المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 361 - بتاريخ: 03 - 06 - 1940 - مجلة الرسالة - جـ ٣٦١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 361

- بتاريخ: 03 - 06 - 1940

ص: -1

‌الخصومة الأدبية في الشرق

للأستاذ عباس محمود العقاد

كتب كثير من الأدباء في الخصومة التي حدثت بيني وبين الرافعي، أو بيني وبين شوقي رحمهما الله، فلم أجد فيما كتبوه مدعاة إلى التعقيب أو المناقشة، وآثرت السكوت عليه.

وقرأت للأستاذ الصديق صاحب الرسالة مقالاً عن رأي الرافعي فيّ وفي الدكتور طه حسين، فرأيت فيما رواه عن الرافعي رحمه الله مذهباً من الخصومة الأدبية يتبعه كثيرون في الشرق خاصة، ويأباه كثيرون ولا سيما في البلاد الغربية. فكتبت هذا المقال لأبين به خطتي في خصومة الأدب أو خصومة الرأي على الإجمال، وألمع به إلى موضع الاستقامة وموضع الانحراف فيما قيل حول هذا الموضوع.

وكنت أعلم أن الرافعي يقول عني أحياناً غير ما يكتب. روى ذلك الأديب الكبير محمد السباعي، ورواه صديقنا الكاتب المبين الأستاذ البرقوقي صاحب البيان، وكله في جملته يوافق ما رواه الأستاذ الزيات في مقال الرسالة؛ ومنه حرص الرافعي على كتمان هذه الشهادة!

ولم هذا الاختلاف بين السر والجهر، أو بين القول الخاص والقول العام؟

هذا هو أيضاً موضع الاختلاف بين خطتي في الخصومة الأدبية والخطة التي كان يؤثرها الرافعي وبعض الأدباء.

فأنا أقول الرأي بلهجة وأقوله بلهجة أخرى، وهذا قصارى ما أستبيح من الفرق بين الرضى والغضب والصداقة والخصومة.

أما الرأي في لبابه فلا يتغير ولا يتناقض، ولا يسعني أن أجهر بغير ما أكتم، وإن كنت لا أدين نفسي بنفخ الأبواق ودق الطبول تعظيماً لمن هجّيراه أن يتناولني بالتصفير.

روى صديقنا الزيات عن الرافعي أنه قال: (أما العقاد فإني أكرهه وأحترمه؛ أكرهه لأنه شديد الاعتداد بنفسه قليل الإنصاف لغيره. ولعله أعلم الناس بمكاني من الأدب؛ ولكنه ينفسّ علي قوة البيان فيتجاهلني حتى لا أجري معه في عنان).

وهذا كلام فيه صواب وفيه خطأ. ونستطيع أن نتفق على موقعه من الصواب وموقعه من الخطأ إذا توخينا الإنصاف.

ص: 1

فماذا كان رأيي الذي كتبته في الرافعي وأدبه؟

إنني كتبت عنه مرات أن له أسلوباً جزلاً، وأن له صفحات من بلاغة الإنشاء تسلكه في الطبقة الأولى من كتاب العربية للمنشئين.

وقلت إلى جانب ذلك أنني أنكر عليه فلسفة البحث وصحة المنطق ودقة القياس.

فهل كان في وسعي أن أرى في أدب الرافعي غير هذا الرأي أو أشهد له غير هذه الشهادة؟

كان في وسعي نعم أن أقولها بلهجة غير التي كتب بها عني وكتبت بها عنه.

ولكن هل كان في وسعي بعد قراءة أرسطو وأفلاطون وأبن سينا وكان وشوبنهور وهيوم أن أحسب الرافعي من كبار المناطقة مع حسباني إياه من كبار المنشئين؟

هبنا توافينا على المودة ولم نفترق في الخصومة؛ فهل كنت أستطيع أن أسيغ القضايا المنطقية التي كان رحمه الله يستكثر منها ويمعن في الاتكاء عليها، وهي لا تحتمل الاتكاء؟

فأنا قد شهدت له بالبلاغة الإنشائية وأنكرت عليه الفلسفة المنطقية، لأنني أستطيع أن أسلكه مع الجاحظ وعبد الحميد، ولا أستطيع أن أسلكه مع كانت وابن سينا وهيوم.

ومن الذي يستطيع غير ذلك ولو كان من أصدق الأصدقاء؟ بل من الذي يستطيع أن يدحض الأمثلة التي ذكرتها ورددت إليها إنكاري عليه ملكة البحث الفلسفي والمنطق الصحيح؟

فمثل من تلك الأمثلة قول الأستاذ في الجزء الثاني من تاريخ آداب العرب إن الحيوان لا ينطق من اللغة الإنسانية إلا بما فيه معنى الطعام (وبذلك تأتي لبعض الألمانيين أن ينطق كلبه بألفاظ خالصة من اللغة الألمانية، ولكنها في الجملة من حاجات الكلب الطبيعية كالأكل والشرب فلا تخرج عن معنى الإحساس أيضاً).

فقلت له إن كلمة الخبز بالألمانية تقابلها ألف كلمة في لغات الناس كافة تؤدي معنى الخبز وتختلف في لفظها أبعد اختلاف، وعلى هذا يجوز أن ينطق الكلب بكل كلمة تجري على لسان الآدمي لأن اختلاف الكلمات في لغة واحدة ليس بأصعب على الحيوان من اختلاف ألف كلمة بمعنى الخبز في جميع اللغات.

فهل هذا قياس صحيح؟ وهل هذا بحث في أسرار اللغات؟

وقلت له أن كلمة (سمك) تؤدي معنى الطعام، ولكن السين والميم والكاف تدخل في

ص: 2

اصطلاح المهندسين والفلكيين. فلماذا لا ينطق الكلب بلغة الرياضة العليا كما ينطق بلغة الطعام؟

ومثل آخر من تلك الأمثلة أنه تعرض لرأي ابن الراوندي في إعجاز القرآن إذ يقول: (إن المسلمين احتجوا لنبوة نبيهم بالقرآن الذي تحدى به النبي، فلم تقدر العرب على معارضته، فيقال لهم أخبرونا لو ادعى مدع لمن تقدم من الفلاسفة مثل دعواكم في القرآن، فقال: الدليل على صدق بطليموس أو أقليدس أن أقليدس أدعى أن الخلق يعجزون أن يأتوا بمثل كتابه أكانت نبوته تثبت؟).

تعرض الرافعي لكلام ابن الراوندي، فماذا قال في الرد عليه؟. . . إنه لم يكشف المغالطة الظاهرة فيه وهي أن أقليدس لم يخترع الحقائق التي أوردها في كتابه، وليس في طاقته هو نفسه أن يبتدع كتاباً آخر أو يزيد قضية واحدة على تلك القضايا، فالعجز يشمله كما يشمل الآخرين، والدعوى لا تظهر فضلاً له غير فضل الاهتداء إلى الحقائق الموجودة قبله والتي لا يد له هو في إيجادها بأي معنى من معاني الإيجاد.

لم يكتشف الرافعي هذه المغالطة الظاهرة، بل راح يقول:(لعمري أن مثل هذه الأقيسة التي يحسبها ابن الراوندي سبيلاً من الحجة وباباً من البرهان لهي في حقيقة العلم كأشد هذيان عرفه الطب قط. وإلا فأين كتاب من كتاب، وأين وضع من وضع، وأين قوم من قوم، وأين رجل من رجل؟ ولو أن الإعجاز كان في ورق القرآن وفيما يخط عليه، لكان كل كتاب في الأرض ككل كتاب في الأرض، ولا طرد ذلك القياس كله على وصفه كما يطرد القياس عليه في قولنا: كل حمار يتنفس، وابن الراوندي يتنفس، فابن الراوندي يكون ماذا؟).

كذلك خيل إلى الرافعي رحمه الله أنه رد على ابن الراوندي وما زاد على أنه وصفه بأنه حمار. فمن شاء أن يحسب هذا قياساً فليفعل وله حكمه على عقله. أما أن يحكم على العقول جميعاً بأن نقيس الآراء كما يقيسها، فذلك هو الشذوذ.

وقد نذكر هنا المثل الثالث والرابع والخامس والأمثلة الكثيرة لو كنا نريد الإحصاء والاستقصاء، ولكننا نريد التدليل ولا نبغي غيره. وفيما تقدم الكفاية.

فالذي قلته في أدب الرافعي هو الذي اعتقدته، بل هو الذي لا أقدر على اعتقاد رأي غيره

ص: 3

إلا أن أنسى كل ما عرفت من كتب البحث والقياس.

والذي قلته في قياس الرافعي لا يقدر الصديق على أن ينفيه أو يقول بنقيضه؛ إلا أن تكون الصداقة على غير الحق والإنصاف ولو قنع مني الرافعي بأن أشهد له بالبلاغة وأن أنقد قياسه وبحثه على النحو الذي تقدم لما كانت خصومة ولا كان جدال.

ولكنه أعتد رأيي فيه تجاهلاً وقلة إنصاف، وزاد فاعتده من العداوة ورصد له ما يرصد للأعداء. وهذا هو أصل الخلاف.

أما ما قيل ولا يزال يقال عن الخصومة الأدبية بيني وبين شوقي رحمه الله فبودي مرة أن أقرأ كاتباً واحداً يقول: (إنك نقدت الشاعر في (كذا) وإن (كذا) هذه خطأ أقيم عليه الدليل، وهذا هو الدليل).

بودي أن أقرأ هذا لكاتب واحد من الذين يخالفونني في الرأي وينهجون في النقد غير النقد الذي أنتحيه.

ولكنهم جميعاً لا يزيدون على الصياح والاستهوال ثم الصياح والاستهوال: يا خلق الله الحقونا. . . يا خلق الله أسمعوا وأعجبوا. . . يا خلق الله تعالوا فانظروا من يقول أن شوقيا ليس بشاعر عظيم.

وهذا كل ما يقال، وهذا كل ما يعاد، ولا مناقشة لرأي ولا استشهاد بمثال.

ومنهم من يقولَّني ما لم أقل ويخرج صارخاً على خلق الله ليزعم أنني عظمت الشعراء جميعاً إلا شوقَّيا وحده، فقد خصصته بقلة التعظيم أكذلك حصل؟. . . لا. كذلك لم يحصل!

وكل ما هنالك أنني يحق لي أن آكل الجميز الجيد وأن أعيب التفاح الذي يعاب. والجميز بعد ذلك هو الجميز، والتفاح هو التفاح!

وأعجب العجب أن يبلغ الادعاء بهؤلاء أن يغلقوا كل باب للرأي غير رأيهم فلا يخالفهم أحد إلا إذا كان تأويل المخالفة الوحيد تِرَة شخصية أو قلة إنصاف!

ولو أنهم طلبوا الحقيقة لسهل عليهم أن يعرفوا أن طريقتنا تباين طريقة شوقي، وأن اختلاف المقاييس بيننا وبينه معقول وطبيعي ومردود إلى أسبابه التي لا نغضي عنها لو أردنا الإغضاء.

وأن ترة شخصية بيننا وبين شوقي لم تكن على حال من الأحوال. وليس في مقدور أحد أن

ص: 4

يذكر سبباً لها لو اتجهت ظنونه إليها.

فكل ما قلناه في أدب شوقي فهو رأينا الذي أعتقدناه، ولا نحب أن يشير أحد إلى اللهجة التي قلنا بها، فإن بيان أسبابها وتسويغ موقعها لا يعسران علينا، ولا يخفيان على من يعلم أو يريد أن يعلم. . . فالإيجاز في هذه الإشارة أولى من الإفاضة فيها.

وبعد فالخصومة الأدبية لها مذهبان: مذهب الإيمان بالفضل وإخفائه على عمد، ومذهب الرأي الذي يتفق عليه الأصدقاء والخصوم وإن اختلفا في لهجة الأداء وعبارة الثناء.

وهذا هو مذهبنا الذي ندين به ونجري عليه في كل ما اختصمنا فيه. . . وعلى الذين يرموننا بقلة الإنصاف أن يرونا مبلغ إنصافهم لنا، إن كانوا. . . منصفين!

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌حركات الإصلاح الإسلامية

أزمة إسلامية؟

للدكتور علي حسن عبد القادر

دكتور في الفلسفة والعلوم الإسلامية من جامعة برلين ومدرس

بكلية الشريعة

أيوجد حقاً ما يسمى أزمة إسلامية؟ وهل صحيح أن الإسلام يجتاز في هذا العصر مرحلة اجتماعية خطيرة، وأنه يقف الآن عند نقطة فاصلة ويمر بدور حاسم في تاريخه، وسيبرهن على استحقاقه البقاء والخلود إذا مر بها صحيحاً سليماً؟

كانت هذه الأسئلة تتردد في نفسي وتضطرب وكنت أعالج منها ضيقاً وحرجاً عندما كنت أقرأ هذه الرسالة الصغيرة (الأزمة الإسلامية) للأستاذ ريشارد هرتمان

ترى هل أحسن المسلمون بهذه الأزمة التي لم تنل بالطبع عقيدتهم القوية وإيمانهم الصحيح الخالص، أجل. ولكنها نالت أمراً عزيزاً لديهم. نالت حياتهم في أشكالها المختلفة ومست قوانينهم وشريعتهم ونظمهم الاجتماعية، وأصبح المسلم مضطرباً في حياته تتقاذفه أمواج شتى من حضارة جديدة وأفكار حرة وتقاليد موروثة ودين راسخ، لا يجد التوفيق بين ذلك كله سهلاً ميسوراً، وهكذا فإن المسلمين في جميع البلدان الإسلامية يعانون أزمة وشدة تكاد تودي بحياتهم وقد أودت بها فعلاً في بعض البلاد.

لاشك أن الناس لا يقرؤون التاريخ الحديث للإسلام، أو كأنهم لا يفكرون فيه كتلة تضم المسلمين في أقطار الأرض، فهم يغمضون أعينهم عما حصل وما يحصل في تركيا وبلاد الهند الإسلاميتين من حركات وثورات، بل وما يحصل بين سمعهم وبصرهم في مصر حيث الحياة قلقة والنفوس ثائرة والإسلام ينقبض في عقر داره يوماً عن يوم، وحيث سلطان الشريعة الإسلامية ضعيف. أترى أن هذا لا يستحق النظر الجد والتفكير العميق، أو أنه يكفي الصراخ والعويل كلما خرج خارج من أفراد أو دول؟

حقاً أن رجال الأزهر وهم الذين يمثلون جبهة الدفاع عن الإسلام والذود عن حياضه بما عرفوا به من علم صحيح وفكر مستقيم هم وحدهم الذين شعروا بهذا الخطر الداهم الذي

ص: 6

يهدد حياة المسلمين، وهم الذين أدركوا المنحدر الذي قد ينحدرون إليه، فهبوا يؤدون رسالتهم التاريخية في شجاعة وصبر، مضحين في سبيل هذا الواجب بهنائهم وسعادتهم غير مبالين بما يقف في طريقهم من صعاب لا يثنيهم عن عزمهم ما يبيته لهم الخصوم، ولا يصدهم عن مهمتهم ما يرميهم به ضعاف الإيمان، وهم من أجل ذلك في أزمة شديدة قاسية مضطربة نفوسهم وحياتهم أيما اضطراب.

في رسالة الأستاذ هرتمان بيان شامل دقيق لحركات المصلحين الذين تنوعت بهم طرق الإصلاح، واختلفت لديهم سبل التجديد تبعاً للثقافات المختلفة التي عرفوها والبيئات التي اتصلوا بها، فمنهم من رأى الرجوع إلى القديم والتمسك بالإسلام الأول، ومنهم من رأى الأخذ بالجديد كله، ومنهم من سلك سبيل التوفيق. وعلى هذا يدور البحث في هذه الرسالة القيمة التي سدت فراغاً كبيراً في الأبحاث الإسلامية الحديثة. والأستاذ هرتمان عالم هادئ الطبع اتصلت به أثناء دراستي ببرلين فعرفته يمتاز عن غيره ممن بحث في العلوم الإسلامية بنضوج الفكرة، والرجوع إلى الحق إذا ظهر له، لا يصدر حكمه إلا بعد تريث وترو في رفق وأدب. وهاأنذا أعرض عليك فصولاً من هذا البحث:

- 1 -

يقول الأستاذ: قلما تجد بين الأديان الكبيرة ديناً ينفذ إلى حياة معتنقيه كلها فردية كانت أم اجتماعية مثل الإسلام. ذلك أنه من وقت النبي والخلفاء أخذت السلطة الدينية فيه شكل الدولة السياسي، وبقي عدم التفريق بين أمور الدين وأمور الدولة - على الأقل في المبدأ - قائماً إلى الوقت الحاضر. وهكذا أليس الدين كل شيء ثوب التشريع والفقه، وقد طور عمل القرون المتوالية هذا الفقه إلى بناء هائل منظم لكل أنواع المعاملات والعلاقات الإنسانية تنظيماً دقيقاً، وأصبحت القوانين كلها ذات ثوب ديني تبعاً لهذا المبدأ الذي لا يفرق بين أمور الدين وأمور السياسة.

حقاً إن مثل هذا القانون قد تكون فيه قوة مادام حياً جديداً موافقاً للعصر المعمول به فيه، ولكن هذا كان إلى حد محدود، فإنه في أثناء تطوره لم يكن نافذاً معمولاً به على الإطلاق، لأنه في الحقيقة لم يكن من عمل الدولة وأعضائها، ولكنه كان عملاً للمؤلفين. وأخيراً عندما اقتنع الناس بأنه تجب متابعة الخلف للسلف الأول في كل أمر، وأن كان ما فصل فيه

ص: 7

السلف الصالح مرة في وقت يجب أن ترتبط به الأمة الإسلامية في كل الأوقات. لما حصل هذا الفقه المحدد لكل حياة المسلمين في ثوبه الديني المقدس خطراً مهدداً يقف أمام كل إصلاح.

ولم يشعر أحد بهذا الخطر ولم يكن حاداً ظاهراً ما دام العالم الإسلامي على قمة الثقافة. كان هذا في العصور الوسطى، وكانت الحياة المسيحية إذ ذاك تشبه إلى حد ما، حيث كانت حياة المسيحيين تحت سلطان الكنيسة، وكانت هناك ثقافة ومدنية مسيحية كما كانت هناك ثقافة ومدنية إسلامية وكلاهما بالرغم من تخالفهما في العقيدة كانا متقاربين، ونشأ ومن ورائهما ثقافة وثنية. وبينما كان الدين في الغرب يرجع إلى الوراء وتضيق حدوده أثناء مرحلة التطور من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، وتحل محل المدنية المسيحية للعصور الوسطى مدنية وطنية - بقي الإسلام سائراً في طريقه القديم القائم على الدين - ومن هنا كانت الثغرة بين الشرق والغرب واسعة، وبقى للشرق وللغرب كل له لغته الخاصة إلى يومنا هذا.

وأخيراً نوقشت مسائل التاريخ، وفتح المسلمون أعينهم على وضع المدنية الإسلامية للقرون الوسطى إزاء المدنية الحديثة. فماذا كانت النتيجة؟

إن العالم الإسلامي يف الآن عند نقطة فاصلة، فهو في أزمة، فهل قطع الإسلام - الذي يظهر مرتبطاً بالعصور الوسطى - كل شوطه وأتم القيام بدوره؟ وهل هذا المرض الباقي إلى الآن من الإسلام نفسه؟ أو أن الإسلام كدين متفق مع الإصلاح الحديث؟ وهل يستطيع الإسلام أن يتخلص من تأخر العصور الوسطى التي ارتبطت به؟ وهل هو في نفسه صالح وقادر على التطور؟

على جواب هذه الأسئلة يتوقف كيان الإسلام كدين، بل حتى في الأمور السياسية والاقتصادية بالنسبة لمستقبل الشعوب الإسلامية.

ولقد كانت مسألة عدم استطاعة الإسلام لإصلاح حقيقي، وعدم صلاحيته للتقدم، عقيدة سائدة عند الغربيين منذ عشرات السنين، ولم تكن هذه العقيدة سائدة عند (أهل التبشير)، وفي أوساط المبشرين الذين لا يفهمون عن الإسلام إلا صورة ناقصة جداً وغير صحيحة، بل أن الأمر تعدى إلى بعض مؤرخي الأديان مثل رينان الذي كان يقول: إن الإسلام عدو

ص: 8

للعلم. بل قد تعدى إلى بعض السياسيين العارفين بشئون العالم الإسلامي مثل اللورد كرومر الذي حكم على الإسلام حكماً قاسياً حين قال: إن إصلاح الإسلام يخرج الإسلام عن أصله

ونحن لا ننكر أن ما قيل من أن الإسلام عدو للإصلاح وليس ملائماً للأفكار الحديثة، قد يكون له بعض الأسباب، ولكنا هنا لا نلقي الكلام على عواهنه، ولا نعرض لأحوال غير مفهومة لعوام المسلمين الذين أثبتت الملاحظات شيئاً من تعصبهم.

فإن ذلك كله لا يرجع إلى الدين الإسلامي نفسه، بل إلى العناصر والبيئات التي حل فيها، أو إلى ما انتشر بين الناس من أن الإسلام ليس إلا تكراراً لليهودية والمسيحية، فمثل هذه الأشياء قد تكون موانع للإصلاح، ولكنها على أقصى حد أمور تبعية شكلية وليست أموراً أصلية. وأنه من البعد عن موضوع البحث أن نتكلم عن هذه الظواهر الشعبية في الإسلام، التي هي عبارة عن توفيقات بين تعاليم الدين وبين ما هو متأصل قديم في الشعوب من إفهام ضعيفة وأخرى ساذجة. ولكي يحكم الإنسان على جماعة دينية لا بد له من أن يحكم على مبادئها الصحيحة، وفي الإسلام يجب علينا أن نفهم مبادئه بكل وضوح، وأن نستبعد عنه ما ارتبط به من إفهام العوام، وحينئذ فقط يكون صحيحاً سليماً.

ولسنا في حاجة اليوم - لكي نفهم الإسلام في أطواره التاريخية - أن نقرر أنه لا يجوز لنا أن نرجع مباشرة إلى صحاب الرسالة (ص) كما نعرفه تاريخياً، فإن جاز لنا ذلك فإن الأمور تكون في غاية البساطة، لأنه ليس من شك أن النبي - الذي لم يكن نبياً فقط بالمعنى الذي يفهمه الأوربيون، بل كان سياسياً يدير أمور الدولة - كان في الحقيقة واسع الأفق في دعوته ويحسب للأمور حسابها. وجوابه المعروف:(أعقلها وتوكل) كلام له مغزاه، ويجب أن لا ننساه في مجرى التطورات الأخيرة في الإسلام.

