليل النادر، وقد لا يعدو ما شرح في هذا الجزء من هذا القبيل أربع أو خمس كلمات
4 -
أنه في هذا الجزء يشرح أحياناً المعاني التركيبية لبعض الأبيات، ولم نعهد مثل ذلك في الأجزاء الماضية
5 -
أنه يكتب كثيراً كلمة - صوت - على شعر لم يغن فيه، وطريقة الكتاب إلا تكتب هذه الكلمة إلا على الشعر الذي يتحدث بعدُ أنه وقع فيه غناء. . . الخ
ونحن نسلم بأن (رودلف) قد قصر في أنه لم يصدره بمقدمة وأنه لم يذكر في أي المكتبات عثر على هذا الجزء. . . الخ، ولكن هذا لا يكون حجة في أنه ليس من الكتاب إذ كل هذه الاعتبارات إنما هي مجرد ملاحظات غير محدودة، ولا تنهض دليلاً على أن الجزء ليس من الكتاب، ومن المحتمل أن يكون لكتاب الأغاني بقية لم تظهر بعد، أو تناولتها أيدي الضياع. وهاهو ذا ياقوت يتحدث إلينا في كتابه معجم الأدباء عن الأغاني ويؤيد قولنا هذا حيث يقول: (وقد تأملت هذا الكتاب وعنيت به، وطالعته مراراً، وكتبت منه نسخة بخطي
في عشر مجلدات، ونقلت منه إلى كتابي المرسوم بأخبار الشعراء فأكثرت، وجمعت تراجمه فوجدته يعد بشيء ولا يفي به في غير موضع منه كقوله في أخبار أبي العتاهية - وقد طالت أخباره هاهنا، وسنذكر خبره مع عقبة في موضع آخر ولم يفعل. وقال في موضع آخر - أخبار أبي نواس مع جنان إذ كانت سائر أخباره قد تقدمت - ولم يتقدم شيء، إلى أشباه لذلك. والأصوات المائة هي تسع وتسعون. وما أظن إلا أن الكتاب قد سقط منه شيء أو يكون النسيان قد غلب عليه والله أعلم)
هذا كلام ياقوت، ومنه يحتمل أن الكتاب له بقية محتملة أو هو قد سقط منه شيء لطول العهد، وعليه فلا يبعد أن يكون الجزء المتحدث عنه هو منه، وهاهو ذا الإمام الجليل أبن منظور صاحب لسان العرب ينقل عن الجزء الحادي والعشرين في مختصره مختار الأغاني في الأخبار والتهاني منذ ستمائة عام مضت على مختصره هذا حديثاً طريفاً عن إسحاق الموصلي وغلامه زياد لم تذكر بعد إلا في الجزء الحادي والعشرين.
حديث إسحاق وزياد
إسحاق الموصلي من مشاهير الأدباء وأهل الغناء، وأخباره في كتاب الأغاني قد لا يخلو منها جزء منه، وله حكاية ظريفة وأشعار ظريفة في غلام له أسمه زياد لم تذكر إلا في الجزء الحادي والعشرين من الكتاب، وهذه الحكاية هي عماد بحثنا في أن الجزء المشار إليه هو من الكتاب، لأننا وجدنا العلامة أبن منظور نقلها عنه واختصرها منه
جاء في أول الجزء الحادي والعشرين طبع ليدن والذي ادعاه رودلف ما نصه:
خليلي هيا نصطبح بسواد
…
ونرو قلوباً هامهن صواد
وقولا لساقينا زياد يرقها
…
فقد هز بعض القوم سقي زياد
الشعر والغناء لإسحاق، ولحنه من الثقيل الأول بالبنصر - خبر إسحاق مع غلامه زياد - هذا الشعر يقوله إسحاق في غلام له مملوك خلاسي يقال له زياد، كان مولداً في مولدي المدينة فصيحاً ظريفاً فجعله ساقيه وذكره هو وغيره في شعره، فمن ذكره من الشعراء دعبل وله يقول: أخبرني بذلك علي بن سليمان الأخفش عن أبي سعيد السكري قال: كان زياد الذي يذكره إسحاق في عدة مواضع منها قوله: وقولا لساقينا زياد برقها) نظيف السقي لبقا. فقال فيه دعبل:
يقول زياد قف بصحبك مرة
…
على الربع مالي والوقوف على الربع
صوت
أدرها على فقد الحبيب فربما
…
شربت على نأى الأحبة والفجع
فما بلغتني الكأس إلا شربتها
…
وإلا سقيت الأرض كأساً من الدمع
غنى في البيت الثاني والثالث من هذه الأبيات محمد بن العباس ابن عبد الله بن طاهر لحناً من خفيف الثقيل الأول بالبنصر. قال أبو الحسن: وقد قيل إن هذين البيتين (يعني خليلي هيا نصطبح بسواد) للأخطل. أخبرني علي بن سليمان قال حدثني أبي قال: قال لي جعفر بن معروف الكاتب (وكان قد جاوز مائة سنة) لقد شهدت إسحاق يوماً في مجلس أنس وهو يتغنى هذا الصوت (خليلي هيا نصطبح بسواد) وغلامه زياد جالس على مسورة يسقي وهو يومئذ غلام أمرد أصفر رقيق البدن حلو الوجه، ولا أحد يراجعه ولا أحد يستطيع يقول له زدني ولا انقصني. أخبرني علي بن صالح بن هيثم الأنباري. قال حدثني احمد بن الهيثم (يعني جد أبي رحمه الله قال: كنت ذات يوم جالساً في منزلي (بسر من رأى) وعندي إخوان لي، وكان طريق إسحاق في مضيه إلى دار الخليفة ورجوعه منها علي. فجاءني الغلام يوماً وعندي أصدقاء لي فقال لي: إسحاق بن إبراهيم الموصلي في الباب فقلت له: قل له ويلك: يدخل أو في الخلق أحد يستأذن عليه لإسحاق. فذهب الغلام وبادرت أسعى في إثره حتى تلقيته فدخل وجلس منبسطاً آنساً فعرضنا عليه ما عندنا فأجاب إلى الشرب فأحضرناه نبيذاً مشمساً فشرب منه، ثم قال: أتحبون أن أغنيكم قلنا: أي والله أطال الله بقاءك إنا نحب ذلك قال: فلم لم تسألوني؟ قلنا: هبنك والله قال: فلا تفعلوا ثم دعا بعود فأحضرناه فاندفع فغنانا فشربنا وطربنا فلما فرغ قال: أحسنت أم لا؟ فقلنا: بلى والله جعلنا الله فداءك لقد أحسنت قال: فما منعكم أن تقولوا لي أحسنت قلنا الهيبة والله لك قال: فلا تفعلوا هذا فيما تستأنفون إن المغني يجب أن يقال له عن، ويجب أن يقال له إذا غنى أحسنت قال: ثم غنانا صوته (خليلي هيا نصطبح بسواد) قلنا له يا أبا محمد من هو زياد الذي غنيته قال: هو غلامي الواقف بالباب أدعوه يا غلمان، فأدخل إلينا، فإذا هو غلام خلاسي قيمته عشرون ديناراً أو نحوها فأمسكنا عنه فقال: أتسألونني عنه فأعرفكم إياه ويخرج كما دخل وقد سمعتم شعري فيه وغنائي. أشهدكم أنه حر لوجه الله وإني زوجته
أمتي فلانة فأعينوه على أمره قال: فلم يخرج حتى أوصلنا إليه عشرين ألف درهم أخرجناها له من أموالنا. أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال: حدثني أبي قال توفي زياد غلام إسحاق الذي يقول فيه. وقولا لساقينا زياد يرقها، فقال إسحاق يرثيه:
فقدنا زياداً بعد طول صحبة (كذا)
…
فلا زال يسقي الغيث قبر زياد
ستبكيك كأساً لم تجد من يديرها
…
وظمآن يستبطي الزجاجة صاد
أخبرني عمي قال حدثني ابن المكي عن أبيه قال اصطبح محمد الأمين ذات يوم وأمر بالتوجيه إلى إسحاق فوجه إليه عدة رسل كلهم لا يصادفه حتى جاء أحدهم به فدخل منتشياً ومحمد مغضب فقال له: أين كنت ويلك. قال: أصبحت يا أمير المؤمنين نشيطاً فركبت إلى بعض المتنزهات فاستطبت الموضع وأقمت فيه وسقاني زياد فذكرت أبياتاً للأخطل وهو يسقيني فدار لي فيها لحن حسن وقد جئتك به فتبسم ثم قال هات فما تزال تأتي بما يرضي عنك عند السخط، فغناه
صوت
إذا ما زياد علني ثم علني
…
ثلاث زجاجات لهن هدير
خرجت أجر الذيل زهواً كأنني
…
عليك أمير المؤمنين أمير
قال بل على أبيك. قبح الله فعلك. فما يزال إحسانك في غنائك يمحو إساءتك في فعلك وأمر له بألف دينار - الشعر في هذين البيتين للأخطل والغناء لإسحاق رمل بالبنصر - ورواية شعر الأخطل: إذا ما نديمي علني ثم علني، وإنما غيره إسحاق إذا ما زياد
هذه هي حكاية إسحاق التي لم توجد إلا في الجزء الحادي والعشرين من الأغاني وهي التي أقرها ابن منظور في مختصره ونقلها عنه. فهل بعد هذه الأبيات الأكيدة لقائل أن يقول إنه ليس من الكتاب في شيء!
حسن خطاب الوكيل
الأزهر وتفسير القرآن الكريم
للأستاذ محمود حسن منصور
المدرس بكلية الشريعة
لسنا بحاجة إلى القول بأن القرآن الكريم هو دستور الدين والدنيا، وأنه ينبوع الشريعة الصافي الذي يصدر عنه كل ناظر في التشريع، أو متعرض للأحكام أو منتفع بما فيه من التعاليم والآداب
لسنا بحاجة إلى أن نقول ذلك فقد فرغ الناس منه، وآمنوا عن يقين به، وما تزال الحوادث تؤيده، والأيام تعززه وتزيده قوة في النفوس، ومتانة في القلوب
ولسنا نريد أن ننكر على المفسرين الأولين للقرآن الكريم جهودهم الجبارة، ومحاولاتهم الكبيرة، وعنايتهم بتفسير هذا الكتاب الكريم، وخدمته من نواحي الفقه والبلاغة والإعراب، وغير ذلك مما تعرضوا له في تفاسيرهم، فلا شك أنهم أتوا من ذلك بما يفرضه عليهم واجبهم نحو دينهم وعلومهم، ولغة قومهم وكتاب ربهم، فأدوا رسالتهم وأبروا ذمتهم أمام الله والناس
ولو أن باحثاً عنى بأن يستعرض هذه الأسفار المختلفة، وأن يزنها بما توزن به الجهود العلمية والإنتاجات القومية لوجد من ذلك ما يملأ نفسه روعة ويملأ قلبه إعجاباً، ولجرى لسانه بألفاظ الثناء على هؤلاء العلماء، ولجزاهم عن دينهم وأمتهم خير الجزاء
كل ذلك حق لا ريب فيه تحدثت به آثارهم، وآمن به كل من تأنى له النظر في كتبهم، والبحث في مؤلفاتهم، كما آمن به علماء الأزهر
ولكنا مع ذلك لا نستطيع أن ننكر ولا يستطيع إخواننا من العلماء ولا شيوخنا منهم أن ينكروا أن لهذه التفاسير عيوباً قد إحسها الناس من زمن طويل. وقد ازداد إدراكهم لها في ذلك العصر الذي تغيرت فيه طرق الإقناع، وتنوعت أساليب البحث والتفكير، وتهيأ للعقل فيه نوع من النضوج لاشتغاله بالعلوم الكثيرة، ونظرة في الثقافات المختلفة. فمن هذه العيوب:
أولاً: تفشي الإسرائيليات في هذه الكتب المشهورة، كما تتفشى الأوباء المهلكة حتى تجد الكثير من الآيات قد صنعت لها القصص، ودبرت لها الخرافات، فأصبح الناظر في هذه
الكتب مشغولاً بتنحيتها عن طريقه وإزالتها عن سبيله إن كان من العلماء، ومهدوا بأن تغزوه هذه الخرافات الباطلة في قرارة نفسه وصميم عقيدته، إن كان من العامة، وذلك هو السر فيما نشاهده من صعوبة مهمة العلماء المفكرين في توضيح هداية القرآن على وجهها الصحيح، وإيصالها سليمة إلى نفوس الناس
ثانياً: تخصص كثير من هذه الكتب في نواح من التفسير هي في نفسها صالحة وقيمة وطيبة ومحتاج إليها. فهذا تفسير يهتم بالنحو والإعراب، وهذا تفسير يعنى ببيان وجوه البلاغة والإعجاز، وهذا تفسير جعل مهمته التوفيق بين آيات القرآن ومذاهب الفقهاء
وقلما تجد تفسيراً يفسر القرآن على نحو يشعرك بمقصده السامي، وغرضه النبيل من غرس العقائد الصحيحة السهلة التي لا تقيد فيها ولا غموض، وتبين الأحكام الناصعة الواضحة التي لا تشديد فيها ولا تعسف، وعرض التربية القرآنية الروحية والعقلية عرضاً عرضاً كريماً يتفق مع ما للقرآن من قيمة ذاتية وباعتباره كتاباً إلهياً خالداً صادراً عن الله الذي يعلم السر في السموات والأرض
ثالثاً: اندفاع كثير من المفسرين بدافع الرغبة في تأييد مذاهبهم وتوطيد عقائدهم وآرائهم إلى تخريج القرآن على آراء أصحاب المذاهب والمعتقدات، ولو كان في ذلك الإخلال بالنظم والخروج به عن الأساليب العربية المألوفة، والنزول به إلى أدنى درجات الكلام
فتراهم يقولون مذهب أهل السنة كذا، فيجب أن تؤول الآية لتطابق هذا المذهب، ومذهب الحقيقة كذا، فيجب أن تفهم الآية على نحو يبعدها من هذا المذهب، وهذه الآية تتفق الحقيقة مع مذهب الحنفية وتخالف مذهب المالكية، وهكذا، كأن القرآن إنما أنزله الله على حساب أهل المذاهب والمعتقدات الصحيحة والباطلة على حد سواء، وكأنه إنما جعل ليقاس على المذاهب لا لتقاس المذاهب عليه
4 -
هذا إلى ما تراه وتشعر به من غموض بعض التفاسير في العبارة، وتكلفها في تحميل الآيات ما لا تحمل من المعاني، وقصورها عن مجاراة العرض الحديث الذي أصبح له أهمية كبرى في نظر العلماء والباحثين، والقراء والمنتفعين
هذه عيوب نسمح لأنفسنا بأن نصفها بالخطر، ولا نظن أننا نبالغ إذا قلنا إنها نوع من الصد عن كتاب الله
وعلماء الأزهر قادرون على تلافي هذه العيوب، يستطيعون الاضطلاع بمهمة إصلاحها وذودها عن كتاب الله، وتخليصه من براثنها، وهم مطالبون بذلك بحكم عملهم، وطبيعة دراستهم، ولن تغفر لهم الأمة أي نوع من أنواع التقصير مهما قيل في تبريره من الأعذار
فأين الأثر الذي سيتحدث التاريخ عنه إلى الأجيال المقبلة عن عمل رجال الأزهر في هذه الناحية؟ أين التفسير الذي يلائم عقول العصر ولا يتصادم مع حقائق العلم، ولا يفرض في الناس الذين يطلب إليهم أن يتقبلوه هذه السذاجة العقلية التي تفرضها فيهم تلك الكتب حين تقول في تفسير قوله تعالى:
(إلا إبليس كان من الجن) إن الملائكة قد اشتبكوا في حرب مع الشياطين كانت لهم مواقع، وقد انجلت معركة من هذه المعارك عن إبليس أسيراً وهو صغير، فأخذه الملائكة، ونشؤه نشأتهم وخرجوه في دائرتهم، فكانت النتيجة أن خاطبه الله خطابهم، وكلفه تكليفهم في كل الآيات الواردة في أمر الملائكة بالسجود لآدم
ولا نفرض في الناس هذه العقول التي تستسيغ الإمعان في التخيل والإسراف في مجاراة الأوهام حين تعرض عليهم قصة من ألذ ما يتخيل، ومن أبعد ما يتصور حصوله، وأشبه ما يكون بما يعرف بحكايات (أم الغول) تعرض هذا عن تفسير قوله تعالى:(ألم تر كيف فعل ربك بعاد. إرم ذات العماد. التي لم يخلق مثلها في البلاد. . .)
فتحدثك بأن شداد بن عاد سمع بالجنة وبنائها وما فيها فهب لبناء مدينة إرم في صحراء اليمن، وذلك بعد أن دانت له الملوك، وتم له ملك الدنيا. ولما كان يريد أن تضارع الجنة إرم أو تضاربها، بناها من ذهب وفضة وياقوت وو. . . ثم يخبرك بما كان بعد تمام بنائها الذي استمر ثلاثمائة سنة، وما كان من أمر عبد الله ابن قلابة معها، وما كان من حديث كعب مع معاوية في شأنها
ويطول بي الحديث إذا عرضت لك غير هذا من تلك الخرافات والخيالات التي ملئت بها كتب المفسرين المشهورة
فإذا كانت الأمة قد أحست حاجتها الماسة إلى وضع معجم لغوي بسيط أو وسيط فكلفت بذلك مجمع اللغة الملكي، فهو يحشد له قوته ويعد له عدته، وسيخرج به على الناس إما قريباً أو بعيداً، فالأمة أيضاً بحاجة إلى من يسد مثل هذه الثغرة في التفسير، فيكون لها
تفسير يرتضيه العلماء وتتداوله الأيدي، ويحصل الناس منه على ما يبتغون من تفهم هداية القرآن واجتلاء محاسنه، والانتفاع بتعاليمه ومبادئه
وللإمام المراغي في ذلك ما يصلح بحق أن يكون نموذجاً يحتذي ومبدأ يتبع، ظهر به على الأمة في دروسه الدينية، فقد تناول الآيات التي شرحها من جميع نواحيها الجديرة بالنظر، فجلا معانيها وراض صعابها، وكشف عن محاسنها وهدايتها، وذلل مشكلاتها العلمية فأخرجها سائغة سهلة سليمة متقبلة، وعرضها عرضاً يشرح النفس ويصل إلى القلم. إلا أن للأستاذ الإمام المراغي من مهام منصبه الخطير ما يشغله عن موالاة ذلك
إن اليوم يقوم فيه العلماء بهذا العمل الجليل هو اليوم الذي يثبتون فيه للأمة عملياً جدارتهم برسالتهم التي يحملون، والذي يدفعون به عن أنفسهم تلك السهام المصوبة إليهم من أصدقائهم وخصومهم
فإن لا يكن هذا فلا أقل من أن يختار من تلك الكتب أكثرها نفعاً وأدناها إلى الصلاح فيتقدم له من يعلق عليه بما يميز طيبه من خبيثه، ويبين صالحه من فاسده، وينبه على ما فيه من أخطاء علمية أو خرافات باطلة، ويضمن ذلك التعليق القول في الناحية أو النواحي التي تتضمنها الآية وغفل عنها المفسر
وبذلك يبقى الأصل وينتفع الناس بما فيه من علم نافع ويتقون شر ما فيه من خرافات وأوهام تفسد دينهم، وتضعف يقينهم.
