الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 364
- بتاريخ: 24 - 06 - 1940
فرنسا تنهار؟!
سبحانك اللهم مالك الملك وصاحب القدرة! أفي أقل من دورة القمر تخشع باريس محراب الأدب للقوة، وتخضع فرنسا منجم الذهب للمادة؟
أفي أسرع من كسرة بولندة والنرويج وهولندة والبلجيك ينهزم أبسل جيش على الأرض، وتنهدم أرفع أمة بالتاريخ؟
أبعد القارعة الكبرى ونجاة (فوش) من (فون كلوك) بالمعجزة المفاجئة يخلد (بيتان) و (فيجان) إلى الدعة، ويسترسلان إلى النعيم، ويطمئنان إلى الأمن، ويسالمان الأحداث في أفياء (ماجينو). ويهملان الشباب في إفناء (سان سير)، فلا يهتمان بسلاح ولا يفكران في خطة؟
لقد كانت سيدان في جسم الدفاع الفرنسي عرقوب أخيل:
جثا فيها نابليون الثالث أمام بسمارك، فلم يستطع (تيير) و (غمبتا) أن ينقذا شرف فرنسا ويفديا عاصمتها إلا ببذل الألزاس واللورين وخمسة مليارات من حر الذهب. وانخرع فيها جيش (كوراب) فانثغر عندها خط الدفاع الرئيسي فوقعت الكارثة التي لا حيلة ولا نجاة منها. وليس يدري إلا الله ماذا يملي الدكتاتوران على فرنسا الضارعة من شروط الصلح في (فرانكفورت) الثانية.
فكيف غفل القواد الفرنسيون عن هذا الثغر فلم يحصنوه ويؤمنوه؟
لقد قال رئيس الحكومة الفرنسية: إن القيادة ارتكبت أخطاء لا يتصورها العقل، وأشار رئيس الوزارة الإنجليزية إلى تهم لا يرى الوقت ملائماً للإفضاء بها. ونحن نعيذ فرنسا مَثل الوطنية العالية ونموذج العسكرية الرفيعة أن تكون ميداناً لجيش الهتلرية الخامس، فما علم الناس على ضميرها الوطني من سوء؛ وإنما نعتقد أن الديمقراطية دهاها ما دهاها من بطر الغنى وغرور الأمان واعتقاد السلامة. فلو أن الحلفاء يوم صرعوا الأفعى قطعوا ذنبها ورأسها لما تفتحت الجحيم من شياطين النازية الذين زلزلوا الدنيا وبلبلوا العالم. ولكنهم دوخوها وسلخوها وتركوها في فجوة من الأرض تتحوى وتتقوى وتستعد، وانطلقوا في جنتها الفيحاء ينعمون ويقصفون حتى أذهلتهم نشوة الفوز عن كيد الموتور وحنق المقهور، فأغفلوا الحيطة وأهملوا العدة إلى أن انفجرت عليهم السموم من كل وجه. والدولتان الحليفتان قد اعترفتا بهذا الخطأ الذي جر عليهما هذه النكبة. فقد قال المستر تشرشل في
خطبته الأخيرة: (لقد انهارت قوى العدو في سنة 1918 فجأة. فشاءت حماقتنا أن نلقيه جانباً ثم نستنيم إلى سكرة الفوز). وقال المرشال بيتان في ندائه الأخير: (بعد انتصارنا على الألمان في سنة 1918 تغلب فينا مرح السرور على روح التضحية، وحرص الناس أن يأخذوا أكثر مما أعطوا، واستشعروا برد الراحة فأراحوا أنفسهم من عناء الجهد)
لذلك لم يكن بالعجيب أن تعقم فرنسا أم الأبطال فلم تنجب في زهاء ربع قرن من القادة العباقر من يخلف جوفر وفوش، فاضطرها الأمر أن تلقي بمقاليدها إلى رجال المدرسة العسكرية القديمة كغاملان وبيتان ممن أوهنت السن العالية عواتقهم فلا يقوون على حمل النجاد
كذلك لم يكن بالعجيب أن يفاجئهم النازيون بالخطط المبتكرة والأسلحة الحديثة، فيقفوا حائرين ذاهلين أمام الدبابات التي تقذف اللهب وتعبر النهر، والطيارات التي تنفض كالصاعقة وترتفع كالقذيفة، فيذهب غاملان ويجيء فيجان، ويستقبل رينو ويتولى بيتان، ولكن القدر القاهر فوق الناس يأبى إلا أن يكفّر المخطئ ويخسر الغافل
ليت شعري ماذا قال الفرنسي الحزين المهان المحطم حين سمع المرشال بيتان يقول ليلة الأمس في أول ندائه: (إننا في قلة من الجنود، وقلة من الأسلحة، وقلة من الحلفاء، ولذلك انهزمنا)
لعله قال: وأين إذن يا مارشالي العزيز السعي الذي سعيته والمال الذي أديته؟ إن فرنسا وإنجلترا ومستعمراتهما يبلغون ستمائة مليون نسمة، فهل يجوز على مثل هذا العدد القلة والضعف لولا أن هناك خطأ من الإنسان أو خذلاناً من الله؟
لقد برهن الفرنسيون في معركتهم الخاسرة أنهم جديرون بمكانتهم من ثبت الشرف وتاريخ البطولة. وما غلبوا إلا لأن الديمقراطية التي يعتقدونها لا تفكر إلا في السلم، ولا تتسلح إلا بالعهود والمواثيق والقوانين والشرف، وأن الدكتاتورية التي يعادونها لا تفكر إلا في الحرب ولا تتسلح إلا بالحديد والنار والدعاية والخيانة والكذب
على أن الله عوّد فرنسا العريقة أن يحفظ عليها الشرف إذا شاء أن تخسر المعركة. وبقاء الشرف ضمان لبقاء العزة. والعزة حافز دائب الوخز يدفع إلى الحياة بالموت، ويرفع إلى السيادة بالتضحية
ويقيننا أن هذا الصلح الذليل الذي طلبه العسكريون عارض من اليأس أصابهم في حال سيئة. أما سائر الفرنسيين في القارة وفيما وراء البحر فسيختارون المنية إذا خُيِّروا بينها وبين المذلة
إن فرنسا المنكوبة ضحية جديدة لجبروت العلم الفاسد. والعلم الفاسد هو الذي قصدناه بالغضب في مقالنا الذي عقب عليه صديقنا الأستاذ العقاد. وهو الذي عناه المستر تشرشل في بيانه بقوله: (إذا انهزمنا سقط العالم كله في عصر من الظلام سيكون أطول العصور وأشأمها بفضل العلوم الفاسدة)
وفساد العلم أن يضع الإنسان فيه شهواته الدنيا شراً خالصاً لا خير فيه
ورحم الله جان جاك روسو فقد أجهد قريحته في التدليل على أن العلم يفسد الإنسان، ولو تنفس به العمر إلى عهد النازية لأيقن أن الإنسان هو الذي يفسد العلم!
احمد حسن الزيات
مدينة النور تعاني ظلام الخطوب
للدكتور زكي مبارك
قُضِيَ الأمر وسقطت باريس بين أيدي الألمان!
فمن كان يستبعد أن تميد الجبال فليعرف اليوم أن الوجود لا يعرف المستحيل. ومن كان يرتاب في (يوم القيامة) يوم (الفَزَع الأكبر) فليتصور الساعة التاريخية التي اعترف فيها الجيش الفرنسي بأنْ لا فائدة من الدفاع عن باريس
ولكن أي جيش؟
هو جيش صام عن النوم والطعام سبعة أيام إلى أن لم يبق من قُواه غير أشلاء، وكان مع ذلك يحب أن يقاتِل إلى أن يبيد وهو يذود عن باريس، ولكنه خاف على ذخائرها الغالية فقرر أنها (مدينة مفتوحة) ومضى يقاتل قتال اليائس المستميت في مواضع لا قِلاع فيها ولا حُصُون
إذاً حقت المخاوف وسقطت باريس، باريس صاحبة الحق على جميع الشعوب بفضل ما علمت الناس أصول الثورة على الظلم والاضطهاد
فإن قال قائل إن باريس هي عاصمة فرنسا الاستعمارية، فليذكر أنه لم يَثُر ثائرٌ على الاستعمار في مَشرق أو في مغرب إلا وفي روحه جذوة من النار التي أوقدتها باريس للغضب على استعباد الشعوب
أقول هذا وقد لامني صديقٌ على التوجع لمصير فرنسا في مقال نشرته بجريدة الأهرام منذ أسابيع، وكانت حجته أن فرنسا صنعتْ في الشرق ما صنعت، وأنه لا يجوز الحزن على أمة تحملها القوة على أن تبغي وتستطيل
وهل كنت أجهل عيوب الأمم الاستعمارية حتى يدلني عليها ذلك الصديق؟
إن الأسد هو الصورة الفظيعة للبطش والفتك والافتراس، ولكن هل يشمت الُحرُّ بالأسد حين يراه في مدارج الضيم والاستذلال؟
ذلك حالي في التوجع لفرنسا الجريحة، وقد حاربتها بقلمي مرات حتى صح لوزير الخارجية الفرنسية أن يعارض في منحي وسام الأكاديمي سنة 1931 وهو سرٌّ لم أذعه قبل اليوم، وما أذيعه الآن إلا ليعرف الصديق المتعتِّب أني لا أهتم بغير المعاني.
وقد مُنِحتُ ذلك الوسام بعد ذلك الوسام بعد تلك الجفوة في سنة 1936 فلم أر فيه إلا تحية لرجل يصادق فرنسا صداقة علمية لا سياسية.
ومن كان في مثل وطنيتي فهو فوق الشُّبهات والظنون، والصدق في الوطنية من أشرف الأرزاق
إن الضعيف هو الذي يشْمتُ بالقَويّ حين تزلّ قدماه، فليعرف ذلك من يحس الشماتة بمدينة النور، على عهودها الزواهر أطيب التحيات!
وهل أملك إخفاء حسراتي على ما صارت إليه باريس؟
وهل يستطيع أديبٌ ألمانيُّ أن يُخفى لوعته على مصير تلك المدينة وهو عدوُّ حتى يستطيع أديبُ مصريٌّ أن يخفي لوعته وهو صديق؟
حدثتنا البرقيات أن الجنود الألماني طافوا بشوارع باريس وهي خالية، فأي أديبٍ لا يتفطَّر فيه حُزْناً حين يسمعُ أن شوارع باريس عرفت الهدوء لحظة من زمان؟
هي لفتة من لفتات الدهر الغادر الذي يرى كسوف الشمس وخسوف القمر ضرباً من ضروب المزاح
هي وثبة من وثبات القدر الذي يزلزل الوجود حين يشاء
فمن كانت عنده بقية من الصبر على مكاره الأيام فليتفضل عليَّ بكلمة عزاء لأتناسى أصدقائي في باريس، أصدقاء العهد الجميل يوم كنت طالباً في السوربون، التي صارت اليوم قفراً بياناً لا يطوف بأركانه غير الشامتين من غُلْف القلوب
باسم القوة غُزِيت باريس، وذلك جزاءٌ وِفاق، فليس في باريس مكان إلا وهو نِديُّ للثرى بالدماء المسفوكة في سبيل الحرية، والحرية من أسماء القوة، والرجل الحرُّ لا يرضى الموت بغير السيف، وكذلك تستشهد باريس. فإن استطاع الألمان أن يخمدوا اللهب الذي يتوقد فوق قبر (الجندي المجهول) تحت (قوس النصر) فسيذكرون بعد حين أن تلك الجذوة ستنقلب إلى سعير يفتك بمجامع الأضغان، ويرد الدنيا إلى عهدها القديم يوم كانت دار علوم وآداب وفنون، كما كانت لعهد باريس قبل أن يحولها إلى أشباح لا تملك الجواب بغير الصمت البليغ!
إن لبست باريس أثواب الحداد في سنة 1940 فقد ألبست برلين أثواب الحِداد في سنة
1918.
والحروب قُصاص، وكما يَدين الفتى يُدان. وهنيئاً لمن يحمل السيف فينتصر في وقائع وينهزم في وقائع، فما الحياة الحق إلا عراك ونضال وقتال
ومن ظنّ ممن يلاقي الحروب بأنْ لا يصاب فقد ظنّ عجزَا
وهل كفت باريس عن الدعوة إلى الحرب حتى تنكر عواقب الحرب؟
في باريس مئات من التماثيل لعظماء الرجال الذين كافحوا في مختلف الميادين، وفي كل خطوة يخطوها زوّار باريس أثرٌ ينطق بأن مدينة النور لا تعرف الحياة في غير الصراع والصيال، فما جَزَعُك يا باريس وأنت صيرت الحرب من شرائع الوجود؟
إن قوة الألمان فيضٌ من قوتك يا باريس، فأنت غرستِ الحقد في صدورهم، وأنت قهرِتهم على أن يتربصوا بك الدوائر عشرين سنة ليلقَوك بأفئدة موتورة لا يشفي غليلها غير الولوغ في دماء الرجال
فبفضلك استطال الألمان يا باريس ولولا خشيتهم مما تملكين من عظمة وجبَرُوت لما وصلوا في التسلح إلى الحد الذي يسمح بأن يقهروك على إلقاء المقاليد
وانهزامُك يا باريس سيكون درساً لأبناء الجيل الجديد، وبه يعرفون أن لا قيمة للاعتماد على التاريخ، وأن لا قيمة للتمدح بالفضائل الإنسانية، فما زال أبناء حواء يخضعون لفطرتهم القديمة يوم كانوا من جيوش الغريزة قبل أن يصيروا من رجال الوجدان
ألم أشهد العجائب في الأعوام التي قضيتها في السوربون؟
كان شبان فرنسا في ذلك العهد يرون الحرب من بقايا الوحشية، ويَتواصَوْن بأن يكونوا أنصاراً للسلام مما تغلبت الظروف، ثم سمعتُ بعد أن فارقت باريس أن أقطاب فرنسا يختلفون حول فكرة التسلح وأن فيهم من يرى أن ترصد جميع أموال الدولة للمنشآت العمرانية والمدنية
وذلك ذنبك يا باريس، فأنت وثقت باعتدال الموازيين قبل أن تستعد فطرة الإنسان الحيوانية للترحيب باعتدال الموازيين
ولو كانت باريس غير باريس لعرف أهلها أن في الدنيا خلائق تعيش بغرائز موروثة عن العهود التي سبقت التاريخ
إن الورد يعتصم بالشوك، فكيف فات باريس أن تعتصم بالسلاح؟
تلك هفوة سيكفِّر عنها أبناء الجيل الجديد في باريس يوم تنجلي الغُمَّة بعد أن تضع الحرب أوزارها الثقال
ولكن متى؟
إن انتظار السلام قد يطول!
في أي المحامد والمحاسن والمناقب يفكر الرجل حين يجزع لبلواك يا باريس؟
أيذكر أن مطابعك كانت تخرج نحو سبعين كتاباً في اليوم الواحد؟
أيذكر أن مكاتبكم مرجع لجميع ما أبدعت العقول الإنسانية في القديم والحديث؟
أيذكر أنك صورة الإنسانية، الصورة المجسّمة التي تمثِّل ما تملك الإنسانية من آراء وأهواء، وحقائق وأباطيل؟
أيذكر أنك أرحب ميدان للصراع بين الحلم والجهل، والشك واليقين؟
أيذكر أن معاهدك العلمية والأدبية والفنية كانت النِّبراس لأهل العقول والأفكار والأذواق في أكثر بقاع الأرض، وأن برلين نفسها لم تنجُ من الافتتان بسحرك القهار؟
أيذكر أن النشوة الروحية لا تقع إلا لمن يفتح عينيه على نورك الوهّاج أول مرة؟
وما أسعد من يراك يا باريس أول مرة قبل أن يألف مناظر الفردوس! وهل تحق السلوة لمن يطول عهده بجمالك الفتّان؟
قد ينسى الناس محامدك يا باريس، إلا محمدةً واحدة ستبقى في ذاكرة الخلود
فأعداؤك يا باريس لم يكونوا يجدون الأمن والعافية إلا في ربوعك الضواحك، وما استطاعت المطابع في أي أرض أن تذيع الطعن في فرنسا كما استطاعت مطابع باريس؟ وما شُتِمتْ فرنسا في أي بلد كما شُتِمتْ في باريس!
لم تكن باريس وطناً خالصاً للفرنسيين، وإنما كانت أوطاناً لطوائف من المفكرين والثائرين يفدون إليها من كل فج ويطعنون أهلها إن أرادوا بلا رقيب ولا حسيب
كانت باريس هي المنَفى الأمين لمن تلفظهم حكوماتهم من أصحاب المبادئ والمذاهب، وكانت منتدياتها مجالاً للثائرين على موروث الأفكار والتقاليد من سائر أناء الشعوب
كانت باريس هي الملعب الذي تراض فيه عضلات الأفكار على المُرونة والعُنف
كانت باريس حرباً على أهلها بفضل تلك الحرية، ولكنها كانت تشعر بالأبوة الرحيمة لكل
من يلجأ إليها، ولو كان من دعاة الهدم والتخريب
كانت باريس تعرف أن نشر الُمعاد من الأفكار الموروثة لا يحتاج إلى حماية، ففي مقدور كل مخلوق أن يذيع الآراء التقليدية حيث شاء، وكذلك رأت باريس أن تكون حامية الفكر المحرَّر من جميع القيود، وفي رحابها ترعرعت المبادئ الجوامح التي صارت عدة أعدائها من الروس والألمان والطليان
فكيف صِرتِ اليوم يا باريس؟ وكيف تصيرين بعد اليوم؟
أنا أعرف أن جراحك لن تندمل في يوم أو يومين، واللحظة الواحد من آلام الأحرار تُقدَّر بأعوام طوال، فماذا تَنوين وقد قهرك بَغيُ الأعداء على اعتناق مبدأ الحقد الأسود؟
في رحابك اليوم شيوخ وأطفال لا يفتحون عيونهم إلا على ظُلمات من فوقها ظُلمات، فهل تختفي البشاشة الروحية والوجدانية من أدبك الرفيع؟ وهل يَحُلّ النفاق محل الصراحة بعد أن دفعت الأثمان الغالية في عقوبة الترحيب بالرأي الصريح؟
وهل تصيرين مثل موسكو وروما وبرلين في خضوع الأفكار والمذاهب للسلطة العسكرية؟
أنا لا أخاف أن تموت باريس، وإنما أخاف على باريس عادية الجمود
إن أبناء باريس حاولوا تخريبها مرات كثيرة بسبب العداوات الحزبية، ولم يُفلحوا، فكيف يُفلح في تخريبها الأعداء؟ وهل خُلِقتْ باريس للموت، وهي أسطع جذوات الخلود؟
أحب أن أعرف ما الذي ستصير إليه باريس بعد اليوم؟
أحب أن أعرف مصير الحرية الفكرية في هذا الوجود الموبوء بأنفاس المُرائين والمخادعين؟
لم أتفجَّعْ على باريس لقرابة أو جِوار، وإنما أتفجع على باريس لما بيننا وبينها من انساب علمية وروحية، فإليها يرجع الفضل في تخريج من عرفنا من كبار الأدباء والزعماء، وتلك وشائج لا ينساها إلا من ابتلاه الله برذيلة الجحود
سيعضٌّ قومٌ بنان الندم على الشماتة بمدينة النور، يوم يعرفون أن لم يبق في الدنيا مكان تذاع فيه آراء الأحرار بلا تهيب ولا إشفاق بعد خمود باريس
لابُدَّ للفكر من مدينة في مثل صراحة باريس وسماحة باريس، فإلى أين يذهب الفكر وقد ضُرب الحرَج على باريس؟
إن الفكر هو أثمن ما غنِمت الإنسانية، وبفضل الفكر الحر عرف الإنسان قيمة الوجود
لابدَّ للعالم المفكِّر من باريس ولو رُفعت فوق ذراها راية الصليب المعقوف!