ولكن الواقع أن الرجوع إلى ما كان عليه الرسول فقط لا يعرفه الإسلام التاريخي على ما هو عليه كجزء من حقيقته الصحيحة، فإن الإسلام كما يعتقد أهل السنة ليس إلا نتيجة لتطور طويل كثير التقلب. ذلك أنه لم يكن الإسلام في عهد الرسول إلا إيماناً سهلاً وقوانين للحياة بسيطة. وعندما انتشر بهذه السرعة الفائقة في بلاد ذات ثقافات مختلفة غير التي كانت في مهده الأول، دعا الأمر إلى تحوير وتشكيل. وهكذا تم للإسلام إضافة أشياء إليه أثناء امتزاجه بالتراث العقلي الذي كان عند سكان الأمم المفتوحة. حتى أمور العقائد التي

ص: 9

بقيت بعد كفاح شديد مقصورة على مبادئ قليلة خضعت لجولات واسعة حرة من الشرح والتفسير. وكان أكثر شيء توسعاً وازدياداً هو تنظيم أمور الحياة أو بعبارة أخرى الفقه والقانون.

ولكن هذا الفقه الإسلامي الذي كان في نوعه دينياً سياسياً وثقافياً، والذي كان منذ اللحظة الأولى أمراً لا يقبل التغيير، أقفل نهائياً وختم في نهاية القرن الثالث الهجري تقريباً، فوقف نشاط حركة دينية سياسية ثقافية نشيطة سنلم بأسبابها في المقال الآتي.

علي حسن عبد القادر

ص: 10

‌إلى أرض النبوة!

(وصف وتأريخ لرحلة الوفد السوري إلى الحجاز ربيع 1935

لفتح طريق الحج البري للسيارات)

للأستاذ علي الطنطاوي

حين تصل هذه المقالة إلى الرسالة، يكون الركب الذي خرج من دمشق منذ أسبوعين يؤم الحجاز قد شارف المدينة إن شاء الله. وهو أول ركب من الزوار يسير على الطريق الذي كشفناه، وفيه قريب من ثلاثمائة رجل وامرأة، ووصوله سالماً إلى المدينة، وذلك بفضل الله مؤكد، هو الثمرة الأولى لرحلتنا الكشفية التي رحلناها في ربيع 1935. ولقد كان أول ما خطر على بالي دعيت إليها وضع كتاب عنها، فكنت أتأبط دفتري دائماً، فلا نسلك طريقاً، ولا نقطع وادياً، ولا نرى جبلاً، إلا كتبت اسمه وصفته، وطبيعة أرضه، ولا يمر على قوم إلا سألت عن أنسابهم وأحوالهم، ووصفت مساكنهم، وذكرت ما عرفت من عاداتهم، وسمعت من لغاتهم؛ ولا بتنا ليلة إلا ذكرت كيف حططنا الأحمال، وكيف نهضنا للارتحال؛ ولا أرى منظراً، أو أشهد مشهداً، إلا ذكرت أثره في نفسي، وما أثار فيها من عاطفة، أو هاج من ذكرى، على ضبط في الأرقام، وتحر في جمع الأخبار، وتوثق من صدق الراوي وخبرته، حتى إذا دنونا من المدينة وأوفى الكتاب على الكمال، وقارب النهاية، امتدت إليه يد لا يعلمها إلا الله فذهبت به، فأيست منه وأهملته، وجعلت لا أكتب شيئاً، ولا أدون خبراً، إلا ما كان في طريق العودة فهو مكتوب عندي، وما كتبت من المقالات في مجلة الرسالة وغيرها.

وعدت إلى دمشق فانغمست في عملي، ثم ضرب الدهر ضرباته فسافرت إلى العراق أولاً وثانياً، وعملت سنة في لبنان أدرس فيها، وحسبتني نسيت الرحلة ونسيها الناس، حتى كان هذا الشهر وحقق الله ما ذهبنا إليه، ورأت دمشق اليوم الموعود، فسافرت أول قافلة من الزوار، وألح على الأصدقاء، وأعادوا الطلب مني أن أنشر وصف تلك الرحلة، فأجبت مكرهاً ونفضت ذهني، فكتبت ما بقي عالقاً به وجعلت غرضي أن أدون ما رأيت وما سمعت، وأسجل ما أحسست به وشعرت، من غير أن أعمد إلى كتاب من كتب التاريخ أو

ص: 11

رحلة من الرحلات، فآخذ منها الفصول والأخبار والأرقام، وأن أعرض على القارئ صورة من الحياة البدوية، إذا هي لم تكن محيطة شاملة، ولم تكن كافية وافية، فهي صحيحة ثابتة، ليست متخيلة ولا مبالغاً فيها، فإن أحسنت فلله الحمد، وإن أسأت فالذنب على من سرق (دفتري) عفا الله عنه وسامحه

وبعد، فهذه رحلة كشفية سلخنا فيها شهرين اثنين وقطعنا فيها خمسة آلاف كيل في الصحراء. . . وركبنا فيها من الأهوال ورأينا من العذاب ما لو سردناه وفصلناه لكان أشبه شيء بالأساطير.

ولم تكن هذه الرحلة من أجل التسلية أو النظر في عجائب المخلوقات وغرائب البلدان، ولا للكسب والتجارة، ولا لشيء مما يرحل أفراد الناس من أجله عادة، بل كانت لمصلحة عامة، وغاية اجتماعية، تعود على بلاد الشام وأرض الحجاز بالخيرات الجمة والفوائد الكثيرة، هي فتح طريق للسيارات بين دمشق والمدينة يسهل على الناس أمر الحج ويرغبهم في أدائه ويوفر عليهم صحتهم ومالهم. ولم تكن هذه الرحلة رحلة واحد يهتم به أهله وأصحابه، ولا جماعة يعنى بهم أقرباؤهم وذووهم، ولكنها رحلة وفد من وجوه الشاميين وسراتهم وتجارهم. وكان الشاميون جميعاً يتبعونهم بأفكارهم ويرافقونهم بقلوبهم وينتظرون البرقيات منهم ويتسقطون أخيارهم، فإذا انقطعت أياماً انتشر القلق وساد الذعر وهاجت الجرائد، وأقبل الناس يسألون عن أبنائهم وإخوانهم. . . فتهتم لذلك حكومة الشام ومملكة الحجاز، ثم لا ينقطع القلق ولا تسكن النفوس حتى يعرف خبر الوفد وتجيء منه برقية أو رسالة.

وكان أول عهدي بهذه الرحلة أن لقيني الشيخ ياسين الرواف المعتمد السابق للملكة العربية السعودية في دمشق، فقال لي: لقد عزمنا على اختراق الصحراء إلى المدينة، نكشف طريقاً للزوار برياً، فهل لك في مرافقتنا؟

قلت: نعم، ومضيت في سبيلي وأنا أراها أمنية من الأماني وأعلم أن بضاعتنا إنما هي الكلام، وأن الوفد لن يسافر، والطريق لن يفتح، ولذلك قلت نعم، وأجبته إلى السفر. وهل كان يسعني أن أقول له غير ذلك؟ تصور بالله مسلماً يستقبل البيت خمس مرات كل يوم، ويحن إلى هاتيك المعاهد، ويرى زيارته منيته ومبتغاه، وعربياً يحب الصحراء ويعرف

ص: 12

أخبارها، ويحفظ آدابها، ثم يدعى إلى قطع الصحراء وزيارة الحرم، هل يقول لا؟ هل يرفض الوقوف أمام الحجرة الشريفة، والقيام في الروضة، والصلاة حيال الكعبة، والشرب من زمزم، والسعي بين الصفا والمروة، وزيارة هاتيك البقاع المباركة التي ولد فيها الإسلام ودرج، وعاش فيها سيد العالم صلى الله عليه وسلم، ويأبى أن يخالط العرب في أرضهم، ويعرفهم في ديارهم، ويرى عياناً ما كان يقرأ خبره في الكتب، ويعرف أخباره على السماع؟

ولقد كنت أعلم أن هذه الرحلة جراءة على الموت واقتحام للخطر، وهجوم على الصحراء الهائلة التي طالما ابتلعت من أمم وأبادت من جيوش، ولكن ذلك كله يرغبني في الرحلة ويحببها إلي، لما ركب في طبعي من حب المغامرة والإقدام، ولأنها درس من دروس الحياة لا أجده كل يوم، هذا الدرس الذي من فصوله الصبر والجرأة والحزم والعزم والوحدة والنظام، يحتاج إليه كل شاب ينشاً في بلاد ليس فيها نظام عسكري كالبلاد الشامية؛ وأن الشبان الذين ولدوا في الحرب العامة أو قبلها بقليل قد فقدوا لطول ما نشأوا على النعم وتقلبوا في الترف طرفاً من الرجولة، وغدوا لما وجدوا من السلامة وفقدوا من المصاعب يميلون إلى التطري والتأنث، ويخشون الخروج من المدن ويهابون الحياة في الريف؛ حتى أن إخواننا من المعلمين إذا أمر أحدهم بالانتقال إلى قرية من القرى فكأنما أمر بالانتقال إلى جهنم. وما ذلك لسوء عيش القرى فليس في القرى إلا صحة الأجسام وصفاء النفوس وجلاء النظر وراحة الفكر، بل لأنه لا يجد في القرية (قهوة) ندياً فاسد الهواء مسدود الأبواب، يجتمع فيه مائتان أو ثلاثمائة على نفخ الدخان، وقرع النرد، وحديث كأنفه ما يكون من الحديث، ونكات كأثقل ما يكون من النكات - ولو أن الشباب ألفوا المغامرة وركوب الأهوال، لما كان من ذلك شيء ومرت أيام ثم لقيني الأستاذ الرواف كرة أخرى فقال لي: هلم فقد تقرر موعد السفر.

فأسقط في يدي ووقعت بين مشكلتين: مشكلة الوعد، ومشكلة الوظيفة. فلا أنا أستطيع أن أضحي بوظيفتي ومنها معاشي ومعاش أسرتي، ولا أنا أستطيع أن أخلف وعدي. ولو أني وعدت غير الشيخ ياسين لهان الأمر، ولكن الرجل نجدي سلفي لا يعرف من كلمة نعم إلا أنها وعد مبرم لا يحله إلا الموت؛ فاخترت الوفاء ولو خسرت الوظيفة وقلت له: أنا

ص: 13

حاضر!

ثم يسر الله فسمحت لي الوزارة بالسفر، وذهبت أعد الجواز. وجعلنا كلما أزمعنا السفر، وودعنا الأهل والأصحاب، عرضت لنا الموانع، فأخرتنا حتى ضجرنا واستحيينا من الناس لكثرة ما نعزم ثم نقعد، وكان أكثرنا قد أقلع عن حلق لحيته ليوفرها، ويجمع منها لحية كبيرة، لما ظنوه أن الرجل هناك بلحيته، فكلما كان أطول لحية كان أعلى مقاماً. . . فكانوا يأسفون عليها ويضنون بها على الخلق، ويستحيون أن يواجهوا الناس بها، لأن هذا الزمان جعل المعروف من السنة منكراً يستحيا منه، والمنكر من البدعة معروفاً يفتخر به. ولبثنا على ذلك أياماً، ثم عزمنا العزمة الأخيرة، فبيتنا ثقلنا في المرأب (الكاراج) حتى نغدو مسافرين. فلما حملناه ورآه أصحابنا وجيراننا جاءوا يودعوننا الوداع السابع ونحن لا ندري أهو الوداع حقاً، أم سنقيم بعده أياماً وليالي أم لا نسافر أبداً.

كنا في المرأب مع الفجر، وجعلنا ننتظر حتى تطلع الشمس، وكان الضحى، وأذن الظهر، وكان العصر، فأيسنا، وهممنا بالانصراف ولكن السيارات حضرت، وتحقق الرحيل، وكانت أربعاً من طراز (البويك) وواحدة من (الناش). وقد رفعوا على السيارة الأولى علماً سعودياً، وعلقوا في صدرها لوحة كتبوا فيها (الوفد السوري لاكتشاف طريق الحج البري). وسرنا وسار وراءنا المودعون في قطار من السيارات الكبيرة ما له آخر يعرف، حتى لقد ظننت أنهم لم يدعوا في البلد سيارة إلا استاقوها، واخترق الموكب مهللاً مكبراً تهتز له الأرض. . .

ولم أكن قد أيقنت بالسفر إلا في تلك اللحظة. فلما تصورتني كيف أفارق أهلي وموطني، وأطوح بنفسي في هذه الصحراء المخيفة، استعبرت. وكنت أطل على بردى، وهو يجري زاخراً فأنامله، فأجده أحلى في عيني مما كان، وأحب إلى نفسي، وعز علي أن أفارقه، واستفاقت في ذهني مئات من الذكريات، وكرت على حياتي كلها كأنها (فلم) أراه، فأبصرت في كل بقعة من دمشق، وكل طريق من طرقها قسما من حياتي. . . وهل حياة المرء إلا في قلوب أصدقائه، ووجوه أصحابه، وجوانب داره، ومشاهد بلده؛ فإذا فارق أهله، وغادر بلده، إلى بلد لا يعرفه، وأهل لا يألفهم، فكأنما مات نصف ميتة. ومن أجل ذلك كانت الهجرة جهاداً في سبيل الله، ذلك لأنها لون من ألوان الموت، ولكن صاحبها ميت

ص: 14

يعيش ليتألم، والميت مات فاستراح.

واستغرقت في هذه الأفكار فما صحوت إلا والموكب قد بلغ (بوابة الله) ووقف في ظاهر دمشق، ولم يعد موكباً وإنما صار طوفاناً من البشر، ولجاً طامياً من الناس، وكان من ثقله يزحف زحفاً، ويكبر فيزلزل الأرض، ويهتف فيشق عنان السماء، فلما بلغ (البوابة) وقف للوداع. . .

(لها بقايا)

علي الطنطاوي

ص: 15

‌النقد الرخيص

للأستاذ محمد محمد المدني

لا شك أن النقد أمر لا بد منه في قضايا العلم والبحث، وأنه ما دامت العقول المفكرة، والأقلام الكاتبة، فلا بد أيضاً من الآراء المتضاربة!

ذلك أن الناس يختلفون فيما يصدرون عنه اختلافاً شديداً تبعاً لاختلاف حظوظهم من العلم والعقل والتفكير ودرجة التأثر (بالعرف الطائفي) و (البيئة الخاصة):

هذا كاتب يستطيع - حين يعالج موضوعاً من الموضوعات - أن يخلص للحق فيه أكثر من إخلاصه لأي شيء سواه، فتراه يخلع ما عسى أن يكون له من آراء كونها لنفسه باعتباره عضواً في بيئة خاصة، أو متأثراً بظروف معينة، بل كونتها له هذه الظروف وتلك البيئة من حيث لا يشعر؛ فإذا خلع هذه الآراء وتحلل منها - ولو مؤقتاً - ولم يجعل لها سلطاناً على تفكيره، ولا أثراً في طريقة بحثه، استطاع أن يصل إلى النتيجة التي يبتغيها وهو أبعد من مزالق الخطأ، وآمن من مواقع الهوى!

أما إذا فرض الكاتب على نفسه ثقافة معينة أياً كانت قيمتها فسلم بقضاياها، واطمأن إلى عرفها، واستراح إلى أحكامها، ثم تناول ما يريد من بحث على هذا الأساس؛ فقلما يصاحبه التوفيق أو يصادفه النجاح، لأنه إذا صادفه في أثناء بحثه ما يخالف هذه القضايا التي آمن بها واطمأن مقدماً إليها، نفر منه وضاق صدراً به فاضطرب لذلك ميزان تفكيره واختل معيار منطقه!

ولا تجد شيئاً أضر على العلم، ولا أسوأ أثراً في العقل، ولا أشد إفساداً للرأي، من التعصب وإدخال (الطائفية) في محال البحث والنقاش. ذلك أن العلم والعقل والرأي ليست وقفاً على طائفة من الناس دون طائفة، وليس أحد أولى بأن يزعمها لنفسه من أحد، وليس لمنصف أن يحكم فيها عرفاً دون عرف، أو ثقافة دون ثقافة، وإلا خرج من دائرتها، وتحلل من منطقها!

ومن هنا يأتي النقد، ومن هنا أيضاً تختلف قيمته، فيكون بعضه غالياً ثميناً، وبعضه مبتذلاً رخيصاً. وتختلف كيفيته، فيكون بعضه هادئاً نزيهاً، وبعضه هائجاً سفيهاً! وكل ذلك بحسب اختلاف معينه الذي فاض عنه، أو إنائه الذي نضح به!

ص: 16

ففي ناحية التفكير الرشيد، والعقل المتزن، والعلم الموثوق به، تجد النقد الهادئ، والرأي السديد، والأسلوب الراقي، واللفظ المهذب! وفي ناحية التفكير القاصر، والأفق المحدود، والعلم الذي هو أشبه بالجهل، تجد النقد الهائج، والرأي الفطير، والأسلوب الوضيع، واللفظ البذيء!

ولهذا وذاك أمثلة فيما يطلع به الناقدون على الكاتبين من نقد أو اعتراض، وفيما تجري به حركاتهم وألسنتهم من فعل أو قول.

ولو شئنا لمثلنا هنا بما نعرف فلا سودت وجوه، وابيضت وجوه! ولكنا نعرف أن الموازنة على هذا النحو تؤلم نفوساً لا نحب لها أن تألم، وتقض مضاجع عزيزاً علينا أن تقض، فحسبنا أن نجعل على ذلك علامة يلمح بها ما نريد أن نفضحه، من (النقد الرخيص)

إذا أردت، أيها القارئ الكريم، أن تعرف قيمة النقد فانظر إليه فإن وجدت صاحبه يبحث في الجوهر واللباب، دون العرض والقشور، ويطيق أن يشرح بالحق صدراً، ويعترف به جهراً، في أسلوب عفيف، ولفظ مهذب، فذلك هو (النقد الثمين)

وإن رأيت صاحبه يشغل الناس بغير الحديث، ويهرب من مواجهة الحق، ولا يكرم قلمه أن يسيل بالألفاظ النابية، والكلم الجافية، كأن يرمي الذي ينقده بالجهل، وسوء النية، والملق، والضعف، والعقوق، والفسوق، وغير ذلك من الأوصاف، فاعلم بأن هذا هو (النقد الرخيص)

وإنما كان كذلك لأنه لم صاحبه جهداً، ولم يتقاضه تفكيراً ولا تعباً، فقصاراه أن يكون مجموعة من القول السيئ لزت في قرن، ثم قذف بها صاحبها في وجوه الناس، فأبت إلا أن تعود إليه لتلتصق به!

وقد عني القرآن الكريم بأن يرسم للناس طريق الأدب في هذا المجال واضحاً، وأن يضرب فيه الأمثال، والله بكل شيء عليم! (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم)

(ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء. تؤتي أكلها كل حين بأذن ربها، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون، ومثل كلمة خبيثة

ص: 17

كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار)

(أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين)

وينبغي على كل حال أن يغتبط الكاتب ذو الفكرة بما يتطاير حوله من سهام النقد، أو يثور عليه من غبار الاعتراض، فإن ذلك دليل واضح على أن فكرته قد وضعت موضع النظر، وأنها جديرة بالأخذ والرد والمناقشة والجدال

أما الفكر الهزيلة الساقطة فهي التي تولد فلا يحس بميلادها أحد، وتموت فلا يشعر بفقدها أحد، وصاحبها في الحالين مغمورٌ مغمور!

وينبغي أيضاً أن يكون الكاتب - مع اغتباطه بما يرى من الاهتمام بفكرته - مترفعاً محتفظاً بمستواه، فلا يغريه إخلاصه للفكرة، وتفانيه الذود عنها، بأن ينازل غير الأنداد، فيجادل فيها الوضيع كما يجادل الرفيع، ويناقش الجاهل كما يناقش العالم، ويعامل المكابر المعاند بما يعامل به المستوضح المتثبت، ويسوى بين (النقد الرخيص) و (النقد الثمين) فإن في الناس من يجعل ذلك حيلة، ويتخذ منه وسيلة، ليطير ذكره ويذيع اسمه. فليحذر الكاتب هذا النوع من الناقدين وليفوتوا عليهم قصدهم، ويعكسوا - بإهمالهم - غرضهم!

وفي مثل ذلك يقول بشار بن برد: (هجوت جريراً فأعرض عني واستصغرني، ولو أجابني لكنت أشعر الناس)

وقد اعتذر مسلم بن الوليد عما ترك من هجاء دعبل الخزاعي بأنه ليس كفئاً لهجائه، وأن عرضه أدنى من أن يهجى، فهو يتركه لهذا الغرض الدقيق. قال:

أما الهجاء فدق عرضك دونه

والمدح عنك كما علمت جليل

فاذهب فأنت طليق عرضك إنه

عرض عززت به وأنت ذليل!

وكما ينبغي للكاتب أن يحتفظ بمثلها للمنبر الذي أشرف على الناس منه، فإذا كتب كاتب في (الرسالة) مثلاً فعليه ألا يشوه جمالها بما يرد فيها على (النقد الرخيص) ينشر في غيرها

تلك شرعة النقد والكتابة عندي، وأنا أولى بأن أطبقها على كل من نقدني فأسرف

فيأيها الذين نقدتم فأسرفتم، ويأيها الذين نبا بكم القلم حين كتبتم: اذهبوا جميعاً فأنتم الطلقاء!

ص: 18

محمد محمد المدني

المدرس بكلية الشريعة

ص: 19

‌كفاءة هتلر الخطابية

للأستاذ عباس محمود العقاد

(يصدر في هذا الأسبوع كتاب جديد لصديقنا الأستاذ الجليل

عباس محمود العقاد عنوانه (هتلر في الميزان)، وهو دراسة

تحليلية مستفيضة لهذا الطاغية الشاذ بلغت مائتين وأربعين

صفحة في خمسة فصول وعشرات من الموضوعات شملت

نواحي هذه الشخصية التي بلبلت العالم وزلزلت الأرض.

ويسرنا أن نبادر فنقدم إلى قراء الرسالة هذه الصفحات من هذا

الكتاب القيم لنعجل لهم بعضاً من لذاته، ونعرض عليهم وجهاً

من طريقته)

في كل شهرة خطابية منافذ للمبالغة والإطناب لا بد منها في كل زمان، وفي زماننا الحاضر خاصة

ومنافذ المبالغة والإطناب هذه تأتي من مصادر متعددة: بعضها بريء وبعضها متهم، ومنها المقصود المدبر، ومنها الذي يحدث على غير قصد وتدبير

فأول مصادر المبالغة والإطناب جمهور السامعين، وهم كدأب الجماهير يحبون أن يتأثروا وأن يخلقوا لأنفسهم دواعي الحماسة والمغالاة، وأن ينوموا أذهانهم تنويماً يسهل لهم أن يعتقدوا ما يحبون اعتقاده، وأن ينساقوا في موجة من الشعور لا تطيق الحدود، ولا تقف دون الإعجاب الكامل. لأن الوقوف عند حد من الحدود المعقولة يفسد الحماسة، وليس إفساد الحماسة مما تطيقه الجماهير.

وهي، أي الجماهير، طبقات من هذه الخليقة: ترتفع أو تهبط، وتعتدل أو تجمح مع الشطط، على حسب موقفها من الخطيب وموضوع الخطابة.

فإذا كان موضوع الخطابة نعرة قومية أو شهوة عدائية يشترك فيها الخطيب والسامعون،

ص: 20

فالجمهور في هذه الحالة على استعداد للحماسة والإطناب بغير مقدرة كبيرة في الخطيب.