إن التبعة الملقاة على علماء الأزهر خطيرة، والمسؤولية التي عليهم أمام الله والناس عظيمة، وواجبهم نحو كتاب الله غير هين، وذلك أقل مجهود يبرئون به ذممهم، ويخدمون به دينهم وأمتهم
أما أن نكتفي بالقول بأنا أعلم الناس وكتبنا خير الكتب، ودراستنا أجود الدراسات، فهذا ما لا تلقى به التبعة، ولا تنتفع به الأمة. فالعمل العمل إن كنتم جادين
محمود حسن منصور
العروب في العراق
للأستاذ ميخائيل عواد
في المؤلفات التاريخية والبلدانية نواح متعددة ما زال يعتورها شيء كثير من الغموض، يعود بعض أسبابه إلى تساهل أصحاب تلك المؤلفات في تدوين الأخبار تدويناً يفي بالمرام ويدفع الشك، كأن يورد المؤلف أخباراً أو أوصافاً دون أن يتقصاها، لاعتقاده أنها من الأمور المعروفة التي لا تحتاج إلى الشرح والتدليل
من ذلك ما صادفناه لدى بحثنا في نوع من الطواحين القديمة، التي كانت تسمى (العروب) وقد شاعت كثيراً في العراق والجزيرة وبعض ما يجاورهما من البلدان. وكان البدء في استعمالها يرجع إلى ما قبل العصور الإسلامية، ثم رافقت هذه العصور عدة مراحل حتى أدركت القرن السادس للهجرة، فقل عددها لتواتر النكبات عليها وخف استعمالها فلم يبق منها إلا آحاد مبعثرة في الفراتين وبعض ما يتشعب منهما.
وقد أمكننا حين تتبعنا المراجع العربية القديمة الوقوف على بعض ما يوضح شيئاً من أمرها.
العروب في معاجم اللغة
لم يدر بخلد أحد من أصحاب المعاجم القديمة خاصة تحقيق منشأ كلمة عروب، إنما كان اتفاقهم على تعريفها فقط
فقد جاء في (تاج العروس) أن (العربات: سفن كانت بدجلة، النهر المعروف، واحدتها عربة)
وما ورد في (لسان العرب لابن منظور) لا يتعدى ما ذكره التاج
وزاد صاحب القاموس عليهما في تعريفها بأنها: سفن (رواكد) كانت في دجلة
وقال في مادة عربة إنها: (النهر الشديد الجري) وقوله هذا يتفق وما ذكره من كان قبله أي صاحب الصحاح
هذا جل ما ورد في المعاجم القديمة بشأنها، وأما المعاجم الجديدة منها، فقد رأينا أن ما ذكره (محيط المحيط) و (البستان) و (أقرب الموارد)، لا يتعدى التعريف المذكور في المعاجم القديمة
وأحسن المعاجم الجديدة التي أعطت للكلمة ما تستحقه من العناية والدقة هو (المعجم المساعد)؛ فقد جاء بأنباء جلية من منشأ كلمة العروب؛ فهو يقول: (العربة: بمعنى الرحى، إرَمِية وتسمى (أسونا)؛ ومنها أخذها عوام الموصل فقالوا أسناية)
وقال في مكان آخر: الأسناية: بفتح الهمزة، وقد تكسر؛ هي بالصابئية (أسنايا)، وهي رحى الماء يحرك آلتها أجنحة، وكثيراً ما كانت تقام في جوار الفراتين أو ما يتشعب منهما، وهذه الكلمة من أصل عربي، من سنيت الدابة: استسقى عليها)
ومما قاله أيضاً: ويحتمل أن تكون (عربة) معربة من هي في الرومية
وما يحسن ذكره في هذا الموضوع ما قاله صاحب التاج: (الفيلخ كصيقل، وهي الرحى أو إحدى رحى الماء واليد السفلى منهما، ومنه قوله: ودرنا كما دارت على القطب فيلخ)
وقد جمعت عربة على عربات وعرب، وجمعت الأخيرة على عروب وزان قلوب، وهي جمع الجمع
العروب في كتب وصاف البلدان
قد يكون الرحالة بن حوقل هو الوحيد بين قدماء الكتبة الذين تكلفوا بتفصيل هذه الطواحين بقوله: (. . . وكان بالموصل في وسط دجلة مطاحن تعرف بالعروب، يقل نظيرها في كثير من الأرض، لأنها قائمة في وسط ماء شديد الجرية، موثقة بالسلاسل الحديد، في كل عربة منها أربعة أحجار، ويطحن كل حجرين في اليوم والليلة خمسين وقراً. وهذه العروب من الخشب والحديد، وربما دخل فيها شيء من الساج. وكانت بلد، المدينة التي عن سبعة فراسخ منها عروب كثيرة دارت أعمالاً وجهازاً إلى العراق فلم يبق منها شؤم ابن حمدان ولا من أهلها باقية)
ثم تطرق إلى الكلام عن العروب في غير مدينة الموصل، قال:(وبمدينة الحديثة منها عدد تعمل في وسط دجلة، وقد ملك بنو حمدان متاعها حسب ما ذكرته من حال الموصل وسائر ديار ربيعه، وارتفاعها نحو خمسين ألف دينار، وكان بالفرات الرقة (وقلعة جعبر) ما لا يداني هذه العروب ولا ككثرتها، وبمدينة تفليس في الكر منها شيء به تقوم أقوات أهل تفليس، وهي دونها في الفخم والعظم، وبتكريت وعكبرا والبردان منها شيء باق. ولم تبق بركة بني حمدان بالموصل إلا ستة أو سبعة منها (كذا. والصواب ست أو سبع)، وليس
ببغداد شيء منها)
ثم عاد إلى ذكر العروب في تفليس أثناء كلامه على هذه المدينة فقال: (تفليس. . . وهي على نهر الكر ولها فيه عروب يطحن فيها الحنطة كما تطحن عروب الموصل والرقة وغيرها في الدجلة والفرات)
وأشار ياقوت إلى العروب قائلاً: (العربات ومفردها عربة، وهي بلغة أهل الجزيرة: السفينة تعمل فيها رحى في وسط الماء الجاري مثل دجلة والفرات والخابور، يديرها شدة جريه، وهي مولدة فيما أحسب)
وتطرق القزويني إلى ذكرها بقوله: (. . . وأهل الموصل انتفعوا بدجلة انتفاعاً كثيراً مثل شق القناة منها ونصب النواعير على الماء، يديرها الماء بنفسه، ونصب العربات، وهي الطواحين التي يديرها الماء في وسط دجلة في سفينة وتنقل من موضع إلى موضع)
العروب في كتب التاريخ والأدب
لعل أول نبأ بلغنا عن العروب في المراجع التاريخية، هو ما ذكره الشابشتي في كتابه (الديارات) لدى كلامه على دير ماجرجس، والدير الأعلى
قال في الأول: (هذا الدير بالمزرفة (قرية كبيرة فوق بغداد على دجلة بينها وبين بغداد ثلاث فراسخ، وهي قريبة من قطربل) وهو أحد الديارات والمواضع المقصودة. والمتنزهون من أهل بغداد يخرجون إليه دائماً في السميريات لقربه وطيبه، وهو على شاطئ دجلة. والعروب بين يديه، والبساتين محدقة به. . .)
وفي الثاني: هذا الدير بالموصل، يطل على دجلة والعروب، وهو دير كبير عامر. . .
وفي حوادث سنة 363هـ حين استيلاء بختيار بن معز الدولة ابن بويه على الموصل، يذكر ابن الأثير في (الكامل) ما نصه:
(. . . فسار (بختيار) عن بغداد، ووصل الموصل تاسع عشر ربيع الآخر ونزل بالدير الأعلى، وكان أبو تغلب بن حمدان قد سار عن الموصل لما قرب منه بختيار، وقصد سنجار وكسر العروب، وأخلى الموصل من كل ميرة
وهذه الرواية توافق ما نقله القلقشندي عن نسخة كتاب كتبه أبو إسحاق الصابي عن عز الدولة بن بويه إلى المطيع لله عند فتح الموصل، وهزيمة أبي تغلب بن حمدان - فقد قال:
(وكان انهزامه (أبي تغلب) بعد أن فعل الفعل السخيف، وكادنا الكيد الضعيف، بأن أغرق سفن الموصل وعدوتها، وأحرق جسرها واستذم أهلها. . .)
وأورد الخفاجي في شفاء الغليل ما ذكره ياقوت، ومما زاد عليه قوله:(. . . وأنا لا أدري هل المركب المسمى عربة أخذ من هذا، أو هو غير عربي وهو الظاهر)
وجاء في حاشيته - لنصر الهوريني المعتنى بطبعه - قائلاً:
(من معاني العربة في اللغة: النهر الشديد الجرية، ففي هذا الإطلاق تجوز)
وقد أشار إليها الخوارزمي في مفاتيح العلوم بقوله: (العربة طاحونة تنصب في سفينة وجمعها عرب)
ومما ورد في ديوان الأدب للفارابي قوله: (لعروبة دوار، أي ماء تدار به)
الخلاصة
نخرج من هذا المقال إلى أن هذه الطواحين كانت تقوم على سفن متجاورة يتخللها مضايق ينحبس فيها ماء النهر، وقد نصبت فيها دواليب ذات عنفات؛ تدور بتأثير الماء الشديد الجرية وتقوم هذه الدواليب بتدوير دواليب أخرى متصلة بالضرائر أي أحجار الطواحين.
ويؤيد هذا ما ذكرته مجلة (لغة العرب) أن العربة هي الرحى التي تكون في السفينة في الماء، ليطحن بها القمح أو يعصر بها البزر أو يستخرج بها الزيت؛ ولها دولاب، وللدولاب زعنفات يضربها الماء فتدير الرحى، وهي بالإفرنجية
لا شك أن تلك السفن كانت كبيرة بحيث تستوعب المقادير العظيمة والحبوب، وقد كانت الشبارات والزبازب والسميريات وغيرها من وسائل النقل النهرية وقتذاك في ذهاب وإياب، تقوم بنقل الناس مع أوقارهم إلى هذه العروب. ولا غرو إن كان دجلة والفرات عند جريهما بين يدي تلك البلدان الشهيرة بهذه العروب؛ يزدحمان بهذه السفن ويزخران بحركتها المتواصلة.
(بغداد)
ميخائيل عواد
من وراء المنظار
صاحب الديوان المتمرد
لست أدري أثورة روحه أعظم من ذكاء عقله، أم أن ذكاء عقله أرجح
كفه من ثورة روحه؟ فهو أن أردت فيه كلمة حق ذكي ملتمع الذكاء،
ثائر ملتهب الثورة، وهو فتى في ربيع الحياة لم يعد فيما أظن الثالثة
والعشرين من عمره
رأيته أول ما رأيته هادئاً كالطفل الذي يحلم أحلام نفسه الغريرة، ولكني لم ألبث أن وقعت منه على ثائر تأكل ثورته أعصابه وتحرق دمه في غير هوادة ولا إبطاء. على أنني رأيت من عذوبة روحه مع ذلك ما جعلني أعجب كيف يجتمع مثل هذا التمرد الصاخب ومثل هذا الظرف الفكه في نفس واحدة! وإن أسارير وجهه لتتشكل بما يجري في نسفه فتكون صفحة محياه كسماء (أمشير) لا تصفو حتى تتجهم، ولا تتجهم حتى تنقشع من رقعتها الغيوم. دنوت منه ألتمس حل مسألة عنده، وما أكثر ما تدفعني المسائل دفعاً إلى أصحاب الديوان! وما يثقل شيء على نفسي مثل أن التمس معروفاً عند صاحب ديوان كبيراً كان أو صغيراً صديقاً كان أو لا يربطني به سبب من معرفة، وأنا وإن كتبت عن أصحاب الديوان ما أكتب وأنا مطمئن في حجرتي ولدي مكتبي، ليركبني الخوف ويتملكني الحياء وتأخذني الربكة من جميع أقطاري كلما دخلت حجرة أحدهم لأحادثه في أمر جل أو هان، حتى لو كان لتحية. وسبب ذلك لا يزال مجهولاً عندي، ولن يزداد على الأيام إلا غموضاً وخفاء!
وأقبل على صاحب الديوان هاشاً مرحباً، وترك أوراقه كلها جانباً، وأخذ يستمع ألي. ولم أكد أستعيد توازني أو أسترد مواقف دفاعي كما يقول المتحدثون عن الحرب في هذه الأيام، حتى قطع علي الكلام ومال بالحديث عن مجراه ودفعه في شؤون كثيرة لا علاقة لها ألبته بما جئته من أجله. وأخذ يتحدث ثم يتحدث، وكل حديثه شكوى، وهو لا يكاد يقع على أمر حتى يطير عنه إلى غيره - لا يعني متى يطير ولا أين يقع - فللمحسوبية نصيب من حملاته، ولعدم إخلاص الناس في أعمالهم بعض سهام لومه، وللحرب القائمة والمسئولين عنها جانب من غضبه، ولفوضى الأخلاق قدر كبير من صخبه، ولتقلب الجو قسط من
تهكمه تجلت فيه براعة مقارنته بين أخلاقنا وطبيعة جونا؛ وللفن والأدب والتعليم وغيرها من الأمور مما لا يسعنا حصره، كثير من غمزاته والتفاتات ذهنه. . . كل أولئك وأنا مصغ أسلم على طول الخط بكل ما يقول، لا أخالفه ولا أراجعه عله يفرغ فالتمس السبيل إلى موضوعي من جديد، ولكن ثورته كانت كالسيل الجارف لا يلوى على شيء. . . وكان يدخل أثناء الحديث كثير من الخدم، فيقدمون إليه أوراقاً، فيأخذها ويضعها على غيرها من الأضابير دون أن ينظر فيها، فإذا أشار أحدهم إلى أن فيها ما تستعجل الإجابة عنه صرفه بقوله:(قل له حالاً. . . دقيقة واحدة). ثم عاد إلى حديثه، فجرى فيه على غير تحبس أو ملل
وجاء بعض زملائه يستعجلونه أوراقاً، وكان يلتفت بعضهم ألي قائلاً:(لا مؤاخذة يا بيه) كأنما كنت أنا سبب ما يشكون من عطلة، وهو منصرف عنهم بحديثه لا يزيد على أن ستمهل من يستعجله منهم دقيقة؛ ثم يستأنف حديثه وهو أنشط وأهدأ بالاً مما كان! وانتهزت فرصة فعبرت له عن اعتذاري، وقد غالطت نفسي ونسبت إلي أنا السبب في ضياع هذا الوقت كله، وفهم صاحب الديوان إشارتي، فابتسم وقال:(لا. . . العفو يا أخي، لازم كلامي لم يتشرف برضاك). . . ونفيت ذلك بكل ما أملك من معاني التأكيد ومضيت أثني على حديثه بكل ما وسعني من عبارات الثناء، فاطمأن قليلاً، وسكت هنيهة ثم قال:(أنت عاوز الحق؟ الواحد هو بيشتغل على قدر القرشين بتوعهم) ولم أستطع أن أرد على ذلك القول الذي يتضمن السكوت عليه نوعاً من الاشتراك في الأخذ بما يدعو إليه، وما كان سكوتي إلا لأعود إلى موضوعي، وقد عقدت العزم على أن أعود إليه بأي ثمن
وبلغت ثورته أقصاها إذ تداعت إليه من هذا الكلام قصة الأقدمية، فراح يشكو في ألم واضطراب من أن الترقي بالأقدمية معناه أن يتساوى المجدد والمتكاسل والذكي والغبي والكفء والعاجز. فالمسألة مسألة زمن فحسب، ومتى مرت الأيام صار الموظف بحكم الزمن وحده كفؤاً مهما كان من عجزه وتقصيره. فما معنى أن يجهد المرء نفسه إلا أن يكون (عبيطاً) وهو لا يدري (عبطه)؟ وضرب المثل بنفسه: فهو يحمل شهادة عالية ورئيسه من حملة الابتدائية. وضحك صاحب الديوان وقال: (يعني أبدأ جحشاً ثم يمر الزمن فأصبح حماراً، وعند ذلك أصير أهلاً للرقي)
وكان موعد انصراف أصحاب الديوان قد حان فنهض ومد ألي يده ضاحكاً وهو يعبر عن أسفه لأن الوقت لم يتسع لموضوعي ويدعوني للحضور مرة أخرى.
