الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 363
- بتاريخ: 17 - 06 - 1940
العلم المسكين!
للأستاذ عباس محمود العقاد
إذا غضب الإنسان التمس لغضبه هدفاً وإن ارتد إلى نفسه وأحب الناس إليه، لأن الغضب حركة ولا بد للحركه من اتجاه
وهكذا صنع صديقنا الزيات وهو غاضب على الحرب وأدواتها الجهنمية في عصرنا الحديث. فنظر إلى أقرب ما يرميه فإذا هو العلم المسكين: العلم الذي علم الناس أن يصنعوا البركان والإعصار، وأن يسلموا زمامهما للقاذف والطيار!
غضب الأستاذ غضبته تلك فتمنى لو أن للعالم (كرة إلى عصر الجمل والحصان، وحرب السيف والسنان، ومدنية القلب واللسان، لينجو من هذا العلم الذي يدمر ما يعمر، ويخلص من هذه الحضارة التي تأكل ما تلد)
ولو كر العالم إلى عصر الجمل والحصان وحرب السيف والسنان لما رضى صديقنا الأستاذ، لأن هولاكو وتيمور قد صنعا بالحصان والسنان ما لم يصنع قواد هذا الزمان بالإعصار والبركان، وزادا على ذلك بلاء الطواعين يضيفانها إلى بلاء الطعان، فأين يذهب العلم المسكين مع هذا الإنسان!
كلما أنبت الزمان قناة ركب المرء في القناة سنانا
بل ركب سناناً فوق السنان، وأتى معه إلى الميدان بالحيوان. . . وبالجان!
ولو تمثل العلم شخصاً يتكلم لاستغاث من هذا المخلوق الذي شوه جمال كل جميل حتى المعرفة والنور
وهل المعرفة إلا نور؟
وهل يأبى النور أن ينير إذا (اهتدى) به اللص في طريق الشرور؟
وهل يرتفع العلم بالإنسان إلى مكان أرفع وأطيب من فراديس الجنان؟
فماذا صنع في فراديس الجنان؟
سمع وحي الثعبان ولم يستمع إلى وحي الرحمن فويل لهذا الإنسان!
لقد ظهر الاختراع مع العلم فماذا صنع الإنسان قبل أن يخترع في العصر الحديث اختراع العلماء؟
اخترع الحصان أداة للكر والفر والطعان!
جاء به من الأجمة والجبل أسلم ما يكون بين فصائل الحيوان، وقذف به إلى الميادين أخطر من النمر والثعبان. . . بل أخطر من المارد والشيطان!
وقبل الحصان حملته قدماه!
وقبل القدمين ركب رأسه وهواه
ولولا رأسه وهواه لما ضاقت به دنياه. . . كان له الله!
أخي الغاضب على الحرب! دع العلم في مكانه منها، فوالله إنه لرحمة بالإنسان حتى مع هذا الشر الذي يتفجر به طبعه ويتدفق به نبعه
إنه لأرحم به من الجهل يوم كان الطاعون يقتل مائة إلى جانب كل قتيل واحد يسقط في حومة القتال، ويوم كان كل واحد بؤرة تجتمع فيها ملايين الملايين من جراثيم الحميات والأهوية الوخيمة لتتفرق بعد ذلك من جبل الأطلس إلى أقصى الصين.
وقد مات في الحرب الأمريكية مائة وثمانون ألفاً في حومة القتال وضعف هؤلاء القتلى ماتوا بالأوبئة والأمراض
وأحصوا في حرب القريم خمسة وعشرين ألفاً من الإنجليز والفرنسيين ماتوا بالرصاصة والسيف، ونيف وتسعين ألفاً ماتوا بطعنة مكروب صغير لا تراها العين ولا يعلم بوجودها المقاتلون. لا بل هذه السرعة التي تنعاها أيها الأخ على العصر الحديث هي التي تعجل بالسلم وقد كان بطيئاً من قبل كالبطء في كل شيء من أشياء الزمن القديم
فأين هي الحرب التي تدوم اليوم ثلاثين سنة كما دامت حرب الثلاثين؟
وأين الحرب التي تعود اليوم في كل موسم كما كانت حروب القبائل البادية تعود في كل مرتبع أو كل مصطاف؟
أما عدد القتلى فما كان أكثره بالأمس، وما أقله اليوم بالقياس إلى عدد الأمم المشتركة في الحروب
لقد مات في حرب جنكيز خان نحو عشرين مليوناً، واشتركت أمم الأرض في الحرب الماضية فكان القتلى فيها أقل من تسعة ملايين
ودارت معركة بين الإنجليز والإيفوسيين في أوائل القرن السادس عشر، فبلغ القتلى من
هؤلاء الأخيرين عشرة آلاف، ولم يكن سكان إنجلترا وإيفوسية يومئذ يزيدون على أربعة ملايين
وسر ذلك أن القوة قد اشتدت في سلاح الفتك وسلاح الوقاية على السواء؛ فالمدفع الذي يقتل ألفاً تخيفه طيارة يديرها رجل واحد؛ والأسلحة التي تبذل فيها الأمة ألف مليون يصدها الحصن الذي تبنيه الأمة بمائة مليون، واللغم الذي يودي بالمدرعة العظمى يلقطه وعشرات معه زورق صغير
ولكل شيء آفة من جنسه!
والفضل للعلم الحديث الذي صدم الشر بالشر فوقفا متكافئين، ولو انطلقا بغير رادع لهلكا متسابقين إلى الهلاك
فالحق أننا لنتخيل الدنيا وقد احتشد في جانب منها عشرات الملايين، وترامت بينهم ألوف الجثث وهم بعيدون من المعقمات التي اخترعها العلم والمطهرات التي صنعها العلم ووسائل العلاج التي استنبطها العلم، ثم نتخيل ما وراء ذلك من أوبئة وطواعين، ومن حميات وأدواء، ومن صرعى لا يجدون القبور ولا القابرين، فلا يسعنا إلا أن نغضب كما غضب الأستاذ من الحرب، وإلا نثور كما أثار الأستاذ على البغاة الآثمين، ثم نخالفه بعد ذلك فننادي بالعلم جهد ما نستطيع من نداء: مكانك فينا أيها العلم فلا رحمة لنا في عهد الحصان والسنان، وإنما الرحمة لنا في عهد الإعصار والبركان، ومن يلجم الإعصار والبركان. لأننا إذا رجعنا كرة أخرى لم نفقد الشر الذي يضري بالقتال ويغري بالعدوان، بل فقدنا الضياء الذي يرينا الشر والخير يتصاولان ويتكافآن، أو فقدنا شراً يدفع شراً فلا يبغيان ولا ينطلقان
أذكر كلمة للعالم الكبير (أوليفر لودج) يقول فيها إن خلقة (الميكروبة) مكسب كبير لعالم الحياة، فلو فرطت فيه الدنيا لبقيت عند المادة الصماء، ولم تتجاوزها إلى ما وراءها من عالم الأحياء
وهذا الذي قاله أوليفر لودج حق عظيم
فلو أننا استطعنا أن نتخيل أنفسنا في مطلع الخليقة، وأن نتخيلنا مسؤولين: هنا مادة صماء تبقى أبد الآبدين مادة صماء،
وهنا جرثومة حية صغيرة تنمو وتنمو معها الحياة ولكنها لا تؤمن على سائر الأحياء، ولا بد من دواء يطول فيه العناء، فماذا أنتم مؤثرون يا معشر الخلق بين هذا البلاء وذاك الفناء؟
هنا يبدو لنا أن خلقة (الميكروبة) مكسب كبير كما قال (أوليفر لودج) الذي يقدس الجرثومة لأنه يقدس الحياة
وهنا يبدو لنا أن علاج (الميكروبة) مكسب آخر قد ارتقينا به في مراتب الفهم والمعرفة وكبحنا به كثيراً من شرور العجز والجهالة
وعلى هذا النحو تقترن المحنة بكل منحة، ويقترن العناء بكل نماء:
يبكي الطفل حين يولد، ويمرض حين تنبت له أسنان، ويختل ميزانه زمناً حين يدرك المراهقة، ويشقى بالتبعة زمناً حين يخرج من وصاية الأب إلى رشد الرجولة، ويعطي كلما أخذ مادام مرتقياً في مراتب الحياة
فمن يدر ما تشتري (الإنسانية) غداً وقد بذلت الثمن الفادح في الحرب القادمة؟
إنها مشترية شيئاً لعله يجمع بين فضيلة الفطرة وفضيلة الحضارة، وبين مزية الأناة ومزية السرعة، ولعله يفيض على بني الإنسان طمأنينة الواجد الذي يحمي ما يجد فهي خير من طمأنينة المعدم الذي لا يملك ما يفقد، وهي حالة يرضاها صديقنا الأستاذ إذا أغضبته الحروب، أو هي حالة أقرب إلى الإمكان من كرة أخرى إلى عصر الجمل والحصان، وحرب السيف والسنان
عباس محمود العقاد
في حياتنا الوجدانية
(مهداة إلى الأستاذ عبد المنعم خلاف. . الكاتب الذي أحب
عالمه الوجداني)
للأستاذ حسين مروة
ما الكرامة وما الشرف؟
ما الحرية وما المجد؟
أسماء فخمة رائعة، ذات أجنحة سحرية عجيبة ننجذب إليها طائعين مسحورين، فتحلق بنا في سموات من الخيال مواجة بالأنوار والألحان والمباهج. . .
أسماء ذات أبعاد ضئيلة، محدودة ناقصة، يكمن في أطوائها سر من الأسرار لا تحده الأبعاد الواسعة، سر يفيض الخير على جوانب الحياة كلها، ويطوف بالنفوس الإنسانية جميعاً فيثير في الضعيف العاجز مجرد الحنين واللهفة والألم، ويحمل القوي القادر على ركوب الأخطار والأهوال والمكاره، وقد ينفخ في الضعيف الحي الطموح قوة تكتسح بذور الضعف، وتصرع عوامل العجز والخنوع والاستسلام. . .
ما هي هذه الأشياء الحبيبة للإنسان تبهره أضواؤها ومباهجها وتشتد لهفته إليها كلما اقترب منها، ويتغنى بوجده بها في سره وجهره، في صحوه وسكره، في كوخه الوضيع وقصره الرفيع، سواء كان غبياً أم ذكياً، ضعيفاً أم قوياً. أكان بادياً في الصحراء القاحلة، أم حاضراً في المدينة العامرة؟ أكان فلاحاً يتصبب عرقه في حقله، أم عالماً يجرب في مخبره وينقب في كتبه؟ ما هذا الهوس المحموم يدفع الإنسان - أفراداً وجماعات - إلى غمرات الموت بين اللظى المستعر والحديد الحاصد، فيندفع راضياً مستعذباً لقيا الشدائد في سبيل ما يدعوه الكرامة والشرف أو في سبيل الحرية ومجد الأوطان، لكأنما هو - حين يلقى الشدائد في هذا السبيل - إنما يلقى أحبة أعزة في ظلال أمن وارف ودعة ظليلة ناعمة. . .؟
ما هي الكرامة والشرف؟
وما هي الحرية والمجد؟
هل هي حقائق ذات قرار في عالم الحس والواقع: العالم الذي نتعرف إلى حقائقه الموجودة
بإحدى هذه الأدوات الخمس: العين التي تبصر الألوان والأنوار والظلال، والأذن التي تسمع الأصوات، والفم الذي يذوق الطعم، والأنف الذي يحس الرائحة، واليد التي تلمس الحرارة والبرودة والخشونة والنعومة؟
هل الكرامة والشرف، وهل الحرية والمجد حقيقة من هذه الحقائق المحسوسة في هذا العالم الواقعي الذي لا يعترينا الريب بوجوده؟
كلا: ليست هي شيئاً من هذا كله - كما نعلم جميعاً -
أتكون - إذن - معدومة لا قرار لها في هذا الوجود الواسع؟
أتكون - إذن - غارقة في بحر العدم اللانهائي؟
ولكن: كيف تكون الكرامة والشرف، والحرية والمجد - عدماً من الأعدام وهاهي أضواؤها الباهرة تبهر عيون الشعوب الضعيفة والقوية على السواء، وهاهي أنغامها الصارخة تدفع بالإنسانية اليوم إلى المجزرة الهائلة الطاحنة، وهاهي الدماء البريئة تراق على جوانبها، وقد كانت كذلك من قبل أن يقول الشاعر العربي العظيم:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
…
حتى يراق على جوانبه الدم
وستظل كذلك حتى ينصب ميزان العدل أمام الديان الأعظم. . .
كيف تكون الكرامة والشرف والحرية والمجد عدماً من الأعدام وهي نفسها تلف سبعين مليوناً ونيفاً من العرب بشملة واحدة وهم في رقاع من الأرض متباعدة؛ وهي: هي نفسها تشد الأواصر وتجمع القرابات، وتوحد المشاعر بين شعوب العربية على اختلاف الديار والأحوال. وهي نفسها - كذلك - تدفع ببضعة نفر من هؤلاء الشباب المتحمسين إلى المسرح يمثلون - أمام جمهور عربي متحمس - دوراً من أدوار جهاد العرب المقدس في سبيل الكرامة والشرف وفي سبيل الحرية ومجد الوطن؟
إذن: لا سبيل للشك في أن هذه المعاني الوجدانية السامية ليست هي من الأشياء الغارقة في بحر العدم المطلق، ولا سبيل للشك - إذن - بأنها في قرار مكين من هذا الوجود
نعم: هي موجودة دون شك ولكن. . . ولكن أين يقع محلها في بحر هذا الوجود الأوسع ما دامت لا قرار لها - كما قلنا - في عالم الواقع المحسوس؟
وهنا يبدو لنا سؤال هو مفتاح السر في هذا الموضوع:
ترى: أكان الإنسان إنساناً بمجرد هذا الوجود الحسي الواقع وحده؟ إذن فما معنى هذه الإنسانية المتبجحة بأسرارها الخطيرة؟ ما معنى هذه الإنسانية المفضلة - تفضيلاً مطلقاً - على كل شيء وهب نعمة الوجود؟. . . ما معنى هذه الإنسانية المزهوة بعظمتها إذا كان وجودها قائماً على جانب واحد هو الجانب الحسي الواقعي، الجانب المادي دون غيره؟ وأين يمتاز الإنسان - إذن - عن الحيوان الأعجم إذا كان يشاركه في هذا الجانب المادي من الوجود ثم لا يزيد شيئاً بعد ذلك؟
اللهم لا: إن هذا الإنسان العظيم لأرفع شأناً، وأجل خطراً من أن تكون إنسانيته العظيمة قائمة على وجودها المادي مجرداً، لا يسنده جانب آخر من جوانب الوجود. . . لا: ليس الإنسان كائناً حياً وكفى. . . بل إن الإنسان: كائن حي، أعلى، فهو إنسان - إذن - لأنه ذو جانبين اثنين يشارك بأحدهما سائر الكائنات الحية في هذا الوجود، ويتفرد الجانب الآخر واقفاً على قمة الهرم: هرم الحياة
فما هو الجانب الآخر الذي يصعق بالإنسان إلى قمة الهرم؟ هو لون من الوجود أفاضته الطبيعة على هذا الكائن الحي فصار إنساناً، وصار الإنسان سيد الوجود، على الإطلاق
هو لون من الوجود غريب يأبى التعريف والتحديد، لأنه يسمو فوق الحدود وفوق القيود، وإنما نعرفه بمظاهره وأثاره ليس غير
هو الآية الكبرى من آيات الطبيعة جاءت بها لتقيم البرهان على عظمة الخلق والإبداع الإلهي
هو الكوة التي يطل منها الأنبياء والمصلحون على الناس ليغدقوا عليهم أنوار الإيمان والفضيلة والرحمة والعدالة فتتفتح له عيون، وتعشو منه عيون. . .
هو المنظار السحري العجيب الذي يتطلع منه الشعراء، والفنانون الملهمون إلى الوجود، فيكشف لهم أسرار الوجود وخفاياه، ويلون لهم الحياة بألوان من الجمال وألوان من القبح، ويصور لهم الناس صوراً من الملائكة وصوراً من الشياطين، ويخلق لهم عالماً من السعادة يموج بالعطر والنغم، أو عالماً من الشقاء تفح فيه الأفاعي، وتضري الذئاب. . .
هو مصباح الفلاسفة والمثاليين يدورون به في مجاهل الكون وخباياه يبحثون عن الحقائق الكلية المطلقة، ويتغلغلون به إلى مكامن السر المحجب يستكنهون معنى الإرادة العليا فيما
وراء المحسوس، أو يسيرون به على الأرض في دنيا المطامع والشهوات يبشرون برسالة الحق والخير والجمال الأسمى
هو العالم الجميل الذي يعيش به المحبون في سبحات من النور تصور لهم كل لمحة من جمال الطبيعة معنى من معاني الحبيبة أو الحبيب
ذلك هو عالم الخيال والذهن والإدراك، أو هو عالم (الوجدان) كما يسميه العلم
فللإنسان - إذن - وجودان لا وجود واحد: هما الوجود الواقعي المحسوس، والوجود الذهني غير المحسوس، أو فلنقل: إن للإنسان حياتين: حياة مادية، وحياة وجدانية، وكلما كانت حياته الوجدانية أوسع أفقاً، وأكثر إشراقاً - كان أقرب إلى الإنسانية الصحيحة أو كان أقرب إلى معنى الكمال الإنساني وكلما ضاق به أفق الحياة الوجدانية ونظر إلى دنياه من نافذة الحياة المادية وحدها - كان أبعد ما يكون عن الحقيقة الإنسانية بمفهومها الأعلى، وأقرب ما يكون إلى حقيقة هذا الحيوان الأعجم يشاركه كل المشاركة في ماديته العمياء المجردة، بل قد يفضله الحيوان الأعجم في هذه الناحية المشتركة
وشعور الإنسان بالكرامة والشرف، وشوقه إلى الحرية والمجد - هما المظهر الأسمى لإنسانيته الصحيحة، لأن الشعور بالكرامة والشرف، والشوق إلى الحرية والمجد - هما أقوى مظاهر الحياة الوجدانية، وأدل على خصب الخيال، وسعة آفاق الذهن، وغزارة ينبوع الجمال النفسي، وقوة إشعاع الروح - هذه الأمور التي تنبع رأساً من دنيا الوجدان في حياة هذا الكائن الحي الأعلى. . . الإنسان
ولا فرق في هذا كله بين شعور الإنسان بكرامة نفسه وشرفها، وشوقه إلى حريتها ومجدها، وبين شعوره بكرامة قومه وشرفهم، وشوقه إلى حرية أوطانه ومجدها، بل: لعل هذين أمران متلازمان لا ينفكان كما يبدو لدى النظر العميق
وعلى ضوء هذا التحليل الصادق تعتبر الأمة العربية في مقدمة أمم العالم رسوخاً في الحياة الوجدانية السامية، لأن تاريخا المجيد طافح بآثار قوة الشعور بالكرامة والشرف، وشدة الظمأ إلى الحرية والمجد، وأيامها التاريخية اللامعة حافلة بالأمثال العالية لحب الكرامة والشرف، وحب الحرية والمجد إلى حدود الغلو، وهي حافلة كذلك بالشواهد العجيبة على التضحية والفداء في سبيل هذه المعاني الوجدانية سواء في الماضي والحاضر، وستكون
للعرب مثل هذه الشواهد والأمثال في المستقبل - كذلك - حتى ينقذوا كرامتهم من الهوان، وشرفهم من الامتهان، وحتى يدركوا حريتهم الغالية السليب، ويؤثلوا مجدهم الرفيع الذي كاد يصبح خبراً من أخبار الغابرين الداثرين.
(العراق)
حسين مروة
إلى أين.