وإذا كان السامعون مرؤوسين لذلك الخطيب، أو أتباعاً متشيعين لحزبه، يكرهون الغض منه لأنهم يحسبونه غضاً منهم، ويحبون إكباره لأن كبره منسوب إليهم، فهم إذن أكثر استعداد للحماسة والإطناب.

وإن كانوا فوق هذا صغاراً ناشئين يفورون بحرارة السن الباكرة فأحرى بهم وهم جماعات وجماهير أن يستسلموا لما يسمعون، وألا يجشموا الخطيب معجزة الإبداع، ليستجيش بها قلوباً هي من قبل ذلك لا تهدأ من الجيشان.

فأدنى الجماهير إلى التسليم هو جمهور صبية ناشئين يصغون إلى زعيم يفخرون به فخر العصبية، ويسمعون منه صيحة الكبرياء الوطنية. . . وهذا هو جمهور هتلر في جميع المواقف، إلا القليل الذي لا يذكر.

وقد شهد الناس في مصر مجامع يحتشد لها السامعون زرافات زرافات من جميع الطوائف والأسنان، ليسمعوا كلاماً يعلمونه ويحفظونه، من خطيب لا يعجب السامع بصوته ولا بإيمانه. . . بغية الاجتماع في الواقع لا بغية الاستماع

ثم تتكرر الدعوة ويتكرر الإقبال ويتكرر التصفيق الذي لا باعث إلا الرغبة في شيء يثير الشعور ويدفع السآمة و (يبرر) للجمهور وجوده وسعيه وانتظاره، ويربحه من الحكم على (وجوده) بالفناء. والفناء كربة إلى كل موجود، جمهوراً كان أو غير جمهور!

وفي وسعنا أن نشهد كل يوم حشداً من الناس يبذلون من مالهم ليستمعوا إلى ممثل مضحك مشهور في دور من الأدوار.

فما هو إلا أن يلفظ الكلمة الأولى حتى ينفجر السامعون بالضحك والقهقهة. وربما سأل أحدهم جاره: ماذا قال؟ بعد أن يكون قد ضحك مع الضاحكين!

فالمصدر الأول للمبالغة والإطناب في شهرة الخطباء هو أبرأ المصادر وأخلاها من الغش وفساد الذمة، وهو دفاع الجمهور عن وجوده حيث انتظم له وجود.

والمصدر الثاني وسط بين البراءة والاتهام، وبين الاندفاع والتدبير: وهو مصدر الرواة وكتاب الأخبار

فإن الصحيفة الإخبارية لتتعمد التهويل والإغراق في وصف حادثة لا تستحق الالتفاف

ص: 21

إليها. لأنها تريد من القراء أن يلتفتوا؛ وتعيش من التفاتهم إلى ما تكتب. لا من تعويدهم أن يهملوا الأخبار التي تستحق الإهمال

والكاتب الذي يسافر ألف ميل لينقل خطبة يلقيها أحد الزعماء في يوم مشهود مرتقب المصير من المغرب إلى المشرق قد يفقد وظيفته إذا قنع بما دون السحر والإعجاز في وصف ما سمع وما رأى، وما لبث الناس ينتظرونه ويتكهنون به متشوقين متلهفين!

وقد تتفق الرواية الأمينة في الصحيفة الرصينة فيقرأها العارف المسئول ويعرض عنها طالب المناظر والعناوين، ممن ينظرون إلى مسرح السياسة كما ينظرون إلى مسرح التمثيل، وهم جمهرة القراء والنظارة في كل مكان، فيتواتر النبأ المبالغ فيه، وينقطع النبأ الذي يحرص على الصدق والأناة، وينتهي الأمر برواج الكذب والتلفيق، وبالشك في الصدق والأمانة.

فمبالغة السامعين ومبالغة الرواة ملازمتان لكل شهرة سياسية في كل زمان ولا سيما زماننا الحاضر: زمان النشر والإذاعة، وزمان التشوف إلى الجدة والغرابة ودفع الملل والسآمة.

ويأتي بعد المبالغة السامعين ومبالغة الرواة مصدر آخر من مصادر التهويل في الشهرة الخطابية قائم على النية السيئة والخطة المرسومة، ونعني نه مصدر الدعوة المسخرة والأقوال المأجورة، وهو سلاح يعتمد عليه النازيون خاصة فوق اعتمادهم على سلاح الميدان وجميع هذه المبالغات قد بلغت في تعظيم شهرة الزعيم النازي أقصى ما يتاح لشهرة أن تبلغ على الإطلاق: فاهتمام النازيين بالدعوة المسخرة قد جاوز كل اهتمام وجمهورهم أقرب الجماهير إلى التسليم والاستسلام، وحملة الأقلام ما فتئوا عدة أعوام يتنافسون في إشباع نهمة القراء بين جميع الأقوام.

فمن الطبيعي إذن أن تكون حقيقة هتلر الخطابية أقل كثيراً من شهرته التي أذاعها الدعاة والصحفيون والسامعون من أتباعه ومريديه، وأن يدخل في حساب شهرته كثير من المبالغة والاختراع و (الإخراج).

ونحن في عصر نسمع فيه الخطباء ونراهم على بعد، ونحكم على المتكلم في برلين أو موسكو أو واشنطن حكم راء وسامع، فما على المذياع ولا على الصور المتحركة من بعيد.

وقد رأينا هتلر وسمعناه

ص: 22

فهو ولا شك خطيب مبين، ولكن لا شك كذلك أنه ليس من ملوك الكلام في عصرنا الحاضر؛ وأنه لا يعد من طبقة الخطباء الذين يخاطبون كل جمهور ويتكلمون في كل قضية ويروضون عصى الأسماع، ولا تخاله يحسن القول بضع لحظات في موضوع غير الموضوع الذي يقلبه منذ عشرين سنة، أو بين أناس غير الذين يوافقونه في الجملة، ولا يخالفونه - إن خالفوه - إلا في التفصيل.

فليس هو في إفاضة بريان، ولا في بادرة لويد جورج، ولا في مهابة سعد زغلول.

ولكنه أقرب إلى الممثل الذي كرر دوره حتى حفظه ووعاه ووقع فريسة له فلا يقدر على تبديله

تخيله مثلاً غير غاضب، أو غير متكلم في مظالم ألمانيا المزعومة، أو غير مطمئن إلى آذان سامعيه

وتخيله واقفاً في لندن أو في موسكو أو في القاهرة يفاجئ السامعين على غير معرفة باسمه، ولا عهد بموضوع كلامه

إنه إذن ضائع لا محالة

وعيبه الأكبر أنه لا يقنع ولا يقيم الدليل، وأنه ما خرج قط على عادة واحدة تتردد في جميع مواقفه وموضوعاته، وهي إثارة الحفائظ وإضرام الكراهية ومواجهة السامعين من جانب الشعور المتفق عليه بينه وبينهم. . . وفيم اجتهاده في إقناع من هو قانع؟ وإيمان من هو مؤمن بغير برهان؟

ومرجع هذه العادة عنده إلى علل كثيرة: بعضها أصيل عالق بطبعه؛ وبعضها حديث طارئ عليه من حوادث حياته وعصره فالحديث الطارئ عليه هو هذا الذي ذكرناه؛ وهو أنه تعود في أيامه الأخيرة على الأقل أن يخاطب أناساً لا يحاسبونه ولا يجسرون على حسابه، ولعلهم لا يريدون أن يحاسبوه لاتفاق الشعور بينه وبينهم.

والأصل العالق بطبعه أنه فقير في العاطفة الشخصية، غني في العاطفة الشعبية أي العاطفة التي تربط بين الفرد والجماهير والعاطفة الشخصية هي التي تربي المساجلة والمحادثة، ومواجهة العقل للعقل، والنفس للنفس، والإصغاء في موضع الإصغاء، والإثبات بالحجة في موضع الإثبات.

ص: 23

فالرجل المفطور على عاطفة يساجل بها العواطف، وفكرة يقابل بها الأفكار، يقول ويسمع، ويستميل الفرد بالوسائل التي يستمال بها الأفراد، مرة بالإيحاء، ومرة بالدليل، ومرة بالشرح المفهوم؛ وفي كل مرة بتبادل الثقة والاعتراف بحق المناقشة والاعتراض.

أما الرجل الذي نضبت نفسه من جانب العاطفة الفردية، والذي ليس عنده ما يتبادل به مودة بمودة أو فهماً بفهم أو خاطراً بخاطر، والذي انقطعت جميع الوشائج بينه وبين إخوانه من أبناء آدم إلا الوشيجة التي تكون بين الواحد والألوف أو بين الداعية ولجمهور - فذلك رجل محدود القدرة على التحدث والتفاهم وعلى الإصغاء والإقناع، محتوم عليه أن يجد جمهوراً يستمع له ويكتفي منه بالاستماع، أو أن يتخيل نفسه قائماً بين جمهور وإن كان في مجلسه أفراد قليلون.

لهذا اشتهر هتلر بالتدفق في أحاديث السياسة ساعة بعد ساعة دون أن يقف أو يتمهل أو يسأم التكرار. فأن لم يتدفق في أحاديث السياسة، فهو بين حكاية نادرة أو إعادة ملحة مطروقة أو سرد تاريخ قديم؛ فإن لم يكن هذا ولا ذاك، فليس في مجلسه إلا السكوت والوجوم.

فهتلر الفرد (معدوم)

أما هتلر الموجود، فهو البوق الذي ينفخ في الجماهير أو يردد صدى الجماهير.

وانظر إلى صوره وهو في مواقف التفاهم والتحادث تر أمامك صوراً فاترة باهتة تنطق بالتكلف ونقص الحياة وتبعث في نفس ناظرها الريبة والنفور.

أما الصور التي يحيى فيها وتلبسه الحركة والشدة، فهي الصور التي ينقطع فيها التفاهم ويثور فيها الغضب وتتأجج فيها البغضاء.

وماذا ترى في هذه الصور؟

إن الخطباء الحماسيين جميعاً ليغضبون، وأنهم جميعاً ليحركون الغضب في الجماهير.

إلا أن الفرق بين غضب وغضب لفرق عظيم، وإن الاختلاف بين حماسة وحماسة ليفوق الاختلاف بين القوة والمرض، وبين الجلال والهوان

رأينا سعد زغلول وهو غاضب في خطبه، فرأينا غضباً كأنه السيف يصول به الفارس على قرنه، ويعرف كيف يصول

ص: 24

ورأينا هتلر وهو غاضب في خطبه، فماذا رأينا؟ رأينا غضباً كأنه الدمل المفتوح بنفس عن ضغينة كامنة كأنها القيح المحبوس، فهو فرصة للألم والتذاذ الألم في وقت واحد، وهو علاج للتنفيس عن داء، وليس بالسيف في أيدي الأقوياء

هو نوبة مصروع وليس بوثبة صارع.

وهو منظر تزور منه العيون، وليس بمنظر تود العيون أن تمتلئ منه

وهو رقصة الهمجي في حومة الدم أمام أوثان النقمة والتشفي، وليس برقصة الفارس في حومة البرجاس

وقد جمعنا في هذه الصفحات صوراً عدة لهتلر وهو يخطب، أو وهو يغضب، لأنه في الحقيقة قلما يخطب إلا ليغضب. فأية صورة من تلك الصور يا ترى يستطيع القارئ أن يكتب تحتها مثلاً:(هذه صورة هتلر يزأر أو يزمجر؟)

إن هذا الكلام ليكتتب تحت صور كثيرة لمصطفى كمال أو لسعد زغلول، ولكن هتلر - على عنايته بصوره واتخاذه رساماً خاصاً يتبعه في جميع المحافل ويوزع في أقطار العالم ألوف الصور بل عشرات الألوف منها - لا توجد له صورة واحدة تخيل إلى الناظر هيئة الأسد المزمجر أو الأسد الغاضب، وكلها بلا استثناء مما يصح أن يكتب القارئ تحته:(هتلر يعوي) أو هتلر (يلطم). . . ولا جناح عليه

ومن المعقول أن رجلاً كهذا يحب حلقات الخطابة التي يتزين فيها لشياطين غروره وحقده كما تتزين المرأة المجنونة لشياطين الزار، ويستريح فيها الهياج والتهييج كما تستريح تلك المرأة لصرعة الرقص وجلبة الطبل ورؤية الذبائح وهي تتخبط في الدماء.

ومن المعقول جداً أن يكره مواقف المفاوضة والتفاهم لأنها تلطمه على عجزه وتكشف له عن خواء طبعه، وتخرجه منها وهو في رأي نفسه أقل من حوله. . . إلا أن يلجأ إلى التهديد بالحرب كما يفعل في معظم أحاديثه، فهو إذن في موقف الإملاء وليس في موقف المفاوضة والإقناع.

وقد سجلت كلماته في المفاوضات التي دارت بينه وبين سفراء الدول ورؤساء الحكومات، فإذا هي عبرة العبر وأضحوكة الأضاحيك لا يكون فيها إلا ممثلاً يراوغ، أو مهدداً يتوعد، أو منكراً لما يقال على طريقة الأطفال والنساء الجاهلات: إني أنكر هذا لأني أنكر هذا،

ص: 25

ولا مزيد. . .

ناقشه مستر شامبرلن رئيس الوزارة الإنجليزية في الشروط التي فرضها على حكومة براغ، وأوجب عليها فيها أن تخلي الأرض المطلوبة وأن تبدأ الإخلاء في الساعة الثامنة من صباح السادس والعشرين من شهر سبتمبر (1938) وأن تتمه عند انتهاء اليوم الثامن والعشرين

فقال له مستر شامبرلن إن هذا إملاء (إنذار نهائي) بغير حرب، وبغير هزيمة على أمة قبلت المطالب وقبلت الاحتلال

واختار شامبرلن كلمة (إملاء) عمداً لأن هتلر يذكرها كلما ذكر معاهدات الصلح ومعاهدة فرساي على الخصوص، ويعتبرها موجباً لفسخ تلك المعاهدات

فما زاد هتلر على أن قال: (كلا. ليس هو إملاء). وأشار إلى رأس الورقة قائلاً: (أنظر. . . إن الورقة مكتوب عليها كلمة مذكورة. .)

وهو كلام يقال للابسي القمصان في ساحة الخطابة فيقبلونه ويسيغونه، ولكنه لا يقال في مفاوضات وزراء وسفراء

فالخطابة هي الميدان التي يغلب فيه هتلر بهذا الأسلوب، ولن يغلب به في ميدان آخر

وقد حذق من الخطابة ما يحدق بالمرانة ومساعدة السامعين المستعدين للإصغاء والتصديق وأهمه تدفق الكلام وسهولة التعبير.

ولم تزوده الطبيعة من أدوات الخطابة الفطرية إلا بزاد واحد وهو انقطاع الصلة النفسية بينه وبين الأفراد واضطراره من أجل ذلك إلى مواجهة الجماهير للشعور بالحياة ونشاط الإحساس.

ومتى نشطت نفسه ودبت الحركة إلى ذهنه فلا يندر أن يلهمه الموقف بعض الخواطر البارعة التي يمثل بها أعداءه في صورة مزرية، أو صورة تستفز السخط والامتعاض، وكلها من ولائد الكراهية وليس فيها صورة واحدة وليدة عطف أو عناية بالآخرين.

ويختلف الناقدون في صوته اختلافاً لا يتبين الحقيقة فيه من يسمع الصوت منقولاً بالمذياع، وهو ينقل بعض الأصوات على أصلها ويعرض بعضها للتحريف وبعضها للتحسين.

فمن الناقدين من يعيبون على صوته خشونة تصك الآذان، ويقولون إنه أجرى العملية

ص: 26

الجراحية في حنجرته لإصلاح هذا العيب ومنهم من يعجب بما في صوته من العمق ورنة التجويف، ويعده من أصلح الأصوات الخطابية لنقل الشعور الجارف والتهويل على السامعين.

وسواء كان العيب الذي يعيبه أولئك الناقدون صحيحاً أو غير صحيح فالمهم في صفات الأصوات التي تؤلف بالتكرار، وأن يكون لها طابع ولون معروف، وعندئذ قد يصبح العيب حلية مرغوباً فيها مع النجاح والتوفيق.

عباس محمود العقاد

ص: 27

‌من أدب الحرب

جبان يصف معركة

للأستاذ محمود الدسوقي

(هذه القصة تصوير صادق لما يعتلج في نفس الجندي في

غمرة الحرب، وما يقع في سمعه وتحت بصره من هول

وكرب، يفقدانه شجاعته أحياناً، ويشحذان عزيمته أحياناً

أخرى؛ فأما أن يهرب كما يفعل راوي هذه القصة، وأما أن

يؤدي واجب الوطن على الوجه الأكمل كما فعل رفاق له.

وهذه الصورة بعض ما وقع في أوائل حرب السنوات السبع

التي شن غاراتها فردريك الأكبر ملك بروسيا على ماريا

تيريزا إمبراطورة النمسا وحليفاتها فرنسا وروسيا والسويد

وأسبانيا والريخ الألماني في سنة 1756، وكانت سجالاً في

الغالب بينه وبين أعداؤه)

قال البروسي الفار:

وأخيراً في الثاني والعشرين من سبتمبر (1756) أعلن النفير وتلقينا الأمر المسير، فسرت الحركة في كل شيء، ونقض في بضع دقائق معسكر واسع مترامي الأطراف كالمدينة العظيمة تجوبه في ساعات. وشددنا الرحال وتأهبنا للمسير، وصدر الأمر بالتقدم وانحدرنا إلى الوادي، وأقمنا عند برنا جسراً وشققنا فوق المدينة قبالة معسكر السكسونيين طريقاً ينتهي أحد طرفيه بباب برنا. وكان الكثيرون من أسرى السكسونيين يصعدون منه إلى الجبل متنزهين أربعة أربعة، ويلقون على امتداد الطريق الطويل شتماً وتعريضاً لاذعاً لا

ص: 28

مفر لهم من سماعه. وكان بعضهم يقبل من تلك الناحية حزيناً مطرق الرأس، وآخرون يقبلون عليهم سيماء التحدي والقسوة، وفرق غير هؤلاء وأولئك تعلو وجوههم ابتسامة تأبى أن تترك للبروسيين الساخرين ديناً بلا سداد. في ذلك اليوم قطعنا قطعة أخرى من الطريق وعسكرنا في ليلينشتاين

وفي الثالث والعشرين كلف آلاينا بحماية عربات المؤن. وفي الرابع والعشرين قمنا بزحف مضاد، وبلغنا ليلاً وفي الضباب مكاناً لا يعلمه إلا الله. وفي الخامس والعشرين استأنفنا المسير مبكرين وقطعنا إلى أوسيج أربعة أميال، وهنا أقمنا إلى التاسع والعشرين نخرج كل يوم للاستطلاع، وتهاجمنا غالباً في أثناء القيام بهذه المهام جنود الإمبراطورة، أو يدهمنا من كمين وابل من الرصاص فيسقط غير واحد قتيلاً، ويتخلف جرحى كثيرون. فإذا ما صوبت مدفعيتنا بضعة مدافع نحو الكامنين ولى العدو الأدبار. ولم تكن هذه المصادفات تخيفني فسرعان ما ألفتها، فكنت أقول لنفسي: إذا ما دام الأمر على هذا المنوال لا يكون علينا منه ضير يذكر. وفي الثلاثين عاودنا الزحف طيلة النهار فلم نصل إلا ليلاً إلى جبل لا يعرفه منا أحد، ولا يدري من أمره من هم على شاكلتي إلا ما يدري الضرير. وتلقينا في تلك الأثناء أمراً بألا نقيم هنا خياماً وألا نلقي بنادقنا، بل نظل متأهبين على قدم وساق، إذ كان العدو على مقربة منا. فلما أصبح الصباح رأينا وسمعنا أخيراً ما كان يجري تحتنا في الوادي من ومض وقصف شديدين. وفي تلك الليلة المزعجة فر كثيرون من الصفوف وفي جملة من فروا الأخ باخمان. ولم تكن الفرصة قد سنحت لي بعد، وإن كنت إلى ذلك الحين لم يزايلني الاطمئنان.

واصطففنا في الصباح الباكر لننحدر من واد صغير ضيق إلى الوادي الكبير؛ ولم نكن نستطيع تمييز الأشياء من كثافة الضباب. فلما بلغنا السهل أخيراً وتقدمنا إلى الجيش الكبير كنا نزحف في ثلاث كتائب. واستبنا من خلال الضباب المنتشر كالسحاب جنود العدو في هضبة فوق مدينة لوبوستس في بوهيميا وكانوا من فرسان الإمبراطورة. أما مشاتها فلم تقع أعيننا عليهم إذ كانوا يرابطون في المدينة. وفي الساعة السادسة قصفت المدافع من كتيبتنا الأمامية كما قصفت بطاريات الإمبراطورة قصفاً من شدته أن كانت قنابلها تصل إلى آلاينا، وكان في الكتيبة الوسطى. وكنت إلى ذلك الحين أمني النفس بالهرب، فلما وقعت

ص: 29

الواقعة عز علي الهرب وانسدت في وجهي المسالك جميعاً. وكنا نزحف في تلك الأثناء بلا انقطاع، فلم تلبث شجاعتي أن زايلتني، وكنت خليقاً أن أتسلل إلى بطن الأرض. ذلك أن خوفاً كالذي كان يتملكني كان يخلع على وجهي شحوب الموت، وكان يقرأ على سائر الوجوه حتى وجوه أولئك الذين عهدتهم مرحين لا يبالون. وكانت قناني الشراب الفارغة - ولكل جندي منها واحدة - تتطاير تحت وقع القنابل، فإن أغلبنا كان قد أتى

على آخر جرعة في قنينته واستمد منها شجاعته في ذلك اليوم؛ أما الغد فقد لا تكون به حاجة إليها. وتقدمنا الآن إلى مرمى المدافع إذ كان علينا أن نتبادل الموقف وكتيبتنا الأمامية. فيا هول ما شهدت! كانت كتل الحديد تئز فوق رؤوسنا، وتقع تارة أمامنا وتارة تنفذ إلى الأرض خلفنا، فيتطاير اليابس والأخضر والكلأ والحجر؟ وتدهمنا أحياناً فتمزق أجسامنا وتذرو أعضاءنا كما تذرو الهشيم الرياح. ولم نكن نبصر قدامنا إلا فرسان العدو تأتي بمختلف الحركات، فتارة تستعرض وتارة تستدير، وآناً تؤلف مثلثاً وآونة مربعاً تنتظم فيه. وتقدمت فرساننا أيضاً وكرت على العدو. فياله من وابل من الضربات يسقط مقعقعاً، ويمض خاطفاً! ولم تمض ربع ساعة حتى ارتدت فرساننا مدحورة وقد هزمها النمسويون وتعقبوها حتى مرمى مدافعنا. وهذا مشهد ما أجدر المرء بأن يشهده! خيول يعلق فرسانها في الركاب، وأخرى تجر أحشاءها على الأرض. وكنا ي تلك الأثناء ما نزال تحت نيران العدو حتى بلغت الساعة الحادية عشرة وجناحنا الأيسر لم يطلق رصاصة، على حين كان الأيمن يخوض المعركة ويصلاها.