الخفيف
في سبيل الأزهر أيضاً
الصراحة لغة الحق
للأستاذ حامد عوني
لقد عودنا الأستاذ النابه صاحب الرسالة الغراء في مطالع رسالته المشرقة أن يميط لنا اللثام عن وجه الحقيقة، وأن يسمعنا من حين لآخر صيحة الحق في غير مواربة ولا مراءاة، وذلك ما دعاني أن أتقدم إليه بكلمة هي وليدة هذا المبدأ الكريم رجاء أن يفسح لها مكانها من رسالته كما فسح لغيرها من صيحات الحق وله بعد ذلك شكر الله والناس
كان العرب - وهم في جاهليتهم الجهلاء - قوماً شبوا في أحضان البداوة الجامحة، ونشأوا في كنف العيش الجاف والحياة الشاردة، وكانوا إلى ذلك لا يدينون بغير القول الصراح، واللفظ المحسور اللثام، لا يعرفون فيه زيفاً أو مراوغة، ولا في أدائه عبثاً أو مهاودة حسبما تمليه عليهم طبيعة البادية، وتوحي به الشهامة العربية
وعلى هذا المنوال من القول نسج الإسلام رايته، وعلى غراره أدى رسالته، فعمت دعوته جميع الأرجاء
وهكذا كان القول الصريح في قديم العهد وحديثه مظهراً واضحاً في أكثر الأمر من مظاهر الحق، ومخباراً صحيحاً لصدق لغضبة له والذياد عنه، ودليلاً ناصعاً على قوة الأيمان به وفناء العقيدة فيه، ومحك صدق للبطولة والشهامة
ولكن - والأسف يحز في الأحشاء - درج أناس على أن يساوموا في الحق، وشبوا يستمرئون حياة المداراة والمصانعة، ويستسيغون مخزاة التواري عن وجه الحقيقة السافرة. فإذا ما استعدت الحقيقة أحدنا على المساومين فيها فأعداها، وأهابت به أن ينافح عنها فأجابها؛ قالوا: هذا باطل من القول وزور، وقالوا: هذا دفع لم يقصد به وجه الحق، وقالوا: غير ذلك مما أوحت به حفائظ الصدور لا لسبب - شهد الله - سوى التجرد لمواجهة الواقع الملموس، والجهر بما لم نستطع الهمس به، والإقرار في صراحة بما أعوزتنا الشجاعة فيه
إذا لم يتهيأ لنا - ونحن نعاني كمين الألم الصارخ - أن نضع أيدينا على الداء جزعنا أن نرى أحدنا يتوجع لنا، ويستصرخ الأساة لتضميد جراحنا. ومن ذا إذاً يرسل الآهة مدوية غير نفثة المصدور، وزفرة المكروب؟ وأي منا لم يقع في شرك هذا البلاء وتمني الخلاص
منه؟
ما كان لنا (علم الله) أن نستخذى أمام الحق ونتوارى عن الواقع المحس ما دمنا في البلية سواء
هذا لعمري موطن ضعف صحبنا منذ عهد بعيد. نحس بالألم ونتضور له ونحن مع ذلك نؤثر أن نستسلم للداء على أن نجأر بالشكاية منه والتخلص من شره. يا للعجب! متى نشجع فنثور على هذا الداء، ونطهر نفوسنا من أوضاره، ونكاشف العقول بويلاته فتتمكن يد الإصلاح من تعرف مواطن العلة فتضع الهناء مواضع النقب؟
قد يبدو لأحدنا أن في استقصاء بعض الداء وعرضه داعية للشماتة، ومثاراً للمتحفزين للوثبة، والقاعدين بكل مرصد؛ فنقول له: على هينتك. مرحباً بهذا الإشمات وأهلاً بهذه الإثارة؛ فكلاهما عامل من عوامل الإصلاح، وحافز من حوافز الأخذ بأسباب التقصي من العيب، والتبري النقص. وهاهي ذي معاهد العلم في مختلف الممالك لن تجد من بينها ما لا يشكو من عيب في بعض نواحيه مهما سمت مناهج التعليم فيه.
فليس من العيب إذاً أن نكشف عن أدوائنا بغية العمل على استئصالها أو تخفيف ويلاتها. إنما العيب والعار، بل ومن الخطر أن نرحب بالداء ونتحضن به ونطوي عليه كشحاً وهو لا يألونا عنتاً، ولا ينى أن يسومنا إرهاقاً، وقد قالوا:(من كتم الطبيب داءه هلك)
وبعد، فخير لنا أن نكون صرحاء فيما نقول، أحراراً فيما نرى، بواسل في مواجهة الحقائق فلا نستخذى ولا نستبطن ولا نرائي ولا نصانع فتلك صفات لا يعترف بها دين. ولا يقرها عرف، ولا يتسم بها فاضل.
وإذا أعوزنا المثل الأعلى للرأي الحر والموقف الصريح الحازم فلنلتمسه في (ساعة الأستاذ الزيات مع الأستاذ الأكبر) ففيها المثل الكامل والقدرة الصالحة
هذا ونحمد الله سبحانه أن وجد في صفوفنا من برز إلى الميدان، ورفع الصوت عالياً في حزم واتزان. وهذا ما ينبغي أن يكون عليه حالنا؛ فالصراحة سيف لا يرتفع الحق إلا على شباته، ومرآة لا تتكشف الحقيقة إلا على شعاعها.
(مصر الجديدة)
حامد عوني
المدرس بمعهد القاهرة
مسكن الفلاح
للأستاذ عباس قطر مصطفى
أستاذ هندسة الريف بمدرسة الزراعة بمشتهر
المصريون سليلة بنائية، وآثارهم في العمارة والإنشاء قبلة أنظار عناصر البشر المختلفة. . . هي فتنة العلم والفن، تكشف عن سحر عظمة مصر في زمن مضى وتولى. . . إنها توقظ الكبرياء القومية في قلوبنا وتحي الآمال في نفوسنا
حقاً قد كانوا يوجهون الجزء الأكبر من مجهودهم الإنشائي نحو القبور والمعابد لاعتقادهم البعث والنشور. . . ولكن. . . لم يكن لأدق بل ولأبسط شئون الحياة أن تجد سبيلاً للهروب من بحثهم ودراستهم وتنفيذهم. . . لذلك لم يفتهم أن كانوا العنصر البشري الأول الذي اكتشف مباني الريف من سكن ومخازن وحظائر للمواشي ومعامل للتفريخ الصناعي. . . بل وعمل على التطور بها إلى حد يشعرنا بالعظمة ويدعونا للإعجاب
لنقصر موضوعنا الآن على مسكن الفلاح. . . ولنر أولاً ماذا فعل أجدادنا به، وما هو عليه الآن، ثم ما نحن به فاعلون
أولاً - نشوء المسكن وتطوره:
فكر المصري الفطري الأول في ضرورة الاحتماء بمأوى له، فكان يجمع قطعاً من المواد الصلبة (كالأحجار وقطع الطين الجافة) على الأرض فوق بعضها البعض بشكل مخروط مفرطح ينام خلفها ليلاً لتحجب عنه تأثير هبوب الرياح
ثم وجد أنه من الأوفق أن ينام داخل هذا المأوى، واستحال عليه ذلك بهذه المواد التي يستعملها لتعذر تجويفها مع احتفاظها بالتوازن وما لبث أن قادته عقليته إلى استبدال مثل هذه المواد بمادة أخرى لينة تشبه ما يصنع منه مأوى الأعراب الآن. وبذلك تكون أول شكل للخيمة. . . ركز رأسها على فرع شجرة وشد جوانبها إلى الأرض بالحبال والأوتاد، وجعل لها باباً في اتجاه هبوب الريح
وكان تأثير هبوب الريح في هذه الحال العبث بمأواه هذا، فوضع حاجزاً من القصب أمام فتحة الباب ليكسر من حدة هذا الهبوب. تغلب بذلك على مقاومة الريح، ولكن أطفاله وحيواناته الأليفة كانت تخرج من المأوى وتضل الطريق، فعمد إلى هذا الحاجز فجعله
سياجاً يحوط مأواه من الجهات الأربع وجعل فيه باباً للدخول والخروج.
أراد بعد ذلك أن يستغل الفضاء بين محيط السياج وبين محيط مأواه لغرض توسيعه فشد بالحبال جوانب الخيمة رأساً إلى جوانب السياج بعد استبدال مادته الضعيفة بأخرى أقوى منها وهي الطين.
ثم نزع غطاء المأوى الرخو واستبدله بآخر صلب فجعله قصباً وأحطاباً ترتكز من وسطها على جذع شجرة فصار أشبه شيء (بالعرشة) بذلك أتخذ المأوى أول شكل عادي مألوف لسكن الفلاح الحالي.
وهذان شكلان آخران أيضاً لمسكن فلاح مُحَسن، منقول أحدهما عن نموذج موجود بالمتحف المصري، والآخر عن نموذج موجود بالمتحف البريطاني. ويتركب الأول من غرفتين وحوش مكشوف به سلم يؤدي إلى السقف. وللسطح ثلاثة حيطان، تعلوها تغطية ترتكز على عمود من برعم اللوتس مبني فوق الحائط الذي يفصل الغرفتين عن الحوش.
ويتكون الثاني من حوش مكشوف يطل عليه باب غرفة ونافذتها المحلاة بعمود من زهرة اللوتس، وإلى اليسار بوابة بالمتحف البريطاني مفتوحة تؤدي إلى سلم ينحصر بين الغرفة وحائط الحوش، ويصل إلى سقفها حيث يوجد مقعد صغير له فتحة صغيرة أيضاً بمثابة نافذة لها.
ثانياً - حاله الآن:
وصل مسكن الفلاح على أيدي أجدادنا ومنذ آلاف السنين إلى هذه الحال، فما هي التحسينات التي أدخلت عليه منذ هذا الأمد السحيق؟!. . . إذا استثنينا النادر - وليس للنادر حكم - فاللهم لا لشيء. . .!!
المسكن الحالي للفلاح رديء بأوسع ما في هذه الصفة من معنى. ليس وافياً بالغرض المنشأ من أجله. لا تجد فيه أعمالاً صحية مناسبة للريف لتوفير السبل المعقولة للتهوية والإضاءة والتدفئة والنظافة والتصريف. فغدت صحة الفلاح تبعاً لذلك عرضة لكل مرض. ولم يراع في هندسته الترتيب والتنسيق المناسب للريف، فغدا كتلة جامدة من الفوضى والتشويش لا تساعد على رفع المستوى الاجتماعي لساكنه، بل هي لا تساعد إطلاقاً على تكوين أي مستوى اجتماعي
ثالثاً - ما يجب أن يكون عليه مسكن الفلاح:
لندع الآن دراسة تفاصيل المسكن الحالي للفلاح لنرى بإيجاز ما يجب أن يكون عليه مستقبلاً؛ وسيكون ذلك من تلقاء ذاته نقداً وافياً لأي مسكن حالي
(أ) من حيث الوضع
يجوز بناء مسكن الفلاح منعزلاً عن مسكن جاره زيادة في قوة التهوية والإضاءة؛ والأغلب بناء المساكن متلاصقة بهيئة صفوف توفيراً لمساحات الأرض وتكاليف الإنشاء، اتجاهها (بحري - قبلي) حتى تتسلط أشعة الشمس على المسكن طيلة اليوم
(ب) من حيث مادة البناء
استعمل قدماء المصريين غنيهم وفقيرهم (الطوب الأخضر) في جميع مرافقهم الدنيوية لملاءمته لجو مصر، ولكونه موصلاً رديئاً للحرارة، ولسهولة الحصول عليه ورخص تكاليف البناء به، كما نستعمله الآن، وتستعمله أيضاً بعض الولايات الأمريكية
وفي الواقع يصح استعمال الطوب الأخضر كمادة بنائية للحيطان في الوجه القبلي وأغلب بقاع الوجه البحري لندورة الأمطار بشرط التأكد منه والعمل على عدم تأثير الرطوبة الأرضية فيها. بل ويمكننا القول مع شيء من الجرأة بجواز تعميم البناء بالطوب الأخضر حتى في شمال الدلتا بشرط عمل (رفرفة) مناسبة للأسقف و (لدروة) حائط الحوش مع تغطيتها (بدكة) جيدة للريف من خراسانة الجير والحمرة، وبشرط طلاء الحوائط بمونة جربتها بنفسي وهي (مونة) الجير والساس والتي ألح في طلاء جميع مساكن الفلاحين على الأقل بها في أية بقعة. فهي نظيفة قوية لا تحتاج إلى الترميم مثل (مونة) الطين ولا تمتص الرطوبة الموجودة في الجو ولا تسمح كالطلاء بالطين ببقاء وتوالد البق والبراغيث على سطحه الخشن وبين الشقوق الدقيقة فيه خصوصاً أن البراغيث وسيلة لنقل الطاعون
هذا وتكون أرضية الغرف من (دكة) خراسانة الجير والحمرة أيضاً بارتفاع 15 سم عن سطح الأرض
ولا يفوتنا ونحن في صدد الكلام عن مادة البناء أن نعنى بانتخاب أنواع الأخشاب المصرية الصالحة لأعمال الإنشاء الهندسية، وبالعمل على الإكثار منها لنعتمد عليها في عمل الأسقف
والنوافذ والأبواب ليعتمد الريف على الأقل على مواده الخاصة من جهة، ولزيادة التوفير من جهة أخرى، خصوصاً والأحوال الدولية المضطربة تعوق دون وصول الكفاية منها بثمن يتناسب مع سياسة الاقتصاد في الريف
(ج) من حيث الفكرة المعمارية
بتركيب المسكن العادي للفلاح الذي له زوجة وطفلان أو ثلاثة من غرفتين، ويجوز إضافة غرفة أخرى إذا كان عدد أفراد الأسرة أكثر من ذلك. وأبعاد الغرفة حوالي 3. 5 متر في الاتجاهات الثلاثة، بها باب ونافذة صحية واحدة على الأقل، وأمامها حوش له باب عمومي نصفه مغطى بمضلة تحتها مرحاض (يجوز استعماله حماماً)، ونصفه الآخر مكشوف
ولا مانع من الوجهة الهندسية الإنشائية من وضع حظيرة المواشي التابعة له بمسكنه. والشكل يبين قطاعاً أفقياً لأحد النماذج الاقتصادية، والتي هي وسط بين النوع المتصل والنوع المنفصل
(د) من حيث السياسة الصحية
(1)
التهوية الطبيعية:
يجب وجود نافذة واحدة على الأقل في كل غرفة يكون الجزء
السفلي منها قريباً ما أمكن من الأرضية (حوالي 1 متر)
لدخول الهواء النقي إلى الغرفة ويكون الجزء العلوي منها
قريباً ما أمكن من السقف (حوالي 12 متر) لخروج الهواء
الفاسد من الغرفة إذ أن الثاني أخف في الوزن من الأول، ولا
مانع من رفع مستوى نافذة الغرفة الكبيرة بعض الشيء؛ وذلك
لقربها من نافذة الغرفة الكبيرة للمسكن المجاور. وهذه الطريقة
تجدد من تلقاء نفسها هواء الغرفة بانتظام وبصفة مستديمة
(2)
التدفئة:
تزود إحدى الغرفتين ولتكن الغرفة (2) بفرن عرضه حوالي 2 متر فتحته من الحوش للنظافة وهذا فضلاً عن استخدامه في (الخبز) وفي مرافق المسكن الحيوية الأخرى، يمكن تزويده بفرعين من مواسير الفخار المتين محكمة الاتصال، أحدهما فتحته من الخارج ويمر (بالشاروقة) إلى أعلى حيث تكون فتحته الأخرى في الحائط داخل الغرفة، ويركب على كل من الفتحتين قرص ثابت مثقوب بشكل خاص، وآخر خلفه يتحرك بمقبض صغير مثقوب أيضاً بنفس النظام، ويمكن بواسطتهما إغلاق الفتحة في غير وقت الاستعمال. وبمرور الهواء الخارجي خلال هذا الفرع ترتفع درجة حرارته بمروره داخل الماسورة في الشاروقة ثم يدخل الغرفة دافئاً. وبذلك يمكن تدفئة هواء الغرفة شتاء إلى الدرجة المطلوبة وبطريقة صحية
أما الفرع الآخر من المواسير فله شعبتان: أولاهما في الشاروقة أيضاً، وتنتشران داخل سقف الفرن أفقياً حتى نهايته حيث تتجمعان إلى شعبة واحدة تتجه رأسياً إلى أعلى حيث فتحتها خارج الغرفة مركب عليها مثل القرصين السابقين. ويخرج من هذه الفتحة دخان الفرن. وبهذه الوسيلة يمكننا تدفئة سطح الفرن أيضاً للنوم عليه شتاءً
ولا يفوتنا ونحن عند هذه النقطة أن نعمل على عدم وجود الأحطاب والقصب وما أشبه ذلك داخل المسكن أو على السطح منعاً للخسارة في الأنفس والمتاع. وما حريق شباس وغيره منا ببعيد.