. .؟
للأستاذ محمود محمد شاكر
- 2 -
قال صاحبي بعد قليل من سكتة صفير الإنذار بالغارة الجوية:
الآن وقد صم صدى هذا النذير البغيض، ومات صوت البومة الدميمة التي قامت تنعق على الموضع الخراب من عقل هذا العالم، فأسرعت الأيدي وتناهضت الأقدام، وخفت الأحياء ليطمروا أشلاء النهار التي كانت مبعثرة في طرقهم وبيوتهم على معركة الليل البهيم، إنهم يدفنون هذه الأشلاء الوهاجة خشية أن تراها عيون العافية من سباع الجو المنقضة بأنياب كرجوم الشياطين. آه يا صديقي! ما أقبح هذا وأفجره. ولكن دعني من هذا، فالآن أعود إليك
لقد مثلت لك بعض صورتها هي وبعض صورته عند أول اللقاء. لم أكشف لك بعد عن حقيقة النفسين وهما تعملان بأسباب من القدر، إن هذه الأسباب التي لا تدري متى أولها، قد أخذت تلتوي عليهما فيما يستقبلان من أيامهما، وثمة بدأ الإشكال، وتراكبت العقد الجديدة على تلك العقدة القديمة التي التبست عليهما في الطفولة، فلست أدري، ولا هما أيضاً يدريان، إلى أين المصير!
لمحها ولمحته في يوم اللقاء الأول، فوقفا طويلاً ينظران. وشخص البصر وكفت العين لا تطرف، وكأن العين قد أرسلت إلى العين رسلاً من أشعتها لتبحث في أعماقها عن معانيها الحائرة التي لم يستقر بعد على قرار مؤمن، تتبين فيه كلتاهما صورة كلماتها القلبية التي تنبض في موج الدم
أما هو، فقد أخذه ما يأخذ الغريق المشفي على هاوية من الهلاك الرطب الندي، ثم يفتح عينيه، فإذا هو ملقى على الشاطئ قد انتشلته من فزع الردى نجاة برحمة من روح الله. ولكنه لا يدري من الذي رده إلى الحياة بعد ملابسة الموت؟ ولا كيف كان؟ ولا أين هو؟ ولا أي مكان هذا؟. . .
وأما هي، فقد أنكرته بادئ اللحظة، ثم انكشف لعينيها الحجاب الكثيف الذي أرخاه الدهر الماضي بين أيامها وأيامه. . .
لقد عرفته وأثبتته معرفة، فأقبلت عليه تندفع بقوة الرد المتفلت من شد عشرين عاماً كانت تجاذبها دونه:
أنت، أنت!! أين كنت؟!
آه، لقد نسي المسكين عندئذ أين كان! إنه هنا. . .!
أليس هذا كافياً؟ أليس هذا هو كل شيء؟. . . أما الماضي، أما الحياة التي عملت في بنيانه أعواماً طوالاً كلها جهد وإرهاق. . .، كل ذلك ذهب وباد وأمحى، وكأن اليد التي تمحو ما تشاء وتثبت في تاريخ الإنسان، قد أمرت صفحتها على رقعة أيامه الماضية فغسلتها وطهرتها من سوادها، وردت إليه وإليها صحيفة أيامه بيضاء نقية قد تهيأت أن ينمنم فيها القدر تاريخه الجديد. . . أجل! كان هذا هو الإنذار الأول من القدر لهذا المسكين أنه سينسى معها كل تجاربه في الحياة، وأنها هي التي ستكتب له هذا التاريخ الجديد من القدر خيره وشره
ومضت الأيام الأولى بعد هذا اللقاء البغت على ذكرى حاضرة تصارع وحوش الماضي التي وطئت بأقدامها عهود الصغر وملاعب الطفولة فطمست معالمها ومحت بعض آياتها. جعلت هي تتكلم، وكأنها ذاكرة التاريخ الواعية التي لا تكاد تفلت شيئاً إلا أحصت دقيقة وجليلة. حدثته وذكرته وأعادت عليه زخرف الصبا ووشيه من نسج حديثها، أما هو فبقي صامتاً ينصت لها خاشعاً ضارعاً يسمع صدى الماضي الذي يتكلم في سراديب النفس العميقة الممتدة الذاهبة بأساليبها الغامضة في أقصى غيب الحياة
كيف تدب الحياة في أشياء الطبيعة التي تخيل للناس أوهامهم أنها موات؟ كيف تستيقظ الأرواح النائمة في غار مظلم قد أطبقت على منافذه صخور صم من جبال الزمن؟ كيف تستقبل النفس - التي أحرقها الظمأ المتضرم - شؤبوباً من الغيث يهمي عليها بارداً عذباً زلالاً سائغاً يترقرق؟ كيف وكيف؟ لقد عرف هو كيف يكون ذلك كله حين تكلمت روحها في ثنايا روحه المتغضنة بأحزانها، وحين أخذت تناجيه بالذكرى. . .، ويتحدر في صوتها ذلك اللحن الخالد الذي يتحدر مع الغيث من السماء يناجي الأرض الظامئة المقشعرة المجدبة، فكذلك تهتز وتربو على مد أنغامه التي تفجر في ذرات الثرى كل ينابيع الحياة واستجاشت هذه الساحرة الجميلة التي خرجت عليه من لفائف الغيب المحجب تلك النفس
المصممة العنيدة فما زالت حتى انقشعت الغمامة الغبية التي كانت تحيط بنفسه عمراً من قبل. إنه الساعة يسمع ويرى ويحس، ويتغلغل في الحياة ببأس شديد. لا، بل كان في أول أمره هذا مضطرباً حائراً يدور بقوته حيث دارت به على غير هدى ولا صراط، كان ربما خلا فاستوحش فارتاع، فيحتمل كل أعباء الهم الذي يجده في نفسه، فيخرج يضرب في البيداء المقفرة البيضاء في مدا البصر، حيث لا يرى إلا صفاء السماء وبحر الرمل الساكن في مهاد الأرض. . .، حيث لا يسمع إلا حنين الرياح ونجوى أشواقها الأزلية في المهمة القذف. يمشي ثم يمشي حيث يتصرف به القدر الغالب، وهو لا يسمع مع ذلك إلا أنغام صوتها من حوله يتردد: أنت، أنت!! أين كنت؟
اشتعل القلب وفارت الروح، فانطلق بعد الحيرة والضلال في طريق سوى مؤيداً بهذه الروح القوية التي سيطرت على كل روحه بالحب والحنان، ومضى يعمل لها وبأسبابها نافذاً مقدماً لا يمل. ولكن سمعه لم يزل على حاله من الإصغاء ثابتة، كأنها إغماء أخذه كما تأخذ غمية الوحي إذا نزل فاشتد فاستبان، ثم تنحدر رنات صوتها إلى قلبه فتجري في أنهار الحياة المتدفقة في جثمانه بدمه، فيرجع الدم ألحانها ترجيعاً موسيقياً هفافاً آتياً من أغوار القدر العميقة. نعم، إنه لا يزال يسمع في مخارم نفسه ومهاويها صدى يتردد:
أنت، أنت!! أين كنت؟
فتجيبها الروح من أعماقها:
أنا هنا، أنا هنا!! أيتها العزيز!
هكذا بدأ بدؤه وقد نام كل ما فيه وخضع لسلطانها الذي لا ينتهي ولا يفتر، ثم دبت في روحه اليقظة الجديدة فتجددت النفس المتغضنة ورق شبابها، واستجمت قواها الشاردة بعد فترة كإغفاءة النائم في أنفاس الفجر الندي المتروح بعطر الرياض النضرة. ولكنه عاد - بعدئذ - برجولته يتوحش، فارتد إليه حذره الوحشي يتوجس خيفة، وأخذه بذلك الرعب من كل مكان أين أنا؟ وكيف كان هذا؟ ولم خضعت؟ وإلى أين أسير؟ كل هذه أسئلة جعل صداها يتردد في نفسه، ثم يلقيها على الدهر الأصم، فلا يجد جوابها جميعاً ولا تأويلها. ويومئذ جعل يصول صيال الوحش يريد أن يجد الفيل المفقود الذي يفرض فيه سلطانه على جوه وغابه. . . ولكن وا رحمتا له! لقد حق ما قلت يا صديقي: المسألة كلها قدر
محتوم! رفعت الأقلام وجفت الكتب!
أرأيت إلى ما وصف لك من أول ما تلاقيا؟ أرأيت إلى ذلك الوحش الآبد الحذر الذي لا يألف الحياة ولا هي تألفه؟ أرأيت إلى تلك الفكرة الباذخة العضلة التي تأبى أن تذل أو تتهضم؟ أرأيت إلى البركان المتقلع في عنفوان فورته؟ كل ذلك قد استحال بين يديها، وتحت أشعة عينيها، وفي مس أنفاسها، شيئاً غير هذا كله. فكل ما توحش منه فهو عندها يألف وادعاً يلوذ بها خاشعاً متضرعاً، وكل ما بذخ وسما وتعضل فهو يتطامل لها ويرق ويتلين، وكل ما تقصف منه وفار وغلى فهو ينساب إليها صبابة وحنيناً ولوعة
وعندئذ سكت صاحبي بغتة كأن لسانه قد عقد عقداً على ألفاظه، ثم تنهد واحدة كأنما أنهد بها ركن من جبله القائم في ضمير نفسه. ورمى بصره في هذا الركام المتكاثف بعضه على بعض من ظلام الليل. لم أرد أن أستثيره من هدأته التي يستريح إليها بعد هذا الجهد الهائل الذي كان يتدفق به في حديثه. لقد كان يعاني من هذا الحديث أشد مما يعاني الهارب السائر في وحشة الليل الصامت في غول الصحراء، وهو هائم على وجهه تطارده من ورائه شياطين العذاب التي تريد أن تنتشطه إليها بخطاطيف هائلة من الرعب والفزع
كنت أرق له وآسى عليه، ويمنعني من الحديث معه مخافتي أن يكون ذلك ما يصرفه عن بعض الفكر الذي يتعذب به وبوساوسه وخطراته. نعم، إنه عذاب عقلي أليم، ولكنه على ذلك مما يعطي النفس بعض راحتها من عذاب الشك والقلق والحيرة والحياة كلها صروف متعاقبة يراد بها السمو بالنفس على وجه من وجوه الألم. والألم وحده هو الذي يستطيع أن يصقل النفس الإنسانية صقلاً رائعاً، وبذلك يرد إليها حقيقة الإيمان المشرقة بالاطمئنان والتسليم. إنه حائر يشك في حقيقة ما يقع عليه فكره ولكن هذا الألم الذي يصارعه صراعاً عنيفاً لا رحمة فيه، وهو نفسه الرحمة المهداة إليه، ليؤمن بعد ذلك إيماناً لا يداخله شيء من الشك أن قلبه لم يخطئ، وأن أفكاره القلقة هي التي تخطيء وأنه ينبغي أن تقيد أفكار العقل الحائر بأغلال متينة من أفكار القلب المؤمن
وتضربت في همسات الليل أفكاري فيه، وجعلت أستعيد في نفسي كل ما قاله لأرى من تحته المعاني التي تتهارب وتختفي بطبيعتها في ظل الألفاظ اللغوية المحدودة بمعانيها. كنت حائراً في فهم هذا الصديق الذي يحدثني عنه صديقه، وما صديقه إلا هو وكنت ألمح
هذا الجبل وهو يتخلع من أعضاءه التي ينهض عليها ثابتاًُ قاراً متسامياً يهزأ بالتلال القصيرة التي تطمح إليه بأبصارها، وجالت في نفسي أفكار وأسئلة لا جواب لها. يا رب! أهكذا يضمحل الرجل؟ وارتفع صوتي بهذا السؤال غير متعمد لذلك. فما هو إلا أن هب صاحبي من غفوة الفكر التي غشيته، فابتدرني يقول:
نعم، هكذا يضمحل الرجل! وما تريد أنت إلى ذلك؟ إنك دائماً تفجؤني بتمثال يتكلم بأفكاري التي أتكلم بها في غيب نفسي أي شيء هو الرجل؟ هل تستطيع أنت أو من سواك أن يقرر للعقل حقيقة الرجل، وأن يمتهد لفكرته أصلاً لا يزول، فإن يخرج عنهما أو عن أحدهما اختفى في العقل أن يكون رجلاً حق رجل؟ هذا هو الغرور الذي يتهاوى فيه الناس ما داموا ناساً يبغي بعضهم على بعض، فطرة ركبت في سر طبائعهم.
إن هذا ليس اضمحلالاً وضعفاً بالمعنى الذي تتوهم، إنه ليس من قوة في الطبيعة إلا وفوقها قوة تحكمها وتصرفها، وخضوع قوة لقوة أعضل منها ليس يعرف ضعفاً فيمن يخضع، وإنما هو القانون الطبيعي الذي يستقيم به نظام العالم. إنه لا يقال للدوحة الفينانة العظيمة: أيتها المسكينة، لماذا تخضعين لسلطان الفصل الذي تساقط به أوراقك؟ أو لماذا هذا الحنين الدائب إلى قطرات من الغيث، وهذا الجبل أمامك يسفح عليه ماء السيل ثم ينقطع أعواماً فلا يظمأ إليه فيحن كمثل حنينك إلى قطرات من الماء انقطعت بضعة أشهر؟ هذه طبيعة الدوحة، فإذا انقلبت طبيعتها إلى غير هذا الناموس قتلها الظمأ وتركها حطباً يابساً لمن يستوقد
آه أيها الصديق! إنك لن تعرف الحقيقة حتى تستشعر قوة الآلام الملتهبة التي تترك الرجل يتزايل على الشوق والوجد واللوعة كما يتزايل جبل من الفولاذ قد تجوفته نار متضرمة من لهب جهنم. أبغي قليلاً من الماء ثم أحدثك كيف اضمحل الرجل!
(لها تتمة)
محمود محمد شاكر
في سبيل الأزهر أيضاً
فتوى. . . وفتوى. . .
للأستاذ محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة
لست أدري: أيغفر لي قراء (الرسالة) الغراء أن أعود بهم مرة ثانية إلى (فائدة الأربعاء) بعد أن كتبت فيها مقالي الأول؟
(وفائدة الأربعاء) في نفسها لا تستحق شيئاً من العناية، ولا تستحق أن نشغل بها قراء (الرسالة) في الحين بعد الحين، وإنما أعود إليها لأنها تمثل ناحية من نواحي التفكير في الأزهر، نبغي أن يتناولها الإصلاح، وأن تحمي منها العقول والأفكار! وقد جد في شأن هذه الفائدة جديد، ومن حق قراء (الرسالة) أن يطلعوا على هذا الجديد، ليتابعوا دعوة الإصلاح في كل خطوة من خطواتها، ويدركوا كل طور من أطوارها!
كان حديثنا الماضي عن (فائدة الأربعاء) تسجيلاً لفتوى غريبة أصدرها عالم جليل من جماعة كبار العلماء. وقرر فيها:
(أن فائدة الأربعاء جائزة لا شك فيها، بل هي مرجوة البركة، وليس فيها إلا عدة أمور بعضها جائز وبعضا مندوب إليه، وأن من يكذب بشيء منها، فهو منكر أو جاهل بما ورد في الدين من المتواترات. . . الخ)
ولم نشأ يومئذ أن نعلق على هذه الفتوى التي كنا أول من لفت الأنظار إليها ودل على مواطن الخطأ فيها، ولكننا اقتصرنا على أن نسجل منها (بعض الظواهر)، ونستجلي (بعض الغوامض)، ثم طلبنا من فضيلة الأستاذ العلامة الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية أن يدل إلى الناس برأيه فيها، وقد علمنا أن فضيلة الأستاذ الكبير قد اهتم بالأمر، وأن فتواه فيه على وشك الصدور إن لم تكن قد صدرت بالفعل قبل أن يصدر هذا العدد من الرسالة
ولكن فتوى أخرى في الموضوع قد صدرت فعلاً، من جهة لها قيمتها العلمية ومكانتها الرسمية، تلك الجهة هي (لجنة الفتوى بالأزهر)؛ التي تتألف من علماء كبار يمثلون
المذاهب الأربعة، بينهم اثنان من جماعة كبار العلماء: هما فضيلة الأستاذ الكبير، وكيل الجامع الأزهر، وفضيلة الأستاذ المحقق شيخ السادة المالكية، وبينهم أيضاً مفتشان رسميان يقومان بمهمة التوجيه العلمي والإشراف الفني، في جميع المعاهد الدينية التابعة للأزهر، وقد أصدرت اللجنة فتواها (بالإجماع) الصحيح، الذي هو نتيجة اجتماع في مكان واحد، وتشاور ونقاش ومراجعة وإقناع واقتناع شأن المؤتمرات العلمية التي يطمأن إلى إجماعها، ويؤخذ به!
ونحن نضع هذه الفتوى بين يدي القراء، قبل أن نعقب بما نريد. قالت اللجنة - بعد أن ساقت نص الاستفتاء، وهو لا يخرج عما أثبتناه في مقالنا الأول - ما يأتي:
(هذه الفائدة - وإن احتوت على صلاة، وقراءة قرآن، ودعاء - قد حدد لها ولأجزائها التي تركبت منها زمان ومكان، والتزمت فيها كيفية معينة: يتجه صاحب الحاجة إلى ضريح معين، ويقرأ فيه سورة يس بالنية التي يريدها، ثم يمشي في طريق ضريح آخر، حتى يصل إلى مكان مخصوص بين الضريحين، فيصلي فيه ركعتين وهو حاسر الرأس، ثم يمسك عمامته بإحدى يديه، وحذاءه تحت إبطه، ويتمم شوطه إلى الضريح المقصود، وهو على هذه الحالة، ثم يدعو هناك بدعاء خاص، يتوسل فيه بالأنبياء، وبسيدنا آدم وحواء وصاحب الضريح الثاني، وقد اقترنت هذه العملية في نفوس الناس باعتقاد أنها إذا أديت على هذا الوجه كانت مرجوة النفع، وإذا لم تؤد على هذا الوجه لم يكن لها الأثر المطلوب
وهذه العملية بما قارنها من هذه العقيدة، وبما فيها من الترتيب والالتزامات المذكورة، لم يرد بها كتاب ولا سنة ولا يشهد بها أصل صحيح، وذلك فضلاً عما يصحبها من مظهر لا يتفق وجلال الدين، وروعة العبادة، فهي بدعة منكرة. وإن الابتداع في الدين كما يكون بأحداث عبادة لا أصل لها، يكون بتحديد زمان أو مكان أو كيفية للعبادة التي شرع أصلها، فما جعل الشارع له كيفية خاصة، أو حدد له زماناً أو مكاناً كصلاة الجمعة والاستسقاء والحج وجب اتباعه فيما حدده، وما لم يحدد له شيئاً من ذلك، كالنوافل المطلقة كان التحديد فيها ابتداعاً وإحداثاً في الدين، لا يصح عمله ولا ينبغي اعتقاده. أما قراءة القرآن، وصلاة النافلة والتضرع إلى الله في المهمات والكرب من غير التزام شيء مما ذكر، ومع مراعاة الآداب الشرعية، فهي أمور ندب إليها الشرع الشريف، وصحت فيها الأحاديث
واللجنة تنصح للمسلمين أن يلتزموا في عقائدهم، وعباداتهم، وتضرعاتهم إلى الله حدود ما شرع الله، وألا يزيدوا من عند أنفسهم شيئاً من كيفية أو التزام زمان أو مكان، فإن ذلك أسلم لدينهم، وأبعد من مقت الله وغضبه (تلك حدود الله فلا تعتدوها، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) والله أعلم
هذه هي الفتوى الرسمية التي أصدرتها اللجنة الأزهرية وانعقد عليها إجماعها الصحيح، وهي تناقض الفتوى الأولى التي أصدرها أحد أعضاء جماعة كبار العلماء مناقضة صريحة من وجوه:
1 -
الشيخ يقرر أن (فائدة الأربعاء) جائزة لا شك فيها بل هي مرجوة البركة، واللجنة تقرر أنها بدعة منكرة، لم يرد بهاكتاب ولا سنة ولا يشهد بها أصل صحيح
2 -
الشيخ يستدل على ما يقرر بأن هذه الفائدة مركبة من أشياء بعضها جائز وبعضها مندوب إليه، وما كان كذلك فهو جائز شرعاً، واللجنة تخالفه لهذا السبب نفسه، وتقرر أن الابتداع في الدين كما يكون بإحداث عبادة لا أصل لها يكون بتحديد زمان أو مكان أو كيفية للعبادة التي شرع أصلها، وأن هذا التحديد ابتداع وإحداث في الدين، لا يصح عمله، ولا ينبغي اعتقاده
3 -
الشيخ ينصح المسلمين والعلماء خاصة بعدم معارضة هذه الفائدة وأمثالها مما ألف أن يدافع عنه، ويحض عليه، وأن يلتفتوا إلى محاربة المنكرات المجمع عليها التي تركت حتى صارت كما يقول الشيخ (سبهللاً!) واللجنة تنصح المسلمين أن يلتزموا في عقائدهم وعباداتهم حدود ما شرع الله، وألا يزيدوا من عند أنفسهم شيئاً من كيفية أو التزام زمان أو مكان، وإلا كانوا داخلين في قوله تعالى:(ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون)
وقد قلت من قبل ما قالته اللجنة، ونبهت إلى مواطن الخطأ في فتوى الشيخ الكبير، فبماذا استقبل الجامدون قولي؟ لقد هاجت منهم هوائج، وثارت نفوس ما عرفت الثورة في حياتها لشيء قط، واهتزت لذلك أيد، وتزلزلت أقدام: قالوا: ما لهذا العالم الحدث يعرض للكبار من شيوخه، ويتحدى علمهم؟ وقالوا: ما أخطأ الشيخ الكبير، ولكن أخطأ العالم الصغير!