وظن الكثيرون أنه لا بد من الهجوم حيث يرابط جند الإمبراطورة. ولم أكن إذ ذاك جزوعاً كما كنت من قبل، وإن كانت عفاريت الجيشين لم تفتأ تقتل عن كثب والميدان مغطى بالقتلى والجرحى. وإذ ينتصف النهار أو يكاد صدر الأمر إلى آلاينا واثنين معه بالارتداد، فقلنا لعله إلى المعسكر فنكفي القتال!

وصعدنا مرتفعات الكروم بخطى حثيثة ونفوس مستبشرة، وملأنا قلانسنا من دوالي الكرم وأكلنا من أعنابها هنيئاً، ولم يخطر لي ولمن هم إلى جانبي سوء على بال، وإن كنا ما زلنا نرى من القمة إخواننا في المعمة تحت النار والدخان، ونسمع قصفاً مرعباً فلا ندري على التحقيق لمن كتب النصر. وكان قوادنا يقودوننا في تلك الأثناء مصعدين في الجبل، ممعنين

ص: 30

في التصعيد إلى قمة شق في صخرها ممر ضيق. فلما بلغت طليعتنا القمة سمعنا الرصاص يطلق إطلاقاً مرعباً. فحزرنا آنئذ جلية الخبر، فإن بضعة آلاف من جنود الإمبراطورة قد كانوا تلقوا الأمر بالصعود إلى الجبل في الجانب الآخر لينقضوا على جيشنا من خلف، فاتصل الخبر بقوادنا فكان أن ارتددنا نحن لنسبقهم ونفسد تدبيرهم، ولو قد تأخرنا بضع دقائق لبلغوا القمة قبلنا ولكنا من الخاسرين. ونشبت مجزرة لا توصف قبل أن نتمكن من إقصاء البندوريين عن الغابة. وتكبدت مقدمتنا خسائر فادحة وانقضت مؤخرتنا لنجدتها حتى تم لنا احتلال القمة. وكانت جثث القتلى وأجسام الجرحى تؤلف تلاً تحت أقدامنا تتعثر فيه. وسرنا في أعقاب البندوريين نجليهم عن مرتفعات الكروم درجة درجة ونقفز خلفهم من صخرة إلى صخرة حتى بلغنا السهل. وأطبق البروسيون الأصليون والبراندنبرجيون على البندوريين كالجن، وكنت أنا حين حمى الوطيس كمن به مس لا يجد الخوف أو الذعر إلى قلبي سبيلاً، فأطلقت طلقاتي في الستين في شوط واحد، حتى إذا أتيت عليها سخنت بندقيتي وباتت في يدي كالجمر؛ فذهبت أجرها من نطاقها، واحسبني في تلك الأثناء لم ألق إلى جانبي نفساً حية إذ كان الكل قد هرعوا إلى الهواء الطلق. واتخذ البندوريون مراكزهم ثانية فوق السهل قبالة لوبوستس على مقربة من الماء، وجعلوا يطلقون بنادقهم مستبسلين على مرتفعات الكروم حتى عض غير واحد قدامي وإلى جانبي في الكلأ. وكان البروسيون والبندوريون يختلط بعضهم ببعض في كل مكان، فمن وجد من الآخرين لا يزال يتحرك ضرب بالكرنافة على أم ناصيته أو طعن بالسنان. واستؤنف القتال بالسهل. ولكن أني لامرئ أن يصف ما حدث والدخان والبخار يتصاعدان من لوبوستيس، والهد والرعد يصمان الآذان، والسماء والأرض تكادان تنطبقان!

أنى لامرئ أن يصف ذلك الفزع المتواصل لمئات الطبول وذلك العزف الذي يمزق القلوب أو يشدد العزائم من موسيقى الميدان المختلفة الألوان، وتلك الصيحات المنبعثة من كثير من القواد، والزمجرة المرعدة من مساعديهم، وتلك الاستغاثة وذلك الاستصراخ المتصاعدين من آلاف مؤلفة من ضحايا اليوم الأشقياء المدوسين بالأقدام أنصاف الموتى! لقد كان هذا كله يذهل الحواس وكانت الساعة الثالثة ولوبوستيس تحت النيران وجنود مقدمتنا يطبقون على البندوريين كالأسود الكاسرة، فيقفز مئات كثيرة منهم إلى الماء والمدينة نفسها مسرح

ص: 31

للفتك والطعان. في هذه اللحظة لم أكن في الطليعة، بل كنت في المؤخرة لا أزال على جبل الكروم، بينا الكثيرون غيري كما أسلفت القول يقفزون في حمية من درجة في الجبل إلى درجة يبادرون إلى نجدة الإخوان. وإذ كنت لا أزال فوق المرتفع أطل على السهل، كما لو منت أطلع في جو حالك مرعد يتساقط فيه البرد، قلت لنفسي: هذا أوانك قد آن؛ أو قال لي على الأصح الملك الذي كان يحرضني: أركن إلى الفرار!

فتلفت من حولي فإذا كل شيء أمامي نار ودخان وبخار، ومن خلفي جنود كثيرون ما يزالون يهرعون للانقضاض على العدو، وعن يميني جيشان كبيران على أتم الأهبة للقتال، وعن شمالي مرتفعات الكروم وأدغال وغابات، وهنا وههنا بضعة من البروسيين والبندوريين والهوسار قد أربى قتلاهم على جرحاهم، فقلت: هنا! هنا! في هذا الجانب وإلا استحال الأمر علي فتسللت يسرة أخافت أول الأمر في مشيتي أخترق الدوالي. وكان بعض البروسيين لا يزالون يمرون بي مسرعين، فكانوا يقولون لي: عجل! عجل! أيها الأخ فالفوز لنا! أما أنا فلم أحر جواباً بل تصنعت قليلاً أني جريح، وواصلت السير أرتعش من الخوف ما في ذلك شك. وإذ أبتعد في تلك الأثناء حتى لا قبل لأحد برؤيتي ضاعفت من خطوي وأمعنت في سيري وغزرت فيه، وأنا أتلفت يمنة ويسرة كالصياد. وتطلعت من بعيد لآخر مرة في حياتي إلى حصاد الموت وحومة الفناء؛ ثم أطلقت ساقي للريح بجانب الغابة، وكانت ملأى بقتلى الهوسار والبندوريين وجثث الخيل، وعدوت عدواً سريعاً إلى النهر، ووقفت عنده. فإذا بضعة من جند الإمبراطورة المصابين الذين تسللوا مثلي من المعركة يصوبون ألي بنادقهم عندما أبصروني ويعاودون إلى التسديد مرتين أخريين غير عابئين ببندقيتي التي طرحتها، وبقلنسوتي التي كنت ألوح بها وأشير الإشارة المألوفة. على أنهم لم يطلقوا النار، فاعتزمت أن أعدوا إليهم ولو لم أفعل لكانوا أحرياء بأن يطلقوا علي النار كما علمت بعد ذاك. ولما جئتهم وقلت لهم إني فار من الجيش، أخذوا مني بندقيتي، ووعدوني بأن يردوها لي فيما بعد. . . لكن الذي استحوذ عليها لم يلبث أن اختفى بها على الأثر؛ واقتادوني إلى القرية التالية وكانت تبعد ساعة كاملة من لوبوستيس؛ وكانت لنا من خلال ذلك جولة في الماء وليس من نقالة سوى زورق واحد، وصراخ الرجال وعويل النساء والأطفال يرتفع كلاهما إلى أجواز الفضاء، فكل يريد أن يعبر أولاً خوفاً من

ص: 32

البروسين، وكلهم يتصورونهم جد قريبين، أو لعلهم بثيابهم عالقون، ولم أكن في جملة المتأخرين بل قفزت إلى وسط زمرة من النساء، ولولا أن الملاح قذف بالبعض إلى خارج الزورق لبتنا من المغرقين، وكان في الضفة الأخرى مخفر بندوري رئيسي قادني إليه من رافقوني فتلقاني ذوو الشوارب الشقراء تلقياً حسناً، وقدموا إلي التبغ والشراب على الرغم من عجزنا البادي عن التفاهم، وأنفذوا معي صحبه إلى ليتميرتز فيما أظن، حيث قضيت ليلى بين بضعة من أبناء بوهيميا، وأنا غير آمن بينهم على رأسي. لكنه قد كان بلغ معي جهد النهار ومحنته مبلغاً دار منه رأسي فكانت هذه هي النقطة الهامة آخر ما فكرت فيه.

وفي الصباح وكان الثاني من أكتوبر نقلت إلى بودين حيث مركز القيادة الإمبراطورية العامة. وهناك التقيت بمائتي بروسي كلهم هارب على طريقته، وفي جملتهم صاحبي باخمان. ولشد ما ابتهجنا باللقاء على حين غفلة وفرحنا بالنجاة والحرية. وطفقنا نتحدث ونهلل كأننا بالبيت نصطلي، ونذكر زبداً من الإخوان وعبيداً، ونتساءل أين هما يا ترى؟

وسمح لنا بالتجوال في المعسكر، ووقف الضباط والجنود حولنا زمراً يستزيدوننا من الحديث عن أشياء لا ندريها. وعرف بعضنا كيف يستميل مضيفه بالمداهنة واختراع مئات الأكاذيب عن البروسيين حطاً من قدرهم وتقليلاً من شأنهم

وكان بين جنود الإمبراطورة من هم على هذه الشاكلة فيشاً وغلواً، فزعم أقصر قزم فيهم أنه حمل أطول براندنبرجي على الفرار، واقتادوني بعد ذلك إلى قرابة خمسين أسيراً من فرسان بروسيا فكان منظراً أليماً! فإن أحداً منهم لم يسلم من جرح أو مجل. وقد تهشم وجهه كله، وبعضهم قد أصيب في رقبته أو أذنه أو كتفه أو فخذه. وقد كانوا جميعاً يتأوهون ويئنون. وكم حمد الله أولئك البائسون أن جنبنا هذا المصير مصيرهم! وكم حمدنا نحن الله على ذلك وأثنينا عيه! وقضينا الليل في المعسكر ثم نقد كل منا (دوكات) لسفره، ثم بعثوا بنا إلى قرية بوهيمية حيث غفونا قليلاً؛ ثم رحلنا إلى (براغ) في اليوم التالي.

وهنا توزعنا وتزودنا بالجوازات كل ستة أو عشرة أو أثنى عشر معاً ما داموا يتبعون طريقاً واحداً. وكنا خليطاً عجيباً من السويسريين والشوابيين والسكسونيين والبفاريين وأبناء التيرول والوبلش والفرنسيين والبولاكيين والأتراك. وكانت براغ ترتعد خوفاً من البروسيين ويستولي عليهم رعب لا مثيل له. وكان أهلها قد علموا بنتيجة معركة

ص: 33

لوبوسيتس وأيقنوا أن الظافر لا بد أن يكون على الأبواب. وهناك أيضاً أحاطت بنا زمر الجنود والأهالي لنقص عليهم ما ينتويه البروسون؛ فكان بعضنا يطمئن تلك الأرانب الجازعة، وبعضنا يجد مسرته في إرعابهم وفي القول بأن العدو قريب المزار وإنه محنق كالشيطان.

محمود الدسوقي

ص: 34

‌في سبيل إصلاح الأزهر

للأستاذ محمد يوسف موسى

حمد الأزهريون، ومن يعنيهم أن يسير هذا المعهد الجليل في الجادة المستقيمة، للأستاذ الكريم الزيات أن يخصص لمسألة إصلاحه شيئاً غير قليل من عنايته، وأن يوسع للكاتبين فيها جانباً من رسالته، رجاء أن نصل آخر الشوط إلى تحديد الغاية وتمهيد الطريق وتعيين الوسيلة. ولكني - ويشاركني فيما أخافه كثيرون - أخشى أن يلتوي علينا الأمر، وأن ننحرف عن الطريق، فيختلط علينا الرأي، ويفوت الغرض، وننتهي وقد صرنا أكثر مما نحن شيعاً وأحزاباً.

لهذا رأيت أن أكتب هذه الكلمة الأخيرة وأنصرف بعدها إلى غير ذلك من شئون

إنما ينجح الطبيب إذا صدق مريضه القول ومحض له الرأي وصارحه بدائه على جليته. وإنما ينتفع المريض متى وثق بطبيبه، وأيقن بمرضه، ووقف على خطورته، وأحسن بحاجته للعلاج. لهذا كان واجب الطبيب أن يعالن المريض بالداء وأن يباديه به؛ لكن في لغة لا تدعو لليأس، ولهجة لا تميت الأمل، حتى لا يكون كمن ينفض يديه صار في الاحتضار

من أجل ذلك كان لا بد من في رأيي لمن يدعو للإصلاح من أن يتأنى له ويلتمس له الوسائل ويستكثر له الأعوان، وألا ينفر أحداً ممن إليهم يساق الحديث ويطلب الخير. ذلك أقرب أن تصادف الدعوة قبولاً، والكلام سميعاً، وأعون على بلوغ الأرب وأهدى لنيل الوطر. على أن الألم للمرض قد يكون بالغاً، وفورة النفس قد تكون قوية، فيند القلم أحياناً، ويشتط أحياناً، وهنا نلتمس للداعي سبيل العذر من خلوص النية ونبل القصد، ما دام لا يجعل دعوته ذريعة إلى حاجة وسبيلاً إلى مراد.

ومهما يكن فلست ممن يرضون أن تتكشف المعركة القائمة الآن عن بضع مقالات لا تعدو أن تكون كصرخة اللهفان وركضة الفرس، أو مهلة النفس وحسو الطائر. أرجو أن ننتهي منها وقد وضحت الغاية، وارتسمت الخطة، واتحدت القلوب والعزائم، وتواصى الجميع على ما فيه الخير للمعهد الذي نشرف بالانتساب له، وتوحدت الجهود للسير للأمام عملياً. ولعل من أجدى أسباب الإصلاح التي يجب أن نبدأ بها فيما أرى أن يكون - كما قلت من

ص: 35

في كلمة سابقة - وكذا الواحد منا قبل كل شيء تكميل نفسه في خلقه وعمله حتى يصير مثالاً عالياً لطلابه؛ يلهب عواطفهم ويسدد خطاهم، ويشركهم في خير ما يقرأ ويدفعهم للمطالعة والبحث والاتصال بالحياة العلمية الجادة التي لا تحد بالكتاب المقرر والمنهاج المرسوم! بذلك يوجههم وجهة الخير في غير عناء ويحتذونه في غير تعمل. ثم يضيف لهذا أن يتآزر مع نفر ممن يقاسمونه الآلام والآمال فيكونوا جبهة تعمل في غير ملل أو إعلان لبعث مجد الإسلام العلمي وما طواه الزمن من مؤلفات العلماء الأعلام في القرون قبل تغلب العجمة وانغلاق التعابير

وقبل هذا وذاك يكون رجلاً لا سلطان عليه لغير ضميره، ولا سبيل للحزبية والهوى فيما يأخذ ويدع، ولا يجامل على حساب المصلحة العامة، ولا يتحزب مع وضوح الحق. بذلك نجد الإصلاح المرجو يسير الملتمس داني التناول.

وقديماً قالوا: من برى القوس رمى، ومن قدح النار اصطلى. وإلا إن كان قصارانا ثورة صحفية من فترة لأخرى دون أخذ بالعمل المنتج تعذر علينا الإصلاح وتأتي مقتربه واعتاص ذلوله

بقيت كلمة ويتم الحديث؛ هي ملاحظة صغيرة على الإشارة التي جاءت في (رسالة كلية الشريعة للأستاذ الأكبر) إلى معهد الدراسات الإسلامية. إن هذه الإشارة تفهم أن هذا المعهد يزاحم الأزهر في بعض ما نصب له نفسه من مهام، وأظن أن هذا ليس من الحق في شيء؛ فهو على ما عرفت - من طول ترددي عليه وانتفاعي به انتفاعاً كبير الأثر - قسم من مكتبة الجامعة العامة، جمعت فيه المؤلفات الخاصة بالعلوم والدراسات الإسلامية بوجه عام، سواء أكان باللغة العربية أو بغيرها.

يرى الزائر له إذا أراد أن يبحث فيلسوفاً، كالفارابي مثلاً، مؤلفاته المطبوعة بمصر وغير مصر، وقدراً كبيراً صالحاً مما كتب عنه بالعربية أو غيرها من اللغات. ذلك ما يزيد على أربعين مجلداً لجماعة من المستشرقين الفرنسيين، فيها تعريف واسع بالمخطوطات الإسلامية الموجودة بمكتبة باريس العامة، وعرض لبعض نصوصها، وإلى فهارس المطبوعات والمخطوطات الإسلامية الموجودة بالمكتبات العامة بمصر وأوربا، إلى كل هذا وما إليه منظم موضوع على حبل الذراع لمن يريد؛ حتى إن الباحث وهو جالس إلى إحدى

ص: 36

المناضد في بهوه الرحب، بين تلك الذخائر العلمية الإسلامية يشعر أنه لا يكاد ينقصه شيء في سبيل الوصول لما يريد من بحث وتحقيق.

أين هذا من مكتبة الأزهر التي لم أستطيع ولا يستطيع غيري أن ينتفع بشيء منها ما دامت على ما هي عليه من ضيق مكان، ونقص موظفين، وإهمال وعدم رعاية!

وكيف يعاب ذلك العمل الجليل، وينظر إليه النظر الشزر، على غير معرفة به، بدل أن نشكر من كان له الفضل في إنشائه! أقول هذا عن علم؛ لأني لا أعلم أن أحداً من الأزهريين - حتى شباب المدرسين - تردد على هذا المعهد للانتفاع به، رغم دعوتي له وبعثي عليه، إجابة لرغبة حضرات الموظفين الثقات القائمين بشئونه.

لو أن إخواننا الذين اشتركوا في صياغة (رسالة كلية الشريعة للأستاذ الأكبر) عنوا بالتعرف إلى ذلك المعهد الذي يؤدي الآن خدمة لا يؤديها غيره، لما أشاروا إليه إشارة من يجب ويكره عن غير علم. ولعل منهم من كان ولا يزال في أشد الحاجة له لتحضير ما يطلب من بحوث ومحاضرات علمية في الامتحانات!

وبعد فلعّلى وفقت بعض الشيء فيما نحن بسبيله، والله المستعان.

محمد يوسف موسى

مدرس بكلية أصول الدين

ص: 37

‌الحرب في أسبوع

للأستاذ فوزي الشتوي

مفاجأة. . . ولكن

كانت أبرز حوادث الأسبوع الماضي حادثة تسليم الجيش البلجيكي بأمر ملكه. وكانت الحادثة مفاجأة لم يتوقعها العالم، بل لم تدر قيادة جيوش فرنسا وإنجلترا من أمرها شيئاً. فهي مفاجأة لم يقل وقعها على نفوس القراء من المفاجآت الهتلرية. واختلفت الناس في تقديرها، فمن قائل إنها نوبة يأس استولت على الملك ليوبولد في ساعة فزع واضطراب أعصاب، ولا سيما بعد ما والى الجيش الألماني هجومه في الليل، فلم يخلد إلى الراحة كالمعتاد. ومن قائل إنها خيانة صريحة ارتكبها الملك بالاتفاق مع الألمان.

ومن فريق ثالث يقول: كانت خطوة متوقعه سار فيها الملك ليوبولد الثالث على مثال قرار قيادة الجيش الهولندي عندما أمرت جيوشها بوضع السلاح

وليس لنا أن تقرر الدوافع لهذه الخطوة، فعلمها كما قال المستر تشرشل رئيس الوزراء البريطانية عند الملك وحده، ولا يجدر بنا الحكم على فعلته الآن، ولكن هذه الخطوة ترينا ظاهرتين مختلفتين في أخلاق شعبين عظيمين. فبينما الشعب الفرنسي يقابلها بمرارة وغضب ظهرا في حديث المسيو رينو، قابلها الشعب البريطاني ببرود وثبات ظهر في حديث رئيس الوزارة البريطانية

والبرود والثبات في قيادة الجيوش من أكبر وسائل تحقيق النصر، فهما خلتان كبيرتان للاحتفاظ بالعقل والمنطق. وأذكر أن الجنرال فرانش قائد الجيوش البريطانية في فرنسا سنة 1914 لم يجد كلمة يمدح بها أحد قواده في أحد المعارك ابغ من أنه كان مثال البرود والسكينة في تلقي الأنباء وإصدار الأوامر

بين تسليمين

ويختلف موقف تسليم الجيوش البلجيكية الآن عن تسليم الجيوش الهولندية اختلافاً بيناً. فقد كان الجيش الهولندي يقاتل وحده ولا تحتل معه قوات الحلفاء مواقع تشد أزره أو يشد أزرها. ولم تكن المعركة حامية لم يقرر مصيرها بعد هي الحال مع جيوش الحلفاء في

ص: 38

الشمال. ولم يكن قرار هولندا لا يؤثر إلا على موقف جيوشها وحدها، وهذا أمر لهم وحدهم حق تقريره. بينما انسحاب القوات البلجيكية من مواقعها قد أخلى ثغرات واسعة في صفوف القوات المتحالفة.

فإذا عرفنا أن من تقاليد الجيوش البريطانية والفرنسية ألا تلقي السلاح تبين لنا مقدار الخطأ الفادح الذي جره إلقاء الجيش البلجيكي لسلاحه. وإذا كان ثمة خطأ يسند إلى الملك ليوبولد، فلأنه لم ينذر قيادة الحلفاء بالخطوة التي اعتزمها لتتخذ من التدابير ما يربأ الصدع الذي يحدثه انسحاب قواته.

بين المساء والصباح

أضعف إلى ذلك ما وافتنا به تلغرافات صباح يوم الثلاثاء من أنباء تهلل لها وجه الناس بالبشر والأمل، فقد وصلت جيوش الحلفاء إلى بابوم، وهي تقع في منتصف النتوء الألماني بين حوض نهر السوم ومدينة أراس. ومعنى هذا أن جيوش الحلفاء تمكنت من الضغط على رقبة النتوء الألماني الممتد من هذا المكان إلى سواحل البحر. ولو تيسر لها أن تصل خطوطها بين جيشي الشمال والجنوب من هذه الناحية لسهل عليها أن تحصر هذه القوات وتعزلها عن قواعد تموينها، وبالتالي تقض عليها قضاء مبرماً.