(3)
الإمداد بالمياه:
يجب تزويد مجموعة المساكن بمياه صالحة للشرب وأبسط طريقة للريف صهريج عال نوعاً تملؤه مضخة، له عدة مواسير متجهة إلى أسفل مركب عليها صنابير يأخذ الفلاحون منها كفايتهم. وإذا أردنا الكمال توصل المياه إلى كل مسكن بفرع واحد مركب عليه صنبور وصمام لحجز المياه
على أن تختبر هذه المياه قبل استعمالها بالتحليل للتأكد من صلاحيتها للاستعمال
ويختار موضع تركيب المضخة في طريق المياه الجوفية إلى مجموعة المساكن، وعلى
مسافة منها لا يقل بعدها عن 200 متر حتى لا تتلوث بمياه تصريف خزانات المساكن أو السوائل التي تتشربها التربة من حظائر المواشي وما أشبه ذلك
4 -
تصريف الفضلات:
لما لم يكن بد من تصريف فضلات السكان فأن اصح طريقة استعمال خزان التحليل
توجد في الفضلات بكتريا ومكروبات متنوعة منها أنواع مفيدة لأغراض تحليل المادة العضوية، وهذه تعيش في شروط غير هوائية؛ فيجب إذاً توفير هذا الوسط لها ليتم التحليل من جهة وتتكاثر هذه الأنواع وتبيد الأنواع الأخرى الضارة من جهة أخرى وهي غالباً لا تعيش إلا تحت شروط هوائية، لذلك يجب وضع تصميم الخزان بحيث يكون سطح السائل فيه قريباً ما أمكن من سقفه
ويعمل هذا الخزان من خراسانة السمنت ليبقى أمد الدهر سليماً جيداً. ويجوز عمله بالطوب الأحمر البلدي على سبيل الاقتصاد مع تغطيته بطلاء من (مونة) السمنت والرمل. وتصمم سعة الخزان على أساس أن كل فرد يخصه منها ثلاثة أعشار المتر المكعب. وأقل أبعاد ممكنة له هي بالتقريب: طول 2 متر وعرض 1 متر وارتفاع 1 متر وتكفي سعته لتصريف فضلات أسرة مكونة من 6 أشخاص
تدخل الفضلات إلى الخزان بميل حوالي 2 سم للمتر فوق القاع بحوالي 45 سم حتى لا تضطرب الفضلات الموجودة ولترسب الفضلات الداخلة على القاع حتى تتحلل
وعلى بعد حوالي 30 سم أسفل سطح السائل في الخزان يوجد السائل الذي تم تحليل المواد العضوية الموجودة به، وعند هذا البعد تركب أنبوبة التصريف ويمتد من الخزان في حفرة تحت سطح الأرض بأي نظام هندسي أنابيب فخار لتصريف المياه الخارجة من الخزان في التربة. وهذه الأنابيب موضوعة بجوار بعضها البعض بدون لحام، وبميل خفيف جداً لا يزيد على نصف سنتيمتر، للمتر ولا يقل طولها عن 15 متراً، ويزداد 2 ، 5 متر بزيادة كل شخص عن الستة. وتصرف هذه الأنابيب مياهها عند أطرافها وعند مواضع الاتصال؛ ويجب أن تكون التربة التي تصرف فيها غير متماسكة. والأطوال السابقة للأنابيب تعتبر أكثر من اللازم إذا كانت التربة مفككة جداً ويجب أن تضاعف إذا كانت الأرض طينية متماسكة
أما المواد الصلبة التي ترسب نهائياً في القاع، فعبارة عن
مركبات معدنية فقط لا يزيد ارتفاعها سنوياً عن 43 سم،
ولهذا السبب ربما لا يطول عمر صاحب الدار ليرى في حياته
تنظيف مثل هذا الخزان مرة واحدة
أما حظيرة المواشي، فالعادة المتبعة إلى الآن أن تترك الحيوانات لتبول وتتبرز على التراب كوسيلة اقتصادية لتحضير سماد بلدي. والواقع أن جسم الحيوان يكون دائماً أبداً ملوثاً بهذه الفضلات لرقاده عليها. ويسبب ذلك المرض ونقل العدوى خصوصاً إذا كانت المواشي حلوباً كما هو الحال غالباً في مسكن الفلاح
هذا علاوة على تصاعد الغازات الكريهة الرائحة وغاز النوشادر وثاني أكسيد الكربون وتوالد بكتريا التيتانوس وغرغرينا الغاز في الفضلات، كذلك توالد البعوض والذباب، وفي ذلك أيضاً خطر بليغ على الجهاز التنفسي والجسم والعين
ومن الغريب أن هذه الطريقة لا تنتج سماداً بلدياً جيداً لكثرة فقد المادة العضوية بشتى الأسباب
فمن الوجهة الصحية إذاً يجب عزل الماشية عن مسكن الفلاح وترتيب حظيرة بشكل خاص لمواشي الفلاحين بحيث تكون في أمان تام كماشية المالك، وتكون كل ماشية تحت سيطرة صاحبها فقط
وعلى سبيل ذكر الشيء بالشيء نرى أن الفكرة الاجتماعية تأتي فتدعم الفكرة الصحية في وجوب عزل المواشي، لأن الفلاح بمعيشته دائماً في مسكن واحد مع الماشية يتدهور مستواه الاجتماعي والخلقي كثيراً، فهو لا يستحي مثلاً من التبول أو التبرز أو الاستحمام علناً أمام أي جنس أو عدد كان من عابري السبيل علاوة على بطأ فهمه وضيق مداركه وعدم تحليله لمسائل الجرائم تحليلاً إنسانياً معقولاً
(هـ) من حيث استغلال الفضلات
من المسلم به أن ملايين الأطنان من السماد يمكن استخراجها من فضلات الإنسان والماشية
في الريف
وهناك الطرق الكثيرة المتنوعة لذلك مما لا يخفى على أحد: أهمها طريقة العالم لعمل سماد الأصطبل، والطريقة الهولندية لعمل سماد من فضلات الإنسان وكناسة المسكن
وبما أن البول يحتوي على الأزوت في صورة يوريا وغيرها؛ وبما أن نسبتها فيه كبيرة جداً، وبما أنها سهلة التحول إلى كربونات نوشادر لذلك فالقيمة السمادية له عالية وتساوي بالتقريب القيمة السمادية الآزوتية الكيماوية. فهي تتحلل في ظرف أسبوعين فقط بنسبة 80 - 90 %. إذاً فالبول الطازج يمكن استعماله مباشرة لسرعة هذا التحول. هذا علاوة على التأثير الجيد الذي يعادل تأثير الأسمدة الكيماوية للعناصر الأخرى السمادية الموجودة في البول كالبوتاسا وحمض الفوسفوريك
لهذا السبب يمكن تصريف بول المواشي كلها الموجودة في عزبة مثلاً، وكذلك بول الإنسان حيث يحفظ في خزانات مانعة لنفاذ السوائل لا يتسرب إليها الهواء وذلك بإحكام تغطيتها أو بإضافة زيت وسخ مثلاً إلى سطحه فلا يحصل فقد في الأزوت الموجود به بالتحلل والتطاير. ويستعمل البول بعد ذلك في تسميد الحقل في وقت يكون فيه خالياً من أي سماد لمنع تحويل أزوت البول إلى أزوت بروتين
أما براز الإنسان في هذه الحال، وكذلك روث المواشي وما عساه أن يوجد من قش الحبوب، والبقول، أو عروش الخضراوات وأوراق الأذرة الجافة أو مصاصة القصب وما أشبه ذلك على حسب النوع والكمية الموجودة بكثرة في المنطقة، فيمكن عمل سماد جيد منها على طريقة خاصة من طرق العالم
وإذا أعددنا للفلاح الصغير قطعة أرض صغيرة مبلطة جيداً أو ذات (دكة) جيدة فإنها تكون بمثابة صندوق التوفير له، إذ يمكنه بذلك أن يحول العلف التالف وبقايا الطعام وكناسة المسكن وغير ذلك من الفضلات المهملة إلى سماد صالح للاستعمال بعد حوالي 4 أشهر خصوصاً للحدائق وحقول الخضراوات
وبعد فمشكلة مسكن الفلاح مشكلة حالية ملحة من مشكلات الفلاح المصري نرجو تذليل صعابها أمامه. . . وما كفاحنا في سبيل الأمة أيام السلم بأقل شأناً من كفاحنا في سبيلها أيام الحرب.
عباس قطر مصطفى
الحرب في أسبوع
للأستاذ فوزي الشتوي
بين الديمقراطية والديكتاتورية
إلى أي طريق تساق البشرية؟ وهل قدر أن تسود الديمقراطية، أو تسيطر الديكتاتورية؟ وهل يستطيع العالم بعد ما ذاق طعم الحرية وتعود جني ثمارها وتطبع بأخلاقها، أن يتخلى عنها تحت ضغط الحديد والنار؟ إن التاريخ البشري حافل بقصص المجاهدين في سبيل حرية الفكر، مملوء بأحاديث الضحايا الذين فضلوا الموت على أن يتنازلوا عن مبدئهم
فإذا ذكرنا أن الحرية كانت في مهدها في تلك العهود، وذكرنا أيضاً أن الناس ظلوا أجيالاً طويلة ورقابهم تحت السيف أدركنا أن الديمقراطية تنتصر حتماً مهما طال عهد النضال وتأكد لنا أن الدكتاتورية لن تسيطر إلا إذا عبدت طريقها على رمم الديمقراطيين. فالحرب الآن نضال بين مبدأ الهمجية ومبدأ الإنسانية!
مأساة تتكرر
وإذا كانت جيوش ألمانيا الآن قد تقدمت فإنها تعيد ما حدث في سنة 1914 عندما ما وصلت على بعد 70 ميلاً من باريس وجيوش الحلفاء لم تصب بعد بخسائر كبيرة، بل هي تتقهر بانتظام بكامل قواتها حتى تسنح الفرصة الملائمة، وحتى تضعف عدة الهجوم الألماني وتتوزع قواته؛ فإنه يلاحظ في هذا الهجوم عدة أوجه: أولها أن قوات الحلفاء تتجمع بينما قوات الألمان تتوزع. وقوات الألمان في مناطق ثائرة تريد الخلاص، بينما قوات الحلفاء في مناطق موالية تعمل للدفاع وثاني هذه الأوجه اتساع جبهة القتال الألمانية وتخلخل قواتها، فخلف جيوشها في فرنسا قوات معادية كبيرة في بلجيكا فحكومة بلجيكا. مازالت قائمة في ديارها تعتمد على جيوش بلجيكا وبريطانيا وفرنسا، ومعاركها لم تنته بعد لتقرر سلامة النتوء الألماني الذي يمتد من لونجوي إلى أميان ووجهته موانئ بحر الشمال. ويفهم من تغيير القيادة الفرنسية تغيراً جوهرياً في الخطط العسكرية، كما يفهم من تصريحات رئيس وزراء فرنسا وإنجلترا أن الحلفاء صمموا على النضال إلى النهاية حتى يضمنوا النصر. وهذا مؤكد بفضل اتساع مواردها المالية، وغنى الإمبراطوريتين
الإنجليزية والفرنسية واتساع رقعتيهما
اختلاف الخطط
وتقدم الجيوش الألمانية الحالي لا يدل على نصر أو خذلان لأي الجانبين، بل يرجع في حد ذاته إلى اختلاف فن القتال عند المتحاربين وتقديرهما للرجال والخسائر. فبينما ألمانياً لا تتقيد بكثرة الضحايا وتقدم للميدان أعداداً كبيرة منها، تحرض إنجلترا وفرنسا على أن يكون عدد الضحايا أقل ما يمكن. بل إنه يبدو للمطلع أن قيادة الحلفاء تقدر قيمة الموقع الذي تدافع عنه أو تحتله وما يتكلف من خسائر؛ ثم تقدر مكسبها أو خسارتها. وعلى هذا الأساس تقرر خططها، وغالباً ما يعز عليها الضحايا فتوفرهم لفرصة أوفق وأقل ضحايا
وإذا عدنا إلى حوادث الحرب العظمى ووسائل الهجوم الألماني أمكننا أن ندرك مبلغ حرص القوتين المتحاربتين على سلامة رجالهما، ففي هجوم الألمان على خط كونديه - مونز - بينش، كانت قوات المشاة تتقدم في جماعات غفيرة متراصة يسهل حصدها بالمدافع السريعة الطلقات أو البنادق، حتى قال جنود الجيش البريطاني التي كانت تتولى الدفاع عن هذا الخط بقيادة الجنرال فرانش:(إنه كان يكفي أن تطلق البندقية في أي اتجاه فنضمن استقرار الرصاصة في جسم أحد الجنود الألمان)
هذا بعكس خطط الهجوم الإنجليزي أو الفرنسي، إذ يتقدم الجنود في خطوط رفيعة بين كل جندي والآخر متران تقريباً، فيطيش عدد كبير من الطلقات ويقل عدد الضحايا إلى أقل نسبة ممكنة. وحقيقة أن هجوم قوات الحلفاء يحرز النصر بعد مدة أطول، بينما يعطي هجوم الألمان نتائج سريعة، ولكن بخسائر فادحة؛ وهذا ما يحدث الآن. فلكي ينتصر الجيش الألماني في موقعه يجب أن تكون قواته ضعف قوات أعدائه فتتغلب عليه بالكثرة العددية
أخطاء خطيرة
وارتكبت في الموقعة الحالية عدة أخطاء كبيرة استغلها الجيش الألماني أحسن استغلال. فقد قررت قيادة الجيوش البلجيكية أن تخلي خط دفاعها الممتد على الحدود في منطقة أردن إلى حصن لييج، وأن تبدأ عملياتها الحربية في خط الدفاع الثاني على نهر الموز، وهو نهر
سريع الجريان وذلك ليتاح لها الاستفادة من نجدات جيوش الحلفاء. ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان فإن القيادة الألمانية هاجمت بلجيكا من جبهتين الأولى من لكسمبورج إلى منطقة أردن وكانت هذه الجبهة كما قلنا خالية من الجنود المدافعة. والثانية اجتاحت مقاطعة لامبرج الهولندية واستولت على ماسترخت ومنها اتخذت شكل مروحة فاتحة بعضها غرباً، واتجه البعض الآخر جنوباً في حوض نهر الموز وأرضه سهلة. وكان هذا مقدراً لدى القيادة البلجيكية على أن يستمر الجيش الألماني على الشاطئ الشرقي للنهر ويتعذر عليه المرور بفضل القوات التي ترابط على شاطئه الغربي بعد نسف الجسور المقامة على النهر
ولكن خطا ثانياً أفسد هذا التدبير فلم تنسف الجسور وتمكنت الجنود الألمانية من اجتيازها لأسباب لم يكشف عنها بعد. ولكن هذا الخطأ كان على جانب كبير من الخطورة إذا أصبح هذا الخط عديم الفائدة مما اضطر قوات الحلفاء إلى التراجع إلى خطوط خلفية أقل مقاومة فساعد ذلك جيوش الألمان على مهاجمة فرنسا بقوات كبيرة
ولنسف الجسور في حالة وقف الهجوم أهمية كبيرة. إذ يتعذر بعد نسفها على الجيوش المهاجمة أن تنقل قواتها ويصبح النهر فاصلاً بين القوتين. وبينما يكون المدافعون محصنين خلف الحصون الطبيعية أو الصناعية يكون الجنود المهاجمون مكشوفين لنيران القوات المدافعة وخصوصاً إذا أرادوا اجتياز النهر لإنشاء الجسور العسكرية لمرور قواتهم
ولنقدر أهمية نسف الجسور نذكر أن عدة أوسمة رفيعة تمنح للأفراد الذين ينجحون في نسفها. وفي الحرب الماضية منحت ستة أوسمة تقريباً من (صليب فيكتوريا) لمختلف الرتب العسكرية من الجنود إلى الضباط اعترافاً بما أدوه من خدمات بنسف الجسور في جبهة كونديه بنش، وهذا الوسام هو أرفع الأوسمة العسكرية البريطانية، ولم يحصل عليه إلا عدد قليل
بين حربين
والخطة الألمانية الحالية لا تختلف كثيراً عن الخطة التي نفذت سنة 1914، ووضعت قواعدها في أواخر القرن الماضي. فهي تتكون من اجتياح هولندا في مدة لا تتجاوز ثلاثة أيام؛ ثم اجتياح بلجيكا للوصول إلى سهول فرنسا الشمالية عن طريق حوض نهر الموز: وهو سهل منبسط قليل العقبات الطبيعية التي تعتبر عقبة في سبيل تقدم الجيوش. أضف
إلى ذلك أن الحصون الفرنسية في تلك المنطقة اضعف منها على حدود ألمانيا، فعلى الحدود الفرنسية البلجيكية كانت تقوم حصون متفرقة أقل مقاومة من خط ماجينو الذي ينتهي عند لونجوي
وتختلف خطة ألمانيا الحالية عن خطتها سنة 1914 في اجتياحها لهولندا لغرضين عسكريين: الأول اتخاذ قواعد برية وبحرية وجوية تقرب بينها وبين إنجلترا، والثاني لتأمن على جيوشها هجوم قوات الحلفاء من هولندا
فالمسافة بين شواطئ هولندا وإنجلترا قصيرة لا تتجاوز 150 ميلاً تقطعها الطائرات في أقل من ساعة، كما تتخذ موانيها قواعد للغواصات، وبهذا يتيسر لها استغلال أسطولها الجوي على أحسن وجه. وتتجه القوات الألمانية إلى الغرب للاستيلاء على موانئ فرنسا على المانش لقطع المواصلات بين فرنسا وإنجلترا ليتعذر نقل القوات البريطانية إلى فرنسا
انهيار مفاجئ
ويبدو لنا أن خطط الحلفاء الجديدة قد نجحت فتيسر لها وقف التقدم الألماني، بل إنها تمكنت من طرد القوات الألمانية من بعض المناطق التي سبق أن استولت عليها. ولعل هذا يوضح السبب في التجاء الألمان إلى إنزال بعض جنود المظلات الواقية خلف خطوط القتال لتؤدي مهمة قطاع الطرق؛ فتعتدي على المدنيين لبث الرعب فيهم، ولتخلق لقيادة الحلفاء بعض المتاعب التي تصرفها عن العناية بجبهة القتال. ولكننا نعتقد أن هذه الوسيلة فاشلة مقدماً، فقد عرفت وسائلها واستعدت لها البلاد، ونظمت قوات خاصة لتطهير هذه الآفات الكثيرة النفقات التي إن تحملها موارد ألمانيا الاقتصادية فترة من الزمن فلن تتحملها فترة أخرى
فإن جندي المظلات الواقية يتكلف بضع مئات من الجنيهات. فوزن المظلة الواقية وحدها 12 رطلاً من الحرير الطبيعي يضاف إليها نفقات معداته من دراجة بخارية ومدفع سريع الطلقات وأنصار سريين يشترون بالمال من داخل البلاد. فكل هذه النفقات لا تتحملها الموارد الألمانية. ولهذا يتردد كثير من خبراء الحرب في اعتبار الخطوات التي اتخذتها ألمانيا خطوات موفقة، بل يقول بعضهم إن حوادث سنة 1914 تتكرر في هذه الحرب إذ
تفوز في أكثر الميادين العسكرية ثم تتحطم دفعة واحدة في الميدان الاقتصادي ولا تجد الموارد اللازمة لإمداد جيشها
ولعل القارئ يذكر ما أصاب المالية الألمانية من إفلاس عقب الحرب الماضية، إذ هبطت قيمة المارك الألماني فلم يساور ثمن الحبر الذي طبع به حتى اضطرت إلى إلغائها في آخر الأمر فإن ألمانيا تلجأ إلى طبع الأوراق المالية دون أن يكون لها الرصيد المعدني الكافي الذي يحفظ لهذه الأوراق قيمتها في السوق
هل هو تعديل؟
ويرى بعض المفكرين من كثرة اعتداء ألمانيا على الدول الصغيرة المجاورة لها تعديلاً لخططها الاقتصادية الحربية. فهي في عرفهم تحصل على موارد البلاد المحايدة آناً بالتهديد وآناً بالاجتياح فإن الرعب الذي يستولي على دول البلقان يجعلها تقدم لألمانيا كل ما تطلب منها اتقاء لشرها. وقد ازداد رعب هذه الدول نتيجة لتقدم الألمان في فرنسا وبلجيكا فأصبحت أقل مقاومة وأكثر ليونة تحت الضغط الألماني
وكلما قصرت الموارد في ألمانيا اجتاحت دولة لتحصل على مواردها ونقدها. ولكن من المشكوك فيه أن تظل الدول التي تجتاحها بقرة حلوباً بسبب تدمير الجيوش للمرافق العامة أثناء انسحابها، ولان أكثرها الآن يحفظ رصيد نقده في أماكن بعيدة عن الخطر مثل أمريكا التي تحتفظ فيها أكثر الدول بأموال كبيرة
أمريكا تفزع
وكشفت حركات ألمانيا الأخيرة عن عدة مشاكل دولية قد تؤدي إلى اشتراك عدة دول في الحرب. فإن اعتداءات النازية المتكررة أفزعت الأمريكيين، وبعدما كانوا يقصرون أبحاثهم على خير الوسائل لمساعدة الحلفاء بالعتاد الحربي، تبدلت النغمة وظهرت أصوات في مجلس الشيوخ الأمريكي وفي الصحف تطالب علناً بوجوب اشتراك أميركا في الحرب
فالأمريكيون يرون أن النازية مظهر من مظاهر الوحشية والهمجية ويرون أن انتصارها هدم للمدنية الحالية وقضاء على الديمقراطية يرجع بالإنسانية آلاف السنين، حيت كان يخضع المجموع للفرد، ويتحكم السيف في رقاب الناس بدلاً من المنطق والعقل.
