الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 362
- بتاريخ: 10 - 06 - 1940
من مزايا عصر السرعة!
الحرب بين أمس واليوم
يقول الأغرار من الناس إن السرعة الخاطفة عبقرية هذا العصر ومزيته. فمن لم يجرِ مرَّ على ظهره المتأخر وغيَّر في وجهه المتقدم. وواجب السرعة أن تعمل ولا تستريح، وتفكر ولا تتأمل، وتأكل ولا تتذوق، وتنام ولا تحلم، وتموت ولا تمرض. ونحن نقول لهم إن السرعة ليست عبقرية ولا مزية؛ وإنما هي مس من الجنون أصاب العالم منذ اخترعت الآلة. ذلك أن الآلة مخلوق أرضي جهزه العلم بعشرات الأعضاء ليس بينها اللسان ولا القلب ولا العقل ولا الروح، فهي تلد ولا ترأم ما تلد، وتعمل ولا تضمن ما تعمل؛ وهي تكون للشر كما تكون للخير، وتنتج للموت كما تنتج للحياة. وطبيعة الآلة سرعة الحركة ووفرة الإنتاج؛ فلم تكد تسيطر على مجاري العمل في أقطار الأرض حتى دفعت العالم دفعاً عنيفاً إلى الإهتلاك والاستهلاك والتسابق والتنافس والإصطراع والكدح، فهو دأب لا يفتر، ونصب لا يستروح، ونهم لا يشبع، وعراك لا ينقطع. ولئن سألت المتبجحين بعصر السرعة على العُصر الخوالي كيف يجد الجسم راحته في هذا الاضطراب الدائم، وأين يلتمس القلب سعادته في هذا الجحيم المستعر؛ وماذا أدرك راكب السيارة أو الطيارة أكثر مما أدرك صاحب الجمل والحمار وراكب الحنطور والقطار، لا تسمع منهم غير جواب أشعب حين أجرى الصبيان إلى الوليمة خادعاً بالحيلة، ثم جرى هو معهم مخدوعاً بالوهم!
هذه هي الحرب التي عرفها العالم منذ خلق الله آدم وإبليس قد انقلبت في عصر السرعة آلية لا تعتمد على فضائل النفس ولا على خصائص الروح، وإنما تعتمد على سرعة الدواليب في الطيارة والسيارة والدبابة والدراجة والغواصة والبارجة. فأصبح الفرق بين الآلة والسيف في حصد الأرواح كالفرق بين الماكينة والمنجل في حصد الحنطة!
إن معركة الفلندر التي شبت بين الألمان والحلفاء أهلكت في أيامها المعدودة من الأنفس والأموال أكثر مما أهلكت حرب البلوبوينز التي نشبت ثمانياً وعشرين سنة بين أسبرطة وأثينا، والحروب الميدية التي اشتبكت أربعين سنة بين الفرس والإغريق، وحرب البسوس التي اضطرمت أربعين عاماً بين بكر وتغلب، والحروب الصليبية الثمان التي ظل ضرمها يحتدم ويخبو قرناً وثلاثة أرباع القرن بين الغرب المسيحي والشرق المسلم!
اشتعلت هذه الحروب بين المدن أو بين القبائل أو بين الأمم قبل أن يوضع القانون الدولي وتُنشأ عصبة الأمم، ومع ذلك تكشَّف عجاجها الأقتم عن خلال مشرقة من الفتوة والبطولة والنبل والإيثار والوفاء والتضحية كانت للأدب الإنساني الخالد مصدراً لا ينقطع رفده ولا يفتُر وحيه.
وكانت الحروب الإسلامية على الأخص في الفتوح أو الفتن تجري على سَنن مستقيم من الدين والخلق والأدب لا تزيغ عنه. فالقلوب التي تجيش بالغل لا تلبث أن تخشع للصلاة، والألسنة التي ترتجز بالحماسة لا تنسى أن تتناشد بالأدب. وما ظنك بجيش يفرض عليه دينه أن يؤدي الصلاة جماعة في المعركة؟ أتراه حريَّا أن يجاوز الحد إذا قاتل، أو يجانب الوفاء إذا عاهد؟ وما رأيك في جيشين يتهادنان ساعة ليحكم فارس بين رجلين اختلفا في المفاضلة بين شاعر وشاعر، وكان الحكم من جيش والمختلفان من جيش آخر؟
لقد رووا أن رجلين تنازعا في عسكر المهلب في جرير والفرزدق وهو بازاء الخوارج، فصارا إليه، فقال: لا أقول فيهما شيئاً، ولكن أدلكما على من يهون عليه سخطهما: عبيد بن هلال، وهو يومئذ في عسكر قطرى بن الفجاءة. فأتيا فوقفا حيال المعسكر، فدعواه فخرج يجر رمحه وظن أنه دعي إلى المبارزة، فقالا له: آلفرزدق أشعر أم جرير؟ فقال: عليكما وعليهما لعنة الله، فقالا: نحب أن تخبرنا ثم تنصرف إلى ما تريد. فقال: من يقول:
وطوى القيادُ مع الطراد بطونَها
…
طي التِّجار بحضرموت برودا
قالا: جرير. قال: هو أشعرهما!
فقل لي بربك: أين تلك الحرب التي كان يبرز فيها رجل لرجل فيتقاولان ويتصاولان على مسمع ومرأى من الجمعين المتقابلين، حتى إذا حميت الصدور واحمرت الحَدق حمل بعضهم على بعض فيُقتل نفر ويجرح نفر - من هذه الحرب الميكانيكية التي يقف فيها المليون حيال المليون فتغشاهم ظُلل من السماء ترسل الشهب والصواعق، وتكر عليهم قُلل من الحديد تقذف اللهب والقنابل! ثم يُرعد الجو والبر والبحر بآلات الموت والدمار ساعة من الليل أو النهار، فإذا بك لا ترى بعد ذلك عشرات من البلدان عمرتها الحضارة في دهر، ولا ألوفاً من الشبان نشأتهم المدنية في جيل!
لقد أتخذ الفرس يوم القادسية دبابات من الفيلة هولوا بها على المسلمين بعض الوقت، ولكن
العرب لم يلبثوا أن أصابوا مقاتلها في الخراطيم فمسحها الشهداء بالسيوف، فانقلبت الفيلة إلى أهلها فعجنتهم بأرجلها وهي مولية. ولكن دبابات هتلر كضمير هتلر لا تحس الوخز ولا تحفل الصدام ولا تبالي العاقبة؛ فهي تهجم هجوم الجراد الجهنمي على النبي العميم، فلا تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم. فإذا أضفت إلى ذلك الويل أن الذين أوقدوا نار هذه الحرب حلوا أنفسهم من روابط الدين والخلق والقانون والعرف والشرف، أدركت مبلغ ما تعانيه الإنسانية اليوم من يأجوج ومأجوج في أمة بسمرك ونيتشه وغليوم وهتلر!
ليت للعالم يا رباه كرَّةً إلى عصر الجمل والحصان، وحرب السيف والسنان، ومدنية القلب واللسان، لينجو من هذا العلم الذي يدمر ما يعمر، ويخلص من هذه الحضارة التي تأكل ما تلد!
أحمد حسن الزيات
هزل مصر والشام
من مذكرات الأستاذ محمد كرد علي
تشهد في مصر ما تشهده في الممالك الكبرى من مظاهر الحياة ففيها الجدِّ على أتم حالاته، وفيها الهزلُ على غاية من الإتقان. ويُطربني جِدِّها وهزلها. وأنا في مصر مصريَّ، وما أنا بمصريَّ. فلئن تخطتني جنسيتها، فما حرمتني الفطرة مشاركة أهلها في عواطفهم وشعورهم وكثير من أطوارهم. كانت إقامتي في مصر منقطعة، فلم أر أن أعرض لسياستها إلا بقدر معلوم، وما عنيت العناية اللازمة بالوقوف على تراجم أهلها، وتوخيت أن أعرف مجملات عنهم، وذلك لتشعب أطراف موضوع لا يبَّرز فيه إلا من تمحض له وأنقطع إليه. وأحتاج على الأكثر أن أعرف من رجال مصر تراجم العلماء والأدباء، أما تراجم السياسيين وغيرهم فشرح يطول.
من الطبيعي أن يتآلف المتشاكلون في الفكر والثقافة، وفي القاهرة من ذلك ضروب وألوان، ولا يصعب كثيراً على النازل عليهم أن يصل إلى الطبقات المنوعة إذا كان إدلاؤه مهرة ما دام المصريون معروفون بهذا الظرف وهذا اللطف. وبعض سكان عاصمتها كأهل العواصم في الغالب تصدُّهم متاعب الحياة فيها عن الافتكار فيما يفكر فيه الناس في العادة، من مثل الوفاء وتعهد الصاحب، فيصْدُق عليهم أنهم من الطبقة التي لا يسرُّها من حضر ولا يسوئها من غاب، أو أن هذا من خلق عدم المبالاة المتأصل في بعض إفرادهم.
مصر من البلدان التي يعيش فيها الغريب خمسين سنة ولا يفتأ كل حين يقع فيها على شيء جديد، ويظفر بموضوع طريف ما كان له به عهد بالأمس. عرفت صديقي وحيد بك الأيوبي، وهو وأنا في مَيعَة الشباب، وكان من أبناء الأعيان المفكرين المثقفين. وتفارقنا زمناً ثم التقينا قبل اثنتي عشرة سنة، وإذا به رئيس جمعية جهرية سماها اسماً غريباً (البُعكوكة)، وبُعْكوكة الناس مجتمعهم على ما في القاموس. وكانت هذه البعكوكة تلتئم كل ليلة في قهوة متواضعة من منعطفات شارع إبراهيم باشا، ثم انتقلت إلى قهوة السلام (كافيه دي لابيه) في نفس الشارع. ويبدأ اجتماع أعضائها من بعد العشاء، وينصرفون بعد منتصف الليل بساعة أو ساعتين أحياناً. وتتألف من محامين وأطباء ونواب وموظفين ورؤساء دواوين ومؤلفين وصحافيين وأعيان أصحاب أطيان موسرين وغيرهم، ولا يقل
المواظبون منهم عن ثلاثين رجلاً، ما فيهم إلا الممتاز بأدبه وفضله. فإذا اجتمعوا تجردوا عن مظاهرهم، وكانت اجتماعاتهم للمرح والتنادر وسماع الأخبار. ويجاهرون بأن بعكوكتهم فوق الأحزاب وفوق السياسة، ولا غاية لهم إلا الضحك والإضحاك. والرئيس وحيد بك الأيوبي، ونائب الرئيس إدوارد بك قصيري من أكبر المحامين في مصر.
هؤلاء الجماعة من العاملين في الحياة، فإذا انتَدوْا كل ليلة - وقد يزورهم في بعكوكتهم إخوان لهم من حين إلى آخر - فللترويح عن نفوسهم، وللخوض في لهو الحديث. ولك أن تصف جماعة البعكوكة بأنهم مجدُّون في أوقات الجد، هزَّالون في أوقات الهزّل، ويا ما أُحَيْلي اجتماعاتهم، وأوقع في الأذن أصوات مجادلاتهم. وشرفني الرئيس بعَدِّي في جملتهم، وأمرني أن أنشئ بعكوكات أو بعاكيك في بلاد الشرق. فصدعت بأمره؛ وأنشأت في داري بعكوكة يختلف إليها أخلص الأصدقاء، ولكن خُلاَّني بعاككة دمشق إذا شابهوا إخواني بعاككة القاهرة في دراساتهم وثقافاتهم، فلن يشاركوهم بخفة أرواحهم وتنكيتهم.
بلاد الشام سهلية جبلية معتدلة يغلب الانقباض على أهلها، وبلاد مصر سهلية حارَّة يغلب المرح والطرب على أهلها.
ولله ما يجري في هذه البعكوكة المصرية، فإن كل أعضائها والرئيس على رأسهم يصطنعون المرح ويلتمسون الضحك، وناهيك بجمعية فيها مثل الدكتور محجوب بك ثابت المشهور بعلمه وخفة روحه وحضور نكتته. وأذكر أني عدت من الشام في بعض السنين، وكنت متلهفاً شوقاً إلى أخواني البعكوكيين فقصدت إلى البعكوكة لأستطلع طِلع أحوالهم، فرأيت بعضهم مكتئباً، والرئيس مقطباً، فسألت عن السبب فقيل لي: إن الرئيس مصاب بضعف بعض الأعصاب، والأعضاء في حزن من جراء ذلك، وكل منهم يكد قريحته ويستوحي علمه لإيجاد علاج يُعيدُ إلى الأستاذ نشاطه وصحته، ويتنافسون في هذا الشأن، ولا تنافس وزراء السلطان إبراهيم العثماني في إيجاد مقو لضعفه، مع الفارق بين أعضاء البعكوكة وأعضاء وزارة الفاجر إبراهيم. وفي الحقيقة أن أعضاء البعكوكة كانوا يجدون في شفاء رئيسهم مخافة أن يصاب المرؤوسون بمثل ما أصيب به رئيسهم، ولا تسل عما ذكر خلال تلك الأيام من نكات وحكايات وأشعاراً وآثار، وأكثرها مما يضحك الثكلى، ويسلي الحزين، ألتُزِم فيه جانب الأدب، ورعاية آداب الاجتماع.
رجعت إلى الشام وكتبت كتابين مطولين في فترة قصيرة إلى الرئيس، أذكر له بعض ما فتح الله عليَّ من أدوية لدائه. فلما قرأهما الرئيس على الأعضاء تجددَّت لهم عناية بمداواته، وبقى القوم يهتمون لذلك سنة لا تخلو ليلة من الإلماع إلى سير مرض الرئيس وإلى ما ظهر من الأدوية وإلى ما وفقوا لمعرفته من طلاسم وادعية إلى غير ذلك مما ينجع في شفائه. والرئيس يشكو وهم يخففون عنه آلامه ويسلّونه. ولما عدت في الشتاء التالي إلى القاهرة سألت الرئيس عن حاله فضحك وقال: وأنت أيضاً صَدَّقت ما زعمته لكم؟ إني أدعيت هذه الدعوى لأُضحككم، وقد حصل المقصود من هذه الفِريْة فضحكتم بها حولاً كاملاً، وأنا بحمد الله ليس لي ما أشكو منه مما ذكرته لكم، فعجبت وأكبرت صفات الرجل وحبه لمرؤوسيه، كما كنت أعجب بكرمه على كل بائس مُمْلِق، وقلت له: إن انتسابي إلى بعكوكته أحب إلى نفسي من كل لَقب لُقِّبْت به، ومن كل مجمع علمي شرفني بعضويته، فمع جماعته السَّلْوَى والسرور، ومع أولئك كَدَّ الذهن وكرب الجد.
يكتب رئيس البعكوكة الحين بعد الآخر في جريدة الأهرام قطعاً لطيفة في اللغة والأدب والسياسة. وجاء البرق ذات يوم ينقل كلام أحد رجال السياسة ويقول: إن الإنجليز يرابطون بجيشهم في مصر لحماية الاستقلال؛ ومن الغد كتب الرئيس بضعة أسطر في الأهرام يُكَبِرُ هذه العناية بأمر مصر ويقول: إن عندنا الآن إذاً احتلال واستقلال، فماذا نسميهما؟ نسميهما (الاحتقلال) أخذ من الأول حرفين ومن الثاني ثلاثة. وسأله مكاتب التيمس في القاهرة: وماذا نسمي ذلك بالإفرنجية؟ فقال على البديهة: مأخوذة من الاحتلال والاستقلال. وكثر السائلون للرئيس عن هذا الاسم الجديد وعما إذا كان له أصل في اللغة وهنئوه على توفيقه للعثور على هذه اللفظة الجميلة. وعبثاً حاول أن يقنعهم أنها لفظة وضعها وضعاً؛ وما كان بعضهم يرضيهم إلا أن يكون وجدها في معجمات اللغة.
ورئيسنا يعطف على كل من يعدُّه الناس ثقيل الظلِّ، فإذا سمع بمن هذه حاله أحتضنه وبره. وقد يصحب أحد الصعاليك المعدمين إلى مطعم الكونتيننتال يغدِّيه أو يعشِّيه. وقد أعترض عليه مرة نائب رئيس البعكوكة إدوارد بك القصيري قائلاً له: إن فلاناً في حاجة إلى (بنطلون) وأنت تنفق عليه في الوجبة الواحدة ما يزيد على الخمسين أو الستين قرشاً صحيحاً. أعطه ثلاثين قرشاً يشتر بها بنطلوناً بعشرين والعشرة ينفقها على عياله. فأجابه
الرئيس: سبحان الله يا إدوارد بك! ألا تعلم أني إذا عاونته على ابتياع بنطلون جديد أكون قد غيرت معالمه وأبدلت شكله؟ وأظن الرئيس يقصد باستصحاب الفقراء إلى مطاعم الأغنياء ليقول لهؤلاء بلسان الحال إنه لا قيمة لما تتعاظمون به من البذْل، وأن الفقير قد يشاطرهم هناءهم ببذل عَرَض قليل.
وعقل رئيس البعكوكة، والحق يقال، ليس من العقول المحدودة، بل عقله مبتكر مبتدع، فقد أصدر في صباه ثلاث جرائد في وقت واحد بأسماء مختلفة، ومديرين ومحررين مختلفين، جعلها كلها لمقاومة الاحتلال، وأقام لها كتاباً ومراسلين ومحررين، وكان يصدرها في أوقات مختلفة. وليس لها كلها إدارة غير جيب الرئيس وقمطره يكتبها أو أكثرها، وينشرها على أنها ثلاث جرائد مختلفة الوضع والطبع، متحدة المنزع والغاية. ولم تُكشف هذه اللعبة إلا بعد مدة طويلة. وله من هذه الألعاب أشياء تَسر ولا تَضر يَضحك منها ويُضحك.
كان الشيخ طاهر الجزائري كثيراً ما يحدثنا بأخبار الدكتور حسين عودة نزيل صيدا، يُلقيها علينا ممزوجة بهزل وغير خالية من جد. فامتلأت الرؤوس بأخبار صاحبه، وود كل واحد منا لو يطير إلى صيدا فيتعرف إلى هذا الطبيب. وما كتب لأحد من جماعتنا أن يقوم بهذا الغرض قبل صاحب هذه المفكرات. فإني قصدت إلى صيدا لألقي فيها جامعَ شتات الفضائل بلدَّينا حسين عودة، فأبلَّ غليلَ شوقي إلى رؤيته.
وأريد أن يُعرْف من هو الدكتور عودة. ولد الدكتور في دمشق، والتحق في صباه بمدرسة القصر العيني في القاهرة لأخذ الطب، فرسب لشدة ذكائه عدة سنين، وما زال يرسب في صَفِّه حتى جاء مصر الأمير عبد القادر الحسني الجزائري يوم فتح قسم من ترعة السويس سنة 1863. وقد رجاه أهل حسين عودة أن يكلم الخديوي إسماعيل ليسهل على أبنهم أخذ شهادة الطب. فصدر الأمر بمنحه شهادته فأغتبط وأختار السكنى في صيدا زاهداً في سكنى بلدته الأصلية لئلا يكون موضع سخرية عند الهزالين من أهل دمشق، لأن خلقته وقيافته تضحكان حقيقة، فهو مجدور، في عينه شتر، وفي رجله عرج. ووفاء لمدرسته لم يرض أن يخلع بزتها طول عمره؛ فكان إذا بلى المعطف، وقد كتب على أزراره (تلميذ القصر العيني) أوصى على معطف جديد من نمطه، وذلك كل عشر سنين مرة، ورفع الأزرار عن المعطف القديم، وأناطها بالبذلة الجديدة، يذكر الناس بأنه خريج كريم، من ذلك المعهد
العظيم.
كانت هدايا الدكتور تتري إلى صديقه الشيخ طاهر الجزائري بدمشق يحملها المكار كل مدة من عاصمة الفينيقيين إلى عاصمة الأمويين. أتدرون ما كانت تلك الهدايا النفيسة؟ كانت قصاصات من جرائد مصرية وسورية قديمة وحديثة، أقدمها لا يزيد على بضعة أشهر، وعمر أحدثها شهر واحد فقط. وكان يقطع من كل جريدة ما راقه، ويجمع الباقي ويضعه في كيس نظيف أبيض، ويخيطه جيداً حتى لا تمتد الأيدي إلى السرقة منه. وقد أتحفني المُهدي إليه مرة بكمية منها. فلما رأيتها قديمة استعفيت من أخذ حصتي في الدفعة الثانية، وأحببت أن أخص بها من يحبون الجرائد ولو كانت قديمة بالية.
كان الدكتور حسين عودة مولعاً بالحشائش، ويطب مرضاه بها على الدوام، وقد ملأ المجلات الطبية في عصره بفوائدها، فأول ما وقعت عيني عليه في داره مجموعات عظيمة من هذه الحشائش مرتبة مصففة مجففة، جعلت على مناضد ومقاعد، وكتبت أسماؤها عليها مثل ما ترون من نوعها في متاحف النباتات ومعارضها، وألقيت نظري على الحائط فإذا به عال جداً لا يقل علوه عن أثني عشر متراً، فسألته ولم هذا الحائط شاهق إلى هذه الدرجة؟ فقال: لأن النظر إلى البحر يؤذيني، ويحمل الكرب إلى قلبي، ولذلك أقمت هذا السور ليحول دون نظري وما يكره.
كان الدكتور يطب الأغنياء في بيوتهم بقرش واحد، فإذا زاروه في عيادته أخذ منهم ربع قرش (متاليك)، أما الفقير فإن قصده أو ذهب هو إليه بنفسه، لا يقبض منه شيئاً، ويعطيه ثمن الدواء، والدواء بالطبع بعض تلك الحشائش. ولذلك يُعَّد الدكتور عودة من أبر الأطباء بيمينه التي أقسمها يوم خرج من المدرسة الطبية إلى مدرسة الحياة. وسرت مع الدكتور في أسواق صيدا وضاحيتها فرأيت أهل البلد كبيرهم وصغيرهم، رجالهم ونساءهم، أطفالهم وبناتهم، يعرفون الدكتور ويعظمونه، ويسألونه في الطريق علاج أسقامهم، ويدعون له بطول العمر.
ودّعت الدكتور وقد شفيت النفس من المتعة به ثلاثة أيام، وكنت نازلاً في الطبقة الثالثة من فندق المطران، فقيل لي بعد الغروب بثلاث أو أربع ساعات: إن الدكتور آت لزيارتك، فعجبت وخففت لأتلقاه على السلم وقلت له: لماذا تصدْع نفسك يا سيدي، وقد ودَّع كلٌ منا
صاحبه في النهار؟ فقال: هذا واجب أقوم به، فشكرت له أدبه وتفضله. ورأيته في هذه الزيارة الليلية يحمل نبوتاً أطول منه وفانوساً صغيراً، ويلبس في رجليه قبقاباً عالياً. فسألته بأدب: لم يلبس القبقاب والوقت صيف؟ فأجابني بما معناه: إن دبابات الأرض كثيرة، ولا يأمن الساري في الليل من شرها، فلكي يكون بمأمن من قرصها يحمل هذا المصباح يستصبح به عله يراها قبل أن تصل إليه؛ فإذا اقتربت منه ضربها بالعصا، وإذا حاولت الصعود إليه تعذر عليها الصعود إذ يقتلها قبل أن تصل إلى رجله، وكان في قوله جاداً، وكان جداً كله، وهذا وجه لطافته.