وذهب بعض الناس إلى أن هذه الخطوة معناها انتصار الحلفاء وبدء الخاتمة. فقد سحبت ألمانيا كثيراً من قواتها من خط سيجفويد ومن على الحدود السويسرية لتعزيز أماكنها كما أيدت مواقعها بقوات ميكانيكية هائلة هي في الواقع صفوة القوات الألمانية التي أعدت الخطيرة الحاسمة. ويدلنا هذا على أن احتياطي القوات الهتلرية قد نفذ فاعتمدت على قوات رئيسية

وقد رأيت كثيراً من الناس يضعون دبابيس كبيرة في هذا الموضع ويضغطونها بشدة على خرطهم كأنها مسامير توضع في نعش الجيش الألماني، ثم يوصلونها بمواقع الحلفاء بخيوط خضراء رمزاً للسلام يسود العالم. ولكن ما كادت تلغرافات الصباح تصل بنبأ تسليم الجيش البلجيكي حتى وجم محررو الجرائد، ووقفوا أمام خرطهم مترددين أين يضعون دبابيسهم، وكيف يفهمون الموقف على ضوء الحوادث الأخيرة

وأنعش خطاب المستر تشرشل وتصريحات وزراء بلجيكا كثيراً من الأفئدة فعادت لها ثقتها

ص: 39

بالنصر. وإن كان كثيرون قد قدروا أن يطول أمد الحرب. بل قال عضهم إنه خير يأتي من الشر، فتتركز قوات الحلفاء في فرنسا ويستقر القتال في ميدان واحد بدل تشعبه في عدة ميادين، وتقل خطوط مواصلات الحلفاء، وتعود الحرب إلى جبهة واحدة بدل جبهتين فقد كانت بلجيكا عبثاً على الحلفاء.

سياستان

وإذا قارنا بين الحرب الحالية والحرب الماضية وجدنا وجوه الشبه في أسسها واحدة. فألمانيا تبدأ الحرب بقوة هائلة تضعف على مر الأيام تبعاً لقلة مواردها واستعداها، بينما يبدأ الحلفاء حربهم بقوات قليلة تكبر كلما طال بها الأمد. فخلف إنجلترا وفرنسا إمبراطوريتان واسعتان تقدمان لهما الإمداد الذي تصقله الأيام وتزيد إنتاجه

فقد بدأت ألمانيا استعدادها لهذه الحرب منذ تولي هتلر الحكم سنة 1933. فأخضع جميع موارد ألمانيا لهذه اللحظة. بينما بدأ الحلفاء استعدادهم من سنة 1938. واتخذت الخطوات الحاسمة لهذا الاستعداد في الأسبوع الماضي عند ما وضعت الأفراد والمصالح رهن الاستعداد العسكري. ولعل البعض يرى في هذه الحركة تمهلاً من الخلفاء. إلا أن من يدرس مشروعاتهم واستعدادهم وسياستهم لرفاهية شعوبهم يقدر خطورة هذه الخطوة الأخيرة ومدى ما تدره على الأداة الحربية من تحسين

فالحلفاء يضعون خططهم ويعدونها لوقت الحاجة حتى إذا احتاج إليها الأمر نفذت في الحال. ولو عدنا بالذاكرة إلى بدء اشتعال الحرب، وشاهدنا ما فعله الحلفاء في تنظيم وزارة الحرب الاقتصادية عندما نفذ الحصر البحري رأينا مدى دقتهم في وضع مشروعاتهم.

ففي 24 ساعة كان الحصر البحري على ألمانيا نافذاً، وفي 24 ساعة تقدم ممثلو إنجلترا السياسيين إلى الدول المحايدة بقوائم تبين حاجة كل منهم من الخامات المسموح لها بالمرور من الحصر البحري والتي لا تترك لهم فائضاً يمكن لألمانيا أن تعتمد عليه. لو رجعنا إلى هذه الحوادث استطعنا أن ندرك كيف يسير المشروع الجديد وكيف يدعم إعداد الحلفاء العسكري.

كيف تساعدهم

ص: 40

ولا تفوتنا أن نذكر في هذا السبيل الولايات المتحدة وما تعده لتموين الخلفاء. فإن الخطوات التي اتخذت حتى الآن لا تتجاوز أن تكون مناضلة لإقرار مبدأ المساعدة وعلى أية صورة يكون. وقد ينتهي بدخولهم الحرب بقوات حربية، وليس بعتاد حربي فقط. وهي لم تقدم إلى الحلفاء مساعدة جدية حتى الآن بل أن مصانعها تستعد لمواجهة الحالة، ولم يتعد إمدادها عدداً قليلاً من الطائرات. ومن يعرف براعة الأمريكيين في تنظيم أعمالهم، وتشغيل مصانعهم لإنتاج كميات وفيرة، يدرك مدى السيل الذي يصل إلى الحلفاء كل فترة قصيرة

والغالب أن يستقر الموقف الحالي في البلجيك على شيئين: فأما أن ينسحب الحلفاء ويخلوا البلجيك وينقلوا قواتهم إلى فرنسا عن طريق البحر، وإما أن يستقروا في هذا الميدان بعد أن يمدوا قواتهم هناك بقوات جديدة على أن تكون صلاتهم عن طريق البحر. واعتقد من سير الأمور حتى كتابة هذه السطور أن الحلفاء ينسحبون من بلجيكا ويحولون ضرباتهم من فرنسا حيث أعدوا خطوط قتال قوية تسهل عليهم الاحتفاظ بمراكزهم إلى أن تتحطم ألمانيا اقتصادياً أو عسكرياً.

الخطوة التالية

أما في الميدان فإن جنود الحلفاء في حالة حسنة وفي موقف عسكري قوي يعملون على تطهيره من القوات المعادية. ولا يمكننا أن نجرم بخطوة ألمانيا التالية بعد استقرارها في الميدان الشمالي في البلجيك: هل تهاجم الجبهة الفرنسوية الشمالية الممتدة على نهر السوم إلى لونجوي؟ أم تهاجم فرنسا باحتراق حدود سويسرا؟ أم تتجه اتجاهاً آخر للاستيلاء على موارد جديدة بالهجوم على البلقان؟

فالواضح من الاستقرار الأخير في جبهة فرنسا الشمالية أن قتالها يطول وهذا مالا تحتمله الموارد الألمانية. فإذا هاجمت فرنسا باختراق سويسرا عن طريق مقاطعة بازل فلا ينتظر أن تصيب فيها من التقدم ما أصابته في بلجيكا، لأن الحلفاء لن يلدغوا من حجر مرتين. أما في البلقان فقد أعلنت الروسيا حرصها على الاحتفاظ بالحالة الراهنة هناك وإلا فإنها تحارب المعتدي. ولهذه فينتظر أن ترى فترة هدوء ونضال سياسي لتحويلها عن رأيها، وإن كنت أعتقد أنه ليس من مصلحة ألمانيا أن تشتبك في جبهتين كما قلت في مقالي

ص: 41

السابق.

فوزي الشتوي

بكالوريوس في الصحافة

ص: 42

‌رسالة الشعر

أنت وأنا. . .

للأستاذ أمجد الطرابلسي

إما رأيتِ الليلةَ الحالكة

تجلو دجاها البرقةُ الساطعة

والطفلةَ المُشْرِقَةَ الضاحكة

تُحزنُها لُعْبَتُها الضائعة

فإنني الليلةُ يا بَرقتي

وإنني الطفلةُ يا لعبتي

يا فرحتي أنتِ ويا دمعتي!

إن تجدي الناسكَ في دَيْرِهِ

تهزُّهُ نغمةُ أرْغُنَّهِ

والفاجرَ العِربيدَ في سُكْرِهِ

تُرْعِشُهُ النَّظْرَةُ مِنْ دَنَّهِ

فإِنني الناسكُ يا نغمتي

وإنني السكرانُ يا خمرتي

يا سقري أنتِ ويا جَنَّتي!

إما رأيت الشاعرَ السادرا

يقدسُ الحسنَ على سُبْحَتِهْ

والأهوجَ المضطرمَ الفائِرا

تُهيَّجُ الأجسادُ من نَهْمَتِهْ

فإنني الشاعرُ يا سبحتي

وإنني الأهوجُ يا نهمتي

يا جسدي أنتِ ويا فكرتي!

إن تجدي المبتهلَ المؤمنا

يصبوا إلى (الحورَّيةِ) الطاهرة

والماجنَ المُسْتَهْتِرَ الأرعنا

يستعذبُ السمَّ من العاهرة

فإِنني المبتهلُ المؤمنُ

وإنني المستهتر الأرعنُ

دَليلَتي أنتِ وحورَّيتي!

(باريس)

ص: 43

أمجد الطرابلسي

ص: 44

‌وهفا قلبي إليك

للشاعرة الفلسطينية الآنسة (دنانير)

لحتَ في أفق حياتي المظلمِ

لمحة من نورْ

بدَّدتْ آونةً يا ملهمي

ذلك الديجورْ

وهفا قلبي إلِيكْ

شيّقاً يحنو عليك

يرتجي الزلَفى لديك

لا تخيبْ يا حبيبي ما رجاه

قلبيَ المفتونْ

لا، ولا ترجعْه من دنيا هواه

رِجعه المغبون

يا خلًّيا من عذابي شدَّ ما

كنت شغلي

ليتني سؤالكَ أصبحتُ كم

أنت سؤُلي

حرتُ مما أنت فيه

بين إقبال وتيه

آه يا من أرتجيه

كل همي منك، حتام أراكْ

غافلاً عني؟

وبقلبي من تباريح هواكْ

علةٌ تضني

أيها المرسل لي في وحشتي

مؤنساً قلبي

هجتَ لي الحبَّ، فكانت سلوتي

نعمة الحب

أنت دنيا من فنون

تملأُ الدنيا فتون

كيف لا تسبى العيون

هاك قلبي، لا تدعْه يا مناه

هائماً حائر

راعهِ، لا يهوِ من عليا سماه

إِنه شاعر

(فلسطين)

(دنانير)

ص: 45

‌من اللهب!

للأديب عبد العليم عيسى

بكيت فلاموني. . . وما حيلتي إذا

بكيت وفي وآلامي

علام تلمون الجريح على البكا

أما كان أحرى أن تلوموا يد الرامي

نشأت فلم أنعم بصدر يضمني

إليه. . . فضمتني جروحي وأسقامي

كأنيَ لم أخلقْ لنعماىَ إنما

خلقتُ لأحيا بكياً طول أيامي

حياتي إعصارٌ عنيف وضجة

وعصف من البلوى يعكر أحلامي

هنا في فؤادي صرخة كم حسبتها

هنا في طريقي يعزفُ الهول قدامي

تجمعت الأخطارُ حولي. . . فخلتُها

من الرعب جنَّا عاصفاً تحتَ إقدامي

أنا الشاعرُ الشادي أغاريد حزنه

ومن حزَني المشبوب نبغي وإلهامي

أسيتُ على قلبي فكم عقد الأسى

به مأنماً يُذكى هواني وإيلامي

كتمتُ الذي عندي فلستُ بصارخ

وأين الذي يحنو على قلبيَ الظامي؟

طربتم لأنغام الصفاء فما الذي

يضركمُ لو تطربون لأنغامي!

أنا راقصٌ عرسكمْ غير أنني

غريبٌ بعيدٌ عن صفائي وإنعامي

ألاحينُ عودي باكيات على المدَى

فلن تسمعوا مني سوى لحنيَ الدامي

(دمياط)

عبد العليم عيسى

ص: 47

‌عبادة الأصنام

للأستاذ حسن كامل الصيرفي

أيُّها الُمخْلِصُ الْعِبَادَةَ للصًّخْ

رِ تحَصًّنْ مِنْ مَوْجَةِ الإلَحاْدِ!

فَغَداً تَفْقِدُ الشُّعورَ وَتحَيْاَ

كَجَمادٍ مُسَخَّرٍ لجمادِ

صَنَمٌ صامِتٌ من اَلْحجَرِ الصَّلْ

دِ لَخَيْرٌ من ناَطِق بالفسادِ

إنْ تَكُنْ نائماً عَلَى ظُلَمِ اَلْجهْ

لِ رَضيِاًّ بِعيِشَةِ الزُّهَّادِ

فأَناَ ناَئمٌ عَلَى كَتِفِ النُّو

رِ وَلكِنْ بِظُلْمَةٍ في الفُؤَادِ

صَنَمي يقتلُ الْعقِيدةَ وَالْفِكْ

رَ وَيَحْيى عِبَادَةَ الأجسادِ

إنْ تَكُنْ مُطْلَقَ الْعَقيِدةِ يا صا

حِ فإني مُقَيَّدٌ في اعْتِقادِي

مَلْجَإي السَّجْنُ إنْ دَعَوْتُ إلى اَلْح

قَّ مَسُوقاً في مَوْكِبٍ الأصْفادِ

الوشاياتُ والدسائسُ والزُعْ

بُ سِلَاحٌ في وَجْهِ كلَّ انتقادِ

وَهُبوطُ الأحْرَارِ مِنْ مِنْبَرِ اَلْح

قَّ صُعُودٌ لِمِنْبَرِ اَلْجلاَّدِ

لَيْسَ إيمانُناَ عَقِيدَةَ تَفْكيِ

رٍ، وَلكِنَّهُ هَوَى اسْتِبْدَادِ

شُعْلَةُ النَّارِ في يَدَيَّ قَرَابِي

نُ لِفَرْدٍ مُسْتَهْزِئَ بالسَّوَادِ

وَصَلَاتي لهُ دُعاءٌ إلى اَلْحرْ

بِ وَإِشْعالُ ناَرِهَا في البِلَادِ

وَانتهاَكٌ لِحُرْمَةِ الجارِ إشْبَا

عَ نَهيمٍ لِشهْوَةِ اسِتِعْبِادِ

أَزْرَعُ الشَّرَّ حَيْثُما سِرْتُ تُجْنَي

مِنْ ثَرَاهُ طَوَالِعُ الأحْقادِ

وَغَدِي مُبْهَمٌ وَرِجْلِيَ تَنقَاَ

دُ إلى حَيْثُ مَصْرَعِ الأحْفادِ

التَّماَثِيلُ وَالبُطُولَةُ وَالْمَجْدُ

دَعَاوَي مَوْصُولَةُ الإنشادِ

نَغَمٌ يَسْحَرُ الضّحًايا فَتنْسَا

قُ إلى الَموْتِ جاِئعاَتٍ صَوَادِي

وَالَجْماهِيرُ كالَحْمِيرِ مَطايا

للزَّعاماتِ لَيَّناَتُ الْقِيَادِ. . .

حسن كامل الصيرفي

ص: 48

‌من وحي الربيع الأحمر

قوس قزح. . .

للأديب حسن أحمد باكثير

أي جسرٍ صيغ من ذوب الضياء

يعبر الزرقاء من أفقٍ لأفقٍ

عبقري الحسن سحري الرواء

مشرق يستأسر الطرف برفق

أصراطٌ مُدّ في عرض السماء

لعبور الجن في غرب وشرق

أم مجازٌ يرتقيه الأتقياء

نحو كونٍ خلف هذا الكون صدق

أي حسن فاتنٍ عذب بنوره

أي سحر عبقري في سفوره

ليتنا نحَظى جميعاً بعبوره

نحو كون جاثم خلف ستوره

وارف الظل بهيجٍ بزهوره

نقطع العمر به فوق قصوره

نرشف الأفراح من صفو نميره

ونصيب الأنس في حسو خموره

ونرى النشوة في لثم ثغوره

إن هذا الكون ضقنا بشروره

وزهقنا من أباطيل أموره

وسئمنا وبرمنا بغروره

وطوى أحلامنا جور نسوره

وكوى أحشاءنا بطش نموره

وشجى أكبادنا مرأى قبوره

خلَّنا يا جَسر نحظَى بعبورك

نحو كون ساطع خلف ستورك

يُذهب الآلام والآثام عنا والشرور

حسن أحمد باكثير

ص: 49

‌رسالة الفن

بواطن وظواهر

عندنا فنانون. . . ولكن!

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

10 -

من الصحافيين

عبد القادر حمزة باشا

كان للحركة الوطنية في مصر لسان وقلم، أما اللسان فكان لسعد زغلول، وأما القلم فكان في يد عبد القادر حمزة. وقد قضى صاحب اللسان، وظل صاحب القلم يكتب، ولكن ظهرت عليه نوازع جديدة أخذت تتزايد وتتزايد حتى أصبحت أوجه الشبه بين آثار هذا القلم اليوم وبين آثاره في البدء قليلة وغامضة. . . ذلك أن الأستاذ عبد القادر حمزة باشا جنح إلى العقل والمنطق جنوحاً كاد يقطع بينه وبين الجمهور الذي رباه هو، والذي فتح هو عيونه على الحقائق

طار الأستاذ عبد القادر باشا عن مستوى الصحافيين السياسيين وتحكمت فيه استقامة الفكر والأمانة عليه، حتى هان عنده الرواج الشعبي فلم يعد يجري وراء القراء، وآثر أن يوجه القول لمن يريد أن يسمع وأن يفهم؛ وقد تجلت التجربة على أنه يقول ما يجب أن يسمع وأن يفهم. فقد كان هو أول من نادى بوجوب تأليف الوزارة القومية منذ المناوشات الأولى في الحرب الحبشية، فأنكرت البلد رأيه حتى ألفت الجبهة الوطنية بعد أن تحولت المناوشات الحبشية إلى حرب ضروس؛ وحين لم تجد مصر وإنجلترا بداً من تنفيذ فكرته هو، أو الفكرة التي آمن بها وتحمس وانفرد زمناً بالدعوة إليها.

الأستاذ طاهر الطناحي

العمود الفقري في دار الهلال. رباه على الصحافة الأستاذ أميل بك زيدان، فأنشأه أعجوبة بين الصحافيين. الجمهور لا يعرفه كثيراً لأنه لا يوقع المقاولات إلا قليلاً؛ وذاك إذا كتب، فليس عمله أن يكتب، وإنما عمله أن يستكتب أولئك الأقذاذ الذين تطالع دار الهلال قراءها

ص: 51

بنفثات أقلامهم، ومن هؤلاء يكون ملوك في بعض الأحايين، وهذه مهمة خطيرة.

زد على ذلك أنه يجمع أعصى المعلومات والبيانات والإحصاءات والصور التي أتقنت دار الهلال فتنة الجمهور بها

للأستاذ طاهر الطناحي هذا المجهود الجبار وينافسه في دار الهلال زميل له هو الأستاذ يوسف أنكونا من غير أن يبذل مجهوداً جباراً، ولكنه يعطي الدار أفكاراً، فهو متخصص في البحث عن أسباب رواج المجلات يستقصيها ويوفرها في مجلة (الاثنين) التي يدير تحريرها، فله في هذا الأسبوع (يا نصيب)، وفي الأسبوع المقبل (مسابقة)، وفي تاليه حملة مصورة منظمة على موطن من مواطن الضعف في الحياة المصرية، وفي الأسبوع الرابع عدد خاص بمسألة من المسائل التي تشغل بال الجمهور، وفي الأسبوع الخامس هدية رائعة، وفي الأسبوع السادس صور تؤخذ للجمهور من قراء المجلة وهي في أيديهم فمن وجد صورته جائزة، وفي الأسبوع السابع باب يفتح في المجلة يتوسط للقراء في الحكومة، ويوظفهم إذا استطاع. . .

أعجوبة هو أيضاً هذا الصحافي الذي لا يعرفه الجمهور. وهو شاب وعمله الأول المحاماة في المختلط، ولست أدري كيف غاب هذا الصحافي الناجح هو وزميله عن الذين اختاروا المدرسين لمعهد الصحافة!

الأستاذ كريم ثابت

أول من اخترع لنا حكاية أن هذا الوزير يستيقظ في السادسة صباحاً ويفطر فولاً وبيضاً مسلوقاً، ويدخن سبعاً وثلاثين سيجارة في اليوم، وأنه يفضل السترة أم صفين من الأزرار على أم الصف الواحد، وأن عنده قطعة اسمها فلة يتفاهم معها بالعربية والفرنسية، وأنه يسقي ضيوفه كراوية ولا يقدم القهوة إلا لمن يطلبها، وأنه يقرأ إلا إذا جلس فاتكأ بذراعه اليسرى على المسند ووضع رجله اليسرى على رجله اليمين، وأنه إذا نام أغمض عينيه، وإذا تكلم حرك لسانه، وإذا مشى هز ذراعيه. . .

الأستاذ عبد المنعم حسن

لا بد أن يصل بإذن الله إلى ما يصبو إليه من مجد صحافي. فهو يقفز من أوربا إلى

ص: 52

أفريقية إلى آسيا بحثاً عن تحقيقات يسوقها لقرائه في أحرج الظروف وأسوأ الأحوال. وهذه جهود لا يقوم من الصحافيين المصريين إلا هو والأستاذ محمود أبو الفتح، ولا أذكر غيرهما.

الأستاذ مصطفى أمين

من أسهل الكتاب المصريين هضماً؛ وعلى هذه الميزة فيه فهو بأبي إلا أن يكون مخبراً يغذي فضول القراء بينما هو يستطيع مالا يستطيعه المخبرون من الترويج عن القراء وإنعاشهم. المادة تغريه، ولكني أرجو أن يغريه بالتخصص في الكتابة مغر آخر ذو تأثير ينقذه. . .

11 -

من المقرئين

الأستاذ محمود صبح

إذا قرأ القرآن مثل معانيه على قدر طاقته بالإلقاء والتنغيم. ولولا أن لكنه تركية تدركه أحياناً لشدة تأثره بالذوق التركي في الموسيقى لما كان في قراءته عيب، وهو حساس مرهف الأعصاب. متدفق سيال النفس ينفذ إلى سامعه ويجرفه معه

ولكن عقله ملتو. أقولها على ما فيها من شدة فلعله يراجع نفسه إليها فيراها حقاً فيعود إلى قراءة القرآن، ويكف عن أدواره وطقاطيقه التي ثبت له أنه لن يجد من يغنيها له غيره لما في تلحينها من التعقيد، ولما يحتاج إليه إلقاؤها من الفتوة الغنائية. . . وإن كان لا بد له من التلحين فليقنع بالموشحات فهو الأهل لها.

الأستاذ على محمود

عنده ثروة موسيقية هائلة حفظها عن المغنين والمقرئين القدامى فهو يختزن لنفسه من فن الحمولي، ومحمد عثمان، وسيد رويش وسلامه حجازي، ومحمد سالم العجوز، وأبو العلا محمد، والمناخلي وغيرهم، وهو في قراءته يعرض هؤلاء جميعاً وغيرهم، فإذا تجلى الله عليه قرأ القرآن أو أنشد (المولد) بما يفتح الله به عليه من فن روحه هو؛ فعندئذ تسمع صوتاً عالياً من غير شك فيرفعك وينخفض فيضعك، ونساب فيملؤك، فإذا هدأ عنك زفرت وارتحت إذا رد لك السلطان على ترديد أنفاسك بعد ما كان هذا السلطان معه.

ص: 53

الأستاذ محمد رفعت

المقرئ الوديع الذي يزف القرآن إلى النفس (متمسكناً) فما تملك النفس إلا أن تحن له وأن تلين. . .

الأستاذ عبد الفتاح الشعشاعي

فيه من الموسيقى أكثر مما فيه من التمثيل، وفي موسيقاه من الطرب أكثر مما فيها من غيره، وكثيراً ما يخرج بسامعيه عن وقارهم وإن لم يخرج هو عن وقاره. لعله لو غنى القصائد عرض لنا فقيد الموسيقى العربية الكبير الشيخ أبو العلا محمد.