والأمريكيون أكثر شعوب الأرض تمسكاً بالحرية ومبادئها؛ وهم مستعدون دائماً لبذل دمائهم في سبيلها
وسيطرة النازية على أوربا معناها عندهم تهديد لحريتهم، ولا سيما بعد ما تكشفت عدة دسائس نازية ترمي إلى الاستيلاء على أمريكا بوسائل الدعاية وإثارة الحرب الداخلية. هذا فضلاً عن اشتراك الولايات المتحدة وكندا في حدود واحدة، ثم قرب جزيرة جرينلند من الشواطئ الأمريكية مما يسهل اتخاذها قواعد عسكرية. فاعتزال أمريكا لمشاكل أوربا نظرية لا تقرها العقلية الأميركية الآن
جيوش الشرق
ويحتفظ الحلفاء في الشرق بقوات كبيرة انتظاراً لما قد تولده أطماع ألمانيا وغيرها من الدول الدكتاتورية في البلقان. فإن إيطاليا والروسيا لم توضحا بعد موقفهما وتلوحان آنا بالحرب وأخرى بالحياد، فهذه النغمة تفقد الحلفاء ناحية التركيز التي تستفيد منها ألمانيا. فبينما هي تركز أكثر قواتها في الجهة الغربية تتوزع قوات الحلفاء في مصر وسوريا وفلسطين وتونس والجبهة الغربية
وتعمل الخطط الألمانية للقتال في جبهة واحدة فقط، ولكن الواجب على الحلفاء أن يشغلوها في أكثر من ميدان حتى تتوزع قواتها فيخف الضغط عن الجبهة الغربية وتقع ألمانيا في المأزق الذي تتحاشاه
فوزي الشتوي
رسالة الشعر
لحن. . .
للأستاذ أمجد الطرابلسي
في فمي لحنٌ ولكنْ لا أغنَّي
…
وإذا غَنَّيْتُ، من يفهمني؟
أنتَ لا تَسْطيعُ أن تسمعَ لحني
…
وأخاف الكون أن يسمعني
يا حبيبي! كلماّ جئتُ الخميلة
…
أتوارى في حناياها الظلّيلة
فرنتْ زَنبقةٌ
…
نحوي جميلة
أو سمعتُ الطيرَ في الأغصان غنَّى
…
طَرباً يَنْزِلها غصناً فغصنا
شاقني أن أسْمِعَ الأطيارَ لحنا
ثم أمضي والأسى يغمرني. . .
أنت لا تستطيع أن تسمعَ لحني
…
فلمن - غيرك - قيثاري وفنَّي؟
كلماّ هِمْتُ على الشاطئ وحدي
…
ورأيت الموجَ في جزرٍ ومدَّ
هاجتِ الوَحْدَةُ آلامي ووجدي
فذكرتُ اللَّيْلَ، والأنجمُ ترنو
…
والهوى في الشَّطَّ والبحرُ يُرِنَّ
فهفا في قلبي
…
النشوانِ لحنُ
ثم أمضى والدجى يشملني. . .
أنت لا تسمعني حين أُغَنَّي
…
يا حبيبي! فَلِمَنْ أعزف لحني؟
يا حبيبي! كلماّ رُدْتُ الشَّعابا
…
كَشَفَ العُلَّيْقُ عن أمْسِي حِجابا
فَأُحَيَّيهِ ذهاباً وإيابا
وأرَى أثمارَهُ ترنو إليَّا
…
فإذا أدخلت في الشَّوكِ يَدَيّا
لاحت الذكرى فَغَشَّتْ مُقْلَتَيَّا
فتحاملتُ وآثرتُ الْمُضيَّا
كلُّ ما حولِيَ يَسْتَنْشِدُنِي
غَيْرَ أَنَّي إن تكنْ أُقصِيِتَ عنيّ
…
يا حبيبي! فأنا لستُ أُغَنّي
في فمي لحنٌ ولكن لا أُغَنَّي
…
وإذا غَنَّيْتُ، من يفهمني؟
أنتَ لا تستطيعُ أن تسمعَ لحني
…
وأخاف الكون أن يسمعني!
(باريس)
أمجد الطرابلسي
من وراء الستار
ليلة الزفاف
للأستاذ إبراهيم العريض
حفَّتْ بها النِسْوَةُ في جلْوةٍ
…
زيَّنَها الحبُّ لأسْحَارِهِ
كلُّ لسانٍ سالَ في غُنَّةٍ
…
يلْهجُ بالنُّعْمَى إلى جاره
هُنَّ عَصافيرُ الهوى كلماّ
…
نوَّرَ زغْرَدْنَ لنُوَّاره
في غرفةٍ تُدْنِي مرايا على
…
سُدَّتِها الفارِهَ للفاره
ضاحكةِ الأنوارِ. . . لولا الذي
…
يدُخَّنُ العودُ عَلَىَ ناره
وفاحَ منه أرَجٌ ناعِمٌ
…
أثْقَلَ جفْنَيْها بأَسْراره
كأنما زفَّ ربيعُ الصَّبا
…
لأَنسها أحْسَنَ أَزْهاره
وطافَ أتراب لها أرْبَعٌ
…
بالدُّفَّ، يوحِيني بأخْباره
يعْطْفنَ للنَقْرَةِ صدرْاً. . . وكم
…
فزَّ به ما تَحْتَ أزْراره
يُظْهِرْنَ باللَّمْحَةِ في الرقص ما
…
حالت أمورٌ دونَ إظهاره
من شاهَدَ الطاوُوسَ يختالُ في
…
ألوانه. . . لِبَعْضِ أوْطاره
وكانَ في كُرْسِيَّهِ جنْبَها
…
حقيقةً قامتْ إزاَء الخيالْ
ينُازِعُ الطرْفَ - فلا ينتهي
…
إلا إليها - رغْمَ طُولِ المِطال
وهل تمَلُّ العَيْنُ من مَشْهدٍ
…
باركهُ في الُخْلْدِ ربُّ الَجمال
فَتْنسِجُ الأنوارُ مِن عيْنِه
…
خُيوطَها في سُدفاتِ الظِلال
وهْيَ عَلَى إطْراقِها لا تَني
…
تُصَعَّدُ الأنفاسَ وسْطَ الحِجال
تَكادُ لا تُبْصِرُ من حَوْلها
…
شيئاً سوى إحْساسِها بالجلال
وجيَء بالوَرْدِ فمَدَّتْ له
…
من بينها واحِدةً في دَلال
فمسَّها مسَّا رفيقاً، وفي
…
ناظِرهِ البرَّاق عْينُ السُؤال
وارْفضَّ من جرَّاءِ إِشْفاقِهِ
…
جبينُ كلٍّ منهما باللآل
حتى إذا أمْطَرَها فِضَّةً
…
على الوصيفاتِ فعمّ النَوال
قُمْنَ إلى الأزهار ينْثُرنْهَا
…
وهنَّ ينشِدْنَ نشيدَ الوصَالْ:
نشيد الوصال
(يا طائر ألبان عَلَى بأنه
…
قد حفَّكَ الرَّوْضُ برَيْحانِهِ
فضاحِكِ الأيامَ في ظِلَّهِ
…
ما دامَ يعْلوكَ بأفنانه
لِلْحُسْنِ مِرآةٌ. . أتَرْضَى بانْ
…
يُصْدِئها الدمْعُ بِتَهتانه
فداعِبِ الُبرْعُم حتى إذا
…
تفتَّقَتْ أوراقُه. . . دانه
ونادِمِ البُلبُلَ ما دامَ في
…
نشوِته يُفْضِي بِأَلّحانه
فخْيرُ يوْمَيْك الذي ينقضي
…
عرْبدَةً ما بين نُدْمانه
هَيْهات! ما دامتْ لِذي سَكْرَةٍ
…
سَكْرَتُه إلا بإِدْمانه
لا تَطْوِ بالصَّمْتِ ربيعَ الصَّبا
…
فلَيْسَتِ العَوْدَةُ من شانه
عمَّا قليلٍ ينمحي كلُّ ما
…
تراهُ من ثابِتِ ألْوانه
أعِنْدَكَ الجامُ ولا تقْتِني
…
حرارة من ضَوْءِ نيرانه
فَما الليالي في سنِين الصبا
…
إلا دُخانُ النَدَّ في حانة)
وعِنْدَ ما أتَممْنَ إنشادَهُ
…
وفُزْنَ من ثَغْرَيْهمِا بابِتسَامْ
وقُمْنَ صفَّينِ لِيَعْرِضْنَهَا
…
فنانةُ تُغْرِي بحُسْنِ القِوام
توسَّطَتْهُنَّ على غِرَّةٍ
…
كَشُعلةٍ تلْعَبُ وسْطَ الظلام
في حُلّةٍ خَضراَء نمَّت على
…
ما تحتَها من بشْرَةٍ كالرُّخام
ناهِدةَ الثدْييْنِ. . . تعلوهُما
…
جوْهَرةٌ زانتْهمُا كالْوِسام
وَرْدِيَّةَ البطْنِ. . . سِوَى ظلَّةٍ
…
وارَتْ عن العين بقايا الحزام
فلم تزَلْ تلْوِي يديها على
…
صورةِ غُصْنٍ مالَ ثم استقام
تُزاوجُ اَلْخطْوَ على هينة
…
وتارةً تحْجِلُ حجل الَحمام
وكلماَّ دارَتْ بمنديِلها
…
ظلَّ كَمَوْجٍ حوْلها في الْتِطام
والعِرْسُ يُلْقِي نحْوَها طرْفَهُ
…
فَيَرْشِفُ الصهباَء من غير جام
حتَّى أرتْهُ كيْفَ تُطْوَى الحشا
…
للرَّعْشِة الكُبْرَى كمِسْكِ الختام
وانتبذتْ تدعوُ شريكاتها
…
أن يُترَكَ المغْنَى لِعُشَّاقِهِ
فسِرْنَ في آثارها زُمْرَةً
…
وهنَّ يبْسَمَنَ لإطْرَاقه
حتَّى تسلَّلْنَ جميعاً. . . ولم
…
يبْقَ رقيبٌ غيْرَ خلاّقه
وانتدَبتْ للبابِ إنْسَانةٌ
…
لِتُحْكَمِ الستْرَ بإِغلاقه
فغُودرَ النَّجْمُ إلى نفِسهِ
…
يسْبح في ظُلْمَةِ آفاقه
ومدَّ يُمناه إلى شَعْرِها
…
يُمِرُّها في طيبِ أعْراقه
مُسْتنشِقاً جُمَّتها كلماَّ
…
أنفاسُه ضاقَتْ بأشْواقه
ولم يَزَلْ يَعْطفِهُا رْيثمَا
…
أنْزَلَتِ الرَّأْسَ على ساقه
واسْتقبلَتْهُ بمُحَيّا بدا
…
كالوَرْسِ في حالةِ إشفاقه
مضطِربَ اَلْجفنِ حياءً له
…
مُغرَوْرقَ العَيْن لإشراقه
فنالَ ما يشعُرهُ قلْبُها
…
صَداه في أعمقِ أعماقه
وضمَّها مثنى إلى صدْرِه
…
ضمَّةَ من يَخْشَى عليها هواهْ
فاكتنفَتها غيْمةُ الحبَّ لا
…
تُبْصِرُ في عالَمهِا ما عداه
وأذْنُها فوْقَ حناياهُ لا
…
تَسْمَعُ في الدقَّاتِ إلا صداه
وهَكَذا ظلَّ. . . بِمِنِدْيِلِه
…
يمْسحُ عن وجْنَتها ما شجاه
وهامِساً في سمْعِها بِعْضَهُ
…
وبعضه عند تلاقي الشفاه
(مالكِ - يا خَوْلَةُ - تْبكينَ في
…
ليْلِه أُنْسٍ رجَحَتْ بالحياة؟
ناشدْتُكِ اللهِ الذي ضمَّنا
…
إلى حياةٍ باركَتْها يداه
إلاّ نفَضْتِ اَلْجفْنَ عن دَمْعِه
…
لِتَسْتِطيِعي أنْ تَرَىْ ما أراه
وشاطِري قلبيَ إحساسَه
…
لنرْفَعَ الروح معاً في صلاه
أنتِ من الحبَّ جناني. . . فلو
…
دُفِعْتُ عنها لَطواني لظاه
ما أرْخصَ العالمَ في ناظِري
…
مادُمْتِ قد حقّقتِ أغْلَى مُناه)
ومرَّ بالثغْرِ على جَفْنها
…
فأَرْخَتِ الجفْنَ على مائِهِ
وداعَبتْ أنفاَسُهُ خصْلَةً
…
من شَعرِها قامت لإغرائه
فأعرضَتْ في خَفَرٍ حيثُ لمَ
…
تقْوَ على منْظرِ إفلَائه
وأشرقَتْ في فَمِهَا بَسْمَةٌ
…
كالفجْرِ في مطلعِ أضوائه
ورنَّ في أعْطافِه صْوتُها
…
كالماء يجري فوق حصْبائه
(مالِكُ! ما رُوحي سِوَىِ مِعْزَف
…
بين يَدَيْ باعثِ أصْدائه
لا أحَدٌ - حاشاك - أعْنُو له
…
إلا الذي يُدْعَى لأسمائه
دُونك قلبي خالِصاً. . فهْوَ إنْ
…
يَبْذُلْ فمِنْ كل سُوَيْدائه
لا خيْرَ بَعدكَ في لؤُلؤُ
…
إنْ لم تفُزْ أَنتَ بلأْلائه
إن تَرَ دمْعي سائِلا فهْوَ لا
…
يُنْبِئَ إلا عن هوىً تائه
رَضِيتُ ما تشِعُّهُ في الدُّجى
…
يا كوْكباً في أوْجِ إسْرَائه)
ثمَّ أدارَتْ مبْسِماً ضاحِكاً
…
كالوَرْدِ في أوَّل إفضائه
يفَتَرُّ لِلقُبْلِة في وجْهِه
…
فَضمَّها شوْقاً لأِحشائه
(البحرين)
إبراهيم العريض
رسالة الفن
بعد الاستئذان
استنجللينا!
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- مسكين أخي أصيب بحب ابنة الجيران فهو لا يأكل ولا ينام، وقد حاولت كثيراً أن أجعله يفهم الحب لغواً وطيشاً وخيالاً، ولكني فشلت، وظل يقول إنه يشعر بوجع صحيح في قلبه وإنه لن يبرأ منه حتى ينال ابنة الجيران وهو ما يزال عند أبيه في البيت بين العيال
- عندي دواء أخيك!
- والنبي؟
- لا أقسم بفائدته لأني لم أجربه ولكني أكاد أومن بأنه نافع. . .
- نجربه نحن. . . ما هو؟
- خذي مسماراً، وضعيه في النار حتى يحمر، ثم انخسي به صدر أخيك فوق قلبه. . .
- نخستك النار في أحشائك. . . تريد أن تقتل الولد؟!
- ما كان الكي قاتلاً يوماً. العرب وأهل الصعيد جميعاً يعالجون أدواءهم به، وانظري إليهم تريهم أشد العالمين صحة، وأقواهم أبداناً وأرواحاً. . .
- ولكنهم يكوون أبدانهم عندما يصيب المرض أبدانهم، لا عندما تبرح بهم العواطف، ولا عندما تصيبهن الهموم. كان فيهم من جن بحب ليلى، قيس، لم ينخسوه بمسمار ولم يطعموه الحر
- صحيح أنهم قعدوا عن علاج قيس وأمثاله، وقد أقعدهم عنه وقوفهم بعلمهم عند حد رضوا به هم، ولكن هذا لا يجبرنا على أن نقف نحن أيضاً عند هذا الحد ارتضوه من العلم فلنا أن نمضي فيه ما دام طريقه مفتوحاً. . . لقد أخذ العالم صناعة الورق عن الفراعنة، فهل وقف العالم في صناعة الورق عند ورق الفراعنة، وأبى أن يمضى فيها لأن أهلها الذين أوجدوها قعدوا بها عند حد؟!
- طيب! فإلى أين تريد أن تمضي أنت بخزعبلاتك هذى؟
- لا أعلم. ولكن لك أن تسألي من أين أريد أن أبدأ. . . فهذا وحده ما أستطيع أن أجيبك عنه!
- ابدأ أينما تبدأ، ولكني أرجوك أن تنتهي إلى شيء يقره العقل. . .
- وما العقل؟ أظنه يحسن بنا أن نتفق عليه، وعما يصلح لأن يكون موضوع إقراره، حتى إذا ما وقفنا عند رأي لم نختلف عليه؛ فتقولين: إنه غير معقول؛ وأقول أنا: إنه معقول؟!
- ولكن هذه حكاية جديدة، بل هي حكاية قديمة جداً فيما أظن. . . ألم تعرف إلى الآن العقل ما هو؟
- ومن عرف!
- الناس جميعاً. . . اللهم إلا أولئك الذين لا يزالون يسألون عنه
- كان يخيَّل إلىّ أن هؤلاء الذين يسألون عنه هم الذين عرفوه مرة مرات ويريدون أن يعرفوه دائماً. . .