وقالوا: لا تصبروا على هذا الغلام الخف فيكبر أمره، ويستدرج الناس إلى شر يصيبكم عظيم، ثم هموا بما لم ينالوا وكف الله أيديهم وقذف في قلوبهم الرعب، وكان الله بما
يعملون بصيراً!
وأنا أريد الآن أن أقولها كلمة صريحة خالصة، لا أريد بها إلا وجه الله، ولا أبتغي بها مصلحة إلا مصلحة العلم والعقل والدين، ولا أصدر فيها عن روح إلا روح الإخلاص للأزهر الذي يحمل لواء الشريعة المطهرة، بين متربصين به، حاقدين عليه مترقبين أن يكل عما يحمل فيتلقفوه من دونه
يا قوم: إن جماعة كبار العلماء هي (أكاديمية العلوم والمعارف الإسلامية)، فإذا اختلف أعضاؤها هذا الاختلاف، وكانوا في الشيء الواحد على (طرفي نقيض) دل ذلك من غير شك على فساد، ودل ذلك على اضطراب، ودل على أن الموازيين والمقاييس التي يحملها بعض الناس في أيديهم، ليزنوا بها ما حرم الله وما أحل، ويقيسوا عليها الكفر والفسوق والإيمان، موازين أقل ما يقال في شأنها: إنها تنقصها الدقة، وتحتاج إلى (الضبط الصحيح)!
إن (فائدة الأربعاء) قد وزنت بميزانين، تمسك بكليهما أيد من جماعة كبار العلماء، فسجل أحد الميزانين إيجاباً مطلقاً وسجل الثاني سلباً مطلقاً، وقد سمعنا من شيوخنا المنطقيين أن السلب المطلق والإيجاب المطلق لا يجتمعان في مادة واحدة، فلا بد أن يكون أحد الميزانين مختلاً، فنحن باسم العلم والدين نطلب أن يصادر الميزان المختل، وأن يحجر على الناس استعماله، وندعو (جماعة كبار العلماء) أن تصطلح على ميزان صحيح مضبوط، من كتاب الله وسنة رسوله (وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان!)
ولكن عفوا فقد نسيت! نسيت إني عالم صغير، ولا يجوز أن يتطاول الصغير إلى مقام الكبير!. فهل من عالم كبير يحمل عني لواء هذه الدعوة فيأخذها بقوة، ويأمر قومه أن يأخذوا بأحسنها، قبل أن تأخذنا الأحداث، وتأتينا سنة الله في الغافلين؟!
(ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين)
محمد المدني
حركات الإصلاح الإسلامية
3 -
أزمة إسلامية
للدكتور علي حسن عبد القادر
دكتور في الفلسفة والعلوم الإسلامية من جامعة برلين
ومدرس بكلية الشريعة
تقوم على قمة حركات الإصلاح الحديثة شخصية ليس لها في الواقع دخل أو اتصال مباشر بالحركة الوهابية التي أسلفنا الكلام عنها، وقد وصف الشخصية بحق جولد زيهر (بأنها صورة غريبة ظهرت في الإسلام أثناء القرن التاسع عشر).
ذلك هو جمال الدين الأفغاني (1838 - 1857)(الذي كان فيلسوفاً، وأديباً، خطيباً، صحافياً، وفوق هذا كله كان. . . سياسياً) والذي قال عنه براون في كتابه الثورة الفارسية: (بأنه أثر خالد باق على الأجيال)
ولقد رحل جمال الدين من أفغانستان وجاب العالم الإسلامي وأوربة؛ بل ومن الممكن أيضاً أن يكون قد جاب بلاد أمريكا!
وهو يعتبر - بدون شك - أباً لأفكار الجامعة الإسلامية:
أن لا نخلط بين أغراض هذه الجامعة وبين ما كان يحاوله عبد الحميد من انقلاب في السياسة العملية. ومن الحق أن نقول: إنه كان أول من دعا إلى اتحاد ساسة للمسلمين في وجه أطماع الغرب. ولكنه كان مع ذلك يحس في قرارة نفسه بالحاجة الماسة لبناء جديد من العالم الإسلامي تدخل فيه عناصر حرة، ويقطع ما بينه وبين التقاليد الموروثة من صلات وأواصر. ونظراً إلى أن جمال الدين الأفغاني كان ذا نزعة صحفية، وكانت له وجهة نظر سياسية في الغالب تؤثر فيه، ونظراً إلى أنه لم يكتب كثيراً، فإنه من الصعب أن نحقق تأثير هذه الشخصية الهائلة فيمن حولها. ورغماً مما أثاره في الغرب من ضجيج، فإنه من الصعب أن نستشف دخيلة نفسه ولن يحصل هذا أيضاً، فإننا لا نعرف من أين جاءته هذه الدوافع. بل أنه لم تصلنا تأثيراته في شكل محدد لأن تأثيره كان في الغالب في ثوب المعلم والمحرك أكثر مما هو في ثوب الكاتب؛ ولهذا فإنه من الخير لنا أن نحكم على الثمار التي
نضجت على يديه. وهنا يثبت لنا أنه يرجع إليه الفضل في تلاميذه الذين هم كبار رجال الإصلاح وذوو اليد الطولى فيه وهم يشكرون له كل ما عندهم من خير
وعند ظهور جمال الدين الأفغاني كانت تتردد في الهند بعض أصوات، ويدور القول حول إصلاحات آخذة في النهوض في وجهات وأشكال مختلفة، ولكننا لا نعرف بالدقة مدى ارتباط جمال الدين ببدء الحركة في الهند وهل كان له فيها يد أو كان الأمر بالعكس، فهما من ناحية التأثير يتلاقيان معاً عند خطر واحد، وفي العصر الحاضر مع هذا يعتبر جمال الدين عند الشباب في الهند الممهد العظيم للطريق
وكانت تربة الهند في أوائل القرن التاسع عشر قد مهدت من ناحية تأثرها قليلاً أو كثيراً بالوهابية العربية، وكانت الحال في الحقيقة تبدو متفقة معها، ولو أن شكل الحركة الوهابية الشعبية المتحنثة لم تكن هي التي غذت الحركة الهندية الإصلاحية في روحها فإن التجديد في الهند صدرت عن طبقة غير مثقفة تثقيفاً عالياً، وكل ما هنالك أن هذا التقابل بين هذه الحركة والحركة الوهابية يمكن أن تشرحه وتفسره هذه اليقظة التي جاءت من تلك الهزة العنيفة التي صدرت من المركز الإسلامي بالبلاد العربية
وقد ظهرت حركة الإصلاح في الهند للعيان في شكل حركة عقلية على رجال مثل سيد أحمد خان مؤسس مدرسة عليكرة (المتوفى سنة 1898) قديماً، ومن أمثال أمير علي وخودا باخشا حديثاً، وقد تأثر هؤلاء الهنود تأثراً عميقاً بما هو ظاهر ملموس في وطنهم على الأخص من تأخر المسلمين وما أصيبوا به من ضرر بالغ من جراء جمودهم إزاء المدنية الحديثة، وهم على العموم - مخالفون في هذا جمال الدين - لم يندفعوا بدافع سياسي، بل أنهم اعتبروا خضوع الهند للإنجليز أمراً ضرورياً وأمراً مرغوباً فيه لذلك، كما أن حركتهم لم تصدر أولاً وبالذات من أفكار دينية اقتنعوا بها. وكل ما هناك أنهم عرفوا الثقافة الغربية واتصلوا بها، فقاموا بحركتهم تحت تأثير تأخر المسلمين. وإنهم كمسلمين محبين للإسلام - كما أحسوا - كانوا يرون أن الإسلام الصحيح الخالص لا يقف في طريق الثقافة الحديثة بأي شكل، وأنه في الأصل هو الدين الوحيد صديق العلم والتقدم. وعنوا (الإسلام الصحيح) ولم ينكروا أن الإسلام على ما هو عليه في الوقت الحاضر فيه ما بجانب الإصلاح وقد جاء هذا كما قالوا من أن البحث المستقل في مراجع الدين الأصلية
- يعنون الاجتهاد - غير جائز، وأن الناس خاضعون للتقليد الأعمى من جراء الإجماع الذي طغى على الإحساس وجعل الفقه جامداً مقيداً، وأن أفكار المتأخرين سويت بتعاليم الرسول
وقد رفضوا الأخذ بأحاديث كثيرة وتمسكوا بشدة بالقرآن الكريم
وقد اعتقد المسلمون بالهند - وليس ذلك بصحيح دائماً من الناحية التاريخية - بالمعتزلة الذين صوروهم بأنهم المفكرون الأحرار واتخذوهم كمثل عليا في التجديد. وسموا أنفسهم أحياناً بطيبة خاطر (بالمعتزلة الحديثة) لأنه فيهم قد ظهرت إلى الحياة أغراض هذه الفرقة الإسلامية الحرة وجهودها
ويظهر من طبيعة الأشياء أنهم أخذوا تعاليم من طريقة هذه المدرسة القديمة مما لم يفكر فيه بعد فمن هذا فكرة (تطور الفقه) التاريخية (فهم - أي المعتزلة - يرون بالنسبة للأعمال الإنسانية أنه لا يوجد قانون دائم وإن النظام الإلهي الذي ينظم سلوك الإنسان نتيجة للتقدم والتطور، وأن الله نظم أوامره ونواهيه في شكل متدرج متطور من القانون)، وقد بحثوا باجتهاد وذكاء في شرح المعاني والأغراض في القرآن والحديث الذي يستعملونه إذا خالف ذلك أفكارهم في سبيل التدليل على أن الإسلام الصحيح يحض على العناية بالعلم بلا قيد ولا شرط ولا يخالف نتائجه، وهنا أظهروا حقاً صورة للإسلام كمثل أعلى.
على أن هذه الطريقة التي استعملها رجال الإصلاح وإن كانت لا تقوى أحياناً على النقد التاريخي، فإنه مما يستحق التقدير حقاً كفاح هؤلاء الرجال في قضية أضاءت في نفوسهم، والمهم في الحكم إنما هو الغاية لا الطريقة، وهي ليست إلا محاولة لتحرير الإسلام من قيود المدنية للقرون الوسطى
والأمر الغريب هنا هو أن الخطوة الأولى لهذه الغاية الجريئة وهي رفض الفقه الإسلامي لم يقم بها على أساس ثابت مأمون ولم تأخذ اهتماماً عمليا؛ ويظهر أن حالة التقوى تمنع من ذلك
ولكن بجانب هذا قد مهد الطريق الآن لفهم التاريخ فهماً واضحاً لتقبل الفكرة التي تقول أن النظم المعتبرة تاريخياً لا يمكن أن تبقى سائدة دائماً، وفي آخر الأمر يكون قد تم الانتصار على مبادئ الضعف، وأكملت على الأقل خطوات خطاها المدافعون الأحرار عن المعارف
الدينية
هذه هي كلمة الأستاذ هرتمان عن حركة الإصلاح في الهند، أما حركة الإصلاح بمصر فموعدنا بها المقال الآتي إن شاء الله تعالى
علي حسن عبد القادر
التعليم المختلط
للأستاذ رفعة الحنبلي
أجابت الأمم العربية، في الآونة الأخيرة، لنوازع التجديد الأوروبي الحديث من نواح عديدة، سياسية واجتماعية، أدبية وعلمية، فأخذت بالبعض منها وهمت بالبعض الآخر؛ وأبعد هذه النواحي أثراً فيها الناحية العلمية التربوية التي أخذت بها، إذ أنها استبانت طريقها على ضوئها، وبدأت تتمشى حسب أنظمة التعليم الحديثة في معاهدها وكلياتها وجامعاتها، بعد أن بقيت ردحاً من الزمن محافظة على القديم منها، وراحت تتفهم مبادئها السليمة وتتلمس طرقها القويمة، وتزاوج بين القديم منها والحديث إلى أن أسبلت عليها رداء جديداً، وأسبغت عليها لوناً طريفاً، فرضيت به كمبدأ يستحثها على مماشاة النهضات العلمية العالمية، ويدفعها إلى تبوء مركزها الرفيع بين الأمم
وفي الواقع نرى الأمم العربية قد أعدت نفسها إلى الأخذ بهذه المبادئ التربوية - التي اعتكف علماء التربية على دراستها دراسة وافية شاملة، والتفقه فيها تفقهاً عميقاً، طوال سنين عديدة - فأقبلت عليها وسارعت إلى إقرارها، وكان أن تبدلت الأنظمة، وتغيرت الأسس وتلونت المناهج وفقاً للمبادئ التعليمية الحديثة التي تتلاءم مع احتياجات المجتمع وتطور البيئات؛ ومن أهم تلك المبادئ مبدأ التعليم كثر الجدل حوله بين كبار المربين، واحتدم الكلام بين علماء النفس في منافعه ومضاره، فمنهم من أقره ورغب فيه، ومنهم من أنكره وصدف عنه، ولكل منهم أنصاره وأعوانه وحججه وتجاربه
على أن الأمم العربية لم تأخذ بهذا المبدأ - مبدأ التعليم المختلط - في جميع مراحله من ابتدائية وثانوية وجامعية، بل اقتصرت على الدراسات العالية، أو بالأحرى اقتصرت على الدراسة في الجامعة وحسب، ولذا نشاهد ارتياد الفتاة الجامعات دون غيرها
لنتصفح أوجه الرأي المختلف عليه في قضية هذا التعليم المختلط، ولندرس عناصره وعوامله ولنقف على ظاهره وخافيه، ولنرسم خطوطه الكبرى كي نتفهم خصائصه ونستبطن دخائله
إن أول أمة أخذت بالتعليم المختلط هي الأمة الأمريكية، وهو طريقة تعليمية جديدة من مبادئه أن يتلقى الفتيان والفتيات التعليم والتثقيف معاً في معهد واحد وفي وقت واحد، مع
مراعاة درجة معارفهم ومستوى معلوماتهم وتفاوت أعمارهم دون النظر إلى الفارق الجنسي، على أن يشرف على هذا التعليم أساتذة من كلا الجنسين
والتعليم المختلط على أنواع ثلاثة: نوع يعرف بالتعليم المطلق أو التام منه تهيئة الطلاب من كلا الجنسين للعلم وإعدادهم للحياة الاجتماعية التي تستدعيها البيئة وتقضي بها الحضارة؛ ونوع آخر يعرف بالمدرسة المختلطة وفيها يجتمع الجنسان في الفصول وحسب؛ والنوع الأخير هو ما يطلق عليه التعليم المختلط المقيد وهدفه تهيئة الطلاب والطالبات للعلم وإعدادهم للحياة الاجتماعية على شرط أن ينظر إلى خصائص هاتين الفئتين من عقلية ونفسية حتى تتلاءم مع استعداد الأفراد من الجنس الواحد وميولهم ورغائبهم ومع بعض الاعتبارات والعوامل مادية كانت أو معنوية
ولتحقيق فكرة التعليم المختلط وجب تحقيقها، في بادئ الأمر، على الأساتذة الذين يشرفون عليها أو بالأحرى وجب أن تكون الهيئة التعليمية - كما يقول الدكتور في كتابه القيم (التعليم المختلط في المدارس الثانوية) - مؤلفة من مربين ومربيات ليتلقى الطلاب، على المعلمات، بعض الدراسات كما تتلمذ الفتيات على بعض المربين
وإذا ما أهملنا الجانب المادي الذي يتحكم في مصير هذه الفكرة تحكماً شديداً، والذي من شأنه أن يدفعها إلى التقدم دفعاً سريعاً، ويدنيها من غايتها المثلى. على نحو ما يذهب إليه بعض علماء التربية، وجدنا أن البعض الآخر يتساءل عما إذا كانت هذه الفكرة تتفق والتطور الطبيعي من حيث القابلية والاستعداد لكل فئة من هاتين الفئتين من الجنسين؟. . . يتعلق جواب هذا التساؤل بدراسة نفسية كل منهما من النواحي التي تتصل اتصالاً وثيقاً بعلم النفس: كتطور الميول، وتباين الرغائب، واختلاف القوى واحتمال التعب وغيره
ولكن هل يصح لنا أن نرد تباين هذه النواحي إلى التربية العائلية وخصائص البيئة ومزايا الفرد، أم أنها تتعلق بالجنس من حيث جنس؟
في الواقع أن هذه النواحي ترجع إلى اختلافات جنسية ذات تأثير يجعل التباين بينهما إلى أبعد حدوده
قلت: إن أول أمة فكرت في هذا النوع من التعليم المختلط هي الأمة الأمريكية، وما أن استهل القرن العشرون حتى فشا هذا النوع في جميع معاهدها من ابتدائية وثانوية وجامعية؛
وبلغ عدد المعاهد الثانوية بحسب إحصاء رسمي قامت به حكومة الولايات المتحدة عام 1909 - 11075 عهداً مختلطا يؤمها 921736 طالباً وطالبة تتراوح أعمارهم بين الثالثة عشرة والثامنة عشرة منها 919 معهداً خاصاً بالطلاب عدد أفرادها 110725 طالباً؛ مع العلم أن هذا الإحصاء لا يشمل العدد الوفير من المعاهد المختلطة التي تشرف عليها الجمعيات الخيرية والدينية، وبلغ عدد الجامعات في إحصاء آخر 622 جامعة منها 158 جامعة خاصة بالفتيان 129 جامعة خاصة بالفتيات و335 جامعة مختلطة؛ فالفتيات إذن يختلفن في المعاهد الثانوية بنسبة ثمانين في المائة، وهي نسبة جد مرضية أما المدارس الابتدائية فيتردد عليها مئات الألوف من كلا الجنسين على السواء. . .