وهل أُطفأت أنوار أتينا الفكرية بعد أن دحرها الرومان؟
وهل أطفأت أنوار بغداد الفكرية بعد أن غلبها التتار المجرمون؟
وهل استطاع الذين حاربوا القاهرة مئات السنين أن يحجبوا أنوارها عن الشرق؟
المدُن الفكرية لا تموت، وكيف يموت الفكر وهو أطول عمراً من الزمان؟
أما بعد، فهذه كلمة فاض بها قلبٌ يتوجع لأحزان باريس، وطن أساتذتي الاماجد من أمثال مورنية وتونلا وشامار وميشو وديبويه ومَرسية ودبمومبين ولالاند وماسينيوس، وطن المكاتب التي كنت أقضي فيها سهراتي بالمجان حين كان يُعوزني المال لقضاء السهرات في مراتع اللهو والفُتون
هذه كلمة في التفجع لمصير المدينة التي قضيت فيها أطيب الأعوام من شبابي، المدينة التي أوحت إلى قلمي كتاب (ذكريات باريس)
فإن ترجع الأيام بعد الذي مَضى
…
بذي الأثْل صيفاً مثل صيفي ومَرْبَعي
شددتُ بأعناق النوى بعد هذه
…
مَرائرَ إن جاذبتها لم تقطّع
وسنلتقي يا باريس ولو بعد حين وقد طَبَّ الزمان لجراحك الداميات!
كيف الحال في بُولمْيش يا باريس؟
وكيف الحال في الشانزليزيه؟
وكيف الحال في فرساي وقد قيل فيه ما قيل؟
وكيف الحال في دار المكتبة الأهلية؟
وكيف حال السامرين على شواطئ السين، إن بَقيَ للسمر مجالٌ على شواطئ السين؟
وكيف حال اللاهين واللاعبين بين القصر الكبير والقصر الصغير في الطريق إلى ميدان الانفليد؟
وأين مواعيد الصبابة والوجد في ساحاتك الفيحاء؟
وأين استقبال الغاديات والرائحات في الضحى والأصيل حول مخازن السماريتين؟
وأين صبح الأحد في متحف اللوفر وعصر الأحد في حديقة النَّبات؟
وأين الصوت ليرجع العشاق إلى مخادعهم بعد العبث بأزهار البساتين؟
وأين؟ وأين؟ وأين؟
هي دنيا تذوقين من بأساها بعض ما ذقتُ من فراقك الأليم
فيا مَرجع روحي بعد القاهرة وبغداد وِسنتريس، ويا صاحبة الفضل على أكثر ما نظمتُ من قصائد وما نشرتُ من مؤلفات، ويا وطن الجنرال بونال الذي كانت داره مَلاذ عزيمتي، ويا وطن الكولليج دي فرانس ومدرسة اللغات الشرقية والسوربون، ويا وطن الصديق الحميم دي كومنين أقدم إليك أصدق التحيات وأنا واثقُ بنصيبك الأعظم من الخلود
زكي مبارك
حركات الإصلاح الإسلامية
4 -
أزمة إسلامية
للدكتور علي حسن عبد القادر
أما حركة التجديد الإسلامية بمصر فقد صدرت عن عوامل وأسباب أخرى غير التي ذكرناها عن حركة الهند، وإن كانت قد سلكت نفس الطريق، وجاءت بنتائج متشابهة. ونحن لا نستطيع أن نجزم بأن الحركة الهندية كان لها أثر في حركة الإصلاح المصرية. وإذا ما تصفحنا ما كتبوه من رسائل وكتب فإنا لا نجد بينهما أي ارتباط. ويظهر لنا واضحاً ما بينهما من فرق إذا عرفنا أن الروح التي سادت الحركة الهندية كانت (روحاً ثقافية) جاءت من التفكير والنظر الذي كان نتيجة اتصال الإسلام بالحضارة الأوربية، وجهودهم الإصلاحية كانت تحت تأثير أوربي، أما الناحية الدينية عندهم فكانت أمراً ثانوياً.
والحركة المصرية كانت، على الضد من هذا، حركة دينية نتيجة تفكير ونظر ديني، وسلكت طريق الإصلاح مستقلة عن أي نفوذ أجنبي، فهي عندما ترفض أعمالاً أو بدعاً لا تردها على أساس أنها (معادية للتمدن والحضارة) بل لأنها (معادية للسلام) مخالفة للقرآن والسنة الصحيحة، كما أن البدع القائمة على الحديث كانت ترد على أساس من علوم النقد الإسلامي في الجرح والتعديل. وهي تهتم من ناحية أخرى بخلقية الإنسان كمسلم وكشرقي، وتكره التقليد الأعمى للأوربيين، وتحذر من أضراره، حريصة جد الحرص على (الخلقية العربية الإسلامية)
وهنا في مصر حيث يقوم منذ قرون الجامع الأزهر، هذا المركز العالمي العظيم للعلوم الإسلامية، والذي كان يسير على طريقة قديمة جامدة، ترتبط حركة الإصلاح باسم الإمام محمد عبدة تلميذ جمال الدين الأفغاني الممتلئ به إعجاباً
وقد كان محمد عبدة من طلاب الأزهر ومن علماء الدين، ثم صادفته أزمات داخلية طويلة حتى عرف جمال الدين أثناء مقامه بمصر فرسم له الطريق الذي سار عليه فيما بعد، وسلكه وسط زعازع ومنازعات داخلية وخارجية انتهت به - مع الارتباط بالحركة العرابية - إلى النفي من مصر. وبعد ذلك وصل إلى مركز الإفتاء ونال اعترافاً عاماً
ونفوذاً كبيراً، وكان ولا يزال موضع عداوة قاسية من طبقة المتزمتين الجامدين
وإنه وإن كان فيما انتهى إليه قد صبغ الإصلاح بمصر بلون خاص - مع العلم بأنه كان ضد النفوذ الغربي - فإن الاسم الذي أطلقه عليه جولدزيهر بأنه (ذو ثقافة وهابية) أقرب الأسماء إليه وأولاها به. فمن الحق أن نقرر أن هذا العامل هو الذي يفسر لنا إصلاحات محمد عبدة الدينية التي لا ارتباط بينها وبين الحركة الهندية. وأن ما أسماه جولدزيهر (ثقافة وهابية ليس معناه أم أن هذه الخطة قد جاءته مباشرة من الوهابيين، وإنما غرضه التفريق بين حركة الثقافة في الهند والحركة المصرية التي تسودها العوامل الدينية وترفض ما لا يقره الدين، الأمر الذي لا شك في كونه أثراً جاء من العربية الخالصة
وكان لسان حال مدرسة الإمام محمد عبدة مجلة النار التي يحررها السيد رشيد رضا السوري التي أخذت تنازع في الإجماع المنعقد على المذاهب وتقليدها وتطالب بالاجتهاد على أساس القرآن والسنة. فقد رأت هذه المدرسة، مثل مدرسة الهند، أن الإسلام دين عالمي موافق لكل الشعوب وكل العصور، متفق مع الحضارة، ولكن على شرط ألا يأخذ بمذهب واحد من المذاهب، بل يجب الرجوع إلى القرآن والسنة الصحيحة، فهي ترى مثل الإمام الغزالي الذي صرح بهذه الفكرة منذ ثمانية قرون أن المفتاح لشرح الحالة التي طغت على الإسلام، إنما هو في جمود المذاهب الأربعة وانحصار العلم فيها وحدها، تلك المذاهب المتخالفة، وما فيها من تكرر عتيق، ومماحكات غير نافعة، وما تلاها من فقه المتأخرين، ليست هي الإسلام والدين، وإنما ذلك في القرآن والسنة. وأغلب ما في هذه المذاهب إنما يقوم على الاشتغال بفروع جزئية تتغير بتغير البلاد والأوقات وتخضع للتغيير تبعاً للعلاقات الاجتماعية، ومثل هذا لا يصح أن يسلك به في سلك ديني ثابت لكل زمن غير قابل للأخذ والرد. وكان من أثر هذه المذاهب الاختلافات التي حدثت في الإسلام مما وقف ازدهاره. وهكذا رفضت هذه المدرسة أساس المذاهب الفقهية القائم على (اختلاف أمتي رحمة)، وقالت: إن الأمر بالعكس. وطعنت في صحة هذا الحديث الذي يخالف آيات كثيرة من القرآن.
وقالت أيضاً أن الوحدة والمرونة إنما تكون بالرجوع إلى القرآن والسنة وحدهما حيث توافق الشريعة الحياة في كل وقت وكل حال، وبهذا يمكن الرجوع بالإسلام إلى حالة القوة
والشباب
كما رأت هذه المدرسة أن باب الاجتهاد لم يقفل بل إنه مفتوح على مصراعيه لبحث كل المسائل الطارئة. وليس الحكم فيها خاضعاً لحرفية النصوص، بل يجب اعتبار مصلحة العالم الإسلامي أولاً وقبل كل شيء (وليس الشرع محصوراً ي جلود كتب الحنفية). فإذا ما قام الفقه على هاذين الأساسين: الاجتهاد والمصلحة، فإنه يكون صالحاً لكل زمان ومكان، وقابلاً لما تقضى به الضرورة من أمور تدعو إليها المصلحة وموافقة العصر. وحينئذ يمكن الرد على الذين يزعمون أن الفقه الإسلامي إنما هو لزمن خاص ومكان خاص، وليس عاماً لكل الشعوب وفي كل الأوقات
ونظراً لأن الإمام محمد عبدة كانت له شخصية دينية عميقة لأنه كان من مدرسة صوفية، فإن الإصلاح الإسلامي بمصر كان - مخالفاً في هذا الحركة الهندية - يمتاز بأساس من الإيمان والمحافظة وبروح حارة من التقوى. ولما كان يسود الاعتقاد بسمو الوحي ورفعته، جاء الاقتناع القوي بأن العلم والدين عند الفهم الصحيح أخوان لا يختلفان، وعلى هذا الأساس لم يرفض محمد عبدة الأخذ مع الحرية الكاملة بالإصلاح العلمي
حقاً إنه لا يمكن أن يكتم أنه عند ما يحدث في بعض الأحيان خلاف بين العقل والسنة فإنه يجب الأخذ بالأول، بل إنه زيادة على تجب مراعاة حالة الأمة والظروف، فيقدم ذلك على النص الصريح. أما مماحكات الفقهاء فقد رفضت بشدة من محمد عبدة ومدرسته، ووضع بدلاً من ذلك القديم المتفتت جديد مأخوذ من الاجتهاد في الأصول موافق للعلاقات الحاضرة. وفي هذا الطريق سارت هذه المدرسة - مثل الوهابية المعتمدة على ابن تيمية - في رفض الخرافات والبدع، ولكن في الوقت نفسه - موافقة في ذلك للغزالي - حاولت إدخال المبادئ الخلقية والأعمال القلبية في الفقه، مع اقتناع عميق بأن بساطة الإسلام الصحيح التي لم يمسها تغيُّر الأيام تجعله قابلاً لكل حركات التقدم والتطور
ومن هنا نرى أن كلتا الحركتين الهندية والمصرية تنتهيان تقريباً عند غاية واحدة، وهي أن الإسلام عند الرجوع به إلى شكله الأصلي، وعند الأخذ بروحه ولبه، وبعد أن ينقى من الأدران التي لصقت به، ومن جمود العصور المتأخرة، لاشك أنه يصبح موافقاً لطلبات الحياة العصرية. وإذا ما تأملنا قليلاً، فإننا نجد أن الطريق الذي يمكن أن يسلكه الإصلاح
الديني من الحركتين سواء.
إلى هنا يقف الأستاذ هرتمان في تأريخه للحركة الإصلاحية في مصر والحكم عليها ولم يتناول بعد الحركة التي تلتها وشخصيتها القوية الجبارة وأسلوبها الحاسم الدقيق. وهو ما سنتناوله تذبيلاً وتعليقاً على هذه الرسالة آخر الأمر.
علي حسن عبد القادر
إلى أين.
. .؟
للأستاذ محمود محمد شاكر
(تتمة)
أخذ صاحبي كأس الماء في يده، وجعل يرشقها ببصره رشقاً حديداً يلمح لمحاً تحت حواشي الليل، وكنت أرى وهج مقلتيه يكاد يتطاير تطاير الشرار بينهما وبين الكأس. وأدام نظره طويلاً إلى الماء وهو يقر شيئاً بعد شيء ويسكن، فكأني به كان يغمس نظراته الملتهبة في برد الماء، ليبترد من وقدة العاطفة التي تضطرم في داخله. وبعد فترة عب من كأسه عب الظمآن استحر على كبده العطشى، ثم فرغ فوجه إليّ، وقد برق وجهه، أو هكذا تخيلت ثم قال:
آه. . .! ما كان أبصر ذلك الأعرابي الظريف الذي عطش وضل عن الماء في بيدائه، فلما رمى به السير فأفضى إلى بئر عميقة عادية قد بعد ماؤها، أجهد أن ينزف بدلوه من بعض مائها حتى بُلغ به وكاد يهلكه غؤور الماء، وبعد لأي ما استطاع أن ينزح من مائها ما يرويه، حتى إذا شرب وارتوى وأطفأ غلة الظمأ، حمل تلك الدلو بين يديه ينظر إليها ويقلبها كأنها بني من صغار بنيه يرقصه ويداعبه ويقول:
أي دلاة نهل دلاتي!!
…
قاتلني وملؤها حياتي!!
كأنها قَلْتٌ من القلات
فانظر كيف يفرح الرجل بأديم جاس غليظ متغضن موات! إنه يحبه، ويحرص عليه، ويرق له، ويدلله دلالاً كأنه طفل يطفله ويرعاه. وما ذاك إلا أنها أداة يتخذها ليطفئ بها الغلة التي يؤرثها حر الظمأ، لو هو فقدها في مجاز البيداء المجدبة الظامئة، فقد معها القدرة على الحياة، ومع كل ذلك فما هي إلا أديم أصم، وأداة لا خير فيها إذا لم يكن كل الخير من قوة الساعد التي تمتد في رشاء يتطوح بين أرجاء البئر
ما أبلغه من أعرابي، لولا نقل حديثه من الدلو إلى المرأة!
(قاتلتي وملؤها حياتي!!)
إنها المرأة يا سيدي هي وحدها التي تستطيع أن تكون القاتلة المحيية في وقت واحد. إن كل ما فيها هو حياة محبها، وكلما يكون منها - إذا أرادت - هو سبب من أسباب سلب هذه
الحياة سلباً جباراً لا رحمة معه ولا هوادة فيه
إن المرأة الحبيبة هي النبع الصافي النمير الذي يرى المحب الصادق في كل قطرة منه حياة تتلألأ في روحه بالمنى، فإذا أرسلت هذه الحبيبة في دمه قطرة واحدة من مائها - أي من حبها - أطفأت هذه الواحدة كل النيران الملتاعة التي تجفف بحرِّها ماءَ حياته. فإذا منعتْ عنه غيثها جعلت كل أفكاره وأحلامه وأمانيه تحتطب من الحياة ما تؤرِّث به تلك النار المبيدة التي لا تنفخ نفخها على شيء إلا جعلته رماداً أغبر. ويومئذ تتحول الحياة فيه إلى خمود بليد، أو إلى حماقة مجنونة كما يعترض الرماد للريح العاصف تطير به في كل وجه حتى يتفرق. . .
ثم سكت صاحبي. . .، وخيل أليّ أن غمامة سوداء داجية من ذكرى أحزانه وآلامه، قد أظلَّت عليه وتدانت أهدابها، فهو يرفع يمينه إلى جبهته، ثم يُمرها إلى ناصيته، إلى يافوخه يضغط عليه. ويتنفس خلال ذلك أنفاساً جاهدة ينتزعها انتزاعاً من أقصى منابع الحياة في قرارة نفسه. . . ما أقسى الذكرى إذا ضربت في القلب بفأسها تحطمُ وتدِّمر وتنقضُ بناء الأيام الماضية!
إن غبار هذا الهدم ليرتفع ويثور حتى يملأ الجو النفسي بما يضجر ويخنق من ترابها، وما أضعف الرجل إذا أخذت الذكرى تلح عليه إلحاح الكبرياء، تتحدى الإنسانية والرجولة بأوهن الفكر! الذكرى. . .! هذا شيء مخيف مفزع. إنها الشبح الذي يدب من بين القبور المهجورة التي تناثرت فيها أشلاء الموتى. إنها تقتل بالرعب، فإذا أتت المحب ذكرى حبيبه، فذاك شبح هائل يقتله بالرعب والحنين معاً
أقول لنفسي: أيها الصديق البائس! إذا لا تعرف طريقك إلى النسيان؟ لماذا تقف في مقبرة أفكارك دائماً فترتاع وتتألم؟ لماذا لا تحاول أن تسخر من الحياة التي سخرت منك؟ لماذا أنت حائر أيها الصديق؟ وبقيت أتداول الهاجس من أفكاري فيه، حتى شُغِلتُ به عنه. ثم جاءني صوته من بعيد كأنه كان يتكلم في بعض أحلامي تحت النوم:
اسمع. . .! اسمع يا صديقي! لقد كنت أفكِّر في بعض ما شغلني عن تمام حديثي قبلُ. لقد سألتَني وساءلت نفسك: أهكذا يضمحل الرَّجل؟ أما إني لا أستطيعُ أن أضعَ لك اللغة وضعاً جديداً حتى أعبِّر لك عن كل خالجة من خوالج النفس الإنسانية حين تضطرب فتهتز فتطير
هزاتها على مساقها ومجراها، ثم تتشعب فتنتشر فتعَمل عَمَل الجيش المحارب في هدم صفوف العدو وتفريقها وبَعْثرة قواها المحتشدِة لِّلقاء احتشادَ البنيان المرصوص بعضه على بعض
نعم. . . لن أستطيع ذلك، ولكني سأصف لك بعض الصفة واستشعر أنت كيف يعمل ذلك في هدم الرجل ويسرع في تدمير رجولته أمام أنوثة طاغية تتحدى وتأخذ سلاحها الذي تتحدى به من رجولة عواطف المحب الذي يَرى أن تعاونَ القلبين بالحب، وصبابة النفس إلى النفس الأخرى، هو تمام رجولته وتمام أنوثتها
كان لقاؤهما تجديداً غريباً في قديم نفسه. . . لقد استطاعت هذه الساحرة الجميلة الفتانة - كما وصفت لك - أن تمحو ماضيه كله، وأن تمزق صحُفَ أيامه المهملة التي كان القَدَر يكتب فيها تاريخه الأول. مزقت هذه الساحرة تلك الصحف، وألقت بها في النار التي أشعلتها في قلبه بالحب. بدأ يحيا بها وبسحرها حياة رائعة فاتنة من أحلام الحب، وجعلت هي. . . وجعلت هي. . . آه يا صديقي! هذا كثير كثر، إن ذكرى ذلك كله تؤلمني. . . إنها تعذبني. . . إنها تخِز قلبي بمثل السنان الحديد يقع وخزاً متتابعاً شديداً يتفجر في نزعه بالدم. . . كيف أستطيع أن أقول لك الآن ما الذي كانت هي تفعل! وماذا أقول لك؟ آه. . . إن أنوثتها، بل رقتها، بل حنانها، بل رحمتها، بل إخلاصها، بل حبها. . . كيف يكون هذا؟ بل ذلك الصوت المنغم الروي الممتلئ صوت الحنين المتعذب. . . صوت القدر الآتي من بعيد بأفراح السعادة. . . صوتها. . . صوتها. . . ذلك الصوت المعبر عن نفسها بألحان تتجاوب وتسري وتموج في كل غيب من غيوب نفسه المتراحبة. . .!