لست أدري لماذا لا يجرب هذه التجربة، ولست أدري لماذا لا تشجعه على ذلك صديقته أم كلثوم بأن تسمعه في قصيدة ثم تغنيها منسوبة إليه!

12 -

من المحدثين

الدكتور محجوب ثابت

هذا رجل ضحى بنفسه في سبيل إشباع رغبته في الكلام. له ماض وطني ملحوظ، وجهاد لا يمكن أن ينكر، ثم إن له علماً واسعاً واطلاعاً متشعباً، وله بعد ذلك آراء وأفكار لا يزال يغذي بها المجتمع المصري، ولا يزال هذا المجتمع يأخذها عنه، ومع هذا كله فنصيبه من الجزاء الوطني قليل. فأغلب الذين خدموا بالمناصب والألقاب والأرزاق، ولكنه كان بين القلائل المهملين على كثير ما يتردد ذكره على الألسنة، وعلى كثرة ما يتردد شخصه بين الناس. . . فلماذا؟

لقد أطيب الدكتور محجوب بهذا (التأخر) لأنه كثير الكلام، ولأنه يخلط الجد بالهزل، ولأنه لا يعرف مَنِ من الناس يصلح لأن يخاطبه الإنسان بالنكتة، ومن منهم لا يصلح لذلك، ومن من الناس يستطيع أن يستخلص من النكتة الحكمة، ومن منهم لا يستطيع ذلك. . . لقد اعتبر المصريون الدكتور محجوب فكاهة من الفكاهات، حتى في أشد مواقفه جداً يضحكون منه. . . وهم معذورون. . . فهو يتحمس لفكرته بعواطفه وأعصابه وجوارحه وشاربيه ولحيته، بينما يكفيه أن يتحمس لهما بعقله ولسانه، وإنهما لجديران بأن يخضعا له اقتناع الناس. . .

ص: 54

لست أدري إذا كان الدكتور محجوب يستطيع وهو في سنه اليوم أن يعدل نفسه أو أنه لم يعد يستطيع ذلك، ولكني على أي حال لم أيأس منه، ولا أزال أنتظر له خيراً. . .

الشيخ عبد الحميد النحاس

وإذا كان الدكتور محجوب ثابت محدث المثقفين من الطلبة ومن هم أكبر منهم سناً وعلماً ودراية من أهل المدن، فإن الشيخ عبد الحميد النحاس يعتبر محدث الأقاليم. وهو الصحافي الوحيد الذي يتقاضى من المعلنين أجوراً للإعلانات في جريدته التي لا تصدر على أساس أنه ينشر هذه الإعلانات شفوياً في مجالس والمجتمعات.

وله طوفات في الريف المصري. . . يخرج من مديرية إلى مديرية، ومن مركز إلى مركز، ومن بلد إلى بلد تقام له الولائم، ويجتمع له الناس، وتعقد المجالس ليتحدث فيها، وليقول ما يقول. . .

وهو يقول في كل موضوع كلاماً يلذ للريفيين أن يسمعوه، ويبلغ إعجابهم به إلى أن يحملوه على الأعناق وأن يهتفوا له كأنه غاز أو فاتح. . .

الشيخ عبد العزيز البشري

وهذا محدث الطبقة الراقية. وحديثه شيق سلس جذاب، حاضر الذهن، سريع الخاطر، لاذع النكتة، رائق البال. وهو إلى جانب ما يتقن من فن الحديث يتقن الكتابة أيضاً، وكتابته فيها من أحاديثه، فأحلاها ذكرياته ووصفه لمن قابلهم من الناس، ونقده لما رآه فيهم من العيب، وتسجيله لما وجده فيهم من الحسنات.

ردان

في العدد السابق من الرسالة طالع القراء الاعتراضين اللذين شرفني بهما كل من الأستاذين توفيق دياب ومحمد المويلحي بخصوص ما كتبته في هذه السلسة عن أولهما وعن الدكتور الخفي.

أما الأستاذ توفيق دياب كفاني الأستاذ محمد محمود دوارة الرد عليه بما يجده القارئ في (البريد الأدبي) من الرسالة هذا الأسبوع

وأما الأستاذ محمد السيد المويلحي فقد قال إني بخست الدكتور الحفني حقه إذ أنكرت عليه

ص: 55

إنتاجه في الموسيقى بينما هو - فيما يقول الأستاذ المويلحي - قد اخترع آلتين موسيقيتين هما فلوت الحفني والكورية النحاسية.

وردي على هذا هو أن اختراع الآلات الموسيقية من عمل علماء الطبيعة لا الفنانين الموسيقيين، ولا غير

على أني فيما قد جاملت الدكتور الحفني بعض المجاملة إذ قلت إنه موسيقي من نوعي، وأنا لا أعتقد أنني إذا شبهت إنساناً بنفسي حططت من قدره. . . هذا اعتقادي أنا. . .

عزيز أحمد فهمي

ص: 56

‌رسالة العلم

حرب ونضال

تأملات في مجاهل الكون

للدكتور محمد محمود غالي

عندما اندلعت ألسنة الحرب في سبتمبر الماضي كتبنا مقالاً في (الرسالة) تحت عنوان (فلنستمر)، اعتزمنا فيه مواصلة الكتابة رغم مجابهة العالم لمحنة قاسية لم يعهدها من قبل، ورجونا ألا تصرفنا الحوادث عن أداء المهمة، وليست الكتابة بالأمر الذي يستطيع الإنسان المضي فيه وهو مشغول الفكر مضطرب البال، وإنما لهدوء النفس والنزوع إلى الكتابة أثرهما الواضح في النجاح والقدرة على التسطير. فالكتابة لا تُقصد لذاتها، وإنما تقصد لما ترمي إليه؛ وإن الذي تُترَكُ له صحيفة ليملأها، يجب أن يكون أهلاً لأن يفيد القراء، وإلا فليترك المجال لمن هو أقدر على أن يكون أكثر فائدة لهؤلاء الذين يهبون بعض أوقاتهم للمطالعة.

ولقد خصَّصَتْ (الرسالة) صفحة لمباحث علمية توخينا أن نخط فيها هيكل الكون، وحاولنا أن نلفت النظر إلى ما فيه من تنافس؛ ووالينا كتابة هذه المقالات العديدة التي نسرد فيها قصة التقدم، فقطعنا في ذلك شوطاً بعيداً، واستعرضنا للقارئ بعضاً من الخطوات العلمية الكبرى التي توصل إليها العلماء في العهد الأخير، وفيها ما له علاقة بتقدم الإنسان في حاضره ومستقبله.

وقد تابعنا هذا الاستعراض وفق تفكيرنا، فطغت مسائل أخرى عُنينا بشرحها أكثر من غيرها، إذ كان لبعضها علينا اثر خاص، وللبعض الآخر في اعتقادنا سهم في محور التقدم، ولا شك في أنه كان لما تعلمناه عن قصد أو غير قصد، وما طالعناه عن رغبة أو مصادفة أثر في هذا التكييف.

وما كنت أعتقد أن الحوادث في العالم الغربي الذي عنه ندرس وعلى ضوء مؤلفاته نتكون تتطور بهذه السرعة الخاطفة، وما كنت أعتقد أن سرعتها هذه تؤثر على نفس في الأسبوع الماضي هذا التأثير الذي سلبني في تلك الآونة الصفات التي تجعل منى شخصاً مفيداً

ص: 57

للقارئ، لذلك تنحيت عن عمد ريثما تهدأ النفس ويستقر الفكر فأستطيع أن أتابع السير في هذه السطور. ولئن أسرعنا في كبح جماع النفس عن الاسترسال فيما يسوقها إلى الاضطراب ويدفع بها إلى الوجوم؛ فإننا نطلب من القارئ أن ينحو بنفسه هذا النحو، وقد يكون له متابعة هذه السطور التي نستعرض فيها الناحية الإيجابية من عمل الإنسان خير عزاء عن الناحية السلبية التي يندفع إليها فريق من البشر، وهي الناحية التي يستقي القارئ أنباءها في الصحف اليومية، عندئذ وكلما مر أسبوع يتصفح الرسالة ساعة يطالع فيها شيئاً غير الذي تغلب على نفسه في يومياته وتملك الكثير من أوقاته، هنا يرى في قصة العلوم وفي سير الفلسفة، في تطور التفكير وفي تقدم الإنسان، في ازدهار الميراث وارتقاء المعرفة، أن الدنيا ما زالت بخير، وأن الإنسان ما زال حياً يتوارث المعرفة ويعمل على تقدمها على كر الأيام.

فلنستمر إذن في عملنا وليستمر الذين يتابعون كتاباتنا في مطالعة هذه العجالات التي نعالج بين ثناياها طرفاً من عظمة الإنسان كمخلوق راق لا كمخلوق تعس، والتي يتجدد بها الأمل فضلاً عما فيها من غراء للنفس. ولا ريب في أن المحنة ستنتهي يوماً وأن الإنسان سواء أكان من أهل ألمانيا أو من أهل فرنسا وإنجلترا سيدرك أن من خطل الرأي محاربة أخيه الإنسان، وأن النضال بالكلام خير من النضال بالحديد والنار فيطرح هذه الآلات التي لا تترك وراءها إلا أشلاء تتناثر وأجساداً تتحول قبل الأوان، ونفوساً أشفَّها الحزن، وقلوباً مزقها اليأس، بل ويدرك أن توجيه الإنسانية صوب مدارج الرقى أولى من الرجوع بها القهقري

ولو أن السلطات تركزت يوماً في أيدي العلماء لانتظمت الحياة في نسق يكفل سعادة البشر، ولزال إلى الأبد كابوس هذه المجازر البشرية، ولو أن ما أنفق على التسلح صرف في رقي العلم ورفاهية الإنسان لرأينا قبل أن نترك الحياة أو تتركنا مدنية أرقى من التي ننعم بها، ولعهدنا وسائل للعيش تختلف جد الاختلاف عما نعهده اليوم. فلنستمر إذن في عملنا ولنتقدم نحو غايتنا مهما عاودتنا لحظات من الاضطراب، فلا اضطراب لم يعقبه استقرار، ولا حرب لم يعقبها سلم، ولا عمل سلبي مهما طال لم يتله عمل إيجابي. ولنكن جميعاً معاول بناء لا معاول هدم، بذلك نعاون في بناء صرح المعرفة ونضيف إلى هيكل

ص: 58

الحضارة.

ولقد تركت عن عمد الجرائد اليوم لاتصل بالقارئ وتغلَّبت على نفسي بالاستماع إلى قطع موسيقية، وكان في (غابة فِيِناًّ لستراوس)، وفي (الرابسودي المجرية) لملحنها (ليسْتْ) ما استحثني على الكتابة وشدد قواي على التفكير، وستكون غايتي اليوم أن أرفه عن القارئ بكلمة من نسيج الخيال، ولكنه خيال جائز، خيال له اتصال بالموضوعات الأخيرة التي تعرضنا لها.

عندما نتصفح أنباء المعارك الدامية بين البشر ندرس ناحية من صفات الإنسان الذي تطورت حالته على هذه الأرض من مخلوق عاجز عن القيام بتافه الأمور إلى مخلوق يستخدم ذكاءه في ضرورة مرة وفي نفعه أخرى. ثمة عقيدة بأن هذا المخلوق هو أرقى المخلوقات طرا لأنه سما على كل ما يدب على وجه الأرض بذكائه ومقدرته

وإن جاز لنا أن نعتقد أنه المخلوق الوحيد من نوعه في الكون لتوافر اشتراطات طبيعية عديدة لاءمت وجوه على النحو الذي هو عليه لا يمكن أن تتوافر كاملة على غير هذه الأرض، فلا يجوز لنا أن نحزم باستحالة وجود مخلوقات أخرى على الكواكب لها صفات تختلف عن صفات الإنسان هذه الأرض.

إنما يُجيز المنطق إن لم يُحتمَّ على الباحث ألا ينفي وجود كائنات أخرى غيرنا على الكواكب ما دام الكون يشمل ملايين الكواكب السيارة، وما دام بين هذه الكواكب حتماً ما تسمح معه الظروف الطبيعية بإمكان وجود نوع من الحياة يشبه حياتنا، أو نوع آخر من الحياة يختلف عنها؛ على أن المنطق يدلنا أيضاً أنه لا يجوز لنا أن نعتقد بوجود أوجه شبه شديدة بيننا وبين هذه المخلوقات. وإذا كانت الأحوال الطبيعية الملائمة على سطح الأرض رغم تقاربها لم تكن كافية ليظهر في نوع الإنسان رجال من شكل واحد، فما أبلغ الفارق عندما تختلف الأحول الطبيعية بين ما في الأرض وما في غيرها من الكواكب وبالتالي بين سكان الأرض وغيرنا من الأحياء خارجاً عنها؟، وإذا كان الرجل الجاري أو الصبي الذي تنسم نسيم جاوه أو الصين يختلف كثيراً عن الرجل المصري أو العراقي الذي يتنسم نسيم مصر أو العراق، والذي تذوَّق ماء النيل أو الُفرات، ويختلف هذا وذاك عن الفرنسي مثلاً، فما عسى أن يكون الفارق إن تحقق لنا ما يكون عليه مخلوق راق يعيش في كوكب آخر

ص: 59

غير كوكبنا وفي مجموعة شمسية غير مجموعتنا؟

ونحن في هذا تسوقنا فكرة الإشعاع إلى تصورات ينبغي التأمل فيها عندما نجيز لأنفسنا التحدث عن مثل هذه المخلوقات التي نعتقد أن وجدودها أقرب إلى الحقيقة منه إلى الخيال.

ذكرنا في مقالاتنا الأخيرة أن الكون زاخرٌ بمختَلَف الإشعاعات التي لا تراها عين الإنسان ولا تشعر بها حواسه، وأن الضوء والكهرباء نوع واحد من الإشعاع، وإننا لا نرى من الأشعة إلا شيئاً طفيفاً إزاء ما لا نراه. ذلك لأننا خلقنا بحيث لا نرى من الكون إلا يسيراً من مكوناته العديدة الممتدة بعيدة عن حواسنا.

ولو أن كائنا غير الإنسان تكونت عنده حاسة النظر بطريقة يرى الأشياء بطولها وبعرضها، ولكن لا يستطيع أن يدرك منها ارتفاعها (هذا النوع من الكائنات يجوز وجوده أو هو موجود فعلاً)، فإن صور الأشياء تختلف عند هذا الكائن عن صورها عندنا، فإذا أمتد نظره من عَلٍ إلى مركبة ترام رأي هذه المركبة مستطيلاً يسير بين خطين يمثلان حدَّي الطريق الذي تسير فيه، ورأى (الكمساري) والسائق دائرتين إحداهما مجاورة لأحد أضلاعه والثانية تتنقل على حافته طوراً تقترب من ضلعه الأعلى وتارة تقترب من ضلعه الأسفل، ويرى الجمهور دوائر كثيرة متواصلة في صفوف متوازية داخل هذا المستطيل المتنقل.

إن هذا الكائن المسكين لا يستطيع أن يرانا على حقيقتنا، فلا تطلبنَّ إليه، وهو لا يرى من مركبه الترام إلا هذا المستطيل المتنقل، أن يستوعب ما فيها من مادة الخشب أو يذهب في الفكر إلى أكثر منذ لك فيفهم ما يحمله الخشب من أجهزة الكهرباء أو يفهم خواص أو ماهية هذه الظاهرة

ثمة ثلاثة مراحل في التطور أمام هذا المخلوق:

الأولى: وهي التي وصل إليها فعلاً أن يرى الأشياء بمساقطها فيرى في المركبات هذه المستطيلات المتحركة.

الثانية: أن يدرك هذه المركبات بارتفاعها ويستوعب أيضاً مادتها.

الثالثة: وهي اصعب المراحل، أن يدرك أعجب ما في تركيبها فيفهم أننا نستخدم فيها ظاهرة عجيبة هي ظاهرة الكهرباء فيعلم بذلك أمراً خافياً عن تركيبها الظاهري، أمراً

ص: 60

يجعل لها شيئاً شبيهاً بالحياة إن صح أن الحركة من أهم مميزات الحياة.

نقف الآن عند هذا الحد من المقال، وما قصدنا من هذه السطور إلا لتكون مقدمة للمقال القادم

إنما نترك للقارئ فرصة يتأمل فيها لماذا اخترنا هذا النوع من المخلوقات العجيب الذي لا يرى من مركبات الترام إلا مستطيلات تتنقل في الطرقات التي يراها خطوطاً ممتدة في المدينة، ولا يرى من جمهور الراكبين وهو ينظر إليهم من مستو عال إلى دوائر متراصة في صفوف متوازية، ولا يرى من (الكمساري) إلا دائرة تتنقل على حافة هذا المستطيل.

ولم يكن مقالنا اليوم بالموضوع الذي يشق على فهم، ويحتاج إلى طرف يسير من المقدمة العلمية، أفكان لموسيقي (ستراوس) و (ليست) سبب لكي ننحو هذا التحو من التأمل؟ ربما كان لذلك اثر؛ ولكن مما لا ريب فيه أننا كنا في حاجة إلى هذه النغمات نستمع إليها بعد ما نملك النفس من الاضطراب المتوالي في الأيام الأخيرة، ولا شك في أن القارئ كان هو أيضاً في حاجة إلى هذا النوع من الترفيه عن النفس وتسكين الخاطر.

وإلى المقال القادم، فإننا في حاجة إلى هذا المخلوق العجيب لكي نشرح موضوعاً يلتمع في الذهن ويجول في الفكر.

محمد محمود غالي

دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون

ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم

المهندسخانه

ص: 61

‌البريد الأدبي

أندريه موروا يبحث عن شخصية جديدة

يبحث الكاتب الفرنسي أندريه موروا عن شخصية جديدة على غرار شخصية (كولونيل برامبل) التي ابتدعها أثناء الحرب الماضية وسجلها في كتابه المعروف (صمت الكولونيل برامبل).

ولقد زار موروا أخيراً أحد مراكز التدريب بسلاح الطيران الملكي في إنجلترا، وكان قد دعي لإلقاء خطبة على عدد كبير من طلبة الطيران. فقال:(لامراء أن يكون الكولونيل الأول قد ناهز السبعين من عمره، وأنا اليوم عن حفيده. وسيكون بحثي عنه هذه المرة في سلاح الطيران الملكي. ولا شبهة عندي في أن الصفات التي جعلت من الشيخ ضابطاً ممتازاً ستجعل من الحفيد ضابطاً ناجحاً. فهل لي أن ألتمس منكم المعونة على العثور عليه؟)

والمسيو موروا ملحق بالقيادة البريطانية العامة في فرنسا، كما كان في الحرب الماضية. وقد بذل جهداً جباراً ليسهل على الفرنسيين فهم الإنجليز وتقديرهم. ونال المسيو موروا وسام (ك. ب. أ) في عام 1938، وهو يحمل وسام اللجيون دونير كما هو حاصل على درجات الشرف من جامعات اكسفورد، وادنبره، وسانت اندروز

ومن مؤلفاته المعروفة: (آريل - أو حياة الشاعر شيللي) و (دزرائيلي) و (بيرون) و (فولتير) و (الملك ادوارد وعصره) و (ديكنز) و (تاريخ لإنجلترا).

المعاهد الأجنبية في مصر

يبلغ عدد المعاهد الأجنبية في مصر 400 معهد، منها 185 معهداً فرنسياً، و64 معهداً إيطالياً، و62 معهداً يونانياً، و42 معهداً إنجليزياً، و38 معهداً أمريكياً، وأربعة معاهد ألمانية، ومعهدان روسيان، ومعهدان هولانديان، ومعهد سويري وآخر سويدي.

ويبلغ عدد المعاهد التي أسست لأغراض دينية 307 أي 76 % من مجموعها، ومنها 163 لفرنسا، و45 لإيطاليا، و35 لليونان، و24 لإنجلترا، و35 لأمريكا، ومعهدان لألمانيا، ومعهدان لهولندا، ومعهد للسويد

ويبلغ عدد التلاميذ الملحقين بهذه المعاهد 75. 392 تلميذاً وتلميذة، منهم 10. 915 من

ص: 62

التلاميذ والتلميذات المسلمين، و6934 من اليهود، والباقي من المسيحيين والأقباط.

ويبلغ عدد المعاهد التي ليس بها مسلمون 103، وقد لوحظ أن أكثر المدارس الأجنبية غير الدينية ليس بها تلاميذ مسلمون

المعاهد الفرنسية

يبلغ عدد التلاميذ بهذه المعاهد 34. 508 منهم 6214 من المسلمين أي بنسبة 18 %. ويبلغ عدد المعاهد التي بها أقل من 50 تلميذاً 26، وأقل من 100 تلميذ 65، وأقل من 200 تلميذاً 121، وأكثر من 500 تلميذ 13، وأكثر من ألف معهداً واحداً.

المعاهد الإيطالية

يبلغ عدد التلاميذ بهذه المعاهد 12. 769 منهم 1804 من المسلمين أي بنسبة 14 %، ويبلغ عدد المعاهد التي بها أقل من 50 تلميذاً إثنين، وأقل من 100 تلميذ 20، وأقل من 200 تلميذ 36، وأكثر من 500 تلميذ معهدين.

المعاهد اليونانية

يبلغ عدد التلاميذ بهذه المعاهد 12. 313 منهم 160 فقط من المسلمين أي بنسبة 1 %، ويبلغ عدد المعاهد التي بها أقل من 50 تلميذاً 16، وأقل من 100 تلميذ 28، وأقل من 200 تلميذ 41، وأكثر من 500 تلميذ 5، وأكثر من ألف معهداً واحداً.

المعاهد الإنجليزية

يبلغ عدد التلاميذ بهذه المعاهد 6091 منهم 645 من المسلمين أي بنسبة 15 %، ويبلغ عدد المعاهد التي بها اقل من 50 تلميذاً 9، وأقل من 100 تلميذ 22، وأقل من 200 تلميذ 33، واكثر من 500 تلميذ معهداً واحداً.

المعاهد الأمريكية

يبلغ عدد التلاميذ بهذه المعاهد 7697 وإن كانت أقل عدداً من المعاهد الإنجليزية منهم 1655 من المسلمين أي بنسبة 21 %، ويبلغ عدد المعاهد التي بها أقل من 50 تلميذاً 9، وأقل من 100 تلميذ 12، وأقل من 200 تلميذ 19، وأكثر من 500 معهداً واحداً.

ص: 63

المعاهد الأخرى

يبلغ عدد التلاميذ بالمعاهد الألمانية 517 منهم 131 من المسلمين، أي بنسبة 25 %، وهذه المعاهد الأربعة موزعة بين القاهرة والإسكندرية وأسوان

ويبلغ عدد التلاميذ بالمعاهد الهولندية 250 منهم 122 من المسلمين، والمعهدان الهولنديان في مديرية الفليوبية

ويبلغ عدد التلاميذ بالمعهد السويسري في الإسكندرية 70 تلميذاً منهم ثلاثة من المسلمين.

ويبلغ عدد التلاميذ بالمعهد السويدي 59 منهم 4 من المسلمين وهذا المعهد في مديرية الدقهلية.