- ما هذا الكلام؟ الشيء إذا عرف مرة عرف دائماً
- إلا العقل. . . فهو حين يعرف العقل يكون عارفاً ومعروفاً في الوقت نفسه، وهذا يستلزم أن ينشق العقل على نفسه، أو أن يتداخل في نفسه، أو أن ينتفض عن نفسه لمحة، ثم يعود إلى نفسه، فإذا عاد إلى نفسه عاد عقلاً هو الذي كان قبل أن تحدث له حادثة المعرفة هذه، ولم يكن هو قبل هذه الحادثة يعرف شيئاً عن نفسه. . .
- هذا فرض يحتاج إلى إثبات
- إذن، أثبتيه أنت
- وأنا مالي؟ هل أنا الذي فرضته؟. . .
- ولكن، ألا ترينه معقولاً؟
- ومن كلام المجانين ما هو معقول
- فليسوا مجانين، أو هم ساعة ما يقولون الكلام المعقول لا يكونون مجانين. . . وما داموا يكونون مجانين أحياناً، وغير مجانين أحياناً فهم إذن كبقية الناس، فما من إنسان إلا ويحيد عن العقل وحكمه في كثير. . . فإما أن يكون الناس على هذا مجانين جميعاً، وإما يكونوا عقلاء جميعاً، وإما أن يكونوا جميعاً في حالة ثالثة يصيبون فيها الحكمة حيناً ويخطئونها
حيناً، وهذا ما قدمته لك من أن العقل شيء إذا اهتدى إليه مرة لم يكن معنى ذلك أنه قد ربط وأنه لن يشرد ويتيه في وديان النسيان
- وقد قبلت أنا هذا الرأي وسأدعك تقول ما تشاء على أساس أنه لا عقل ولا جنون
- وأنا لا أرضى بهذا، فالعقل شيء موجود بلا ريب، وكل رأى لا يوافق العقل لن يكون إلا خبلاً، وأنا لا أحب ابنة الجيران مثل أخيك حتى اسمح لنفسي أن أسايرك فيما تريدين أن تعربدي فيه من الحديث وأنت مترنحة الفكر. . .
فماذا تريد مني أن أصنع؟
- أريد منك شيئاً لا بد أن أطلبه من نفسي كذلك حتى نكون نحن الاثنين عاقلين فنستطيع أن نتفاهم. خذي هذا الخيط وهذه الإبرة وهذا الثوب وخيطيه، وأما أنا فسأرسم في هذه الورقة دائرة، سأجعل نصف قطرها عشرة سنتيمترات، وسأقسم محيطها إلى عشرة أقسام وسأجعل في كل قسم منها وتراً، وسأجعل كل وتر من هذه الأوتار قاعدة لمثلث رأسه مركز الدائرة، ثم سأرسم في كل مثلث دائرة يمس محيطها أضلاعه الثلاث ثم سأجعل كل نقطة من نقط التماس هذه رأساً لزاوية من زوايا مثلث آخر سأرسمه داخل كل دائرة من هذه الدوائر الصغار. . . خذي. . . إبدائي. . . وهأنذا سأبدأ معك ولنتحدث. . .
- ما شاء الله! ولن أكون عاقلة حتى أخيط لك الثوب، ولن تكون أنت عاقلاً حتى ترسم بيت جحا هذا الذي وصفته. . .
- نعم. . . مثلما كان يفعل الكردينال دي ريشلييه. . .
رحمه الله. . . هو أيضاً كان يخيط الأثواب ويرسم المثلثات والدوائر. . .
- بل كان يجمع على مكتبه جيشاً من القطط لا يفتأ يحادثهن في المشكلات التي تعرض له ويسألهن حلها ويتملقهن استجداء لحلول معضلات ومشكلاته من عندهن، فهو يمسح هذه ويداهن تلك، ويهز بأصابعه شوارب ذاك، ويهرش بأظافره رأس هذا. . . ولا يزال هكذا حتى ينفلق عقله أو ينبلج، فينكشف له عقله ويرى الحكمة. . . إنه يشغل نفسه بعملتين عقليتين: أولاهما المعضلة التي يروم حلها، والثانية مناوشة القطط، وهو لم يكن يفعل هذا إلا لكي ينتفض عقله على نفسه ثم ينطبق مرة أخرى فإذا به في هذه الانتفاضة قد ومضت فيه شرارة من نوره هو، هي ما كان يبحث عنه ليسير على هدية. . . ألم ترى مطلقاً أناساً
يتشاغلون في أشد مواقف التفكير حرجاً برسم الخطوط، أو بضرب الأرض، أو بفك الأزرار وإعادتها ثم فكها وإعادتها أو بحك جباههم أو بأي مشغلة يتشاغلون بها أثناء ما هم يفكرون فيما يحرجهم؟. . . كل هؤلاء مثل الكردينال دي ريشلييه، فهلا تحبين أنت أن تكوني مثله؟. . .
- ولكن الكردينال كان رجلاً هرماً لا أظنني كنت أحبه إذا رأيته. . . أفلا تعرف مثلاً آخر أرشق من الكردينال دي ريشلييه. . .
- فلتكوني مثل جاري كوبر. . . ألم تشاهديه في (مستر ديدز الشاذ)؟
- شاهدته. واتهموه بأنه (استنجللينا)
- فأثبت لهم أن كل الناس (استنجللينا) خذي الثوب خيطيه لعل جاري كوبر يراك فيعجب بك فيكون يوم سعدك. . .
- وأين أنا منه، وهو في هوليود وأنا في القاهرة. . . هات الثوب هات وأمري لله، وابدأ أنت في الرسم كما تشاء، وقل ما تريد. . .
- وهو كذلك. . . ولكن في أي شيء كنا نريد أن نتحدث. . . لقد نسيت. . .
- أظنك كنت تريد أن تعالج حب أخي لابنة الجيران بأن تكويه فوق قلبه بمسمار محمي في النار. . .
- صحيح، وكنت أنت تنكرين هذا، وكان إنكارك يعتمد على اعتراض قوي هو أن الحب عاطفة وليس مرضاً بدنياً حتى يعالج بدنياً صرفاً. . . أليس كذلك؟
- بلى. . .
- أما كنت تستطيعين أن تقولي شيئاً غير (بلى) هذه فإني لا أحبها. . . على أي حال هي مسألة ذوق، وعلاجها هي أيضاً مسمار محمي في النار تنخسين به لسانك فلا تعودين إلى النطق بها وبأمثالها
- ما أحد لسانه في حاجة إلى الكي غيرك. . .
- إذن فقد آمنت بالنظرية؟!
- لا يا سيدي. . . سحبتها. . .
- حسن. . . اسمي. . . ألا ترينه معقولاً أن تكون كل علة بدنية ظاهرة لعلة نفسية. . .
ثم ألا ترين أنه إذا كان الأمر كذلك فإنه يكون فيه توكيد لصلة البدن بالنفس
- ليس لي شأن بهذا التوكيد، وإنما أريد منك ولو بعض الأمثلة التي تستطيع أن تتخذها عوناً لك على إثبات ما تقول. . .
- لا بأس. . . من تظنينه تصيبه التخمة إلا من أصابه الجشع والدناءة؟ ومن تظنينه يصاب بالمرض الخبيث إلا الذي خبثت نفسه وانقاد لخبثها؟ ومن تظنينه يصاب بالعرج إلا المشاء في الظلال وفي الظلمة؟ لست أريد أن أمضي معك إلى أكثر من هذا إلا أن أقول لك إن هذا الحكم يسمح لكثير من الأفراد والحوادث أن يشذوا عنه. ولكن هذا لا يعنينا، فشذوذ الحوادث والأفراد يحتاج إلى تأمل خاص في كل فرد وفي كل حادثة على أن يكون هذا الدرس بعد اليأس من انطباق القاعدة العامة. . .
- طيب، وبعد هذا؟
- ما دمنا قد اتفقنا على هذا فقد سهل الأمر. والعرب، وأهل الصعيد - وهم منهم - عرفوا لكل داء دواء مكمنه في أعصاب الإنسان أين هو، وهم يكوون هذا المكمن بالنار فتطهر الأعصاب من رذيلتها وضعفها، ويزول المرض، وهم بهذا قد فتحوا لنا الطريق كما قلت لك، وعلى علماء النفس وأطباء هذه الأيام أن يتابعوا السير في هذا الطريق، وعلى الخصوص بعد أن قال قائل منهم إن مخ الإنسان ينقسم إلى مراكز عقلية، لكل مركز منها عمل خاص، فهذا للتذكر، وهذا للحساب، وهذا للاستنباط، وهكذا، ولست أدري لماذا لا يفكرون حين يصيب المرض مركزاً من هذه المراكز في أن يكووه ليطهروه وينقذوه، وليس ضرورياً في أن يكون الكي بالنار، فعندهم من وسائل الكي ما هو أشفق من النار وأرحم، وإن كانت النار أبلغ منه وأفعل، ثم مالنا نفرض أن كل مراكز العقل مجتمعة في المخ، ولماذا لا يكون بعضها في أعصاب أخرى غير المخ تلتف فيها الروح بالجسم أو تلامسها كما يلامس محيط هذه الدائرة زوايا هذا المثلث في هذه النقط الثلاث. . فإذا جاز أن يكون هذا، فلماذا لا يكون في القلب مركز الحب وهاهو ذا أخوك يقول لك إن قلبه يوجعه وجعاً مادياً حقاً. . . انخسيه بمسمار، أو إذا شئت أن تترأفي به فأحمي له (دبوساً). . .
- يا شيطان أخاف عليه أن يموت. . .
- لن يموت، فعمر الشقي بقي، وإنما سيحدث بإذن الله أن يخرج أذى الحب من ثقب المسمار أو الدبوس، آهات، وشعراً، أو غناء ندباً وبكاء، ثم ينتهي الأمر ويبرأ أخوك من الحب، ولي بعد ذلك الحلاوة. . .
- هي هذه الحلاوة التي راح عقلك فيها. . .
عزيز أحمد فهمي
القصص
قصة واقعية
إنه أخي. . .
للأستاذ محمد سعيد العريان
كان المطر ينهمر، والريح العاصف تحمل قطرات الماء إلى وجوه المارة وثيابهم، فتغمض عيونهم، وهم يسيرون على حيد الطريق في حذر ورقبة خشية أن تزلق أقدامهم فيتدحرجوا في الوحل، والسيارات منطلقة براكبيها من ذوي اليسار والنعمة، فتقذف عجلاتها رشاش الماء على جانبيها فيصيب وجوه الناس وأرديتهم، لا يكادون يدفعون عن أنفسهم شيئاً مما تقذفهم به الأرض أو تنالهم به السماء
وكان الليل في أوله. . .
وفي مُنْعطَف يُفضي إلى أربعة بيوت في حي (شبرا) كان فتى دون الثلاثين واقفاً تحت السماء وقفة مرتقب وعيناه معلقتان بنافذة مغلقة، لا يزيد على أن يرفع ليها عينيه حيناً، وإلى الطريق العام حينماً آخر، وهو واقف، والساعات تمضي، والمطر ينهمر، والريح تلطم وجهه بقطرات الماء، وفي يده ورقة مطوية. . .
وكان بوابو البيوت الأربعة مجتمعين وراء أحد الأبواب، وبين أيديهم نار يصطلونها وهم يسمرون، وكان لكل أسرة من سكان البيوت الأربعة حظ من حديثهم وسمرهم؛ وهل يجتمع مثل هؤلاء إلا لمثل ذاك؟ وكانوا في غفلة عن الفتى، والفتى عنهم في غفلة. . .
وطال الانتظار بالفتى ونال منه البرد القارص، ونفذ الماء من ثيابه إلى جسده، وكان شعره الأشعث يقطر ماء على جبينه؛ فلم يتنبه إلا من بعد هذه الشرفة التي تلقي ظلالها على جانب من الطريق، فأوى إلى ظلها يحتمي من المطر والريح في هذه الليلة الباردة. . .
. . . لولا ثيابه الحائلة، ونظراته الضارعة، وذلك الفتور في عينيه، وهذا الشحوب في وجنتيه، ولولا هذه اللحية التي لم يمسها حدّ الموس منذ أيام - لحسبه من يراه عاشقاً قد أضّله هواه فأخرجه في هذا الجو العاصف، يرجو موعداً أو يتزود بنضرة. . . ولكن على وجهه سمات ليس مثلها في وجوه العشاق!
ولكن. . . ما هذه الورقة المطوية في يده. . . فلعله رسول. . .!
وأخذته عيون البوابين وهم في حلقتهم يصطلون ويسمرون، فتهامسوا وضحكوا؛ وأحس الفتى وقع نظراتهم، فاستحيا، ثم تغافل ولوى عنقه. . .
لم يكن ذلك موقفه الأول. لقد طالما وقف (حسّان) هذا الموقف من قبل، وطالما أمتدّ به الانتظار في هذا المنعطف ساعات؛ حتى إذا ما انفتحت النافذة المرموقة أسرع إلى الباب وصعد، أو كتب ورقة في حاجته فبعث بها مع البواب
من أجل ذلك كان مألوفاً لسكان الحي أن يروه في موقفه ذاك، وأن يسكتوا، ولكن أحداً منهم لم يحاول أن يعرف ما وراء هذا الموقف من سر. ولكن بواب البيت كان يعرف فأسر النبأ إلى صفوته من بوّابي الحيّ. . .
وهجست الهواجس في ضمائر سكان البيوت الأربعة، فكان لكل واحد مع أهله حديث. . . وتناثرت الإشاعات ثم اجتمعت، فإذا على ألسنة السكان جميعاً خبر واحد: هو أن للسيدة فلانة سرًّا تحاول أن تخفيه إلا عن الفتى وعن البواب. . .
. . . لو وقف (حسان) مثل هذا الموقف كل يوم مرات في غير هذا المنعطف ما أحس به أحد ولا سأل عن خبره سائل. كم فتى، وكم فتاة، وكم رجلاً، وكم امرأة - يمشون كل يوم، ويقفون، ويتواعدون، ويتلاقون على أعين الناس في الشوارع الحافلة، ثم يودع بعضهم بعضا ويمضي لوجهه؛ فلا يثير أحد منهم فضول عابر ولا يسأل عن خبره سائل. ولكن هنا، في هذا المنعطف الذي يُغْلق بابُه على بيوت أربعه قد تعارف سكانها فرداً فرداً فلا يكاد يخفى على أحدهم خبر جاره - هنا في هذا المنعطف كان وقوف حسان مثار فضول ومبعث ريبة
ولم يكن حسان عاشقاً ولا رسولاً ولكنه أخو السيدة فلانة زوج الطبيب فلان. . .
هل يصدق أحد؟ ولكنها الحقيقة. . .
هذه السيدة التي يراها من في أبهتها كأنها أميرة، أخت هذا الفتى البأس الشريد الذي يقف كل يوم هذا الموقف ساعات، تحت المطر الهاطل، وفي مهب الريح السافية، وفي أتون الشمس المحرقة يترقب، ينتظر اللحظة المناسبة ليكتب إليها فيعود له البواب فيضع في يده بضعة دراهم؛ ثم يمضي، ليعود بعد يوم، أو بعد ساعات فيقف موقفه يترقب، وفي يده
ورقة مطوية. . . . .
ماذا كان حسان في أوليته وماذا صار؟
لقد نشأ في بيت رفيع العماد عالي الذرا، ثم كان له ولأخته ما خلف أبوهما من ثروة ومال، وكان تلميذاً في المدرسة يوم مات أبوه، وكانت أخته مسمّاة على الفتى الذي صار له من بعد. . .
. . . وآلتْ ثروة أبيه جميعاً إليه، وإنها لثروة. وهجر الفتى مدرسته ومضى على وجهه يبيع اللذات ويشتريها، ونصب الشيطان له حبائله من الفراغ والشباب والمال. . .
وانتقلت أخته إلى دار زوجها وخلفت قصر أبيها بما فيه، ولكن قصر أبيه كان أضيق من أن يتسع له، فأغلق بابه ومضى ينتقل بين أندية اللهو ومجالي الهوى ومسارح الشباب، وبسط يده على موائد الشراب والقمار، وتقاذفته الأقدارُ قَدَرٌ إلى قدر، وأغمض عينيه وسبح في أوهامه، وطارت به أمانيه ثم سقطت؛ وفتح عينيه فإذا هو وحيد شريد صفر اليدين من المال والصحاب. . .
وذكر أخته بعد سنين من القطيعة، فراح يشكوا إليها؛ ودمعت عينا السيدة رثاء لأخيها وشفقة عليه؛ ثم ذهبت إلى صوانها ففتحته وعادت له بما تملك. . .
وخرج الفتى من مجلس أخته برأس مال صالح لو أنه أراد. . . وكان يريد، ولكنه رأى أن يودَّع ماضيه بليلة ساهرة من ليالي الهوى والشباب، ثم يُصبح. . . . . .
وأصبح. . . وعاد كما بدأ. . .
واستمرت الكرة تتدحرج. . .
وعاد حسان إلى أخته بعد شهر، وقال لها وقالت له؛ ونهضت إلى صوانها ثم عادت فارغة اليد. . . وعاد زوجها من عمله، والتقى الثلاثة لقاء الأهل بعد فراق طويل. . .
وأسرت الزوجة حديثاً إلى زوجها، وباحت بما باحتْ وكتمت ما كتمت. . . وأخذ الثلاثة في حديث طويل. . .
. . . وقال الزوج:. . . نعم، مني المال وعليك العمل، إنها تجارة رابحة، وإنك بها لخليق أن تبلغ الغنى في سنوات، لو أنك. . .
وتعاهدا على الإخلاص والصدق، ووثقا عقد الشركة بالأيمان ودفع الزوج المال، وخرج
حسان لأمره. . . ولمَ يعد. . . . . .
لولا الشهامة والبُقْيَا لكانت الفاصمة بين الزوجين، ولولا دموع السيدة. . .
وهمَّ الطبيبُ أن يرفع أمره إلى القضاء، ثم سكت؛ وماذا يردٌ عليه القضاء من ماله وإن غريمه مفلسٌ لا يجد رمقه. . .؟
وصبر على غيظ، وسكتتْ زوجه على حسرة وألم!. . .
وضاقت بالفتى أيامه، فعاد يتذكر أخته. . . وسعى إلى بابها وسأل، وكان زوجها في الدار، فتوارى الفتى يترقب، وطوى ورقة مكتوبة ودفعها إلى البواب. . . وصار هذا شأنهما من بعد. . .