إن كل هذه العواطف التي يرسلها إليه صوتها وهي تتكلم كانت تعبُّ فيها عبابها، حتى يجد الأمواج النفسية تتقاذفه في فرح بعد فرح، ومن سعادة إلى سعادة، ومن حلم إلى حلم، كأنه ماض إلى جنة الخلد في زورق من اللذات الطاهرة الجميلة، تحف به الملائكة تغني لقلبه أناشيد المجد والخلود. . .! إنه سوف يسمو بروحه إلى ذلك الجو الذي يعطِّره النبل، ويفيئه الحب، وينديه الحنان، وتضيئه هي بسنتها المشرقة، وتسبح فيه النجوى أنغاماً حرة تهيم وتتعانق
جعلت أيامه معها تتهدل ثمارها الناضجة المغرية، وجعل يقتطف منها حيث أراد، وجعلت
هي تغذوه كل يوم غذاء جديداً هنيئاً يملأ روحه قوة وشباباً وعزماً. وجعل إحساسه بسحرها وفتنتها يغلو به في إيمانه بعبقرية أنوثتها الكاملة الجديدة. أجل. . .، إنها أرسلت في دمه الحياة الجديدة، الحياة التي تجدد فكره في أشياء الدنيا، وتستفزه إلى فرض سلطانه على هذه الأشياء.
وكانت هي تنشئ لعينيه في كل يوم بل في كل ساعة دنيا مائجة من فنها البليغ الذي يعبر عن ضميره تعبيراً بليغاً كبلاغة أنوثتها، فانبثقت في عينيه وفي قلبه ينابيع متفجرة من الأحلام الرقيقة والأماني الطائرة، تلك الأماني التي تتنهد دائماً على قلبه بأنفاس الفجر. . .
امتلأت عيناه الحائرتان بأحلام الشباب، وانبعثت القوة المتلهبة بالرغبة، فهو ينظر ثم يندفع إلى أمانيه يريد أن يختطف من السعادة السانحة سنوح الصيد المستطرد، قبل أن تسبقه إليها أنياب الشقاء والألم والبؤس فتفترس منها وتنهش. إنه يريد أن يظفر بسعادته ليتمتع بالحياة بعض المتاع، ولكن يا صديقي. . .، إن هذه الغريزة المتحكمة في الإنسان وفي أعماله - غريزة التمتع بالحياة - هي التي تذهب بالإنسان في القدر مذهباً بعيداً. . . إنها هي التي تجعل الحياة لعيني كل حي، ولكنها هي هي نفسها التي تعمي المحب فلا يبصر تلك القوة السحيقة التي فغرت له أشداقها وأحدت أنيابها، فلا يزال - إلا أن يعصم الله - يتهاوى فيها ما اندفع به إليها هواه
ولكن كيف كان يملك صاحبي إرادته في البصر؟ إنها كانت تعمل أبداً - وهو لا يستطيع أن يدرك - على أن تبقى حبيبة أحلامه ولو قتلنه. نعم إن بعض ضحكها كان يصفق بدلالها كأن أمواج شبابها تتلاطم فيه وتزخر. شبابها. . .!! شباب امرأة جميلة متكبرة معجبة، شباب أنثى تحب، وتريد أن تبقى أبداً محبوبة يهيم في أوديتها المسحورة من يحبها. ومع ذلك فقد كان يجد لما يلقاه منها فرحاً في نفسه، ونشوة في روحه، وعربدة في دمه، كان كالسكران بحبها لا يستطيع شيئاً ولا يملك إلا أن يخضع لذلك السلطان المرح الظافر المبتسم، السلطان العنيف الذي يقبض على روح المحب بحنان طاغ من روح من يحب
وعلى ذلك فإن هذا الرجل المسكين - على عنقه وصلابته وفحولته - لم يجد بدّاً من أن يسلم لها قياد عواطفه التي تصبو صبواتها إلى أناملها الرخيصة الساحرة. كيف يقاوم
الرجل الصب - مهما استصعب والتوى - امرأة مقدسة يحبها، فهو يتصبب بروحه في روحها؟ استسلم لها، ولكنه كان يشعر بعد هذا الاستسلام أن ليس في هذه الدنيا شيء يستطيع أن يقهر إرادته، أو أن يحول بينه وبين ما يرمي إليه من أغراضه وإن بعدت. كان معنى خضوعه لها أنه يستطيع إذن أن يخضع الأشياء كلها لسلطانها. . . ما أعجب هذا الحب! أرأيت إلى ذلك الضرس الفولاذي الصليب المتكبر من الجبل الإنساني في صاحبي ذاك. . .؟ لقد كان يُرَى وهو يذل لهذه الساحرة أيامه وليليه خاشعاً مستكيناً كأنه يهودي منبوذ فقير في غربة متوحشة!
ولكن لا تخطيء معنى الذل في فحوى حديثي، أعرفه صورة أخرى من الكبرياء المأسورة في سجن امرأة محبوبة. إن إحساسه بحبه لها كان ضروباً من فن الروح العاشقة. لم يكن يراها امرأة مجردة يحبها بحرارة القلب الملتهب بالرغبة أو بالحب. كلا، كلا، لقد كان يجدها أحياناً في أوهام عواطفه ومدّها أمّاً فهو يريد من أمومتها المحبوبة أن تمهد له في قلبها تلك العاطفة الوتيرة اللينة من الحنو والعطف. وهو يراها مرة أختاً يلتمس في مس يديها، وفي نبرات صوتها، تلك العاطفة الساكنة ذات الأفياء والظلال، عاطفة الأخت التي تضحي في سبيل أخيها المنكوب، ثم يرقى بها إحساسه فينظرها أخاً مخلصاً يشد أزره إذا انطبقت عليه قحم العيش ومتالف الحياة. ثم إذا هي تارة أخرى روح من الأبوة المسددة، الحازمة المصممة البليغة، لا تزال تجد الرجل مهما أناف به العمر وشمخ ذلك الطفل العابس الغرير الطياش
وهي مع ذلك كله الصديق الذي يحامي عنه إذا تعادت عليه الدنيا بأسرها، الصديق الذي تبقى صداقته تطوف عليه تحرسه وترعاه. أتدري بعد هذا إلى أين تنتهي به هذه الألوان المختلفة من إحساسه بها؟ لقد تنتهي في بعض ساعاته معها أن يراها أستاذة، فهو كأنما يجلس بين يديها ليأخذ عنها روائع الحكمة، ويسألها عن سر الأبدية المحجب بالغيب، ويلقى عندها كل أفكاره المعقدة في الحياة، يلتمس عند حكمتها الخالدة ما تعقد، وأن تمنح أفكاره ذلك الهدوء الفلسفي الذي تسبغه الحكمة العالية على سدنتها وحفاظها
ثم سكن صاحبي وغشيته فترة الحديث إذا تطاول به وامتد ولكنه ما لبث أن أقبل عليّ يندفع: أنظر. . . أنظر الآن كيف يضمحل الرجل. هذا هو في مد عواطفه وهي تفور
وتثوَّر بأمواجها في الحب العنيف المتلاطم، ثم إذا هي تطير عن أحلامه وتنفر من مجثمها السحري، وإذا هو منفرد لا يدري كيف كان هذا؟ ولمَ؟ ومن أين؟ وإلى أين. . .؟
إنها ذهبت وتركت الدنيا التي أنشأتها له مشرقةً زاهيةً، ناضرة فإذا هي تطفأ وتخبو وتذبل. إن قوة رجولته قد ذهبت تطلبها عند قبور الذكرى، فكيف لا يضمحلُّ الرجل؟ كيف لا يضمحلُّ؟!
محمود محمد شاكر
كنت على وشك أن أتزوج
للأستاذ توفيق الحكيم
(في هذا الأسبوع أخرج صديقنا الأستاذ توفيق الحكيم كتابه (حمار الحكيم). وهو كتاب قصصي طريف، أخذ أسمه من جحش رضيع اشتراه وأنزله معه فندق (. . . .)، ثم أدار فيه الحديث على اتفاقه مع شركة شربانتيه السينمائية على أن يضع لها حوار قصة مصرية، ثم شقق الحديث وشعبه فتناول الأدب والفن والمرأة والزواج بأسلوبه الفكه الطلي. وفيما يلي فصل قيم من هذا الكتاب يصور قطعة جميلة من حياة الكاتب)
رفع صاحبي رأسه والتفت إليّ فجأة قائلاً:
- ألم يخطر ببالك أن تتزوج؟
فقلت وأنا أحاول التذكر:
- نعم، كنت موشكاً على الزواج منذ عشر سنوات. . . لكن. . .
ثم كررت بفكري راجعاً إلى ذلك العهد وابتسمت، فقد مرت برأسي صورة ما حدث وما ثنى عزمي عن المضي في ذلك الأمر.
كنت ذا عصر راكباً عربة يجرها حصانان، وإلى جانبي أحد المهتمين بشئوني، فرأينا السائق يهوى بسوطه على أحد الجوادين، فمال من الألم على شريكه كأنه يشكو إليه، والتقى رأسا الجوادين كأنهما يتساران. فجعلنا نتحدث في ذلك ونقول: إن مركبة الحياة كذلك لا يهوَّن من أوجاعها غير أن يربط إليها شريكان يشدان عجلاتها ويشجع أحدهما الآخر كلما سلط عليه القدر سوطاً من سياطه. ثم قلنا: من يدري؟ لعل هذا سر ذلك الحظر الذي نراه على مركبة الحياة؟ وعند ذاك أتجه الكلام إليّ، وصارحني من معي بأن مركبة حياتي لا ينبغي بعد اليوم أن أجرها بمفردي. فإنها قد تحمل فوق ما أطيق، وأنا رجل غريب الأطوار قد أسير بها سيراً غير مألوف فأتخبط بها في طرقات غير ممهدة لا أحفل بسوط سائق. بل من يدري لعلي جمحت مرة فأسقطت سائقي في الأوحال، وجعلت أنطلق منفرداً بمركبة بلا نور، أركض بها على غير هدى حتى أرتطم في جدار. . . وانتهى الأمر بصياح ذلك المهتم بشأني:
- لابد من زواجك
فقلت له:
- في الحالة الحاضرة. . . وقتي ضيق. . .
فقاطعني صائحاً:
- أترك لي المسألة. . .
ولم يمض شهر حتى وجدت ذلك الشخص الكريم قد خلا بي ووضع في يدي صورة فوتوغرافية لفتاة طريفة وقال لي:
- تعجبك؟
فتأملت الصورة ملياً ثم قلت:
- من أي وجه؟
فصاح بي:
- أعمل معروف لا داعي للفلسفة، إن كان شكلها مناسب؟
- مناسب. . .
- انتهينا. . .
ثم مد يده إليّ وقال:
- وصورتك بسرعة. آخر صورة لك
- الصورة الوحيدة الموجودة عندي هي صورة لجواز السفر
- ما تنفعش؟ قم بنا نعمل لك صورة (جواز) فقط؟
وسحبني من يدي، وذهب بي إلى محل (مصور فوتوغرافي) معروف. فوضعني ذلك المصور أمام لوحة من قماش تمثل ستارة سوداء، وأراد أن ينزع من يدي العصا، ليضع هذه اليد فوق (درابزين) مزيف قد أتى به، فأبيت ذلك عليه، فرد على عصاي، ونظر من معي إلى وقفتي، فلم ترقه، فصاح في المصور:
- هو واقف على إيه؟
فقال المصور:
- على سلم
فصاح به:
- وإيه مناسبة السلم والدرابزين! أجعل وقفته في جنينة وحط الورد حواليه، وارفع الستارة المحزنة من جنبه وانصب بدلها خميلة ياسمين أو تكعيبة عنب! بالاختصار مناظر مفرحة. . .
ثم مال على المصور، فأسر في أذنه كلاماً
فتهلل وجه المصور وقال:
- فهمت الطلب
ثم أسرع فأحضر ستائر حمراء ومناظر خضراء وأصص أزهار ورياحين وهو يقول:
- إن شاء الله يحاكي البدر في سماه!
فأردت أن أظهر عجبي لهذه المعجزة إذا صحت، فأسكتني وأوقفني بين المناظر الرائعة والخضرة الزاهرة. . . ودخل هو في شيء يشبه (البطانية) السوداء يغطي جهاز تصويره، ولبث فيه لحظة ثم خرج يصيح:
- واحد. . . اثنين. . . ثلاثة. . . مبروك!
فتركت موقفي وأقبلت على المصور أوصيه:
- الصورة تكون طبيعية. إياك تعمل (رتوش)!
فما شعرت إلا والمتولي شأني قد انتزعني انتزاعاً من بين يديه ودفعني بعيداً، وأقبل على المصور يقول له:
- إياك أن تسمع كلامه!
ثم التفت إليّ قائلاً:
- حد في الدنيا يقول للمصوراتي ما يعملش (رتوش)؟ خصوصاً لحضرتك!
فقلت:
- على كل حال لابد من كوني أطلع على (البروفة) قبل كل شيء.
فقال المصور: إن تجارب الصورة يمكن الاطلاع عليها في صباح اليوم التالي. فغادرناه على أن نعود إليه في الغد. ومضى النهار، وجاء الغد، فانسللت بمفردي إلى حانوت المصور أطلع خفية على تجارب الصورة. فعرضها عليّ، فتأملت وجهي فيها، فلحظت أن شاربيَّ غير متساويين في الطول، وأن شارباً أقصر من شارب، فتباحثنا في علاج ذلك،
وقلت له: إن (الرتوش) الوحيدة التي آذن بها هي أن يمد إلى الشارب القصير فيطيله حتى يساوي أخاه. وانصرفت وانتصف النهار، وقابلت بعد ذلك المهتم بشأني، فقصصت عليه ما حدث من أمر الشارب، فما راعني إلا قوله إنه مر هو الآخر بحانوت المصور عقب انصرافي، فلما علم بمسألة الشوارب، أمر المصور أن يزيلها كلها وكفى الله المؤمنين القتال. فما إن سمعت منه ذلك حتى صحت في وجهه:
- يزيلها كلها!
- إيه المانع؟
أنا بشوارب تعملوني من غير شوارب! هذا العمل اسمه تزوير
- يعني لا سمح الله قمنا زورنا في كمبيالة!
- هو التزوير لابد أن يكون في كمبيالات
كان غرض حضرتك أن أهل العروسة يقولوا مقدمين لنا عريس (بشنب وذقن)!
- نقوم نلجأ للغش!
- وأنت فاهم أن صورة العروسة خالية من الغش؟
- شيء عجيب!
- مؤكد شيء مفهوم مقدماً. وفي المستقبل يتضح لك أن ما عملناه أقل مما عملوه بمراحل، أطمئن!
فقلت من فوري:
- الحمد لله اطمأنيت. إذا كان مجرد (الشكل) وضعناه على هذا الأساس، يبقى (الموضوع). . .
فقاطعني:
- لا. . . (الموضوع) مضمون أربعة وعشرين قيراط. ثروتها معروفة وتحرياتنا صحيحة، وأنت حالتك المالية واضحة. . .
- دا كل قصدكم من (الموضوع)؟
- طبعاً. فيه شيء غيره؟
فلم أطق صبراً، فقمت دون أن أجشم نفسي مشقة الجواب وذهبت، وقد ذهبت عنب فكرة
الزواج إلى اليوم. ولم يعد شبحها يظهر إلا مقترناً بذكرى هذا الحوار بنصه وألفاظه كما سمعتها، فكانت ذكراه تقصيني من فوري عن المضي في التفكير. فهذه الشركة النبيلة بين روحين تعاهدا على السير جنباً إلى جنب في طريق الحياة الشاقة الطويلة، ما زالت تقام في أغلب الأحيان على هذا النحو المخجل، وإذا صلحت هذه الطريقة لكثير من الناس فهل تصلح لشخص مثلي قد تتأثر حياته الفكرية وإنتاجه الذهني إلى حد كبير بشخصية الشريك. لذلك آثرت السلامة وأحجمت عن المغامرة، خشية الوقوع في غلطة تفسد على الحياة كلها.
ورجعت إلى وحدتي. . . تلك الوحدة الباردة التي تحيط بي من كل جانب فما أنا في الحقيقة دائماً سوى كوخ مقفر وسط صحراء من الجليد، وضعت داخله يد المصادفة إناء يغلي ويتصاعد منه بخار، هو تلك الأفكار التي تخرج من نافذتي إلى حيث تصل أحياناً إلى جموع الناس. فإذا دخلت امرأة هذا الكوخ فمن يضمن لي ما سوف تلقيه في هذا الإناء وما يتصاعد من جوفه بعد ذلك!. . .
أأنفقت حياتي متنقلاً، تائهاً ليس لي مكان معروف ولا عنوان دائم. فما تركت فندقاً لم أنزله، ولا نزلاً لم أهبطه. حتى ضجرت ذات يوم وتبرمت بهذه الحال واستنكفت أن أعيش هكذا كما تعيش الفكرة الهائمة والروح الحائرة. . . فأردت أن أجرب الحياة المستقرة في مسكن ثابت اخترته في بقعة جميلة من بقاع القاهرة. . . يشرف على النيل، وترى من نوافذه القلعة والأهرام وعنيت بأثاثه، وأعددت فيه مكتباً أنيقاً وخزائن للكتب، واقتنيت سيارة، وأقمت بمفردي وحولي خادم وطاه وسائق. . .
فماذا حدث؟ لم أتجمل الحياة فيه عاماً. فقد كاد الخدم الثلاثة يذهبون البقية الباقية من عقلي، فالخادم النوبي جعل يكسر (اسطواناتي) الثمينة؛ وتحريت أمره فعلمت أنه يتربص بي حتى أخرج في الصباح، فيدير (الجراموفون) ويضع ما يقع في يده من أعمال (بيتهوفن) و (موزار)، ولا يحلو له تنظيف (الباركيه) وطلاؤه إلا على هذه الأنغام.
أما الطاهي فقد كان يبدي الابتكار في ألوانه أول الأمر، ثم قصر وتراخى حتى صار الطعام ضرباً من (الروتين) لا طعم له. فكنت أحياناً أترك المنزل بما عد لي فيه وأذهب إلى مطاعم المدينة. ولقد كان للخدم دائماً طعام غير طعامي، هو في أكثر الأحيان ألذ
وأمتع. ولطالما أمرت الطاهي أن يحضر لي مما في قدورهم هم ويحمل كل هذه الألوان التي نسقها تنسيقاً ظاهراً دون أن يضع فيها روحه وقلبه. . .
وليس هذا كل شيء. فقد علمت أن الطاهي يعد على حسابي قدراً كبيراً يقدمه بالأجر إلى بوابي الجيران؛ وأن الخادم يدعو جميع زملائه النوبيين كل عصر عقب انصرافي إلى تناول الشاي.