ومن جملة جدِّه أنه كان يعتقد أنه يعيش العمر الطبيعي، والعمر الطبيعي عنده مائة وخمس وثلاثون سنة، أو مائة وأربعون لا أدري، ولما كان هو على غاية من التقوى ولم يسيء استعمال قوته قط، فإنه بالغ بحول الله هذا العمر لا محالة. أما هو فعاش في هذا الأمل اللطيف نحو تسعين سنة. ومن أخبار جدّه، وهو معتقد بما يقول ويفعل ما حدث له مرة، وهو يتنزه على شاطئ البحر مع صاحبه الشيخ طاهر، وقد لحق بهما أحد الطلبة، وكان هذا لا يخلو من جذب على ما يظهر. وبعد مضي أربع ساعات على اجتماعه إليهما ألتفت إلى الدكتور وقال له: يا سيدي الدكتور أرجو ألا يكون في حضوري ما ينغص عليك خلوتك إلى الشيخ. فأجابه الدكتور بدون توقف: يا بني نحن لم نحس أنك معنا، وأنا في شاغل عنك، نحن الآن ندبر أمر ثلاثمائة مليون من المسلمين، وهكذا كان وما شاء الله كان.
محمد كرد علي
حركات الإصلاح الإسلامية
2 -
أزمة إسلامية
للدكتور علي حسن عبد القادر
دكتور في الفلسفة والعلوم الاجتماعية من جامعة برلين
ومدرس بكلية الشريعة
هكذا نرى أن التشريع الإسلامي هو محور الدائرة التي تدور حولها حركات الإصلاح والتجديد في الإسلام، والباب الذي ينفذ منه المصلحون لتجديد الحياة الإسلامية تجديداً عملياً، وأن مسألة كون الإسلام قابلاً للإصلاح والتجديد والرجوع به شاباً قوياً إنما تقوم على مسألة أخرى: وهي هل من الممكن التخلص من أشكال قديمة جامدة في الفقه الإسلامي؟
وإذا ما أردنا أن نحدد البحث تحديداً أدق لنتعرف العامل الأول الذي أملى على المصلحين إصلاحهم وجرهم إلى التفكير في ذلك فلا يسعنا في حدود المؤرخ الديني أن نفكر أن ذلك يرجع إلى الأصل المعروف (الإجماع) ذلك الأصل الذي صبغ الفقه الإسلامي بما لم يصبغه به غيره، ودعم به أهل السنة وجهات نظرهم تدعيماً لم يقبل النقض. وهو في حقيقة الأمر المفتاح الذي نفهم به تطورات الإسلام في علاقاته المختلفة في العقائد والتشريع والسياسة، فما تقبلته الأمة حقاً وصدقاً فهو حق وصدق، وما لا فلا؛ ويكون صحيحاً فقط في الشكل الذي يعطيه له الإجماع، حتى تفسير القرآن الكريم والسنة يكون صحيحاً منه ما يقابله إجماع الأمة، والعقائد - تلك التي خضعت لكفاح قاس في أول الأمر - أصبح موافقاً للدين منها ما ختم عليه الإجماع بخاتمه النهائي. وهؤلاء الرجال وهذه الكتب تعتبر إمامتها إذا أعتبر هذه الإمامة إجماع المسلمين. وهكذا نرى أن الإجماع قد لعب دوراً هاماً في الإسلام بما لم يقم به مبدأ مثله. ومن المعروف أن هذا الإجماع لم يأت نتيجة اجتماع منظم، وإنما كانت دائرته أول الأمر الإحساس الجمعي والرأي العام وصوت الأمة.
وقد حاول العلماء حدّه زماناً ومكاناً أوردّه إلى إجماع الصحابة أو علماء السلف من أهل المدينة أو الحرمين؛ ولكن هذه المحاولات شيء ومظاهره المختلفة التي رأيت شيء آخر.
وأهم من هذا هو أن الإجماع الذي حقق في الماضي قوة التعادل ومطابقة العصر ليس بعيداً أن يكون نواة قوة لمكافحة الجمود والنفوذ الشخصي إذا ما أستغل استغلالاً مرضياً وهو ما نتركه للمستقبل.
وقد يظهر غريباً إذا قلنا إن عوامل التجديد قد أظهرتها وحددتها طريقة أهل السنة نفسها، ذلك أن طريقة أصول الفقه إن تكن لا خلاف فيها في أوساط أهل السنة، فقد وجد من العلماء المفكرين من لم يقبل البقاء بعيداً عن دائرة الاجتهاد. وظهر له أن التقليد والتمسك بمذهب بعينه أمر لا يحتمل، وعند ذلك حدد هؤلاء العلماء من أول الأمر - شعروا أم لم يشعروا - دائرة هذا الأصل الخطير - أعني أصل الإجماع - وضيقوا من نتائجه. فالإمام الغزالي نادى بالاجتهاد وكثير ممن جاء بعده فعلوا ذلك أيضاً مثل أبن تيمية والسيوطي. وقد أستند المصلحون من ناحية أخرى في مناهضتهم للإجماع إلى أن تحديده بقى وقتاً طويلاً مجالاً للأخذ والرد حتى استطاع آخر الأمر أن يأخذ هذا المحيط الواسع الذي انتهى إليه.
وقد جاهد الحنابلة من بين المذاهب الأربعة جهاداً كبيراً في سبيل الاجتهاد لأجل مصلحة السنة نفسها التي عرفوا بأحيائها. فأبن تيمية وتلميذه أبن القيم استعملا هذا السلاح ضد البدع الكثيرة المنتشرة. وقامت على هديهم وفي روحهم حركة الوهابية بجزيرة العرب أثناء القرن الثامن عشر الذين حاربوا البدع وأزالوها من البلاد المقدسة، وتعاليم محمد بن عبد الوهاب مؤسس هذه الحركة متفقة تماماً مع تعاليم أبن تيمية، فقد كان يدعو إلى التمسك بالدين في الشكل الذي كان عليه في حياة النبي وصحابته، وكان غرضه الرجوع إلى الإسلام، في الصدر الأول، وذلك إنما يتم بالرجوع إلى الكتاب والسنة وحدهما. وإذا ما أتهمه خصومه بأنه مخالف للإجماع حدد سلطان الإجماع وحصره مخالفاً في ذلك جمهور أهل السنة. ولا يخفى أن هذه البدع التي حاربها بشدة وعدها كفراً كانت في الواقع مقبولة بإجماع المسلمين.
وقد بلغت درجة الكفاح أشدها عندما أتهم أبن تيمية والوهابيون بأنهم خارجون عن الدين وعلى جماعة المسلمين وتعاليم أهل السنة السائدة. ولكن الوهابيين وقفوا في مكانهم ثابتين متمسكين بمذهب الإمام أحمد. وكما أن مرّ الأيام قد خفف من الحكم على أبن تيمية، فكذلك
أخذ كثير من المسلمين بعد زوال الخطر الوهابي يغيرون من رأيهم في هؤلاء العرب المهاجمين.
ولم تنته آثار حركة الوهابيين بسقوطهم السياسي وهدم عاصمتهم الرياض سنة 1818، وذلك أن تعاليمهم وآراءهم بقيت منتشرة في الجزيرة العربية. وفي سنة 1924 ضموا إليهم بلاد العرب وأصبح قائدهم الملك عبد العزيز بن سعود الزعيم المعترف به في البلاد المقدسة.
وإذا كان رجوعهم لم يقابل بشدة كما قوبل به منذ مائة عام، وإذا كانوا لم يرفضوا بقوة إزاء تيارات التجديد الحديث، فإنهم مع ذلك لم يتركوا تعاليمهم، وأصبح القول بخروجهم عن الدين غير موجود الآن عند جمهور أهل السنة.
وأهم من هذا كله في هذه الكلمة الإجمالية، هو أن هذه الحركة الوهابية أخذت تدب في أثناء القرن التاسع عشر إلى بلاد إسلامية أخرى، وعلى الأخص بلاد الهند ومصر، ومن بين كل هذا قد أحدثت دعوتهم بالرجوع إلى الإسلام الأصلي الخالص وترك البدع التي حدثت بعد ذلك، والبعد عن تعقيدات الفقهاء ومماحكاتهم، قد أحدثت هذه الدعوة تذكيراً للمسلمين ومفكريهم الذين لم يريدوا معاداة أي حركة إصلاحية في الإسلام.
ومن هنا نستطيع أن نقرر أن الحركة الوهابية كان لها أهمية كبيرة بعيدة الأثر في هذه الحركات الإصلاحية الإسلامية التي ظهرت أخيراً، وإن يكن الاتصال بينها وبين هذه الحركات غير مباشر وغير واضح كل الوضوح. ومن هنا يجب أن نحسب لها حسابها في الكلام على هذه الحركات التي سنلم بها بعد إن شاء الله.
علي حسن عبد القادر
إلى أرض النبوة!
(وصف وتأريخ لرحلة الوفد السوري إلى الحجاز ربيع 1935
لفتح طريق الحج البري للسيارات)
للأستاذ علي الطنطاوي
- 2 -
تركنا الموكب، وقد وقف في ظاهر دمشق، حول قبة (العسالي)، وقد ملأت وفود المودعين تلك الساحة على رحبها، وقام الخطباء يخطبون، وقُمت أشكرهم باسم الراحلين وأودعهم، وأشرح الغرض من هذه الرحلة. وكانت الشمس قد جنحت إلى الغيب، فزاد شحوبها الموقف رهبة وجلالاً، وأقبل الناس علينا يودعوننا؛ فلم تكن ترى إلا عناقاً أو تقبيلاً وإخلاصاً متجلياً، وحباً وعطفاً، فلم يبق من الناس من لم تسل عبراته. . .
وإن أنس لا أنس مشهد لحفيد زكي آغا سكر من وجوه الميدانيين، ورفيقنا في سفرنا، وقد تعلق به لا يريد فراقه، ويبكي فيبكينا؛ فما كان أبلغ من بكاء الطفل الحفيد، إلا بكاء الجد الشيخ، وما تركه حتى انتزعوه منه انتزاعاً، وإن صوته ليرن في آذاننا ينادي: جدي جدي.
وغادرنا دمشق، وكان الليل قد أسدل ستائره على الكون، وما زلنا ننأى عن هذه الجموع الهاتفة لنا، الداعية بالتوفيق والنجاح، ونبتعد عن هذا الحشد، حتى أبتلع صوته الليل وطواه سكونه، وغلب سواد الجمع في سواده الشامل، ولم يبق من حولنا إلا السهول الفيح. . .
وكان صمت بليغ، فلم ينبس واحد منا، واستسلمنا جميعاً إلى عواطفنا وأحلامنا، وقد هاجها موقف الوداع، وأثارها هذا المستقبل المجهول الذي نقدم عليه، وهذه الصحراء المرعبة التي نسعى إليها، وهذه البقاع المقدسة التي نقصدها. وكنا نتلفت بين الفينة والفينة، فنملأ العين بمرأى أضواء (المهاجرين)، وهي تسطع على نفوسنا المظلمة، كما تسطع النجوم الهادية في الليلة الداجية، على الضال الحائر؛ ولم نكن ندري، أنعود إليها فنراها كرة أخرى، أم ستأكلنا الصحراء فيكون ذلك آخر العهد بها؟ وكنا نحدق فيها لننقش صورتها في نفوسنا، حتى نأنس بها في ليالي البعاد، ونذكر فيها آخر آية من آيات دمشق (البلد الحبيب).
وكانت السيارات تسير متعاقبة يكاد ينوء بها ثقل ما تحمل وكانت تحمل فوق طعامنا والشراب الفرش والخيام، والقدور والطباق، ومائتي (صفيحة) بنزين، وعدداً هائلاً من آلات السيارة وأدواتها، وراديو (رادْ) وغير ذلك مما نسيته الآن، فكنا نعوّذها بالله، ونرجو لها التوفيق، وليس فينا من يتحدث أو يتكلم إلا قائلاً كلمة، وسامعاً جواباً، ثم يرجع الصمت حتى طلعت علينا أضواء أذرعات (درعاً) قصبة حوران. . .
بلغنا أذرعات (درعاً) عقب العشاء. فلبثنا فيها ريثما نظروا في جواز سفرنا وريثما صلينا. وأذرعات اليوم بليدة جميلة ذات قسمين - قسم جديد منظم بني على المحطة، وقسم قديم ينأى عنه قليلاً - وفيها سوق كبيرة، وأبنية جديدة، وهي قديمة ذكرتها العرب في أشعارها لأنها - كما قال ياقوت - لم تزل من بلادها في الإسلام وقبله، وأنشد لبعض الأعراب:
ألا أيها البرق الذي بات يرتقي
…
ويجلو دجى الظلماء ذكرتني نجدا
وهيجتني من أذرعات وما أرى
…
بنجد على ذي حاجة مدنف بعدا
وذكرها أمرؤ القيس، وعد ياقوت جماعة من العلماء خرجوا منها، وليس فيها الآن من العلماء أحد (فيما نعلم) يذكر. وعالم حوران وفقيهها اليوم الشيخ التقي الصالح الشيخ الطيبي الدمشقي وهو فوق التسعين، وهو بقية السلف الصالح - وفارقنا أذرعات نسير شرقاً إلى بصرى بعدما هتفنا بآل المقداد أعيان وجوهها ننبئهم بوصولنا، فلم نبلغ نصف الطريق إلى بصرى حتى رأينا أضواء كثيرة ومصابيح تجيء وتروح، فعجبنا أن يكون في البرية مثلها، ودنونا منها فإذا هي أضواء المستقبلين الكرام، هجروا مضاجعهم وأقبلوا يتلقوننا من نصف الطريق. فحيونا ومشوا بين أيدينا يهزجون الأهازيج البدوية حتى بلغنا بصرى.
ولبصرى ذكر في التاريخ مستفيض، ومجد مؤثل، وفيها كثير من آثار الماضي، ولم أكن قد دخلتها من قبل، فما أستطعه رؤيتها في الظلام، ولم ألمح من آثارها إلا صفين من الأعمدة الضخمة، قائمين عند مدخل البلد، على طرفي الطريق الذي سلكناه إلى منزل آل المقداد حيث رأينا الكرم الذي لا كرم بعده.
وبصرى مذكورة في الشعر قديماً وحديثاً، ولكنهم لم يذكروها إلا ليذكروا نجداً، ويعلموا شوقهم إليها، وكأنهم لم يروا فيها ولا في الغوطة ولا في وادي بردى ما ينسيهم تلال نجد
ورماله، وذلك من حكمة الله فإنه لولا حب الوطن ما سكن البلد القفار! فمن قولهم فيها:
أيا رفقة من آل بصرى تحملوا
…
رسالتنا لقيت من رفقة رشدا
إذا ما وصلتم سالمين فبلغوا
…
تحية من قد ظن ألا يرى نجدا
وقولا له ليس الضلال أجازنا
…
ولكننا جزنا لنلقاكم عمدا
ولبثنا فيها إلى موهن من الليل ثم خرجنا يصحبنا دليل من أهلها ليسير بنا إلى (قريات الملح) القرية التابعة لأبن سعود من غير أن نمر على المخفر الإنكليزي في (الأزرق) لأننا لم نستأذن من القنصل الإنكليزي لنمر على بلد من بلادنا. . . وكان أسم الدليل الحاج نمر، وقد زعموه خبيراً بالطرقات، عارفاً بالأرض، خرْيتاً حاذقاً، فتوكلنا على الله، ثم على هذا الدليل الحاذق!
سرنا إلى الجنوب، نخبط في ظلام الليل، لا نتبع جادة مسلوكة، ولا طريقاً واضحاً، يقودنا الحاج نمر. ويا ليت أسمه الحاج غراب، فقد أضلنا، كما (قد ضل من كانت الغربان تهديه). . . حتى بلغنا قرية كبيرة أسمها (أم الجمال) فيها بنيان كثير، وأزقة وطرقات، وفيها برج عال قديم، ولكنها مهجورة منذ قرون. . . ليس فيها ديْار ولا نافخ نار، وهي موحشة في رأد الضحى فكيف بها في الليلة الظلماء؟ فما كان من صاحبنا الحاج غراب إلا أن دير به وغثت نفسه وجعل من الدوار والغثيان يقيئ وفقد رشده، فصبرنا عليه حتى أفاق فسألناه عن أمره، فإذا هو لم يركب في عمره سيارة قط ولذلك دار رأسه، فعالجناه حتى بريء فلما رأى الطريق مختلطاً عليه، فأمرنا بالوقوف في هذه البليدة الموحشة التي لا يسكنها إلا الجن. . . وذهب في سيارة يكشف لنا الطريق، فانتظرناه إلى الفجر فلم يرجع، وكانت ليلة ما أذكر أني رأيت مثلها برداً، ونحن في العراء فأحسست والله كأن عظامي ترتجف من البرد، وبلغ منا النعاس وما نطيق أن ننام، وأين وكيف ننام؟
فلما طلع النهار، وتعارفت الوجوه، رأينا الحاج غراب على بعد خمسين متراً منا، وإذا المحترم ينتظر أن نأتي إليه. . .
وأردنا على الإسراع قبل أن يبصرنا بعض أعوان المستر كلوب، ملك البادية المسمى (أبو حنيك) لأن رصاصة كانت قد أصابت حنكه فتركت فيه أثراً. وسألناه، هل يعرف الطريق أم يخبط بنا خبط أعشى، فعجب من سؤالنا وأكد لنا أنه يعرف البلاد كلها شبراً شبراً، وأنه
سلك هذه الطرق بعدد شعر رأسه، فاطمأننا وسرنا معه، وكانت الشمس قد طلعت، وانقضت أول ليلة من ليالي الرحلة.
فاطمأننا وسرنا معه، فصعد بنا جبلاً وعراً فيه أحجار وحفر، فسرنا فيه ساعة كاملة وهو لا يزداد إلا وعورة، فقلنا له: ويحك يا هذا، إلى أين تمشي بنا؟ قال: إن علينا أن نجاوز هذه الوعرة، كي نبلغ قريات الملح من غير طريق الأزرق فقلت له: ويحك، هذا والله البلاء الأزرق والموت الأحمر. وأنه ليوشك إذا أوغلنا في هذه الوعور ألا نخرج منها، فعد بنا ولو إلى الأزرق، فماذا في الأزرق إلا الجزاء النقدي؟
واختلفت الآراء وتجادل القوم، ثم اتفقوا على العودة، فعاد بنا الدليل من حيث جاء، حتى إذا هبطنا الجبل سار بنا في طريق معبدة فسرنا فيها، ثم سرنا وهي لا تنتهي حتى كاد النهار يزول، ثم وجدنا مركزاً من مراكز البترول فيه ضابط إنكليزي، فسألناه: إلى أين تؤدي هذه الطريق؟ فقال: إلى العراق، وقد اقتربتم من الحدود.
فوثب أصحابنا على الدليل يوسعونه سباً وشتماً على أن طوَّح بهم حتى كاد يهلكهم بجهله، وهو صابر ساكت لا ينطق بحرف، فتركه القوم وائتمروا بينهم فقال قائل منهم: أني لأعرف طريقاً في الحرة يصل بنا إلى القريات، وقد جزته فوجدته سهلاً. فقالوا له: سر بنا إليه، فمال بهم ذات اليمين، ثم دار دورة فإذا نحن في حرة من أصعب الحرار واسعة ممتدة الجوانب ملتوية مفروشة بحجارة سوداء لماعة، كأنما قد صبَّ عليها الزيت، حادة الجوانب كأنها السكاكين، فلما بلغنا وسط الحرة رأينا الجادة متروكة مهملة قد تخربت وغطتها الحجارة، فكنا ننزل من السيارة فنزيح الأحجار من طريقها لنمشي؛ وكنا إذا بلغنا هضبة لم تقوَّ السيارة على تسنمها نزلنا فربطنا السيارات بالحبال فجررناها بأكتافنا واحدة واحدة كما تجر الدابة الحرون، واستمر بنا ذلك إلى الغروب، وامتدت بنا هذه الطريق تسعين كيلاً رأينا فيها الموت مما تعبنا، ولم نقف إلا ساعة أكلنا فيها وصلّينا، فلما أن غابت الشمس يّسر الله لنا الخروج من هذه الحرة؛ فلما خرجنا منها إذا نحن حيال قصر الأزرق ليس بيننا وبينه إلا أربعة أكيال أو أقل منها؛ وكان إلى يسارنا أدغال وعرة فيها نبت من نبت الصحراء، فلم نجد بدّاً من دخولها، فدخلناها مكرهين تقوم بنا السيارة وتقعد وتميل وتعتدل حتى أظلم الليل، وبلغنا قاعاً مستوياً فوقفنا وأنخنا للمبيت؛ وكنا حين انتهينا إلى الأزرق بعد
كل هذا الأذى كله، كالذي (فرّ من الموت وفي الموت وقع)!
(لها بقايا)
علي الطنطاوي
إلى أين.
. .؟
للأستاذ محمود محمد شاكر
جلست وصاحبي تحت جنح من الليل كأنه باز أسود قد طوى أفقاً من السماء في كهف من جناحه. وطمس هذا الليل الدامس ذلك الشعاع الذي لا يزال يبرق به وجه صاحبي كلما سكن ظاهره واطمأن. . . وبقيت نفسه من وراء ذلك السكون الوديع تتوقد بأفكارها المشتعلة، وترسل لهيبها يتلألأ على محياه ويتموج. وكان إحساسنا بمعنى الغارة الجوية، يثير النفس ثم يجثم عليها متثاقلاً بوطأته، فلا هو يجعلنا نثور فيخف ما نجد من ثقلته، ولا هو يتركنا نهدأ.
وبقي صاحبي صامتاً لا يتكلم، ولكني كنت أكاد أجد الألفاظ والمعاني وهي تعترك في داخله وتتشاجر. أما إني ما رأيته - أو قل ما أحسسته - كاليوم. لقد كان كالعاصفة من اللهيب مكفوفة في محيطها، تدور وتتراكض، وكان هو هذا المحيط. لقد رحمته حتى كدت مرات أقوم إليه أضع يدي على رأسه، أقول: ذلك مما يخفض عنه بعض ما يغتلي فيه من سعير الفكر. ولكني كنت أهاب أن أشعره أني قد نفذت إلى بعض أسراره التي يريد كتمانها. فسكت معه ساعة أحتال في خواطري لفض هذه الإغلاق التي يضربها على ضمير نفسه، فلست أشك أن بعض الحديث إذا أشتكى خفف وأراح.