ولم يقف هذا التجديد عند الأمة الأمريكية فحسب، بل تعدى إلى الأمم الأخرى أشهرها التي تقطن شبه جزيرة اسكندنافية، وكذلك الأمة الفرنسية والألمانية والأسبانية وسواها. واجتاحت موجة هذا التجديد الأمة الإيطالية أيضاً فأصدرت قانوناً في الرابع من شهر حزيران عام 1911 أحالت بموجبه جميع معاهدها إلى معاهد مختلطة، وكذلك دور المعلمين أيضاً حيث كان الانتساب إليها مقصوراً على الطلاب
وأبدلت الحكومة الإنكليزية بدورها منذ مدة غير بعيدة ولأسباب اقتصادية جميع معاهدها الابتدائية والثانوية إلى معاهد مختلفة، إلا أنها قيدت التعليم المختلط بما يختص بالتعليم الثانوي حيث يجتمع الجنسان في بعض المواد وفي المختبرات وعند تناول الطعام على أن يسمح لهما في الاجتماع في الأمسيات التي يقضونها معاً يستمعون إلى محاضرات في شتى العلوم والآداب والفنون
من هذا يتبين لنا أن التعليم المختلط قد فشا بين أكثر الشعوب المتحضرة والأمم المتمدينة وهم الأصقاع الأوربية والأمريكية وتناول بعض الأصقاع الشرقية أيضاً
غير أن هنالك نظريات متباينة، في صدد هذا التعليم، من حيث منافعه ومضاره، أثارها علماء النفس والاجتماع والتربية، اضطربت فيها عناصر مختلفة من القيم، واحتربت فيها مذاهب كثيرة من التفكير فنرى الأستاذ أحد المربين الأمريكيين، لم يتوان عن إبداء رأيه العنيف فيما يتعلق باختلاط الجنسين في معهد واحد، بعد اختبار نيفت مدته على خمسة عشر عاماً. فإذا به يقول: (لمست في المدارس الابتدائية الصداقة العميقة والحب العنيف
بين طلابها وطالباتها وقلما تشاهد فتى لا يفزع إلى رفيقة له، حيث يختلفان معاً إلى دور الخيالة (السينما) - على حد تعبير الأستاذ البشري - وإلى المتنزهات العامة، وكثيراً ما تتوافر الهدايا على الطالبات من الأيفاع المحبين، وكثيراً ما تتعدد زيارات الفتيان المولهين للفتيات)
ويقول أيضاً: (أما في المعاهد الثانوية فيكفي أن تصيخ السمع قليلاً لتتأكد أن المحاورة التي يأخذ بها الطالب مع صديقته الطالبة بعيدة أقصى درجات البعد عن حل مسألة جبرية أو إعطاء رأي في قيصر أو إنعام نظر في مذهب من المذاهب الأدبية أو العلمية أو غيرها. . .) وقد لا نستغرب من الفتاة، في هذه الحالة، تغيبها المتواصل عن المعهد أسبوعاً أو أسبوعين بسبب هذه النوازع العاطفية، وبفضل هذه الأحاسيس العنيفة
حمل المربي الكبير العالم على التعليم المختلط، في مرحلة التعليم الثانوي، حملة عنيفة، استند فيها على اختباراته الخاصة التي قام بها طوال أعوام عديدة، إذ أنه يرى الفتى يفقد شيئاً من رجولته، والفتاة شيئاً من أنوثتها، وكذلك يرى أن الخصائص الفردية والمزايا الشخصية، لكل من الجنسين، تنحدران إلى هاوية سحيقة قد لا يسلم من خطرها الفتى أو الفتاة وقد ينتج من هذا الخطر نقص في الزواج في المستقبل القريب أو البعيد، ولا أدل على ذلك من أن معهداً كان يضم بين جدرانه 560 فتاة تأهل منهن أربع وستون منهن اثنتا عشرة فتاة تزوجن زملاءهن في الدراسة
لذلك نجد أن وحملا على التعليم المختلط في هذه المرحلة حملة فيها كثير من العنف والخشونة على الرغم من اعتراف الأول ببعض حسناته؛ وتذهب السيدة إحدى المربيات العالمات مذهب زميليها، وهي بعد تعتقد بأن تأثير التعليم المختلط هو أبقى أثراً على الفتيان منه على الفتيات، فأولاء يحتفظن بأنوثتهن بينما أولئك يفقدون شيئاً من رجولتهم، ودللت على صحة ما ذهبت إليه بما قامت به من الاختبارات في عدة مدارس مختلفة الأنواع، حيث رغبت إلى الطلاب أن يعرفوا لها (الحب)؛ فكانت أجوبة الطلاب الذين لم يختلطوا في يوم من الأيام نتناول الحب الأبوي والحب الأخوي والحب الإنساني وسواه. . . أما أجوبة طلاب المدارس المختلطة فكانت تتضمن الحب الوجداني والحب العاطفي وغيره. . .
والواقع الأليم أن الفتاة لا تستطيع أن تحتفظ بأنوثتها في اختلافها إلى المعاهد المختلطة، بل لا بد لها من أن تفقد شيئاً منها كما نوه بذلك العالم بل لماذا لا نذهب إلى أبعد من هذا الحد فنقول أن الفتاة قد تخسر شيئاً من خصائصها وتفقد قليلاً من مزاياها، وقد يتلون قسم من عواطفها ويتبدل كثير من نفسيتها. . . عوامل قد يكون لها أسوأ الأثر ليس على حياتها الحاضرة فحسب بل وعلى مستقبلها أيضاً. فالصداقة التي تتأصل في أطواء نفسها، وهي على مقعد الدراسة تدفعها للتعرف على الفتى من ناحية تتباين والناحية التي تتعرف عليها وهي على غير مقعد الدراسة، أو بعبارة ثانية أنها تتقرب إلى الفتى عن طريق الصداقة لا عن طريق الحب الذي تنشده ليلها ونهارها إذ تفتقر بذلك إلى الرجل المثالي التي تسعى وراءه
وهي إلى ذلك تتأثر إلى أبعد حدود التأثر بمعاشرتها الفتى، فتتغير عقليتها، وتتبدل نفسيتها، وتتلون عواطفها ويتحول طراز معيشتها إلى حد تلتزم فيه تقليد الفتى تقليداً قد يكون تاماً أو لا يكون، في معاملته أو في حديثه أو في خشونته أو في لباسه أو غير ذلك، وهكذا نراها تتسم بمزايا الرجولة التي كثيراً ما تجعل الرجل يصدف عنها ويعزف عن الحياة الزوجية إذا ما فكر في الزواج، وقد يثور الرجل على هذا التطور في أخلاق الفتاة، وعلى هذا التبدل في نفسيتها بعد أن يكون قد قبله ورضي عنه حينما كان طالباً
ونصيب الفتى من هذا التطور في الميول والعادات لا يقل أثراً عن نصيب الفتاة منه، بل ربما كان أبعد مدى فيه منها، فإذا هو مائع الرجولة، أنثوي الأخلاق، فقير الخصائص، فاقد المزايا. .
فالتقارب إذاً بين الفتى والفتاة يحور بعض مزاياه الطبيعية ويضعف بعض خصائصه الجنسية، وإن كانت بعض هذه الخصائص ترتفع وتسمو، وبعض هذه المزايا تنبل وتعلو
على أن بعضاً من العلماء يقولون إن التعليم المختلط هو من أحسن الأنظمة التعليمية الجديدة وأرقاها ابتكرتها عقول جبارة نيرة، فيعترفون بأفضليتها ويقرون بحسناتها ويرتاحون إلى نتائجها على أن يقتصر هذا التعليم على الابتدائي والجامعي، أما التعليم الثانوي، فأشد ما يكون خطراً على أخلاق الناشئة وآدابها، غير أن البعض الآخر يقول بالتعليم المختلط في أدواره الثلاثة: الابتدائية والثانوية والجامعية
(البقية في العدد القادم)
رفعة الحنبلي
فن يستيقظ
للأديب نوري الراوي
فهم العربي جمال الكون بكل حواسه فأطلقه شعراً يفيض باختلاج حسه القصيَّ، ثم أنفذه نغماً في صميم الليالي الأندلسية البيضاء. . . وعاد فمات في عتمة الغسق التركي، فكانت بقيته اليوم بين حشرجة الماضي ويقظة الحاضر نسيساً في نفس مجروح، ونسمة من نسماته الندية تنطلق اليوم بعد فترة جمام كادت تطمس على خصائصه الأصيلة فتحيلها إلى العدم أو النسيان، ولكن الله الذي حفظ الروح العربية الإسلامية دهوراً طوالاً أراد أن يوقظها في صفوة أبنائها اليوم فكان ما أراد لله
وشهدت العصور الحديثة أكمل القوى في ثورة تشمل الروح والجسد، يدعمها الإيمان ويشدها الحق وتظللها الحرية، فأدركت أن وراء هذه الأنفاس المفهورة نفساً يريد أن يكون لهيباً من جهنم، وشواظاً من بركان
ولكن الزمن الذي اتسع لأمجاد الفن العربي في مختلف عصوره، زحفته المدوية، فطوى بين أثنائه أياماً كانت شجىً في الحلق، ليلبس ثوب هذا اليوم الحديث في صورة من التأريخ. إن وراء المجد الذي كان بالأمس، قوة من المعنى أدارت رحاه، ونواة من الفن حفظت نوعه، فمضى يخط تاريخه في جلال الظافر وكبريائه، حتى دهمته الذئاب الدخيلة! فعبثت بروحانيته كما تعبث الريح بالرمال وأجهزت على فنيته فحطمتها
وبين عصرين من عصور التاريخ، تقلبت فيها الأحداث، وتخبطت فيها الحظوظ، وتعاقبت على صفحاتها الأيام، مني الفن العتيد بخطوب جسام كادت تشرف به على الهلاك. . . ولكنها الروح التي لزمته في صحاري الحجاز ودللته في بلاد المجد المفقود وهدهدت أعطافه على ضفاف بردي والفراتين عادت فاندفقت بين أضلع سادها الهدوء أزماناً. . .
لقد كان الفن العربي يوصل الأمة بمعنى من الجلال يسمو بها عن المدارك الدنيا إلى أجواء أمتع وأمنع حتى إذا ما رفعت أبصارها عن الأرض. . . حتى إذا ما انعتقت من أسر المادة، فهمت الفضيلة؛ فسادت بالرحمة وحاربت بالأيمان. . . وكان هذا سر الخلود
حيثما تكن الأمة من المكانة يكن حبها للفن، لأن النفعيات مطلب من مطالب الحياة الوضيعة التي تعيش لنموت، لا الحياة التي تعيش لتدوم. . . لتخلد. . . لتقول للتأريخ
هاأنذا فاكتب. . .
ولكنه الفكر العربي الجبار يبرهن على وجدوه، يبرهن على قوته، يوم يعرف أن للحياة منازع غير ما علمته إياه البهيميةالأولى في الغابات والكهوف!. . . ليكون أستاذاً في تلقين المثل العليا لكل من يلوك اللفظ فلا يقع لسانه إلا على الأكل. . . والنوم. . . واللباس. . .
هنا يقف الفكر الحديث عند حد تنتهي به سياحته، الفكر الحديث الذي يعبد الآلة ويمجد المادة ويستعذب الوقوف أمام الصنم الجبار؛ ليجد أن العربي سبقه في الحياة وسبقه في الفكر وسبقه في التأسيس
برهان واحد من براهين أشتات نقف منه على حياة أجيال ماتت. . . لنكون نحن بقيتها على الأرض نوطن النفس على حمل هذا العبء الذي حمله الجدود أزماناً
في هذا المدى الوسيع الذي يشمل الصين في أقصى الشرق ويقف عند أزباد بحر الظلمات! بذر العربي بذور فنه الأولى، فكان الجامع الأموي في الشام يطاول بمآذنه السماء، وكان المسجد الأقصى يهزأ بالدهر للغلاب، وكانت معجزات الأندلس وعظائم بغداد شاهد على ذلك الخلود. هو الغرس العربي، يثمر رجالاً يمجدون الله، ينتج مآذن تجلجل فوق سامقات رؤوسها كلمة:(الله أكبر). . .
ينتج فناً روحياً لم تسبقه إليه جهالات الأوربيين. . .
هناك في الصحراء. . . الصحراء التي يضيع البصر في مهامه مداها الوسيع، ويسبح الفكر على منكب لجتها السمراء، فما يزال يطفو ويرسب حتى يبلغ محجة تنقطع عندها أسبابه: تمخض الزمن الولود عن دين العلم والفن، فكانت أول بسمة من بسماته الندية ترف على روابي الحجاز وترتعش فوق بطاح الجزيرة، ثم لا تقف عند هذا حتى تفيض على العالم القديم بأسره فتشمله. هنا يبدأ بنا السبيل في سياحة مضنية طويلة، تريد جهداً وأدباً واصطباراً. . .
لقد جاء الإسلام، وفي النفس الجاهلية اعوجاج وعنجهية، فأقام الأول وأغرق الثانية حتى هيأها لأن تتقبل المعاني الجديدة وتستوعبها. فيقودها إلى غاية أبعد منها وأسمى ألا وهي: الفتوح ونشر الرسالة. ولقد كان الفتح أول الأسباب غير المباشرة إلى نضوج الذوق العربي لاختلاط البادية بالمدنية والشمس بالظل وتكوين لون جديد له سمة العيشتين وطابع
الحياتين، وكذلك أجزل الفتح المال والمال وسيلة الفن إلى الكمال، حيث أثمر هذا الاختلاط فكانت ثمرته تلك الحضارة الراسخة التي قال عنها بعض الإفرنج: إنها وليدة الحضارتين اليونانية والرومانية وما هي إلا عربية أصيلة الدم؛ لها لفحة الشمس وثورة الرمال التي لا تهدأ ولا تثوب. . .
هنا يدخل الدين بروحانيته في عداد هذه الأسباب التي أسبغت على الفن لوناً من ألوان الجمال الراكد والتأثير العميق. . . الدين الذي ارتقى بمعنويته إلى الله فعرفه، وغار في الأعماق فوقع على أسرار الكون وحقيقة الوجود، ثم تلمس الخلود عن المادة فطاوعته فإذا هي ريازة تبهر العقول، وإذا هي قباب تغرق في اللازورد، وإذا هي جوامع تبقى على الدهر باسم الله. . .
أما النفسية الطليقة. . . النفسية التي تجاذبتها عوامل البيئة الصحراوية المدنية، فرسمت على أديمها صفاء السماء وكدرتها، وخطت على صفحتها هدوء الطبيعة وثورتها، فقد تغنت بلسان حسان، وابن أبي ربيعه، والمتنبي، والمعري، وأبي تمام. فرجعت صدى هذه الأغنيات السنون. . .
ما كان للعربي الأول أن يبرع في فن التصوير ليعبر به عن خوالجه وآماله ومثله، ولكنه تكلم فصدق، وقال فكانت أقواله لوحات ترسم ألوان مشاعره منطلقة، حرة، عارية؛ وهذه وسيلة واحدة يتوسل بها ربيب الصحراء للتعبير عن خوالجه ونزعاته. . . لينقل كل ما يجيش به وجدانه من العواطف إلى أسماع تستلذ هذا الوقع الجميل وتستعذب هذه النغمة المطردة يلونها الزمن من حين إلى حين
على أن هذا الفن العريق الذي تتصل جذوره بأعماق الخيال البدوي كان اسبق وجوداً من بقية الفنون الأخرى
وعلى هذا السبيل الممهد تساوقت الفنون إلى البعث بعد أن كانت تثوي في ركن من أركان العقل البدوي ساكنة سكون البركان الذي يحمل معاني الثورة والاندفاع
لقد كان للطبيعية العربية القابلية الكبيرة على الأحداث والتوليد، وما الشعر إلا صورة من تلك الصور الممتعة التي عرفها العرب باسم (الآداب الرفيعة)، وذلك حينما تركز المجتمع في ظل المدينة وامتزج بعضه ببعضه ليكون هذا الفن الذي نشاهده في قصور الحمراء
وبرج الذهب وجنة الريف. . . ليكون هذه الموسيقى الساحرة ترجعها نغمات (بلنسيا)، على أسماع الملايين من أبناء الغرب، وفيها تتجلى الروح العربية الصافية بتأثيرها وعذوبتها وجمالها. .
ومشى الزمن يوسع الخطى؛ فإذا بعبد الله الصغير آخر ملوك الأندلس يقف على ربوة عالية، يستشرف ملكه المضاع من خلل الهدب الرفاف بالدمع. . . وإذا ذلك الخلود بجنانه وقصوره، وأبهاته ومدارسه، ومحاريبه وجوامعه، يستحيل شيئاً فشيئاً إلى حلم ينطوي كلمح السراب. . . ويهينم الشراع في الفضاء:
ألا انقضى آخر أمل للعرب في الفردوس. . . ثم تبقى تلك الجلائل شاخصة إلى السماء كأنما هي تستغيث بالله. . . حتى يدركها ألأين فتهوى صريعة الزمن العسوف ركاماً يسابق ركاماً. . . ولكن قنابل فرانكو تريد ولا يهمها أن تكون صفحة سوداء في وجه التاريخ.
إن الاتجاه القومي في العراق بادرة من بوادر اليقظة في الأمة العربية فيجب أن يكون له نصيب من الروح كما يجب أن يكون له نصيب من المادة
وهانحن اليوم على وشك الدخول في حياة جديدة مغايرة لتلك الحياة التي تصرمت بين جهل الرعية وظلم السلطان واستبداد الدخيل. وآن للفن أن يستيقظ وينشط فيأخذ مكانه كسبب خطير من أسباب الحضارة الكاملة، وعامل من عوامل النهضة القويمة. . .
ولكن في الشباب من ينكر هذا ولا يرضاه، وفي الشباب من يستخف به ويجتويه. وفي الشباب مراجل تجيش فيها المتناقضات، فلا تعرف فيهم الغاية اليوم إلا وتجدها غيرها التي كانت بالأمس
ولكننا رغم وجود هذه النفوس المتماوتة، سنتم بناء أنشأته الجهود وبنته العزائم وأقامته التضحيات. . .
إن كان الكلام وسيلة من وسائل الجهاد الأعزل فلا نريده إلا مقروناً بالعمل والدأب، وإن وجد فينا من يئست روحه وتصاغرت معنويته عن إدراك هذه المعاني الجديدة فلا نرضاه باسم العروبة. ولذا حق لنا أن نوجه الخطاب إلى الشباب فنقول:
أيها الشباب العامل: ما جمال الجسم إن لم يعزز بفضائل الروح؟ وما نفع هذه الرؤوس المملوءة بالخيالات إن لم تكن قادرة على ولادة الأعاجيب!