ولم يدهشني ذلك فإن نفقاتي بمفردي كانت دون أن أدري نفقات أسرة كبيرة مكونة من عشرة أعضاء، وما نبهني إلى ذلك إلا ضيف عابر. على أن كل هذا لم يغضبني كثيراً. إنما الذي أثارني حقاً هو مسمار صغير وجدته يوماً في لون من ألوان الطعام، كدت أزدرده. . . هنالك لم أطق صبراً. وعلمت أن الخدم بلا رقابة هم خطر من الأخطار العامة. . . وما ملكت نفسي عن الصياح فيهم يوماً (والله لأتزوج لكم وأمري إلى الله)
أما السائق فلا يريد أن يصغي إلى رجائي كلما طلبت إليه ألا يسرع. فأنا أبغض السرعة. إنها تمنعني من التفكير، ولطالما أكدت له أني لست متعجلاً شيئاً. ولا شيء في الوجود يستعجلني، فأنا عدو الزمن والوقت، ولم أهمل ساعة قط، فالوقت عندي ليس من ذهب بل من تراب كأجسامنا. . . ولكنه ينطلق بي رغم ذلك، كأنما يريد أن يطرحني في أسرع وقت، ليخلص مني وينصرف إلى شأنه. فكنت أتركه أحياناً يقف منتظراً في جانب الطريق وأسير مفكراً حراً حيث أشاء. ثم أدرك أخيراً أني لا أحب السهر وأني شديد الكسل وأني أكتفي بعبارة أقولها له كل عصر:(أطلع جهة فيها هواء نقي)(فين؟)(أي جهة تختارها)، فيمضي بي حيث يريد هو دون أن أعترض ويقف بي أحياناً حيث يشاء ويقدر أن المناظر جميلة والهواء منعش فلا أتكلم، فإن فكري منصرف دائماً عنه، ما دام لا يسرع بي ولا يقول لي:(تفضل). إلى أن يرى أن الأوان قد آن للتحرك فيقودني إلى حيث أتناول الشاي أو العشاء في الأماكن المعتادة. فإذا أمرته أن يذهب بي إلى السينما. . . فقد عرف ألا يسألني أيها. بل يمضي بي طائفاً على جميع الدور، فيقف أمام كل باب من أبوابها لحظة، فإذا نزلت فقد انتهت مهمته. وإذا لم أنزل فإنه يتحرك إلى غيرها. . . وإذا مر بجميعها فلم أغادر السيارة فإنه يعود بي من تلقاء نفسه إلى المنزل ويقول لي:(تفضل). فأنزل في صمت، وقد شعر بقدر هذه السلطة الواسعة في يده فاستغلها آخر الأمر
استغلال الطغاة لحرية الشعب. فكان إذا أراد أن يفرغ من عمله مبكراً أو يخلص إلى شأن من شؤونه طاف بتلك الأماكن طوافاً سريعاً لا يكفي لإيقاظي من تأملاتي أو إخراجي من ترددي، ثم ردني إلى منزلي، ولما تدق التاسعة قائلاً:(تفضل) فأنزل دون أن أنتبه لما حدث. وفطنت ذات ليلة إلى إرادته. وكانت بي رغبة في السهر. فما تمالكت أن ثرت لحريتي المسلوبة وصحت: (أنت غرضك تنومني المغرب! قسماً بالله العظيم ما أنا نازل)
هكذا كان شأني في المسكن الخاص بين أولئك الخدم. وقد لبثت على هذا الحال زمناً اختمرت فيه داخل نفسي جراثيم الثورة الكبرى على هذا النظام فبينت النية ذات ليلة على خلع نير هؤلاء الذين يسمون أنفسهم خدماً لي. فلما كان الصباح أعددت حقائبي، واستدعيت البواب وطلبت إليه أن يبحث عمن يحل محلي في هذا السكن بأثاثه ورياشه. فأتى إلي برجل إنجليزي وزوجته فتركت في عهدتهما كل شيء حتى كتبي، وغادرت ما في البيت من أشياء خصوصية ومن مؤونة حتى زجاجات المياه المعدنية وعلب الجبن والمربة والزبد والبن والشاي والفطائر، وطردت خدمي، واستغنيت عن سيارتي، وانطلقت بمفردي حراً من جديد، أتنقل في الفنادق وأطوف بالشوارع، وأقفز إلى عربات الترام وسيارات الأوتوبيس، وأختلط بالناس، وأمتزج بالجماهير. فأحسست كأن الدم يعود حاراً إلى عروقي. وأن قدمي قد فرحتا بلمس الأرض من جديد، وأن فكري قد عاد إلى انطلاقه ونشاطه، مع السير الحر بالأقدام في كل مكان، وملاحظتي الناس في الطرقات قد أخصبت ذهني الذي حبس طويلاً خلف الزجاج، وجعلت أقف على بائع الذرة وهو يشوي كيزانه على عربته الصغيرة فأحادثه وأباسطه لا يتعجلني سائق ولا تنتظرني سيارة، وأصغي إلى حديثه الطويل في ذلك الليل مع كناس الجهة. فأشترك معهما في الحديث والسمر، ورأيت الكناس يسامر البائع طمعاً في كوز، والبائع لاه عنه لا تخطر له العزومة على بال (فإن الشغل شغل) في عرف التجار، فشريت أنا كوزين أعطيت للكناس واحداً واستبقيت لنفسي الآخر. فدعا لي الكناس الدعوات الصادقات، وجعل يأكل ويقص علي مما عنده من أحاديث العامة البريئة اللذيذة. . .
عرض هذا الشريط كله في رأسي عندما سألني المخرج ذلك السؤال. ولم أجبه بشيء غير تلك الابتسامة التي أثارتها هذه الذكريات. . .
توفيق الحكيم
3 - إلى أرض النبوة!
(وصف وتأريخ لرحلة الوفد السوري إلى الحجاز ربيع 1935
لفتح طريق الحج البري للسيارات)
للأستاذ على الطنطاوي
تركَنا القراء في (المخفر السعودي) على الحدود. وأشهد أني لم أذق طعم الأنس والاطمئنان مذ فارقت دمشق إلا في هذا المخفر، ومهما نسيت من المشاهد، وأضعت من الذكريات، فلن أنسى تلك الساعة، ولن تضيع من نفسي ذكراها، وإنني لأتخيلها الآن، وقد مر على تلك الزيارة خمس سنين، ولم يبق في يدي منها إلا ما علق بذهني. . . أتخيل تلك الخيمة الشَّعرية الشِّعرية، الجاثمة على ذلك التل العالي، تطل على التلال التي لا يحصيها عد، وقد اتكأت فيها على جنبي، ونظرت إلى أسفل مني فرأيت السلوك الشائكة، فعجبت منها سلكة لا يعبأ بها تفرق الأخ عن أخيه - وتجعل الشعب شعبين - ثم مددت بصري حتى ضل في ثنايا السراب المتألق في وهج الظهيرة؛ ثم بلغ (دمشق)، دار الحبة وثوى الأماني، فهزني الشوق إليها والفجر بها، والأسى عليها لما أصابها. . . ثم رجعت البصر إلى البادية من حولي، فسرَتْ في روحي روحها، فشعرت كان قد صهرتني شمسها، فغدوت كأولئك الذين خرجوا منها جنّاً في النهار، ورهباناً في الليل، وموتاً للظالمين والمبطلين، وحياة للشعوب ورحمة للناس. . . وتمنيت لو كان اليوم إلى اليرموك أو القادسية طريق، حتى أسلكه كما سلكه أجدادي الأمجاد. . . وهيهات أن يكون للشباب الذي أضاع روح الصحراء إلى مثلها طريق. . .
إنما الإسلام في الصحرا امتهد
…
ليجئ كل مسلم أسد
وأكلنا من طعام الجند وهو الزبد والرز والتمر، وشربنا من ألبان النياق وما ألذه من شراب. . . وتبادلنا أطيب الحديث فكان بشرهم وحديثهم قرى حلواً كتمرهم، سائغاً كلبنهم. ثم سألونا عن الطريق الذي نسلكه فأشرنا إلى الدليل؛ فحدثوه فوجدوه أجهل بالبادية من (الكناني) وأصحابه بلغة العرب، ووجدوه يضرب بنا على غير هدى ويسير على عشي. فأتمّوا صنيعهم معنا، فبعثوا واحداً منهم يصحبنا إلى (القريات) يرشدنا ويهدينا، وكان هذا
الواحد فتى حلواً جميلاً ولكنه على حلاوته وجماله أمضى من السيف الباتر، وكان اسمه (سلامه) فتفاءلنا به خيراً. وكان صلى الله عليه وسلم يتفاءل، وقلت: رافقتنا السلامة إن شاء الله، والحاج غراب صامت لا ينطق. . .
وودعنا القوم الكرام وسرنا نخرق صدر البادية المهولة وأرواحنا معلقة بيد سلامة، وسلامة يشير إلى السائق ويلقي عليه أوامره؛ يمين. شمال. أصعد التل. تجنب الرملة. والسائق يسمع ويطيع، والسيارات تتغلغل بين هذه التلال، ولبثنا على ذلك إلى العصر، عصر اليوم الثاني من أيام الرحلة، فرأينا رملة بيضاء فسيحة لها منظر البحر في سعته وتموجه واستوائه، تملأ العين جمالاً والقلب من خوف سلوكها فزعاً، يلوح من ورائها سواد قليل كأنه النخيل أو خيال البنيان. فقال سلامه سلّمه الله:(هذه هي القريات)
والرمال التي رأيناها في البادية على نوعين: رمال منبسطة بيضاء دقيقة كالغبار، لا طية بالأرض، يتخللها نبات من نبات الصحراء (وسأصف فيما يأتي من الحديث أنواعاً منها خبرناها) ورمال حمراء حباتها أكبر، وامتدادها أكثر، وهي تلال يأخذ بعضها بأعقاب بعض، تشبهها العين بأمواج البحر، لو كانت تجمد أمواج البحر، وإذا أنت تأملتها وجدتها في حركة دائمة لا تستقر حباتها، وبذلك ينتقل التل العظيم من مكان إلى مكان في الشهر مرة أو الشهرين، ولقد رأينا في عودتنا مناطق كانت سهلة ما فيها حبة رمل، فصارت بعدنا آكاما من الرمال
وهذه الرمال آفة السيارة، وعلتها التي لا دواء لها، فأنها للينها وتهافتها لا تثبت تحت دواليب السيارة، فتغص فيها كما تغوص في الماء، وتلبث فيها كأنما دفنت وهي في الحياة
ولقد لقينا من هذه الرملة عناء تقل في وصفه مبالغات الشعراء. . . غرقت فيها السيارات، ومالها لا تغرق وقد قلت لك إنها رملة كالبحر، أفتمشي سيارة على وجه البحر؟ ولقد لبثنا إلى الليل نزيح الرمل من حول السيارة، ونرفعها رفعاً، ثم ندفعها بعواتقنا دفعاً، ثم نجرها بالحبال، حتى إذا قلنا سارت عادت فغاصت، فلم نقطع الرملة حتى تقطعت أعمارنا، ولم نخرج منها حتى شهدنا أنه لا إله إلا الله!
وقريات الملح قرى ست متقاربة أكبرها قرية (كاف)، ولكنها لا تحوي على نصف سكان (حلبون) أخس قرى الشام ولا تبلغها كبراً وأتساعاً، وهي في غور الأرض، وكان أول ما
استقبلنا منها الحصن، وهو الحصن كبير من الحجر الأبيض المسنون، علمت أن الأمير نواف بن النوري بن شعلان هو الذي بناه أيام تسلطه على تلك الديار، منذ خمسة وعشرين سنة، ولم أجد من أستزيده من خبره. . . والقريات اليوم إمارة، وهي مقر الأمير. ومما رأينا في الحكومة السعودية أنهم يسمون كل من يلي مدينة مهما صغرت أميراً، لا فرق في ذلك بين أمير القريات، هذه. . . وبين أمير المدينة المنورة. . .
وكان الأمير يومئذ غائباً في مكة يشهد الموسم، يقوم مقامه أبن أخ له، وهذه العادة فاشية في الحجاز، إذا غاب الأمير أناب عنه ولداً له أو قريباً، وكان نائب الأمير في قرية أخرى من القرى الست، فلم نلقه، ولكنا لم نعدم من يستقبلنا ويكرمنا، وغاية الإكرام (كما رأينا) أن ندخل القصر، وتوقد النار في زاوية البيت الذي جلسنا فيه، ويشعل فيها الغضا هذا الذي يضرب بحره المثل والذي ذكره الشعراء فأكثروا، وكنوا به عن نجد، تهوي الأفئدة منهم، وقد رأيته مراراً فوجدته كثيراً في البادية وهو كالمشمش غير أنه أجمل شكلاً وأدق ورقاً، وهو أشد شجر رأيناه في البادية اخضراراً، أما جمره فكالفحم الحجري ولا مبالغة، وقد عرفه الشاعر حين زعم أنهم (شبوه بين جوانحه وضلوعه)، أما نحن فعرفناه في هذا البيت حين أشعلوه وزادوا في إضرامه حتى بلغ لهيبه السقف، ثم قربونا منه وأجلسونا إلى جانبه، فلما (تقهوينا) ونلنا حظنا من الإكرام البالغ. . . سألونا سيارة تأتي بالأمير، ودعينا إلى دار أخلوها لنا، وكانت دار مفتش الحدود (عبد الرحمن بن زيد) وهي أكبر دار في القريات وأجملها إلا أنها خالية لاشيء فيها، ففرشنا ما كنا نحمل من بسط وفرش وإحرامات ولم أبتئس أنا بخلوها، فقد كان بساطي وإحرامي أحب إلىّ من كل ما يمكن أن يفرشوه فيها. ولما اطمأننا على أمتعتنا وعلى مكان مبيتنا خرجنا نجول في القرية فإذا هي بيوت من الطين قائمة على (شاطئ) الرملة يحف بها قليل وفيها حقول تزرع فيها بعض الخضر، وتسقي من عين جارية وفيرة تقوم بري قسم كبير من الأرض لو كان الأراضي هناك مال وكان هناك أيد مال وكان هناك أيد عاملة تسعى في الأراضي الزراعية وتحسين زراعتها. ويحيط بالبلدة وبساتينها ورملتها صخرة أهرامية هائلة رهيبة المنظر تمتد من حولها كأنها سور إلهي. . . وحياة هذه القرى من الملح الذي يستخرج من السباخ الكثيرة القريبة من البلد، ويصدر إلى حوران وشرقي الأردن
بتنا في دارين أبن زيد هذا خير مبيت، وقد جاءونا بالعشاء من قصر الأمير، فلما أصبحنا غدونا عليه، فرأينا شاباً ذكياً ليس بالتعلم ولكن له مشاركة في بعض علوم الدين، ويحفظ شيئاً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، تلقاها في مجالس العلم، وتلك سنة حسنة استنها الإمام عبد العزيز حفظه الله. فجعل ليله كله للعلم يأتي مجلسه العلماء فيقرؤون فيه كتاباً، فإذا أتموه شرعوا في غيره، وتكون مناقشات علمية يشترك فيها بنفسه، وقد قلده الأمراء جميعاً في ذلك؛ فمن هنا ما يحفظ هذا الشاب نائب أمير القريات. . .
استقبلنا بنفسه على عتبة الباب ببشر وإيناس، وجلس معنا يحدثنا ونار الغضا تلفح وجوهنا. ولبثنا على ذلك ساعة لم يدع فيها الأمير دقيقة واحدة قَوْلَةَ: قهَوةَ. شاهي. شاهي. قْهَوَة. يدور علينا بها عبد أسود كان شفتيه غطاء ووطاء، وكأن جسمه المحمل، ثم أديرت علينا المجمرة وفيها البخور، وبخور العود، فلم ندر ما نصنع بها؛ ثم وجدنا الأمير يضم عليها طرفي كوفيته أو عباءته حتى يتعشق الطيب ثيابه، ثم يدعها فصنعنا مثله، وانتهى العبد من إدارة المجمرة، فرأيت الأمير ينظر إلينا، فقام الشيخ الرواف وأستأذن، وقمنا معه على أن نجتمع الظهر بالأمير على الغداء. . .
فلما خرجنا، قال الشيخ الرواف: ألم تسمعوا المثل النجدي؟ قلنا: وما ذاك؟ قال: (إذا دار العود فلا تعود). فعلمت سر نظر الأمير إلينا، وتمنيت لو دخل هذا المثل بلادنا، حتى عرفه الناس؛ ثم ذكرت أن عندنا بحمد الله من لا يفهم بالعود ولا بالعصا ولا يخرج من زيارتك، حتى تخرج غيظاً من جلدك. . .
(لها بقايا)
علي الطنطاوي
التعليم المختلط
للأستاذ رفعة الحنبلي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
المحبذون لهذا التعليم يلفتون النظر إلى ظاهرتين اثنتين جديرتين بالاهتمام:
أولاهما أن البيئة والتقاليد والعادات هي عوامل قوية تدفع إحدى الأمم في الأقدام عليه إقداماً تاماً، وتجعل الأمة الثانية تحجم عنه إحجاماً كلياً.
وثانيهما: شخصية المربي التي تقوم بدورها التربوي الرفيع في تعهد الطلبة تعهداً فيه كثير من الحذر واليقظة والرفق واللين تبعدهم عن تسرب المساوئ إليهم - إن كان هنالك مساوئ - وتوجههم نحو المثل الأعلى للحياة الإنسانية الفاضلة؛ هذه الشخصية هي بمثابة الملجأ الأمين من الأخطار التي قد تهدد حياة الطلبة من جراء الاختلاط، ولا تنال الغلبة في هذا الأمر ما لم تتصف بالصفات الحميدة والمبادئ القويمة والخلق القوى والذكاء الحاد والفطنة الملتهبة، كي تتفهم نفسية الطالب ورغائبه وميوله. . .
ولكن أين هؤلاء المربون ينعمون بمثل هذه الصفات جميعاً؟ وأكبر الظن أنهم قليل. . . والقلة ما كانت في يوم ما لتقوم مقام الأكثرية في تأدية رسالة أو إيفاء واجب
يذهب الدكتور إلى أن التعليم المختلط في المعاهد الثانوية يقوي العلاقات الاجتماعية ويمكن الصلات الأدبية، فينشأ الفتى والفتاة في بيئة تختلف عن البيئة الخاصة التي كانا فيها، وإنها لأجدى على الفتى والفتاة من أية بيئة أخرى، إذ يتجه الاثنان في اتجاه خاص هو من مصلحتهما، في الوقت إلى ذلك تضعف في الفتاة تلك الرقة والحياء والدعة، في الوقت الذي يتقوى عندها الشعور النفسي بأنها والرجل سيان في الحقوق والواجبات
وإذا ما تعمقنا في دراسة نفسية كل من الجنسين، وجدنا أن لكل منهما خصائص فردية تختلف في كل منهما عن الآخر جد الاختلاف، على أنها تتحد في الأصل وتختلف في الفروع بمعنى أن للفتى من الوظائف الفردية الخاصة ما للفتاة، على أن هذه الوظائف لم تكن لتمنع كلا منهما من أن يتلقى نوعاً واحداً من التعليم أو أنواعاً مختلفة، فضلاً عن أنهما ذوا قابلية لتعليم خاص. وقد تتباين الاستفادة عند مباشرة الفتاة هذه الوظائف، فتتجه إلى ناحية غير الناحية التي يسير الفتى إليها
فهناك إذاً خصائص نفسية نسوية وخصائص نفسية رجولية تمضي بهما إلى غايتيهما؛ ولكن لا بد من التساؤل عما إذا كانت هذه الخصائص المتباينة لها من المزايا ما يساعد على التعليم المختلط أم أنها تقف دونه؟
كثير من علماء النفس يعتمد أن هذه التباين في الخصائص مما يساعد على التعليم مساعدة قوية فعالة، فالفتيات والفتيان ما كان كل منهما ليكتسب مزايا وفضائل الآخر التي يفتقر إليها لو لم تمهد أمامه سبل الاختلاط سواء في المعاهد أو في المجتمعات. ويرى الدكتور أن مراتب التفكير في الرجل هي غيرها في المرأة، والتعليم المختلط يحمل كليهما على الاقتباس عن الآخر ما تحتاج إليه الحياة وما تتطلبه منه البيئة، وبالتالي فإن أفق تفكيرهما ينبسط ويمتد إلى أقصى حدود الانبساط والامتداد. تلك متعة من متع الحياة تتفتح معها النفس لصنوف المؤثرات وشتى ألوان الأحاسيس.