ويبلغ عدد التلاميذ بالمعهدين الروسيين 1118 تلميذاً منهم 177 من المسلمين.

إلى الأستاذ عباس محمود العقاد

عزيزي الأستاذ الزيات

يسرني أن أنقل إليكم ما لمسته في أجواء الأدب عندنا من ارتياحها إلى مقالكم البليغ الشائق عن (رأي الرافعي في الأستاذين طه والعقاد)، وتشوقها إلى الاستزادة في تسجيل هذه الأحاديث الطريفة التي يتناقلها كبار الأدباء في مجالسهم الودية الخالصة حيث تتجرد النفوس من ملابسات الخصومة، وتبرأ من نزوات الضغينة، وتتخفف من أحقادها الطارئة وبدواتها العارضة. . .

وفي الحق أنك كنت ظريفاً لبقاً في حديثك مع الرافعي فقد استطعت - في شيء من مكر الصحفي - أن تستدرج الرجل وتستخرج من فمه - في غفلة من غرائزه النائمة - هذا الحكم السديد الرشيد في أدب الأستاذ العقاد. وهنا أحب أن أوجه سؤالاً إلى الأستاذ الكبير العقاد أظنه يتردد على لسان كل قارئ عربي مثقف.

قد رأيت يا سيدي الأستاذ أن الرافعي قد استطاع أن ينسى الماضي بأحقاده وضغائنه فاعترف لصديقه الزيات أن كتابه (على السفود) لم يكن وحياً من الله وإنما كان رجساً من عمل الشيطان. ولم يقف اعترافه عند هذا الحد بل عمد إلى تحليل مذاهبك الأدبية بنزاهة عجيبة.

ص: 64

فهل لنا أن نأمل منك أن تحدثنا بفصل تنشره في الرسالة عن رأيك الصحيح الصريح في أدب الأستاذ الرافعي فتنصف هذا الأدب من أن يتهجم عليه أولئك الذين ارتجلوا حرفة الأدب ارتجالاً وانتحلوها انتحالاً. . . إن جمهرة القراء عندنا لتستشرف نفوسها جميعاً إلى علالة منك تبل بها الصدى؛ وحديثك الصحيح الصريح في أدب الرافعي هي العلالة التي يرتقبونها من زمان بعيد فهل يتحقق هذا الرجاء؟ وهل تصدق هذه الأمنية؟

إنا لمنتظرون. . .

(حمص)

عبد القادر جنيدي

رأي الأستاذ الشاعر (أبو شبكة) في ليالي الملاح التائه

هذا شاعر أحبه، وقد زاد حبي له منذ أن أقصى لقب مهنته عن أسمه الشعري، فلعهد خلا كان يدعي (علي محمود طه المهندس) فتذمرت من هذا اللقب في معرض حديث لي عن شعراء مصر، وهمست في مسمع الشاعر أن كلمة (مهندس) تنفرَّ أذني الموسيقية بما تنطوي عليه من الخطوط والمنعرجات، وتشبكني بقضبان وحبال لا أطيقها. وكأنه يحبني هو أيضاً ويحترم أذني الموسيقية، فارتفع بين ليلة وضحاها من (علي محمود طه المهندس) إلى (علي محمود طه).

وعلى محمود طه من أجمل شعراء مصر. فالجمال مزروع في جميع قصائد، حتى في (أفراح الوادي) منها. ولكم تمنيت لو أفرغ مجموعته الأخيرة (ليالي الملاَّح التائه) من قصائد (أفراح الوادي) وأبقى هذه الأخيرة لمجموعة أخرى يوعيها ما يعرض لخاطره من أسباب التهاني والرثاء. . .

أستهل الشاعر مجموعته ب (أغنية الجندول وقد تكون هذه القصيدة أشعر ما في (ليالي الملاح التائه) وأجمل وأطرب، وكفى. . . لا أعلم ما بي. . . أتراني متبرماً هذه الليلة؟

فتعريف الشاعر لقصيدته الساحرة هذه بأنها (تغريدة الموسيقار الكبير الأستاذ محمد عبد الوهاب) لا يعلي مقامها في نظري. فعبد الوهاب يغرد لمن هب ودب من الشعراء فضلاً عن أنه لا يشرف شاعراً كعلي محمود طه.

ص: 65

أما أعمق قصائد (ليالي الملاح التائه) فهي ولا شك قصيدة (كاس الخيَّام) فقد قدر الشاعر في قصيدته هذه على التسلل إلى خوابي نيسابور فشرب من الخمرة التي أسكرت عمر الخيام، ورأى في هذه الخمرة ما لم يره الدهماء من الناس:

قصة الزهد التي غنوا لها

عللتهم بالسراب الخادع

نشوة الشاعر ما أجملها

هي مفتاح الخلود الضائع

لقد سكر من خمرة الشاعر فجاء بشعر روحاني من نسيجه، وغمرك بجو سري يدرك بالحس إذا أرهف وعمق، ويحملك - على غير هوى منك - إلى نعيم من الحياة لن تقدر لك متعة فيه إذا لم تكن شاعراً في أعماقك

كأس الخيَّام هي الحياة كما يجب أم يكون، فيها الخمرة الخالدة، هذه الخمرة التي فقدها الشعراء:

أيها الخالد في الدنيا غراماً

أين نيسابور والروض الأنيق

أين معشوقك إبريقاً وجاما

هل حطمت الكأس أم جف الرحيق؟

وكأني بالشاعر قد فرغ الشعراء من حوله، يقول لهؤلاء:(الكرمة ما تزال خضراء، والمرأة ما تزال جميلة، والطبيعة لم تخل عن عهدها، فلمَ خثر فيكم الحس وجف الرواء؟ أتراكم ضللتم طريق الخمارة المحيية؟)

كلما لألأ في الشرق السنا

دقت الباب الأكف الناحله

أيها الخمار قم وافتح لنا

واسقنا قبل رحيل القافلة

لزوال الحياة وأوهامها اللذيذة في هاتين الكلمتين: (رحيل القافلة)، وقعه في نفسي كتلك (الكوكو) من مطوقة الخيام على طاق كسرى.

وقد لا تشيع فيك الكآبة مما في (ليالي الملاح التائه)، حتى تشيع فيك غمرة من الطرب، ويلتقي هذا الطرب وتلك الكآبة في مزبح يلطف في نفسك ويخلق حولك جواً يوحي إليك شوقاً وحسرة، وشوقاً إلى متع الحياة، وحسرة على زوالها

ها هم العشاق قد هبوا إلى الوادي خفافا

أقبلوا كالضوء أطيافاً وأحلاماً لطافا

ملأوا الشاطئ همساً والبساتين هتافا

ص: 66

الصبا والحسن والحب هنا

يا حبيبي هذه الدنيا لنا

فاملأ الكأس على شدو المنى

واسقنا من خمرة الرين، اسقنا

أجل، أيها الشاعر، إن الدنيا للشعراء ما بقي الحب في قلوبهم المكشوف

الياس أبو شبكه

تصويب

سيدي الأستاذ البليغ أحمد حسن الزيات صاحب الرسالة: تحية وسلاماً. وبعد فقد رأيت في العدد (354) من مجلتكم الغراء تصويباً جاء في صفحة البريد الأدبي بقلم الفاضل (محي الدين إسماعيل) من البصرة يصح فيه قول أستاذنا الطنطاوي: (يستقري رمال الدأماء) الذي جاء في مقاله بالعدد الممتاز. وقد استرعت هذه الكلمة نظري بشكل خاص لأن هذا المعنى المبتكر في الأدب العربي كان قد استوقفني أيضاً حين قراءتي المقال منذ بضعة أسابيع. ولكني لم أكتب لعل الأستاذ يعود فيبين مرماه في هذا التعبير. ولكنه لم يفعل، والظاهر أنه أدرك أن هذا الأمر بيَّن لا يحتاج إلى بيان. فأحببت بعد أن أعود إلى الموضوع - بإذنكم - وأنوَّه عنه بكلمتين مخافة أن يخطئ في فهمه بعض القراء كما حدث لصديقنا الأديب البصري

لم يقصد الكاتب الصحراء (بالدأماء)، وإنما كان يعني البحر الحقيقي، ومن المعلوم أن رمال البحر لا تقل عن رمال الصحراء واستقراؤها أصعب. لذا كان التشبيه بها أبلغ، ووجدوها في القمر لا يمنع ذلك، ولا أزال أذكر جيداً ذينك المثلين المشهورين في الأدب التركي:(أكثر من رمال البحر) و (في البحر الرمال وعنده الأموال)

(بغداد)

فيصل صبيح نشأت

علاج الفتاة المنكوبة

حضرة الأستاذ الفاضل رئيس تحرير مجلة الرسالة الغراء

تحية واحتراماً وبعد، فقد كتب الأستاذ المويلحي بالرسالة أخيراً يستنجد بأهل المعرفة لفتاة

ص: 67

نكبت بلحية كثة للبحث عن علاج لهذه النكبة البدنية، وفيما يلي ما يعرف عن الموضوع:

المعروف أن هرمون الغدة القشرية فوق الكلى له تأثير كبير في خلق مميزات الرجولة المتعددة، وما نكبت به الفتاة وما يحتمل أن يبدو عليها من مظاهر في أخرى في المستقبل يعود إلى نشاط هذه الغدة الزائدة، وهذا النشاط عادة يعلل عادة بوجود أورام في الغدة تسبب هذا الهياج، وعلاج الحالة جراحي باستئصال الورم، ولا تمس الغدة لأن في استئصالها الموت في التو واللحظة.

وتصاب المرأة في سن اليأس بشارب خفيف ومرجعه هو ضعيف المبيض في سن اليأس، وهذه الحالة متداركة بالعلاج لهرمونات المبيض.

ويلاحظ العلامة أن الغدة الدرقية غدة نسائية، أي أنها تكبر حجماً عند النساء عن الرجال، وقد يكون نشاط الرجل أكثر من المرأة راجع إلى كبر الغدد الأدرينالية (مجموع الغدد فوق الكلى) التي تعتبر غدد النشاط الإنساني عند الرجال.

كامل يوسف

عضو المعهد الفلسفي البريطاني بلندن

حول نقد

حضرة الأستاذ الفاضل صاحب الرسالة:

الأستاذ عزيز فهمي أخطأ في روايته عن خطبة الأستاذ توفيق دياب خطأ طفيفاً لا يمس لب الموضوع حين ذكر أن خطبة البلفير كانت في رثاء سعد، بينما هي لم تكن إلا لتأييد مرشحي الوفد بالإسكندرية.

وقد كنت من شهود الحفلة التي وصفها الأستاذ عزيز، ولا تزال ماثلة في ذاكرتي وذاكرة كل من حضر تلك الحفلة الانتخابية، وأظن أن الأساتذة،: ممدوح بك رياض وعبد الفتاح الطويل وحسن سرور كانوا من شهود هذه الحفلة. . .

(السويس)

محمد محمود دواره

ص: 68

آدم

حضرة الأستاذ صاحب الرسالة

تحية. . . وبعد فقد قرأت في العدد 360 من الرسالة الغراء مقال (الأسماء تعلل) للأستاذ مأمون عبد السلام، وهو في الحقيقة بحث قيم ودراسة ممتعه تعتبر خلاصة لتاريخ وضع الأسماء ومعانيها. ولقد أقام الكاتب الدليل على أنه الأسماء تعلل. وبذلك هدم النظرية القائلة بأن (الأسماء لا تعلل) غير أني أعتقد أن الكاتب أخطأ في علة تسمية (آدم) إذ قال:(. . . فمعنى كلمة (آدم) الرجل لأنه أول رجل خلقه الله) والصواب عندي هو أن (آدم) سمى بهذا الاسم لأنه خلق من أديم الأرض - أي من قديمها - هذا ما أعتقده والسلام على الأستاذ

(ح. ح)

ص: 69

‌الكتب

وحي الرسالة

فصول في الأدب والنقد والسياسة والاجتماع

(480 ص من قطع الثمن. مطبعة الرسالة 1940. القاهرة

الثمن 25 قرشاً)

بقلم الدكتور إسماعيل أحمد أدهم

وهذا كتاب جديد تظفر به المكتبة العربية في هذه الأيام أخرجه للناس الأستاذ أحمد حسن الزيات صاحب مجلة الرسالة.

والزيات - كما يعرفه قراء الأدب العربي - من أعلام النهضة الأدبية الحديثة، ومن قادة البيان الصحيح. اشتغل زمناً بالتعليم ثم انقطع للصحافة الأدبية الخالصة، فكانت له مجلة (الرسالة) وهي سجل الأدب وديوان العرب اليوم

وقد جمع الزيات بعض مقالاته الافتتاحية التي كتبها في الرسالة على مدى ثمانية أعوام في كتاب، لأنها في مجموعة أدل على الغرض والفكرة وأعم فائدة منها وهي متناثرة على صفحات الرسالة. ونظراً لأن هذه المقالات من وحي رسالته، لهذا جاءت تسميتها (بوحي الرسالة).

وهي فصول متناثرة يتنازعها الأدب الصرف والفكرة الاجتماعية المصلحة والنظرة النقدية الصائبة. وهي كلها بعد ذلك تفيض من أصل أدبي وتاريخي من شخصية الكاتب متخذة لوناً خاصاً. والزيات أديب فنان، يحسن إبراز الحياة التي في الأشياء بالفكرة التي تنطوي عليها، وبالعاطفة التي تحملها في طياتها، وبالخيال الذي تحتوي عليه. ومن هنا تجد التنوع في جمال كتابة الزيات التي تتوازن فيها الفكرة مع العاطفة مع الخيال، والتي تتناسب كلها مع صناعة فنية بارعة تفرغ كل هذه الأشياء في صورة أدبية وقالب فني محكم. والحق أن الزيات هو الأديب العربي الوحيد بين كتاب اللغة العربية اليوم الذي تميزت في ذهنه مدلولات ألفاظ فعرف دقائقها وأدرك الأسرار العربية المحيطة بها، ومن هنا تراه يلبس

ص: 70

فكرته وإحساسه وخياله اللفظة الخاصة بها، التي تعطي لونها من لغة الكلام.

ويستهل هذا الكتاب بفصل مستفيض عن الجمال، ترى الكاتب بأسلوب المنشئ البليغ يعرض لماهية الجمال، ولغلبة الأصل الفني في نفس الكاتب نجده يبتعد عن مناقضات الفلاسفة وعلماء الجمال (البديع) فالجمال عنده يقوم على القوة والوفرة والذكاء، وينشئ في الذهن فكرة سامية، ويبعث في النفس إحساساً وشعوراً صادقاً، ويثير الخيال ويحرك التصوير. وهو تبسيط في شرح هذه المبادئ تبسط الأديب الفنان الذي لا يعنيه الأسباب قدر ما يعنيه الكنه والروح، وينتهي من بحثه إلى نتائج مهما نازعته في أمرها، فلا يمكنك أن تنكر عليه بعد ذلك صفة العمق في الفكرة والدقة في التصوير والصدق في التعبير. ثم هنالك فصل عن الرافعي يعتبر من خير الفصول الأدبية التي كشفت عن عبقرية هذا الأديب الذي لا نشك لحظة في أنه سيخلد ما بقيت العربية وبقي إنسان يعرفها. وفي هذا الفصل يبين الزيات خصائص أدب الرافعي في قصد واعتدال، فالفكرة مبسوطة بقدر، والتعبير نازل تماماً على قدر المعنى.

والحقيقة أن الزيات قد خلف في مدرسة البيان العربي المرحوم الرافعي، وهما على ما بينهما من اختلاف في الطبع وتباين في المزاج وتفاوت في الثقافة إلا أن قوة الفن وحركة الذهن تجمعهما. وإن كان ذهن الزيات يختلف عن ذهن صاحبه من جهة الصفاء وعدم انقطاع الصلة بينه وبين عقل الناس. فمعانيه مفهومة وهي ذات أصل دقيق من الفكر. وفكر الزيات ملتقى العقلين العربي والغربي، العربي في جلالته وروعته، والغربي في عظمته وترتيبه وانتظامه ودقته.

وجملة القول أن هذا الكتاب من خير الكتب التي تمسك على الناشئة أسلوبهم وتميل بتعبيرهم إلى البيان الصحيح، ومن هنا كان جديراً بالتقدير، إذ يقف أمام عوامل المجمة والتضعضع الطاغية على أقلام الناشئين من كتاب اليوم.

(أدهم)

ص: 71

‌وجيدة

قصة للأستاذ شعبان فهمي

(276 صفحة من القطع الصغير. مطبعة صلاح الدين

الإسكندرية 1940. الثمن 8 قروش مصرية)

بقلم الدكتور إسماعيل أحمد أدهم

وهذه قصة جديدة هي باكورة آثار الأستاذ شعبان فهمي، وهو أديب مصري شاب. أقام بفرنسا فترة من الزمن، فاتصلت به الأسباب بالجهود الفنية القصصية الكبرى هناك، فكان من ذلك أن اتجهت قابلياته الأدبية اتجاهاً قصصياً. تظهر فيما له من براعة في السرد وحبك الحوادث، وهذه القصة على الرغم مما فيها من العيوب الفنية تعتبر النموذج الأول للقصة المصرية الواقعية، وهي في الوقت نفسه باكورة طيبة للارتفاع بشأن القصة الطويلة في مصر. وهي على الرغم مما فيها قوية في روحها، تمتاز بانفراج عنصر الحياة التي فيها واتساعها، ولكن الحشد الكثير للوقائع والتفاصيل، ثم الاقتصاد في الوصف والتحليل للوقائع الرئيسية وللمواقف المهمة، ألقى على جوّها شيئاً من الضعف والفكرة التي تمسك على هذه القصة أسبابها متوافقة الأجزاء، فيها تناظر وانسجام. فهذا منير حمدي شاب مصري يستقبل الإسكندرية بعد غيبة سنتين في فرنسا يدرس فيها الحقوق فلا ترى وصفاً للمشهد العام للإسكندرية من البحر ولا تحليلاً مسهباً للمشاعر التي استولت على نفس الشاب، وإنما تجد الكاتب يطوي الموقف بسرعة معتنياً بوصف تفاصيل لم تكن لازمة ليدنيك أخيراً من خاتمة المشهد المؤلم، وهو لقاء منير حمدي لوالده بعد غيبته، وهو على سرير الاحتضار، ويصبح الفتى بعد وفاة والده موضع العناية والرعاية من عمه الذي يجب أن يظهر له عنايته ورعايته بأن يشجعه على المضي في دراسته حتى يستطيع أن يتزوج ابنته سنية، ويعلن منير الخير لبعض معارفه، فتنتهي إلى سمع سنية التي تثور لأنه لم يحدث أن أخذ رأيها في مسألة زواجها منه. غير أنها تظهر بعد ذلك تحفظاً واقتصاداً معه، والفتى في تقلب من الحال تتنازعه إغراء الفتيات وقلبه متفتح لإغرائهن وفي يوم ومنير بصحبة (سنية) ابنة عمه في مرقص، يحدث أن يتوعك مزاجها وتصاب بدوار؛ فيخرج

ص: 72

مندفعاً ليجلب لها قرص (أسبرين) من صيدلية، ولكنه لا يحس بنفسه إلا وهو في مفترق الطرق حيث سيارات تمر وعربات تجري وترام قادم، فيجري ويغيب على الدنيا، ويصحو ليجد نفسه في المستشفى وسنية إلى جواره. ويشعر بألم في طرق قدمه اليمنى فيلق نظرة فلا يجد سوى قدم واحدة، أما الأخرى فقد بترت. وتتغير العلاقة بين سنية ومنير، فسنية ترى أنها مسؤولة عما أصاب ابن عمها منير، ويزيح منها إحساس العطف والحدب كبرياءها فتنكشف لها ما تكنه له من حب في أعماقها. غير أن منير يحمل هذا الحب على شفقتها عليه فلا يشجعها في حبها له ويميل عنها، وإن كان في صميمه يميل إليها. وهكذا يتغير الموقف في القصة. وفي هذا التغيير الذي أحدثه الكاتب ما يدل على براعة فنية غير أن منير تحت تأثير كبريائه يحاول أن ينسى سنية. وينساها بالانغمار في شخصية وجيدة التي تحدب عليه وتعطف. ويسافر منير مع وجيدة إلى باريس ليكمل علومه، وهنا يعقد عليها زواجه تحت تأثير ثورة من ثورات كبريائه أمام حب سنية له التي كتبت إليه تشكو تباريح غرامها له. والقصة في جزئها الأخير تفقد اتزانها وتناظرها الفكري، إذ تزيح وجيدة شخصية سنية من جو القصة وتحتلها؛ ولو كان الكاتب أتخذ من وجيدة شخصية عارضة تجيء لتحدث التواؤم بين منير وسنية، حيث ينزاح عن منير كبريائه وعن سنية شعورها بالمسؤولية فيما أصابه، ويبدو حبهما لبعض خالصاً، فإن القصة كانت تتخذ وصفاً أدق للكمال؛ ومن هنا يمكن اعتبار استهلال القصة أبرع ما فيها من جهة الفكرة المتسقة المسيطرة عليها.

وفي القصة مفارقات عجيبة، فبينما تجد أن شخصيتي منير وسنية متميزتان، تجد شخصية وجيدة عادية، رغم ما حاول الكاتب أن يبسطه عليها من الإبهام. وهي برغم عادية شخصيتها ترتبط بشخص منير المتميز الذي ينفصل عن شخصية سنية المتميزة. ولا شك أن هذه المفارقة نتيجة ميل المؤلف مع الفكرة الرومانتيكية حيث الخروج على القواعد الكلاسيكية في القصة. كما وأنه من الملاحظ على شخصية منير اضطرابها وضعفها، فهو لا يقدر على إثارة حب المرأة له إلا عن طريق إثارة شفقتها عليه، وهو في الوقت نفسه ثائر لكبريائه، وفي هذا الاضطراب تقوم شخصيته التي تخلق أعمال القصة بالتداخل مع الشخوص التي تقابله. غير أن الكاتب تمكن من إيجاد الموازنة بين شخصية منير

ص: 73

وشخصية وجيدة بتداخل سنية بخطاب ترسله إلى منير تبثه حبها له. فتثور كبرياؤه ويرضى بالزواج من وجيدة. وفي ظله ما يجد راحته النفسية حيث حاجته للمرأة، لم تكن لزوجته فحسب، تشغل منه مكان النصف المكمل، بل كانت حاجته للمرأة كزوجة وأم تشغل منه مركز الأنثى من الرجل، لا مركز الأم من وليدها حيث تحدب عليه. ووجيدة بشخصيتها فيها ما يشبع هذه النواحي من نفس الفتى، وفي هذا سر تغلب دورها في القصة على دور سنية.