وكان يقصدها كلما ضاق به أمره، ليس بين المرة والمرة إلا أيام، فتعطف عليه أخته وتنيله؛ ثم تقاربت مواعيده حتى صار له راتب مفروض في كل يوم. وبَصُر به الطبيب مرة وهو خارج فأخصى كأن لم يرى. وتجرأ الفتى من بعد فاستعلن، وراح يطرق الباب حين يشاء من ليل أو نهار يطلب ما يطلب، وترادفت مطالبه. . .
وضاق صدر الزوج ونفذ احتماله، فتصبرَّ. . . ثم علم من شئون حسان ما لم يكن يعلم، فغضب لنفسه. . .
لقد يكون من المحتمل أن يلقى الرجل ذا حاجة فيدفع إليه بعض ما يستعين به، ولقد يؤثره على نفسه بما يمنحه؛ ولكن منذا تطيب نفسه بأن يكون ما يدفع إلى ذي حاجة من ماله وسيلة إلى اللهو الحرام؟
هكذا قال الطبيب لنفسه فثارت ثائرته. إنه يشقى ما يشقى في تحصيل هذا المال، ليسعد به وليسعد غيره؛ لا لينفقه حسان على موائد الشراب والقمار!
وتحدث إلى زوجته بما في نفسه وإن كلماته لترتجف من الغضب، واستمعتْ زوجته إليه مطرقة، ثم خلَتْ إلى نفسها لتبكي. . .
ولم يكفُ حسان ولم تحرمه أخته، وعاد الأمر بينها وبين أخيها سراً كما بدأ، واستمرا المرعى فكشف الحجاب. . . وكان ما تنيله معروفاً ونافلة فعاد ضريبة مفروضة، وتكررت مطالبه وكثر مطلوبه، وألح إلحاح الجابي على مدين مماطل. . .
وتعود سكان الحي أن يروه كل يوم مرة أو مرات في موقفه ذاك ذليلاً ناكس الرأس،
وعينيه إلى النافذة أو إلى الباب، حتى إذا أمكنته الفرصة وثب فكان على باب أخته، فحيناً يكون الأمر بينهما تشكياً واعتذاراً، وحينًا يكون تهديداً وصخباً وضجة، وهمَّ بأخته مرة يحاول أن يضربها لتعطيه. . تعطيه من مال زوجها ما يعينه على ثمن الشراب وتكاليف الشباب، ثم يتركها لأحزانها ويمضي لهواه. . .
وضاقت به أخته كما ضاق به زوجها من قبل. . .!
وقالت له مرة وفي عينيها دموع: حسان، ليتني كنت أستطيع، ولكني لا أطيق أن أخون زوجي في ماله، وإني لأستطيع أن أعطيك ما تستعين به على العيش، ولكن لا أعطيك للشراب وللقمار!
وضحك الفتى ساخراً وقال: الشراب والقمار! تريدين أن ترَّبيني؟. . . إذن فأنت لا تمنعين المال عني للعجز والحاجة ولكنك تحاولين تأديبي. . .؟
وبرقت عيناه وأطلت منهما نفس شريرة، فتراجعت أخته مذعورة تطلب الحماية في متاع الدار، ووثب عليها فصرخت. . . ثم خرج راضياً. . .!
وطال حديث الناس عن السيدة المصونة، وقالوا ما قالوا، وتناولتها الرّيب والظنون؛ وبلغها ما يقال الناس فزادت هماً على هم. . .
وأوصتْ البواب أن يردَّه إذا رآه وأن يحول بينها وبينه، وكانت في حال من الغضب خيَّلت إليها أنها تستطيع أن تنسى أن لها أخاً. . .
. . وجاء الفتى إلى موعده، وكان زوجها في الدار. . .
كان المطر ينهمر، والريح العاصف تلطم الوجوه بقطرات المطر، وعجلات السيارات في سرعتها تقذف رشاش الماء إلى وجوه الناس وثيابهم. . . والفتى في موقفه لا يحس برد الليل، ينتظر غفلة ليصعد إلى أخته
وكفَّ المطر، وهدأت الريح، وانفتح الباب وخرج الطبيب لبعض عمله؛ فتسلل حسان إلى الدار. . .
ومضت لحظات قبل أن يسمع البواب من يناديه، فصعد؛ وقالت السيدة في غضب وثورة: ألم أطلب إليك. . . ألم آمرك أن تمنعه. . .؟
وأطاع البواب فهمَّ بالفتى ليطرده، ونشبت معركة. . .
وكنت خارجاً لبعض شأني أخذ عيني هذا المنظر. . .
وكان شرطي يسوق الفتى وقد اجتمع عليه البوابون الأربعة والفتى يتوسل، ودخلت في الزحام أريد أن أعرف، وكانت عينا حسان إلى النافذة، وثمة سيدة تنظر. . .
ورأيت الفتى الذي أخذتْه عيناي من قبل مرات، وكان يبكي وينظر إلى النافذة. . . وكانت السيدة تبكي له. . .
وقال البواب: لقد أمرتني. . . أمرتني أن أدعو له الشرطة، إنه لا يكف عن مضايقتنا ليل نهار. . .
وقال الفتى بذله: اسألها يا سدي إنها. . . إنها لا تريد. . .
وقالت السيدة وصوتها يقطر أسى: دَعُوه. . .!
وغضبتُ وثارتْ غيرتي. . وذهبتْ نفسي مذاهب من الريبة وسوء الظن، وأطل الفضول من نوافذ البيوت الأربعة. . . وتوقع الجيران أن يشهدوا فضيحة. . . وظنوا الظنون. . .
وعاد الفتى يتوسل، والبواب يتشدد، ويد الشرطي في عنق الفتى وعيناه إلى هناك. . . وعادت السيدة تقول في ضراعة: دعوه أرجو أن تتركه يا سيدي؛ إنه. . . إنه أخي. . .!
وأغلقتْ النوافذ المفتوحة، وتوارت الرؤوس المطلة، ومضى الشرطي والبواب بالفتى؛ وجلس الجيران يتهامسون؛ وكانت سيدة تجلس وراء النافذة وحدها، في وجهها أظفار دامية وفي عينيها على الذي أدماها دموع. . .
محمد سعيد العريان
البريد الأدبي
(وحي الرسالة)
أخي الأستاذ الزيات
إليك أقدم أطيب الثناء على الهدية النفيسة التي تفضلتَ بها على أخيك وهي المجلد الأول من (وحي الرسالة)، وهو مجموعة لمحات من بوارق فكرك الوثّاب الذي ترى به روح الشرق وعقل الغرب حين تشاء، بفضل ما وهبك الله من البصر بأسرار البلاغة العربية والثقافة الفرنسية، وتلك هِبة لا يتمتع بها من كتاب العصر إلا الأقلون
ويمتاز كتابك بميزة أصيلة هي تصويره لأكثر ما يحيط بهذا العصر من مشكلات عقلية، ومعضلات ذوقية، فهو سِجِلٌ صادق لحوادث عاناها المجتمع واضطرم لها روحك الأمين
وما عاودتُ النظر في كتابك إلا تفزّعتُ إشفاقاً عليك، فهو يشهد بأنك شديد الإحساس بالوجود. والذي يصف المجتمع وهو في مثل حالك يستأهل الإشفاق، إنه يعاني البلاء بمنحه المجتمع وهو يحمل روح المصلح. ولا يعزّيني إلا الشعور بأن الذين يشفقون في الطب لأمراض المجتمع هم في حقيقة الأمر من أعظم السعداء، وأنت في الطليعة بين كتابنا المصلحين، وإنك لعزيزُ علينا أيها الشقيُّ السعيد
وهذا وقد قال بعض الناس إنك كاتب متأنق، وذلك باطل يراد به حق، فالكتابة الرفعية فنٌّ جميل لا ينفع فيه الارتجال. ولا تحسب أنك خدعتنا حين قلت إن مجموعة (وحي الرسالة) لم تكن إلا ومضات يلمح بها الفكر من أسبوع إلى أسبوع، فالكاتب الحق لا يعرف عفو الخاطر وإن أحب أن يوصف بذلك وإنما ينقل إلى سنان القلم لواعج عاناها الفكر والروح في أعوام طوال. وهو كالشجرة التي تختزن ثمارها إلى أن يحين الموسم المنشود. فلا تحاول التعتب على من يصفك بالتأنق، لأن التأنق من صور الاهتمام، والاهتمام عملية جراحية تنقل الأفكار من عالم المعاني إلى عالم الشهود
أما بعد فأنا أرجو أن يسبغ الله عليك أثواب العافية وأن يجعل لمؤلفاتك حظاً من القبول تنسى به آلامك في خدمة الأدب الرفيع، إن جاز في دنيانا الحاضرة أن ينال المؤلفون المتفوقون بعض الجزاء. . . والله يحفظك للصديق الذي يعطف على جهودك أصدق العطف:
زكي مبارك
تحري الصدق في النقد
أخي الكريم الأستاذ الزيات:
تحية خالصة وعرفاناً بمكانة (الرسالة) في عالم الأدب الرفيع والنقد الشريف
والصدق - وهو من أخص صفاتك التي عرفتها فيك منذ عشرين عاماً أو تزيد - أول شرط من شروط النقد الشريف فإذا رأيت قلماً ينحرف عنه وهو يكتب في مجلتك، أسِفْت أسفين - أحدهما للعيب في ذاته، والآخر لأنه يقع في مجلة الرسالة، وهي علينا عزيزة؟
أقول كلمتي هذه على أثر ما قرأته في عددها الأخير الذي صدر في اليوم العشرين من مايو - لناقد يوازن بين الموسيقى في مصر وبين الشعراء، وبين الخطباء، وبين المعلمين، وبين الرسامين - وفصله هذا لاحق لسابق تناول فيه المفاضلة بين طوائف أخرى ممن يسميهم الفنانين بلغ عددها أربعة لأنه يبدأ مقاله الذي يعنيني فيه ما يعنيني - بالرقم (5) - وهو رقم الموسيقيين في سجله الشامل
ونحن نغبط الأستاذ الناقد على ما وهبه الله من قدرة خارقة على أن ينصب نفسه حكماً بين الأخصائيين من رجال هذه الفنون المختلفة التي بلغ عددها تسعة (حتى الآن)، ولعله لم يفرغ بعد من قضائه العالي في أشتات أخرى من الفنون، وأشتات آخرين من الفنانين
هذا فضل من الله يؤتيه من يشاء. أو هو فضول من الدعوى الطويلة العريضة التي أصبحت مرضاً في كثير ممن يحملون الأقلام ولا يحملون ما يضبطها ويكف غلواءها من الإفهام
ولست أعرض لسخرية هذا الناقد ولا لحكمه لي أو عليَ بين الخطباء. فليس يهمني أن (يقال خطيب)، وإنما يهمني أن أكون صاحب فكرة نافعة أحاول بثها في العقول أو عاطفة طيبة أحاول غرسها في النفوس
بل أعرض لشيء واحد - ذلك قول الناقد إنه سمعني يوماً في مسرح البلفدير في الإسكندرية أرثي سعداً عقب وفاته
تلك هي (الواقعة!) التي بنى عليها الناقد حكمه
وإذن فليسمع الأستاذ تكذيبي الصريح لهذه (الواقعة). فإني لم أتشرف برثاء سعد قط في الإسكندرية. ولم أتشرف برثاء سعد قط إلا في القاهرة بعد مرور العام الأول على وفاته، وكان ذلك في حفل تاريخي عظيم أقيم له سرادق مترامي الأطراف في جوار بيت الأمة
وإلا فليتفضل الناقد فيدلنا على شاهد واحد آخر غير شخصه يؤيد قوله إن سعداً رثى في الإسكندرية في مسرح البلفدير، وإن توفيق دياب حضر أو خطب
أما بعد، فإن رجلاً اشتغل بالتحدث إلى الجمهور منذ سنة 1916 إلى سنة 1940، وكانت آخر محاضراته ألقاها في كلية العلوم منذ شهرين، وأخرى ألقاها في دار الشبان المسلمين منذ شهر، فنهض للتعقيب على المحاضرة الأولى معالي إبراهيم عبد الهادي بك، وحضرة الدكتور منصور فهمي بك بما يأبى التواضع مجرد الإشارة إليه لولا سخرية هذا الساخر
ونهض للتعقيب على المحاضرة الثانية أستاذ جليل من أساتذة دار العلوم، وغيره من أساتذة الكليات الأزهرية بتحيات مباركات وتقدير مشكور. إن رجلاً هذا شأنه يقول فيه قائل:(إنه مسرحي إلى حد كبير في خطابته)، ويقيم حجته على صحة زعمه (بواقعة) مختلقة من جذورها لجدير به أن يبدي هذا الأسف، لا لخسارة تعيب شخصه، ولكن لخسارة تعيب الصدق والنقد الشريف
محمد توفيق دياب
حول الدكتور الحفني
كتب زميلي وصديقي الأستاذ عزيز كلمة عن الدكتور الحفني ظلم فيها الرجل لأنه لا يعرفه ولا يعرف عنه شيئاً إلا ما يشيعه عنه أعداؤه!! فالحفني موسيقي بكل ما في هذه الكلمة من معان، والحفني منتج مخترع في فنه ولعل الأستاذ عزيز لا يعلم عنه أنه قد وفق إلى ما لم يوفق إليه غيره من موسيقى الغرب فأخرج للموسيقى العربية (فلوت الحفني) المتمم للأرباع والذي أثار دهشة وفرحاً، والذي قدره جلالة الملك فأمر - حفظه الله - بضمه إلى الموسيقى الملكية. .
وقد أخرج الحفني أيضاً (الكورية) النحاسية وأخضعها للأرباع العربية. . . وكل هذا مسجل ومعترف به من أرقى الأوساط الموسيقية. . . وهو الآن بسبيل اختراع جديد سيتمه
قريباً، وسيكون له من الضجة ما يحمل الأستاذ الصديق على الاعتذار - أو على الأقل - على فهم الرجل!!
محمد السيد المويلحي
تقويم عن نشر التعليم والثقافة في مصر
عزمت وزارة المعارف على إنشاء تقويم سنوي يتضمن بياناً مفصلاً عما يبذل من الجهود في سبيل نشر العلم والثقافة في مصر والمعاونة على انتشارهما في الأقطار الشرقية، وما هنالك من الصلات بينهما وبين المعاهد المعتنية بالتعليم في جميع الأقطار
وقد رأت الوزارة أن تخصص في هذا التقويم مكاناً بارزاً للجامعة الأزهرية لما لها من الأثر العظيم في هذه الناحية، فكتبت إليها تطلب موافاتها ببيان واف عن مختلف جهودها الثقافية، على أن يشمل ذلك عدد المدارس والمعاهد التي يؤهل لها الأزهر وعدد التلاميذ والطلبة، ومد الدراسة في كل معهد أو مدرسة، والدرجات والشهادات التي يمنحها، وعدد الفرق والأقسام والأساتذة في كل نوع من المعاهد مع ذكر أسماء رؤسائها ورؤساء أقسامها وأساتذتها، مع بيان عن مكتبة الأزهر، ثم عن الجهد الذي تبذله في سبيل نشر الثقافة الإسلامية خارج الديار المصرية وبالجملة كل ما ترى إدارة المعاهد وجاهة نشره من البيانات في هذا التقويم
هذا وستخصص الوزارة جزءاً آخر لجهود جامعة فؤاد الأول، مع نشر بيان واف عن كلياتها وأقسامها وأغراضها الثقافية
إحصاء الطلبة في مدارس سورية
ثبت أن عدد الطلاب في سنة 1939 إلى 1940 في البلاد السورية 42808 تلاميذ موزعين على 358 مدرسة، و16919 تلميذة موزعات على 91 مدرسة ثانوية للإناث. وقد كان عام 1938 - 1939 (38870) تلميذاً و15483 تلميذة، فتكون زيادة الطلاب بين العام المنصرم والعام الحاضر 5374 طالباً وطالبة ومما هو جدير بالذكر أنه في عام 1924 كان يوجد 212 مدرسة للبنين تضم 16045 تلميذاً و51 مدرسة للبنات تضم 3926 تلميذة
فيلاحظ الزيادة المحسوسة التي تزيد على الأضعاف خلال 15 عاماً مما يدل على إقبال الناس على العلم والثقافة
وقد رفعت مديرية المعارف العامة ذلك التقرير عن الإحصاءات إلى عصبة الأمم عن طريق دائرة المعارف في المفوضية العليا
جمعية المعلمين تعد كتاباً عن القاهرة
بدأت جمعية المعلمين العليا المشمولة بالرعاية الملكية في تأليف اللجان الفنية من بين أعضائها وهي اللجان التي ستتولى وضع مؤلف عن القاهرة يتضمن بحوثاً تعالج النواحي في تاريخ العاصمة المصرية، وذلك لمناسبة الاحتفال بالعيد الألفي لها
وستجتمع هذه اللجان اليوم لتحديد عدد الصفحات التي يحتاج إليها كل بحث، حتى يتيسر لكل منها البدء في عملها
قصة أبي تمام
في البريد الأدبي للعدد الأخير من الرسالة طلبٌ من الأديب أحمد جمعه الشرباصي موجه إلى الأدباء للتحقيق في قصة قول أبي تمام: (إقدام عمرو في سماحة حاتم)، وارتجاله:(لا تنكروا ضربي له من دونه - مثلاً. . .). وهل قيلت أمام الخليفة أو أحمد ابن المعتصم أو أحمد بن المأمون، وقد ذكر الأديب الشرباصي ما يفيد: أن القصة لا صحة لها أصلاً ناسباً في ذلك أقوالاً لابن خلكان، وزاعماً أيضاً أن كتب الأدب ومذ كراته وكل المؤلفين في عصرنا هذا اعتمدوا أنها قيلت أمام الخليفة، فأعجب به الخليفة وقال لوزيره: أعطه ما يطلب. . . فطلب أبو تمام الموصل. . . الخ
وأبادر فأقول: إن المؤلفين وكتب الأدب ومذكراته لم يعتمدوا القصة - كما رواها -، وإنما ذكروا أنه امتدح أحمد بن المعتصم أو أحمد بن المأمون بقصيدة سينية؛ فلما انتهى إلى قوله:(إقدام عمرو. . .)، قال له الكندي الفيلسوف: الأمير فوق ما وصفت فأطرق ثم رفع رأسه وأنشد: (لا تنكروا ضربي. . .)