ويعترض البعض الآخر على هذا الرأي بأن الخير كل الخير للمجتمع وللجنسين معاً في ألا تضعف هذه الخصائص النفسية الخاصة - إذ أن في ذلك ما يفقدها، ولو إلى حد ما، شيئاً من حيويتها وفاعليتها - وأن يحتفظ كل منهما أيضاً بمراتب تفكيره لا يتعداها إلى مراتب غيره، فبقدر ما يكون الرجل تام الرجولة والمرأة كاملة تكون الجماعة الإنسانية غنية بالوسائل الفعالة التي من شأنها أن تؤثر في المجتمع وتدنيه من غايته المثلى، فالواجب على المربين أن يؤدبوا الفتى تأديباً يصبح معه، في المستقبل، رجلاً تام الرجولة، وأن يتعهدوا الفتاة تعهداً تمسي بعده كاملة الأنوثة، على ألاّ ينظر إلى المرأة نظرة ضيقة حقير تنال من كرامتها وتحط شأنها بل نظرة رفيعة تدفعها إلى الاستفادة من خصائصها الخاصة
ويعتقد المربي الكبير أن خصائص ومزايا الجنسين هي غريزية بمعنى أنه لا ينالها تغيير ولا يمسها تطور - في جوهرها على الأقل - وهي تخضع لنظام يختلف في كل منهما عن الآخر اختلافاً كلياً؛ ويضرب لذلك مثلاً أن الفتاة تفهم من كلمات الوطنية والشرف والعائلة والشجاعة غير ما يفهمه الفتى منها، فلكل من هذه الكلمات جرّس خاص عند كل منهما، هذا إلى أن الفتى قد لا يتأثر بخصائص ومزايا الجنس النسوي - إن قدر له أن يتأثر - دون أن يزاوج بينها وبين ما بنفسه من مزايا وخصائص
وهناك عيب لمسه الأستاذ بنفسه اختبار طويل. . . هذا العيب يتعلق بالمربي الذي يؤثر
فئة من طلابه على فئة ثانية، أو بالأحرى يعطف على طالباته أكثر مما يعطف على طلابه، بل ويتحيف حقوقهم أيضاً، إذ يلمس في الفتاة دماثة الخلق، ونعومة الحديث، وإشراق النفس ورقة الشعور كما يدرك فيها مزية الإذعان والامتثال والخضوع، فتنعم بالعطف والإيناس، وتتمتع بالرفاهة والدعة، فضلاً عن أن التنافس الذي يحصل بين هاتين الفئتين له من التأثير القوي على الفتاة ما يدفعها إلى الانكباب على الدرس حتى تفوز على زملائها وتحوز الدرجة الأولى دون تعميقها في الدراسات وتفقهها في المذاهب، وهذا ما يفقر تكوينها العقلي ويضعف تفكيرها ويفسد تصوراتها، لذلك يقول الأستاذ إن التنافس يجعل التعليم أقرب تناولاً وأدنى منالاً وأكثر سهولة ولكنه أقل عمقاً وأهمية
ويأخذ بعض علماء النفس على التعليم المختلط، في مرحلة التعليم الثانوي، أنه مباءة للفساد، إذ أنه يثير الغريزة الجنسية، فتعصف بالنفس، وتحرك العواطف فتنفعل الأحاسيس، ويفقر الخصائص فتضعف الشخصية؛ وهذا ما يكون خطراً مباشراً على الأخلاق والآداب؛ وقد تكون الفتاة أقرب إلى هذه المؤثرات من زميلها الفتى وأدنى منه إليها
ويرد البعض الآخر على هذه المآخذ المتنوعة بأن الطبيعة الإنسانية تستدعي هذا الاختلاط، وتتطلب هذه النظام لما لها من الأثر القوي في حياة الناشئة، فتوجه العواطف توجيهاً سليماً، وتوحد العلاقات على أساس الثقة المتبادلة، وتمهد السبيل إلى رفعة الأخلاق وتقرب من الزواج. . .
والفتاة نفسها ترغب في هذا الاختلاط إلى حد بعيد، وتتوق نفسها إليه، وتندفع وراءه، فالفتاة كالفتى، يعتلج في أطواء نفسها الحب العنيف، وتتأجج في صدرها الأهواء، ويتفتح قلبها إلى الصداقة، وما عساها بهذه النوازع؟. . . إن حبها لشديد، وغن عواطفها لعنيفة، وإن خيالها لواسع، وإنها لتفتش عن أميرها المنتظر، عن فتاها، قبلة أنظارها ومحط آمالها ورجاء مستقبلها، والتي تأمل أن تكون له زوجة في المستقبل لتنعم بجانبه وتطيب نفسها به، ولكن أين تبحث عنه، وفي أية بيئة تجده، وفي أي وسط تحظى به؟. . .
إنها قد تجد فتاها الجميل، الذكي الفؤاد، الدمث الأخلاق، الكريم الشمائل، في البيئة التي تختلف إليها، وما هي إلا بيئة المعاهد المختلطة التي تدينها من غايتها وتحقق أحلامها وآمالها
والفتى، أليس ينشد مصاحبة الفتاة، ويميل إلى معاشرتها ويتمنى صداقتها، إنه ليتلهف إلى اختيار فتاته، وتصبو نفسه إلى الزواج منها ولا سبيل إليها إلا في تلك البيئة المختلطة أيضاً.
ويقول العالم الكبير (إننا نحصل على أحسن النتائج حينما يجتمع الجنسان في معهد واحد إذ نرى الفتى أكثر إقبالاً على العمل وأحسن خلقاً، ونرى الفتاة تؤدي أعمالها في جو طبيعي وبدوافع أرقى وأفضل)
يؤخذ مما تقدم أن الفصل بين الجنسين ليس في مصلحة النشء ولا المجتمع في شيء بل ربما كان سبباً قوياً في تداعي الروابط الاجتماعية وفي تفسخ العلاقات الأدبية
وكما يؤخذ على التعليم الثانوي يؤخذ أيضاً على التعليم الابتدائي ولكن هذا لا يداني الثانوي في الخطر ولا يجاريه في العيوب، وما ينسب إليه من حسنات ينسب إلى الآخر على السواء
أما في صدد التعليم الجامعي فيقول الدكتور الأستاذ بجامعة بروكسل (إن من الواجب ألا نستنتج استنتاجات هزيلة من الملاحظات التي يبديها البعض ممن يقاومون هذا التعليم، وألا نرد التأثيرات السيئة التي تحدث عنه إلى هذا النظام بعينه. أن الوقائع التي نلمسها يومياً في أجواء المعاهد المختلفة تدفعنا إلى الاعتقاد بفساد هذا النظام، وكثيراً ما تتألم الفتاة من مسالك زملائها الطلاب الظرفاء، ذلك المسلك الذي يسبب لهن كثيراً من الأيام، مما يدفع المرء إلى التفكير في إقصاء الفتيات عن التعليم المختلط. . . ولكن لو أنعم هذا البعض الفكر في أسباب هذه الوقائع، لرد دواعيها ومسبباتها إلى نقص في بعض الأنظمة التعليمية الحديثة، أو بالأحرى إلى تخلف الفتاة عن المعاهد الثانوية المختلطة، بل والابتدائية أيضاً. إذ أن ارتياد الفتاة هذه المعاهد، بل والابتدائية منها أيضاً. إذ أن ارتياد الفتاة هذه المعاهد يمكنها من دخول الجامعة بعد أن تكون ماشت الفتى في دوري الطفولة والمراهقة، وهي أشد ما تكون اطمئناناً على نفسها وأخلاقها وآدابها، فتضطرم نفسها بحياة مليئة بالسعادة والهناء والرفاهية والنعيم) لذلك يطلب الأستاذ الكبير ألا يقبل في الجامعات من الفتيات إلا من أتمن دراستهن الابتدائية والثانوية في المعاهد المختلطة
ويرى الأستاذ من شتى الملاحظات التي جمعها أثناء إدارته دار المعلمين في جمهورية
بوليفيا الأمريكية أن الفتيان، في اختلافهم إلى تلك الدار، قد تهذبت نفوسهم وأخلاقهم، وصقلت شجاعتهم ورجولتهم، وسمت أخلاقهم وعواطفهم، وجعلتهم اجتماعيين، فإذا بالفتى منهم أنيس الألفة، كريم الشمائل حر الخلال، رفيع التهذيب، أديب المعاملة، أنيق الملبس؛ وإذا بالفتاة قد انتفى عنها الخوف، وتلاشى الجبن، وزال منها الضعف فأصبحت ناعمة بالاستقلال الذاتي، ومتلذذة بالحياة، واثقة من المستقبل فضلاً عن أن كلا منهما يجد في نفسه مزايا تسهل التعاون بينهما فيما بعد
هذه أوجه الرأي المختلف في هذا الموضوع الجليل، وسمنا خطوطه الكبرى رسماً موجزاً وضحنا حسناته وفضائله، وكشفنا عن سيئاته ونقائصه، نلقي بها لدى أرباب العقول النيرة علهم يوازنون بين الرأيين ويرجعون الكفة التي يكون بها الخير للأمة العربية.
(بيروت)
رفعة الحنبلي
الحرب في أسبوع
للأستاذ فوزي الشتوي
فرنسا تسلم؟!
قابل العالم طلب المارشال بتان رئيس وزراء فرنسا لشروط عقد الهدنة بكثير من الحسرة والألم، فقد عقد العالم أمله على المعارك الدائرة في فرنسا لإقرار السلام، وإزاحة كابوس الدكتاتورية ومخاوفها. وظل الجيش الفرنسي يقاتل بعزيمة التي عرف بها إذا دهم وطنه خطر، ولكن الخسائر التي مني بها، والقوات الألمانية هاجمته كانت كبيرة العدد كثيرة العتاد، تجاوزت في كثرتها جميع القتال
ففي سنة 1914 كان عدد الرجال المقدر فنياً للقتال في الميل الواحد عشرة آلاف جندي. ودرس أحد الاقتصاديين العسكريين في سنة 1938 عدد الرجال اللازمين للاشتراك في المعركة، سواء في حالة الهجوم أو الدفاع، فقدر أن جبهة القتال تشمل ميداناً طوله 1000 كيلو متر (600 ميل). وانتهت أبحاثه المبنية على الحساب والفن العسكري إلى أن عدد الرجال اللازم لهذه الجبهة في حالة الهجوم مدة سنة، هو تسعة ملايين جندي تهبط إلى ستة ملايين في حالة الدفاع، أي أن الميل الواحد يحتاج إلى 15 ألف جندي تهبط إلى عشرة آلاف في حالة الدفاع
استخفاف بالأرواح
ودرس هذا الأخصائي العسكري ما تحتاجه الجبهة من سيارات مدرعة ودبابات فقدر للميل الواحد 200 منها طول السنة. ولكن القيادة الألمانية خالفت فنون القتال المألوفة معتمدة على ضربات خاطفة، تقصد من ورائها أن تنهي الحرب في أشهر قلائل، ويؤازرها في ذلك سياستها التي جرت عليها من الاستخفاف بأرواح رعاياها، ووضعها في المرتبة الأخيرة أمل الحصول على أغراضها
فوضعت في جبهة طولها 150 ميلاً مليوني مقاتل و 4000 دبابة يضاف إليها سيارات النقل والجنود الاحتياط، فخص الميل الواحد 13 ألف مقاتل تقريباً، وإذا قسمنا عدد الدبابات على عدد الأميال يظهر قلة عددها، ولكننا لو ذكرنا أن هذه الدبابات لم تتوزع على
طول جبهة القتال، بل قصرت عملها في ميادين خاصة، فكانت الوحدة منها تتكون من 200 دبابة لعرفنا قسوة الهجوم الذي وجه إلى القوات الفرنسية، ولوجدنا أن ما قدر له أن يعمل سنة كاملة وضع في الميدان دفعة واحدة
ومعنى هذا أن الحرب إذا طالت سنة احتاجت ألمانيا إلى مثل هذه القوات ثلاثين أو أربعين ضعفاً، وهذا مالا يتيسر لألمانيا تحقيقه لضعف مواردها
ومن هنا يرى الخبراء العسكريون أن حرب ألمانيا مع إنجلترا ستكون وبالاً على النازية، لأن الحرب ستطول بحكم موقع الجزر البريطانية الجغرافي، وبحكم توفر المواد الأولية في إمبراطوريتها الواسعة.
لماذا استقال رينو
ومن الجدير بنا أن نقف لحظة إزاء ما قبل الظروف التي أعلنت فيها فرنسا طلبها لشروط الهدنة. ففي ساعات قلائل تستقبل وزارة المسيو رينو، وتؤلف وزارة المارشال بتان، وتصبغ بالطابع العسكري، ويشترك فيها جميع قواد القوات الفرنسية من برية وبحرية وجوية. فهل يدل هذا على أن المسيو رينو رفض أن يتولى إصدار قرار طلب شروط الهدنة الخطير؟ وإذا كان هذا صحيحاً فما هي الدوافع لاستقالته ورفضه! هل هي اختلافه في الرأي مع العسكريين؟ أم أنه فضل أن يتلقى الشغب الفرنسي النبأ السيئ من القادة أنفسهم؟
فالشعب الفرنسي معروف بحبه للحرية، معروف بتقاليده الوطنية التي لا تقبل الهزيمة، معروف بتضحياته السامية وبسالته التي لا تقهر، مما يدعو الساسة إلى التردد والامتناع عن إصدار مثل هذه القرارات المؤلمة
ويبدو لنا أن الاختلاف هو في الرأي أيضاً، فقد غضب بعض كبار القواد العسكريين لطلب الهدنة، وطالب الجنرال ديجول الشعب الفرنسي الحر بأن يتصل به في إنجلترا ليواصل القتال، ولينزع عن بلاده ألم الهزيمة، وليخلصها من القيود التي قد يفرضها عليه الأعداء. ورأي هذا القائد له قيمة إذ كان أحد مساعدي المسيو رينو، وكانت له يد في توجيه السياسة العسكرية والاقتصادية
فإذا قبلت فرنسا شروط ألمانيا فلن يعني أن رجال فرنسا ستغادر الميدان، بل أنهم
سيواصلون الكفاح. وسيلحق بهم في هجرتهم عد كبير من الفرنسيين الذين لن يطيقوا أن يعيشوا تحت شروط الألمان والذين لن يطيقوا أن يتركوا بلادهم وسيادتها تحت رحمة النازيين. فقد ظلت فرنسا عدة قرون وهي دولة من المرتبة الأولى، ولها صوتها المسموع، ولها إرادتها المحترمة، فهل يقبل شعبها أن يصبح من المرتبة الثالثة، بينما حليفتهم تقاتل في الميدان؟ إن العصبة الفرنسية تقول محال، أو كما قال الجنرال ديجول (إن شعلة المقاومة الفرنسية لن تنطفئ. لن تنطفئ)
مناورة بارعة
ولقد كان اقتراح بريطانيا اتحاد الجمهورية الفرنسية بالإمبراطورية البريطانية مناورة سياسية وعسكرية بارعة، فهي تعطي لفرنسا مضماراً جديداً لاستئناف نشاطها، وتدل على حسن النية والتضامن في السراء والضراء مما يجلب عطف العالم على قضية الحلفاء، ويدل دلالة مادية أن الطمع ليس العامل الحقيقي في هذا القتال، بل هو سعادة العالم. وإلا فما الذي يدفع بريطانيا بإمبراطوريتها العظيمة، لأن تقدم مواردها لإصلاح أضرار فرنسا ولأن تشاركها في مصابها الحالي؟
ولو تم هذا الاتحاد، لكان له أثر عظيم في سياسة العالم المقبلة، ولكان فتحاً جديداً لتكوين اتحاد أوربي عام، يعمل على إقرار السلام، فتزول الأحقاد، وتحد المطامع، ويشعر العالم برباط المصلحة المتبادلة
هتلر بين نارين
وكان هذا التصريح بارعاً كما قلنا وضع ألمانيا بين نارين، فإذا هي غالت في طلبتها من فرنسا فضت فرنسا للصلح واتحدت مع إنجلترا واستمر القتال إن لم يكن في فرنسا ففي المستعمرات، ولمستعمرات فرنسا شأن كبير في معركة البحر الأبيض، ففي تونس والجزائر ومراكش موان وقوات فرنسية لها قيمتها في الجزء الغربي للبحر
ومن الناحية الثانية يفيد عدم غلو ألمانيا في طلباتها، فإذا احتفظت فرنسا بقواتها البحرية والجوية، ولم تضم إلى الدكتاتورية ولزمت الحياد تضمن إنجلترا سيادتها البحرية على القوات الإيطالية، كما تضمن أن تظل القواعد الفرنسية في غرب البحر الأبيض في أيد
محايدة تعطف على قضية بريطانيا
ويصعب علينا الآن أن نقدر أثر هذا التصريح، ولكنه يدل على شعور الديمقراطيات بعطف متبادل، ومشاركة في الآلام، أو كما يقول المثل العربي (عند الشدائد تعرف الإخوان) وهل بعد محنة فرنسا الحالية شدة؟
إذا قبلت الشروط
وإذا انسحبت القوات الفرنسية من الميدان، فإن ميدان الحرب يتحول من البر إلى البحر والجو، وهما الميدانان اللذان يمكن أن تشتبك فيهما القوات الديمقراطية مع القوات الدكتاتورية، اللهم إلا إذا حولت ألمانيا قواتها لغزو البلقان، فعندئذ يتغير الموقف تغيراً بسيطاً، ولكن النصر النهائي يتقرر في هذين الميدانين، ولإنجلترا فيهما التفوق العسكري
فشل الحرب الخاطفة
ويتغير موقف ألمانيا قبل إنجلترا فتضطر إلى الانتظار مدة يتاح فيها لأميركا تقديم معاونة جديدة، وإعداد مصانعها الإعداد المنشود، فلا مفر إذن من فشل خطط ألمانيا في الحرب الخاطفة، ولا سيما أن قوات إنجلترا ما زالت سليمة، ففي الجزر البريطانية وحدها مليونا جندي بعضهم جنود نظامية، وبعضهم للدفاع المدني
فإذا عمدت ألمانيا إلى مهاجمتها عن طريق الجو، فإن القوات الجوية ليست عاملاً فعالاً في الاستيلاء على البلدان، بل يجب الاستناد إلى قوات برية، وهنا تبرز معضلة ألمانيا الكبرى. فكيف تنقل قوات تقاتل هذه قوات إنجلترا الكبيرة؟
كيف تغزوا إنجلترا؟؟
أمامها في هذه الحال طريقان: وهما البحر والجو، فإذا سلكت طريق البحر احتاجت إلى أسطول ضخم لحماية السفن من الأسطول البريطاني، وهي لا تملك من السفن الآن ما يضمن لها تحقيق هذه الغاية، فإذا لجأت لحمايتها بالأسطول الجوي، فإن الطائرات البريطانية تنازعها السيطرة على بحرها، ولا سيما لقرب قواعدها وتفوق طائرات القتال البريطانية
فإذا قلنا يمكنها أن تفعل ما فعله الحلفاء في دنكرك عندما أنزلوا قواتهم من منطقة الفلاندر،
فإن الموقف متغير لعدة عوامل:
1 -
تفوق أسطول إنجلترا البحري
2 -
تفوق أسطول إنجلترا الجوي وخصوصاً طائرات القتال
3 -
المدافع الساحلية، وهي من القوة بحيث تكفي لصد أساطيل حربية
4 -
حقول الألغام المبثوثة حول الشواطئ البريطانية، وهي تحتاج إلى قوات كبيرة لانتشالها
5 -
وجود قوات كبيرة في بريطانيا
فهذه العوامل متجمعة تجعل من المستحيل على ألمانيا إنزال قواتها في إنجلترا عن طريق البحر، فضلاً عن أن قوات الحلفاء التي نقلت من دنكرك لم تحمل معها أسلحة تذكر، ومن البديهي أن نقل الرجال أسهل بكثير من نقل الأسلحة
غزو إنجلترا جواً
وناقش أحد رجال إنجلترا العسكريين احتمال غزوا إنجلترا عن طريق الجو على هدى الخطط العسكرية الألمانية، فقال إن ألمانيا تحتاج في هذه الحالة إلى ألف طائرة تسع كل منها أربعين جندياً بمعداتهم من الأسلحة الخفيفة، فتحمل هذه الطائرات حمولتها من الرجال من قواعد قريبة من إنجلترا كميناء كاليه مثلاً، فتهبط الدفعة الأولى بالمضلات الواقعة وتحتل بعض المواقع وخصوصاً المطارات، وتحتفظ بها فترة من الزمن حتى يتاح للطائرات أن تعود بأربعين ألف جندي آخر
وعمل الدفعة الأولى أن تحتفظ بمواقعها إلى أن تأتيها الدفعة الثانية فالثالثة فالرابعة، إلى أن تستقر القوات في مكان يتيسر للطائرات الألمانية الهبوط فيه. ومن ثم يبدأ الغزو الحقيقي للجزر البريطانية
وإذا قلنا إن هذا المشروع مشروع إنجليزي، أدركنا أن الإنجليز أعدو له العدة اللازمة من جنود إقليميين ونظاميين، وأن الألمانيين لن يجدوا الجزر البريطانية لقمة سهلة الهضم، وفضلاً عن هذا فإن الطائرات لا تستطيع حمل الأسلحة الثقيلة من دبابات ومدافع ميدان لتجابه بها المعدات الإنجليزية
بريطانيا وألمانيا
أما كيف تقضي بريطانيا على قوات ألمانيا، فلها في ذلك وسيلتان:
1 -
الحصر البحري
2 -
استغلال فرص القتال
فأما الحصر البحري فأمره معروف، وهو يقضي بمنع المواد عن ألمانيا إلى أن تنهار حياتها الاقتصادية وبالتالي قواتها العسكرية
وأما استغلال فرص القتال فهذا موضوع يعود بنا إلى أيام نابليون، فقد ظلت العداوة قائمة بين فرنسا وإنجلترا من سنة 1803 إلى سنة 1814 استولى أثناءها نابليون على أوربا كلها تقريباً، وكانت انتصاراته المتتابعة تملأ آذان العالم. وكانت إنجلترا تستغل تمرد الدولة المختلفة
فقد فرض نابليون سيطرة أسرته على جميع الممالك من أسبانيا إلى قلب أوربا، وعين اخوته ملوكاً على إيطاليا وأسبانيا، وحالف تركيا والروسيا في أدوار مختلفة، ولكن الدول الأوربية ما لبثت أن تمردت عليه وهاجمته قواتها من جميع الجهات حتى استولت على باريس. وكانت إنجلترا في هذه الأثناء لا تترك له فرصة يستقر فيها، فهاجمته في تركيا، وأسبانيا، وفي البرتغال، وفي بلجيكا إلى أن استنفذت جميع موارده وهزم الهزيمة النهائية في واترلو
ولا يختلف موقف هتلر عن موقف نابليون، فهو يحتل بلاداً نعم أهلها برحيق الحرية، وتأصلت في نفوسهم روح الوطنية، فإذا كبتوا شعورهم تحت ضغط الحديد والنار لحظة، فلن يلبثوا أن يتمردوا لحظات، فتذكر إنجلترا شعورهم وتأخذ بيدهم، وتمهد السبيل للقضاء على الطاغية.