أما المميزات الفنية في القصة فتظهر في قوة السرد، وسرعة الحركة، والحشد للحوادث والوقائع، وهذا يعطي القصة ما فيها من حياة، غير أنها حياة عادية لا تميز فيها - وشرط من شروط القصص المتميز - ولعل البساطة في حياتها تعود إلى أن الكاتب يأخذ الأمور بالهوادة والملاينة، ويتبسط مع الحوادث برفق وبطء، مقيداً بالواقع المبذول للحس. ومن هنا فقصته نموذج طيب لما تكون عليه القصة المصرية الأصلية. وهي من هنا تحمل أذهاننا إلى جو أقاصيص محمود تيمور. هذا والكاتب على جانب من الاقتدار في رسم شخوص قصة من حركاتها وسكناتها. وهو يكتفي بتعريف الشخص بميزاته الداخلية دون أن يحاول تكملتها بتكوينه الخارجي. وهذا يرجع لضعف الأصل التصويري عنده. وهو بدوره عائد لبساطة الخيال

والبساطة والسهولة هي أبرز ما يميز أسلوب القصة، وإن كان للكاتب بعد ذلك قدرة على مسك أجزاء القصة وربطها ببعض وسلسلة حوادثها بحيث يتولد بعضها من البعض، غير أنها قدرة لا تتعدى محاكاة الواقع. ولعل هذا نقطة من نقط الضعف فيها إذا أردنا البروز والتميز القصصي، وسبب من أسباب نجاحها إذا وقفنا عند حد الواقع واعتبرنا القصة محاكاة للواقع المبذول للحس.

وهنا موضع الافتراق في النظر لهذه القصة من ناحية فنيتها. . . ويستحسن أن يتلو القارئ فصلاً قيماً كتبه الناقد الأديب صديق شيبوب (البصير 19 أبريل سنة 1940)، فهو فصل انتقادي جدير بالعناية، وهو يكمل ما جاء في كلامنا عن هذه القصة من أراء ومطالعات.

(أدهم)

ص: 74

‌القصص

قصة أم

للكاتب الدانمركي (أندرسن)

(عالج أندرسن القصة الرمزية فبرع بها إلى حد بعيد. وقد

لاقت أقاصيصه ومؤلفاته أنصاراً ومعجبين لا يكاد يحصيهم

العدد، وترجمت مؤلفاته إلى كثير من اللغات، فتناقلتها الأيدي

وانكب عليها الأدباء والمتأدبون يقرأونها ويدرسونها، وما

يزدادون - على كر الأيام ومر الليالي - إلا إعجاباً وافتتاناً.

و (قصة أم) من أحسن أقاصيصه وأكثرها روعة وجمالاً؛ تصور عاطفة الأم المتوقدة، وحنانها المشبوب، وحبها الذي لا يدانيه حب.)

كانت الأم جالسة إلى جانب ابنها الطفل متجهمة الوجه مقطبة الأسارير، يبدو على محياها الحزن بأجلى معانيه وأوضح صوره لقد كانت تهاب الردى أن يمد إليه يمينه فينتزعه من بين أحضانها. أما الطفل الصغير، فقد كان شديد الشحوب كثير الاصفرار، وعيناه الصغيرتان كانتا مغلقتين بهدوء ودعة، كان يتنفس ولكن بجهد وعناء؛ وقد يتنفس ملء رئتيه ويبعث مع أنفاسه أصواتاً غريبة، حتى ليخال الناظر إليه أنه ينتحب بحسرة وألم. غير أن مرأى الأم الحزينة كان يدعو للشفقة والرحمة أكثر مما يدعو لذلك منظر الطفل المحتضر ها هو الباب يطرق. . . ثم يدخل منه رجل في خريف حياته يرتدي معطفاً من جلد الفرس الكثير الدفء، وحق له أن يرتدي مثل هذا المعطف؛ فإن الفصل فصل شتاء، والبرد برد قارس. وفي خارج المنزل كانت الثلوج تجلل كل شيء، والجليد يحجب عن الأنظار كل موطئ، والرياح الهوج تزفر وتئن، حتى لكأنها توشك أن تمزق الوجوه.

كان الزائر المسكين يرتعش من البرد ويرتجف، وبما أن الطفل قد أغمض جفنيه ليغفى بضع دقائق، فقد ارتأت الأم أن ضع للعجوز إبريقاً من الجعة صغيراً ليدفئ به جسمه، ويطرد البرد من كيانه؛ فلما قامت الأم إلى ذلك دنا العجوز من سرير الطفل وأخذ يهزه

ص: 75

برفق. . . وعادت الأم بعد حين، فتناولت كرسياً مفكك الأجزاء مضطرب القوائم، ودنت به من مكان العجوز. وأمسكت يد الطفل الصغيرة بين راحتها وأخذت تتأمله بحب وحنان، بينما كان الطفل المريض يتنفس بجهد أكبر وعناء أشد والتفتت الأم على حين بغتة إلى الرجل العجوز وقالت له تحدثه:

- ألا تعتقد أنه سينجو وأفوز به؟. . . إن الله رؤوف بعباده وهو لن يفجعني فيه أبداً. . . أليس كذلك؟. . .

أما العجوز (المسكين!) فقد كان ملاك الموت نفسه. وقد هز رأسه هزة واحدة كان فيها جواب النفي أو الإيجاب

وأحنت الأم رأسها ونظرت إلى الأرض بعينين أفعمهما الدمع السخين، وسالت العبرات منهما على الوجنتين

وشعرت فجأة بثقل في رأسها، ونعاس في جفنيها. لقد طوت ثلاث ليال كاملات لم تذق للكرى طعماً. وهنا أخذ النعاس يداعب جفنيها، فأغفت دقيقة واحدة فحسب. . . ثم استيقظت وهي ترتجف من البرد وترتعش. وألقت حولها نظرات حائرة، وصاحت بخوف وذعر:

- ما هذا؟. . .

لقد ذهب الرجل. . . والطفل الصغير لم يكن في سريره. . . إذاً لقد أختطفه العجوز ومضى به

وفي أحد أركان الغرفة كانت الساعة التي أكل الدهر عليها وشرب، تحدث أصواتاً متمازجة مختلطة؛ وكانت تروسها تصرُّ وتزمجر، وسقط على حين غرة رقاصها الرصاصي الثقيل، ثم هدأت كل حركة، ولم يعد يسمع أي صوت. . .

لقد وقفت الساعة عن الدوران

وخرجت الأم المسكينة إلى الطريق تنشد طفلها العزيز وتناديه وهناك بين الثلوج كانت تجلس امرأة عجوز ترتدي الثياب السود الطويلة؛ فما أن رأت المرأة الأم حتى هتفت بها:

- إن ملاك الموت قد دخل دارك، ولقد رأيته خارجاً منها وهو يحمل ابنك الطفل، لقد ذهب بسرعة البرق وهو لا يعيد قط ما سلبه

ص: 76

فقالت لها الأم بتوسل وتضرع:

- ولكن أخبريني بربك من أين ذهب، وإلى أية ناحية أتجه. أتوسل إليك أن تخبريني بذلك، وسألحقن به وأجده

فأجابتها ذات الثياب السود:

- إنني أعرف الطريق التي سلكها، ولكني قبل أن أرشدك إليها أريد أن تنشديني كل الأغاني التي كنت تنشدينها ابنك الطفل. إنني أحبها كثيراً، وأحب صوتك العذب أيضاً. إنني أنا (الليل) ولطالما سمعتك وأنت تنشدين، ورأيت عبراتك تفيض على وجنتيك وأنت تغنين

- سأنشدك إياها بأجمعها، ولكن في غير هذا الوقت، فلا تعيقيني الآن عن اللحاق بولدي والفوز به.

فاعتصم (الليل) إزاء هذا الجواب بالسكوت ولم يحر جواباً.

للموت الأم حينذاك يديها وأخذت تذرف الدمع السخين. ثم شرعت تنشد أغانيها الواحدة تلو الأخرى. إن أغانيها كثيرة، ولكن الدموع التي ذرفتها كانت أكثر من عدد الأغاني كلها وعندما نفذت الأغاني وانتهت الأم من الإنشاد، رفع (الليل) رأسه إليها وقال:

- اذهبي يميناً في غابة الصنوبر المظلمة، فمن هنا لاذ (الموت) بالفرار ومعه ابنك العزيز

فأسرعت الأم إلى الغابة وصارت تغذ الخطايا فيها؛ وما كادت تتنصفها حتى تشعب الطريق فلم تدر أي سبيل تسلك. ونظرت حولها فوجدت عوسجاً من الشوك، ذهب برد الشتاء وجليده بأزاهيره وأوراقه، وجعل أغصانه تتدلى في الهواء وحدها.

فدنت منه وقالت:

- ألم تر الموت حاملاً ولدي؟

فأجابها العوسج بقوله:

- أجل لقد رأيته، ولكني لن أرشدك إلى الطريق التي سلكها إلا بشرط. ذلك أن تدنيني - أولاً - من صدرك كي أصيب بعض الدفء لأني أوشك أن أجمد وافني من شدة البرد، أكاد أصبح قطعة من جليد.

وأدنت العوسج منها، وضغطته على صدرها لتنيله مبتغاه من الدفء، وتذيب عنه الجليد

ص: 77

المتجمد بحرَّ صدرها، فنفذ الشوك إلى لحمها، وسال الدم القاني من صدرها بغزارة، ونزف منها بكثرة؛ فنبت للعوسج أوراق طرية خضر، وجللت الأزاهير الناضرة عروقه وفروعه في تلك الليلة الشديدة البرودة من فصل الشتاء. . .

ولكم في صدور الأمهات الحزانى من نار تستعرُّ ولهيب يتأجج ثم أرشدها العوسج إلى الطريق التي يجب أن تسلكها. . .

ووصلت بعد حين إلى شاطئ بحيرة لا سفينة فيها ولا قارب، ولم تكن البحيرة من التجمد بحيث يسهل المرور عليها دون أن يغوص فيها المرء أو يتكسر جليدها، كما أنها كانت شديدة العمق؛ فلم يكن من الممكن أن تقطعها الأم خوضاً. وكان لا بد لها من أن تصل إلى الضفة المقابلة أن كانت راغبة في الحصول على ابنها.

وثار الحب في صدرها والحنين؛ فارتمت على الأرض لترى إذا كان مقدورها أن تبتلع ماء البحيرة كله!. . . فكان هذا ضرباً من التفكير العقيم؛ ولكنها فكرت في أن الله رحمة منه وشفقة لا بد من أن يحدث لها معجزة تمكَّنها من اجتياز البحيرة. فقالت لها البحيرة حينذاك:

- ولكن لا. . . إن هذا لن يكون أبداً. . . كوني أكثر عقلاً وأبعد نظراً، وفكري فيما إذا كان في الإمكان أن نتراضى ونتفق. أصغي إلى ما سأقول:

أحب أن يكون في أعماقي جواهر ولآلئ، وعيناك هاتان لهما بريق وضياء وسحر وبهاء أكثر من الدر الكريم نفسه الذي لم أملكه قط في ماضيات أيامي، فإن شئت فاذرفي الدمع سخيناً وأكثري من البكاء كثيراً، فإذا ما فعلت فإن عينيك ستخرجان من محجريهما، وحينذاك أقودك إلى ملجأ النبات الكبير على الشاطئ الآخر، وملجأ النبات هذا هو مقر الموت أيضاً. . . الموت يحصد الأزهار والأشجار، وكل زهرة أو شجرة فيه رمز لحياة إنسان

فأجابتها الأم بحرقة والتياع:

- أفلا أجود بهما في سبيل استرداد ولدي؟

من كان يحسب أنه مازال في مآقيها دموع؟ ولكنها ذرفت الدموع السخين بحرقة والتياع لم تعرفها قبلاً وخرجت عيناها من محجريهما، وذهبتا إلى البحيرة حيث استقرتا في قاعها؛

ص: 78

وانقلبتا إلى لؤلؤتين غاليتين لم تحز قط مثلهما ملكة من الملكات.

ورفعتها البحيرة حينذاك، كما لو كانت في أرجوحة، وبحركة موجه واحدة نقلها إلى شاطئها المقابل حيث يقوم هناك بناء كبير فخم، يجاوز طوله مساحة فرسخ كامل. ولم يكن ليقدر على تمييزه من بعد أحد: أهو جبل بمغاوره وغاياته أم هو بناء للفن والجمال؟

غير أن الأم المسكينة لم تستطيع أن ترى مما حولها شيئاً، لأنها جادت بعينيها في سبيل ولدها

وهنا علا صوت الأم وقالت بيأس شديد وألم مرير:

- ولكن كيف أعرف الآن الموت الذي انتزع مني ولدي واختطفه من بين يدي؟

فأجابتها امرأة عجوز كانت تتمشى هناك جيئة وذهوباً، وتحرس الملجأ وترعى الأزاهير والأشجار:

- إن الموت لم يأت بعد. . . ولكن كيف وصلتِ هذا المكان؟ وأي طريق سلكت؟ بل من الذي أعانك على الوصول إلى هنا؟

- إن الله عز شأنه هو الذي أغاثني وأعانني على ذلك. . . إنه رؤوف رحيم. وأنت أيتها العجوز سترأفين بي وتشفقين علىُّ. أخبريني أين أستطيع أن أجد مهجة نفسي وفلذة كبدي الغالية؟

فقالت العجوز:

- ولكن لا أعرف ابنك، وأنت - كما أرى - كفيفة البصر. وقد ذبل في هذه الليلة كثير من الأزهار والأشجار والنبات؛ وسيأتي الموت بعد قليل كي يقتلعها من الملجأ. وأنت تعلمين دون ريب أن لكل كائن بشري في العالم شجرة أو زهرة في هذا المكان تمثل حياته وصفاته، وهي تموت عندما تحين منيته والمرء حين ينظر إلى هذه النباتات يحسبها من النباتات العادية التي لا قيمة لها ولا شأن يذكر. ولكن عندما يلمس إحداها يشعر للحال بوجيب قلب وخفقات فؤاد. . .

تعالي معي إلى الملجأ وجسي تلك الأزهار والنباتات، فلعلك تهتدين إلى خفقات قلب ولدك. . . وماذا تعطيني إذا أرشدتك إلى ما يجب عليك صنعه أيضاً؟. . .

فإجابتها الأم المسكينة بحزن وألم:

ص: 79

- لم يعد لدي شيء أمنحك إياه، ولكني سأبحث لك عن شيء يدخل إلى نفسك الغبطة والسرور؛ ولو كان ذلك من أقصى الأرض.

ولكني لست بحاجة إلى شيء من خارج هذا المكان أعطيني شعرك الطويل الأثيث؛ وأنت تعلمين دون ريب أنه جميل ساحر. إنه يعجبني كثيراً وسأستبدله بشعري الأشيب.

فقالت لها الأم:

- أما ترومين شيئاً غير هذا؟ إنه لأمر سهل! هاك. . إنني أمنحك إياه بملء إرادتي وكامل رغبتي.

ثم اقتلعت شعورها الجميلة - التي كانت زينة شبابها الغض وصباها الناضر - واستبدلتها بشعر العجوز، وهو قصير شديد القصر، أبيض ناصح البياض.

واقتادتها العجوز من يدها. . . ثم دخلتا إلى الملجأ الكبير، حيث كانت أجمل النباتات وأكثرها نضارة، تنمو بشكل باقات متراصة. وكان يرى تحت أجراس بلورية أجمل أزهار السوسن وألطفها، وإلى جانبها أزهار الفاؤيا المنتفخة. وكان يوجد أيضاً نباتات مائية شديدة النضار، وأخرى ذابلة أو شبه ذابلة، وكانت جذورها محاطة بالأفاعي الرُّقط. وغير بعيد كانت أشجار النخيل الباسقة قائمة هناك، وإلى جانبها أشجار السنديان والدلب. وفي مكان آخر كانت تنزوي حديقة البقدونس والسعتر وبقية البقول الأخرى، التي هي رمز العنصر النافع للحياة. وكان يوجد عدا ذلك شجيرات ولكنها كبيرة وضعت في أوان ضيقة، وهي في أوانيها هذه وكأنها على وشك الانفجار. وكان يرى أيضاً زهيرات صغيرة رديئة في بعض الأواني الصينية تحيط بها أزهار البابونج، وقد اعتنى بها كل الاعتناء. كل هذا كان يمثل حياة البشر الذين ما زالوا حتى الساعة أحياء يرزقون، يقطنون الكرة الأرضية من بلاد الصين إلى جزيرة غرونلاندا.

وأرادت العجوز أن نشرح لها كل هاتيك النظم والترتيبات الخفية، غير أن الأم رفضت ذلك وأبت أن تصغي إلى مقالتها، وطلبت من العجوز أن تقودها إلى كل نبت صغيرة طري العود. وأخذت الوالدة المسكينة تشم كل واحد من هذه النباتات بأنفها وتجسه بيدها، لتحس نبضات قلبه وخفقات فؤاده. وبعد أن جست المئات والآلاف، تمكنت من معرفة دقات قلب ولدها، وما أن عرفتها حتى صاحت بفرح وابتهاج:

ص: 80

- (إنه هو. . .)

ومدت يدها إلى نبت صغير تهدلت أوراقه، وبدا عليه الذبول بأجلى معانيه وأوضح صوره فصاحت بها العجوز قائلة:

- حذار أن تلمسيه، وابقي هنا أن يؤوب الموت - ولن يطول غيابه - وامنعيه من أن يقطف هذا النبت، وهدديه باقتلاع جميع الأزهار المحيطة به إن هو فعل ذلك، وسيخشاك ويرهب جانبك، لأنه مسؤول عنها أمام الخالق العظيم، ولا يجوز لنبت ما أن ينزع من مكانه قبل يأمره الله بذلك.

وفي هذه اللحظة هبت ريح عاصفة شديدة البرودة، فتنبأت الأم بأن الموت يدنو ويقترب

ووصل الموت بعد يسير من الوقت، فلما رأى الأم نظر إليها شزراً وقال لها بغيظ:

- كيف تمكنت من الوصول إلى هنا، ومن أرشدك إلى الطريق؟ وسبقتني أيضاً؟ ماذا صنعت؟ وكيف وصلت؟

واكتفت الأم المسكينة بهذا الجواب المقتضب:

- (إنني أم. .)

ومد الموت يده الطويلة العقفاء إلى النبت الصغير؛ ولكن الأم أحاطته بيديها، وضغطتهما في حرص شديد واعتناء زائد حذراً من أن ترضَّه أو تلحق ببعض أجزائه الدقيقة أذى. فنفخ الموت على يدي الوالدة المسكينة فشعرت بهما تسقطان خائرتين. وكانت نفخة الموت هذه أشد برودة من رياح أكثر فصول الشتاء برداً وزمهريراً.

وقال لها الموت:

- إنك لا تستطيعين معاكستي في شيء.

- ولكن الله تعالى أقوى منك واشد بأساً.

- أجل. وأنا لا أفعل إلا ما يأمرني به. . . إنني مُزارعه! إن هذه النباتات والأشجار والشجيرات عندما لا تجد سعادتها وهناءها في هذا المكان أقتلعها لأغرسها من جديد في حدائق أجمل وأروع، وجنة الخلد الكبيرة إحدى هذه الحدائق، إنها أمكنة مجهولة ولا أستطيع أن أخبرك بما يجري هناك.

وعادت ألأم فصاحت من قلب جريح ونفس مكلومة:

ص: 81

الرحمة! الشفقة!. . . لا تقتلع غصن ولدي بعد أن وجدته وأخذت تتوسل وتتضرع، وتنتحب وتتحسر، غير أن الموت لم يصغ إلى بكائها ونحيبها ولمُ يعر صنيعها اهتمامه أو انتباهه.

وقبضت الأم حينذاك على زهرتين ناضرتين والتفتت إلى الموت وقالت له مهددة:

- أنظر. . . إنني سأقطفهما مع جميع الأزهار التي تحيط بهما وسأتلفها كلها. إنك تدفع بي إلى اليأس المرير.

فصاح بها الموت:

- لا تجذبيهما!. . . لا تتلفيهما!. . . تزعمين أنك تعيسة شقية وفي نفسك رغبة في سحق قلب والدة أخرى؟. . .

- قلب والدة أخرى؟

قالت المسكينة هذا وخلَّت الأزهار من يدها حالاً

فقال لها الموت حينذاك:

- خذي عينيك، إنهما تبرقان وتلمعان بصفاء ووداعة أكثر من الوقت الذي أخرجتهما فيه من البحيرة. لم أكن أعرف أنهما تخصانك. خذيهما وانظري بهما إلى أعماق هذه البئر، فستريك ما كدت أن تهدميه فيما لو اقتلعت هذه الأزاهير، وسترين في انعكاسات الماء الخط المقسوم لكل من هاتين الزهرتين يمر أمامك كالسراب، وستريك أيضاً الحظ المقسوم لابنك فيما لو كتبت له الحياة.

وانحنت الأم على البئر فرأت صوراً من السعادة الضاحكة وألواحاً من البشر والسرور. ثم مرت بعد ذاك مشاهد مخيفة من البؤس والحزن والكآبة. وقال الموت معلقاً على ذلك:

- هذا وذاك كله من صنع الله ومشيئته

فأجابت الأم بحزن وغم:

- ولكني لم أتمكن من تميزها ما كان مقدراً لولدي. . .

فقال لها الموت:

- لن أخبرك بشيء من ذلك؛ غير أني سأعيد مشهده أمام ناظريك ثانية بين جميع الصور والألواح التي مرت أمامك الآن؛ وقد رأيت دون ريب ما كان ابنك ينتظر في الدنيا.

ص: 82

فجثت على ركبتيها وهي مضطربة حيرى، وأخذت تصيح:

- أتوسل إليك. . . قل لي أكان هذا الخط المخيف مقدراً له؟ ولكن لا. . . أليس كذلك؟ تكلم. . . ألا تريد أن تجيب؟ آه. . . وقطعاً للشك خذه. . . كي لا يعرض نفسه للخطر، وكي لا يجابه مصائب وكوارث كالتي رأيت. إنني أكن من الحب لهذا الطفل العزيز - البريء من كل جرم، والبعيد عن كل إثم - أكثر مما أكن لنفسي. خذه. . . وليبق الحزن والأسى لي وحدي. اذهب به إلى عالم السماء والخلود. . . وانس الدموع الغزار التي سكبتها، والتضرعات الحارة التي توجهت بها إليك. . . إنس كل ما بدر مني من صنيع أو قول.

فقال لها الموت:

- ولكني لا أفهم مبتغاك!. . . أتريدين استرداد ولدك؟ أم تريدين أن آخذه إلى المكان المجهول الذي لا أستطيع أن أحدثك عنه؟

فجثت الأم حينذاك على ركبتيها ورفعت يديها، وجأرت إلى الله بدعائها:

- (رباه! لا تصغ إلىّ إذا التمست في أعماق نفسي ما يخالف إرادتك وينافي مشيئتك اللتين هما من أجل صالحنا ونفعاً أبداً. لا تصغ إلىّ ولا تستجب مني يا رباه. . .)

وسقط رأسها بهدوء وبطء على صدرها، وغرقت في لجة من الحزن العميق والغم الشديد.

ودنا الموت من النبت الجميل الصغير واقتلعه. . . وذهب به إلى الحديقة ليغرسه فيها. . .

(دمشق)

ترجمة

عبد الغني العطري

ص: 83