لم تكن لي حيلة معه، ولكن طول الصمت بيني وبينه في ظل هذا الليل الأسود كان هو مفتاح هذه الأقفال الكثيرة. وكان الحجاب الذي أسدله دجى الليل هو الحيلة التي جعلته يقلق ويتململ في مجلسه يريد أن يستكتمني وهذا الليل سرّاً من القدر.
ثم سكت سكتة ظننت معها أن أنفاسه قد أبت عليه أن يتنفس بها. لقد كان يجاهد نفسه: كان هو يأبى أن يتكلم، وكان الذي يجده في صدره من الضيق يأبى عليه إلا أن يتكلم. كان نزاعاً هائلاً بين قوتين متحاربتين صارمتين عنيدتين متكافئتين؛ لقد أثبته ذلك حتى كاد يتمزق. أني لأحس بل أسمع صوت التمزيق الذي يحدثه في نفسه هذا الصراع المخيف الرائع بين إلحاح هاتين القوتين في تنازعهما. ومضت الدقائق وأنا أعدها ساعات من عجلة النفس إلى تخفيف العذاب عن هذا الصديق البائس المحطم، والذي يأبى عليه عناده إلا أن يتجلد.
ولكنه ما لبث أن شق كثافة هذا الصمت المبهم بكلمة ضربت فيه:
لست أدري!! لست أدري!!
لقد سمعت لكلماته في أذني صليلاً كما يصل الحجر الصلد على ضربة معول من الحديد الصلب. لقد بغتني بصليلها حتى نسيت أفكاري فيه منذ أول الليل. ولكني سرعان ما اجتمعت لحديثه وأردت أن أحتال للتخفيف عنه ما استطعت، فقلت: وكأني أعلم خبئ ما يشير إليه:
كلنا ليس يدري. وهذه هي الحياة. إنك لا تستطيع أن تعرف الحقيقة حتى تخوض إليها الباطل خوضاً. إن الشك هو أعظم أعمال النفس الإنسانية، فإذا ما أبتُلى به الإنسان فهو بين نهايتين: بين أن يهتدي فيلحق بالذروة فيستوي على عرش من عروش الحكمة، وبين أن يضل ويتزايل فيتدهْدى على هذه الصخور الفكرية العاتية فيتحطم. وأيُّ ذلك كان، فالمسألة كلها قدر محتوم يا صديقي! رُفعت الأقلام وجفَّت الكتب.
لقد رأيت شرارتين تتطايران من عينيه في جوف هذا الظلام، ولكأني اقتدحت بكلماتي من النار التي تكمن في تلك الصخرة الفكرية الململمة التي انطوت عليها ضلوع هذا الصديق المسكين. . .
ثم رأيته يرتد مرة أخرى إلى صمته وصراعه، ولكني كنت أشعر به وهو يلين ويتخشع من كل ناحية. لقد كان هذا الصديق قاسياً عنيفاً، ولكنه كان رقيقاً أيضاً. وكان صبوراً، ولكنه ربما استكان للجزع. وكان مستوحشاً آبداً، ولكنه ربما ألف وطاوع وانقاد، وكأنه لم يجمح مرة. وكان راسخاً شامخاً وطيد الإيمان، ولكني كنت أنفذ إليه أحياناً فأجد الزلزلة التي في قلبه قد جعلته يتزعزع ويتطامن ويضطرب بعضه في بعض اضطراب الموج في تياره:
لست أدري! ولكني أريد أن أحدثك، أريد أن أنبذ إليك من القول لتشركني في بعض الفكر. . .
ثم سكت وسكن، ولكنه أقبل علي وقد جمع أطراف نفسه المبعثرة، يقول:
. . . كانا صغيرين، وكانت أيامهما الصغيرة لا تدرك معنى النظرات التي تلتقي فتتعانق، فتتعقد عقدة لا تحل. وهكذا نسيهما الزمن في معبده الآمن، ثم انتبه يوماً فزفر بينهما زفرة
واحدة فتفرقا. لم يدركا يومئذ شيئاً من معاني الفراق المهلكة التي تمحق النفس بالتأمل واللهفة والحنين، بل نظرا ثم توادعا ثم افترقا ثم نسيا. أو هكذا كان، ولكنه لم يكن في الحقيقة نسياناً، بل كان عملاً من أعمال القدر الغامضة، كان تعبئة للأحداث العظيمة التي تتهيأ فتصنع النفس الإنسانية صنعة جديدة لقد عرفت ذلك فيما بعد. وتسحبت حواشي الحياة بينهما، حتى رقت أيامهما الأولى ثم جعلت ترق حتى استحارت أحلاماً من الذكرى المبهمة ترف على القلب رفيف النسمات: لا ترى بل تحس، ولا تمسك ولكنها تلقي عطرها في القلب وتمضي. نعم لقد نامت العواطف الناضرة الصغيرة في مهد النسيان، ولكنها كانت تنمو أيضاً في جو هذا المهد
ومشى الزمن بينهما يقيم سدوداً وأسواراً من السنين وأحداثها، وكما كبرا وامتدا من أيام العمر، كبرت السماء التي تظلهما وترامت آفاقها، واستحالت الأيام الصغيرة الأولى أشباحاً ضامرة لا تكاد تبين من دقتها وخفائها
ثم فجئهما القدر فتلاقيا بعد دهر طويل كما يتلاقى نجمان في ظلمة الليل، يتناظران لمحة وشعاعاً من بعيد لبعيد. هكذا عرفت.
لقد كان هو يحس في بعض أيامه قبل ذلك اللقاء، أن الفلك قد دار دورته في القدر، وأن القوة المسخرة قد قذفت به في نظام من الجذب جديد، فلم يكد حتى لمح له شعاعها من بعيد يليح إليه بأضوائه وكأنما يقول: أقبل. . . هلم إلي. . . هأنذا. . . هأنذا!
ولم يلبث أن أتم هذا الفلك دورته، فإذا هما يتناسمان في جو عطر تنفح من أرادنه أنفاس الأيام الصغيرة الأولى. . . أيام الطفولة التي تنمو فيها عواطف القلب وتتفتح، كما تنمو الزهرة في أكمامها تحت السحر في مهد الفجر بين روح وشعاع وندى
واجتمعا. . . فإذا هي غادة مضيئة تزهر. لكأن الزمن اختطفها كل هذا الدهر وتسلل بها في بعض مصانعه العجيبة، وجعل يجهد جهده بأنامله النابغة الدقيقة، فهو يجلوها ويصقلها حتى إذا فرغ من فنه الذي اختفى لها به، ردها إليه ينبوعاً من النور الضاحك المرح يترقرق لعينيه ممثلاً في صورتها. . . لقد شبت الصغيرة، ولكن شبابها كان رقة وحناناً في أنوثتها، واستوت فكان استواؤها دقة في فن من جمالها، ونمت نمواً وضاحاً، وكأنما كان يغذوها نور الكواكب ويرضعها روح الزهر. . . لقد وجدها وهي تضوع وتتلألأ من جميع
نواحيها. . . لقد كان يخيل إليه أن النسيم من حولها يطوف بها متعبداً خاشعاً ثم يسعى إليه حاملاً نفحة من نفحات الجنة. فكان يحس دائماً أن جوها ينتقل إليه فينفذ إلى قلبه، فيقعد هناك يتمتم يحدثه بأخبارها أو يصف له منها ما يوعب هذا القلب الحزين افتتاناً ولوعة وحنيناً
لقد شبت الصغيرة. . .، فنضت عنها كل مطارف الطفولة، وتجلت جلوة العروس في زينة من الصبى والشباب. لقد خلعت كل قديمها، ولكن شيئاً واحداً بقي كما هو، لا بل بقي أقوى مما كان وأصفى. تلك هي روحها، الروح القوية الآسرة المتسلطة. تغير كل شيء إلا عيونها التي تشف عن هذه الروح التي لا تتغير. فالنظرة الباسمة الخاطفة التي كانت تخضع بها تمرد ذلك الصبي العارم الصغير، هي هي النظرة الباسمة الخاطفة التي هجمت منه على الرجل فأضاء وميضها له الطريق، وحبسته بأمرها وسلطانها على هذا الطريق نفسه وفي وقت معاً. . .
ثم نحى صاحبي بصره إلى قطع من الليل جاثم من عن يمينه وأطال النظر في جوفه. ثم خيل إلي أنه قد جعل يصغي إلى همس الليل، ويتسمع وسوسته الخافتة إلى رمال الصحراء، وبقي زماناً لا يكاد يتحرك، ثم انتفض في مكانه انتفاضة خفيفة - ما رأيتها ولكن رعدتها جرت في دمي وأوصالي قشعريرة عرفتها
ثم عاد ألي يتنهد ويقول:
هكذا هي. . . أو هكذا كانت. . . أما هو. . .
وارتعشت الكلمات في نبراته وعلى شفتيه فأمسك وسكت، وكأنه عزم ألا يتم ما بدأ من حديثه عن الرجل. فخفت أن ينقطع عن دون خبره، وأردت أن استفزه من حيث أعلم كيف أستنبط نبع حديثه، فعجلت إليه أقول:
أما هو - يا صاحبي! - فقد كان مجنوناً تنشئ له أعصابه المريضة الهالكة معانيها التي لا حقيقة لها في حقيقتها هي، و. .
فانقض علي بصوته يقول:
كلا، كلا! لا تقل هذا. ليس الأمر كذلك لا تعجل عليه إنك لا تعرفه، ولو عرفته فما أظنك تحسن فهم حياته التي يعايش بها الناس. سأحدثك عنه، لقد علمت أنك تريد أن تحملني على
ذلك، ولا بأس إذن. لا أقول لك إني فهمته، واستطعت أن أكشف لنفسي عن سر طبيعته، كلا! بل أقول لك إني لأحس بكل ما يعتلج في قلبه من آلامه، وكأنها عندي هي كل آلامي
إنه رجل قد امتلأ حكمة من طول ما جرب، ومن عنف ما لقي من الأحداث التي نقضت بناء حياته مرة بعد مرة. نعم إنه لملء رجولته تجربة، ولكن. . . ولكني سأصفه لك على كل حال. سأحاول أن أعبر لك عن حقيقة معرفتي به. نعم! هو إنسان غامض مبهم محير، إذا صحبته رأيت من نقائضه التي تجتمع لك من أعماله وظواهره، ما يلتوي بفكرك فيه من هنا إلى هناك، حتى تجد وكأنما أنت تمشي منه في غمض من الأرض منكر قد درست صواه وعفت رسومه وجهلت معالمه. لا تهتدي فيه أبداً إلى شيء تستطيع به أن تقول: هذا هو!! هذه هي الفكرة. . .، هذا هو الطريق!!
سكت صاحبي قليلاً وقد طرح فكره في مذاهبه ثم عاد يقول: فلنعد إلى حديثنا إذن، لقد حملتني على أن أذهب بك بعيداً. . . كذلك كانت هي كما وصفتها لك بل أروع مما وصفتها، حين التقيا على غير موعد يتوقعه أحدهما. . . أما هو فكان يومئذ رجلاً ضرباً متوقداً ثائراً عنيفاً، لا يزال يتمزع من جميع نواحيه كأن في تجاليد شخصه روح وحش شارد لا يألف الحياة ولا هي تألفه. كان فكرة شامخة عاتية عضلة تأبى أن تتهضم لأحد أو تستذل. كان كالبركان في عنفوان فورته تتقلع به صواعقه وزلازله. وهكذا كنت أبداً أعرفه، ولكنه كان مع كل ذلك يحب أن ينطوي على هذه العواصف التي تتقصف برعودها بين جنبيه. ومن أجل ذلك كنت أجد في عينيه أحياناً بارقاً ساطعاً يتدارك ويتلهب، حتى يجعل نظراته كأنها سياط من الأشعة يتضرم اللهب على عذباتها. . لا تعجب، فأشهد لقد خيل لي مراراً أن نظرته هذه إنما تكوي من يتعرض لها أو من يجلده بها، حتى لأخشى أن تكون تترك فيه من آثارها أخاديد تنتفض كسلع النار على الجسد
لا تعجل، ولا تشطط. لقد تعلم أنه كان - مع كل هذا الذي وصفت لك إنساناً وديعاً رقيقاً. كان قلبه خلاصة صافية ممثلة من الحنان والشفقة. ولكنه أصيب بأحداث كثيرة جعلته ظنوناً حزيناً، فهو لذلك يضن بما في قلبه أن يطلع على حقيقته الكاملة أحد من الناس. لم أر - فيمن رأيت من الناس - من هو أبعد منه مذهباً في الاحتراس والحذر، ومع ذلك أيضاً، فلو أنك رأيته في بعض ساعاته لظننت أنه رجل غمر يختدعه عن نفسه كل أحد،
ولكنه ليس كذلك. نعم، لقد كان هشا أحياناً بين يدي من يتناوله. . . فإذا أخذ بالاعتناف والقسر، انقلب الذي فيه ضارباً لا يطيق ولا يطاق
هكذا كان أول ما تلاقيا. . .
ثم صمت صاحبي، وخيل إلي أنه يضحك. لقد كان يخافت من ضحكه، كأنما هو يسخر، ورجع إلي بعد قليل فواصل حديثه: كيف قلت في نعته؟ كان مجنوناً تنشئ له أعصابه المريضة الهالكة معانيها التي لا حقيقة لها في حقيقتها هي. . .!! نعم، ربما كان ذلك صحيحاً من بعض وجوهه، ولكني على يقين من أنك لا تكاد تعرف وجه الحق في تأويل هذا الوصف. لا بأس ومع ذلك، فأي هذا الناس ليس مجنوناً على الحقيقة من بعض نواحيه؟ إنك لو جهدت فتتبعت تاريخ الإنسانية كله لم يخلص لك من أصحاب العقل الكامل إلا أفذاذ قلائل. ومع ذلك، فليس أحد من هؤلاء الأفذاذ قد نجا من قذف الناس إياه بالجنون. ألا فخبرني أي الأنبياء - وهم فضائل الإنسانية الكاملة - بريء أن يقول فيه أهله وعشيرته:(إن هو إلا رجل به جنة) أو (ساحر) أو (مجنون)؟
إن من أعظم حقائق الحياة الدنيا أن العقل لا يستطيع أن يدرك حقيقة العقل، أي أنه لا يستطيع أن يدرك حقيقة نفسه! و. . .
وصدع السكون صوت صفير الغارة الجوية، فانتزع صاحبي ثم قال:
- أليس هذا هو صوت جنون سكان العالم؟ أليس كذلك؟
(لها تتمة)
محمود محمد شاكر
النقابات الإسلامية
للأستاذ برنارد لويس
ترجمة الأستاذ عبد العزيز الدوري
(تتمة)
يأتي مصدرنا الثاني من النصف الثاني للقرن التاسع عشر. ففي سنة 1884م قدم إلياس قدسي (وهو سوري) إلى مؤتمر المستشرقين الدولي نتائج بحثه في السنة الفائتة عن طوائف (دمشق) ويجب اعتبار هذا البحث مصدراً تاريخياً وإن كان حديث العهد، لأن معظم ما يصفه قد اختفى دون أن يدرس ثانية.
يخبرنا قدسي أنه كان على رأس جميع طوائف المدينة (شيخ المشايخ) وكان هذا المنصب وراثياً في عائلة خاصة، ولا يمكن انتخابه أو إقالته أو استبداله بشخص آخر. وكان دوره قابلاً للانتهاء إما بوفاته أو باستقالته (ويكون ذلك أحياناً بتأثير السلطان) وقد كان في زمن أقدم الحاكم الأعلى في جميع شؤون الطوائف. ويحدث المحدثون أن سلطته (أي شيخ المشايخ) كانت في زمن ما واسعة جداً تمتد حتى إلى حق الحكم بالموت. وعلى كل فقد احتفظ لزمن طويل بحق سجن أو تقييد رجال الحرفة أو ضربهم بالسياط. وكان يعيش على وقف وراثي. وقد أنقصت سلطته إلى حد كبير بعد (التنظيمات) أي الإصلاحات العثمانية في القرن التاسع عشر وأصبح مركزه رتبة شرف فقط. وكان شيخ المشايخ في زمن بحث قدسي عالماً كبيراً ولكنه يجهل تماماً جميع الحرف. وكان عمله الوحيد المصادقة على تعيين رؤساء الطوائف الذين يعينهم الأساتذة
ويظهر أن رتبة شيخ المشايخ كانت مختصة بدمشق فقط إذ لا يوجد لها أثر في أية مدينة أخرى. لم يكن باستطاعة شيخ المشايخ حضور جميع اجتماعات الطوائف شخصياً. لذلك كان يرسل موظفاً خاصاً يسمى (النقيب) في حالة وجود اجتماع لترقية بعض الأعضاء إلى صناع أو أساتذة أو لأي شيء يخص المجموع، وعندما كانت وظيفة شيخ المشايخ مهمة وذات نفوذ كان له عدة نقباء. لكن قدسي وجد نقيباً واحداً (زمن بحثه) له معرفة بالحرف وبشؤون الطوائف وهي الصفة التي كانت تنقص الشيخ.
ويلي شيخ المشايخ - شيخ الحرفة - ينتخبه أكبر أعضاء النقابة من بين أبرع ماهري الحرفة، ولم تكن تتبع أية قاعدة في الأولوية سواء أكان ذلك من جهة السن أم طول زمن العضوية فقد يكون الشيخ، وقد كان كذلك في كثير من الحالات، شاباً حدثاً، بل كان يطلب فيه أن يكون فاضل الأخلاق، عاملاً ماهراً محترماً بين رجال الطائفة قادراً على تمثيلهم أمام السلطان. كان منصب الشيخ وراثياً في بعض الطوائف، ولكنه خاضع دائماً لمصادقة المنتجين. ويعين الشيخ لكبر سنه، ويمكن استبداله إن وجد أنه غير جدير بمنصبه. وكانت واجباته: دعوة الاجتماعات وترأسها، وملاحظة المحافظة على مستوى الطائفة، ومعاقبة مخالفي قواعد الحرفة، وتنظيم شئون العمل (وكان هذا يفوض إلى الأساتذة)، والإجازة إلى درجة صانع أو أستاذ، وأن يكون رأس الطائفة المسئول في كل العلاقات مع الحكومة. أما فيما يخص انتخاب الشيخ فقد لاحظ قدسي أنه لم يكن ينتخب بالأكثرية، فعند خلو كرسي الرئاسة يجتمع الأساتذة المتقدمون، ويتناقشون في المرشحين القابلين للانتخاب فإن لم يتفقوا على شيء يعين شيخ المشايخ شيخاً على كل حال. ثم يثبت شيخ المشايخ الشيخ الجديد في حفلة خاصة. كان للشيخ مساعد يسمى شاويش، وعلاقته بالشيخ كعلاقة النقيب بشيخ المشايخ مع هذا الفرق الهام وهو أنه بينما كان النقيب يعين بواسطة شيخ المشايخ كان الشاويش لا يعين إلا بموافقة المنتجين. ولم تكن للشاويش سلطة خاصة. بل كان ممثلاً، وضابط تنفيذ لشيخ الحرفة. ويخبرنا قدسي أن منصب شاويش قديم جداً ولكن الاسم حديث
يشتغل المبتدئ من غير أجرة لعدة سنوات حتى يصل إلى سن الرجولة، وتصبح له مهارة في الحرفة (على كل كان البعض ينال أجراً أسبوعياً زهيداً حسب ما يستحق). ثم يصبح بعد ذلك صانعاً، فإذا لم يتقن حرفته ويتقدم إلى أستاذ بقيت أجوره واطئة ومنع من الاشتغال لحسابه الخاص
كان الصناع في زمن قدسي يشكلون هيكل الطائفة، وكانوا أكثرية عظيمة. ويخبرنا أنهم كانوا حافظي سر الطائفة وناقلي أسرارها ما يليهم
ثم يمضي قدسي في وصف مطول لحفلات الإجازة. يدخل في ذلك اليمين بالمحافظة على أسرار الطائفة والصنع الجيد، وكذا الرسوم والقوانين المتقنة التي تنظم كل مظهر من
مظاهر حياة رجال الطائفة مع كل العلاقات والإشارات المعمول بها. وأخيراً يشير قدسي إلى التشابه بين هذه الحركة وبين الماسونية الحرة في أوربا متسائلاً عما إذا كانت هناك علاقة بين الاثنين
يكفي ذكر الملاحظات عن الطوائف المصرية حيال هذا الوقت لنتبين بعض الاختلاف فشيخ المشايخ غير معروف هنا. وإنما نجد الطوائف تحت رئيس البوليس. . . كان لرئيس الطائفة (ويدعى هنا شيخ الطائفة) سلطة نظارة العمال وتسوية الخلافات فيما يتعلق بمهنهم ومعاقبة المخطئين وكان يدعو مجلساً من المختارين (نواب رئيس الطائفة) عند الضروريات يشكل محكمة قضاء لرجال الطائفة. ولم تكن توجد درجة صانع، بل كان المبتدئ عند إجازته يرفع إلى منزل اسطي أو أستاذ رأساً. وكان يطلب منه صنع شيء نموذجي
ويهمنا بصورة خاصة معرفة أنه كان في طوائف القاهرة نوع من أنواع التأمين ضد البطالة والمرض يتعاون في ذلك جميع الأعضاء
لم تستطع كل هذه التشكيلات التي دامت دون تغير تقريباً حتى القرن التاسع عشر، وأحياناً حتى القرن العشرين مقاومة هزة الفتح الأوربي، ففي كل محاولة في البلاد الإسلامية أخذت طرق الإنتاج القديمة تفسح المجال لطرق جديدة، وهكذا بدأت الطوائف تنحل. وتحولت هذه التشكيلات في أغلب الأحيان إلى اتحادات النوع الأوربي كما اشتركت بعض نقابات تونسية وسورية، ومن الهند الصينية الهولندية في اتحادات العمال الدولية، وهناك نقابات أخرى في دور انتقالي
بقي علينا أن نذكر ناحية غريبة من حياة الطوائف الإسلامية (أي ما يعرف بالطوائف الوضعية)، فمن أزمان متقدمة نجد في البلاد الإسلامية طوائف منظمة كاملة في مراسيمها ونظمها وتقاليدها من نوع آخر من الحرف كاللصوص وقطاع الطرق فكانت (لبني ساسان) أو (نهابي القاهرة) المنظمين سطوة عظيمة لمدة طويلة. وفي دور الفوضى في عصر الخليفة العباسي المقتفي 1106 - 1136م سيطرت طوائف اللصوص في بغداد على هذه المدينة وهذه الطوائف التي لم تكن لها دون شك أية علاقة بطوائف الصناع الحقيقية ساعدت على حط سمعة هذه الطوائف؛ وكانت يتخذها أعداء الطوائف وسائل للتهجم عليها
ما هي النتائج العامة التي تستخلص من هذا العرض للطوائف الإسلامية؟ يظهر لي أننا نستطيع أن نستخلص أربع خصائص تميز تنظيمات النقابات الإسلامية من تنظيمات النقابات الأوربية كما يلي:
أولاً: على العكس من النقابات الأوربية التي ظهرت لخدمة عامة معترف بها ولها امتيازاتها وتدار من قبل السلطات العامة للأمير أو البلدية أو الملك نشأت النقابات الإسلامية من تلقاء نفسها، من الشعب، وتكونت لا إجابة لحاجة الدولة، بل إجابة لحاجات كتل العمال أنفسهم، كما أن النقابات الإسلامية اتخذت، خلال فترة قصيرة، إما عداوة مكشوفة للدولة، وإما عدم ثقة. وقوبل ذلك بالمثل من قبل السلطات العامة سياسية أو دينية. ويظهر مدى هذا الشعور ضد السلطات الحاكمة من بروزه المفاجئ في القرن العشرين في الدور الهام الذي لعبته النقابات في الثورة الإيرانية، ومن التطور المريع للنقابات الإسلامية إلى كتلة ثورية في الهند الصينية. وفي الرابطة القوية بين هذه النقابات وبين الشيوعية الأوربية. ولا ينقص قيمة هذا الاستنتاج منح بعض الأمراء السنيين وضعاً مقيداً للنقابات للحصول على تأييدها كما لا ينفي وجود خلافات في بعض الأحيان بين الحكام الأوربيين والنقابات كون هذه المؤسسات أميرية
ثانياً: تنتج الخاصة الثانية لحياة النقابات الإسلامية أولا مما ذكرناه الآن، وثانياً من حالة طرق الإنتاج التي لم تتغير في الأراضي الإسلامية منذ القرن الثاني عشر حتى القرن التاسع عشر. فلا يوجد في تاريخ النقابات الإسلامية ما يماثل الازدهار العظيم في النقابات الأوربية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، الذي انتهى بانقسام هذه النقابات إلى سادة وصناع:(طبقتين مختلفتين ومتعاديتين). وفي ارتفاع السادة السياسي والاقتصادي العظيم، وفي تنظيم نقابات خاصة للصناع كسلاح في نضال الطبقات العنيف الذي نتج. أما في الإسلام، فقد بقي الأستاذ والسيد والصانع والمبتدئ طبقة واحدة في المجتمع على اتصال شخصي قريب فرتبة الصانع وهي مؤقتة وانتقالية دائماً، وفي أكثر الأحيان غير موجودة، لم تتطور أبداً إلى منزلة اجتماعية دون أمل في الارتقاء إلى رتبة أستاذ، فالنقابة الإسلامية لخلوها من التفريق الاجتماعي الداخلي الذي يقسم النقابة الأوربية، حافظت على خاصتها التي انطبعت بها عندما ظهرت في القرنين العاشر والحادي عشر، وهي المساواة
بين أفرادها كطبقة في المجتمع في شكلها الخاص كثورة العمال ضد ارتفاع الرأسمالية الاقتصادية والتجارية عندئذ.