أيها الشباب العامل: روضوا نفوسكم على فهم الفن تدركوا جمال الحياة
(بغداد - الرستمية)
نوري الراوي
الحرب في أسبوع
للأستاذ فوزي الشتوي
إزاحة الستار
وأخيراً أزاح موسوليني الستار عن موقف إيطاليا، وأعلن اشتراكها في الحرب، دون أن يذكر سبباً معقولاً يبرر به إسالة الدماء عندما يسجل عليه التاريخ فعلته. فقد كانت شكواه من الحصر البحري الذي حد من النشاط الإيطالي
ويعرف العالم أجمع إلى أي مدى عاونه الحلفاء على تحقيق أغراضه، حتى أصبح موقفه وهو خارج الحرب أشد خطورة على المدنية منه وهو داخلها، إذ كانت مساعداته المادية لألمانيا النازية تتجاوز الحد المعقول
وبالرغم من أن الحلفاء عرضوا عليه التسوية، وأن المفاوضات سارت شوطاً بعيداً لإزالة عقبة الحصر البحري. فإن الأطماع الدكتاتورية ثارت دفعة واحدة، فإذا المفاوضات توقف فجأة دون سبب معقول
أما الأسباب الحقيقة لدخول إيطاليا الحرب فيسهل لمسها في رد الكونت شيانو وزير خارجية إيطاليا إلى سفير فرنسا، إذ قال معناه إن إيطاليا تعلن الحرب تنفيذاً لاتفاق موسوليني وهتلر. إذن فلم يكن الحصر البحري سبب شكوى إيطاليا! ولم يكن الضغط الاقتصادي سبب تمردها على أساليب الحضارة وخروجها على أسس المدنية، بل الأطماع الشخصية الدكتاتورية هي التي جعلت هذين الفردين يلقيان بالعالم في أتون الحرب
إيطاليا لم تتغير
وإيطاليا سنة 1940 هي إيطاليا سنة 1914 لم تتغير أخلاق أهلها أو طرق معاملتهم بتغير نظم الحكم، ولم يتغير حكمهم على الحوادث بتقدمهم في مرافق المدنية. فلم يتحكم في حالتها إلا الطمع والرغبة في الاستعباد. ففي سنة 1914 كانت إيطاليا حليفة لألمانيا والنمسا، وفي سنة 1940 نراها حليفة ألمانيا التي ابتلعت النمسا. وفي سنة 1914 دخلت إيطاليا الحرب بعد تردد طال عشرة أشهر حصلت في أثنائها على معاهدة لندن فخانت من أجلها حليفتيها السابقتين وأعلنت عليهما الحرب. وفي سنة 1940 تكرر إيطاليا نفس الموقف ولكن
بصورة أخرى، فتدخل الحرب بعد تردد أستمر تسعة أشهر، وتدخلها في ظروف غريبة لا لتحقق للعالم سلاماً، ولا لتضمن للناس طمأنينة، بل لتزيد في دمار العالم مستغلة الظروف الحرجة لتحاول القضاء على دولة طالما مدت لها يد المعونة، وكانت سبباً في جمع شملها وتحقيق وحدتها واستقلالها
وقد قلنا في مقالنا السابق إن إيطاليا لن تدخل الحرب إلا مكرهة، لضعفها العسكري والاقتصادي. وهانحن نستعرض أمام القارئ مقارنة بين قواتها وقوات الحلفاء في البحر الأبيض الذي يحتم أن يكون عماد القتال فيه على القوات البحرية والجوية أما القوات البرية فليس لها مجال للعمل إلا من جهة فرنسا وليبيا وفي كلا الميدانين ما يقطع بأن قوة إيطاليا البرية ستصادف عقبات كبيرة تحول دون تحقيق أغراضها
عالم عربي
فجبال الألب في فرنسا سد منيع يصعب اختراقه ويسهل الدفاع عنه. وتقع ليبيا بين مصر من الشرق وتونس من الغرب، وليس فيها قوات إيطالية كبيرة، ولذا يسهل الاستيلاء عليها إذا هوجمت من الناحيتين، ولا سيما أن عربها يحفظون لإيطاليا ذكريات أليمة عندما أعملت فيهم قنابل مدافعها ورصاص بنادقها ولها في ذلك قصص منكرة من أعمال الوحشية والهمجية، وما زالت عدة قبائل عند الحدود ساعة الانتقام. وهناك فضلاً عن ذلك صلة الرحم بين سكان ليبيا ومصر وصلة الدين وصلة اللغة، وهي صلات يحرص العربي عليها مهما كلفته من تضحيات. فما إن تبدأ المناوشات حتى تصحو هذه العوامل، فيشعر المسلم بعوامل الدين تناديه، ويحس ابن العم بصلات الدم تمنعه من إهدار دم ابن عمه، فلا تلبث ليبيا أن تخرج من الإمبراطورية الإيطالية لتنضم إلى العالم الإسلامي
هذا في ميدان البحر الأبيض، أما في ميدان شرق أفريقيا فلإيطاليا هناك ثلاث مستعمرات هي الأريتريا والحبشة والصومال الإيطالي، وتحيط بها الممتلكات البريطانية من جميع الجهات، تلك الممتلكات التي استقر فيها نظام الحكم ودانت بالولاء للإمبراطورية البريطانية، بعكس الحالة في الحبشة مثلاً، فهي قريبة العهد بالغزو، ومازال أهلها يقاتلون الإيطاليين في أكثر من بقعة واحدة، ويشنون الغارات على حامياتها كلما وجدوا إلى ذلك سبيلاً. وهاهو إمبراطور الحبشة يظهر في الميدان ليستغل الفرصة السانحة، وسيمده
الحلفاء ولا شك بالعتاد الحربي الكفيل بخلاص بلاده من نير الحكم الإيطالي
الإمبراطورية الإيطالية
وبرغم اتساع رقعة الممتلكات الإيطالية فعدد سكانها قليلون، وهم على درجة كبيرة من التأخر. ويبين الجدول الآتي مساحة كل مستعمرة وعدد سكانها مضافاً إليها إيطاليا نفسها:
أسم البلد
المساحة بالميل المربع
عدد السكان
إيطاليا
119 ، 744
43 ، 640 ، 000
ألبانيا
10 ، 600
1 ، 000 ، 000
ليبيا
406 ، 000
1 ، 000 ، 000
أريتريا
45 ، 000
500 ، 000
الحبشة
35 ، 000
7 ، 600 ، 000
الصومال
139 ، 430
650 ، 000
المجموع
745 ، 774
54 ، 390 ، 000
هذه هي الإمبراطورية الإيطالية التي لا تلبث الحرب أن تفصلها عن إيطاليا، لا سيما أن أسطول الحلفاء مرابط عند قناة السويس ليمنع وصول القوات الإيطالية بأفريقيا الشرقية الإيطالية وهذا العزل سيؤدي بلا شك إلى خضوع تلك البلاد للحلفاء بعد أن تفنى القوات الإيطالية المرابطة هناك أو تقع في الأسر
ولم تكن هذه العوامل خافية على موسوليني ومستشاريه، ولكنها تدل دلالة واضحة على سوء نيته قبل دول البحر الأبيض فسياسة المحور القضاء على فرنسا وإنجلترا ثم يتحول إلى الدول الصغيرة، فلا تقوى واحدة منها على مقاومة الاستعمار الإيطالي أو الألماني، وعندئذ تتحكم الهمجية في العالم أجمع، ويخضع العالم لانتقام الدكتاتوريين. ولكن هيهات أن يتحقق هذا الأمل، فقوات الحلفاء في فرنسا ما زالت بكامل عددها ومعداتها، ولن يؤثر فيها تقدم الزحف الألماني وتوغله في البلاد
وسواء بقيت باريس بيد الحلفاء أم سقطت في يد الألمان، فسيأتي اليوم الذي تتلقى فيه جيوش ألمانيا الضربة القاطعة، فالعبرة في الحروب ليست في الاستيلاء على المواقع والمدن، ولكن العبرة بالقضاء على الجيوش. وإذا اتخذنا من التاريخ مثلاً، فأمامنا نابليون وحروبه، فقد استولى على أوربا كلها تقريباً. وظلت انتصاراته سنوات طويلة تدوي في آذان العالم. فلما نضبت موارده وحانت الساعة الفاصلة هزم في واترلو هزيمة لم يقم له بعدها من قائمة. وكانت ختام ذلك النزاع الطويل
سواحل مكشوفة
ومن عوامل ضعف إيطاليا انكشاف سواحلها وخلوها من العقبات الطبيعية التي تمنع الاعتداء، فليست البلاد عريضة يتعذر على الطائرات اجتيازها، وليست صخرية أو صحراوية يتعذر على الجيوش عبورها، بل هي سهول ضيقة، تجد فيها القوات مؤونتها بسهولة فضلاً عن قربها من مواقع الحلفاء العسكرية، فلا تبعد روما عن مينائي طولون أو أجاكسيو سوى 200 ميل تقطعها الطائرات الحديثة في 40 دقيقة، ولهذا عجل موسوليني
بنقل قيادته منها
وتيسر لإيطاليا في الحرب الماضية أن تجند 5. 500. 000 جندي. وتستطيع الآن أن تجند ثمانية ملايين جندي بفضل النظام الفاشستي. ومجال هذه الجيوش محدود كما رأينا، كما أن الجندي الإيطالي لا يمكن أن يقاس بالجندي الألماني أو الفرنسي أو الإنجليزي، خصوصاً أن معداته أقل بكثير من معدات أقرانه. فإذا أمدته ألمانيا بالعتاد والقيادة كما جاء في التلغرافات برزت عقبه أخرى وهي ضيق موارد الدولتين الدكتاتوريتين، ولا سيما أن ألمانيا وضعت في الموقعة الحالية جميع مواردها أملاً في نصر سريع
القوات الجوية
وتقدر قوات إيطاليا الجوية بخمسة آلاف طائرة أعدت على أساس هجومي وهي أقل متانة من الطائرات الفرنسية أو الإنجليزية، وتستورد 23 ? من معادن طائراتها من الخارج؛ ولم تتقدم صناعة الطائرات هناك في المدة الأخيرة، بل يقول الأخصائيون إن تقدمها بطيء لحاجتها إلى الفنيين والمعادن. وفرض الحصار عليها معناه زيادة هذه الصعوبات. فأنها تفقد ربع إنتاجها بفقد المعادن المستوردة من البلاد الأخرى. ومراكز الطيران الإيطالية موزعة في الحبشة وليبيا وألبانيا، وأنبأتنا التلغرافات أخيراً بتدمير قوات الطيران البريطانية لعدد كبير منها مما يضعف من شأنها، ويقابلها عند الحلفاء 22 ألف طائرة في ازدياد
وفي البحر
ويمتاز الأسطول البحري الإيطالي بسرعة سفنه، وهو أسطول حديث تصل سرعة بعض وحداته إلى 45 عقدة في الساعة أي أكثر من 50 ميلاً، ويقابله في الجانب الآخر زيادة عدد الوحدات البحرية للحلفاء والجدول الآتي يبين وحدات القوتين:
نوع السفن
الحلفاء
إيطاليا
سفن قتال كبيرة
25
6
مدرعات ثقيلة
22
7
حاملات طائرات
11
-
مدرعات خفيفة
69
14
مدمرات
230
82
قوارب طوربيد
12
70
غواصات
137
112
المجموع
506
291
وتعمل قيادة الحلفاء البحرية على الاشتباك مع هذا الأسطول في معركة بحرية، ولذا أسرعت ببث الألغام في مدخل بحر الأدرياتيك حتى لا تدع له المجال الالتجاء إليه، فيضطر إلى قتالها، فإذا تيسر إغراق هذا الأسطول أو الخلاص من بعض وحداته كما
حدث مع الأسطول الألماني، تم للحلفاء جانب كبير من النصر؛ فبرغم صيحات هتلر وأتباعه بتفوق السلاح الجوي على السلاح البحري؛ فإن موسولسني لم يأخذ برأيه. والدليل على ذلك أنه أنزل إلى البحر في الشهر الماضي سفينتي قتال كبيرتين
وقد مني الأسطول التجاري الإيطالي في اليومين الأولين للحرب بخسائر فادحة فقضي على 40 سفينة منه، بعضها بالانتحار وبعضها الآخر بالأسر. وهذا تصرف غريب من إيطاليا، فبرغم أنها أرادت الحرب وأنها تجد الفرصة لإنقاذ هذه السفن، تركتها في أماكن خطيرة. والأغرب من هذا أن بعض السفن كان في مالطة، وهي تبعد عن صقلية بمسافة بسيطة، ومع هذا تتركها لتؤسر؛ ومن هذه التصرفات يبدو مدى حزم القيادة الإيطالية، ومدى إحكام تصرفاتها الذي ينبئ بان كوارث شديدة ستحل بقواتها
فوزي الشتوي
بكالوريوس في الصحافة
رسالة الشعر
رجال ونساء
للأستاذ على محمود طه
(ننشر فيما يلي جزءاً ثانياً من ملحمة الشاعر (على محمود طه) وهو يلي الجزء الذي نشرناه منها في عدد سابق من (الرسالة) ويدور الحوار في هذا الفصل الممتع على الفنان الأول، وأثر المرأة في فنه واتجاهاته، وفيه أيضاً حديث مؤثر عن الفنان الأعمى، والأسماء التي يجري الشاعر الحوار على ألسنتها تقع في عالمي الحقيقة والخيال. فهرميس إله الوحي والشعر في الميثولوجيا، وبليتيس الشاعرة الخرافية التي بعثها الكاتب الفرنسي (بيير لويس) على غرار الشاعرة اليونانية اسبازيا. أما تاييس وسافو فأمرهما معروف في القصص والتاريخ)
(الملك وقد عاد في طريقه إلى حيث الحوريات بعد أن ودع روح الفنان على أفق الأرض)
الملك:
سلامَ الملائكِ روحَ الجمالِ
الأرواح:
سلامٌ لهرميس روح الآلهْ
الملك:
أرى وَمْضَةَ الشرَّ في جوَّكنَّ
…
وأسمعُ صوتاً كأنَّي أراْه
يلاحقني في رحابِ السماءِ
…
ويرتجُّ في مِسمعَّي صداه
(لقد فارقَ البشرُ غُرَّ الوجوهِ
…
وشاعَ الذبولُ بوردِ الشفاه!)
الأرواح:
أجلْ أيها الملَكُ المجتَبي
…
صدقناكَ فاغفر عذابَ الضميرْ
لقد مرَّ كالطيرِ من قربنا
…
فَتى في رعاية ربٍّ خطيرْ
رآنا فأعرَض عنَّا ولمْ
…
يُحَيَّ السماَء بروحِ قريرْ
تعاظم محتقراً أمرنا
…
وأمعن في شَرَّهِ المستطيرْ!
هرميس:
ظلمتنَّ هذا الغلام البريء
…
وقد غَضَّ من ناظريهِ الحذَرْ
أَهَلَّ بقلبٍ كفرخِ القطا
…
يرفرفُ تحتَ جناحِ القدَرْ
رَآكنَّ فيهِ وحيَّا بهِ
…
فلم أدْرِ حاجتَه للنظرْ!
الأرواح:
وكيف تكلَّم قلبُ الفتى
…
وما هو إلاْ سليلُ البشرْ؟
هرميس:
هُوَ ابنُ السماءِ ولكنَّه
…
من النقصِ تركيبُه والتمامْ
صَنَاعُ الطبيعةِ بلْ صُنْعُها
…
فمنها دمامتُهُ والوسامْ
يُسِفُّ إلى حيث لا ينتهي
…
ويسمو إلى قمةٍ لا ترُامْ
ويُسْقَى بكأسٍ إلهيةٍ
…
مُرَنقةٍ بالهوى والأثامْ
نقيضان شتى فما يستقرُّ
…
على غَضَبٍ منها أو رضاءْ
تحدَّى الحياةَ وآلامهَا
…
ببأسِ الجبابرةِ الأعلياء
يزيدُ عُتُوًّا على نارها
…
ويلمعُ جوهرهُ مِنْ صَفاء
وينشقُّ عن نَضْرةٍ قلبُه
…
وإنْ طَمَرَتْهُ ثلوجُ الشتاء
هو القلبُ محتشداً بالمنى
…
هو العقلُ متقداً بالذكاء
حَبَتْهُ الألُوهَةُ روحاً يَرىَ
…
وينِطقُ عنها بوحي السماء
يَحُسُّ الخيالَ إذا ما سَرىَ
…
ويلمسُ ما في ضمِيرِ الخفاء
ويبتدرُ النجمَ في أفقهِ
…
فيرشُفُهُ قطرةً من ضِياء
أرَتْهُ السماء أعاجيبها
…
وَرَوَّتْهُ من كلَّ فَنٍّ بديعْ
فضنَّ بلألاءِ هذا الجمالِ
…
وخافَ على كنزه أن يضيع
أبَى أَن يُبدّدَهُ ناظراه
…
فأطبقَ جفنيهَِ ما يستطيع
فإن شارف الأرضَ نادتْ بِه
…
فَفَتَّحَ عيناً كعينِ الرَّبيع
الفنان الأول
هنالكَ حيث تَشبُّ الحياةُ
…
وحيث الوجودُ جنينُ العَدَم
وحيثُ الطبيعةُ جبارةً
…
تشقُّ الوهادَ وتبنيِ القِممْ
وحيثُ السعادةُ بنتُ الخيالِ
…
ولذَّتُها من معاني الألمَ
وحيث الطريدانِ شجَّا الكؤوسَ
…
ومَجاَّ صُبَابَتها من قِدَمْ
رَناَ، والطبيعةُ في حليها
…
وحواءُ عاريةٌ كالصَّنَمْ
فمن أين سارَ وأنّى سرَى
…
تَصَدَّتْهُ مُقُبِلَةً من أمم
هنا لك أول قلبٍ هفا
…
وأولُ صوتٍ شدا بالنَّغَمْ
وأولُ أنمُلَةٍ صوَّرَتْ
…
وخطَّتْ عَلَى اللوحِ قبل القلَمْ
فمالكِ حواءُ أغْويِتهِ
…
وأعقبِتِه حَسَراتِ النَّدَمْ
لقد كان راعيَكِ المجتَبي
…
فأصبحَ راميكِ المتَّهمْ
ولولاكِ ما ذرفت عيُنهُ
…
ولا شامَ بارقةً فابتَسمْ
وعاشَ كما كانَ آباؤه
…
يُغَنَّي النجوم ويرعى الغنمْ!
الفنان الأعمى
لأجلكِ يَشقى بلمحِ العيونِ
…
ويُصْرَعُ بالنظرةِ العابرة
لَوَدَّ إلى الأرْضِ لم يُصِخْ
…
أو ارتدَّ بالمقلةِ الحاسرة
وكم من فتًى عزَّها سمُعهُ
…
وغصًّ عَلَى رَهَبٍ ناظره
عصاها، فنادتَّ، فلم يَسْتَمِعْ
…
فحلَّتْ به لعنةُ الفاجرة!
له محجرانِ على ما وَعَى
…
من الألَق الطُّهْر مختومتانْ
ففي عقلهِ حركاتُ الزَّمان
…
مُصَوَّرَةً وحدودُ المكان
وفي قلبهِ أعين ثَرَّةٌ
…
بها النارُ طاغيةُ العنفوان
وفي كلَّ خاطرةٍ نيزكٌ
…
يشقٌ سناهُ حجابَ الزمان
إذا ما هَوَتْ وَرَقَاتُ الخريفِ
…
أحسَّ لها وَخَزَاتِ السَّنانْ
وإن سَكَبَتْ زهرةٌ دمعةً
…
فمن قلبهِ انحدرتْ دمعتان
ومن عَجَبٍ شَدْوُهُ للربيع
…
وقد يُخْطيٌ الطيرُ شدوَ الأوان
كقيثارةِ الريح ما لحنُها
…
سوى الريحِ في جفوةٍ أو حنانْ
عوالمُ جَيّاشةٌ بالمنى
…
ودنيا بأهوائها تضطربْ
من اللانهاية ألوانُها
…
مشعشعةٌ بالندى المنسكبْ
ففيها الصباحُ، وفيها المساءُ
…
وبينهما الشفق الملتهبْ
تطوف بها صَدَحَاتُ الطروب
…
وتسهو بها أنَّةُ المكتئبْ!