فوزي الشتوي
بكالوريوس في الصحافة
رسالة الشعر
صاحب البعثة الكبرى
(إلى القطيع المشرد التائه، المتمدن الوحشي، السابح في
الدماء. . .)
للأستاذ محمد بهجة الأثري
خَلَتِ الدُّهورُ وأنت أنت الأوحدُ
…
ذِكرى مُقَدَّسَةٌ ومجدٌ سَرْمَدُ!
تتضاَءلُ العُظَماءُ عندَك والكُنَى
…
وتَحُطُّ شاهقةٌ ويصغُرُ سُؤْدَدُ
كالطَّوْدِ تضربُ في السماءِ شِعافُه
…
وعلى قواعِدِهِ المنازلُ ترقُدُ!
قدُسُ النُّبُوَّةِ من يُطاوِلُ سَمْكَهُ
…
أو مَنْ يَرُومُ سماَءهُ أو يصعَدُ؟
هي مَظْهَرٌ لله جل جلاله
…
لم يُعْطَها غاوٍ ولا مُتَمَرِّدُ
قد كنتَ صَفَوْةَ خَلَقْهِ فحباكَها
…
شَرَفاً. فأنت المُصْطفَى المتفرَّدُ
وَقَفَ الفلاسِفةُ الكبارُ تَخَشُّعاً
…
مِنْ دُونِ بابِكَ ظامئينَ لِيَجْتَدُوا
رادُوا الينابيعَ التي فَجَّرْتَهَا
…
ماءً وَظِلاً بارداً واسْتَوْرَدُوا
ما كلُّ ماءٍ كالفُرَاتِ مَذَاقُهُ
…
كلاً، ولا كلُّ المراعي يُحْمَدُ
كَمْ مِنْ زَعَامَةِ سَيَّدٍ مَحَّصْتُها
…
فأني عليها النَّقْدُ لا تَتَجَلُّدُ
يَبْنوُن مَجْدَهُمُ على قَهْرِ الوَرَى
…
والَمجْدُ يَبْرَأُ منهُمُ والسُّؤْدَدُ!
ألفَتْحُ عندَهُمُ هَوَي وتَعَسُّفٌ
…
ومَمالِكٌ تَهَوِي وأُخرى تخمُدُ
أُسَراءُ أَهْواءِ النُّفُوسِ فَحَمْدُهُمْ
…
يومٌ، وأما ذَمُّهُمْ فَمُؤَبَّدُ
لم يَظْهَرُوا إلا لِيَخْفَوْا مِثْلماَ
…
تَبْدُو فقاقيعُ السُّيُولِ وتَهْمُدُ
وظَهَرْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ إلا أنها
…
تَخْفَى ونورُكَ في الَخْليقةِ سَرْمَدُ!
وبَنيْتَ بالحقَّ المبينِ فلا هَوىً
…
يَطْغَى عليكَ ولا منُيً تَتَرَصَّدُ
ألفَتْحُ عِنْدَكَ شِرْعَةٌ وعقيدةٌ
…
وأُخُوَّةٌ وتَراحُمٌ وتَوَدُّدُ
دُسْتُوُرُكَ الفُرْقانُ: أَمَّا وَعْظُةُ
…
فَهُدَىً، وأَمَّا حُكْمُهُ فَمُسَدَّدُ
عالٍ على الأهْواءِ لا مُتمَلَّقٌ
…
أَحَداً ولا مُتَعَسِّفٌ يَتَمَرَّدُ!
كالسَّرْحَةِ الغَيْنَاءِ غُصْنٌ مُثْمِرٌ
…
وَخَميلَةٌ تَنْدَى وظِلٌّ أَبْرَدُ!
تأْسُو جِراحَ الَخْلْقِ بالْخُلْقِ الذي
…
تَروَى الُقلُوبُ به وتَشْفَى الأكْبُدُ
ولَكَ السَّماحَةُ والسَّجاحَةُ والنَّدَى
…
وهُدَى النُّبُوَّةِ والفَعالُ الأرْشَدُ
نَسَقُ مِنَ الُخْلُقِ الْعَظِيمِ كأَنَّهُ
…
فَلَقُ الصَّبَاحِ وَحُسْنُهُ الْمُتَوَقَّدُ
تدعو إلى أدَبِ الحياةِ وَعِلْمِها
…
وَتُنِيرُ دُونَهُمَا السَّبيلَ وَتُرْشِدُ
تَسَعُ الأَناَمَ جَمِيعَهُمْ لَكَ مِلَّةٌ
…
غَرّاءُ تَهْدِي العالَميِنَ وَتُسْعِدُ
أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيّةٌ لَا سِرُّها
…
يَخْبُو وَلَا إشْعَاعُهَا يَتَرَبَّدُ!
يَزْكُو عليها الرُّوحُ فَهْوَ مُنَزَّهُ
…
عَمَّا يَشِينُ وَجَوْهَرٌ يَتَوَقّدُ
الوَحْيُ أُسُّ بنائِها العالي الذُّرَا
…
وَالْحَقُّ حَائِطُ رُكنِها وَالْمَحْتِدُ
وَالفَتْحُ وَالعُمْرَانُ من آرَابِها
…
وَالعَدْلُ والعَيْشُ الرَّخِيُّ الأّرْغَدُ
دُنْيَا أَقَمْتَ عَلَىِ الَعقِيدةِ رُكنَها
…
ومن العقائدِ مَا يَشِيدُ وَيُخْلِدُ
هِيَ هَيْكَلٌ فَانٍ، فإنْ حَلَّتْ بِهِ
…
رَفَّتْ بها الْحَوْبَاءُ وَهْيَ تَرَأَّدُ
يُنْبُوعُها التوحيدُ: مَشْرَعُ مَائهِ
…
لِلْوَارِدِينَ، وَنَبْعُهُ لَا يَنْفَدُ
جَمُّ الأَيادِي فالأَنَامُ بخَيْرِهِ
…
وَبخِصْبِهِ مُتَقَلَّبُونَ وَهُمْ يَدُ
ما الناسُ - لولا البَغْيُ - إلاّ أُمَّةٌ
…
وَالدَّينُ - لولا الجهلُ - إلاّ أَوْحَدُ
ما أحْسَنَ َالتَّوْحِيدَ يَجْمَعُ شَمْلَهُمْ
…
فَيَعُوَدَ وَهْوَ مُنَظُّمٌ وَمُوَحَّدُ!
بِسَناَهُ أخْرَجْتَ الشُّعُوبَ من العَمَى
…
وَهَدَيْتَها لِلنْهْجِ وَهْوَ مُعَبَّدُ
فَاسْتُؤصِلتْ فَوْضَى وقامت دولةٌ
…
وخَبَتْ هَيَاكِل وَاسْتَنَارَ الَمسْجِدُ
وَمَشَتْ عَلَىَ يَبَسِ الصَّعِيدِ حِضَارةٌ
…
بالْيُمنِ تُشْرِقُ وَالْهَنَاءةِ تَرْغُدُ
إنَّ الجَمالَ خَفِيَّهُ وَجَلِيَّهُ
…
إِكسِيرُها وَشُعَاعُها الْمُتَجَسِّدُ!
بُعْداً لِمَفْتُوِنيِنَ لم يُعْرَفْ لَهُمْ
…
رَأْىٌ يُجَلُّ وَلَا مَقَالٌ يُحْمَدُ
نَفَوُا الرِّسالةَ وأرْتأَوْها دَعْوَةً
…
زَمَنِيَّةً أَفَلَتْ وَلَيْسَ لها غَدُ
خُصَّتْ بجيلٍ قد مَضَى، وبِحِقْبةٍ
…
طُوِيَتْ، وَأَمْرٍ رَثَّ لَا يتأَبّدُ
خَسِئوا. فما عَرَفَ الحقائقَ ماجِنٌ
…
خَلَعَ الِعذَارَ، ولا غَبِىُّ مُلْحِدُ
البِعْثَةُ الكُبرَى حياةٌ لِلْوَرَي
…
أَبَدَ الزمانِ وَنِعْمَةٌ تَتَجَدّدُ
عَمَّتْ وَلكن قد خُصِصْتَ بفَضْلهِا
…
يا آخِراً هُوَ أوَّلٌ مُتَفَرَّدُ!
إنّ الأُلَى زَعَمُوكَ سَيِّدَ قومِهِ
…
كَذَبُوا. فإنّكَ لِلْبَريَّةِ سَيِّدُ!
شَمْسٌ، وَهل تختصُّ ناحيةٌ بها
…
وَشُعاعُها في كل أُفْقٍ عَسْجَدُ؟!
الْمُرْسَلُون، وأنتَ دِرَّةُ عِقْدِهِمْ
…
خُتِمُوا بِسِرِّكَ في الزمانِ وَمُجِّدُوا
أَيّدْتَ دَعْوَتَهُمْ وَصُنْتَ جَلَالَهُمْ
…
فأرَيْتَنَا كيْفَ الإخَاء يُوَطَّدُ!
يا رائِدَ الإصلاح يَلتْمَسِ الْهُدَى
…
هذىِ مَنَابِعُهُ، وَهذا الموْرِدُ!
ومن العجائبِ مَعْشَرٌ أَنْجَبْتَهُمْ
…
نَبَغُوا بِدِيِنك في العُلَى وَاسْتَمْجَدُوا
من بَعْدِ رَعْيِ الشاءِ قد رَعَوُا الْمَلَا
…
فَانْصَاعَ جَبّارٌ، وَدَانَ مُسَوَّدُ!
أطلَعْتَهُمْ غُرَرَاً بآفاقِ العُلى
…
يَمْشِي بنُورِهِمِ الزمانُ وَيسُئِدُ
تَتَخَايَلُ الدُّنيا بِعزَِّةِ مُلكِهِمْ
…
وَتكادُ مِنْ فَرَحٍ بهم تَتَمَيَّدُ!
مِنْ مُعْجِزَاتِ الدِّينِ في أخلاقِهِمْ
…
خُصُّوا بصُنْع المعجزاتِ وَأُفْرِدُوا
من كلِّ وَضّاحِ الْجَبِينِ كأنه
…
يَنْشَقُّ في الظَّلْماءِ عنه الفَرْقَدُ
جَمُّ الجلالِ تَكادُ تَسْتَذْرِي به
…
شُمُّ الجبَالِ وَيَتَّقِيهِ الْمُزْبِدُ
يمَشِي بهم للفَتْح يَحْدُو شوقَهُمْ
…
دِينٌ يَثوُبُ لآِيِةِ الْمُتَشَدِّدُ
أَذْكيَ عَزَائَمَهُمْ وَأَدْرَي زَنْدهمُ
…
فَاسْتَفْتَحُوا سُرَرَ البِلَادِ وأَبْعَدُوا
نَظَمُوا الممالِكَ بيْنَ قُطْبَيْها، ولو
…
وَجَدُوا وَرَاَء البحر أرضاً أوْرَدُوا
في حِقْبَةٍ قَصُرَتْ كأنّ زَمَانَها
…
يومُ الوصالِ وَحُسْنُهُ الْمُتَوَرِّدُ!
حَفَلَتْ بآياتِ الجلالِ زواهراً
…
يَفْتَنُّ فيها الناظِرُ الْمُتَصَعِّدُ
تلْكَ الحضارَةُ لا مظاهِر زُخْرُفٍ
…
تُغْرِي وَباطِنها العذابُ الأَسْوَدُ!
ناَرٌ ولا نورٌ، وَطُغْيَانٌ وَلَا
…
زَجْرٌ، وَأَهْواءٌ وَلَا مُسْتَرْشَدُ!
يا رَبَّ! أَهْلُ الغَرْبِ جُنَّ جُنُونُهُمْ
…
وطَغَى القوِيُّ على الضعيفِ يُعَرْبِدُ
الأرْضُ نَارٌ، والسَّماءُ جَهَنَّمٌ
…
والبَحْرُ بُرْ كانٌ يَثُورُ ويُزْبِدُ
لم يَبْقَ شِبْرٌ لم يُصَبْ بَمَجَازِرٍ
…
أوْ لا يُراعُ بِمِثْلهِاَ وَيُهَدَّدُ
عزَّ السَّلامُ وأنذرتْ غاراتُهُمْ
…
أَنّ الْقِيامَةَ حانَ منها مَوْعِدُ!
يا رَبِّ! والقَوْمُ الْهُداةُ تَعَسَّفُوا
…
سُبُلَ العَمايةِ خَلْفَهُمْ وتَوَرَّدُوا
هَجَرُوا سَبِيلَكَ ظالمينَ نُفُوسَهُمْ
…
فتفكّكَتْ أوصاُلُهم فاسْتعُبِدُوا
سَلَبَ الطّغَامُ دِيارَهمْ وتأسَّدُوا
…
وبَغَي اللِّئاَمُ جَلَاء هُمْ وتَوَعَّدُوا
وُهمُ شَتاتٌ: دِيِنُهُمْ مُتَفَرِّقٌ
…
سُبُلاً ودُنْياُهمْ شَقَاءٌ أنكَدُ
شِيَعٌ تَطاَعَنُ بينها ومذاهِبٌ
…
شَتَّى وأحوالٌ تُقِيمُ وتُقْعِدُ
قومٌ وراَء الغَرْبِ في آثامِهِ
…
رَكَضُوا خُيُولَ الموبِقاَتِ وأَطْرَدُوا
وَمُصَرَّعُونَ من الضّلَالِ كأنما
…
أوهامُهُمْ سُمُّ يَدِبُّ ومُرْقِدُ
هِيَ أَزْمَةٌ يا رَبِّ لُطْفُكَ وَحْدَهُ
…
يُرْجى لها فَلَعَلَّ لُطْفَكَ يُنْجِدُ
النُّورُ أُطفِئَّ والزعامَةُ أَخْفَقَتْ
…
والبَغْيُ طَبَّقَ وَالقَطيعُ مُشَرَّدُ
يا رَبِّ! فَلْيَطْلُعْ (كتابُكَ) بالهدَى
…
يا رَبِّ! وَلْيَقمِ النبيُّ (مُحَمّدُ)
(بغداد)
محمد بهجة الأثري
رسالة الفن
تأملات:
اللهم احفظنا!
للأستاذ عزيز فهمي
- عينا من هاتان القاسيتان اللتان أخفيت وجههما لتنظر فيهما؟. . . أرني هذه الصورة. . . بيلا لوجوزي؟! دراكولا؟! لم أكن أحسب أن هناك من يجد المتعة في النظر إلى عيني دراكولا. . . مصاص الدماء
- لك الحق! فمن كان مثلك، فإنه لا يستطيع أن يفتح عينيه في عيني دراكولا
- مخيفتان!!
- من غير شك، ولكن لماذا هما مخيفتان وهما، مهما كانتا. . . عينان. . .
- لا أدري، ولكنه يخيل إلي أنني لو قابلت دراكولا، والتقت عيناه بعيني لما استطعت إلا أن أمد له عنقي ليمتص من دمي ما يشاء. . .
- فإذا قابلت لاندرو؟!
- ومن لاندرو؟
- سفاح فرنسي كان يصيد الفتيات والنساء الصغيرات بنظراته، حتى إذا تملكهن انفرد بهن وقتلهن واستولى على حليهن ودفنهن
- يا حفيظ! وكيف كان يصيدهن بعينيه هذا الرجل البغيض المجرم؟. . ماذا كان يجذبهن إليه؟
- شيء مثل الذي في عيني دراكولا، وقد قلت: إنك لو رأيت عيني دراكولا ورأى عينيك لما استطعت إلا أن تسلمي له جيدك هذا المرمر، ليمتص ما شاء من دمك. . .
- وما الذي في عيني دراكولا؟! أرني الصورة. . . أرني. . . قسوة!. . .
- وهل تغري القسوة بالإقبال عليها وبذل الدماء لها؟
- إذن فما الذي في هاتين العينين؟ إنه على أي حال شيء كريه، ومع ثقله على النفس له سيطرة وسيادة وأمر لا مر من طاعته. . .
- فبأي الأسماء تسمين هذا؟
- إنهما عينان تطعنان نفس الذي تنظران إليه. . .
- ولكن المطعون لا يزحف إلى طاعنة. . .
- لولا أنهما تؤذيان لقلت إنهما جذابتان
- ولماذا تخلقين التناقض بين الجذب والأذى؟. . . أما يجذب العنكبوت الذبابة وفي انجذابها إليه هلاكها؟ أما يجذب الفسفور الأوكسجين، وفي انجذابه إليه احتراقه؟ إن عيني دراكولا جذابتان ومؤذيتان. . . ولم لا؟!
- إنهما حقاً عجيبتان. . . قل لي ما هما؟
- هاهما تان أمامك. . . انظري إليهما تعرفيهما. . . بل إنك تعرفينهما وتخافينها كما قلت، فماذا تريدين مني أن أقول لك عنهما. . . إني أستحي. . .
- أنت تستحي؟! صحيح مؤدب جداً، تقي جداً، نقي ورع. . .
- انظري إلى عيني. . . عيني أنا؟. . .