ثالثاً: والميزة الثالثة في الطوائف الإسلامية: هي كونها تضم أفراداً من مختلف الطوائف فبينما أبعدت الطوائف الأوربية من صفوفها حتى المسيحيين المختلفي المذاهب، نجد الطوائف الإسلامية مفتوحة لليهودي والمسيحي والمسلم على السواء، بينما تجد بعض الطوائف الإسلامية تسودها الأغلبية الغير مسلمة
رابعاً - وختاماً يجب أن نلاحظ أهمية الحياة الداخلية الروحية في النقابات الإسلامية، فعلى العكس من الطوائف الأوربية لم تكن النقابة الإسلامية تشكيلاً مهنياً فقط فمذ أن كانت النقابة تشكل جزءاً من نظام الدعاية الإسماعيلية حتى الوقت الحاضر احتفظت هذه النقابات دائماً بمثلها المتأصلة فيها وقوانينها الأخلاقية والأدبية التي كانت تدرس لكل المبتدئين في نفس الوقت الذي تعلم فيه الحرفة.
عبد العزيز الدوري
(الرسالة): عالج الأستاذ برنارد موضوع الطوائف الإسلامية علاجاً حساً، ولكن ضعف المترجم وجهله ببعض المصطلحات التاريخية أصابا بشيء من التفكك والغموض.
من نواحي المجتمع
بين مفتش وموظف
للأستاذ محمود محمد سويلم
حدثني من أثق به أيام مقامي (بمنفلوط) أن مفتشاً تردد على موظف حتى أضجره وضايقه، وكان ضرورياً أن يقصر الموظف أو تقصر يده عن إجابة رغبات رئيسه الذي لا تكاد تنتهي له زيارة حتى تبدأ أخرى، فأحس المفتش بهذا التقصير وكبر عليه وصوره له شيطانه بصورة مثيرة فأضمر الشر لصاحبه؛ وانطبعت دخيلة نفسه على محياه فقرأ الموظف المسكين هذه الآيات الصامتة التي تفصح في غير عبارة عما انطوت عليه نفس رئيسه من ضغينة لا يدري إلا الله مداها، وكأنه في موقفه هذا جهد نفسه على أن يخفي ما ألم بها فيقابل رئيسه بشيء من المداراة والابتسام المتكلف. وكيف يتهيأ ذلك لنفس ساذجة لم تألف هذا التلون ولم تعتد هذا النفاق؟ فلم يفلح في هذه المحاولة وظهر على وجهه من العبوس ما ظهر على وجه رئيسه، فتهاجرا وتدابرا ووجد الشيطان الفرصة سانحة فأغرى كلاً بصاحبه؛ فكتب المفتش والموظف إلى الرياسة جميعاً
فماذا كتبا
قال محدثي: لقد طلب المفتش عزل الموظف لأسباب أبداها
يا الله! ألم يقدر هذا المفتش مآل أسرة تحيا في ظلال عيش آمن إن لم يكن ناعماً ولا مترفاً، يريد نقلها إلى بؤس الحياة
ألم يقدر وهو المؤمن بالله واليوم الآخر موقفه بين يدي جبار الأرض والسموات موقف الظالم والمظلوم (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم)؟ نعم لم يقدر شيئاً من ذلك؟ لماذا؟
أما الموظف فما عسى أن يكتب وهو لا يطمع في انتصاره على رئيسه، ولو كان محقاً، ولا في السلامة من شره وإن قام بأعباء وظيفته على خير حال؟
لكنه برغم ذلك أبى إلا أن يكون جريئاً وإلا أن يقابل الشر بالشر فكتب إلى الجهة نفسها يقول:
(إما أن تزيدوا في مرتبي حتى يكفيني والمفتش جميعاً، وإما أن تزيدوا في مرتب المفتش
حتى يعف)
نتيجة محزنة ومأساة مروعة في الأخلاق وفي الفضيلة
لقد كان من عادة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يبعث مندوباً إلى عماله الذين تمولوا على حساب العمل فيقاسمهم أموالهم مناصفة ليأخذ نصفها فيضعه في بيت مال المسلمين فاتفق له مرة أن أرسل مندوباً إلى كبير من ولاته لهذا الغرض، وكان هذا الوالي داهية، فحاول أن يخدع مندوب الخليفة كي يتغاضى عن بعض المال، فأمر بإعداد مائدة من أشهى الأطعمة وأفخر الألوان؛ فلما مدت المائدة ورأى مندوب الخليفة ألوان الطعام أدرك على الفور أنها خدعة، فثارت ثائرته، وقال للوالي في صراحة الحق وشجاعة الإيمان: أكل ضيف تقدم له مثل هذا؟ والله لا آكل من طعامك شيئاً. هات ما لك أقاسمك إياه!. . . فلم ير الوالي بداً من الخضوع للأمر. ونعود فنقول ما قال الأول:
فأين الثريا وأين الثرى
…
وأين الحسام من المنجل؟
نعم شتان بين من هذبهم الإسلام فزكى نفوسهم وطهر جوارحهم، وأشربت قلوبهم محبته، فلا سلطان إلا سلطان الله، ولا فكر إلا في دين الله، ولا عمل إلا بوحي الله الذي أرسل به رسوله. . وبين من تملكت المادة نفوسهم، وطرفت الدنيا عيونهم، ولعبت الشهوات بقلوبهم وعقولهم
ماذا ينتظر الرئيس من مرؤوسة؟ أينتظر منه أداء مهمته على الوجه الأكمل ليرضى ربه وضميره والناس ويأكل رزق الله الذي أفاض عليه حلالاً طيباً، أم ينتظر منه أن يحسن الملق والدهان والسير في الركاب. . . وإن ترك أعمال وظيفته جانباً وأكل مال الدولة سحتاً حراماً
محمود محمد سويلم
واعظ سمالوط
كتاب رسوم دار الخلافة
لهلال بن المحسن الصابئ
للأستاذ ميخائيل عواد
استوطن بغداد في صدر الدولة العباسية فئة نحلتها الصابئية، نزحت إليها من حران والرقة المشتهرتين بمنازل الصابئة. تلك الفئة هي آل زهرون وأنسابهم آل قرة.
أصابت هذه الجماعة الصابئية في بغداد نصيباً وافراً من العلم والأدب والطب، فمهرت في كلياتها وجزئياتها، ودفعتها فطنتها وتوقد ذكائها إلى تقلد جلائل الأعمال بخدمة خلفاء بني العباس وأمرائهم ووزرائهم، فسار ذكرها في الآفاق، وكان عليها العماد لطائفة من الأعمال التي قامت بها خير قيام.
ومما زاد في علو شأن هذه الأسرة أن جماعة من أفرادها خلفوا مؤلفات جليلة في بحوث نافعة كالأدب والتاريخ والطب والفلك وغيرها. وسيكون مدار كلامنا على أحد أعلام هذه الأسرة وهو: (هلال بن محسن الصابئ).
مولده ونشأته
هو أبو الحسين (وقيل أبو الحسن) هلال بن المحسن ابن أبي إسحاق إبراهيم بن هلال بن إبراهيم بن زهرون ابن حيون الصابئ الحراني، لقب بالرئيس، كان مولده ببغداد في شوال سنة تسع وخمسين وثلثمائة للهجرة، ونشأ بها وكان أبوه المحسن صابئياً، وأمه أخت ثابت بن سنان بن قرة الطبائعي المؤرخ الشهير. وقد أسلم هلال في أواخر أيامه، وحسن إسلامه. ويعد أول أبناء بيته الذي ترك نحلته القديمة ليسلم
تغلغل هلال في دار الخلافة العباسية ببغداد، فعرف نواحيها ورسومها وأسرارها، وبرع في آداب الخلفاء ومجالستهم حتى فاق جده إبراهيم؛ ذاك الذي خنق التسعين في خدمتهم. وتولى هلال أموراً عديدة منها ديوان الإنشاء، وعين حيناً كاتباً لأسرار فخر الملك أبي غالب محمد بن خلف الذي ترك له مبلغاً كبيراً من المال عند وفاته، غير أن هلالاً امتنع عن التصرف فيه، لأنه كان يتقاضى ما يمكنه من العيش من الدولة فترك الإرث لأبنه غرس النعمة.
اشتهر هلال بتاريخه، كما اشتهر جده إبراهيم برسائله. وقد أدرجه القفطي في كتابه (تاريخ الحكماء) في سجل من اشتهر بتدوين التاريخ. فهو يبتدئ بذكر الطبري، وينتقل إلى ذكر أحمد بن أبي طاهر وولده عبيد الله فالفرغاني، إلى أن قال:(فإن قرنت به (أي كتاب التاريخ لثابت بن سنان) كتاب الفرغاني الذي ذيل به كتاب الطبري فنعم الفعل تفعله، فإن في كتاب الفرغاني بسطاً أكثر من كتاب ثابت في بعض الأماكن، ثم كتاب هلال بن المحسن بن إبراهيم الصابئ، فإنه داخل كتاب خاله ثابت وتمم عليه إلى سنة سبع وأربعين وأربعمائة (أي قبل وفاته بسنة واحدة)، ولم يتعرض أحد في مدته إلى ما تعرض له من إحكام الأمور والاطلاع على أسرار الدول، وذلك أنه أخذ ذلك عن جده لأنه كاتب الإنشاء ويعلم الوقائع، وتولى هو الإنشاء أيضاً، فاستعان بعلم الأخبار الواردة على ما جمعه ثم يتلوه كتاب ولده غرس النعمة محمد بن هلال، وهو كتاب حسن إلى بعد سنة سبعين وأربعمائة بقليل، وقصر في آخر الكتاب لمانع منعه الله أعلم به. . .)
ثم شهد له مرة أخرى حيث قال: (ولولاهما (ثابت وهلال) لجهل شيء كثير من التاريخ. . .)
وهذا السخاوي نجده يذكر هلالا في ثبت من ألف في التاريخ العام، ثم يعود إليه ثانية فيذكره ضمن من اشتهر في كتابة تواريخ الوزراء
سمع هلال قبل أن يسلم جماعة من مشاهير النحاة وتأدب بهم، منهم: أبو علي الفارسي النحوي، وعلي بن عيسى الرماني، وأبو بكر أحمد بن محمد بن الجراح الخراز. فنبغ في علمه وأدبه حيث قال فيه سبط ابن الجوزي:(. . . كان هلال من الفصحاء وله الكلام الفصيح والنثر المليح)
اشتهر بالصدق والأمانة، كما شهد له بهذا فريق من مشاهير الكتبة. منهم الخطيب البغدادي الذي كان معاصراً له قال فيه:(. . . كان هلال ثقة صدوقاً). وذكره آخرون بكل ثناء وتقدير في مناسبات مختلفة: كياقوت الحموي، وابن أبي أصيبعة وابن عبد الحق، والسخاوي، وحاجي خليفة، وغيرهم. . .
توفي هلال ليلة الخميس سابع عشر رمضان سنة ثمان وأربعين للهجرة عن تسع وثمانين سنة. قال فيه ابنه: (توفي والدي الرئيس أبو الحسين هلال. . . فانتفض السؤدد بمصابه،
وانثلم الفضل بذهابه)
وتوفي هلال عن بعض الولد، أخصهم بالذكر أبو الحسن محمد (غرس النعمة) رزقه سنة 416 للهجرة بعيد انتقاله إلى الإسلام حيث قال عن نفسه في قصة إسلامه: إن النبي (ص) قال له في المرة الثانية: وتحقيق رؤياك إياي أن زوجتك حامل بغلام، فإذا وضعته فسمه محمداً. فكان كما قال. ولد له ذكر فسماه محمداً. وكناه أبا الحسن. وكان هذا الأمر من جملة ما رآه هلال في منام ومجيء النبي (ص) إليه ثلاث مرات يدعوه بها إلى الإسلام.
نشأ محمد غرس النعمة في كنف أبيه وفي رعايته، فأخذ عنه العلم والأدب فنبع فيهما. وقضى بعض الزمن في دار الإنشاء للخليفة القائم. قال سبط ابن الجوزي في أول حوادث سنة 448:(من أول هذه السنة ابتدأ أبو الحسن محمد بن هلال بن المحسن ابن إبراهيم الصابئ الكاتب، ويسمى غرس النعمة تاريخه وذيله على تاريخ أبيه هلال، وزعم أن تاريخ أبيه انتهى إلى هذه السنة). وصنف كتباً أخرى نفيسة كان مصيرها الضياع
وكانت وفاة محمد غرس النعمة سنة ثمانين وأربعمائة، فزال مجد بيته بموته
وضع هلال طائفة من الكتب الجليلة في بحوث منوعة، سطت على أغلبها يد الزمن العاتية، فلم يسلم منها إلا النذر اليسير
وقد اقتصرت المراجع القديمة على ذكر بعض مؤلفاته فإن ابن خلكان يقول: (. . . ورأيت له تصنيفاً جمع فيه حكايات مستملحة وأخباراً نادرة. وسماه كتاب الأماثل والأعيان ومنتدى العواطف والإحسان، وهو مجلد واحد، ولا أعلم هل صنف سواه أم لا. . .)
وذكر هذا الكتاب ياقوت الحموي قال: (. . . وصنف (هلال) كتاب الأماثل والأعيان. . . جمع فيه أخباراً وحكايات مستطرفة مما حكي عن الأعيان والأكابر، وهو كتاب ممتع. ومما يستحسن من تلك الأخبار، قال: حدث القاضي أبو الحسين عبد الله بن عياش (عباس الأصل) أن رجلاً انصلت عطلته وانقطعت مدته. . .)
وقد جاء باسم (الأعيان والأمثال) في كتاب بدائع البدائه لعلي بن ظافر الأزدي المصري
أولاً - قلنا: هذا الكتاب هو تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء، وهو تكملة لتآليف الصولي والجهشياري، ولم يبق لنا منه إلا البداءة التي نشرت، حيث أن تراجم بعض الوزراء قد فقدت. ذكر فيه أخبار وزراء بني العباس وشرح أحوالهم ومجاري أمورهم. ابتدأه بأخبار
أبي الحسن علي بن محمد بن موسى بن الفرات نشره المستشرق الإنكليزي آمدروز (بيروت مطبعة الآباء اليسوعيين، سنة 1904) ووضع له مقدمة وملاحظات باللغة الإنكليزية في نحو 40 صفحة، وفهرساً لأسماء الرجال وآخر لأسماء الأماكن. وفي أوله نبذة في ترجمة هلال الصابئ ومؤلفاته، نقل أغلبها عن سبط بن الجوزي، وورقتان بالفتغرافية في جانب من ترجمة أبي إسحاق الصابئ
ثانياً - كتاب التاريخ: ذيل فيه تاريخ خاله ثابت بن سنان - كما صرح بذلك القفطي في تاريخ الحكماء ص110 - ويحتوي على الحوادث التي وقعت من سنة 360 - 447هـ. والقطعة التي نشرت تحوي حوادث السنوات (389 - 393هـ) وإن الأخبار الصادقة في هذه القطعة لخير برهان على نفاسة الكتاب. نشره أيضاً آمدروز مع تحفة الأمراء بعنوان: (الجزء الثامن من كتاب التاريخ)(ص366 - 484)
ثالثاً - غرر البلاغة في الرسائل: وهي مقتطفات من رسائله الخاصة به. ذكره القلقشندي حين كلامه على نسخ الأيمان المتعلقة بالخلفاء، واقتطف منه نسخة يمين
رابعاً - كتاب الرسالة عن الملوك والوزراء: وهو مجموع رسائله الرسمية، وتذكرنا رسائل جده أبي إسحاق إبراهيم الصابئ
خامساً - كتاب أخبار بغداد: وهو تاريخ جليل لمدينة بغداد يشهد بذلك ما نقله ياقوت عنه في معجمه البلداني
سادساً - كتاب مآثر أهله: وهو تاريخ لأهل بيته. ولا شك أنه حوى معلومات طريفة عمن نبغ من أهله في مختلف النواحي العلمية والأدبية والسياسية
سابعاً - كتاب الكتاب: وهو تأليف يخص كتبة الأسرار والظاهر أنه على غرار مصنف الصولي واسمه كاسمه
ثامناً - كتاب السياسة: لم يصل إلينا منه شيء
تاسعاً - كتاب رسوم دار الخلافة: وهو الذي نعني بتحريره وتعليق حواشيه ونشره
وقبل البدء في وصف هذه المخطوطة نقول: إن مؤلفات هلال هي تسعة، عرف منها حتى الآن:(1) تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء، (2) قطعة من كتاب التاريخ، (3) رسوم دار الخلافة.
وصف شامل لمخطوطة رسوم دار الخلافة
1 -
عثر عليها في دار الكتب الأزهرية بالقاهرة، وهي خالية من الرقم
2 -
عنوانها مثبت بمفرده على الصفحة الأولى وبالصورة التالية: (رسوم دار الخلافة تأليف أبي الحسين هلال بن المحسن ابن إبراهيم الصابئ)
3 -
تشتمل المخطوطة على 203 صحائف في كل منها بين 8 - 14 سطراً
4 -
كتابتها يغلب على نوعها الخط الديواني، صعب القراءة وقد استعمل الناسخ لألفاظ الأعداد كتابة ديوانية أيضاً لكنها في منتهى الغرابة، إذ يصعب حلها وقراءتها، وقد يحار بين يديها الكثير من النساخ والكتاب، حتى من تضلع من قراءة المخطوطات المغلقة.
5 -
المخطوطة حافلة بالكلمات المغلقة، قليلة التنقيط، خالية من الحركات وعلامات الوقف. وهذه النواقص وغيرها جعلت كثير من الكلمات تقرأ على غير وجه واحد
6 -
في بعض مواطنها شيء من الخرم، كما أن الأرضة لعبت لعبها فاستساغت أكل بعض المواضع فغاب رسمها
7 -
وردت كلمة (رحمة الله عليه) 46مرة، فكتبت 45 مرة بالتاء المربوطة أو المعقودة
8 -
استعمل المؤلف كثيراً من الكلمات الفارسية التي شاع استعمالها في الدولة العباسية، وكان قد ألفها الناس وجرت على ألسنتهم، وغالب هذه الكلمات هي أسماء لآلات الحرب، وطائفة من أسماء اللباس والطعام
9 -
جاء في الصفحة (203) وهي الأخيرة العبارات التالية:
(عورض به الأصل بخط المصنف وصح والحمد لله رب العالمين) وأعقبها: (الحمد لله وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما وحسبنا الله ونعم الوكيل)، ويتلوهما ما نصه: (كان الفراغ من نسخه يوم الثلاثاء التاسع من رجب سنة خمس وخمسين وأربعمائة من الأصل بخط الأستاذ أبي الحسين هلال بن المحسن بن إبراهيم رحمه الله اهـ
وهذا النص يبين لنا قدمها، وكانت استنسخت عن نسخة المؤلف بعد وفاته بسبع سنوات، وعلى ما بدا لنا، فإن هذه النسخة فريدة، لأن فهارس المخطوطات العربية في خزائن كتب أوربة والشرق لم تشر إلى وجودها فيها
يتقوم الكتاب من تسعة عشر فصلاً عدا المقدمة والخاتمة وهي كما يلي:
(الصفحة2 - 8) المقدمة، (8 - 37) ذكر أحوال الدار العزيزة (دار الخلافة)، (38 - 98) آداب الخدمة، (98 - 109) قوانين الحجابة ورسومها، (109 - 117) من الرسم أن يزم الناس فلا يسمع لهم صوت ولا لغط، (118 - 124) آداب مسايرة الخلفاء في المواكب، (127 - 133) خلع التقليد والتشريف والمنادمة، (133 - 137) ما يحلف به الخليفة عند التقليد والتشريف بالتكنية واللقب، (137 - 144) رسوم المكاتبات عند الخلفاء في صدورها وعنواناتها والأدعية فيها وما يعاد منها في أواخرها، (144 - 148) خطاب الخلفاء قي الكتب والأدعية، (148 - 151) رسوم الكتب عند الخلفاء، (152 - 171) الدعاء للمكاتبين عن الخلفاء وما كان الرسم أولاً جارياً به وانتهى أخيراً إليه، (171 - 174) الانتساب إلى مولى أمير المؤمنين، (174 - 177) ما يذكر في أواخر الكتب. . . (177 - 179) الطروس التي يكتب فيها إلى الخلفاء وعنهم؛ والخرائط التي تحمل الكتب صادرة وواردة، (192 - 194) ضرب الطبل في أوقات الصلوات، (194 - 196) خطب النكاح، (196 - 203) خاتمة الكتاب
ويؤخذ من كلام هلال في مقدمة الكتاب وخاتمته أنه ألفه في زمن الخليفة العباسي القائم بأمر الله، وأنه استفاد كثيراً من خبرة جده إبراهيم في مثل هذه الشؤون التي ينطوي عليها الكتاب
(بغداد)
ميخائيل عواد
الحرب في أسبوع
للأستاذ فوزي الشتوي
التاريخ يسجل
لم يشهد التاريخ انسحاباً موقفاً مثل انسحاب قوات الحلفاء من بلجيكا، ولم يشهد التاريخ أيضاً تقهقراً أكسب القوات المتراجعة روحاً معنوية كالذي كسبته جنود الحلفاء في معركة الفلاندر. فقد عملت الحوادث على إرسال موجة شديدة من اليأس والتشاؤم في صدور العسكريين، حتى رأى بعضهم أن الانسحاب لا يتم إلا بمعجزة. وهانحن أولاء نرى المعجزة تتم، ونرى جنود الحلفاء في بلادهم بعد ما تسلحوا بعزم جديد وروح جديدة هي الاستخفاف بالقوة العسكرية الألمانية
فخبرها جنود الحلفاء وهي في أحسن أحوالها وأقوى مواقعها بينما كانوا هم في أسوأ أحوالهم، وأحوج موقف يمكن أن يوضع فيه جيش. إذ يفاجئون بانسحاب القوات البلجيكية التي كانت تحتل مواقع هامة؛ ويؤدي إلقاؤها لسلاحها إلى كشف ظهر قوات الحلفاء. فإذا هي تسعى لضم جموعها، وإذا هزمتها محققة.