على محمود طه
رسالة الفن
تأملات
في الأنتراكت
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
يقضي الأستاذ عزيز عيد في هذه الأيام فترة من حياته تشبه فترة (الأنتراكت) في عمله. وهو لا يقضيها متكاسل العقل راكد الحس، وإنما هو يشغل نفسه فيها بالإقبال على معاشرة حيوان، والتأمل في شعوره وأسلوبه، وتعبيره عن هذا الشعور وطريقته فيه، وما قد يصاحب هذا من تفكير يسير أو كبير
وهذا الحيوان الذي يعاشره الأستاذ عزيز ويدرسه في هذه الأيام كلب اسمه (بوي) وهو يربيه منذ سنوات ويعزه ويحبه حبه لأوفى ربيب كفله
والوقت الذي يقضيه هذان الصديقان الصدوقان معاً لا يختلف في شيء عن الوقت الذي يقضيه كل صديقين صدوقين فهما يجلسان معاً يتسامران، وهما يخرجان معاً يتريضان، وهما يتشاغبان ويتصارعان ويتلاكمان، وهما أيضاً يتصالحان ويتخاصمان، وبتعاتبان ويتقابلان ويتعارضان. . . أما (بوي) فهو مع صاحبه مخلص صادق نقي الإخلاص والصدق، وأما صاحبه فلا يقل عنه إخلاصاً وصدقاً وإنما هو يريد عنه التفاتاً إلى ما بينهما من الإخلاص والصدق، وإلى ما هما فيه من عناء الحياة والأحياء
يجلس الأستاذ عزيز مع صاحبه يحدثه عن آلامه مما فات وعن آماله فيما هو آت، والكلب قاعد ينظر إليه مصغياً منتبهاً إذا رأى صاحبه طرب فقد طرب معه، وإذا رآه أسف فقد يأسف معه حتى يمل الأستاذ عزيز عيد فيستأذن (بوي) في أن ينصرف، أو يرجو (بوي) لينصرف هو، وما أسرع (بوي) إلى أن يطيع وأن يلبي الرجاء كما يلبي النداء
فيه كل معاني الحياة ودلائلها، وليس ينقصه إلا أن يعرف الغريب المعقد منها كي يساوي الإنسان في موقفه فيها خرج يوماً مع صاحبه إلى رياضة في الخلاء على مقربة من طريق القطار، ولم يكن قبل ذلك قد رأى قطاراً. ويروى الأستاذ عزيز هذه القصة فيقول:(سمع (بوي) صوت القطار وهو مقبل من بعيد يصفر ويرعد فبدا عليه الذعر وصاح فيَّ ينبهني
كأنما حسبني في غفلة عنه، وكأنما حسبه وحشاً ضارياً جباراً يعدو إلينا ليفتك بنا، وكأنما هالته قوة ذلك الوحش كما هاله ضعفنا جنبه، وكأنما كان بصراخه يريد أن يقول لي: خذ حذرك وأتق هذه النازلة، وأنقذني معك إذا استطعت، فلست بقادر على صده عنه ولا دفعه عن نفسه، حتى ولا عرقلته عنك ريثما تفر. . . لقد كان (بوي) يقول لي هذا كله في صراخه فقلت له: لا تخف يا (بوي) فهذا قطار. . . ورآني (بوي) مطمئناً فاطمأن إذ أدرك أنه لا يمكن أن يملأني هذا الاطمئنان كله لو كان هذا القطار المقبل وحشاً ضارياً مفترساً. ولكن القطار اقترب وضجته تعالت فتوسط (بوي) ما بيني وبين القطار وهاج وجن نباحاً، فاضطررت إلى أن أقف وأن أضمه إلي ريثما يمر القطار، فضممته ونظرت في عينيه أؤكد له الأمان والسلامة، فإذا بعينيه ترسلان إلي نظرة معناها: هاأنذا معك، وإن كنت تراني خائفاً فإنما خوفي عليك أكثر من خوفي على نفسي). . . ويسترسل الأستاذ عزيز في وصف نظرات (بوي) بما لم يصف به نظرات ممثل ولا ممثلة
ويروى الأستاذ عن صاحبه قصة أخرى فيقول: (كان لنا جار وكان لجارنا كلبه، وكان بين بوي وبين هذه الكلبة غزل وغرام لم يرض عنهما الجار، فكان يطرد (بوي) كلما رآه يحوم حول معشوقته، حتى كان يوم ضرب فيه الرجل (بوي) بعصاه ضربة قاسية آلمته ولم يستطيع معها إلا أن يفر هارباً، وليس من عادة (بوي) أن يهرب ولا أن يفر. ومضى الرجل إلى حاله في ذلك اليوم. ولكن بوي كان يعرف مواعيد دخوله وخروجه، فبدأ ينتظره ويتعمد انتظاره ليفجأه يوماً فينهشه نهشاً، ولكن الرجل كان يتقي دائماً هجمات بوي بعصاه يلوح له بها، والعصا أداة كفاح إنسانية يخشاها كل كلب ويعجز حيالها. وشكا لي الجار (بوي)، وقال لي: صحيح إن العصا تقيني هجماته ولكني قد أغفل يوماً عنها فلا اسلم منه، فأرجوك أن نتنبه إليه وأن تمنعه عني، فقلت لجاري: أنت الذي وقفت نفسك هذا الموقف، فقد كان عليك أن تعرف أن لهذا الكلب كرامه، وأنه يعلم تمام العلم أن الذي يعلقنا به هو رغبتنا في حمايته، فإذا ثبت لنا وله ولك أنه عاجز عن حماية نفسه فقد نتخلى عنه وهو يكره هذا، لأنه عاشرنا مدة ما فأحبنا كما رأى أننا نحبه. . . فعليك إذن أن تحمي منه نفسك، لأني لو نهرته عنك بعد الذي كان منك أغراه ذلك بقبول الذل والضيم، وكنت أنا محرضه ودافعه إلى هذا. . . فقال لي الرجل: إن هذا لا يمنعك من أن تحول بين كلبك
وبيني. . . وكنت من يومها أنتظر خروج الجار ودخوله مع كلبي لأشغل الكلب عنه ولأمنعه من الفتك به أو الهجوم عليه، وكنت أرى في الكلب تعجباً من موقفي هذا ودهشة لو كان ينطق لعبر لي عنهما بقوله: فيم حيلولتك بيني وبين هذا القاسي، وقد رأيت أنه ضربني ولو رأيت أنا أحداً ضربك لما حلت بينك وبينه وإنما كنت عليه معك؟. . . ثم خطر لي أن أصلح ما بينهما، فانتظرت مرور الرجل يوماً فاستوقفته وناديت (بوي) وأخذت أربت على كتفي الرجل، واربت على كتفي الكلب، وأقول لكل منهما إن الصلح خير، وأقول لكل منهما إن الصفح والعفو من شيم الكرام، وأقول لكل منهما إنه من الممكن أن يتناسيا الماضي وأن يستأنفا الصداقة من جديد، ثم أشرت إلى الرجل فبدأ يمسح للكلب ظهره، فراغ الكلب في أول الأمر رافضاً هذا الصلح، ولكنه لما رآني أستحسنه وأطلبه منه مسح رأسه هو أيضاً في ساق الرجل ثم نظر إلى يقول بنظرته: لقد صفحت عنه لكي ترضى. . .
وتجر هذه القصة إلى ذاكرة الأستاذ عزيز قصة أخرى فيقول: وقد تخاصمت أنا ذات مرة مع بوي، فقد كنا نلعب معاً، ومن عادتنا إذا لعبنا معاً أن أضربه ضرباً خفيفاً وأن يعضني عضَّاً خفيفاً، وأن يسامح كل منا الآخر فيما يناله من ألم الضرب الخفيف أو العض الخفيف، لأن كلا منا يعلم أن هذا مزاح ولعب ولا أكثر، غير أني في تلك المرة برعت في مشاكسة (بوي) حتى اغتاظ غيظاً شديداً فعضني عضة أسالت الدم من إصبعي. . . فرأيت هذا ذنباً لا يمكن أن يغتفر لأني إذا اغتفرته فقد لا يحسبه (بوي) ذنباً، وقد لا يجد بعد ذلك مانعاً من أن يعضني عضة أقوى من هذه العضة، وقد يكون في ذلك ضرر من الخير أن أتقيه وألا أنتظر حتى يحدث فأعالجه. . . فأمسكت في يسراي بكرسي جعلته درعاً، وفي اليمين عصا انهلت على (بوي) ضرباً موجعاً مبرحاً علم الله أن كل ضربة منه كانت تنزل على قلبي قبل أن تنزل على جسمه، ولكني كنت أرى أنه لا مفر من هذا الضرب عقاباً وردعاً. . . وبعدها خاصمت (بوي) وخاصمني (بوي) أيضاً. . . خاصمته: فلم أعد أكلمه، ولم أعد أناديه، ولم أعد أسامره، ولم أعد ألعب معه. وخاصمني: فلم يعد ينتظرني ليلاً، ولم يعد يدنو مني نهاراً، ولم يعد يمس طعامه الذي كان يوضع له. . . وصام هكذا ثلاثة أيام، كان خلالها كلما رآني ألقى إلي نظرة معناها عند من يفهمون النظرات: لا تكلمني، ولا
أكلمك، وأنت تعرفني وأنا أعرفك. . . أنت لم تسامحني ولكني سامحتك. . . وكنت أنا أنظر إليه وأقول له بعينيّ: الذنب ذنبك والبادئ أظلم. . . ومع هذا الخصام، وفي عزه وشدته، كنت ألمح (بوي) وأنا أرتدي ملابسي أمام المرآة، يدنو من باب الحجرة مخفياً جسمه كله ويطل إلى بعينيه كمن يريد أن يراني صحيحاً سليماً معافى، وكمن يكفيه أن يراني كذلك. . . وكنت أنا أتغاضى عن نظرته هذه ولا أبدي له التفاتي إليها. . . حتى كان اليوم الثالث، فالتقت أعيننا، فإذا بهذا الذي كان في عينيه يذوب ويتلاشى، وإذا بعينيه تلمعان عوضاً عنه بقوله: أما اكتفيت خصاماً؟! إنه ليس لي أن أبدأك بالصلح فربما كنت لا تزال غاضباً أو مستاء. . .! عندئذ انخذلت أمام هذا الوفاء الصامت، وابتسمت وناديته وقلت: لقد كانت عضة مؤلمة يا (بوي)، وأظنك لا تذكر أني ضربتك قبلها ضربة مؤلمة. . . صحيح أن (بوي) لم يكن ليفهم معاني هذه الكلمات جميعاً مفصلة. . . ولكن (بوي) أدرك من صوتي ومن بريق عيني - كما يدرك دائماً - أي حالة نفسية أنا فيها. . وفي هذه الساعة أدرك (بوي) أني أعاتبه، كما أدرك أن الموقف يقتضيه الاعتذار عما بدر منه، فأطرق برأسه وبعينيه البليغتين إلى الأرض، واقترب مني متباطئاً متذللاً مسترضياً فمسحت له ظهره بيدي، فقبل يدي بلسانه، فعانقته وعانقني وعدنا صديقين حبيبين)
بهذا الوضوح، وبأكثر منه تفصيلاً يتحدث الأستاذ عزيز عيد عن كلبه (بوي)، وهو كلب من ذلك النوع الضخم الذي يسمونه (وولف) والذي كان منه فقيد السينما (رن تن تن)
وليس (بوي) ولا (رن تن تن) بمفردين في الكلاب فهما يدركان مالا يدركه غيرهما من أفراد جنسهما، بل ولا جنس الكلاب بمفرد في الحيوان فهو وحده الذي يشعر بالحياة، والذي يعبر عن شعوره فيها والذي يتفهمها فهماً يسيراً أو فهماً كبيراً، وإنما كل الكلاب مثل (بوي) و (رن تن تن) وكل الحيوانات مثل الكلاب وإن كانت تختلف في أنصبتها من الحياة. وإذا كان الناس متشاغلين عن الحيوانات، فإن لها من الشعراء والفنانين نصراء وأصدقاء يعاشرونها ويتفاهمون معها، ويدرسونها الدراسة الحية القائمة على المعاشرة وتبادل العواطف، وهذه الدراسة أشرف بكثير من تلك الدراسة التي يعمد إليها العلماء مع الحيوان
وقد يعاني الفنانون استهزاءً كبيراً من العامة والمثقفين لهذه النزعة، وهذه النزعة وحدها
هي التي ستكشف للبشرية بعد جيل أو أجيال عن حقيقة موقف الإنسان من هذه الأحياء التي شاء الله أن تعيش معه على ظهر هذه الأرض. وإذا كان الإنسان يدعي أن له في هذه الأرض السيادة، فإن عليه أن يستكمل لهذه السيادة شروطها، وأول شرط منها أن ينظر فيما سخره الله له من الخلائق، وأن يفهم طبائعها حتى يستطيع أن يركن إلى كل منها يطلب عنده علماً بما يجهله وبما آتاه الله الحيوان من قوى
وإذا كان الإنسان يرى في بعض الحيوان بأساً وقوة يخشاهما فكل حيوان يرى في الإنسان دهاء وخبثاً يخشاهما هو أيضاً ويمقتهما ويقاسي منهما الأمرين، وعندما يأمن الحيوان جانب الإنسان فإنه من غير شك يوليه بذلك أماناً وصداقة، والإنسان يستغل في نفسه هذا الامتياز منذ القدم، ولقد استأنس به أسوداً وفيلة وطيراً ووحشاً، ولعل القدماء كانوا أحسن عشرة للحيوان منا، فنحن قد غرتنا مدنيتنا وشغلتنا حتى لم نعد نعبأ إلا بأن نكون سادة، ولو كنا الطغاة الجاهلين. . .
عزيز أحمد فهمي
البريد الأدبي
قصة الإمام الزهري
شكرت للكاتب الأديب أحمد جمعة الشرباصي الفرصة التي هيأها لي للكلام في مسألة دار حولها قول كثير، ونقلت عني نقلاً غير صحيح، وهي تجريح الإمام ابن شهاب الزهري أثناء محاضراتي بكلية الشريعة الإسلامية. وحقيقة الأمر هو أني كنت أعني في محاضراتي عن تاريخ علم الحديث بتعريف الطلاب طريقة البحث الحديث في نقد الأحاديث، وأضرب لهم في ذلك الأمثال، وكان من هذه الأمثلة ما ذكرته لهم من نقد بعض المستشرقين، وهو جولدزيهر للإمام الزهري وأحاديثه التي رواها في فضائل الشام وبيت المقدس، وخلاصة هذا النقد هو أن الإمام الزهري كانت له صلات وروابط بالبيت الأموي، وأن عبد الملك ابن مروان كان منع الناس من الحج أيام فتنة الزبير، فبنى عبد الملك قبة الصخرة في المسجد الأقصى ليحج الناس إليها، ثم أراد أن يبرر عمله هذا، فوجد في الزهري - ومقامه الديني معروف - آلة لوضع أحاديث مثل الحديث المشهور:(لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى). ولكن رأى هذا المستشرق قد فند بعد ذلك، وخطئ بشدة من المستشرقين أنفسهم الذين رأوا فيه مخالفة تاريخية واضحة. وإليك ما يقوله المستشرق فينسنك في ذلك:(وقد زعم بعضهم - يعني جولدزيهر - وضع حديث (لا تشد الرحال). وهو حديث مذكور في جميع كتب السنة المعتبرة، وذلك لكي يجعل الحج إلى بيت المقدس مثل الحج إلى الكعبة، ولكي يحمي الخليفة عبد الملك في حربه ضد ابن الزبير الثائر عليه بالبلاد المقدسة). ولكن هذا الاتهام لمثل هذا المحدث الكبير تسقطه الأدلة التاريخية، فإن خروج ابن الزبير كان في سنة 14 - 73هـ، والزهري الذي ولد سنة 51هـ أو بعدها كان في هذا الوقت شاباً لا أهمية له، ولم يكن قد بلغ بعد شهرته في الحديث، ومثل هذا الوضع لا يمكن أصلاً أن يكون لأن الإمام الزهري من الرجال الثقات. وكان سعيد بن المسيب الذي روى عنه هذا الحديث لا يزال حياً فإنه توفي سنة 94هـ. وبالطبع كان لا يمكن أن يقبل أن يستعمل اسمه استعمالاً سيئاً، خصوصاً إذا عرفنا أن الزهري ليس هو وحده الذي روى هذا الحديث عن سعيد). هذا هو كلام فينسنك (راجع مجلة المستشرقين الألمانية عدد 93ص23)
فهل تراني بعد هذا أشك ذرة في ثقة الإمام الزهري بعد أن شهد له الأصدقاء والأعداء، وتضافرت على إمامته الأبحاث القديمة والأبحاث الحديثة؟ أم ترى أن ما نقل عني قد حرف تحريفاً أبرأ إلى الله منه (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة)
وختاماً لا أجد بداً من الإشارة بهذه المناسبة إلى أن أبحاث المستشرقين تثق ثقة كبيره بالأحاديث النبوية بعد أن خبرتها بكل مقاييس البحث، بل إنها سارت شوطاً كبيراً في الثقة بأحاديث شك فيها علماء الجرح والتعديل المتقدمين، وهي مسألة سأتناولها ببحث خاص في فرصة أخرى إن شاء الله.
علي حسن عبد القادر
استئصال داء الزهري
لم ير العالم عهداً كهذا العهدُ وفق فيه رجال الطب إلى إنقاذ البشرية من عدد كبير من الأمراض العضالة. فقد اكتشفت طريقة جديدة لاستئصال داء الزهري، وهو الذي حير الأطباء قروناً طوالاً، وكان وما برح من أكبر بلايا الجنس البشري. وذلك بمركب الدكتور بول أرليك الكميائي المشهور الذي أعلن أمر اكتشافه منذ ثلاثين سنة مضت، وعالج الأطباء مرضاهم به فلم يكن الشفاء يتم إلا بعد عام أو عامين
أما الذين وفقوا إلى ابتداع طريقة جديدة للمعالجة بهذا المركب ذاته فهم الأطباء هرالدتوماس، ولويس شارغين، ووليام لايفر، وجميعهم من رجال مستشفى (جبل سينا) في نيويورك. وقد جربوا طريقتهم في غضون ست سنوات، في ذلك المستشفى، فجاءت تجاربهم محققة لاعتقادهم بصحة الطريقة التي تقتل جراثيم هذا الداء العياء في خمسة أيام، وتطهر دم المريض به من أدرانها نهائياً. وقد عالجت المستشفيات الأخرى بها تحت معاينة الإخصائيين، فاتضحت صحة ما قيل عنها وأن 85 ? من الذين عولجوا بها طهروا من جراثيم الزهري التي كانت متغلغلة في دمائهم وأنهم أمنوا خطرها أو العدوى بها
أما الباقون الذين تملكهم الداء فأصبح عضالاً فقد استغرقت معالجتهم لاستئصاله بالكلية حوالي الشهرين. ومركب الدكتور أرليك يعرفه الأطباء، وهو فيما يقال يعطي للمريض
حقناً على التوالي مدة خمسة أيام بمقدار لم يعلن بعد. ولا تكون هذه الطريقة في متناول الأطباء قبل انقضاء بضع سنوات، كما يقول مكتشفوها الذين لم يوضحوا أسباب هذا التأخير. والمساعي مبذولة الآن لحمل الحكومة الأمريكية على تعميم استعماله ومعالجة جميع المصابين بالزهري، الذين كان عددهم في العام الماضي نحو نصف مليون
غلطة شائعة
قرأت أكثر ما كتبه الناقدون عن الجزء الثاني من كتاب الدكتور طه حسين بك: (على هامش السيرة) الذي صدر منذ أمد بعيد، فلم أجد ناقداً منهم نص على الأخطاء النحوية واللغوية المتكررة التي وقع فيها الدكتور طه. ومن أظهر هذه الأخطاء أنه في عبارة له بالكتاب المذكور يقول:(وما أحسب إلا أن الأيام ستترى) فجعل كلمة (تترى) فعلاً بإدخاله حرف السين الخاص بالأفعال عليها، مع أن هذه الكلمة اسم لا فعل، وإليك الدليل:
قال صاحب القاموس في مادة (الوتر): (وجاءوا تترى وتنوَّن، وأصلها وَتْرَى: متواترين). فلو أن الدكتور قال: (وما أحسب إلا أن الأيام ستمر تترى) لا ستقام تعبيره على سنن العربية، ولكن. . .
ولن أنسى النص على أن كثيرين من ناشئة الكتاب يخطئون في استعمال هذه اللفظة، وهم يحسبونها فعلاً بمعنى (تتَابَع) والصواب ما قدمناه.
(البجلات)
أحمد جمعه الشرباصي
كتاب جديد لابن حزم الأندلسي
هذه رسالة للإمام ابن حزم في (المفاضلة بين الصحافة) نشرها اليوم على غلاء الورق وصعوبة النشر صديقناً الأستاذ سعيد الأفغاني، فجاءت في نحو مائة صفحة، فقدم لها مقدمة في دراسة حياة ابن حزم دراسة كاملة، وضم إليها ذيلاً يشتمل على تراجم مطولة وفهارس مفصلة لأسماء الأعلام الواردة في الكتاب، فبلغت المقدمة مع الذيل ثلاثمائة صفحة، كلها بحث وتحقيق في لغة سليمة وديباجة صافية. وقد قام بهذا كله على صمت وتوار من الناس، وبعد عن الإدعاء الذي اكتفى به هؤلاء الذين جاءوا بعلم العربية من ديار العجم.