- هاأنا ذي نظرت. . . هيه. . . (أخص) عليك! تلعب لي حاجبيك؟!. . . أما إنك مسخرة!
- أأنا المسخرة أم المسخرة أنت؟ أنا نظرت إليك ورقص حاجباي فوق عيني أثناء ما كنت أنظر إليك، فلماذا ضحكت، ولماذا قلت ما قلت؟ الآن حاجبي رقصا؟ هبيه زر كربوشي أرقصته نسمة وأنا أحدثك؟ أفكنت تضحكين؟ أو هبيني نظرت إليك وعبثت بأصابعي و (طقطقتها). . . أفكان هذا يضحك؟
- ولكن تلعيب الحواجب له معنى. . .
- وأين رأيت هذا المعنى؟ في قاموس؟ أم في جامعة أستاذها كشكش؟
- ليس حتما أن تكون كل المعاني التي يدركها الناس مسجلة في كتب وقواميس أو ما يلقي عنه الأستاذ دروساً ومحاضرات في الجامعات. . . بل إن هذا المسجل في الكتب والقواميس، وهذا الذي يلقي في الجامعات والمدارس لهو الأقل من العلم، والبعد عن حاجة الحياة. . .
- أنا معك في هذا. . . والآن قولي لي. . . لماذا أنت إذا نظرت إلى عيني دراكولا خفت
منهما ومع هذا الخوف انجذبت إليهما. . . ولماذا أنت إذا نظرت إلى عيني أنا ضحكت ومع هذا الضحك انجذبت عنهما. . . تفرين مما يضحكك وتندفعين إلى ما يخيفك! لماذا؟
- أنا التي أريد أن أعرف السبب، بل إني قبل أن أعرف السبب أريد أن أعرف ما هذا الذي في العيون ينتقل منها إلى العيون الأخر فينقل معه أشياء من النفوس إلى النفوس الأخر. . .
- أما هذه فإشعاعات. . . هي انعكاسات نورانية أو نيرانية تنبعث من نفس إلى نفس عن طريق منافذ النفس والعيون من هذه المنافذ. . .
- وهل غير العيون للنفس منافذ؟
- الفم وإن كان لا ينشط في هذا كثيراً إلا عند النساء والمغنين، واليدان، والجلد. . . وغير ذلك. . وغير ذلك. . .
- دعنا من ذلك فإني أريد أن نبقى الآن في حديث العيون
- قبل أن ادعنا من هذا أقول لك للمرة الألف امسحي هذا الأحمر من فوق شفتيك فإن المعبر فيك عن نفسك يا هذه هو فمك. . . هو الجذاب فيك
- ولا شيء غير فمي؟
- الآن حلا لك أن نترك حديث العيون لنتحدث عن ذاتك الكريمة؟. . . دعينا من هذا وعودي بنا إلى العيون وقولي لي بأي شيء تفسرين ما يفعله النساء في مصر من تبخير اللواتي تصيبهن الأعين منهن؟. . .
- هذه خرافة من خرافات الجاهلات العجائز ليس لها شأن بما نحن فيه
- بل هي علاج مما تعلمه هؤلاء الخبيرات العجائز وهي ليست شيئاً غي ما نحن فيه. . .
ألا تعرفين متى يقولون إن فلانة أصابتها عين؟
- عندما يعتقدون أن حاسدة حسدتها. والذي أعرفه أنا عن الحسد هو أن يتمنى إنسان زوال النعمة عن إنسان آخر، ولكن لست أدري كيف يتصورون أن أمنية خاطئة شريرة كهذه إذا ثارت في نفس إنسان حاسد كان لثورتها هذه أثر حق في المحسود. ولأني أعجز عن تصور هذا أقول إن حديث والحسد والعين خرافة وإن المشتغلات به من الكوديات، والمشتغلين به من مشايخ الزار دجالون بضاعتهم وتجاربهم التي يرونها بين الناس أوهام
وأباطيل.
- إنك مخطئة، فالحسد والعين ليسا خرافة، مشايخ الزار و (الكوديات) ليسوا جميعاً دجالين، فمنهم الدجالون حقاً، ولكن منهم أيضاً علماء النفس المتمكنين منه علماً وعملاً وكهانة وسحراً. . . تصوري (بهلواناً). . .
- ماذا؟
- البهلوان الذي يمشي على الحبل ويقفز في الجو من عقدة إلى عقدة، ومن حلقة إلى حلقة. . . ألا تعرفين؟. . . هذا (البهلوان) يقوم بألعابه هذه كل ليلة، وهو لأنه مدرب عليها وحاذقها يوفق فيها دائماً كما يوفق دائماً كل عامل مدرب وكل لاعب مدرب. وإذا نظرت إلى هذا (البهلوان)، وهو يقوم بألعابه هذه ترين أنه يأبى أن يسلم عينيه لنظرات الناس، فهو دائماً متجه بنظره إلى لا شيء، أو إلى عينين يحبهما ويطمئن إلى إيمانهما به؛ أما غير ذلك، فهو يخشى لو أنه تلقي نظرات الناس أن يتلقى فيها نظرات شكاكة ينبعث منها الحذر عليه من الفشل في لعبه، والفشل في لعبه معناه الموت. والذي يخشاه من هذه النظرات الشكاكة، هو أن ينتقل شكهما فيه إلى نفسه، فيشك في نفسه، فيتردد في حركاته، فيختل توازنه في قفزة، أو في همة أو في هبطة، فيضيع، وكما يخشى هذه النظرات الشكاكة يخشى أيضاً النظرات الحاسدة التي ينعكس منها بصراحة تمني زوال هذه البراعة عنه، وهذا شيء يبعث في نفسه قوة تتجه إلى إقناع عقله بأن هذه البراعة لن تزول عنه، هذا إذا كان قوياً، أما إذا كان في نفسه شيء من الضعف، فإنه قد يسائل نفسه: أليس ممكناً أن تزول هذه القوة عني. . .وماذا أصنع إن هي زالت؟!. . . ثم من يدربني إذا كانت قد زالت فعلاً، أو أنها لا تزال باقية؟. . . وهذه الاضطراب وهذا الانشغال يستنفدان كثيراً من قوة (البهلوان) ومن جهده بعد أن كان يتجه بقوته كلها وبجهده كله إلى إتقان ألعابه. . . فلا عجب بعد ذلك إذا هو فشل وهو غارق في هذه الزلزلة، فإذا فشل قالوا أصابته العين والعين أصابته فعلاً، وهم يعالجونه بالتبخير والترنح والفوضي الحركية التي يمارسونها في الزار لأنه بهذا يخدر أعصابه ويكف إرادته عن السيطرة على تفكيره، فيوحون إليه وهو في هذه الحال بأنه مصون، وبأن الله حافظه، وبأن الصلاة على النبي واقيته، وبأنه عن أي سبيل من سبل الاطمئنان قوي قادر بارع له أن يثق بنفسه وألا يعود مطلقاً إلى الشك فيها،
وألا يعود مطلقاً إلى الخضوع لنظرة شكاكة أو نظرة حاسدة. . . وكما تصيب العين الإنسان الفرد فإنها أيضاً تصيب الإنسانيين، فهما إذا تحابا وتبادلا الإخلاص والتقيا وهما في حالة من حالات الغموض المريح الذي يسعدان به ورأيا عيناً تنظر إليهما نظرة مستفسرة عن هذا الغموض مصرة مصممة على ألا تفرض فيه خيراً ثار في نفس كل منهما الشك في صاحبه والشك كسر يصيب ما بين المخلصين من ود، وجبره صعب. . . والأصل نظرة تنطبع في عقل المصاب فليزمه الضعف والفشل
- هذا كلام طيب، ولكنه لا يزال بعيداً عن نظرة دراكولا، ونظرة لاندرو، ونظرتك أنت المضحكة السخيفة. . .
- بعد كل هذا اللت والعجن لا أزال بعيداً. . . إن نظراتنا جميعاً: أنا ودراكولا ولاندرو تسأل وتجيب عما تسأل عنه وتطلب وتأخذ الذي تطلبه في أن واحد. . . وكل ما بينها من فرق يعود إلى اختلاف الموضوعات التي تهتم بها. . . فدراكولا ينظر إلى فريسته وهو يقول أنا قوي، وإلى جانب قوله هذا يسأل: وأنت؟ وإلى جانب سؤاله هذا يجيب: ضعيفة. وإلى جانب إجابته هذه يطلب: هات دمك لي فحياتي اثمن من حياتك وأبقى وأشد امتلاء، واظهر وأنفع، وهو إلى جانب ما يطلب هذا يأخذ. . . وهو يأخذ لأن فريسته لا تستطيع أن تكذبه. . . كنظرة القط إلى الفأر؛ فالقط يقول بنظرته للفأر أنا أقوى منك وحياتي أظهر من حياتك وأنت غذائي فتعال إلى لآكلك فأنا جائع، فيقف الفأر، أو لعله يدنو إلى القط بنفسه. . . كلمعة النار أمام الفراشة تقول لها أنا وضاءت لماعة حية ظاهرة متألقة فماذا أنت؟ تعالي إلي واحترقي في لتلمعي لمعة، ولتومضي ومضة ولتكوني لي طعاماً. . . فتأتيها الفراشة مقتنعة. . . هي سيادة وهبتها الطبيعة لمخلوقات تفرضها على مخلوقات ترضى بها. . .
- ولاندرو؟
- لاندور يهتك فريسته بعينه؟ يقول لها: أنا ميال، وأنت ميالة، فتعالي نتعاطف ما نميل إليه. . . لا تكذبي ولا تعرضي فأنت تريدين مثل الذي أريد. . . تعالي. . .
- يا مغيث! وأنت تستعين بتلعيب حاجبيك لعجزك فتضحكين
- ليس هذا لعجزي، وإنما لأفهمك أنه عندي نوع من العبث، لا أجد الجد كله فيه. . .
- من خيبتك. . .
- هذه الخيبة أدعوها أنا تسامياً. . . وثقي يا حضرة الدرة المصونة، والجوهرة المكنونة، أنني لو لم أر في هذه الخيبة حسناً وإحساناً، وأني لو عمدت إلى الإصابة بعيني وفمي
- ويديك وجلدك وغير ذلك وغير ذلك. . .
- نعم. . . لكنت وحشاً لا أحب أن أكونه. . .
- اللهم احفظنا. . الآن في عينيك بريق كالذي في عيني دراكولا. . .
- والآن في جيدك حنين يسبح تحت جلده. . . تعالي. . . ولا تقامي لئلا تجمد عيناك ويغلظ جلدك
- يا أمّه!. . .
عزيز أحمد فهمي
من هنا ومن هناك
محاكمة بدوية أمام الأمير نوري الشعلان
- السلام على الأمير
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
- أنحن بحضرة النوري بن شعلان؟
- إي بِلله، وأنتم من؟
- نحن من جبل الدروز ووجهتنا الحجاز
- الله محييكم، أنتم ولد عمنا، كيف حال الأطرش (يريد أبا علي مصطفى الأطرش)
- هو بخير، وهذا تحرير منه لكم
- تحرير؟ إيه أبو والله إنك لحافظ العهود وإيش تبغون بالحجاز؟
- نؤدي الفريضة
- الله محييكم، يا نواف، يا ولدي أكرم الضيوف، وتعيدون عندنا إن شاء الله
- العفو يا زين، وقتنا قصير، ويلزم أن نعود بسرعة للشام
- لا لا، تعيدون رمضان عندنا، ومن يوم للثاني قريب، غداً عندنا قضوة (محاكمة) تجي البدو من كل ناح، وبعد غد العيد، وعيدكم مبارك عليكم
- علينا وعليك يالأمير
المحاكمة
المدعي - صبحكم الله بالخير، اليوم يوم الله، اليوم يوم الحق، اليوم يوم اليمين، ابشر يا مذبوح، أحلف يا ذابح، اليوم يوم الله السلام على الأمير، السلام على ابن شعلان، السلام على قاضي العرب
الأمير - وعليكم السلام يا لعرب، الله أكبر، الله أكبر، نغلوا حججكم (أي قدموا براهينكم)
المدعي - يا قاضي بعدل الله. جيتك جدي، وامشي هدي، ومصّلى على الله والنبي. ودىّ (أريد) منك الحق، والحق فوق الكل ولاحق من الله، لنا بذمة هذا - وأشار إلى بدوي آخر - دم. قتل ابني وفقدنا الشاهد، ولزمته اليمين، فإما برئ، وأما قاتل، والقاتل مقتول
الأمير - وإيش اسم غريمكم؟
المدعي - جديع ابن سمير
الأمير - انهض يا وليدي، ادفع عن نفسك، أنت شاب، وشيخ الفريق ولزمك الدين (اليمين) إن كنت بريئاً برَّاك الله، وإن كنت قاتلاً قتلك العدل، احلف احلف
المتهم - والله يالنوري، الحق من الله، واليمن وزر، أعفوني منها وأنا أعطي الرجل مية بعير
الأمير - قودوا البعير يالربع، وعفوا الراجل من الدين واحجبوا دم العباد
المدعي - لا لا، نريد اليمن حتى نعرف الصح (الصدق)
المتهم - يالربع، بالله ومحمد رسوله، إني مؤديكم ميئتان بعير وجوزوا عن تحليفي وتعوضوا الله، والذي مات مات، ونحن أقارب وإخوان
الأمير - وإيش عندكم يالعرب؟ ميتان بعير تساوي ألفين جنيه. جوزوا عن الدين، واعقدوا الراية حفار ودفان (أي سماح عن الماضي والحاضر)
- وإيش يا ساير؟ المقتول ابنك، والله فوقك، والخطة قدامك (يريدون بالخطة دائرة يرسمها أحدهم على الأرض ليقف المتهم داخلها ويحلف، ويسمونها خطة سليمان بن داود)
المدعي - والله يالعرب ما أنا بائع دم ابني بجمال، أريد من غريمي دين فأما يكون بريئاً فأطلب من قاتل ولدي، وإما يكون القاتل فأقتله بيدي، (واليمين عندهم فريضة متى فقد الشاهد)
المتهم - يا شيخ، جز عن تحليفي، وخذ البعير، فأنا برئ من دم ابنك، ولو كنت أنا القاتل لما خفت منك، وورائي كما تعلم عرب الشرارات وأنت أخبر بالشرارات وبأسهم
المدعي - جُديع، تتهددني بالشرارات؟ أنسيت من هم الحسن؟ ويوم اللي هزمناكم مثل الغنم الهامل، والله لا أرضى منك بغير اليمن ولو ملكتني كل حلال الشرارات
المتهم - وإيش عليه، أنا أحلف، خطو الخطة، أنا رايح أحلف، أنا على باب الخطة، يا عونة الله أنا رايح أحلف، يا ساير خف الله. يا خوي وخذ البعران وجز عن تحليفي وأنا برئ
المدعي - اليمين اليمين
المتهم - أشهدوا يالعرب، اسمعوا يالربع، أنا بالخطة، وهذه عصاتي وهذه يميني:
(وحق هالعود، والرب المعمود، وخطة سليمان بن داود، أنا رميت والله قتل) وأنا بوجه ابن شعلان
(أي أنه هو أطلق النار، والله قتل، وهو بحماية النوري ابن شعلان والحماية عندهم ثلاثون يوماً فقط، وبعدئذ أما أن يدفع جنية القتيل، وإما أن يقتل)
نجيب العسراوي
الأمية في العالم
يؤخذ من دائرة المعارف الإنجليزية الحديثة أن عدد الأميين في مصر 92 في المائة (والصواب: 82)، وفي الهند الإنجليزية 92، وفي الصين 80، وفي سيلان 66، وفي غواتيمالا 65، وفي أسبانيا 63، وفي البرازيل 60، وفي كولومبيا 60، وفي البرتغال 60، وفي شيلي 39، وفي الأورغواي 39، وفي الأرجنتين 37، وفي فنزويلا 37.
وفي الولايات المتحدة وزيلانديا الجديدة وكندا وفرنسا واليابان واستونيا وبلجيكا يتراوح الأميين بين واحد وعشرة في المائة
أما في سويسرا والدانمرك وألمانيا وأسوج ونورج وفنلنديا وهولندا وإنكلترا، فعدد الأميين أقل من واحد في المائة
مستعمرات فرنسا
لفرنسا من الممتلكات ما تبلغ مساحته 12 مليون متر كيلو متر مربع، تضم نحو ستين مليون نفس. ففي أفريقية الشمالية: مراكش، الجزائر، تونس، أفريقية الغربية، وتشمل: السنغال، غينية، الشاطئ العاجي، الدهومي، السودان الفرنسي، موريتانيا، نيجر. وفي أفريقيا الاستوائية: توهاد، أوبنغي شاري، توغو، كمرون، كونغو. ثم جزيرة مدغشقر والصومال الفرنسي، وجزيرة رنيون
وفي أسيا: الهند الفرنسية وتشمل على: بونديشاري شاندر ناغور، يانون، كاريكال، ماهه. والهند الصينية وتشمل على كمبودج، أتام، تونكين، لوس. ثم كونتشو
وفي أمريكا: جزائر سان يسار وميكيلان، جزائر الأنتيل غينيا الفرنسية
وفي الأقيانوسية: جزر كالدونية الجديدة، جزر هبريداس الجديدة وغيرها من الجزر
الصغيرة
وإذا جمعنا عدد سكان الممتلكات البريطانية والفرنسية بلغ 600 مليون نفس أي نحو ثلث سكان العالم ومساحتها أيضاً تشغل ثلث سكان العالم ومساحتها أيضاً تشغل ثلث مساحة اليابسة
فون كلوك وسقوط باريس
كان فون كلوك قائد الجيش الألماني الذي زحف إلى باريس في أوائل الحرب الماضية، وكاد يدخلها لولا واقعة المارن التي قطعت أمله. وقد اطلعنا في إحدى الصحف الفرنسية على التصريحات التي فاه بها بعد هزيمته في تلك الواقعة التاريخية، قال:
(أنا لم أضع خطة الزحف إلى باريس كما قيل، إذ لم يخطر على بال أن سقوط العاصمة الفرنسية يؤدي إلى إخضاع فرنسا وإجبارها على التسليم، بل كنت أعتقد أن عزل فرنسا عن حلفائها هو السبيل الوحيد إلى إخضاعها، وأن عزلها لا يتم إلا باحتلال سواحلها
كان الإمبراطور غليوم يحضنا على الزحف المتواصل، لكي نستولي على باريس ونضرب معنويات الحلفاء في الصميم؛ وقد أعد علم ألماني مساحته 400 متر مربع ليرفع على برج أيفل بعد احتلال باريس، وكان الموعد المقرر لدخولها في الثاني من سبتمبر غير أن أعجوبة ظهرت في الجيش الفرنسي أنقذت عاصمته وأبطلت خطتنا، فقد اكتشف طيارونا وكشافتنا أن ذلك الجيش الذي كنا نظنه ممزقاً عاجزاً عن الدفاع قد أعيد تنظيمه بسرعة غريبة واستعاد عزيمته ووقف مكانه وقفة المستقتل الذي يؤثر الموت على التراجع
وما كنا نتوقع قط أن رجالاً يتقهقرون أمامنا عشرة أيام متواصلة يتحولون بين يوم وآخر إلى جلاميد لا تزحزح عن أماكنها. تلك هي العجيبة التي لم يرو مثلها التاريخ الحربي!)