ومع هذا، فعزيمتها لا تلين، وأملها في النجاة لا يضعف، وصبرها على أهوال القتال لا يتضعضع. فلم يفت في عضدها القتال المستمر عشرين يوماً ليل نهار. ولم يوهن من قوتها وروحها المعنوية انقلاب المآل من حال إلى حال. فأي عزيمة وأي صبر احتمال سلحت بها قيادة الحلفاء جيوشها؟ لا شك أن القيادة الرشيدة كانت عاملاً فعالاً في إقرار هذه الروح في الجنود، ولا شك أيضاً أن أخلاقاً قوية ساعدت القيادة على تحقيق أغراضها والوصول إلى أهدافها. لقد خسر الحلفاء هذه المعركة بالخيانة، ولكنهم كسبوا نصراً عسكرياً وتعلموا كيف يواجهون الألمان ليحرزوا النصر النهائي
الشجاعة تفوز
أما عوامل اليأس من إنقاذ هذه القوات فكانت كثيرة أهمها:
1 -
تسليم الجيش البلجيكي
2 -
إغلاق طريق الانسحاب لضيق البقعة الأرضية فلم يبق إلا منفذ البحر مع وعورة
مسالكه
وتم استسلام الجيش البلجيكي في ظروف غريبة شاذة، فبينما كانت قوات الحلفاء تواصل قتالها يلقي ملك البلجيك سلاحه دون إخطار، ويضع جيوش الحلفاء في مأزق حرج. فقد كانت قواته تقاتل في مراكز رئيسية كانت جيوش الحلفاء لها بمثابة احتياطي يسد العجز الذي يطرأ على بعض نقطها
ولهذا توزعت فرق الحلفاء بين القوات البلجيكية، فلما ألقت هذه السلاح انعدم الترابط بين قوات فرنسا وإنجلترا. ووجدت نفسها محاصرة بقوات ألمانية تحتل مواقع الجيش لبلجيكي الذي كان بالأمس ظهيرها وعمادها.
ثمن الخيانة
لقد تورعنا في مقالنا الماضي عن التصريح بأن عمل ملك البلجيك كان خيانة مقصودة؛ أما الآن فإننا إزاء ما عرف من تصرفاته قبل التسليم وبعده، وعن الثمن الذي تقاضاه لا نجد مفراً من التصريح بما أخفينا. فقد خان القوات التي آزرته خيانة أدت إلى قلب الموقف العسكري انقلاباً كبيراً أفسد جزءاً هاماً من خطط الحلفاء.
أما الثمن الذي تقاضاه ليوبولد الثالث فهو حكم بلجيكا وهولندا والمناطق المحتلة من شمال فرنسا. وليته تقاضى هذا الأجر حراً أو بشرط الاستقلال، ولكنه يتقاضاه وسيف هتلر مصلت على رأسه، فبعدما ما كان ملكاً مستقلاً شريفاً أصبح تابعاً خائناً لقضية الديمقراطية بزعامة هتلر
ضيق الميدان
ننتقل بعد هذا إلى النقطة الثانية، وهي ضيق مجال الانسحاب فقد كانت جيوش الحلفاء تقاتل في رقعة صغيرة من الأرض يليها البحر. فكان مجال التراجع ضيقاً لا يعطي للقوات المنسحبة الميدان الكافي لإنشاء خطوط قتال جديدة. ولم يكن هناك مفر من إخلاء الميدان والاستعانة بالأساطيل البحرية لنقل الجنود، وهي مهمة شاقة محفوفة بالأخطار تستلزم تجمع القوات في بقاع صغيرة. فيسهل الفتك بالقوات سواء بالطائرات أو بالمدافع البعيدة المرمى.
ومن مبادئ العلوم العسكرية ألا تتجمع القوات بأعداد كبيرة في بقعة محدودة حتى لا تكون هدفاً سهلاً لطائرات العدو وتكون خسائرها كبيرة، ولكن تحقيق هذا المبدأ لم يكن سهلاً في هذه الحال ولا سيما بعد أغلق بعض الموانئ بإغراق بعض السفن المحملة بالأسمنت فيها فسدت مسالكها وتعذرت الملاحة فاضطر الحلفاء إلى الاعتماد على ميناء دنكرك وحده
القوة الكامنة
وتيسر تذليل هذه العقبة بتعاون وحدات الطيران والبحرية في إبعاد قوات العدو وتدمير خطوط مواصلاته. فوجهت إنجلترا عدداً هائلاً من سفنها الحربية والمدنية، وعبأت جميع قواتها البحرية من سفن صيد ونوادي تجديف وغيرها لنقل الجنود وحمايتهم. فتم الانسحاب بنجاح كبير وخسائر قليلة مني الألمان بأضعافها. ودلت هذه الحركة على ما في الأمة الإنجليزية من قوة كامنة تظهر في وقت الشدة
واستغل الحلفاء طبيعة الأرض حول ميناء دنكرك لإبعاد قوات الألمان عنها فغمروا الأراضي في شمالها وجنوبها بماء البحر واضطرت قوات الألمان إلى وقف تقدمها خلف حواجز الماء، بينما ترك الطريق التقهقر مفتوحاً من الشرق لقوات الحلفاء التي استمرت في قتالها أثناء انسحابها النظامي. فليس معنى الانسحاب ترك الميدان دفعة واحدة؛ بل إنه يتناول عدة حركات عسكرية. فبينما يهاجم جزء من القوات الجيوش المعادية يتراجع الجزء الآخر وهو يحمي مؤخرة القوات المقاتلة؛ وهكذا يستمر الحال فيتيح الفرصة للجزء الأكبر من القوات للوصول إلى أهدافها.
وفي الحرب الماضية
وإذا عدنا إلى سنة 1914 حين انسحبت الحملة البريطانية من خط بنش كونديه إلى جنوب نهر المارون نجد المجال الواسع الذي كان أمام تلك القوات، إذ كان ميدانها عريضاً تحمي جانبيه قوات فرنسية ولا تقلقه قوات الطيران كما هي الحال الآن. فكانت القوات تتراجع بنظامها العادي دون أن تلجأ إلى التجمع ودون أن تكون هدفاً صالحاً؛ واعتبرت حركة انسحاب الجنرال فرانش عملاً عسكرياً بارعاً نظراً لكثرة القوات التي كان يحاربها
وفي الانسحاب الأخير توفر للألمان الكثرة العادية العددية واستغلال الطائرات والموقف
الحربي الممتاز. يضاف إلى ذلك ضيق مجال تراجع الحلفاء واقتصارهم على إنزال قواتهم من ميناء واحد تتعذر فيه الحركات البحرية لسببين: ضيق مدخله، وعوامل المد والجزر، وهما يستلزمان براعة كبيرة في القبض على دفة السفن
ولا تعتبر موقعه الفلاندر نصراً كبيراً للألمان، لأن قوات الحلفاء خرجت منها سليمة ولم تخسر إلا 20 % منها، وهذه القوات ستعود إلى ميدان القتال في فرنسا بعد أن تأخذ قسطها من الراحة. ولا تعتبر الموقعة حاسمة إلا إذا انتهت بتشتيت شمل قواتها على الأقل أو إبادتهم وهذا ما لم يحدث في معركة الفلاندر بل بالعكس أن الجنود الإنجليزية والفرنسية عرفت أثناءها فقط الضعف في القوات الألمانية بحركاتها العسكرية الحديثة وستستغل هذا الضعف في المواقع المقبلة. وكفى أن يؤمن الجندي بأنه أبسل وأقوى من عدوه ليقهره. وشعرت ألمانيا بفشلها فأسرعت في صباح يوم الخميس بتوجيه هجومها إلى جبهة السوم لتحصل على ما فقدته في الفلاندر. والمعروف أن معركة الفلاندر أتاحت لقوات السوم أن تحصن مواقعها
وإيطاليا؟!
من الواجب أن نناقش مسألة حربية ذات أهمية خاصة بالنسبة لنا، وهي مسألة دخول إيطاليا الحرب. فقد أصبح من المقطوع به اشتراكها فيها. ولكن هل من مصلحة إيطاليا أولاً والمحور ثانياً اشتراكها فيها؟ هذا سؤال لا يتردد الخبراء العسكريون في الإيجاب عنه بالسلب. فليس من مصلحتهما لا من الناحية العسكرية ولا من الناحية الاقتصادية أن تلج هذا السبيل
أما من الناحية العسكرية فقد ناقشنا موقف إيطاليا في البحر الأبيض المتوسط في مقال تبعاً لمواقعها العسكرية والقواعد البحرية التي تسيطر عليها. وبقي أن نتكلم عن قواتها العسكرية وموقعها الجغرافي ومقارنة هذه القوات بقوات الحلفاء مع ملاحظة تشتت الإمبراطورية الإيطالية في بقاع يسهل عزلها. فمستعمراتها في شرق أفريقيا محاطة بالممتلكات البريطانية فضلاً عن سهولة قطع مواصلاتها بإيطاليا بإغلاق قنال السويس في الشمال والبحر الأحمر من الجنوب، ثم فرض الرقابة البحرية على خطوط المواصلات البحرية عن طريق راس الرجاء الصالح
وفي الشمال توجد تونس وهي محاطة بقوات الحلفاء من جميع جهاتها. والغالب أن يتم الاستيلاء عليها في فترة قصيرة من الزمن. وقد نعود إلى الحديث عن هذا الموضوع في مقال آخر
ومن الناحية الاقتصادية فإن إيطاليا بلد فقير بدأت عمرانها بطيئاً عقب استيلاء الفاشست على كراسي الحكم. وقد استنفذت كثيراً من مواردها في حرب الحبشة وحرب إسبانيا ولم يتح لها الوقت الكافي لاستغلال موارد مستعمراتها الحبشية، بل أن القلاقل ما زالت تنبئ بعدم الاستقرار في الحبشة نظراً لبداوة سكانها، وصعوبة أراضيها، وحاجتها إلى كثير من أوجه الإصلاح والرقي التي تعتبر الحجر الأول للاستغلال المادي
حرب الكلام
وتعتمد الحرب الحالية على عامل جديد هام هو العامل النفسي أو إلقاء الرعب في نفوس المتحاربين والمحايدين على السواء. ووضعت خطط السيطرة على أوربا على أساس ألا تدخل إيطاليا الحرب إلا بعد أن ننتهي ألمانيا من القضاء على دول أوروبا الشمالية والغربية أي بعد أن تنتهي مقاومة فرنسا وإنجلترا. على أن تكون إيطاليا في هذه الأثناء مبعث اضطراب للحلفاء فيقسمون قواتهم، ويتركون منها ما يلزم لمقاومة الاعتداء الإيطالي والتغلب عليه، وهذا هو السر في (تهويشها) الحالي، فهي تهدد بدخول الحرب ويؤلف شبابها المظاهرات ويصيح ساستها أن الساعة قد دنت، فتقف قوات الحلفاء المعبأة على قدم الاستعداد بعيدة عن ميدان القتال الحقيقي في الشمال
وهذه الخطة تضمن للمحور في الوقت نفسه قتال قواتها في ميدان واحد وتجزئه قوات الحلفاء ومقاتليها جزءاً جزءاً بدلاً من تركز مقاومتها في ميدان واحد. فمما لا شك فيه أن قوات الحلفاء متجمعة أقوى بكثير من قوات ألمانيا وإيطاليا، ولكنهما يستفيدان من هذه التجزئة فائدة عظيمة تعدهم بالأمل في النصر، ولكنه أمل بعيد
فإذا دخلت إيطاليا الحرب الآن فإنها تدخلها مكرهة لظروف خارجية طارئة، قد تكون ضغط ألمانيا عليها لشعورها بالحاجة إلى مساعدة جديدة وقوات كاملة، وقد تكون دفاعاً عن هيبتها نتيجة لإغراقها في الدعاية وحرب الكلام، وقد يكون خوفها من نفس حليفتها إذ تقف هي متفرجة بينما تفوز ألمانيا بنصيب الأسد، أو غير ذلك من العوامل التي يصعب
الخلاص منها.
فوزي الشتوي
بكالوريوس في الصحافة
رسالة الشعر
يا شبابي. . .!
للأستاذ حسن بك حمدي
يا شبابي يا شبابي
…
آه ما آلَمَ فقدكْ
كل حلوٍ صار مرّاً
…
ليتني ما ذقت شهدك
يا شبابي يا شبابي
…
كيف لا أندب عهدك
كل سهل صار صعباً
…
ليتني ما عشتُ بعدك
يا فؤادي يا فؤادي
…
كل شيء صار ضدك
أيُّ شيء أي شيء
…
يستحق اليوم حْمدَك
لستُ أدري كيف أُجْري
…
عبرةً تطفئ وجدك
عدمت عيني بكاها
…
فابك يا مسكين وحدك
حسن حمدي
في موكب المحرومين
بيداء. . .!
للأديب محمود السيد شعبان
(الحب يشهد أني إنما أغني لك وحدك يا (بيداء). . . وحسب
قلبي عزاء أن يكون أغنية تبدأ منك ولا تنتهي إلا إليك. . .
أنت يا من أسعدت روحي بنعيم الحرمان!)
(هو)
بَيْدَاءُ!. . . يا لَحْنَ الْ
…
هُدَى وَالطُّهْرِ في أَعْماقِ قلبي!
يا سِرَّ أَشْوَاقيِ وَمَعْ
…
بَدَ لَهْفَتِي وَمَرَادَ حُبِّي
في صَمْتِكِ الهادِي قلوبَ الْ
…
حائرينَ عَبَدْتُ رَبِّي!
أَهْوَاكِ يا بيْداء. . . لَ
…
كِنِّي أَخَافُ عَليْكِ جَدْبي!
بيْداءُ!. . . يا مَهْدَ الْهَوَى ال
…
عُذْرِيِّ أَهْوَى فيكِ لَيْلَى!
أَناَ لَم أَكُنْ قيْساً وَل
…
كِني لقيْسٍ كنتُ ظِلاّ
صَاحَبْتُهُ وَسَبَحْتُ في
…
مَلَكُوِتهِ قلباً وعقلَا
فأخذتُ عنهُ الحبَّ تق
…
دِيساً وتضحيةً وَنُبْلَا
بيْداءُ!. . . يا محْرابَ أَوْ
…
هامِي وَإِلْهامي وَقُدْسيِ
شَيَّعْتُ آمالي إِليكِ
…
فليتني شيَّعْتُ نفسي
وَنَسيِِتُ عندَكِ يا صَفاَ
…
َء الرُّوحِ حِرْمَاني وَتَعْسي
وَحَيِيتُ للِغَدِ مثلما
…
أَحْيَا عَلَى الدُّنيا لأمسي
يا مَعْبَدِي!. . . كم فَوْقَ هَ
…
ذا التُّرْبِ طال بيَ السّجُودُ
وَالْحُبُّ دُنَيا للِسَّعادَةِ مَا
…
لَها أبداً حُدُودُ. . .!
أَناَ إنْ رَجَعْتُ إليْكِ يا
…
بيْداءُ طابَ لِيَ الوُجُودُ
لكنَّ ديِنَكِ أَنَّ حِرْمَاني
…
مِنَ الأوهامِ جُودُ!
بيْداءُ!. . . هأنذا سَكَبْ
…
تُ عَلَى ثَرَاكِ دِمَائِيَهْ!
ضَيَّعْتُ عُمْرِي فِيكِ ل
…
كِني وَجَدْتُ بَقاَئِيَهْ. . .!
سِرُّ الَحْيَاةِ هو الفَنَا
…
ءُ!. . . وَأَنتِ سِرُّ حَيَاتِيَهْ
وَالْجَدْبُ يَبْقَى كالخلودِ
…
لَهُ الحياةُ الثانِيَهْ!
أَنافي هَواك مُشَرَّدُ الآ
…
مالِ. . . لكِنِّي أُغَنِّي!
جِئْنا إلى هَذا الوُجُودِ
…
معاً فكَيْفَ كَبِرْتِ عني؟
تَسَعينَ أوْهامَ الحياةِ
…
وفي غَدٍ تَسَعينَ فنِّي!
إن كُنْتُ مِنْكِ فأنتِ يا
…
بَيْدَاءُ - لوْ تدْرِينَ - مني!
ما كُنْتِ في ماضيكِ إلاَّ
…
فِكْرَةً في الْغَيبِ مِثلْي
أَلْقَتْ بِنَا الأقدارُ في
…
الدُّنيا معاً فَوَصَلْتِ قبلي!
وَسَبَقْتِنيِ لمَّا تَنَكَّرَ
…
لِلْحَيَاةِ دَميِ وَعَقْلِي. . .
هَلْ كانَ عِلْمُكِ - يا ابنَةَ
…
الأحْقابِ - إلا بَعْضَ جَهْلي!
يا مَنْ بَدَأْتِ مِنَ الْفَنَاءِ
…
سَتَنْتَهينَ إلي الْخُلُودِ!
صَاَنَتْكِ كَفُّ اللهِ منْ
…
بَطْشِ الرَّدَى وَأَذَى اللُّحُودِ
مُتِّعْتِ بالْجَدْبِ الْعَقِيمِ
…
وَإِنَّهُ بَدْءُ الوُجودِ!
وَالْعُقْمُ في دنُيا الهوَى
…
الْعُذرِيِّ غايةُ كلِّ جُودِ!
هَلْ تَذكُرينَ حياتَنا الْ
…
أُولى وصُحْبَةَ مُهْجَتَيْناَ؟
أيَّامَ كانَ الْغَيْبُ يَحْنوُ
…
رِقّةً وَهَوىً عليْنا
وَالْعَقلُ طِفلٌ هَدْهَدَتهُ
…
أَكُفُّناَ فَسَعى إلَيْنا
وَدَّعْتِهِ وَمَضَيْتِ مُسْ
…
رِعَةً، وَسِرْتُ أَناَ الْهُوَيْنَي!
أَدْعُوكِ يا بيْداءُ والأق
…
دارُ تَسْخَرُ مِنْ دُعَائي!
أَخُلِقْتُ في واديِكِ لِلأَشْ
…
وَاكِ تَشْرَبُ مِنْ دِمَائي؟
أَرْجُو لها الْعَيْشَ السَّعِ
…
يدَ وَترْتَجي أبَداً شقائي
دُنيا الطَّمُوحِ! أَناَ الذي
…
ضَيَّعْتِ لي دُنيا عزائي!
بيْداءُ! كَمْ يْبنيكِ قَلْبٌ
…
طالمَا أحْبَبْتِ هَدْمَهْ!
ما كُنْتُ أَخْشَى حَرْبَ هذا
…
الدَّهْرِ لكِنْ خِفْتُ سَلْمَهْ
فالْجَدْبُ في دُنيايَ مَعْنيً
…
ذُقْتُهُ وَعَرَفْتُ طَعْمَهْ!
هُوَ نِعْمَةُ قَدْ ظَنَّها مَنْ
…
لمْ يَسَعْهُ الْحُب نِقْمَهْ!
بيْداءُ!. . . هَأَنذا أَسِيرُ
…
مَعَ الحياةِ إلى ترُابي!
وَغَداً سَأَرْوِي يا ابَنةَ
…
الأوْهامِ خِصْبَكَ مِنْ يَبَابي
يا للَسَّعَادَةِ في الشَّقَاءِ!
…
أَلَيْسَ ما بِكِ بَعْضَ ما بي؟
يَكْفِيكِ يا بيْداءُ أَنَّ مُصَا
…
بَ رُوحِكِ مِنْ مُصَابي
بيْداءُ!. . . مَا ذُقتُ السَّعا
…
دَةَ في حَيَاتي غَيْرَ مَرّهْ
يَوْمَ الْتَقَيْتُ بها وَكُنَّا
…
في ضميرِ الْغَيْبِ فِكرَهْ!
يا لَلْهَوَى مِنْ ذَرَّةٍ قُدْ
…
سِيَّةٍ هامَتْ بِذَرَّهْ. . .!
أَنَا للِشَّقَاءِ. . . وَإنَّما
…
هِيَ للِسَّعَادَةِ وَالْمَسَرَّهْ!
يا ليْتنِي أَدْرِي بما بيْ
…
نِي وَبَيْنَكِ مِنْ سُدُودِ!
أَفَنْيتُ عُمْرِي فيكِ أَجْ
…
مَعَهُ لأِطرَحَ مِنْ قُيُودِي
فَعَرَفتُ فيكِ حَقِيقةَ الدُّن
…
يا وَفلسفةَ الوجُودِ
لكنَّني لمَّا اهْتَدَيْتُ
…
فَقَدْتُ مِنْ وَلَهِي حُدُودِي!
مَنْ عَاشَ لِلْحِرْمَانِ لَم
…
يَحْفِلْ بما سَكَبَ السَّحابُ
وَلَقدْ يُصِيبُ المرْءُ في
…
الدنيا فيُطرِبُهُ الْعَذَابُ
شَرُّ الْهِدَايَةِ مَا أَضَلَّ
…
بِكَ السَّبِيلَ إليْهِ صَابُ
فَتَعالَ يا حِرْمَانُ ليِ. . .
…
أَنتَ الحِجَا وَأَناَ التُّرَابُ!