والأستاذ الأفغاني أحد أربعة هم بين أدباء الشام الدائبون على العمل (والإنتاج) المثابرون على الكتابة والتأليف والنشر، وهم الأستاذ الجليل العلامة محمد كرد علي بك، والكاتب الأكبر معروف الأرناءوط، والأستاذ الأفغاني، ورابع أستحي أن أسميه. اثنان منهم للبحث والتحقيق والعلم، واثنان للأدب الخالص. هذا ولا بد من عودة إلى الكلام على هذا الكتاب، وإنما عجلنا للأستاذ الشكر كما عجل لنا الهدية.
على الطنطاوي
وفاة عالم جليل
استأثرت يد المنية بالعالم الجليل، شيخ القراء في القطر الشامي المرحوم الشيخ عبد الله المنجد - والد الأستاذ صلاح الدين المنجد. فكانت وفاته فاجعة كبرى اهتزت لها أرجاء دمشق ومشت بشيبها وشبابها في جنازته العظيمة، يتقدمهم سعادة مدير المعارف ورجال التعليم وسماحة رئيس جمعية العلماء وإخوانه العلماء الأجلاء، وقد أبَّنه على القبر بعض أعلام المسلمين
وقد كانت للفقيد منزلة سامية بين المسلمين لما أتصف به من العلم الغزير، ولأنه شيخ القراء والحافظين لكتاب الله عز وجل،
ولما عرف عنه من دماثة الأخلاق ولين الجانب والتواضع والقيام بواجبات العلم، وقد تخرج على يديه طلاب لا يحُصى عددهم كلهم يشهد بفضله وعلمه. وخسارة المسلمين به وبمن سبقه من علماء دمشق الأجلاء لا تعوَّض
أسأل الله أن يلهم آله وذويه جميل الصبر، وأن يوفقني لكتابة فصل عنه في هذه المجلة الغراء، أبيَّن فيه سيرته وفضله ومزاياه
(دمشق)
(ق. ط)
وأسرة (الرسالة) تقدم إلى الأستاذ صلاح الدين المنجد خالص العزاء
المفاضلة بين الصحابة
للأستاذ الأديب السيد سعيد الأفغاني همم مشكورة في طبع بعض الكتب القديمة. وآخر ما طبعه رسالة ابن حزم المسماة (المفاضلة بين الصحابة) وهذه الرسالة موجودة برمتها في كتاب (الفصل في الملل والنحل لابن حزم) من الصفحة 111 إلى الصفحة 153 من الجزء الرابع من طبعه الخانجي، وأما الطبعة الثانية فليست تحت يدي لأشير إلى مكان الرسالة منها. فلعل أحد الناسخين (من الناصبة) جردها من كتاب (الفصل) فحسبها بعضهم كتاباً جديداً. وفي الخزانة التيمورية نسخة منها كان الأستاذ كرد علي أخذ صورتها الشمسية. فالجدوى من نشر هذه الرسالة مستقلة هي للطابع لا للباحث.
فضيل سالم المهدي
(الرسالة): لا ندري كيف غفل الكاتب عن الجهد العظيم الذي بذله الأستاذ الأفغاني في التحقيق والتعليق والفهرسة والترجمة حتى أصبح الكتاب بمقدمته وذيله كتابين لا جدوى لأحدهما بغير الآخر. ولو كان يدري الكتاب شروط النشر لعلم أن هذا الكتاب ما كان يفيد الباحث لو لم ينل هذه العناية من الأستاذ سعيد.
حول آية إطعام الطعام
إنها ليد طولى للرسالة تقابلها بالشكر أن أتاحت لنا الاتصال بإخواننا في العراق نبادلهم الرأي ونساجلهم البحث؛ فقد نشرت في عددها الماضي رد الأستاذ الشيخ كاظم سليمان خطيب الكاظمية بالعراق على إنكارنا صحة ما روى الرواة في سبب نزول آية إطعام الطعام من صوم الإمام علي رضي الله عنه إلى آخر ما زعموا. وقد حاولت أن أظفر بدليل في كلام الأستاذ فلم أنل
وغير خاف أن الإمام علي كرم الله وجهه في سابقيته وهجرته وبلائه ومنافخه وعلمه وفضله وفتوحاته وقرابته لا يرفع من شأنه رواية لم تثبت
على أن المفسرين بإزاء هذه القصة فئات منهم من ضرب عنها صفحاً، ومنهم من رواها من غير بحث، ومنهم من نقدها. فقد جاء في تفسير الطبري
(والصواب من القول في ذلك أن يقال إن الله وصف هؤلاء الأبرار بأنهم كانوا في الدنيا يطعمون. . .). فتراه أرجع ضمير يطعمون إلى الأبرار ولم يشر إلى قصة صوم الإمام
أقل إشارة، وقال الخطيب الشربيني بعد أن ساق القصة:(حديث موضوع)
وفي الشهاب علي البيضاوي: (هو حديث موضوع مفتعل كما ذكره الترمذي وابن الجوزي، وآثار الوضع عليه ظاهرة لفظاً ومعنى)
وقال الألوس بعد أن ساق القصة: (وتعقب بأنه خبر موضوع مفتعل. . .) إلى آخر عبارة الشهاب السابقة
وقال الفخر الرازي والقول ما قالت حزام: (إنه تعالى ذكر في أول السورة أنه إنما خلق الخلق للابتلاء والامتحان، ثم بين أنه هدى الكل وأزاح عللهم، ثم بين أنهم انقسموا إلى شاكر وإلى كافر، ثم ذكر وعيد الكافر. ثم أتبعه بذكر وعد الشاكر فقال: (إن الأبرار يشربون)، وهذه صيغة جمع فتتناول جميع الشاكرين والأبرار، ومثل هذا لا يمكن تخصيصه بالشخص الواحد لأن نظم السورة من أولها إلى هذا الموضع يقتضي أن يكون هذا بياناً لحال كل من كان من الأبرار والمطيعين، فلو جعلناه مختصاً بشخص واحد لفسد نظم السورة. والثاني أن الموصوفين بهذه الصفات مذكورون بصيغة الجمع كقوله: إن الأبرار يشربون، ويوفون بالنذر، ويخافون، ويطعمون وهكذا إلى آخر الآيات. فتخصيصه بجمع معنيين خلاف الظاهر، ولا ينكر دخول علي بن أبي طالب عليه السلام فيه، ولكنه أيضاً داخل في جميع الآيات الدالة على شرح أحوال المطيعين وكما أنه داخل فيها، فكذلك غيره من أتقياء الصحابة والتابعين داخل فيها، فحينئذ لا يبقى للتخصيص معنى ألبته) أه. كلام الرازي
أما من نقل القصة من المفسرين بلا بحث فليس في مجرد النقل حجة
ومن العجيب أن ابن عباس الذي رويت عنه هذه القصة من القائلين بأن سورة (الإنسان) مكية نزلت قبل زواج الإمام بالزهراء عليهما السلام، فكيف يصح ما رواه أم كيف يستقيم
محمود محمد سويلم
إلى الأستاذ محمد سعيد العريان
جاء في كتابكم القيم (حياة الرافعي) أن والد فقيدنا الغالي هو الشيخ عبد الرزاق الرافعي؛ فالتبس علي الأمر بعد أن كنت أعلم أن أسم أبيه (صادق) نسبة لما يطلقه على نفسه:
(مصطفى صادق الرافعي)
فهل لك في إزالة هذا الالتباس وإيضاح الحقيقة؟ بعد أن تقبل تحية صدق من أخ يقدر فيك - على البعد - الإخلاص والوفاء
(دمشق)
بشير العرف
الأمة الإسلامية ونادي المراسلات الإسلامي
تتكون من العالم الإسلامي الممتد في كل بقعة من بقاع الأرض أمة تخالف في نظامها ومقوماتها الشخصية الأمم، فمن المألوف في كل أمة أن تكون الوحدة بين أفرادها وحدة الدم أو اللغة. لكن الأمة الإسلامية التي تتألف من أجناس متعددة ولغات متباينة، وتقيم في قارات الدنيا الخمس، هذه الأمة تتألف من كل مؤمن صادق الوعد قوي النفس حي الضمير، من كل أمة تربط بين أفرادها العقيدة بدلاً من أن يربط الدم ويوحد بينهما الفكر ما فرقته اللغة
هذه الأمة العظيمة تتلاقى بقلوبها وأبصارها عند كعبة واحدة كل يوم خمس مرات، وتهتف بنداء واحد كل يوم مئات المرات كانت، حفنة من الرجال خرجوا من جوف الصحراء ينشرون كلمة التوحيد، ويرفعون أسم الله قد دانت لشجاعتهم وإيمانهم جبابرة الأرض، وفرضوا على كل الأمم أنبل التقاليد وأفضل الأخلاق وتركوا وراءهم مجداً خالداً باقياً ما بقيت الأرض
إلا أن روح الخمود والتفرقة والجري وراء الأغراض ما فتئت تنخر في عظام هذه الأمة حتى وصلت إلى حالتها الحاضرة من التقهقر والضعف والانحلال؛ هذه الحالة التي تثير في النفوس كوامن الألم وتدفعنا دفعاً إلى أن نفكر في مجدنا التالد وتقاليدنا النبيلة التي يكاد أن يعفى عليها الزمن
إن نادي المراسلات الإسلامي الدولي الذي هو عبارة عن هيأة إسلامية دولية مركزها الرئيسي بالمملكة المصرية يشترك في إدارتها وتنظيمها نخبة من شباب الإسلام في مختلف بلاد العالم يدعو مسلمي الدنيا بأكملها للانضمام إلى عضويته وبذل أقصى الجهد في نشر
فكرته ومبادئه والدعاية إلى الانضمام إليه سعياً وراء تحقيق أغراضها التي تألف من أجلها، والتي تقوم على خلق علاقة وطيدة تتناول كل أمور الدنيا والدين بين مسلمين الدنيا بأكملها مهما اختلفت اللغات أو تباينت الأجناس أو بعد المزار
إن الاشتراك في نادي المراسلات الإسلامي الدولي لا يكلف الأعضاء مالاً ولا وقتاً ولا جهداً، ولكنه وسيلة لا تدانيها وسيلة في تحقيق الوحدة الإسلامية وبعث القوى الكامنة في نفوس الأمة الإسلامية
فإلى مسلمي ومسلمات العالم نسوق هذه الدعوة راجين أن تصل إلى كل مسلم، وأن يعمل الجميع على نشرها في جميع أنحاء العالم تقدم طلبات الانضمام وتطلب الاستعلامات بلا أي مقابل من السكرتير العام لنادي المراسلات الإسلامي الدولي صندوق البريد رقم 939 بالقاهرة بمصر.
رسالة النقد
ليالي الملاح التائه
للأستاذ الشاعر علي محمود طه
بقلم الأستاذ خليل هنداوي
ليس أحب على النفس التي تحيا في هذا الجو الضيق الذي حل فيه الربيع بمواكبه عابساً يائساً من أن تنطلق في الحياة انطلاقة (الملاح التائه) الذي يخبط على غير هدى، لا غرض له من هذا الخبط إلا أن ينطلق وينطلق! فيضيع عن الشاطئ عبر هذا اليم الذي تلاشى عن عينيه شاطئه، وأصبح يحمل الموج لمن يسأل عنه صدى ألحانه، وفي هذه الألحان شوق غلاب ووجد ملح
حياة هذا (الملاح التائه)، هي ذات حياة ذلك البوهيمي الذي انطلق من قيود الحياة، وراح يطلب لذتها للذتها. إلا أن البوهيمي قريب منا حينما نطلبه؛ أما ذلك (الملاح التائه)، فقد انفصل عنا حتى ضنَّت الأمواج علينا بالإبقاء على آثار زورقه! فنحن نسمع أصداءه، ولكن لا نعرف مصدر تلك الأصداء؛ ونطرب لألحانه المقبلة مع الموج المتهدل، ولكن هذه الألحان تبقى مجهولة الإيحاء!
أين صاحبها؟ وأية موجه تلفُّ الآن زورقه؟ وأي شاطئ مرصَّع تفتح أمام عينيه؟ أذكر أنني تلوت نقداً لديوانه الأول يلوم الشاعر على أنه يهمل مشاهد بلاده، ويمعن في وصف مشاهد غريبة عنه وعن أهله؛ ولكن غرب عن الناقد أن - شاعرنا ملاح تائه - يعبر كل البحور، ويرف ناظره على كل الشواطئ، ويكحل جفنه بأي نوع من الجمال. ومتى انطلق الشاعر من هذه الحدود، ترامى أمام طرفه، لا نهاية فسيحة تبدو عليها حدودنا خطوطاً تكاد تلوح كباقي الوشم إزاء عالمه الفسيح!
وفي (ليالي الملاح التائه) مشاهد غريبة - عن غير هذا الشاعر - توحي إليه عاطفة شديدة الإحساس، لكنها في هذه المرة لا تكاد ترتدي - الإنسانية - رداء حتى يردها إلى الأرض التي انفصلت عنها نوازع فيها الوجد والحنين والاضطراب والكآبة. . . وكل هؤلاء نعم القرين للشاعر! وإذا كان لا بد من النقد، فإنني آخذ على صاحب الليالي حشده لبعض
مقطعات ليست من وحي الملاح التائه! وليست أخوات تلك الرعشات التي تأتي متآخية مع رعشات الأمواج! وأولى بمثل هذا الشاعر الصافي أن يتجرد كثيراً من شعر المناسبات. ومن أولى من الملاح التائه بالتجرد من هذا؟ وهو الذي وقف حياته على الشعر الصافي. . .؟
أول الحان (الملاح التائه) أغنية سامية أعدها فتحاً جديداً في عالم الشعر والغناء، هي (أغنية الجندول) التي نظمها خير شاعر ولحنها خير فنان، قد امتزجت فيها عبقرية الشعر وعبقرية الفن، حتى لتحار في هذا الامتزاج الغريب الذي ترك للقطعة قيمة خاصة تذكرنا بالشعر العربي الوجداني، ولعلها تمت بصلة أو صلات إلى الموشحات؛ ولكن تلك الأغنية أصدق عاطفة، وأبعد تأثيراً في النفس، لأن العاطفة المجردة بعثت بها دون أن تترك مجالاً لتغلب الصبغة الكلامية. . . ولعل هذه الأغنية هي أروع أغاني (الملاح التائه) لأنها تصور حياة هذا البوهيمي الذي يعالجه حنينان: حنين إلى مجالي الهوى، وأين تلك المجالي! وحنين إلى أرضه المتواضعة التي يصارعه الشوق إليها. حنينه الأول إلى كأس يتشهى الكرم خمره، وحبيب يتمنى الكأس ثغره. . . هذا الحنين عاوده وأنساه كل شيء. . . وبات من أجله يضيَّع في الأوهام عمره! ولكن الذكرى تناديه، والشوق إلى وطنه يهتف به. . . فيشعر بغربته شعوراً كاملاً، ولا يزيد على شعوره هذا شيئاً
قال من أين وأصغى ورنا
…
قلت من مصر غريب ههنا!
هذا البوهيمي نفسه يمر على الخيام فيقف عنده، وهو الذي لا يقف في مكان، وهنالك يرسل لحناً يعد أعمق ما أرسله من ألحانه في لياليه؟ وأنى لنا أن نتمثل هذا البوهيمي الذي أضناه جوب البحار وشق القفار، حتى وقف عند باب هذا الخمار!
كلما لألأ في الشرق السنا
…
دقت الباب الأكف الناحلة
أيها الخمار! قم وافتح لنا
…
واسقنا قبل رحيل القافلة
وما عسى يسقيه هذا الخمار الذي جمع خمره من كرم غريب عن الكروم وعصرها من عناقيد ترى فيها:
كل عنقود دموع جمدت
…
وقلوب فنيت فيها شعاعاً
ما احتواها الفجر إلا اتقدت
…
جمرة تذكو حنيناً والتياعاً
وبعد السكر يناجي الخيام بمثل ما عاوده في حياته، وفي هذه النجوى صعود شاعر:
صرخت آلامه في كوبه
…
فهوى يثأر من آلامه
إنما البعث الذي تشدو به
…
يقظة المفجوع في أحلامه!
لله ما أروع هذا البعث؟ ولكن حسبه تعزيه:
. . . . . . . . . أنا سنحيا
…
في غد، مثل حياة الزهر
وسنطوي الأبد المجهول طيا
…
بُعددَ الأطياف شتىَّ الصور
حسبها تعزية أن نحملها
…
بأناشيد الصباح المنتظر
ونشق الأرض عن وجه السما
…
حيث نور الشمس أو ضوء القمر
ربما جددَّ أو هاج لنا
…
نبأً، أو قصةً من حبنا
نوح ورفاء، أرنَّت حولنا
…
أو صدى قبره مرت بنا
في الديوان شعر كثير، وخطوات تدل على قلب شاعر: وللشاعر قدرة عظيمة بنقل الحوادث الخاصة بروح إنسانية كما فعل في قصيدة (مصرع الربان). ولعل بين هذا الربان وهذا الملاح نسباً. هذا الربان هو الكابتن (ماكيج جونس) ربان حاملة الطائرات كوراجيوس التي أغرقتها غواصة ألمانية في بدء الحرب الحاضرة، فآثر الموت غريقاً مع سفينته على الحياة بعدها. ولما بلغ الماء هامته، ألقى بقبعته على الموج إجلالاً للموت وإكباراً للبحر الذي حمله حياً وضمه ميتًا! ولم يجد الشاعر في هذه الحادثة مهرباً من وصف ذلك العدو الخافي المقاتل. . . وهو وصف دانٍ جداً من وصف شوقي للغواصة. وما أدنى المشابهة حين يقول:
رماك في جنبات اليم محترب
…
خافي المقاتل عند الروع فرار
ترصدتك مراميه ولو وقعت
…
عليه عيناك لم تنقذه أقدار
وأبدعْ بتلك الصورة التي خلدها الشاعر
وغاب كل مشيدٍ غير قبعة
…
ذكرى من الشرف العالي وتذكار
ألقيتها، فتلقَّى الموج معقدها
…
كما تلقَّي جبين الفاتح الغار
وهذه قصيدة وليدة البحر، لو لم يقع عليها الملاح التائه أثناء تطوافه لم يلقها، لكن الباعث عليها يختلف عن جملة البواعث الأخرى، لأنه باعث الحياة التي تهتز بانفجار، وتأبى
الحياة إلا فجاءة واقتحام أخطار
شعر فيه جميع عناصر الشعر!
زودَّينا من مثل هذا الشعر يا مصر!
وهل الشعر إلا نشوة علوية وشعاع كأس لم يقبَّلها فم؟!