من ذكريات الحرب الماضية - داء فرنسا قديم
كتب مسيو بوانكارية في مذكراته اليومية بتاريخ 13 أغسطس 1914 ما يلي: (عرفت اليوم من الجرائد أن مدافع الألمان ما برحت منذ صباح أمس تضرب بون آمسون. ويظهر أن وزير الحربية يجهل ذلك. وقد ألححت عليه أن ينبِّه باسمه واسمي أركان الحرب إلى إهمالها)
وكتب بتاريخ 16 أغسطس: (ما أزال بين الشك والقلق والانتظار فلا أعرف عن الحركات الحربية في جبهة القتال إلا النزر اليسير مما ينقله إليّ الضباط. ولما أشير عليّ بزيارة خطوط النار استشرت وزير الحربية فاستصوب فكرتي، ولكنه رأى من واجبه أن يستشير أولاً أركان الجيش العليا التي لم تر زيارتي في الحالة الحاضرة مناسبة فعدلت عنها ممتثلاً. واراني كأحد أولئك الملوك الكسالى الذين يقضون أيامهم في الخمول والدعة فالجيش اليوم هو صاحب الكلمة العليا ولا مندوحة لي عن السكوت والامتثال)
وفي تلك الثناء جاء كليمنسو رئيس الجمهورية وشكا إليه أن أركان الجيش تخفي اندحار الجيوش الفرنسية وتذيع انتصاراً وهمياً، وأبلغه أن الألمان اسروا طابوراً فرنسياً بأسره ونكلوا بآخر. فقال بوانكارية إنه يجهل كل ذلك، لئن أركان الجيش لا تمده بشيء مما يجري في ميادين القتال، ثم قاتل:(لقد طالبت مراراً فما كنت أُجاب إلا بالسكوت)
وكان موقف فرنسا يزداد حرجاً بين يوم وآخر، فالألمان في بلجيكا كانوا يتقدمون بسرعة، والإنكليز تراجعوا حتى فالنسيان موبوج، والجنرال جوفر أمر جيوشه بالانسحاب. وفي ذلك يقول بوانكاريه في يومياته:(أردت وأنا بعيد عن خطوط القتال أن أسعى إلى (الاتحاد المقدّس) بتأليف وزارة جديدة فصدمتني المنازع الشخصية والمشاكسات السياسية. عن فيفياني (رئيس الوزارة يومئذ) محاط بجيوش من المطامع، وقد ذكر لي في جملة المرشحين للوزارة الجديدة بعض أسماء يستحيل قبولها لأنها تدعو إلى الخجل. عاد إليّ ميلران وصرَّح بأنه لا يقبل وزارة الحربية إلا خوّل حق الاتصال مباشرة بالجيش المحارب)
وأراد أوغانجر وزير البحرية أن يحمل مسيمي على الاستقالة من وزارة الحربية، فتظاهر بالإشفاق على صحته قائلاً له بلجة تجمع بين الجد والدعابة:(إن دلائل الجهد ظاهرة عليك، فأنصح لك نصيحة طبيب أن تترك مهمتك الشاقة التماساً للراحة، وإلا اعترتك السوداء). فوقع هذا الكلام في نفس الجنرال مسمي موقع الرضى، فاستقال من منصبه، وذهب إلى ساحة القتال يقود أحد الجيوش
وذكر بوانكاريه أيضاً في يومياته: (طالب المسيو بريان بوزارة العدل، فتخلى له عنها المسيو بينفيني مارتان مثال الوداعة والإخلاص. وطالب دلكاسه، وهو أكثر تعنتاً من بريان
بوزارة الخارجية؛ وقد أسمعني الكلام التالي: (إن لاسمي تأثيراً كبيراً لا يستطيع أحد إنكاره. لقد طالما سفهوا سياسي التي رمت إلى تطويق ألمانيا، ولكنها انتصرت أخيراً. فأنا الذي أوجد الاتفاق مع إنكلترا، وأنا الذي عقد المحالفة مع روسيا. ولا شك أن العالم يتوقع أن يراني في كي دورسي). إن لدلكاسه خدمات وطنية جليلة لا تنكر، وكان خليقاً به ألا يذكرها في ذلك الموقف الحرج الذي كان يتطلب التضحية قبل كل شيء. ولكنه أبي إلا وزارة الخارجية التي كان يديرها بمهارة فائقة المسيو غاستون دومرغ الفرنسي الصادق. وشاء فيفياني إزاء تصلب دلكاسه أن يتنزل له عن رياسة الوزارة، فقال له دومرغ:
- أبقَ في مركزك
فأجاب فيفياني:
- إني أتخلى بملء إرادتي لدلكاسه عن مركزي. ولا بأس أن يعزي ذلك إلى عدم كفايتي؛ ففي الحالة الحاضرة لا يهمني نوع الخدمة ولا مجالها)
وقد أثر فيَّ كلام فيفياني كثيراً إذ دل فيه على شخصية كبيرة وإخلاص وطني بالغ فلم أتمالك أن صافحته معجباً مهنئاً
القصص
عُرْس القرية
للأستاذ محمد سعيد العريان
كانت (راجية) تعلم أنها مفارقةٌ المدينة غداً، ما من ذلك بُدّ؛ لقد حاولتْ أن تنسأ الأجل إلى الرحيل فلم تظفر بطائل، وافتنَّت في الاحتجاج لرأيها ما افتَّنت فلم يستمع لها أحد؛ وأجمعت الأسرة أمرها على السفر إلى الريف لتكون بمنجاة من ويلات الحرب. . . حقاً؟ أيكون الريف أبعد من المدينة عن ويلات الحرب؟ هكذا زعم أبوها وأخوها وليس لرأيهما معقِّب. . .
وراشت راجية آخر سهم في كنانتها؛ فاصطنعت؛ العزم والقوة، وتماسكت من ضعف ورخاوة، وقالت: ولكن، يا أبي، إن للوطن عليّ حقاً يقتضيني الرفاء. ليس من المروءة أن أفرَّ والوطن يدعوني إليه. . . ينبغي أن أبقي لأقوم بواجبي في التمريض والإسعاف إذا لم تكن لي طاقة بحمل السلاح للدفاع والمقاومة؛ ينبغي. . .
وقاطعها أبوها: نعم، ينبغي، ولكن واجبك هناك، في القرية؛ إن اخوتك وأخواتك هناك في حاجة إلى التمريض والإسعاف أكثر من جرحى الحرب!
وابتسم ابتسامة عابسة؛ لقد كان يعلم أي فتاة هي في رخاوتها وضعف احتمالها، ولكنه يقاوم حجة بحجة. . .
وصمتت الفتاة برهة وهي تنقل النظر بين أبيها وأخيها وأمها، ثم هَّمتْ أن تتكلم حين ارتفع صوت المذياع يعلن أنباء الحرب في الميدان القريب ثم سكت، وتلاشى الصَّدى في الغرفة المغلقة على أربع أنفس قلقةٍ مضطربة تتنازعها أهواءٌ وعلل وآمال على خشية وحذر ورِقبة. وقال الفتى بعد صمت: لقد بدأت البادئة فما بدُّ من الخاتمة. . .!
وحدَّقت أمه في وجهه مذعورة، وهتفت: صلاح أتعني. . .؟
قال (صلاح): نعم يا أمي إنه فرضٌ عليَّ يجب أن أتهيأ للوفاء به
وأطرق أبوه وشفته تختلج، وعمَّ الجميعٌ الصمت. . . وشعرت راجية لأول مرة أنها بازاء أمر خطير يقتضيها أن تفكر في هدوء وروية. . . وعادت تنظر إلى أبيها وأخيها وفي عينيها سؤال ليس معها جوابه، وأحستْ إحساس المفارِق يودع أحبابه إلى حيث لا يدري
متى يكون اللقاء؛ ووجدت حاجتها إلى الدمع فأسرعت إلى خلوتها!
وأغْفَتْ راجيةُ لحظاتٍ واستيقظت ذكرياتُها وأمانيها، فتعاقبتْ عليها الرُّؤى والأحلام، ثم أصبحتْ. . . ونسيتْ ما كان من حديث الأمس ومن خبره؛ فلم تعد تذكر شيئاً إلا أنها مفارقةٌ المدينة بعد قليل لأمرٍ لا تكاد تعرف له وجهاً ولا علة، وأنها لن تذهب إلى السيما بعد اليوم، ولن تلقي أصدقاءها وصديقاتها، ولن تستمع بما كانت تستمع من اللهو حين كانت تخرج كل يوم إلى رياضتها بين حدائق الجيزة والجزيرة ومصر الجديدة، وحضرتْها صورٌ عدة، وانثالتْ عليها ذكريات. . . وذكرتْ. . . إن ثيابها الجديدة ما تزال عند الخيّاط لم تفرغ منها بعد، وقد كانت حقيقةً بأن تفرغ منها منذ أيام، لولا أن راجية كانت تؤثر الروّية في تفصيل ثيابها ريثما ترى أحدث الأزياء فنقيس عليها. ماذا تفعل اليوم؟ أفّ للحرب! لولاها لكانت اليوم - على عادتها في كل سنة - جالسةً تحت الشمسية الظليلة على شاطئ سيدس بشر؛ أو رائحة غادية في معرض زينتها بين كيلوباترا وخليج ستالي؛ ولكن الإسكندرية اليوم منطقةُ حرام، فمن ذا يخاطر بعمره بين الموت الأحمر من أجل ساعة عل شاطئ العريان؟ ومن ذي تحاول أن نشتري بعمرها كلمةَ إعجاب من شاب طائش تستهوية بزِبِّها وزينتها؟
. . . ثم ذكرت القرية. . . ياه! منذ كم لم نذهب راجية إلى القرية؟ القرية التي نَمَتهْا ونَمَتْ أباها وما تزال تغذوهما بخيرها وبِرِّها الدائم على عُنف ما تلقي من العقوق ونكران الجميل!
لقد فارقتْ راجية القرية منذ سنوات بعيدة، لعلها لا تذكرها، أو لعلها تذكرها وتنكرها لئلا يكون ذلك نميمةً على عمرها الذي تحرص على كتمانه. . . ولم تذهب راجيةُ بعد ذلك إلى القرية التي فارقتها طفلة، إلا مرة، مرة واحدة صحبتْ أباها في موسم الحصاد؛ وكانت يومئذً فتاةً في أول صَحْوة الشباب، فما كادت تهبط القرية حتى لمت متاعها للرحيل، ثم لم تعد؛ فكيف يريدونها اليوم أن تهيئ نفسها لإقامة طويلة هناك، لا تدري متى تنتهي وكيف تنتهي؟
وضاق صدر الفتاة، وخيل إليها أن يداً تشد على رقبتها فتمنعها أن تتنفس؛ وكانت أمها في حجرتها تعد حقائب السفر!
وأخذت الفتاة زينتها وخرجت لأمر من أمرها، ولم تنس أنة تنظر في صندوق البريد قبل أن تجتاز الباب! وكانت الظهيرة حامية، والشمس تفرش الشوارع من أشعتها الحمراء، وقد خلتْ مركبات التزام إلا من الموظفين العائدين إلى بيوتهم يتأبطون صحفاً وأضابير من أوراق الحكومة، أو يحملون إلى أهليهم من الفاكهة والحلوى، أو من الفجل والجرجير. . .!
واتخذت الفتاة مقعدها في الترام، وثمة عينان تلحظانها من مقعد قريب، وكانت في غفلة بنفسها وما يصطرع في قلبها من ألم. . . هاتان عينان تعرفهما وتعرفانها
ولما همت الفتاة أن تهبط من الترام عند بيت الخياطة، نظرت، فعرفتْ، فقنعت رأسها وتضرجت وجنتاها حياء؛ ثم مضت في طريقها لا تكاد تحملها رجلاها. . .
وأَجَدَّت لها عيناه ذكرى وألماً، وأطاف بها همٌّ جديد. . .
وحاولت الفتاة أن تمحو صورته من خيالها فما أطاقت؛ وكأنما تراءى لها في تلك اللحظة على غير ميعاد ليكون آخرَ ما يصحبها إلى القرية من صور المدينة!
. . . لم يكن (عابد) فتاها الذي تؤمل، ولكنها كانت فتاته؛ لقد كانت تعلم من أمره ما يحسبه هو سراً من سره، فإن له عينين لا تستطيعان الكتمان، تعبِّران عن معنىً لا يبوح به لسانه ولا طاقة له به؛ على أنه لم يستطيع بكل ما طاق من قوة الحب أن يشغلها بأمره، ولا هو حاوله؛ ولكنها كانت تعرفه، وتحس وقع نظراته؛ وكان ذلك حسْبها وحسبه؛ فإنها لُكبرِ نفسها وهي منَ هي وحيث هي - أن ينتهي أملها عنده، وإنها لترى كل يوم من ترى وتسمع ما تسمع، فإن لها في كل يوم أملأ تأمله بالنهار وتحلم به في الليل. . . كان ذلك وهي في المدينة المتراحبة التي لا يغيب نهارها حين تغيب الشمس. . . أين هي غداً من أمانيها؟ وا أسفا! لكأنما ارتكبت إثماً جوزيت عليه بالسجن إلى أجل غير مسمى!
لم تكن راجية تعرف من الفرق بين القرية والمدينة إلا هذه الأضواء الساطعة، وتلك الملاهي الساهرة؛ ثم صديقاتها اللائى تراهن كل يوم ويرينها، ليس لهن من حديث إلا عن الأزياء والسهرات وأخبار الفتيان والفتيات؛ وأنشأت لها هذه الحياةُ التي كانت تحيا أمانيَّ وأحلاماً تراوحها وتفاديها في يقظتها وفي منامها؛ وحين جاءتها (الخاطبة) بأول خاطب يطلب يدها أيقنت أنها من الغاية التي تهدف إليها على مقربة، فراحت تبالغ في الطلب وتشتط في الشرط؛ وحرصت من يومئذ على أن تعرف مالا يعرف إلا القليل عن طبقات
الموظفين ودرجات الوظائف وسلالم الترقية لكل طبقة؛ ثم مضتْ تسترسل في أمانيها وحلقت في أفق بعيد؛ وراحت نُتبع عينيها كل منظر، وتُرعِى أذنيها كل نبأ، فاجتمع لها من المعارف بشئون الطبقة العليا من أهل المدينة ما خيَّل إليها أنها أو شكت أن تبلغ. . .
. . . وعلى حين غفلة صلصل الجرس يدعوها إلى الرحيل. . .!
وعادت الأسرة إلى القرية التي هجرتها منذ بضع عشرة سنة تلتمس حياة جديدة بين أنوار المدينة؛ لقد هجروا القرية يوم هجروها أربعةَ نفر، وعادوا إليها ثلاثة، وخلفوا رابعهم هناك مرابطاً ينتظر الآونة التي يدعوه فيها الوطن ليبذل شبابه!
واستيقظن راجية على صياح الديكة من وراء جدار؛ فنهضت من فراشها وفتحت النافذة تستروح روْح النشاط والقوة. . . ومرَّ الراعي بنافذتها يسوق ماشية. . . فما إن رآها حتى طأطأ رأسه وأوفض في السير، ونظرت في أعقابه، ثم ارتدّت عن النافذة. . .
يا لله! وفي القرية كثير من مثل هذا المسكين؟ عظم معروق في ثوب خلق يوشك أن يحطمه عصفُ الريح، يقد ماشية تكاد تنشق شبعاً وَرِيّاً؛ إنه يؤثر مماشيته على نفسه لتعيش فيعيش بها!
ثم تتابعت أفواج الفلاحين سارحين إلى حقولهم يتبعهم ولدانهم، قد أُوقرتْ ظهورهم بما يحملون، ومضى النساء إلى عملهن. . .
ووجدت راجية ما يشغلها، فنسيت شيئاً بشيء. ومر يومها الأول وهي ترى وتوازن وتحكم؛ ولما جلست في المساء على حافة القناة بين رفيقات من بنات يسامرنها ويتحفَّينَ بها، أحستْ في نفسها عاطفة جديدة تنمو شيئاً فشيئاً، ورأت في حديث هؤلاء القرويات روحاً ومعنى غير ما كانت تجد من حديث صواحبها في المدينة. . .
وأشرق القمر عليها وذاب غي ماء القناة شعاعُه، ونظرت إلى صواحبها ونظرن إليها فكأنما سكب القمر على قلبها من شعاعه الطهور فغسله مما فيه؛ وأحست فيضاً من الحنان والحب يغمرها فيدنيها إلى رفيقاتها قلباً إلى قلب وروحاً إلى روح؛ وذكرت كلمة أبيها:
(نعم يا بنيتي. . . ولكن واجبك هناك. . . إن اخوتك وأخواتك في القرية أحوج إلى التمريض والإسعاف من جرحى الحرب!)
بلى، وإنها لتشعر الساعة بثقل هذا الواجب على عاتقها أكثرَ ما شعرت في حياتها منذ
كانت. إن عليها لهؤلاء المساكين حق الإرشاد والمعونة بكل ما تملك يدها من مال وما يملك قلبها من الحب
وتبدلتْ راجية مذ طرقها هذا الشعور الجديد، فعادت فتاة غير من كانت!
وأحبت القريةَ أكثر مما كانت تبغضها، حتى لو أن أحداً راودها أن تعود إلى المدينة لتأبّت، وتزّينتْ لها القريةُ زينةَ عروس؛ فكل ما فيها جميل فاتن!
ومضت أيام، وبعث (صلاح) إلى أبيه:
(أبي!
(. . . وكل شيء هادئ، فليس ثمة خطر مما توقعْتَ أن يكون. . .
(وإني لأخشى أن يكون حياة القرية بحيث لا تطيب لكم فيها الإقامة، فإن رأيت. . .)
وقرأ الأب رسالة ولده فصبأ؛ لقد كان يقدّر - وهو ربيب القرية منذ كان - أنه يستطيع أن يعود إلى ماضيه فيعيش في الريف عاماً أو بعض عام حتى تهدأ العاصفة ويعود السلام والطمأنينة إلى المدينة؛ ولكن. . . هاهو ذا يحسّ السأم والملالة ولما تمض أيام. . .!
واجتمعت الأسرة حول عميدها تفكر وتدبر، وقالت راجية: أبي. . . ولكن المدينة. . .
وقاطعها أبوها: لا يا بنيتي؛ لقد كنا مغالين في تقدير الأمر، وأظن خيراً لنا أن نعود. . .!
ولكن راجية لم تعد إلى المدينة، ولم يعد أبوها، لأن ضيفاً عزيزاً هبط عليهم في القرية فتلبثوا لاستقباله. . .
لقد أجمع (عابد) رأيه على أمر، فكتب إلى الأسرة يستزيرها في القرية، وكان معه صلاح
وتحلق حول المائدة ثلاثة نفر يتشاورون في أمر ذي بال. وقال عابد، وقال صلاح، وقال أبوه؛ وتركوا لراجية أن تقول الكلمة الأخيرة؛ وقالتها، وانتهى النبأ إلى الجيران فتجاوبت الزغاريد من طاق إلى طاق
وقال الفتى لفتاته: والأمر لك يا عزيزتي من بعد، فإن شئت كان العرس في المدينة، فإني لأعرف كيف تريدينه أن يكون، وإني ليسرني أن أرضيك. . .
وابتسمت راجية وقالت: شكراً يا عزيزي، ولكن إنني حريصة كل الحرص على أن تكون صديقاتي جميعاً إلى جانبي، هنا، وأن يشاركننا جميعاً في الفرح والمسرة!
قال عابد: يسرني. . . ولكن. . . أترين. . .؟
قالت: لا تبعد يا عزيزي! ماذا فهمت؟. . . إن صديقاتي اللاتي أعني لَيُلبِّينَ الدعوة مسرعات ولو كان موعدها غداً!
قال: غداً؟
قالت: نعم، والليلةَ إن أردت، إنهن غير بعيد!
واحتفلت القرية كلها بعرس راجية، لم يتخلف منها أحد!
لم تكن هناك ثريات، ولا أعلام، ولا سرادق منصوب، ولا موسيقى تعزف، ولا مطرب يغني، ولكن رجالاً أربعة كانوا جلوساً إلى نضدٍ صغير في دوار العمدة ينظرون في توزيع خمسين جنيهاً على أهل القرية، احتفالاً بزفاف راجية. أولئك أصدقاؤها وصديقاتها، لم تنس أحداً منهم، ولم يتخلف عن دعوتها أحد!
محمد سعيد العريان