بيْداءُ!. . . يا لَحْنَ الْهُدَى
…
وَالطَّهْرِ في أعماقِ قلْبي
يا سِرَّ أَشْوَاقيِ وَمَعْ
…
بَدَ لَهْفَتِي وَمَرَادَ حُبيِّ
فيِ صَمْتِكِ الهادِي قُلو
…
بَ الحائرينَ عَبَدْتُ رَبِّي
أَهْوَاكِ يا بيْدَاءُ لكِني
…
أَخَافُ عَليْكِ جَدْبي!
(القاهرة)
محمود السيد شعبان
رسالة الفن
تأملات
التفاحة
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- ما هذه الهدية السخيفة التي أرسلتها إلي في خطابك الأخير؟؟
- أصورة (التفاحة) سخيفة؟ أو لا ترى فيها معنى، أو لا تثير فيكَ شيئاً؟ حقاً، إنكَ متأخر
- لماذا لا تقولين إنني شبعان؟
- وهلا يعجب بصورة التفاحة إلا الجياع؟! إنها يا هذا رمز لما لا يؤكل ولا يشرب
- يا للتعقيد! ولأي شيء ترمز التفاحة؟ لقد كنت أحسب إحساساً فنياً الذي بعثك على رسمها، وكنت أحسبك مخلصة في تصورها وتصويرها، ولم يكن يخطر في بال أنك تجعلين منها ستراً تسدلينه على أسرار في نفسك. . .
- ولكنه ستر خفيف شفاف، لا أظنه يحجب السر عن العين. . . إلا إذا كانت عيناً بلهاء تصدق ما ترى
- فهذا الستر إذن كغلالة الحرير التي نتشح بها الإبليسة تزعمها أمام الأتقياء البلهاء حشمة، وتقول بها لكل جارحة من الأعين هأنذا!
- يا للفراسة! هو هذا الذي تقول. . . فهل تستطيع بعد أن عرفت هذا أن تقرأ التفاحة؟. . .
- بل قولي رسم (التفاحة) فإني مع التفاحة لا أستطيع إلا أن آكلها. . .
- فليكن. . . ماذا تقرأ في رسم التفاحة. . .؟
- يجب أن تساعدني بأكثر من هذا. . . فإنك إلى الآن لم تقولي لي من أين أبدا القراءة. . . من اليمين أم من الشمال؟. . .
- يمين ماذا وشمال ماذا؟ ألهذا الرسم يمين وشمال؟ كل ما فيها ألوان. . . حمرة مفردة، وصفرة مفردة، وحمرة وصفرة ممتزجتان: تخف إحداهما في المزج مرة وتثقل مرة، وتخف في ناحية أكثر مما تخف في الأخرى، وتثقل في ناحية أكثرها تثقل في الأخرى. .
فهلا يحدثك هذا كله بشيء؟. . .
- انتظري قليلاً، ففي درس القراءة الأول يغفر الهجاء. . . لنبدأ بهذه الحمرة. . . هي لون الدم، وهي لون اللحم، فيها من الحياة، وفيها من الفحش، وفيها أيضاً من النار لذة الدفء وعذاب الحريق، وفيها من الورد شعر، وفيها من الخد صبا، وفيها من الشفاه حنين ونداء. . . وكلام. . .، وفيها من الخجل، وفيها من الغيظ منذ الغيرة إذا استحيت إلى الحنق إذا اضطرم. . . في الحمرة هذا، وقد يكون فيها غيرة. . . فهل هذا يكفي الآن ابتداء أسايرك به. . .
- بداية لا بأس بها. . . فماذا ترى في هذه الصفرة. . .؟
- يا سبحان الله لا أدري لماذا أكره الصفرة. . . لست أرى فيها إلا الموت
- وهل تكره الموت؟ إنه علينا حق
- على العين والرأس نؤديه طائعين ومكرهين مادامت أمك حواء قد اشتهت الكارثة التفاحة. . .
- ليست حواء أمي أنا وحدي فهي أمك أنت أيضاً. . . أما تحب أنت التفاح
- لا أحبه ولا أكرهه، أو أنا أحبه وأكرهه. . .
- لعلك تحب حمرته وتكره صفرته، ما دمت تخاف من الموت. . . ولكن ألست ترى في الصفرة أيضاً لون الذهب. . . أو لون بعض الشعر. . .
- أما الذهب فمشغلة يلاعب العابثون عقول النساء بها وهن يحببنه وهم يحبونه من أجلهن. . . وأما ذلك الشعر الأصفر فلا أكتمك أني أحس فيه بشيء من البرودة لا تنزع نفسي إليه كثيراً. . . وهو عندي كالعيون الزرق والعيون الخضر ربما لاح لي فيها صفاء وبراءة ولكني لا أغفل فيها عن لين ونزف وتكبير وهذه لا تشجع المتعطش إلى الوفاء الراغب في التحكم. . .
- لو أنك تستطيع أن تحفظ على هذى العيون صفاءها وبراءتها، ون تحفظها من نزفها وكبريائها لذقت من وفائها ما يرضيك ولبسطت عليها ما شئت من حكم وسلطة. . . ولكنك كسلان ومثلك جدير به أن يعيش في مصحة يسقيه أطباؤه الحب، ويحقنونه بالراحة والسعادة. . .
- الله يسمع منك!
- فأنت معذور حين سخرت من صورة التفاحة
- بل كنت بسيطاً لم أر فيها إلا أنها طعام
- ولي عليك الآن أن تشكرني فقد علمتك أن ترى فيها أكثر من ذلك
- بل إني أرى هذا الذي علمتني إياه شيئاً تستحقين عليه اللعنة لا الشكر. فأنت قد فتكت بعقلي، وأنا أشعر أني سأصبح بعد هذا الذي تعلمته منك إنساناً موسوماً كلما رأيت شيئاً حاولت أن أعرف له معنى من وراء معناه البارز، وهذا أمر سيهديني من غير شك إلى حقائق هي غائبة عني اليوم، ولكنه في الوقت نفسه سيبعثني إلى أوهام وخيالات قد أحسبها حقائق إذ يركن عندها عقلي بينما هي ليست في الحق إلا عوارض. . . فما نجاتي من هذا وأنا لا أحب إلا أن أرسو عند حق أطمئن إليه؟ وقد كنت مرتاحاً يوم كنت راضياً عما كان يواجهني من أبسط الحقائق. . .
- إنما كنت راضياً عن البلاهة
- وكنت أجد فيها كل المتعة. ألست ترين الزنجي الذي إذا رأى التفاحة على الشجرة قطفها ونهشها أسعد حالاً من ذلك المتحضر المترف الذي يراها فيستغرق في النظر إليها هذا الاستغراق الذي تريدينه، ثم يقوم آخر الأمر فيرسمها. . . لماذا يرسمها؟. . . هل هو إذا أتقنها مهما أتقنها استطاع أن يجعلها تفاحة؟. . . والله ليست هذه إلا خيبة!
- بل هو الفن. . .
- فن الضعف. . . وهو كذلك الضعف الذي يأخذ نفس الشاعر حين يلقي محبوبه فيتركه أمامه ويغمض عينيه ليتصوره، أو يقضي معه الساعات ثم يغادره لكي يحلم به، فإذا وافاه في المنام لم يكن بينهما إلا كلام تافه لا يغني ولا يقنع به عاشق من غير الشعراء. . .
- وكل العشاق من غير الشعراء إن نعموا بالحب فنعيمهم به زائل إلى جانب أنه نعيم نازل؛ أما الشعراء فنعيمهم بالحب خالد إلى جانب أنه نعيم سام
- هذا هو الكلام الذي تقوله كل حواء للضعيف المتخاذل من عشاقها تواسيه فتعترف له بأنه صاحب فن، وتسخر منه عند نفسها لا لنقص فيه إلا أنه صاحب فن. . . أو تريدين أنت أن تنكري هذا؟ هل ترضى المرأة عن الرجل الذي إذا أحبها قال فيها كلاماً أو
صورها أو تغنى بها، أو لا يكون رضاها إلا عن الرجل الذي إذا احبها مد إليها يده وجرها. . .
- ليست النساء سواء. . .
- بل إنهن سواء. . .
- إذا زعمت أنهن سواء فعليك أيضاً أن تقول إن الرجال سواء. . . ولكنك قلت إنهم ليسوا كذلك وإن منهم من يأكل التفاحة ومنهم من يصورها. . . فكذلك النساء.
- فيهن من تأكل، وفيهن من ترسم؟
- ألم أرسم أنا؟ وهل في رسمي عيب إلا أني أهديته إليك؟ يا ضيعتي معك!. . كنت أحسب الرسم سيبهرك فتقول فيه كلمة طيبة. . . ولكنها توبة من اليوم
- الذنب ذنبك لأنك اخترت لهديتك موضوعاً لا يؤديه الرسم أداء كاملاً. . . فللتفاحة طعم، ولها رائحة، ولها نعومة حسناء؟ وهذا كله يقعد الرسم عن تصويره
- ومن قال لك إني كنت أريد أن أصور شيئاً من هذا. . . إنه لم يكن يدور بخلدي إلا ما توحيه الألوان
- فلماذا لم ترسمي دائرة حمراء ودائرة صفراء ودوائر أخرى فيها أمزجة من اللونين؟
- وهذا ما صنعت، وكل ما في الأمر أني اختصرت الرسم في دائرة واحدة. . .
- وهذا هو الذي بعثني على أن أنكر تفاحتك. فلو أني أحسست بها تفاحة حقه لكنت أعجبت بها، ولكنت قضمتها أيضاً، ولكنها كانت عندما ألقيت عليها النظرة الأولى زوراً وباطلاً، كالقصة الملفقة المتنافرة الحوادث التي يريد ساردها أن يبرئ نفسه من تهمة فلا يؤدي سرده إياها إلا إلى تعزيز الشك في نفس سامعه. . . والآن اسمحي لي أن أسألك سؤالاً. . . هل يقصد كل أولئك الرسامين الذين يرسمون الموز، والطماطم والبطيخ والشمام وسائر الفواكه والخضر إلى معان بعيدة كهذا المعنى البعيد الذي قصدت إليه حين رسمت التفاحة؟
- أظن ذلك
- فما معنى البطيخة؟ وما معنى الخيارة؟
- انتظر حتى أفكر. . .
- يخيل إلي أنك ستفكرين طويلاً جداً ولن تهتدي إلى معنى لكل ثمرة. . .
- ولكن التفاحة ليست ثمرة عادية. إن لها قصة قديمة مع الإنسان. . .
- قد تكون هذه القصة هي المبرر الوحيد لاهتمام الرسام بها. أما غير ذلك فلا أظن شيئاً يبرر رسم الثمرات إلا الجوع، فالله خلقها للأكل لا للزينة ولا للتفلسف. . .
- وهل هناك ما يمنع من أن تكون موضعاً للتفلسف ومطلباً للزينة إلى جانب ما هي بغية البطن؟
- لست أرى ما يمنع ذلك، ولكني لا أرى أيضاً ما يدعو إليه
- ألم يرسم الفراعنة القمح؟ لماذا رسموه؟. . . هل كانوا جياعاً وما أكثر القمح في مصر؟
- رسموه تقديساً!
- وأنا أرسم التفاحة تقديساً أيضاً. . .
- أعوذ بالله. . . قد يكون للإنسان عذر إذا قدس القمح فهو غذاؤه الأول. . . ولكن هذه التفاحة التي كان الجحيم فيها وكان العذاب. . . هل تقدسينها؟. . .
- فيها النار وفيها العذاب هذا حق؟ ولكن فيها أيضاً ما ذكرته أنت أولاً. . . فيها الدنيا، ونحن في الدنيا ولا طاقة لنا أن نقفز فيها إلى السماء. . .
- غيرك من الرسامين يستطيع أن يقفز بالتفاحة إلى السماء
- ولكن السماء لم تعد تثمر التفاح. . .
- من قال لك ذلك؟ إن من السماء صفرة التفاحة وحمرتها، ومن السماء فجورها وتقواها
- فكيف كنت تريدني أن أرسمها. . .
- إني أعرف وجهاً هو التفاحة؛ ولو أني رسام لصورته لك ولدفعتك إلى الأيمان به من نظرة واحدة. . .
- وجه من؟
- وجهك أنت. . . ألست ترينه في المرآة. . . ولكن كيف ترينه وأنت لم تنظري إليه يوماً بنفس مفتوحة وإن كنت تنظرين إليه دائماً بالعين المفتوحة. . .
- ماذا تقصد. . .؟
- أصحيح أنك تريدين أن تعرف ماذا أقصد، أو أنك تريدين أن نطيل هذا الحديث لأنه
عنك، وعن وجهك، وأنت قليلاً ما تظفرين مني بحديث كهذا. . .
- لا وحياتك. . . فأنت تعرف أنني غبية إلى حد كبير وأني بطيئة الفهم، كما تعرف أنك خائن الحديث لا يسلم كلامك من الظلمة حتى عندما تصدق وعندما تصارح
- سامحك الله! فليس أبشع من هذا إزهاق لاستقامة نيتي وسلامتها. . . الذي أريد أن أقوله يا (مدموازيل ديليش) أنك كلما نظرت إلى وجهك في المرآة بحثت فيه عن علائم الصحة وعلامات الجمال التي تعارف الناس عليها، فأنت تفتشينه تفتيشاً دقيقاً، فإذا أرضاك خرجت به بعد تزيين بسيط، وإلا فأنت تزيدين حتى يكون مكياجاً وتنكراً تطالعين به الناس وفق ما يهوى عيناك. . .
- وهل كنت تريدني أن أرى وجهي بغير عيني. . .
- نعم. كنت أريد أن تريه بعيني أنا، فما كانت تمتد إليه يدك بدهان ولا بمسحوق
- ولكنه عندئذ قد ينم عما أحب أن أخفيه
- بل إن ذلك كان سيحميه دائماً منك، فيلزمك أن تبعدي عنه ما تحبين اليوم أن تخفيه أحياناً. . . كفى عن هذه الخفايا تستغني عن الأحمر والأبيض. . . أزهدي في الرموز تصلىِ في الحق وفي الفن إلى الأصدق والأجمل. . . أقلعي عن التكلمَّ تصلى في الحياة إني ابعد ما ترومين بأسرع مما تظنين. . .
- وماذا أيضاً. . .؟
- خذي صورة التفاحة هذه، فأنا أرفضها شاكراً. . . وأطلب صورة التفاحة الأخرى. . .
- التفاحة لا تستطيع أن تمزج الألوان ولا أن تقبض على الريشة. . .
- ذلك خير وأحب. . . فعلى التفاحة أن تبقى تفاحة. . . ولنطمئن كل الاطمئنان فإبليس حاميها وآدم لا يزال يسيل عليها لعابه
عزيز أحمد فهمي
من هنا ومن هناك
الموت ليس نهاية الحياة
(عن مجلة (باريد الإنكليزية))
قد يحدث أحياناً في جلسة خاصة لمناجاة الأرواح، حيث لا يحضر غير الوسيط وشخص آخر أو شخصان، أن روحاً مجهولة تتصل بالوسيط وتطلب منه إبلاغ رسالة أو تحية إلى أحد أقربائها الذين لا يزالون في قيد الحياة؛ وربما تذكر له أيضاً من هي وأين كانت تعيش. وقد يظهر أحياناً أن الروح تعثر على الوسيط مصادفة ثم تعجب لما تشعر به من قدرة على مخاطبته، فتبرهن بجلاء لا يقبل الجدل أنها روح حقيقة لإنسان ميت لا شخصية وهمية من اختلاق العقل الباطن
إن قصة (أرثر فريزر) التي نقصها عليك اقتبسناها من كتاب صدر حديثاً عنوانه: (إلى اللقاء لا وداعاً) تأليف (والتر بليارد) المحلف القضائي والمحافظ السابق لمدينة (شفيلد). أن هذا المؤلف كان يخاطب دائماً روح زوجته المتوفاة فتجيبه هي بلسان الوسيط، بنفس اللهجة التي كانت تتكلم بها في حياتها، وكانت تبرهن له على شخصيتها بالبراهين القاطعة. وكانت وهي على قيد الحياة تهتم بالأبحاث الروحية اهتماماً عظيماً، فكانت بالطبع مطلعة على الانتقادات التي توجه غالباً إلى مناجاة الأرواح، لذا كانت تحاول في كل مرة أن تقدم لزوجها عند مناجاتها براهين لإقناعه لا يمكن دحضها أو الشك فيها، إذ تأتيه بأرواح أشخاص لا يعرفهم هو ولا أحد من الحاضرين.
يحدثنا المؤلف فيقول: بعد أن أدينا التحيات المعتاد وعبارات المجاملة نحو زوارنا الذين هم وراء الغيب، جاءتنا روح غريبة تطلب الإذن منا بالحديث، ثم قالت إنها روح شاب اسمه (أرثرايم):
(مت منذ ثلاث سنوات بمرض ذات الرئة في مستشفى محلي، وكان عمري إذ ذاك ثلاثة وعشرين عاماً. وكنت أسكن في منزل رقمه 18 (كلايف رود)، وقد تركت حبيبة لي اسمها (مس كارول) وهي تسكن في رقم 229 في (فلينت ستريت)، فأرجو منكم أن تخبروها بأني لست ميتاً وبلغوها عني سلام الحب فأني أظن ذلك يسرىّ عنها، ثم أرجو أن تخبروا والدي بأن أمي معي وهي تهدي إليه تحيتها القلبية. . .)
أما أنا فقد اهتممت بالأمر واتصلت في الصباح التالي تلفونياً بالطبيب الذي يدير المستشفى الذي ذكره ورجوته أن يبحث في سجلاته عما إذا كان فيها اسم (أرثرايم)، شاب مات بذات الرئة قبل ثلاث سنوات. فأجاب الطبيب:(لقد مات عندنا رجل ذات الرئة قبل ثلاث سنوات، ولكنه لم يكن شاباً، إذ كان عمره فوق الأربعين. . .) أخذت مني الحيرة في هذا مأخذاً عظيماً، لأني لم أعهد من (الأرواح) قبل ذلك كذباً ولا افتراء. استنجدت بزوجتي طالباً منها التوضيح، فأجابت:(سوف تكتشف السر قريباً) فعزمت عندئذ أن أذهب إلى رقم 18 (كلايف رود) في الطرف الشرقي من المدينة حيث تسكن الطبقة العاملة. فلما بلغت هنالك وجدت ساكن البيت له أسم غير الذي ذكر، وهو كذلك لا يعرف عن صاحب الاسم شيئاً. وبعد أن قضيت طويلاً في البحث والتحقيق رجعت يائساً متعباً
بعد هذا سافرت خارج البلاد في عطلة وعند رجوعي عزمت على إعادة البحث، فقررت أن أزور بين الحبيبة (مس كارول) لعلني أجد لديها بعض الإيضاح. ذكرت عزمي هذا للوسيط فأخبرني بأنه خلال الأيام القلائل الماضية قد سمع لفظة (فريزر) تتكرر على مسمعه مرة بعد أخرى بصوت امرأة أول الأمر ثم بصوت رجل بعد ذلك. إنه لم يسمع غير ذلك ولم يدر ماذا يراد به. ظننت أن ذلك له صلة بالأمر فادخرته في حافظتي إلى حين
ذهبت إلى رقم 229 (فينت ستريت) وطرقت الباب فلما فتح ظهر من ورائه شابة فسألتها: (هل أنت مس كارول؟) فأجابت: نعم
- هل تعرفين شاباً اسمه (أرثرايم؟)
- أنا لم أسمع بهذا الاسم
فانحنيت احتراماً وسألتها سؤالاً آخر: (هل تعرفين (أرثر فريزر))
- ماذا تعني بذلك، وماذا تبتغي منه؟
- حسن! حسبي أن أعرف أنك تعرفين هذا الشخص
- لقد كان حبيبي ولكنه مات بذات الرئة قبل ثلاث سنوات.
وهنا أجهشت الشابة بالبكاء، ثم ذهبت إلى منضدة كانت في وسط الغرفة فألقيت عليها ذراعيها، واعتمدت رأسها بيديها أخذت تعول. أخذت أنا أهدئها، ثم شرعت أحدثها بقصة
حبيبها وتحيته لها، فرفعت رأسها قليلاً ثم شرعت تقص عليّ كيف عاشاً معاً حبيبين، ولكنه ذهب أخيراً للحرب في سبيل وطنه، ثم رجع محطما فقضي بقية حياته في المستشفى
إنها مأساة كغيرها من آلاف المآسي التي أنزلتها بنا الحرب ولقد وجدت صعوبة في تفهيم الفتاة كيف استطعت أن آتي لها برسالة من حبيبها المتوفى. ولكني حاولت ذلك جهدي
أرشدتني الشابة إلى دار حبيبها الفقيد الذي يبعد عن دارها مسافة خمس عشرة دقيقة على الأقدام، وإذ ذهبت هناك وجدت رجلاً يكسر خشباً في المطبخ فسألته:
- هل أسمك (فريزر)؟
- نعم
- هل زوجتك ميتة؟
- نعم
- هل فقدت ولداً في الحرب؟
- نعم
- هل كان لولدك حبيبة اسمها (مس كارول)؟
- نعم
وعندئذ تناول صورة شمسية من الجدار وأراني إياها. حقاً كان الرجل ذكياً محترماً في طبقته، وحين أوضحت له غرضي من زيارته، وقصصت عليه حديث ابنه وزوجته التي أرسلت إليه تحية الحب، كنت كأني قد لمست وتراً حساساً من قلبه فقال:(قد قرأت مؤخراً عن السر أرثر كوناتن دويل). وعلى هذا كان الرجل مهيَأً بعض التهيؤ لفهم الحقائق التي أدليت بها إليه
وبعد أن دخنَّا وتحدثنا رجعت إلى داري شاعراً ببعض الاطمئنان لما قمت به في ذلك الصباح، ولكني ما زلت أحس بقية شك في حنايا النفس. كان عليَّ أن أعرف سبب ذلك الخلط في الأسماء، إذ كيف أعطانا الشاب اسم (أرثر ايم) ثم انقلب الاسم بعد ذلك إلى (أرثر فريزر). سألت زوجتي فأجابت بأنها لا تعلم ولسوف تبحث الأمر. . . وبعد لأي جاءتني بالتفسير التالي أنقله بدون تعليق:(إن اسم الشاب هو (أرثر فريزر) ولكنه حين كان يخاطبك جاء رجا آخر يقال له (. . . ايم) فوقف إزاءه. لقد كان هذا الرجل الأخير
متحمساً لتلك الصدفة لأنه مات بنفس الداء وفي نفس اليوم ونفس المكان، ولم يكد (أرثر فريزر) ينطق بشطر اسمه الأول حتى تدخل (. . . ايم) في الحديث ونطق بشطر اسمه الثاني، وعلى هذا اكتمل الاسم لديكم كأنه (أرثر ايم) من غير انتباه لما بين الصوتين من اختلاف)
أما أنا فقد اعتبرت هذا الحل ممكناً، ولكني لم أزل أشعر ببعض الحاجة إلى دليل أوضح، ولذلك ذهبت إلى الطبيب في المستشفى مرة أخرى فذكرته بزيارتي الأولى له وقصصت عليه القصة كلها، ثم رجوته أن يرجع مرة ثانية إلى سجله فاستجاب لي وأخذ يبحث، ولكنه سرعان ما تملكته الدهشة حين رأى ما يلي:
الاسمالعمر المرضتاريخ الوفاة
ارثر فريزر23سنة ذات الرئة21 920
جيمس هنري آيم 46سنةذات الرئة 22 920
حقاً إنها شهادة عظيمة، ولكنه لم يزل ثمة شيء ضئيل من التناقض، ذلك أن زوجتي قالت إن الرجلين ماتا في يوم واحد. وقد فسر الطيب ذلك ربما مات في منتصف الليل ومات الآخر بعد نصف ساعة، ولا شك أن زوجتي قد أخبرت بيوم الوفاة لا بساعتها
لقد عجب الطبيب من هذا الأمر لأني لم أكن أعرف قبل ذلك عن هذين الميتين شيئاً
(م)
القصص
البعث
للأستاذ محمد سعيد العريان
جلس (أحمد) على مقعد في جانب من غرفتي الخاصة وارتفق بذراعه على المنضد الصغير وراح يفكر. . .