خليل هنداوي
القصص
الرجل الذي لا يقاوم
للأستاذ نجيب محفوظ
في تلك اللحظة التي لا تنسى حين وجه المأذون سؤاله الفاتن إلى صابر أفندي عبد الخالق: (هل تقبل نكاحها؟). ثم عطفه إلى الآنسة حياة الخضيري قائلاً: (هل تقبلين نكاحه؟). في تلك اللحظة التي لا تنسى تنهد قلبان ارتياحاً وغبطة بعد أن احترقا شوقاً وجوى عشرة أعوام تساوي مائة عام مما تعدون. وقد لهجت الألسن بالخبر السعيد أكثر مما ألفت أن تلهج بنبأ زواج. لأن الحب الذي آلف بين هذين الشخصين عشرة أعوام طوال كان ذاع أمره، وجرى مجرى الأمثال ذكره، فغدا نادرة يطرب لها الكواعب ويستدفئ بها العجائز في أحياء غمرة والسكاكيني والظاهر وغيرها من الأحياء القريبة التي شاهدت من آياته ما تهتز له النفوس وتخفق القلوب. وقد طغى هذا الحب واستبد. فهزأ بالكبرياء، وأزال الفوارق واستأداهما ما يطيقان وما لا يطيقان من التصبر والتجلد والإخلاص والوفاء، فأدياها إليه عن طيب خاطر، وقدما على مذبحه القرابين عاماً بعد عام. أما حياة فهي كريمة السيد شلبي الخضيري تاجر الأخشاب ذي الثروة الواسعة والجاه العريض، والمكانة الملحوظة في أسواق التجارة وميادين السياسة والحياة النيابية، وكانت إلى هذا حسناء في مقتبل العمر مشهوداً لها بالجمال الفائق والرشاقة الفاتنة. وأما صابر فمن أسرة فقيرة من عامة الشعب، ارتقت به مدرسة الصنائع إلى وظيفة مهندس كهربائي بمصلحة الميكانيكا بمرتب ستة جنيهات. فوهبته قلبها وجمالها وصدقته المودة والإخلاص، وأعرضت وفاء له عن عشاق ملحين عنيدين، ورفضت أيادي شبان ذوي حسب ونسب وجاه، منهم طبيب وجيه، وضابط بوليس يعبث شريطه الأحمر بالأفئدة. فلم تطع سوى قلبها العاشق المفتون. وحافظ هو من ناحيته على عهدها، وأخلص لها الحب، وليس هذا بالشيء الذي يستهان به في مثل عصرنا هذا. وتحمل في سبيلها أذى كثيراً دأب والدها على توجيهه إليه قبل أن يسلمه اليأس من إذعان كريمته إلى قبوله. وفوق هذا، فلم يكن مما يجذبه إليها جاذب الطمع في مال أو جاه أو ترق، فكان حبه خالصاً نقياً. على أنه لم يعرف عنه مع ذلك أنه كان يغض الطرف قط عن حسان السكاكيني أو الظاهر، وما كان يستطيع ذلك، ولكن الحق الذي لا
مراء فيه أنه احتفظ بقلبه وحبه لها دون بنات حواء جميعاً. . . وشاء الحب أن يختم ألم السنين بهذا الزواج. فقال أناس: إنه إذا كان الحب قد حكم أن يدعوهما دواماً إلى حدائق القبة وبساتين غمرة، فالزواج لا شك محتبسهما في بيته إلى الأبد، وأنه لن يرى بعد ذاك اليوم صابر أفندي إلا حين ذهابه إلى مصلحة الميكانيكا والكهرباء، أو عند أوبته منها. وصدقت فراستهم، ولكن شهراً واحداً رؤى الشاب بعده ذات مساء يغشى قهوة كان دائم التردد عليها أيام عزوبته، وقد نفخت فيه الحياة الجديدة نضارة وسعادة، فبدأ أنيقاً جميلاً، فلم يدهش لذلك رفاقه وتلقوه فرحين. . . فمضى يغيب حيناً ويعاود أحياناً، ثم اختفى ردحاً طويلاً فظنوا جميعاً أنه آثر هدوء البيت على ضجيج القهوة، ولكن واحداً ممن يتطوعون لإذاعة الأخبار قال إنه يراه كل مساء يجلس أمام (صالون الكمال) في شارع قمر لا يبرح مكانه حتى يغلق (الصالون) أبوابه حوالي الساعة العاشرة. فوقع القول من النفوس موقع الدهشة وتساءلوا عما يغري صاحبهم بتجنبهم وملازمة صالون الكمال. وكان بينهم خبثاء متطفلون فلم يهدأ لهم بال حتى أرسلوا رسولاً منهم يستطلع الخبر. وعاد الرسول بما هو أدعى إلى الدهشة، والإنكار قال: إن صابر عبد الخالق يسعى وراء حب جديد، وإن التي شغفته حباً هذه المرة معلمة بروضة الأطفال تقيم بشقة في العمارة رقم 10 بشارع البستان المواجه لصالون الكمال. . .
كيف أمكن أن يحدث هذا التحول الغريب؟ هل خبا الحب الذي صمد للشدائد عشر سنوات بهذه السرعة؟. . . ترى هل خنقه الملل في شهر وبعض شهر؟. . . أم بددته الخيبة وانقشاع الأوهام؟. . . وكيف مكن أن ينزع قلبه إلى امرأة أخرى بهذه السهولة بعد أن تعود على حب زوجة ذاك الدهر الطويل؟!
قبل أن نجيب على هذه الأسئلة ينبغي أن نعرف أكثر مما عرفنا إلى الآن من هو صابر عبد الخالق؟
هو شاب في الثلاثين له فضائله وله رذائله مثل جميع الناس. فمن فضائله احترامه لنفسه وحرصه على كرامته ومحافظته على آداب البيئة وتقاليدها المتوارثة، وإن كان يشوب حماسه لهذه الفضائل ضيق آفاقه وانحصار ذهنه وضحل ثقافته مما يجعله ينحدر في كثير من الأحايين إلى الصلف والتعصب. وأما رذائله فهي أدنى إلى الفكاهة منها إلى الشر
وتدور جميعها حول الغرور، والغرور الموجه إلى مزاياه الجسمانية قبل كل شيء. نعم لا أنكر أنه عظيم الثقة بمواهبه العقلية وقدرته الفنية كمهندس قليل النظير، ولكن تيهه بحسنه واعتداده بجماله يفوقان كل تقدير. وليس ثمة شك في أنه يحظى بقسط من الوسامة والجمال فقد خلق الله له عينين سوداويين يظلهما حاجبان مقرونان، وأنفاً مستقيماً. ولكن عجبه فاق حسنه كثيراً وغلب أثره على فعاله وأقواله، وكان أمراً ملحوظاً لدى رفاقه منذ الصغر فاستبقوا إلى العبث به تارة بإطراء جماله، وتارة بإبداء إشفاقهم على الحسان من وقعه وفعله. فما خطر له على بال أنهم يهزأون به؛ وازداد عجباً وما عتم أن غدا عجبه داء لا شفاء منه. ولذلك كان احب الأشياء إلى نفسه أن يقف أمام المرآة يطالع صورته المحبوبة وقوامه الرشيق ويطيل النظر إلى عينيه الدعجا وبين ثغره المليح المفتر عن ابتسامة وضاءة، المكلل بشارب (كلارك جابل). كما كان أشق الأمور على نفسه أن يسعى إلى اقتناء بذلة يلف بها حسنه وشبابه. فما كان يطمئن ذوقه حتى يطوف بمحلات القاهرة التجارية جميعاً فاحصاً مفاضلاً بين الأصناف والألوان، ومتى وفق إلى اختيار لون منها واجه متاعب التفصيل، وتجاذبت عقله المودات الحديثة، أنهكت قواه البروفات المتتابعة؛ ثم يمضي في تخيُّر القميص الموافق للبذلة، ورباط الرقبة الملائم للقميص، والمنديل الموائم لرباط الرقبة، ولا ينسى - إتماماً للتناسق العام - الحذاء والجورب المناسبين. كان متأنقاً شديد الحساسية إلى حد الإرهاق. فكان الكواء يوجه إلى ثيابه عناية لا يوجهها لثياب أحد من زبائنه الآخرين. ويحلف الحلاق أنه يلقي في ترجيل شعره وتطرية شاربه من الجهد مالا يلقاه طبيب يتصدى لحاله وضع خطير
لهذا لم يكن عجباً أن يستهين بتضحية زوجة في سبيله، وأن ينكر على القائل قوله: إن إخلاصها له نعمة يحسد عليها. بل كان في أعماقه يعتقد أنه صاحب الفضل وأنها صاحبة الحظ التي يحسدها عليه بنات حواء جميعاً. كيف لا وقد وقف عليها جماله الذي تقتتل عليه أجمل الحسان؟!. . . وقصة حبه الجديد آية على غروره قبل كل شيء. فلم تكن إلا أنه رأى فتاة تعبر شارع السلحدار ذات أصيل فراقه منظرها، لأنها كانت ذات قد رشيق ووجه خمري مستدير رقيق القسمات. يولد تناسقها في النفس اشتياقاً ويؤرث في الصدر حرارة. فتبدي على وجهه الرضا، وهز رأسه طرباً كأنه يتابع لحناً شجياً. وكان إلى جانبه ساعتئذ
شاب من معارفه لم يفته ما بدا عليه. فأدنى رأسه من أذنه وقال بلهجة ذات معنى:
- حذار فالنظرة إلى هذه تعقبها حسرة
فأنكر صابر قوله وسأله ببساطة وعيناه تتعقبان الفتاة المجدة في السير:
- ولمه؟
فقال الشاب بخبث:
- لأنها فتاة جد، لا تلوى في سبيلها على شيء ولا تعير المغازلات أدنى التفات. وما تزال تتردد كل صباح وكل مساء ما بين بيتها في شارع البستان وروضة الأطفال بشارع السلحدار مقتحمة أنظار المتطفلين كأنما تحتفظ بقلبها في صندوق مغلق ضائع المفتاح
فساءه هذا الوصف وأحس بمرارة لما آنس فيه من تحد وقال متفلسفاً على قدر عقله:
- قلب أي امرأة في صندوق ضائع المفتاح كما تقول، والعبرة بالرجل الأريب الذي يقدر على الظفر بهذا المفتاح. وهز منكبيه باستهانة وابتسم ابتسامة ساخرة مشبعة بالثقة والطمأنينة، وودع الفتاة التي شارفت نهاية الطريق بنظرة وعيد. ولم يكن يداخله أي شك في قدرته وفنه، ولا تزعزعت ثقته بنفسه قط، ومع ذلك لم يرتح قلبه، ووجد في كلام صاحبه تحدياً صريحاً لا يجوز السكوت عليه؛ وجعل يتساءل في غيظ وحنق: ترى هل يمكن حقاً أن تقتحمه هذه المعلمة إذا تصدى لها. . .؟
هل يستعصي عليه العثور على المفتاح الضائع؟ وتكدر صفوة تلك الليلة. وفي أصيل اليوم الثاني قصد إلى شارع السلحدار، ومن الإنصاف أن نقول إنه لم يدفع بنية يتحرج لها ضمير زوج مخلص مثله، وإنما ساقه انفعال غضب وعاطفة لا نتنكب الحق إذا قلنا إنها علمية إلى درجة ما، لأنها كانت تتشوف إلى التحقيق والتجريب. قصد إذاً إلى شارع السلحدار وانتظر. ثم رآها تبرز من باب المدرسة بقدها الممشوق. فوثب وتحفز حتى إذا صارت منه على مرمى نظرة سدد إليها عينين فاتنتين، ولكنها سارت لا تلوى على شيء كما قال صاحبه، وضاعت النظرة في الفضاء منضمة إلى أسرتها من الأنوار الكونية. فأحس بخيبة وأحنقه جفاؤها السكسوني، فصرَّ على أسنانه وسار في أعقابها. ومضى يشاهد خصرها الدقيق وردفها المستوي ويقول لنفسه متعزياً (لو اصابتها النظرة لذاب جفاؤها كما يذوب الثلج تحت أشعة الشمس). وأرد أن يلفتها إليه، وتنحنح وسعل سعلة
مؤدبة، ولكنها لم تبد أدنى اهتمام، فأوسع الخطى حتى حاذاها، وكاد أن يلمس كتفها، فأوسعت الخطى بدورها لتسبقه فاستبقا. وأدركت بلا ريب أن شخصاً يطاردها فالتفتت نحوه بغضب، وكان يتربص للفرصة السعيدة فصوب إليها نظرته المشهورة، فردت عليها بنظرة عنيفة كأنها تقول له:(مكانك يا هذا). وتنحت عن سبيلها منعطفة إلى اليسار ثم انتهت المطاردة بانتهائها إلى العمارة رقم 10 بشارع البستان وتردد أمام العمارة مرتين، ولم يجد بداً من العودة فقفل راجعاً. وكان مهموماً مغتماً كمن يقفل من معركة دامية لا مطاردة غرامية. وما كان يشعر بأي إحساس من أحاسيس الحب أو الفتنة، ولكن كانت تضطرم في قلبه عواطف الكفاح والقتال وبات ليلته وقد صدقت عزيمته على الجهاد إلى النهاية
وتوجه في أصيل غده إلى المكان نفسه - وانتظر حتى رآها تسير نحوه في مشيتها التي تجمع بين الرشاقة والشدة فتبعها على الأثر، وأدرك لأول وهلة أنها لا تجهل تعقبه لها وأنها برمة ضيقة به، ولكنه سار في طريقه غير حافل بتذمرها، لأنه كان عنيداً مثابراً ملحاحاً؛ فكان جزاؤه نظرة أشد من نظرة الأمس. وفي اليوم الذي بعده خرجت عن صمتها بأن قالت له بلهجة خشنة صارمة:(من فضلك بلاش قلة أدب). وفي اليوم الرابع قالت له بنفس اللهجة (شيء بارد). وقالت له في اليوم الخامس وهي تحدجه بنظرة وعيد (إذا لم ترتدع عن هذا السلوك الشائن ناديت الشرطي)، ولما كانا في اليوم السادس لاذت بالصمت يأساً وتجاهلته، ولكنها لم تناد الشرطي، فتنهد ارتياحاً وعد سكوتها فوزاً مبيناً. وأخذته نشوة طرب فسأل لسانه بكلام - وإن يكن مبتذلاً غاية الابتذال، ويحفظه جميع من هم على شاكلته عن ظهر قلب - إلا أنه كان يحسبه من الرقى الغرامية كنظرة عينيه سواء بسواء. قال لها:(يا معجباً بنفسه يا شديد الجفاء بغير سبب. يا تياها بجماله، هل ذنبي أنا أنك جميل ولا نظير لك في الكائنات. وهل جرمي أن لي قلباً يشعر ويهيم بالجمال. أيصح أن تنذريني بالأمس بالشرطي. وهل ينادي الشرطي للعاشقين. . . الشرفاء. . . أمثالي، ومع ذلك نادي الشرطي، بل نادي الموت نفسه فلن أبرح حتى أسمع من الفم الصغير هذا - الذي يحاول خنق ابتسامة بريئة بغير ذنب - ما يدنيني إلى أملي. . .)
ولم يعد يقنع بالمطاردة القصيرة التي تبدأ في شارع السلحدار وتنتهي في شارع البستان،
ووجد في موقع صالون الكمال من العمارة رقم 10 ما يشفى شوقه وطمعه. فانضم إلى زبائنه وتودد إلى صاحبه وجعل منه ناديه المفضل على كل مكان
وكان يندفع بادئ الأمر - كما قلنا - بقوة غضب ورغبة في الغلبة. وكان يعتزم أن يقف ويتراجع حين تلين وتراخى. وكان يعود من كل مطاردة - في أول عهده بها - ولا فكر له إلا عنادها وصلفها وغضبه وخنقه. ثم أخذت صور أخرى منها تتسلل بمهارة فائقة إلى مخيلته مثل قدها الرشيق وعنقها الطويل وقسماتها الصغير المتناسبة. ومضت هذه الصور تزحف على وجدانه من سراديب حواسه وتندس إلى زوايا قلبه وهو لاه عنها بحنقه وكفاحه. فغدا يتعرض لها مسوقاً بأشواق وحنين. وملبياً نداء يصعد من أغوار نفسه حتى أقر أخيراً في إشفاق وقلق وذعر أنه يحبها. وأن الداء يبرح به مرة أخرى. وصادف به مرة أخرى. وصادف اكتشافه لحقيقة عواطفه تراخي الفتاة واستلامها فلم يقف ولم يتراجع كما كان اعتزم. بل شد على يديها في حماس دافق واندفعا معاً في سبيل الحب، وفتحت له نفسها وبسطت أمام ناظريته صفحة حياتها البسيطة فعلم فوق ما كان يعلم عنها أنها تعيش مع أمها وخالتها، وأنهما في غير حاجة مادية إليها وقد أكدت له ذلك تأكيداً لم يخف عليه مغزاه. أما هو فأخفى عنها جل نفسه فلم يدر لها بخلد أنه زوج وأنه إلى درجة ما عريس. وكان هذا ما يكدر صفوه وينتزعه من سكرة أحلامه، فمثل الصلة التي بينهما لا يمكن أن تدوم قانعة باللقاء صباح الجمعة بحديقة الوطن بهليوبوليس، ومساء الأحد بسينما ركس. وفضلاً عن ذلك لا يمكنه أن يتغاضى طويلاً عن تلميحها المستمر إلى موضوع الزواج. فلم ير بداً - حرصاً منه على الاحتفاظ بها - من مجاراتها في أحاديثها فما لبث أن جرى ذكر الزواج على لسانيهما وناقشاه على اعتبار أنه النهاية التي تهفو إليها نفساهما
وخطت درية خطوة أخرى فدعته إلى زيارة بيتها لتقدمه إلى أمها وخالتها. وهنالك أسقط في يده لأنه ما كان يستطيع أن يلبي الدعوة ولا كان يدري كيف يرفضها، والاعتذار لا يغني عن حالته طويلاً. فما عسى أن يفعل؟ أيلوذ بالفرار ويختفي من أفقها إلى الأبد؟ قد يبدو هذا الحل ما فيه من نذالة أوفق الحلول، ولكنه لم يستطيع على شدة حرجه أن يأخذ به، لأنه كان انفعالي المزاج لا يزع نفسه عن هوى. وكان في الحق قد غدا مستهاماً بها كلفاً. فألف صورتها وحديثها وإيماءاتها ألفه مازجت روحه وسعادته. فهل يعترف لها
بالحقيقة ويسألها المغفرة. . . ولا هذا استطاع لأنه أشفق من أن يأخذهاالارتياع فتنفر من خداعه. أو تيأس منه فينصرف قلبها عنه. واشتدت به الحيرة وساورته الهموم وتشتت عقله بين شعاب مظلمة. وما فتئ يماطل ويسوف. وما يدري كيف يوفق بين هواه الجامع وظروفه القاسية. . . حتى تبرعت المصادفات بالحل الموفق
وكان اليوم الجمعة وقد عاد إلى بيته - وكان يساكن حماه - في الساعة الرابعة مساء. وكان يترنم بأغنية بصوت خافت متناسياً أشجان قلبه إلى حين، وفتح باب شقته في هدوء وهم بالدخول، فوجد نفسه وجهاً لوجه مع الآنسة درية. وخفق قلبه خفقه شديد انخلعت لها ضلوعه، وصاح وهو لا يدري:(أنتِ) ولم تكن أقل منه دهشة، فرددت قوله:(أنتَ) وعند ذاك فقط أدرك أن زوجه تقف إلى جانبها، وإلى يمينها أخوها الصغير (توتو) ممسكاً في يده بكراسة. . . ومرت به لحظة رهيبة أحس بأن الأرض تميد به، ولفه ذهول قهار، فلم يستطيع أن يكتم عواطفه ولا أن يداري افتضاحه، وكانت الزوجة تراقبها بعينين مرتابتين وقد امتقع وجهها وارتعدت شفتاها، ثم ارتسمت على فمها ابتسامة صفراء وسألت المعلمة قائلة بصوت متهدج:
- هل تعرفين زوجي؟
ولم تدر الفتاة بماذا تجيب، وقد دوت في أذنيها كلمة (زوجي) دوياً مزعجاً، فرددت عينيها بين صابر وزوجه ثانية، ثم خفضت عينيها الزائفتين واستولى عليها اليأس والغضب وانفلتت إلى الباب لا تلوى على شيء، ولم تنبس بكلمة ولم تترك وراءها مكاناً لشك أو ارتياب
وكانت الزوجة تشعر بالفتور الذي اعتور علاقتهما وتتحير في تعرف أسبابه، فعلمت أن لها غريمة وأن غريمتها هي معلمة (توتو) الجديدة، فغضبت غضبة نفست عن صدرها الكظيم. ونمت الفضيحة إلى أمها، فاستفحل الخطب، ولم تنته الليلة حتى حمل صابر حقيبته وعاد إلى بيته وحيداً كئيباً. . . ولكن الله سلم؛ ولم يبخل عليه بالغفران القلب الذي صدقه الحب عشرة أعوام فقفل إلى بيت الزوجية تائباً. وتراه الآن إذا ظهر في الطريق يسير متأنقاً مزهواً كعادته، فإذا وقع بصره على وجه نضير أو قد رشيق ابتسم ابتسامة الزهد والكبرياء. فإذا خطر لأحد من صحبه أن يداعبه أو يتحداه ابتدره قائلاً: (حسبي. . .
حسبي. . . لا أريد أن أجرح قلوباً بريئة)
نجيب محفوظ