ولما أخذت القصيدة من يده لم يجدوا فيها هذين البيتين فعجبوا من سرعة فطنته ولما خرج قال الكندي هذا الفتى يموت قريباً) ذكر ذلك أبو بكر الصولي في كتاب أخبار أبي تمام بعد
ذلك (وقد روى هذا على خلاف ما ذكرته وليس بشيء والصحيح هو هذا وقد تتبعتها صورة ولايته الموصل فلم أجد سوى أن الحسن بن سهل ولاه بريد الموصل) هذا ما نقله ابن خلكان بنصه. كما أن تغليط الحيص بيص وابن دحية إنما هو من الصولي. فالذي تتبعها إذن وغلطهما ليس ابن خلكان كما فهم خطأ الأديب الشرباصي. أما ما قاله ابن خلكان فهو (رأيت الناس يطبقون على أنه مدح الخليفة، وأن الخليفة أعجب به وقال لوزيره: أعطه ما يطلب فإنه يعيش أكثر من أربعين يوماً فطلب الموصل. ثم قال: وهذه القصة لا صحة لها أصلاً. وأورد بعد ذلك تحقيق الصولي، فنفىُ صحة القصة من ابن خلكان والصولي منصبٌ على تولية أبي تمام الموصل وإنشاده القصيدة في الخليفة. ولم يذكر البستاني في دائرة المعارف إلا ما صححه الصولي، وهو المشهور في كتب الأدب. وحينئذ من هو الذي قيلت فيه القصيدة؟ الواقع أن ذلك أمر تحقيقه سهل ميسور! فإننا لو رجعنا إلى ديوان أبي تمام لعرفنا أن القصيدة ليست في الخليفة وإنما هي في أحمد بن المعتصم، وهو ابن الخليفة المعتصم الذي اتصل به أبو تمام ونال جوائزه في ذلك الوقت وفيها يقول:
هدأت على تأميل (أحمد) همتي
…
وأطاف تقليدي به وقياسي
فالبيت نص في الممدوح اسمه أحمد؛ أما ما ذكر من أنها قد تكون قيلت في أحمد بن المأمون فليس بشي ذلك لأن أبا تمام المتوفى سنة 231هـ ـ قالها في أواخر حياته؛ والذي يكون في مجلسه الفيلسوف الكندي في هذا العهد ويقال له في القصيدة نفسها: (يا ابن الخلائف من بني العباس) هو أبن الخليفة أحمد بن المعتصم لا أحمد بن المأمون المتوفى أبوه سنة 218هـ وبشيء من التحقيق كذلك، نرى أن نسبتها إلى الخليفة في بعض الكتب إنما هي من سهو النساخ فربما كانت كما يأتي:(إن أبا تمام امتدح ابن الخليفة المعتصم بقصيدة سينية) فسقطت لفظة (ابن) وصار الكلام (امتدح الخليفة المعتصم. . .) وهذا مما يؤكد أيضاً أنها قيلت في أحمد بن المعتصم لا أحمد بن المأمون. وللنساخ من أمثال ذلك كثير.
عبد الستار أحمد فراج
الكتب
عبقرية الشريف الرضي
تأليف الدكتور زكي مبارك
بقلم الأستاذ محمد هارون الحلو
لأستاذنا الدكتور زكي مبارك قلب يزخر بالفتوة وينبض بالعافية على رغم ما فيه من هوى مكتوم ولواعج مضطربة، وقد يلازم هذا الشذوذ والتناقض كثيراً من الأدباء ورجال الحكمة
وقد يكون ذلك لقدرتهم على الشكوى والأنين والتلهي أحياناً بالفلسفة أو التفلسف في تشريح العواطف والوجدانيات!
وهو يعيش في أودية الفن، الفن الروحي، ويهيم أبداً في ملكوت الخيال ولهذا كانت جل بحوثه من تيه عبقر، ومن همسات الشياطين!
والدكتور زكي مبارك له في البحث يكاد يستقل بها عن غيره من أعلام الأدب والكتاب الأبيناء فهو حين يكتب لا يعدو أن يكون مترجماً لأشرف العواطف وأنبل الغرائز البشرية بصورة واضحة لا غموض فيها ولا تلبيس
تنطلق عنه الفكرة مستقلة، تشرق في آفاقها الحقيقة وتلتمع في أقطارها صورة تلك الروح التي انبثقت عنها تلك الفكرة، فهو إذا بحث كان (فسيولوجياً) في بحثه، فناناً في أسلوبه، تلمح في مأثورة قوة الانفعال ومدى خصوبة القريحة؛ ويستوقفك في تضاعيف بحوثه الطلية رشاقة الأسلوب وتأنق المعنى ووضوح الفكرة وتريب المعاني وحسن السبك. . . وغير ذلك من الصفات التي أعطت أدبه لوناً خاصاً يمتاز به عن غيره، كما أنه ينفرد بين أدبائنا بجرأته، وهو يعتمد في ذلك على مواهبه وثقته بنفسه؛ فهو يتوفر أبداً على نصرة فكرته، لا يتقهقر ولا يتأخر
وكان له من نشوة الظَّفر ما يدل به كثيراً على خصومه، وكثيراً ما يعتد بنفسه شأن المتثبت المتمكن القوي الإيمان؛ فإذا أراد أن يعرض بخصم أو يمازح صديقاً؛ فهو ذو درية بأساليب الكيد وطرق الممازحة والمؤاخذة الأليمة والنيل من خصومه ومن أصدقائه أيضاً!
وثمَّة خلَّةٌ تكاد تكون من لوازم ذلك الأديب الكبير، وهي صبرُه في البحث وقوة روحه في
استقصاء المعاني في الموضوعات التي يطرقها
ولقد كان وفاء زكي مبارك أبرز صفاته الشخصية، فهو يذهبُ إلى العراق ليرفدَ أهلها من معينه السائغ؛ فلو أنك أيها القارئ قد اطَّلعت على ذلك السَّفر النفيس (عبقرية الشريف الرضيّ) لَجازَ لك أن تقول ما قاله أحد أدباء بغداد حينما قرأ ذلك الكتاب:(إن نثر زكي مبارك له روعة تفوق شعر الشريف الرضي في بعض الأحيان)
لا يمكنني أن اصف ذلك السَّفر الذي أقامه الدكتور زكي مبارك نصباً خالداً للشريف الرضي بقدر ما كتب هو عنه في مقدمته إذ يقول: (إن القلم جرى فيه بأسلوب ما أحسبني سُبقت إليه في شرح أغراض الشعراء، حتى كدت أتوهم أني طفتُ بأودية لم تعرفها الملائكة، ولا الشياطين)
ومن اعتداده بمؤلفه وتعريضه بغيره من المؤلفات ما يقوله أيضاً في سياق حديثه عن الشريف: (سيرى قراء هذا الكتاب أني جعلت الشريف أفحل شاعر عرفته اللغة العربية، وقد سمع بذلك ناس فذهبوا يقولون في جرائد بغداد: أيكون الشريف أشعر من المتنبي، وأستطيع أن أجيب بأن الشريف في كتابي أشعر من المتنبي في أي كتاب. ولن يكون المتنبي أشعر من الشريف إلا يوم أؤلف عنه كتاباً مثل هذا الكتاب!)
وله العذر فيما يقول فكتابه عن الشريف وعبقرية، ضرب من السحر لم يشرع في الكتابة من قبل ولم يأت على طريقة الأدباء بعد، فهو توجيه جديد في الدراسات الأدبية حيث يقف المؤلف من الشاعر موقف الصديق من الصديق، ويحصى عليه ويحصى له ويتحدث إلينا بإخلاص وأمانة، ويسجل رأيه الخاص في كل ما يعرض له، فالكتاب حافل بآراء جديدة وفلسفة فريدة
ولقد امتزج روح المؤلف بروح الشريف، وتأثر به أعمق التأثر وانتقل معه إلى عصره الذي كان يعيش فيه، وأحبه حباً عنيفاً، حتى أصبح يزكي خلاله مسرفاً في التمدح بأفضاله، فإذا مر بهفوة له فإنه يرفق به ويشفق عليه شأن ما يحدث عادة بين الخلصان من الأصحاب والأصدقاء
ولقد أربي البحث في هذا الكتاب - وهو يقع في جزأين كبيرين - على عشرين باباً، احتفل فيها المؤلف بكل باكورة من بواكير الشريف العبقري، وعالج موضوعات دقيقة
عميقة لها أكبر الأثير في توجيه الشريف في حياته
ولقد أجاد المؤلف وأفاد في الحديث عن (أعوام البؤس في حياة الشريف) و (العلا والمعالي في قصائده) و (صلة الشريف بحياة خلفاء بني العباس) وهي من موضوعات الجزء الأول
كما أنه برع في الكتابة عن (غراميات الشريف) و (عفافه) و (حجازيات الشريف) وغير ذلك من النواحي والاتجاهات العميقة التي ضرب فيها فكر المؤلف وخياله بسهم وافر، فنفذ إلى مكنونات وطريف كان لها أثر كبير في إخراج هذه السفر على آنق أسلوب وارفع خيال، حتى حقَّ للدكتور زكي مبارك أن يستهل الكتاب بتعليقه على قول الشريف:
أنا النضار الذي يُضَنُّ به
…
لو قلُّبتني يمينُ منتقدِ
بعبارته: اشهدْ أنك وجدْتَ المنتقد أيها النُّضار.
هذه كلمة قد عنَّ لي أن أكتبها وفاءً للأدب في شخص الدكتور (زكي مبارك) مؤلف عبقرية الشريف جزاه الله عن الأدب خيراً
محمد هارون الحلو
قصص العلماء والمخترعين
تأليف الأستاذ محمد عاطف البرقوقي
المفتش بوزارة المعارف
تحفزنا الرغبة في تشجيع الآداب العلمية إلى التنويه بهذا الكتاب الجليل، وهو باب من الأدب جديد يعني بتبسيط حقائق العلم في أسلوب أدبي يحبب إلى قارئه أن يقرأه فيجد لذة القراءة وفائدة التحصيل العلمي في وقت معاً؛ ومؤلفه حقيق بأن يبلغ بكتابه هذا المبلغ من الحرص على الفائدتين، فهو قد نشأ نشأة أدبية في ظلال أبيه الأستاذ عبد الرحمن البرقوقي صاحب البيان، وصهره الأديب الكبير المرحوم مصطفى صادق الرافعي؛ وهو إلى ذلك عالم قد تخصص في مادته العلمية في مصر والخارج، وعليه التفتيش على دروس الطبيعة في مدارس الحكومة - فاجتمع له بذلك الفضل من طرفيه
ونحن ننشر فيما يلي فصلاً من هذا الكتاب الممتع برهاناً على ما قدمنا من وصفه:
اخترع التلغراف
سنة التطور والارتقاء
لداروين العظيم مذهبه الشهير الذي يقول بسنة التطور والارتقاء، حتى رد الإنسان إلى أصل من القردة، وهذا الرأي لا يسري على الكائنات فحسب، بل إنه في رأيي يمتد إلى الاختراعات أيضاً، فكل اختراع يظهر أولاً ناقصاً مشوهاً، ولكنه يتحسس ويرقى بالجهود المتتابعة التي يبذلها العلماء، والأمثلة على ذلك عديدة، فها هي ذي الكهربية بدأت ساكنة فتطورت إلى متحركة محدثة التيار الكهربي؛ وهذه أبحاث فراداي النظرية، تتطور إلى أعظم المخترعات العلمية، ويحاول العلماء نقل الإشارات كما في التلغراف، فينجحون فيما بعد في نقل الكلمات كما في التلفون، وينجحون في اختراع التلغراف والتلفون السلكيين، فتؤدي أبحاثهم وجهودهم إلى اختراع التلغراف والتلفون اللاسلكيين، وهكذا سنة التطور والاتقاء في الاختراعات، ولن تجد لهذه السنة تبديلاً. ويحكى عن فرادي العظيم (ص55) أنه كان مرة يقوم بإجراء تجربة كهربائية في الجمعية الملكية بلندن أمام بعض المشاهدين والمشاهدات. وبعد ما أتم إجراءها وشرحها انبرت له إحدى السيدات وسألته:(يا مستر فرادي. هل يمكنك أن تخبرني ما فائدة؟) فأجابها على الفور ذلك الجواب المقنع المناسب: (وهل تستطيعين أن تخبريني عن فائدة الطفل ساعة ولادته؟) فأسقط في يدها ولم تحر جواباً
نشأة التلغراف
والتلغراف كان مطمح الآمال، وغاية العلماء منذ نشأة الكهربية، ففي عهد سكونها، وبعد أن كشف جراي ودي فاي (ص16) أن من الأجسام ما هو موصل وما هو غير موصل حاول بعضهم مد عدد من الأسلاك بعدد الحروف الهجائية، وهي تسعه وعشرون في اللغة الإنجليزية كل سلك فيها يقابل حرفاً من تلك الحروف فإذا أريد إرسال إشارة تلغرافية لكلمة معينة دلكت أطراف الأسلاك الدالة على حروف هذه الكلمة على التوالي، فتشحن هذه الأسلاك بالكهربائية فتجذب إليها في مكان الاستقبال كرات صغيرة من نخاع البيلسان فيؤلف المستقبل منها الكلمة المرسلة، وقد أخفقت هذه الطريقة كما أخفقت محاولات أخرى لما قام في طريقها من صعوبات: كبطء سير الإشارة أو ضعفها عن أن تصل إلى مسافات
بعيدة، ولكن الاتجاه الصحيح قد بدأ سنة 1821، بعد أن كشف أورستد (ص37) التأثير المغنطيسي للتيار الكهربائي، إذا اقترح أمبير (ص41) عقب ذلك) وفي نفس سنة 1821 استغلال هذا الكشف الجديد لتطبيقه في التغلراف. ومن ذلك استطاع جاوس العالم الطبيعي الألماني وفبر (أستاذ الطبيعة في جامعة جوتنجن) سنة 1833 من إقامة أول خط تلغرافي في العالم بين المرصد وقسم الطبيعة في هذه الجامعة، وكانت المسافة بين المكانين 9000 قدم، وقد اشترك يوسف هنري الأمريكي (ص71) في أبحاث التلغراف، وهو الذي اقترح استعمال المغنطيس الكهربائي الذي له الفضل في تحسينه ورأى أن يوضع أمام قطبيه قطعة حديد تمس حافظة، فإذا وصل التيار إلى ملف المغنطيس الكهربائي انجذبت إليه الحافظة وحدث صوت في (دقته) واقترح شتاينهيل الألماني بعد دراسة عميقة أنه يمكن استعمال الأرض موصلاً بدلاً من إقامة سلك آخر لإتمام الدائرة الكهربائية وقد أعلن ذلك إلى أكاديمية العلوم بجوتنجن سنة 1838، وقد حاول هويتستون في إنجلترا أيضاً الوصول إلى اختراع التلغراف، ولكن النصر الأخير والفوز الأعظم جاء على يد موريس الأمريكي
مورس
ومن ذا الذي لم يسمع بموريس؟ أو من ذا الذي لم يسمع (بالنقطة) و (الشرطة) اللتين أتخذهما موريس نظاماً وجعل منهما رموزاً للحروف الأبجدية والأرقام وغيرها، فجعل حرف الألف من نقطة وشرطة، والباء من شرطة وثلاث نقط، ورقم الخمسة خمس نقط وهكذا. إننا نسمع دقات التلغراف في مكانها كأنها تنادي باسم موريس آنا الليل وأطراف النهار
وقد بدأ موريس حياته فناناً، بل وفناناً عظيماً، ويكفيه فخراً في هذا المضمار أنه الذي أسس أكاديمية الرسم الأهلية في نيويورك، وقد تلقى أصول دراسة هذا الفن في أوربا، وأثناء عودته إلى بلاده سنة 1832، خطرت له أول خاطرة في التلغراف، وتمكن من بناء أول تلغراف عقب ذلك في نفس السنة، ولكنه كان يعوزه المال اللازم لبنايته وعرضه على الناس، واضطر إلى الانتظار ولكنه في الوقت نفسه كان يعمل على إدخال التحسينات في تركيبه، حتى أوفى على الغاية من الإتقان، وتسنى له أن يعرضه على الناس سنة 1837
في جامعة نيويورك، وأرسل أمامهم الإشارات التلغرافية مسافة 1700 قدم ونجح نجاحاً أثار الإعجاب، فمنحه مجلس الأمة الأمريكي مبلغ 30. 000 ريال، فأنشأ أول خط تلغرافي تجاري سنة 1844 بين واشنجتن وبليتمور
ذاع صيت موريس، واشتهرت فكرته، فذاع تلغرافه في إنجلترا وأوربا وأمريكا، وأتقن إتقاناً عظيماً في بضع سنوات حتى صار في الإمكان إرسال الرسائل التلغرافية مسافة مئات الأميال سنة 1850
جيوفاني فركا يحدثنا عن الملاريا
عندما يقرع الجرس من جديد للقطيع في السكون العميق تهرب العصافير دون ضجة والراعي نفسه الأصفر من الأصفر من الحمى والأبيض من الغبار يفتح جفونه الوارمة برهة ويرفع الرأس في ظل الخيزرانات اليابسة. لأن الملاريا هنا تدخل في الخيزران الذي تأكله فالملاريا تفاجئ السكان بغتة على الطريق المقفرة وتفاجئهم أمام باب البيوت المحرقة بالشمس مرتجفين منم الحمى تحت ملابسهم الواسعة مع الغطاء على الرأس.
والآن قد أنقلب كل شيء فتحت سماء إيطاليا أقوياء البنية وهم لا يشكون الآن من مرض الملاريا. وهي السكينا التي سمحت بهذا التغيير السكينا الدواء المعروف منذ سنة 1630 فلجنة الملاريا بجمعية الأمم التي تكرس نفسها خصوصاً لدرس المسائل المتعلقة بالملاريا تنصح لدرء هذا المرض بأخذ 400 ملليجرام يومياً من السكينا طوال موسم الحميات وإذا كان أصيب الإنسان بالمرض فالدواء الموصوف يلخص في علاج سريع المدة فيكفي أخذ جرام واحد أو جرام وثلاثين سنتجرام من السكينا كل يوم مدة خمسة أو سبعة أيام ولا داعي للمعالجة التكميلية ففي حالة الانتكاس يمكن تطبيق العلاج ذاته.