إن بعض الصور التي تتناولها العين في نظرة عابرة قد يكون لها من التأثير في حياة بعض الناس مالا تؤثر الأحداث العظيمة التي تهز العالم. هذا أحمد، شتان ما هو الساعة وما كان منذ ساعات. لقد عاد لتوَّه من السيما حيث كان يشهد رواية عن حياة الأديب الفرنسي الكبير (إميل زولا). . . فأين هو الساعة مما كان قبل ساعات؟
لقد رأى وسمع وعرف، ونظر إلى نفسه وحضرته ذكرياته وأمانيه، وراح يحاسب نفسه على ما أدى من عمل وما نال من جزاء، واستغرق في تفكيره. . .
منذ بضع عشرة سنة لم يأل ُأحمد دأباً إلى غاية يستشرف إليها؛ فأين بلغ مما أراد؟ هذه حياته التي يحياها منذ كان، لم يتغير منها شيء يشعره شيئاً من الأمل فيما يستقبل من أيامه؛ ففيمَ كان جهاده ودأبه بذل من أعصابه ومن دمه في بضع عشرة سنة؟
أتراه يستطيع أن يقنع نفسه بأنه قد بلغ شيئاً؛ فأين. . .؟ وتراءت له صورة (سعدية) الفتاة التي وهب لها نفسه ووقف عليها أمانيه، وتذكر من ماضيه القريب ومن ماضيها
لقد تعارفنا منذ سنوات، بل لقد عرفته قبل أن يعرفها، فسعتْ إليه، فالتقيا، فما افترقا بعدها إلا على ميعاد؛ ولكن سعدية اليوم غير ما كانت، لأنه هو هو لم يتغير ولم يزد شيئاً على ما كان يوم عرفته!
أيكون ذلك هو السبب الحق لما بينهما اليومَ من الجفاء والمباعدة؟ ذلك ما ُخيَّل إليه هو حين افترقا لآخر مرة منذ قريب فهجرها وإن في قلبه من الشوق إليها لهيباً يسعر!
لقد كان (أحمد) أديباً موهوباً. إنه ليعرف ذلك من نفسه، وإنه ليؤمن به إيماناً لا سيبل إلى الشك فيه؛ وكان حقيقاً بهذا الإيمان أن يبلغ به المنزلة التي يهدف إليها منذ بدا ليتخذ مكانه بين أدباء الجيل. وكان على إرث من الأدب هيأ له الجو الذي يعنيه على استكمال وسائل الأديب وتحصيل مادته؛ واتخذ طريقه إلى الغاية التي يؤمل. . .
كان ذلك منذ بضع عشرة سنة، ولم يألُ دأباً من يومئذ؛ وعرفتْه سعدية مما قرأتْ له، وكانت رسالتها إليه أول الصدى الراجع، وكانت هي أول من عرف من قرائه؛ وتوثقتْ بينهما الصلة، وكانت في أوَّلها إعجاباً بالعقل الجميل فعادت أملاً يأمله وحلماً يتراءى لها. . . ومضى الفتى إلى غايته والحياة تُجِدُّ له في كل يوم أملاً وتوقظ عاطفة!
وكتب وخطب، ونظم وألف، وراح يناضل في جهد الجبابرة ليشق إلى المنزلة التي يتنورَّها من بعيد؛ وقالت له فتاته:(متى أراك يا حبيبي هناك؟) ولم يجبها فتاها، لأن عينيه كانتا تنظران إلى هناك!
ومشيا ذراعاً إلى ذراع بين الحدائق الضاحكة صامتين، أما هي فكانت تبحث بعينيها بين الفروع الراقصة عن زهرة نضرة تقطفها عن أملودها لتجعلها في صدرها زينةً تتيه بها على لذاتها وصواحبها، وأما هو فكان في إطراقه وصمته يتسمَّع نجوى الغصون وهمس الزهر لينظم منها قصيدة ترفَّ رفيفَ الغصن وتنفخ نفخَ الزهر! وطال عليها الطريقُ وما بلغتْ، فقالت: متى يا حبيبي. . .؟ وقال. . . ولم تعَ ما قال ولم يعَ ما قالت؛ وتدابرا ومضى كلٌ منهما لغايته، وراحت تبحث عن الزهر وراح يبحث عن معناه. . . وكان فراق بينهما!
وعاد إلى داره في المساء وما في الدار غير خادمته العجوز، وجلس إلى المائدة ينتظر عَشاءه، وأبطأت الخادم لأن الدار لم يكن فيها عَشاء فتأني به. . . وضحك حين عرف، وعيَّث في جيبه قليلاً ثم امسك، وآثر أن يطوى ليلتَه بلا عشاء؛ فإن ذلك أخلَقُ يَجِمع له نفسَه ويوقظ حسَّه!
وجلس إلى مكتبه لحظات يقرأ بريد المساء؛ وكان بينه رسالةٌ تنفح عطراً، وقرأ. . .
(سيدي. . .
(. . . وإني أرسل إليك تحياتي على البعد. . .
(إنها لحظاتٌ سعيدة حين أقرأ لك فأشعر أني منك على مقربة وأنك مني. . .
(وإنه ليخيل إلي أحياناً وأنك. . .
(إنك لست بعيداً مني؛ أفتُراك تعرفني؟ ولكني أعرفك، و. . . وأحبك!
(ومعذرة. . .!)
وابتسم الفتى ثم عبس، وذكر سعدية. . . ثم طوى الرسالة وأودعها غلافها؛ وقال وكأنما يتحدث إلى شخص يجالسه: ليتك تعرفين يا فتاة وليتني أعرف! بل إنني أريد أن تعرفي! إنك تنشدين الزهر ليكون لك زينة تباهين بها في المحافل، وإنني أنشد معناه لأتخذه وحياً أتصل بأسبابه إلى السماء. . . كذلك كانت أختٌ لك من قبل!
ولكنه كان راضياً. . .
لم يبلغ المجدَ الأدبي الذي يناضل له منذ بضع عشرة سنة، ولم يبلغ الغنى، الغنى الذي يكفيه حاجة الحيَّ إلى وسائل الحياة؛ ولكنه كان راضياً، لأنه كان مؤمناً بنفسه، ومؤمناً بغده! ومضى على وجهه. . .
. . . وراح إلى السماء عشيةً يتزود لفنه وأدبه ويستجمَّ، ثم عاد. . .
لقد رأى وسمع وعرف، ونظر إلى نفسه، وحضرته ذكرياته وأمانيه، وراح يحاسب نفسه على ما أدى من عمل وما نال من جزاء، واستغرق في تفكيره. . .
وكان عليه أن يسد الخطبة التي طلبُ إليه أن يذيعها بعد أيام، احتفالاً بذكرى الأديب الراحل فلان؛ ذلك واجب لا يعفيه من إغفاله أن يعتذر؛ فإنه لصديقه، وإن له عليه ديناً يقضيه الوفاء أن يذكره به فيتحدث عنه حديثاً في يوم ذكراه!
وشرع قلمه، وهم أن يعد الخطبة التي ينبغي أن يذيعها عن صديقه الأديب الراحل في يوم ذكراه. واستجمع فكره، وتذكر شيئاً. . .
يا عجبا! ذلك الصديق الذي يهم أن يتحدث عنه، ماذا كان في حياته، وماذا هو اليوم عند الناس؟ لقد عاش حياته يجاهد لأمته ما يجاهد صابراً محتسباً قانعاً بالكفاف، لا يذكره أحدٌ بحق ولا يعرف له بداً. . . فلما غاله الموت - لما غاله الموت فقيراً معدماً بعيد الدار كثير الولد - تدانت الرءوس، واختلجت الشفاه، وسحت العبرات، وصاح الصائح في الأمة يدعوها لتخليد ذكراه، فإن حديثه اليوم على كل لسان، وإن ذكره في كل قلب. . . كذلك كان حياً وميتاً، فما متاُعه بما صار وما عزاؤه عما كان؟
ماذا؟. . . أليس يعرف الناس للأديب حقه إلا أن يموت؟ ما أغلاه ثمناً للمجد!
وابتسم الفتى ساخراً، ثم سكت، وعاد إلى نفسه يؤامرها. . . وانصرفت نفسه عما هو فيه؛ وتناول حزمهً من الرسائل لم يقرأها بعد، وفض منها رسالة، وقرأ:
(سيدي. . .
(. . . فلماذا؟ ولماذا لا نجد في الأمة العربية شعراء وكتاباً ومنشئين كبعض من نقرأ لهم من أدباء أوربا؟)
وطوى أحمد الرسالة وهو يتمم: نعم، لماذا. . .؟ لا لا، إنني أكاد أعرف. . . ولكن، لماذا. . . لماذا لا يزال - مع ذلك - والغنى؟ هذا هو السؤال الذي يحق!
وتذكر الرواية التي شاهدها في السيما منذ ساعات، وتذكر صديقه الذي يهم أن يعد حديثاً عنه ليوم ذكراه. . . وصمت برهة، ثم وقف، وراح إلى المصباح فإطفاء، وقصد إلى فراشه، ولكنه لم ينم. . . واستغرق في تفكير عميق. . . وأحسبرد الراحة على قلبه حين انتهى من تفكيره إلى حد. . .
. . . وأصبح أصدقاء أحمد يسألون عنه فلا يجدونه، ومضت أيام ولا حسُّ ولا خبر، إلا رسالة موجزة تلقاها بعض صحبه، وليس فيها إلا هذه الكلمات:
(إنني ذاهب. . . لقد برمت بدنياي. . . وداعاً يا أصدقائي!)
وجدَّ أصدقاؤه في الطلب فلم يقفوا له على أثر، وظنوا الظنون. . . ثم استيقظوا، حين عثر بعض الرواد في صحراء الجيزة على أشلاء آدمية تكاد تواريها الرمال في قعر هوة سحيقة من هُوى الصحراء. لم يكن ثمة وجه يبين، ولا لسان ينطق، ولا اثر يدل، إلا قميصاً خلقاً قد حال لونه وتمزقت حواشيه، لقد أكل الوحشُ من ذلك الجسد ما أكل وأبلى الرمل ما بقى، فما هو الإعظام نخرة وأنابيب جوفاه وأديم ممزق!
وقال واحد من صحابته: لقد توقعت له هذه الخاتمة منذ بعيد، ويا طالما حذرته من ارتياد الصحراء وحيداً في غبشة الصبح وفي ظلمة الغسق فلم يسمع لي؛ يزعم أنه يجد هناك مهبط الوحي ومنبع العبقرية!
وقال الثاني: وكذلك زعمت لنفسي حين جاءتني رسالته يودعني ويستودعني؛ لم يقع في نفسي إلا أنه ذاهب إلى الصحراء؛ لقد تحدث إلى مرة. . . وكان يتشوف إلى اليوم الذي يفارق فيه دنيا الناس إلى معتزل هادئ على حدود الصحراء يأنس فيه إلى الوحش فلا يرى أحداً من الناس ولا يراه أحد! فلعله. . .!
وقالت الثالث: يرحمه الله! وانحدرت على خده دمعة فجاوبتها أخواتها من عيون أصحابه؛
وعزى بعضهم بعضاً؛ ثم انصرفوا يحملون رفات الشاعر الشهيد إلى مثواه؛ وتداعى الناس إلى مأتمه محزونين وإن حديثه ليرطب كل لسان؟
وكتبت اسم أحمد في سجلَّ الراحلين من أدباء الأمة. . . وصاح الصائح في الأمة يدعوها لتخليد ذكرى الأديب الراحل، وطفحت أنهار الصحف الأدبية بالحديث عنه وتمجيد ذكراه!
وانقدت جماعات، وتألفت كتب، وبذل مال؛ وتزاحم الناشرون يزايدون بالمال لشراء مخالفاته الأدبية. . . وجدَّ البُعداءُ من أهله يطلبون نصيبهم في تركته!
ومضى عام قبل أن يحددَّ يوم يقوم فيه الخطباء والشعراء لتأبينه، وكان يوماً مشهوراً. . .
كان المدرج الكبير غاصاً بأهل الأدب، وسروات المدينة، وذي الجاه والرياسة؛ وقد نُصَّتْ في صدره منصةُ عالية عليها كراسي مذهبة، يشرف عليها صورة مكبرة للفقيد العزيز مجللة بالسواد، تطل منها عينان ساخرتان على تلك الجموع الحاشدة؛ وكان في ركن من القاعة فتاة ذات جمال قد انتقبت بنقاب أسود شفيف مبتلٍْ بالدمع، وإلى جانبها فتيات. تلك هي سعدية؛ وجلس في الصف الأخير بضعة فتيان شُعْث غُبْر قد تأبطوا كتباً وصحفاً ومجلاّت قديمة، تدل ثيابهم وهيئتهم على الفقر والقناعة و. . . والعبقرية، وتنطق سِماتُهم وشارات الحداد في وجوههم بأنهم أكثر أهل الحفل إخلاصاً لذكرى صاحبهم الذي مات. . .! أولئك أسرة الفقيد من أهل الأدب!
وكان على الباب بوابون من ذوي اليسار والنعمة، يستقبلون القادمين ويدعون كلا منهم إلى مجلسه يوائمه. وتدلَّت الأنوار ثريات تكشف الشمس وتبهر النظر. وكانت حفلة، لو أحصى ما أنفق في أعدادها لكان حياةً من موت وغنى من مَتْرَبة!
وغصَّ البهو والشرفات بالوافدين على الحفل من أهل الوفاء والأدب؛ وحل الموعد، وصَغَتْ القلوب وأرهفتْ الآداب!
ووقف الخطيبُ الأول يذكر تاريخ الفقيد؛ وكان يلبس حلةً سوداء غالية، وقد أحكم المنظار على عينيه وتدلت سلسلته الذهبية على كتفه، وبَرَق الماس في إصبعه؛ وبدأ يخطب:
(أيها السادة!)
وكان السادة منصتين في لهفة وتأثر. . .
وتتابع الخطباء والشعراء يذكرون ما يذكرون من فضل الفقيد وعبقريته وعلمه وخسارة
الأمة بفقده
وقال قائل لصاحبه: (يرحمه الله!)
فقال صاحبه: (أما إنها لخسارة!)
وكان ثمة فتى رث الثياب، مخرَّق النعل، مرسل اللحية، يقتحم الصفوف صفاً صفاً يقصد إلى المنصة التي يتبارى عليها الخطباء. . .
وتأفف الناس وزمَّوا شفاههم استكراهاً وغيظاً، لكنهم صمتوا إجلالاً للحفل، وبلغ الفتى حيث أراد وهم أن يصعد، فاعترضته الأكفّ؛ ولكنه صعد. . .
وأخْذته العيونٌ من كل جانب، وكان يبتسم وفي عينيه سخرية وشماتة!
وفرغ الخطيب من خطبته فتنحى عن موقفه، وتقدم الفتى إلى موضعه، وهمَّ أن يتكلم. . .
وتدافعته الأيدي. . . ونظر إليهم ونظروا إليه. . . وتعارفت وجوه وتناكرت وجوه؛ ووقف الفتى ثابتاً في مكانه، وارتفع صوته يُبثُ جلاجِل نفسه، وهتف:
(أيها السادة. . .!)
وسمعها السادة وقوفاً وأبصارهم إليه، ومضى يقول:
(أشكركم. . .!)
وعرفه من عرف ولم ينكره من جهل، وتدافعوا إليه. . . إنه هو. . . إنه أحمد!
(ذلك يوم البعث ولا ريب): قالها كل مستمع لصاحبه. . . لم يمت أحمد، ولم تأكله وحوش الصحراء، ولم يحمله من حملوا إلى قبره يوم حملوا الرفاتَ المجهول النسب من مجهل الصحراء إلى معلمها؛ ولكنه كان حياً يرزق. كان يهيئ نفسه ليلقي أبلغ خطبة جهر بها خطيب، وأبْين قصيدة نظمها شاعر؛ وابرع سخرية أبدعها أديب؛ فخطب ونظم وسخر. . . واستمع لرأي الناس فيه ميتا حياً، وأسمعهم رأيه. وبلغ المجد الذي أراد، وبلغ ما شاء من الانتقام لنفسه ومن السخرية بالناس! وعاش!
محمد سعيد العريان
البريد الأدبي
حول آية إطعام الطعام
حضرة الأستاذ الكريم صاحب مجلة الرسالة الغراء
تحية واحتراماً وبعد:
قرأت في العدد (355) من الرسالة تحت عنوان (العقيدة الساذجة) جواباً لمحمود محمد سويلم واعظ (سمالوط) وهو ينكر نزول (ويطمعون على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً) في أهل البيت عليهم السلام وينكر صومهم. ويقول إنها قصة موضوعة؛ ولا ينبغي أن يحمل كلام الله تعالى على قصة هذا شأنها، وأن أقل تأمل في هذه القصة يدل على أنها مصطنعة.
إن إنكاره لم يكن بشيء جديد. فقد سبقه بعض أسلافه من إنكار نزول هذه الآية في أهل البيت عليم السلام، وادعوا بأن السورة مكية. على أنها مدنية وقد ذكرها الرازي في أربعينه، وابن المرتضى، والزمخشري، والقاضي في تفاسيرهم، والفراء في معالمه، والغنوي في شرح مطالعه، والواحدي، وعلي ابن إبراهيم، وأبو حمزة الثمالي، وأحمد الزاهد، والحكاني، وأبو القاسم الحسين (وهو من شيوخ أهل السنة) في كتاب التنزيل. إن تسعة وعشرين سورة مدينة وذكر منها (هل أتى) ولم يذكر خلافاً فيها. وعن عكرمة، وابن المسيب، والحسن بن أبي الحسن البصري، وخطيب دمشق الشافعي والثعلبي. وقد أورد القضية كما هي في التفاسير وذكرها هبة الله المفسر البغدادي في الناسخ والمنسوخ. ومما أنشد في هذا المقام:
أنا مولىً لفتى
…
أنزل فيه هل أتى
وقال آخر:
إلى م أُلامُ وحتى متى
…
أعنف في حب هذا الفتى
فهل زُوجت فاطمٌ غيره
…
وفي غيره هل أتى هل أتى
وقال ديك الجن:
شرفي محبة معشر
…
شرفوا بسورة هل أتى
وولاء من في فتكه
…
سماه ذو العرش الفتى
ولما علم الله تعالى صدق نياتهم بإيثارهم الطعام المسكين واليتيم والأسير أنزل على نبيه
(ص): (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً).
وقال مجاهد وابن جبير والفخر الرازي في تفسيره:
(ذكر الواحدي في كتاب البسيط أن آية ويطعمون الطعام نزلت في على). وروى نزولها في علي رضي الله عنه صاحب الكشاف، وقد ذكر القصة بكاملها. وهكذا رواها العّلامة أبو السعود في تفسيره المطبوع بهامش تفسير الفخر الرازي. وفي كتاب ينابيع المودة (ص93) عن موفق بن أحمد أخرجه بسنده عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى:(يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً، ويطعمون الطعام. . . الخ) مرض الحسنان عليهما السلام فعادهما جدهما صلى الله عليه وسلم. . . وروى القصة أيضاً ونزول (هل أتى) على النبي (ص). وذكرها القاضي البيضاوي في تفسيره، وروح البيان والمسامرة، وفي لباب التأويل في معاني التنزيل للعلامة علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي (المعروف بالخازن) وعلى هامشه الكتاب المسمى مدارك التنزيل وحقائق التأويل تأليف العلامة أبي البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي. أما الخازن فقد ذكر عن ابن عباس أن الآية نزلت في علي بن أبي طالب، ثم ذكر القصة الخ. وقال النسفي:(نزلت في علي وفاطمة وجاريتهما فضة)، وذلك لما مرض الحسنان وعوفيا وقد نذروا صوم ثلاثة أيام، فاستقرض على ثلاثة أصوع من الشعير فطحنته فاطمة كل يوم صاعاً وخبزته. وآثروا بذلك على أنفسهم مسكيناً ويتيما وأسيراً. ولم يذوقوا إلا الماء في الإفطار، فأنزل الله فيهم هذه الآية. وقال عبد الباقي الفاروقي العمري:
وسائلٌ هل أتى نص بحق علي
…
أجبته (هل أتى) نص بحق علي
وهذا قليل من كثير ذكرناه ليطلع عليه من يقرأ رسالتكم الغراء. ولعل حضرة الواعظ يطلع على كلمتي هذه فيرجع عن رأيه الأول، وفي هذا خدمة للحق
(العراق)
كاظم الشيخ سلمان آل نوح
خطيب الكاظمية
إلى الدكتور علي حسن عبد القادر
كان خبراً ساراً في الأوساط الأزهرية أن اشترك في أسرة التحرير بمجلة (الرسالة) الغراء في هذا الأسبوع كاتب أزهري جديد هو الدكتور علي حسن عبد القادر الحاصل على الدكتوراه في العلوم الإسلامية من جامعة برلين، والمدرس بكلية الشريعة الآن، وبكلية أصول الدين من قبل. فأعطى هذا الكاتب مع إخوانه الأساتذة: محمد المدني ومحمد يوسف موسى ومحمد عرفه وعبد الجواد رمضان وغيرهم ممن يحصنون الرسالة بأبحاثهم القيمة، الدليلَ الواضحَ على أن النهضة الأزهرية لم تتمثل في (شباب المراغي) فحسب، بل وفي (رجال المراغي) تمثلت أيضاً بصورة تدعو إلى الإيمان بمستقبل الأزهر السيد!. . .
ولكن أحب أن أوجه إلى الدكتور سؤالاً يدفعني إلى توجيهه الحرص على طلب الحق وذلك أننا سمعنا وقرأنا في غير صحيفة أن الدكتور ألقى منذ حين على فريق من طلبة كلية أصول الدين درساً في (مصطلح الحديث)؛ فعرض خلال هذا الدرس بالتابعي الجليل والمحدث الصادق الإمام (ابن شهاب الزهري) ووصفه بالاختلاق والكذب على رسول الله (ص)، وبأنه كان ممالئاً للأمويين ولذلك اخترع جملة أحاديث تخدم قضيتهم وترفع من شأنهم؛ ومن أمثلة ذلك أن الزهري لما رأى عبد الله بن الزبير يستقل بأمر الحجاز، وأن عبد الملك بن مروان يستولي على بيت المقدس ويرفع في المسجد الأقصى قبة الصخرة ليصرف الحجيج إليه؛ لما رأى الزهري ذلك اخترع أحاديث شتى في فضل بيت المقدس، ومن ذلك قوله على لسان الرسول صلوات الله عليه:(ولا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد مكة، والمسجد الأقصى)!
قال الدكتور ذلك مع إجماع العلماء على أمانة الزهري وصدقه وورعه؛ ومع أن التاريخ يروي أن عبد الملك بن مروان سأل الزهري ذات يوم عن المعنى بقوله تعالى: (والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم). فقال الزهري: (هو عبد الله بن أبي ابن سلول) فقال عبد الملك: (لا. بل هو علي بن أبي طالب) فاشتاط الزهري منه غيظاً، وقال له:(لا أبالك!. . . أعلي تفتري أم على الله؟!)
ونحن نرجو الدكتور أن يتفضل بكلمة موضحة في هذا الموضوع وطني أن مجلة (الرسالة) التي تخدم الدين والأزهر لن تضيق بكلمة أو كلمات حول هذا الموضوع الخطير، فهل يجيب سؤلنا الدكتور عبد القادر؟!
(البجلات)
أحمد جمعه الشرباصي
الكتاب المتفرسون في لبنان
استفتت جريدة (الأنباء الأدبية) الفرنسية جميع الأدباء الذين يكتبون بالفرنسية مستقصية عن الدافع الذي يحدو غير الفرنسيين للكتابة بالفرنسية، وكان بين هؤلاء فرج الله الحايك مؤلف (برجوت) وهاك جوابه:
(تسألونني لماذا آخذ اللغة الفرنسية كأداة للتعبير. وجوابي على ذلك جواب الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، وحالتنا هذه خاصة بنا، فنحن لا نستطيع أن نفصل بين محبتنا لفرنسا، وبين تأثيرها الثقافي علينا. فنحن نعيش في وسط فرنسي، فرنسي في روحه ولغته)
(ورغم التباين العميق بين لغتنا الأولى العربية، وبين اللغة الفرنسية، فنحن نهضم هذه إلى درجة أننا أصبحنا نفكر بالفرنسية. إن اللغة العربية غنية جميلة وسائغة، ولكن هذه العقبة القائمة بين اللغة المحكاة واللغة التي نكتبها تولد للسامع نوعاً من التشويش)
ونحن لا يسعنا أمام جواب الأستاذ فرج الله حايك إلا أن نهنئه بهذه المكانة الأدبية التي جعلته كاتباً مرموقاً في لغة أجنبية
إلا أننا نستأذنه بأن نصحح ما جاء في جوابه عن معدل اللبنانيين الذين يفكرون ويكتبون بالفرنسية فهو دون شك لا يؤلف أكثرية كما يقول بل هو عدد محدود جداً ولا سيما بعد النهضة الحديثة التي أوجدتها البكالوريا اللبنانية في معاهد اللبنانية في معاهد التدريس وبين النشء الطالع. هذا مع العلم بأن التفكير والكتابة بالفرنسية شيء ومحبة فرنسا شيء آخر
(الجمهورية البيروتية)
محاضرة في الموسيقى بالمعهد الليلي البريطاني
ألقى الدكتور كيناستون سنل مدير المعهد الليلي البريطاني بالإسكندرية محاضرة في هذا المعهد تحدث فيها عن فن الموسيقى
وقد استمع لهذه المحاضرة كثير من محبي هذا الفن وغيرهم من الطلاب، وكان بحث الدكتور في هذا الموضوع دالاً على خبرته واقتداره. وقد عرف الدكتور سنل الموسيقى بأنها فن تأليف الأصوات لإثارة الغبطة في النفس. وقال إنه لما كانت اللغة لا تفي بالتعبير عن العاطفة أحياناً، فإن المرء يعمد إلى إبرازها بإضافة الصوت والحركة إليها
وكان مما قاله عن الموسيقى الأوربية أنها نتجت من تمرين الأفراد على تعرف نظام الجمع بين الأصوات. على أن القليلين من الناس حتى بين ممارسي الموسيقى - يستطيعون تعرف مقام الربع في النغم
أما الموسيقى العربية فقال عنها: إنه ليس فيها شيء من نظام الموسيقى الأوربية من حيث التأليف بين الأصوات، وإنما هي (خط واحد). والأذن العربية مهما قل حسها تستطيع أن تتعرف الأرباع. ويميل الموسيقيون في مصر الآن إلى إدخال بعض التراكيب الموسيقية الأوربية على الموسيقى العربية
وختم المحاضرة بحثه بذكر ما يجب على السامعين في الحفلات الموسيقية من الأمور كالإصغاء للتوقيع وتجنب الحديث وعدم الآتيان بحركات تؤثر في صفاء جو الغناء والموسيقى وجلاء روح الفن
وفاة الأستاذ عبد الحميد بن باديس
نعت أخبار الجزائر الأستاذ عبد الحميد بن باديس رئيس جماعة العلماء وزعيم الصحفيين والأدباء توفاه الله يوم 8 ربيع الأول الموافق 16 إبريل. وقد كان رحمة الله من رجالات الشرق الأفذاذ نفسية وعلماً وخلقاً
ولد في قسنطينة سنة 1309، وأتم دروسه في الزيتونة، وطوف في بلاد الشرق، ثم عاد إلى وطنه فأنشأ مجلة الشهاب، واجتمع عليه نخبة من الطلبة في الجامع الأخضر (الذي أصبح فيما بعد موئل الثقافة الدينية بالجزائر) فصال وجال في دروسه وخطبه ومقالاته نيفاً وربع قرن يدعو إلى إصلاح الديني والاجتماعي والسياسي، فأوذي وفتن، ولكنه خرج من فتنته كالتبر لم تزده النار إلا صفاء وإخلاصاً. عند ذلك اتجهت إليه الأنظار في شمال أفريقية، فتبوأ عرش الزعامة في كل مجمع والمحبة في كل قلب
إسماعيل محمد عزمي
رأي الأستاذ ميخائيل نعيمه في ليالي الملاح التائه
طالعت في ديوان (ليالي الملاح التائه) شعراً متين الحبك، مشرق اللون، قوي النبرة، مؤمناً بذاته، وطلعت عليَّ منه عاطفة لا تتستر بخيال إصبعها ولا تتلبس غير لباسها. وكنت أود لهذه الشاعرية ألا تغرق في لجج الوطنيات، ولا تفرغ حماستها في كؤوس الخيام، أشكر لك يا أخي هديتك المسلوخة عن قلبك، وأتمنى لقلمك لا تشيخ. . .
تيسير الفقه
كنت أقلب صفحات (وحي الرسالة) للأستاذ الكاتب الكبير صاحب (الرسالة) أعزَّ الله يراعته، فرقعت عيني على ما في أدنى الصفحة التاسعة والعشرين وأعلى الصفحة الثلاثين من كلام جرى بين الإمام الشيخ محمد عبده طيب الله مضجعه وبين شيخ من رجال المحكمة الشرعية. سأله الأستاذ الإمام فيم يشتغل؟ فقال: نعلم النصارى الذين يدخلون الإسلام أركان الدين. فقال له: يكفي أن تقول صل وصم وزك وحج. فقال: ولا بد أن نعلمهم الوضوء. فقال: قل له أغسل وجهك ويدك إلى مرفقيك وامسح رأسك وأغسل رجليك. فقال: ذاك لا يكفي ولا بد أن نعلمه حدود الوجه من أين يبتدئ وإلى أين ينتهي. وقد أجابه الإمام بحدة قائلاً: قل له يغسل وجهه، كل إنسان يعرف حدود وجهه من غير حاجة إلى مساح.
شعرت بعد قراءة هذه الجمل بحاجة الفقه الإسلامي إلى تيسير، وهذا يكون بتأليف كتاب ينطوي على المباحث الفقهية كافة، يستغني به عن كل مطوَّل ونختصر، ويقرر تدريسه في الأزهر وفي سائر البلاد الإسلامية ليكون الفقه مألوفاً للناس على اختلاف معارفهم ومداركهم، وعائشاً مع الثقافات كعلم ثمين وأما أسس التيسير فينمّ عنها التيسير نفسه، ومع ذلك فربد من الإشارة إلى بعض هذه الأسس والطرائق والأشكال:
1 -
حذف الزوائد الفقهية من مستحقات وآداب وإساءات (وعلل غير معقولة)
2 -
استعمال اصطلاحات جديدة منظمة وإلغاء الاصطلاحات القديمة - فيما إذا تحقق اضطرابها -
3 -
الأخذ بأسهل الأحكام وأيسرها للناس. فمثلاً يقضي الحنفية بوجوب الوتر ونقض الدم
للوضوء. والشافعية يجعلون الوتر سنة ولا ناقضية للدم؛ فيؤخذ بأحكام الشافعية
ومثلاً يقضي الشافعية بأن الصلاة الإبراهيمية فرض في الصلاة وتركها مبطل للصلاة ويعتبرون مس الرجل للمرأة ناقضاً لوضوئه. والحنفية يجعلون الصلاة الإبراهيمية في الصلاة بسنة لا تبطل بتركها، ولا يرون في مس المرأة نقضاً للوضوء فيؤخذ بأحكام الحنفية
وهذا النماذج المذهبي ضروري للعالم الإسلامي الذي هو وحدة دينية لا تتجزأ، وقد أشرت في كتابي (التشريع الإسلامي) إلى بعض هذه المعاني بشكل فيه نوع وضوح
ولا مانع من مراجعة آراء الظاهرية والزيدية والأباضية وبعض فرق الشيعة للاستفادة من ملاحظتهم والاستنارة بآرائهم
وهذه عملية فيها صلاح للمسلمين كثير؛ فقد أثخنتنا الخلافات أذى وأشبعتنا هو أنا. وأرجو أن أسمع من الأساتذة الذين بحثوا أخيراً في موضع الأزهر وإصلاحه رأيهم في هذا الأمر
(القاهرة)
جلال الحنفي
تخليد ذكرى المرحوم مصطفى صادق الرافعي
رغب بعض حضرات الأدباء والشعراء تأخير يوم الاحتفال
بتخليد ذكرى المغفور له الأستاذ مصطفى صادق الرافعي
وتحقيقاً لرغبتهم قررت لجنة الاحتفال إقامة الساعة السادسة
من مساء الخميس 2061940 بدار مجلس مديرية الغربية
بشارع المدرسة بطنطا. وترجو اللجنة حضراتهم أن يتصلوا
بحضرة سكرتيرها الأستاذ أمين حافظ بطنطا إلى يوم الجمعة
1461940
رئيس اللجنة
الدكتور عبد العزيز العجبزي
عضو مجلس الشيوخ
تصويب
جاء في مقال الأستاذ محمد يوسف موسى المنشور في العدد الماضي ثلاث كلمات محرفة وهذا صوابها:
صفحةعمود سطر خطأصواب
938 27وكذا الواحد وَكْدُ الواحد
939 1 12ذلك ما يزيدذلك إلى ما يزيد
939 116إلى كل هذاإلى. . . كل هذا
رسالة النقد
تعقيب على تصحيح
للأستاذ محمد محمود رضوان
ذكر الأستاذ عبد القادر المغربي في العدد 356 من الرسالة عدداً كبيراً من المآخذ التي رآها في الجزء الثالث عشر من كتاب نهاية الرب للنويري، ولا يسع كل أديب وباحث إلا أن يحمد للأستاذ تلك الغيرة على تصويب كتاب له قيمته الأدبية كنهاية الأرب خصوصاً وقد وفق إلى حد كبير من تلك التصويبات وإن أخطأه التوفيق أيضاً في كثير منها
وللنويري صاحب نهاية الأرب في قلبي مكانة لم يحتلها أديب غيره من أدباء العصر التركي فهو أحبهم إلي وآثرهم عندي، إذ أن بيني وبينه - فوق إعجاب بمجهوده الجبار في تصنيف موسوعته العظيمة - آصرة الوطن وهي فوق كل آصرة
ولعل من القراء من يذكر مقالي الذي كتبته منذ عامين في جريدة الأهرام عن النويري، ودعوت فيه إلى إحياء ذكرى هذا الأديب المنسي، ونوهت بفضل موسوعته وما أشاد مؤرخو الأدب بها، وكان أن أخرجت دار الكتب المصرية بعد ذلك الجزء الثالث عشر من نهاية الأرب مشكورة، وإن كانت لا تسير في إحياء هذا الكتاب إلا كما تسير السلحفاة
وإذن فقد حق عليّ رأيت الأستاذ المغربي يتسقط الخطأ تسقطاً، ويلتمس الزلل التماساً أن أنافح - بالحق - ما وسعني النفاح عن المؤلف تارة، وعن المصححين أخرى، وهأنذا مورد ما كتب الأستاذ ثم أتبعه نقاشي له
1 -
(ص11س21) قوله (ففتحها) صوابه (ففتحهما) إذ أن الضمير يرجع إلى العينين
هذا ما قاله الأستاذ الناقد وأقول: إنه ليس على ذلك التعبير غبار، والعرب كثيراً ما تذكر الاثنين - وخصوصاً إذا كانا لا يكاد أحدهما ينفرد وذلك كالعينين واليدين والرجلين - وتعبر عنهما مرة وبأحدهما مرة، قال الفرزدق:
ولو بخلت يداي به وضنَّت
…
لكانْ عليَّ للقدرِ الخيارُ
فقال يداوي، ثم قال ضنت وهو يعني اليدين.
وقال آخر:
وكأن في العينين حبَّ قرنفُل
…
أو سنبل كحلت به فانهلَّتِ
فقال العينين، ثم قال كحلت فانهلت، وقال بعض المحدثين:
فدتك بعينيها المعالي فإنها
…
بمجدك والفضل الشهير كحيل
ومن ثم فتعبير نهاية الأرب صحيح ليس عليه مأخذ. . .
2 -
(ص25س14): ونادى إلى ذات اليمين وهو يقول: أنا من يشهد لك بالتوحيد الخ
قال الأستاذ الناقد: فقوله (ونادى إلى ذات اليمين) صوابه (وأوى إلى ذات اليمين) - أي مال ولجأ إلى الجهة اليمين - وأقول: لو أن (نادى) قريبه من (أوى) خطاً، لكان ذلك كلاماً حسناً، أما وبينهما ما بينهما، ففي ذلك التخريج من التعسف ما فيه، على أنه ليس ما يدعو إلى تخطئة نادي وتبدل غيرها بها، ويظهر أن ذكر فعل القول بعد فعل النداء - وهما متقاربان معنى - هو الذي أشكل على الأستاذ، فجعله يفضل الاجتزاء بواحد منهما ويتبدل أوى بنادي، مع ذكر القول بعد النداء كثير سائغ. ورب العالمين يقول (فحشر فنادى، فقال أنا ربكم الأعلى)؛ ويقول (ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي). فليس من غضاضة إذن في قول النويري: (ونادى إلى ذات اليمين وهو يقول. . . الخ). إذا أعربت الجار والمجرور - إلى ذات اليمين - حالاً من الضمير المستتر في نادى
3 -
(ص67س11): قوله: (فقال فتى منهم حدث السن) خطأ، وصوابه:(حديث السن)؛ وعبارة المصباح: (يقال للفتى حديث السن، فإن حزفت السن، قلت: حدثً بفتحتين)، أي من دون إضافة حدث إلى السن. . .
وأقول: لا محل لهذه التخطئة، وإن كلام المصباح الذي استشهد به الأستاذ، ليس فيه دلالة قاطعة على أن قولك (حدث السن) خطأ، وإنما يدل على أن قول (حدث) يساوي في معناه قولك (حديث السن)، على أنك لو أضفت (حدث) إلى (السن) إضافة توضيح ما بعدت ولا تجنبت، وكيف وعبارة القاموس تؤيد ما أذهب إليه وهي (ورجل حدث السن وحديثها بين الحداثة والحدوثة فتىُّ) وذلك واضح
4 -
(ص127س7): قوله (حتى بلغ بها إلى البحر) صوابه (بلغ بها البحر) من دون حرف الجر لأن فعل البلوغ يتعدى بنفسه
وأقول: لا أدري كيف يمنع الأستاذ تضمين الفعل معنى فعل آخر وهو مطرد على ألسنة الفصحاء وأئمة البيان واللغة، ولست أستشهد بفعل غير الذي معنا - وذلك كثير - ولكني
أذكر عبارة وقعتُ عليها في كتاب (فقه اللغة) لأبي منصور الثعالبي أورد فيها الفعل بلغ معدي بإلى، وكأنه ضمنه معنى وصل أو انتهى، والثعالبي هو الثعالبي. قال ص578:(ومثله قوله عز وجل (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر) وهم لم يبلغوا إلى أرذل العمر فيردوا إليه)
5 -
(ص139س7): (وقيل إن النساء خلون به ليعدلنه لها) يعني أن نسوة المدينة لما بلغهن خبر جفوة يوسف لزليخا امرأة العزيز خلون به ليعدلنه، وقد ضبط فعل (يعدلنه) بدال المهمة المشددة من فعل عدَّله إذا أقامه وسواه. قال الأستاذ المغربي:(إن الأصوب والأليق بالمقام أن تكون (يعذلنه) بالذال المعجمة من العذل على معنى أن النسوة خلون بيوسف وأخذن في عذله ولومه على ما كان من جفوته لسيدته وإنه لا معنى للتعديل والتقويم هنا إذ ليس المقام مقام تربية ولا تقويم، وإنما المقام مقام حب وجفاء)
وأقول: إنه ليس ثم داع لهذا التصويب، وإن الكلمة لا هي يعدَّلنه كما ضبطها الشارحون ولا يعذلنه كما يرى الأستاذ المغربي؛ وإنما هي يَعْدِلْنه بغير تشديد من الفعل الثلاثي عدل بمعنى عَطَفَ، والمعنى أنهن خلون به ليجعلنه يعدل إليها وينعطف، والدليل على ذلك ما يقوله صاحب الأساس في مادة عدل (وعدلته عن طريقه وعدلت الدابة إلى طريقها: عطفتها)؛ وهذا الطريق يعدل إلى مكان كذا. وفي حديث عمر رضي الله عنه: (الحمد لله الذي جعلني في قوم إذا ملت عدلوني كما يُعْدَل السهم).
6 -
(ص242س2): (فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول) قوله (فحملوه) لعل صوابه (فحملوهما)، أي حملوا كلاًّ من الخضر وموسى وإن كانوا لم يعرفوا إلا الخضر، ويشهد لما قلنا قوله بعد (فلما ركبا في السفينة) بألف التثنية أي الخضر وموسى
وأقول: إن ذكر الاثنين ثم إعادة الضمير على أحدهما دون الآخر مما جرى عليه العرب في تعبيرهم كما استشهدت في أول هذه التصحيحات، وخصوصاً إذا كان ثم مسوغ بلاغي أو معنى لهذا الحذف؛ وهذا المسوغ ذكره الأستاذ الناقد نفسه في خلال كلامه، وذلك قوله:(وإن كانوا لم يعرفوا إلا الخضر). على أن الحذف باب من أبواب البلاغة المشهورة، فقوله (فحملوه) يتضمن محذوفاً أي (موسى) وذلك مطرد في كثير من كلام العرب وفي كلام الله، ألم تسمع إلى قوله تعالى (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله)؛ قال
بعض المفسرين: (إن الضمير في ينفقونها عائد على الفضة، واستغنى بذلك عن عود الضمير إلى الذهب والفضة معاً للدلالة)
والعرب تخاطب الاثنين أيضاً، ثم تنص على أحدهما دون الآخر فتقول: ما فعلتما يا فلان؟ وفي القرآن (فمن ربكما يا موسى) وأغفل هرون، وفيه (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى، خاطب آدم وحواء، ثم نص في إتمام الخطاب على آدم وأغفل حواء، فلا فرق بين عبارة النويري وهذه الشواهد إلا أن هذه للخطاب وتلك للغيبة، وسبب الحذف واحد في الجمع وهو التنويه بالأهم غيبة أو خطاباً
وقريب من هذا - أو عكسه - ما تفعله العرب من نسبة الفعل إلى الاثنين وهو لأحدهما كقوله تعالى في قصة موسى نفسها (فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما) مع أن النسيان كان من أحدهما لأنه قال (فإني نسيت الحوت وما إنسانيه إلا الشيطان) وكقوله تعالى: (مرج البحرين يلتقيان) وأحدهما عذب والآخر ملح، ثم قال:(يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان)، وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من الملح لا من العذب
وهكذا يجد المتأمل في لغة العرب غير قليل من السعة والمرونة لا محل للتزمت فيه. . .
7 -
(ص271س5): (قال موسى يا رب بما سمعت دعاء بلعام على فاسمع دعائي عليه قوله: (بما سمعت) لعل صوابه: (كما سمعت) أي اسمع دعائي كما سمعت دعاءه. . .
وأقول: إن في هذه التخطئة غير قليل من التجني على اللغة إذ أن مثل هذا التعبير عند تذوق أساليب العربية وقرأ كلام الله وأحاديث رسوله صحيح سائغ رائع، ولأقرَّب المعنى المراد أستعدي الإعراب فهو رائدنا إلى الصواب. وذلك أن (الباء) في عبارة النويري للسببية و (ما) مصدرية، والمعنى:(يا رب، بسبب سماعك دعاء بلعام على فاسمع دعائي عليه). وذلك كثير في كلام الله وإليك الشواهد:
(أ) قوله تعالى: (إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون) أي بسبب فسقهم
(ب) قوله تعالى: (قال لا تؤاخذني بما نسيت) أي بنسياني
(ج) قوله تعالى: (ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون)
(د) قوله تعالى - وشبيه به عبارة النويري لفظاً، وليس كمثله شيء -: (فأما الذين اسودت
وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) أي بسبب كفركم
وبعد: ففي تصويبات الأستاذ المغربي - غير ما ناقشت - كثير لا محل له، كتصويبه (المضيق بالمطبق) وهو سجن إبراهيم تحت الأرض مع أن المضيق كما في القاموس هو المكان الضيق. وقد خصصت عبارة النويري بأنه تحت الأرض، وذلك هو المراد ففي كل غناء عن (المطبق) التي يأبى الناقد إلا أن يدسها دساً، وكتصويبه (النحيب بالنحيب) والأولى صحيحة تؤدي المعنى كما اعترف، وكتصويبه (تفوهت بنوهت) والأولى تؤدي المعنى مع زيادة اقتضاها المجاز الخ. . .
(القاهرة)
محمد محمود رمضان
مدرس بالجمالية الأميرية